الكتاب: ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها المؤلف: جمال بن محمد السيد الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1424هـ/2004م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها جمال بن محمد السيد الكتاب: ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها المؤلف: جمال بن محمد السيد الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1424هـ/2004م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمة ... ابن قَيِّم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها تأليف: د. جمال بن محمد السيد المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70، 71] . أما بعد: فإن الله عز وجل أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على جميع الأديان، وَأَيَّدَهُ بالحجج القاهرة والمعجزات الظاهرة التي من أعظمها معجزة القرآن، وَتَكَفَّلَ - سبحانه - بحفظ هذا الكتاب الكريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 حتى تقوم حجته على الثقلين من الإنس والجان، وأسند إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مهمة التبليغ للقرآن والبيان، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . فَقَامَ صلى الله عليه وسلم بهذه المهمة أحسن قيام، وَنَصَحَ للخلق وأرشدهم إلى الطريق الموصلة إلى طاعة الرحمن، وَحَذَّرَهُم من سلوك سبل الغِوَايَة والخسران، فقامت به الحجة، وتمت به النعمة والمنة، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] . وقد كان بيانه صلى الله عليه وسلم وَسُنَّتُهُ وحياً من الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3، 4] ، فالله عزوجل قد أرسله بالكتاب والسنة جميعاً، كما قال سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِه} [البقرة:231] . فالحكمة: هي السُّنَّةُ المبينةُ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرادَ الله عز وجل بما لم ينص عليه في الكتاب1. وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ.." 2. فَدَلَّ ذلك على أنه أوتي السُّنَّةَ كما أوتي القرآن، وأن الكتابَ والسنةَ قرينان لا ينفصلان، وبذلك تكون السنةُ داخلةً في الوعد الذي   1 انظر: الجامع لأحكام القرآن: (3/157) ، وتفسير القرآن العظيم: (1/281) . 2 وهو من حديث المقدام بن معد يكرب، وسيأتي تخريجه في ص (326) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 قطعه الله على نفسه بحفظ هذا الذكر، حيث قال سبحانه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] 1. وكان من مظاهر حفظ الله سبحانه لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم: أن هيأ لها خير قرون هذه الأمة، فتلقوها عنه صلى الله عليه وسلم، وحفظوها في صدورهم، "وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصاً صافياً، وكان سندهم فيه - عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن رب العالمين - سنداً صحيحاً عالياً، وقالوا: هذا عهدُ نَبِيِّنَا إلينا، وقد عَهِدْنَا إليكم، وهذه وصيةُ رَبِّنَا وفرضُهُ علينا، وهي وَصِيَّتُهُ وفرضه عليكم. فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم ... ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد ... "2. ومع مرور الأيام، وتعاقب الأزمان، دخل في هذا الشأن من ليس من أهله، فوقع الوهم والغلط في الرواية، بل وظهر الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. فحينئذٍ أقام الله سبحانه طائفة من الأئمة الحفاظ، فاجتهدوا في جمع الأحاديث والآثار في الصحاح، والمسانيد، والسنن، والجوامع، والمعاجم، وغيرها؛ فلم ينقض القرن الرابع الهجري إلا وقد استوعبت مصنفاتهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه، ومن بعدهم من التابعين وأتباعهم، كما صنفت كتب الجرح والتعديل وبيان أحوال الرواة، فَعُرِفَ الثقة الثبت من المجروح العليل، مما مَكَّنَهُم من النظر في أسانيد الأحاديث والآثار، وتمييز الصحيح من الضعيف والسليم من المعلول من تلك   1 وسيأتي - عن ابن القَيِّم وغيره - مزيد كلام على دخول السنة في الذكر الذي تكفل الله بحفظه. انظر ص: (326 - 329) . 2 إعلام الموقعين: (1/6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الأخبار، وهم مستمرون على ذلك على مر الدهور والأعوام، وحتى قيام الساعة إن شاء الله؛ فإن الله سبحانه يقيِّض في كل زمان وعصر وفي كل قُطْرٍ ومصر من العلماء الْمُبَرِّزين من يَذُبُّ عن سنته صلى الله عليه وسلم، ويحمي حوزة الدين من كل مُبْتَدَعٍ ودخيل، وهم ظاهرون على الحق، قائمون بأمر الله "لا يَضُرُّهُم من خَذَلَهُم أو خَالَفَهُم حتى يأتيَ أمر الله وهم ظاهرون على النَّاس" 1. ومن أولئك الأعلام الأفذاذ: الإمام العلامة، ناصر السنة، وقامع البدعة، شمس الدين بن قَيِّم الجوزية رحمه الله، فقد كان شوكة في حلوق المنحرفين والمبتدعين، وحرباً على المتعصبين والمقلدين، وذلك بدعوته للتمسك بسنة سيد المرسلين، ونبذ ما سوى ذلك من بدع المبتدعين. فَنَصَرَ اللهُ به السُّنَّةَ المحمدية، وأحيا به الطريقة السَّلفيَّة، وقمع به كثيراً من الطرق البدعية، والانحرافات العقدية. فقد عاش رحمه الله حياته مجاهداً بلسانه وقلمه في سبيل تحقيق هذه الغاية الجليلة، لا يخشى في الله ملامة اللائمين، ولا يصده عن مواصلة جهاده كثرة الشانئين والحاقدين، حتى لقي الله على ذلك. وكانت حياته العلمية رحمه الله حافلة بالبذل والعطاء في كل فن من فنون الشريعة الإسلامية، فلم يدع منها باباً إلا طرقه، ولا سيما الحديث وعلومه، حيث إن دعوته قامت - في المقام الأول - على   1 أخرجه مسلم في صحيحه: (3/1524) ح 1923 (174) ك الإمارة، باب قوله: صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي ... " من حديث معاوية. وسيأتي مزيد كلام عن حفظ الله لدينه بجهود هذه الطائفة (انظر ص: 327 - 329) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 نصوص الكتاب، وما ثبت من السنة، فبذل لأجل ذلك جهداً مشكوراً في العناية بالحديث، وتمييز صحيحه من سقيمه، وبيان الأحاديث الموضوعة التي اعتمد عليها أهل التعصب وأرباب البدع في ترويج باطلهم، فوقف لهم بالمرصاد، يفضح أمرهم، ويكشف كذبهم. وقد وُجدت له - في أثناء ذلك - مشاركات قيمة، وأقوال نافعة في قواعد الحديث وأصوله، كما وجدت له أحكام موفقة في نقد الرجال وبيان أحوالهم جرحاً وتعديلاً. ولما كانت جهود ابن القَيِّم - رحمه الله - في خدمة هذا الدين على درجة كبيرة من الأهمية، وكانت علومه وآثاره تحظى - لدى الموافق والمخالف - بمكانة عَلِيَّة: كان - رحمه الله - جديراً بأن تتجه إليه جهود الدارسين والباحثين، ترجمةً لحياته، وإبرازاً لجوانب مهمة في شخصيته، وإحصاءً لآثاره، وتقريباً لفقهه، وجمعاً لإفاداته المهمة في كل فن، واستخلاصاً لأفكار ومبادئ تربوية هادفة من كتبه، إلى غير ذلك من جوانب مهمة طالتها كتابات الباحثين حول شخصية ابن القَيِّم وعلومه1. وقد كانت لدي رغبة قوية في إبراز شيء من جهد ابن القَيِّم في الحديث وعلومه، وبخاصة بعد أن وقفت على تلك البحوث القيمة - في الحديث وعلومه - في كتابيه: (الفروسية) ، (وتهذيب السنن) ، وذلك   1 وسيأتي ذكر طرف من هذه الدراسات والبحوث المهمة حول ابن القَيِّم رحمه الله. انظر ص (35 - 37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 حينما قرأنا دروساً من الكتابين في السنة المنهجية التحضيرية، بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية شرفها الله. ولما كنت بصدد تسجيل موضوع لنيل درجة (الدكتوراه) ، وجدت الفرصة مناسبة لتحقيق هذه الرغبة، وبعد البحث والتتبع، وسؤال المختصين من مشايخي وأساتذتي وزملائي، علمت أن أحداً لم يتعرض لهذا الموضوع، ولمست منهم تشجيعاً وتأييداً للكتابة فيه، فزادت لدي الرغبة - حينئذ - وقويَ العزم على الكتابة في هذا الجانب من حياة هذا الإمام العلم، فتقدمت بهذا الموضوع أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في السنة النبوية وعلومها، وكان عنوانه: (ابن قَيِّم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها) . وكنت أسعى من خلال الكتابة في هذا الموضوع إلى تحقيق هدفين: أولهما: بيان مكانة ابن القَيِّم في الحديث وعلومه، وذلك من خلال الكشف عن آرائه وإسهاماته العلمية في هذا الجانب، والقيام بدراستها وتحليلها، ومن ثَمَّ مقارنتها بآراء أئمة هذا الشأن، ليعرف مكان ابن القَيِّم - رحمه الله - بينهم. ثانيهما: جمع أكبر قدر ممكن من هذه الآراء وتلك الإسهامات من بطون كتبه ومؤلفاته العديدة، وعرضها في ترتيب موضوعي، مما يسهل على طالب هذه الفوائد الوصول إليها، بعد أن كانت منثورة في أماكن متفرقة من كتبه، لا يُهْتَدى إليها إلا بتتبع كل مؤلفاته، والمرور عليها بحثاً بحثاً، ولا يخفى ما في ذلك من صعوبة ومشقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وفي ضوء تحديد هذين الهدفين: تبرز قيمة الموضوع، وتتضح أهميته في تقريب جهد ابن القَيِّم في الحديث وعلومه. وقد قمت - من أجل تحقيق ذلك - بقراءة وجرد كل ما نشر من مؤلفات لابن القَيِّم رحمه الله، والتي تزيد على ثلاثين كتاباً، تتراوح ما بين كبير في خمس مجلدات كـ (زاد المعاد) ، وصغيرٍ ذاتِ وريقات كـ (رسالته إلى أحد إخوانه) وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 مخطط البحث وأقسامه وقد جعلت رسالتي هذه في: مقدمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة. أما المقدمة: فقد ذكرت فيها فكرة عن الموضوع، وأهميته، والهدف منه، وعملي فيه. وأما الباب الأول: فقد خصصته لدراسة شخصية ابن القَيِّم، وحياته العلمية، ثم مؤلفاته التي تركها، وذلك في فصول أربعة: الفصل الأول: في الكلام على عصر ابن القَيِّم. وفيه مباحث: المبحث الأول: الحالة السياسية. المبحث الثاني: الحالة الدينية. المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية. المبحث الرابع: الحالة العلمية والثقافية. الفصل الثاني: في حياة ابن القَيِّم. وفيه مباحث: المبحث الأول: اسمه، ونسبه، ومولده. المبحث الثاني: أسرته ونشأته الأولى. المبحث الثالث: أخلاقه وصفاته الشخصية. المبحث الرابع: زهده وعبادته. المبحث الخامس: نبل أهدافه، ونقاء آرائه. المبحث السادس: مِحَنُه ووفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الفصل الثالث: في سيرته العلمية. وفيه مباحث: المبحث الأول: نبوغه وتقدمه في العلم، وشهادة الأئمة له، وثناؤهم عليه. المبحث الثاني: في ذكر شيوخه. المبحث الثالث: اهتمامه باقتناء الكتب وذكر مكتبته. المبحث الرابع: أسفاره ورحلاته. المبحث الخامس: أعماله العلمية ومناصبه. المبحث السادس: في ذكر تلاميذه. الفصل الرابع: في الكلام على مؤلفاته. وفيه مباحث: المبحث الأول: منهج ابن القَيِّم في التأليف، وخصائص مؤلفاته. المبحث الثاني: ذكر مؤلفات ابن القَيِّم. المبحث الثالث: مصادر ابن القَيِّم في مؤلفاته. المبحث الرابع: دراسة بعض مؤلفات ابن القَيِّم. الباب الثاني: ويشتمل على آراء ابن القَيِّم ومنهجه في الحديث وعلومه. وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: آراؤه في علوم الحديث. وفيه مباحث: المبحث الأول: أقسام الخبر. المبحث الثاني: الحديث الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المبحث الثالث: الحديث الحسن. المبحث الرابع: المرفوع والموقوف. المبحث الخامس: المرسل. المبحث السادس: تعارض الوصل والإرسال، أو الوقف والرفع. المبحث السابع: المنقطع. المبحث الثامن: التدليس وحكم المدلس. المبحث التاسع: الشاذ. المبحث العاشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد. المبحث الحادي عشر: الموضوع. المبحث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد. المبحث الثالث عشر: رواية المجهول. المبحث الرابع عشر: كيفية سماع الحديث وتحمله. المبحث الخامس عشر: ناسخ الحديث ومنسوخه. المبحث السادس عشر: مختلف الحديث. المبحث السابع عشر:معرفة من اختلط من الرواة الثقات. الفصل الثاني: آراء ابن القَيِّم ومنهجه في الجرح والتعديل. وفيه مبحثان: المبحث الأول: آراء ابن القَيِّم في الجرح والتعديل. وفيه مطالب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المطلب الأول: في جواز الجرح، وأنه ليس من الغيبة المحرمة. المطلب الثاني: هل يثبت الجرح والتعديل بقول الواحد؟ المطلب الثالث: بماذا تثبت العدالة؟ المطلب الرابع: إذا خالف رأي الراوي روايته، هل يوجب ذلك القدح في روايته؟ المطلب الخامس: هل يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل؟ المطلب السادس: في تعارض الجرح والتعديل. المطلب السابع: حكم رواية المبتدع. المطلب الثامن: ذكر فوائد متفرقة في الجرح والتعديل. المبحث الثاني: منهج ابن القَيِّم في الجرح والتعديل. وفيه مطالب: المطلب الأول: مكانة ابن القَيِّم في نقد الرجال. المطلب الثاني: منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال. المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل. المطلب الرابع: ذكر بعض الفوائد المتفرقة في الرجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الفصل الثالث: منهج ابن القَيِّم في تخريج الحديث والحكم عليه. وفيه مبحثان: المبحث الأول: منهج ابن القَيِّم في تخريج الحديث وعزوه. المبحث الثاني: منهجه في الحكم على الحديث. الفصل الرابع: منهج ابن القَيِّم في شرح الحديث، وبيان معانيه واستخرج أحكامه. وفيه مباحث: المبحث الأول: منهجه في شرح الحديث، وبيان معانيه. المبحث الثاني: منهجه في بيان غريب الحديث. المبحث الثالث: منهجه في التعريف بالأماكن والبقاع. المبحث الرابع: منهجه في الاستدلال بالنصوص الحديثية على آرائه. المبحث الخامس: منهجه في التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض. الباب الثالث: في دراسة جملة من الأحاديث المختارة مما تكلم عليه ابن القَيِّم. وجمعت في هذا الباب جملة من الأحاديث التي حكم عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - بتصحيح أو تضعيف أو غير ذلك، وَبَيَّن عللها، مع دراسة تلك الأحكام في ضوء أقوال الأئمة وأحكامهم على الأحاديث نفسها، ومن ثَمَّ بيان إصابة ابن القَيِّم أو عدم إصابته فيما حكم به. وقد أطلت النَّفس في هذا الباب، فتوسعت في تخريج هذه الأحاديث بحسب أصول التخريج المعروفة؛ لكون التخريج علماً جامعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وممارسة عملية لعلوم الحديث المختلفة؛ كقواعد علم المصطلح، ومباحث الجرح والتعديل وتاريخ الرواة، وعلم العلل؛ وذلك لاستجلاء معالم الشخصية العلمية لهذا الإمام العَلَم الفَذِّ، وإبراز جهوده في هذا المجال من بين مسالك هذه الدراسة، فكان هذا الباب تطبيقاً عملياً على ما سبق عرضه من آراء وأقوال لهذا الإمام العَلَم فيما يتعلق بعلوم الحديث. وذكرت في الخاتمة: أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال بحثي حول ابن القَيِّم وعلومه. ثم ذيلت البحث بالفهارس التفصيلية التي لا غنى عنها للمطالع في هذا الكتاب. منهجي في هذا البحث أما منهجي وطريقة سيري في هذا البحث فيمكنني تلخيص ذلك فيما يلي: أولاً: لقد اعتمدت في كل كلمة نقلتها عن ابن القَيِّم على كتبه مباشرة، دون أي كتاب آخر قد يوجد فيه كلامه. ثانياً: عندما يكون كلام ابن القَيِّم في المسألة طويلاً، فإنني أُلَخِّصُ المراد منه، وقد فعلت ذلك في قسم دراسة الأحاديث أكثر من غيره. ثالثاً: ربما أضطر في بعض الأحيان إلى مراجعة طبعات أخرى لبعض المصادر، غير الطبعة التي اعتمدتها في سائر المواضع، فما وقع لي من ذلك نبهت عليه في الحاشية، وهو قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 رابعاً: لم ألتزم في كل مسألة تعرضت لها بذكر جميع ما وقفت عليه من كلام لابن القَيِّم حول هذه المسألة، بل أختار من ذلك ما أراه كافياً في الدلالة على المراد، وذلك تجنباً للإطالة. وقدر أشير في الحاشية إلى شيء من المواضع التي تركتها، حتى يراجعها من شاء. وأما إذا كان كلامه مختصراً فإنني أذكره من كل المواضع التي ورد فيها. خامساً: في حالة عدم موافقتي لابن القَيِّم في رأي أو حكم، فإنني أُنَبِّه على ذلك، مُبَيِّناً ما استندت إليه في اختيار خلاف قوله، مع مناقشة اختياره إن لزم الأمر، وذلك كله في ضوء كلام أهل العلم في المسألة. سادساً: قمت بشرح بعض الكلمات الغريبة مما تدعو الحاجة إلى شرحه، وتحديد بعض الأماكن والتعريف بها، واقتصرت بالنسبة للأماكن: على غير المشهور، أو ما كان له تعلق مباشر بالكلام عن ابن القَيِّم. سابعاً: استعملت بالنسبة لبعض الكتب رموزاً للدلالة عليها، وذلك على سبيل الاختصار. وهذه الرموز هي: د: لأبي داود في "السنن". ت: للترمذي في "جامعه". س: للنسائي في "السنن". جه: لابن ماجه في "سننه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 طأ: لمالك في "الموطأ". حم: لأحمد في "المسند". مي: للدارمي في "السنن". طس: للطيالسي في "المسند". يع: لأبي يعلى في "المسند". خز: لابن خزيمة في "صحيحه". حب: لابن حبان في "صحيحه". كم: للحاكم في "المستدرك". طب: للطبراني في "معاجمه"، مع التقييد بالمراد من معاجمه الثلاثة. قط: للدارقطني في "السنن". هق: للبيهقي في "السنن". عق: للعقيلي في "الضعفاء". وبقية المصادر ترد مذكورة باسمها الصريح. وبعد؛ فهذا ما يَسَّرَ الله لي جمعه حول الإمام العلامة ابن قَيِّم الجوزية رحمه الله، وأرجو الله - سبحانه - أن أكون قد وفقت في ذلك للحقِّ وهديت للصواب والرشد، والله - عز وجل - لم يجعل قول أحد من خلقه كله صواباً، إلا قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يقول إلا وحياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وحسبي أني لم أَدَّخِر جهداً في سبيل إخراج هذا البحث بالصورة اللائقة بمكانة هذا الإمام العلم، فما كان فيه من صواب وخير فمن فضل الله وهو الموفِّق إليه، فله الحمد، وما كان فيه من خطأ وتقصير ونقص فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله منه. ولا يفوتني في هذا المقام أن أتقدم بوافر الشكر وجميل الثناء لكل من قدَّم لي مساعدة أو أسدى إليَّ نصحاً، أو تفضَّل عليَّ بتوجيهٍ أثناء إعدادي لهذا البحث، من المشايخ الفضلاء، والزملاء الأعزاء، وأخصُّ بالذكر: شيخي وأستاذي الفاضل الشيخ الدكتور ربيع بن هادي المدخلي، الذي أشرف على هذه الرسالة، وبذل من جهده ووقته الكثير في سبيل خروجها بهذه الصورة، أسأل الله - سبحانه - أن يجزيه عني خير الجزاء، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته، آمين. وأُثَنِّي بالشكر للأستاذين الفاضلين: فضيلة الدكتور عبد المنعم عطية، وفضيلة الدكتور عاصم القريوتي اللذين تجشما عناء قراءة هذا البحث - رغم كبر حجمه - وأتحفاني بملحوظاتهما المفيدة وتوجيهاتهما السديدة، أثناء مناقشتهما لي، مما أعانني على إصلاح كثير من الخلل، واستدراك كثير من النقص والزلل، فجزاهما الله عني خير الجزاء، وبارك في علمهما، ونفع بهما آمين. وأُثَلِّثُ بالشكر الوافر والثناء الجميل العاطر، للأستاذين الفاضلين اللذين قوَّما هذه الرسالة، مُكَلَّفين من قِبَل عمادة البحث العلمي، فقاما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بقراءتها مشكورين مأجورين، وأتحفاني بملحوظات نفيسة قيمة، وفوائد سديدة مؤيَّدة، أفدت منها كثيراً في إكمال ما بقي من نقص، وإصلاح ما خفي - قبلُ - من خطأ، فجزاهما الله خير الجزاء. والشكر موصول لعمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، ممثلة في عميدها فضيلة الأستاذ الدكتور/ محمد بن خليفة التميمي، وكافة منسوبي العمادة، على جهودهم المباركة الميمونة في نشر الكتب النافعة بين أهل العلم وطلابه. وما نشر هذا الكتاب الذي بين يديك - أخي القارئ الكريم - إلا ثمرة من ثمار هذه الجهود المخلصة الموفقة. كما أشكر القائمين على الجامعة الإسلامية على ما يبذلونه من جهود حثيثة في سبيل إعداد الدعاة المؤهلين الذين يقومون بواجب الدعوة إلى الله - عز وجل - في كافة أنحاء المعمورة، متسلحين بالعقيدة الصافية، والعلم الشرعي الأصيل، والذين كانوا بحق مشاعل نور وهداية لكثير من المتعطشين إلى الدعوة الإسلامية الصحيحة الخالصة، فجزاهم الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وكتبه: محمد جمال بن محمد السيد المدينة النبوية الشريفة في الحادي عشر من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وأربعمائة وألف للهجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الباب الأول: حياة ابن القيم، وسيرته العلمية وآثاره الفصل الأول: عصر ابن القيم وبيئته. المبحث الأول: الحالة السياسية ... مصادر ترجمة ابن القَيِّم: وقد رأيت أن أمهد بين يدي هذا الباب بالكلام على المصادر التي ترجمت لابن القَيِّم رحمه الله، فأعطي فكرة عنها، مع تحليل للمادة التي احتواها كل مصدر منها، وذكر ما تميز به بعضها عن الآخر. وذلك: لأن ما سيأتي من وصفٍ لابن القَيِّم، وسردٍ لأحداث حياته، مأخوذٌ من هذه المصادر بالدرجة الأولى، فيحتاج الناظر في هذه الترجمة أن يتعرف على هذه المصادر. وقد ترجم لابن القَيِّم جماعةٌ من معاصريه فمن بعدهم، فمن هؤلاء: الحافظ الذهبي1 (ت748هـ) ، وتلميذه الصَّفَدِي2 (ت764هـ) ، وأبو المحاسن الحُسَينيُّ3 (ت765هـ) ، وتلميذاه: ابن كثير4 (ت774هـ) ، وابن رجب5 (ت 795هـ) . وتتفاوت هذه التراجم فيما بينها من حيث: طولها وقصرها، ونوع المادة والمعلومات التي قدمتها كل ترجمة منها. فأطول هذه التراجم وأوفاها: ترجمة تلميذيه الصَّفَدِي، وابن رجب؛ إذ استوعبا أهمَّ المعلومات المتعلقة بحياة ابن القَيِّم - وبخاصة   1 المعجم المختص: (ص 269) . 2 الوافي بالوفيات: (2/270-272) . 3 ذيل العبر: (ص155) . 4 البداية والنهاية: (14/246-247) . 5 ذيل طبقات الحنابلة: (2/447 - 451) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 العلمية منها - فقد كان للصَّفَدِي جهد طيب في محاولة استقصاء شيوخ ابن القَيِّم في كل فن، وأما ابن رجب فقد بذل جهداً كبيراً في محاولة استقصاء أكبر قدر من مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله. كما أبرزَ الكثيرَ من صفاته الشخصية، وأخلاقه، وعبادته. ويليهما في ذلك: الحافظ ابن الكثير، وقد أبرز اجتهاد ابن القَيِّم في الطلب، وتفوقه وتقدمه في علوم عديدة، وكذا أحواله في عبادته وزهده، وما تحلى به من أخلاق حميدة. وأما الذهبي، وأبو المحاسن الدمشقي: فقد جاءت ترجمتهما مختصرة جداً؛ حيث وقعت في أسطر معدودة، ومع ذلك فإن ترجمة الذهبي تضمنت معلومات دقيقة ومفيدة على وجازتها، حتى إن أكثر من جاء بعده نقل من ترجمته. وقدم أيضاً - أعني الذهبي - رأيه الشخصي في ابن القَيِّم؛ إذ وصفه بأنه: (معجب برأيه، جرئ على الأمور) . وسيأتي رد الشوكاني على ذلك. وأما المترجمون له ممن جاء بعده، فهم: ابن ناصر الدين1 (ت842هـ) ، والمقريزي2 (ت 845 هـ) ، وابن حجر3 (ت852هـ) ، وابن تَغْرِي بَرْدِي4 (ت874 هـ) ،   1 الرد الوافر: (ص68 - 69) . 2 السلوك: (2/3/834) . 3 الدرر الكامنة: (4/21 - 23) . 4 النجوم الزاهرة: (10/249) ، والمنهل الصافي: ج3 (ق 61 - 62) ، والدليل الشافي: (2/583) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 والسخاوي1 (ت902هـ) ، والسيوطي2 (ت911هـ) ، والنعيمي3 (ت 927هـ) ، والداودي4 (ت 945هـ) ، وابن العماد5 (ت1089هـ) ، والشوكاني6 (ت1250هـ) ، وصديق حسن7 (ت 1307هـ) ، والآلوسي8 (ت1317هـ) ، وابن بدران9 (ت 1346هـ) ، والشطي10 (ت 1379هـ) ، وأحمد قدامة11 (قَدَّمَ لكتابه سنة 1385هـ) ، وعمر رضا كحَّالة12 وغيرهم. ولم تقدم هذه المصادر زيادة على المصادر السابقة، بل إن أكثرها ينقل عن تلك المصادر. إلا أننا - مع ذلك - يمكن أن نلمح بعض الأمور التي تستحق التنبيه عليها في بعض هذه المصادر المتأخرة؛ فقد أفاد المقريزي مثلاً: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قدم القاهرة مراراً. وأما ابن حجر: فقد قَدَّمَ رأيه   1 نقل ترجمته وكلامه في ابن القَيِّم: صديق حسن في (التاج المكلل: ص 419) . 2 بغية الوعاة: (1/62 - 63) . 3 الدارس في تاريخ المدارس: (2/90) . 4 طبقات المفسرين: (2/90 - 93) . 5 شذرات الذهب: (6/168 - 170) . 6 البدر الطالع: (2/143 - 145) . 7 التاج المكلل: (ص 416 - 420) . 8 جلاء العينين: (ص 30 - 31) . 9 منادمة الأطلال: (ص240 - 242) . 10 مختصر طبقات الحنابلة: (61 - 62) . 11 معالم وأعلام في بلاد العرب: (1/267) . 12 معجم المؤلفين: (9/106 - 107) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الشخصي عن بعض الجوانب في حياة ابن القَيِّم العلمية، فرأى أن ابن القَيِّم مع جودة تصانيفه وعذوبة أسلوبها، فإنها لا تخرج عن أقوال شيخه ابن تَيْمِيَّة، مع تصرفه في ذلك 1. وأما الشوكاني رحمه الله: فقد تضمنت ترجمته دفاعاً قوياً عن ابن القَيِّم رحمه الله، وبخاصة في الرد على ما قاله الذهبي، كما سيأتي ذكر ذلك. وفي مقابل ذلك نجد الكتب الأخرى لم تقدم أي جديد؛ فابن تغري بردى - مثلاً - مع أنه ترجم لابن القَيِّم في ثلاثة من كتبه، إلا أنه لم يضف جديداً، فنقل في (المنهل الصافي) كلام شيخه الصَّفَدِي بحروفه، ولم يزد على ذلك شيئاً، واختصر ذلك في سطرين في (الدليل الشافي) . وهكذا باقي المترجمين. وبذلك تبقى المصادر المتقدمة هي الأصل في استيفاء مقاصد ترجمة ابن القَيِّم رحمه الله، وبخاصة: الصَّفَدِي، وابن كثير، وابن رجب.   1 وقد أجاب عن ذلك الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله، فأجاد وأفاد، وكان مما قال: " ... لكن محل البحث هو ترتيب هذه النتيجة وهي (أنه لا يخرج عن شيء من أقواله) على هذه المحبة - يعني محبة ابن القَيِّم لشيخه - فإنَّ فيها نوع إجمال مانع من فهم المراد. فإن كان المراد أن ابن القَيِّم آلة ليس له سوى فضل الجمع والتهذيب والترتيب والانتصار لآراء شيخه لا للدليل وما يؤيده الدليل. فهذا سبيله الرفض، وفهمه بعيد من كلمة الحافظ ابن حجر. وإن كان المراد: أن ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى - مع محبته لشيخه ابن تَيْمِيَّة - رحمه الله - فإنه إنما ينتصر لأقواله ومفرداته عن دليل وقناعة لا مجرد تبعية. فنعم، وهذا المراد هو الأقرب لجلالة الحافظ ابن حجر واتصافه بالإنصاف". انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 86 - 88) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بعض الدراسات الحديثة عن ابن القَيِّم: من المناسب في هذا المقام - ونحن بصدد الحديث عن مصادر ترجمة ابن القَيِّم - أن نشير إلى بعض الدراسات التي قام بها بعض المعاصرين حول ابن القَيِّم وجهوده العلمية المختلفة. فمما وقفت عليه من ذلك: 1- (ابن قَيِّم الجوزية: حياته وآثاره) للشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد. وهو من أجمع وأنفع ما كتب حول ابن القَيِّم وآثاره العلمية، مع قيامه - أثناء الكتاب - بالرد على كثير من الشبه والافتراءات التي أثارها بعض الحاقدين على ابن القَيِّم. والكتاب مطبوع عدة طبعات. 2- (ابن القَيِّم وموقفه من التفكير الإسلامي) للدكتور عوض الله حجازي، وقد نال به درجة الدكتوراه سنة 1947م. قال عنه الشيخ بكر أبو زيد: "ومع أنه خَلَفِيُّ العقيدة، فإن كتابته هي أرق وأغزر رسالة درست حياة ابن القَيِّم رحمه الله"1. 3- (ابن القَيِّم: من آثاره العلمية) لأحمد ماهر محمد البقري. حصل به الباحث على درجة الدكتوراه من قسم اللغة العربية، بجامعة الإسكندرية، وطبع سنة 1397هـ.   1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص117) حاشية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وقد تناول فيه المؤلف جوانب عدة من حياة ابن القَيِّم العلمية: في اللغة، والتفسير وغيرهما، مع مباحث أخرى حول ثقافة ابن القَيِّم، وآثاره. 4- (ابن قَيِّم الجوزية: عصره ومنهجه وآراؤه في الفقه والعقائد والتصوف) للدكتور عبد العظيم عبد السلام شرف الدين، طبع للمرة الثالثة سنة 1405هـ وقد بذل فيه مؤلفه جهداً ظاهراً. 5- (ابن قَيِّم الجوزية: جهوده في الدرس اللغوي) للدكتور طاهر سلمان حموده. طبع بالإسكندرية، سنة 1396هـ. وقد بحث فيه المؤلف الجانب اللغوي عند ابن القَيِّم، فدرس منهجه في: النحو والإعراب، ثم في: المعنى. مع كتابته ترجمة جيدة لابن القَيِّم. 6- (ابن القَيِّم وحسه البلاغي في تفسير القرآن) للدكتور عبد الفتاح لاشين، وهو مطبوع. 7- (ابن قَيِّم الجوزية وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف) للدكتور عبد الله محمد جار النبي. حصل به المؤلف على درجة الدكتوراه، من جامعة أم القرى، بمكة المكرمة. وطبع بمكة سنة 1406هـ. وقد أبرز فيه المؤلف جهود ابن القَيِّم في الدفاع عن عقيدة السلف، وذلك بعرض آراء المخالفين لعقيدة السلف، ثم إيراد رد ابن القَيِّم عليهم من خلال أبحاثه التي طرقها في أكثر كتبه. 8- (الفكر التربوي عند ابن القَيِّم) للدكتور حسن على الحجاجي، حصل به المؤلف على درجة الدكتوراه من كلية العلوم الاجتماعية، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وطبع سنة 1408هـ بجدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وقد عرض فيه المؤلف آراء ابن القَيِّم التربوية في أسلوب شيق، وترتيب ممتع، مستشهداً في كل قضية بكلام ابن القَيِّم في كتبه المختلفة. والكتاب نافع جداً ومفيد في بابه. 9- (منهج ابن القَيِّم في التفسير) لمحمد أحمد السنباطي. ذكر فيه آراء ابن القَيِّم في التفسير، وهو مطبوع. تلك هي أبرز الدراسات التي وقفتُ عليها حول ابن القَيِّم - رحمه الله - في عصرنا الحاضر. وقد اشتملت كل هذه الدراسات على ترجمة لحياة ابن القَيِّم الشخصية والعلمية، وكان أوفاها في ذلك: كتاب الشيخ بكر أبي زيد حفظه الله، وقد استفدت منه كثيراً في دراستي لابن القَيِّم. وبالإضافة إلى هذه الدراسات، فقد ترجم لابن القَيِّم أغلبُ المحققين لكتبه1.   1 انظر مقدمة التحقيق للكتب التالية: (أحكام أهل الذمة) تحقيق الدكتور/ صبحي الصالح، و (زاد المعاد) تحقيق/ شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، و (الصواعق المرسلة) تحقيق الدكتور/ علي بن محمد الدخيل الله، و (شرح القصيدة النونية) لأحمد بن إبراهيم بن عيسى، وغير ذلك من كتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الفصل الأول: عصر ابن القَيِّم وبيئته لا شك أن هناك علاقة وثيقة، وصلة وطيدة بين المرء وبيئته التي عاش وترعرع فيها، وبين الصفات التي تميز شخصيته، ولذلك فإنه من الضروري عند دراسة شخصية من الشخصيات إلقاء الضوء على الزمان والمكان اللذين وُجِدت فيهما تلك الشخصية، وبخاصة أولئك الذين يعيشون أحداث عصرهم، ولهم صلة بمشكلاته، وعلى رأس هؤلاء: الدعاة، والمصلحون، والعلماء. فكما أن لهؤلاء العلماء أثراً واضحاً في مجتمعاتهم وأهل عصرهم: تربيةً، وإصلاحاً، ونشراً للخير والفضيلة، فإن للعصر وأحداثه - أيضاً - تأثيراً بالغاً فيهم، وذلك من حيث: نوع المشكلات والأدواء التي يهتمون بمعالجتها، والطريقة التي يسلكونها في ذلك، وما يرونه أولى بصرف العناية إليه من غيره، وكذا من ناحية نظرة حُكَّام ذلك العصر للعلم وأهله، ومدى تجاوبهم مع رسالة العلماء، إلى غير ذلك من الأمور التي لها أثر مباشر على أهل العلم ودعوتهم. وقد رأيت أن يكون هذا الفصل مشتملاً على بيان لكل من: الحالة السياسية، والدينية، والاجتماعية، والعلمية لهذا العصر، وذلك ضمن مباحث أربعة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 المبحث الأول: الحالة السياسية لقد عاش ابن القَيِّم - رحمه الله - في الشام في أواخر القرن السابع ومنتصف القرن الثامن الهجري (691 - 751هـ) . ولو عدنا إلى ما قبل مولد ابن القَيِّم - رحمه الله - بفترة ليست بالبعيدة، لوجدنا أن العالم الإسلامي قد مني بكارثة مروعة، وذلك حين اجتاح التتار العالم الإسلامي، واستولوا على بغداد عاصمة الخلافة، وقتلوا خليفة المسلمين المستعصم بالله، حتى (بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التُّلُول) 1. وذلك في سنة (656هـ) . ثم ما كان بعد من لطف الله - سبحانه - بالعباد والبلاد، حين رد كيد هؤلاء الغزاة، وهزمهم شر هزيمة على يد الملك المظفر قطز2 - سلطان مصر - وذلك بعد أن استولى التتار على معظم مدن الشام، وفي عزمهم الزحف إلى مصر وكانت هزيمتهم في سنة (658هـ) (وجاءت البشارة، ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه) 3.   1 البداية والنهاية: (13/216) ، حوادث سنة (656هـ) . 2 سيف الدين، قطز بن عبد الله المُعِزّي، كان من مماليك الملك المعز عز الدين أيبك التركماني، وكان فارساً، شجاعاً، بطلاً، ديناً كثير الخير، محبباً إلى الرعية، هزم الله على يديه التتار، ونصر به الإسلام، قتل سنة (658هـ) . 3 البداية والنهاية: (13/231- 235) ، حوادث سنة (658هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 كما أن العالم الإسلامي تعرض -أيضاً- للغزو الصَّليبي الحاقد، فاستولى الصليبيون على كثير من ديار المسلمين، واستمرت الحروب بينهم وبين المسلمين قرنين من الزمان، يصيبون من المسلمين، ويصيب المسلمون منهم، إلى أن منَّ الله سبحانه - وله الحمد - بتطهير البلاد منهم في سنة (690هـ) - قبل مولد ابن القَيِّم بسنة - على يد الملك الأشرف خليل بن قلاوون1، فما حَلَّت سنة (690هـ) إلا وقد (فتحت عكا وبقية السواحل التي كانت بأيدي الفرنج من مُدَدٍ متطاولة، ولم يبق لهم فيها حجر واحد، ولله الحمد والمنة) 2. تلك أهم المؤثرات السياسية الخارجية التي تعرض لها العالم الإسلامي - وبخاصة مصر والشام - في ذلك العصر، وما تركته تلك الحروب من آثار على العالم الإسلامي آنذاك، كان من أهمها: - إحياء روح الجهاد في نفوس الأمة، والرغبة في التضحية وبذل النفس في سبيل الله سبحانه. - توحيد الصفوف عند نزول المحن والشدائد، وبخاصة إذا كان الخطر المحدق يهدد الإسلام والمسلمين. - كشفت هذه الحروب عن بعض المنافقين أعداء الإسلام وأهله، 1 خليل بن قلاوون، الملك الأشرف بن الملك المنصور - قلاوون - وليَ السلطة بعد موت أبيه المنصور في سنة 689هـ، وكان شجاعاً مهاباً كريماً، مات مقتولاً سنة 693هـ.   انظر: البداية والنهاية: (17/667) ، والدليل الشافي: (1/292) . 2 البداية والنهاية: (13/338) ، حوادث سنة (690هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 من: الرافضة، والنصارى، وغيرهم ممن كانوا عوناً لأعداء الإسلام، وكان أشرّ هؤلاء جميعاً الرافضة، وعلى رأسهم ابن العلقمي - وزير الدولة حينذاك - حيث إنه اجتهد في (صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان ... إلى أن لم يبق منهم سوى عشرة آلاف - وقد كانوا مائة ألف - ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعاً في أن يزيل السُنَّةَ بالكُلِّيَة، وأن يُظْهِرَ البدعة الرافضيَّة، وأن يقيمَ خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين ... ) 1. وبالرغم من أن هذه الأحداث سابقة لمولد ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أنه أفاد منها واستوعب دروسها جيداً، فكان يحذر المسلمين من هؤلاء المنافقين الذين يتربصون بالإسلام وأهله الدوائر، ويُبَيِّنُ خطرهم على الإسلام وأهله، يقول رحمه الله في حق الرافضة: "وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام من عسكر هولاكو وذويه من التتار إلا من تحت رؤوسهم؟ وهل عطلت المساجد، وحرقت المصاحف، وقتل سروات2 المسلمين وعلماؤهم وعُبَّادهم وخليفتهم إلا بسببهم ومن جَرَّائهم؟ ومُظَاهَرَتُهُم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة" 3. هكذا أفاد ابن القَيِّم من أحداث التاريخ في دعوته، ومن هنا يتأكد   1 البداية والنهاية: (13/215) ، حوادث سنة (656هـ) . 2 سَرَاةُ: كل شيء أعلاه. والجمع: سروات. (مختار الصحاح، مادة: سرا) . 3 مدارج السالكين: (1/83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 لنا: إلى أي حد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - متأثراً بأحداث عصره، وإلى أي حدٍّ استطاع أن يُسَخِّر دروس هذه الأحداث في خدمة أهدافه ومبادئه، وكيف اشتعلت غيرته الدينية - رحمه الله - على حرمات الإسلام التي انتهكت، وعلى صفوة علمائه وعُبَّادِه الذين راحوا ضحية حقد الرافضة وكيدهم للإسلام وأهله. تلك أبرز الآثار التي تركتها هذه الحروب على المسلمين في ذلك العصر. وإذ قد استعرضنا أهم المؤثرات الخارجية في الظروف السياسية للدولة، يحسن أن نتعرف - كذلك - على أوضاع الدولة وسياستها الداخلية في تلك الفترة. حكم المماليك لمصر والشام: خضعت مصر والشام لحكم المماليك فترة طويلة من الزمن، والمماليك: أصلهم من الرقيق الذين كان حكام الدولة الأيوبية - ومن قبلهم العباسيون - يشترونهم، حتى جاء عهد الملك نجم الدين أيوب، فاستكثر منهم، واتخذهم جنوده وأعوانه1. أما عن قيام دولتهم: فإنه لما توفي الملك الصالح أيوب في سنة (647هـ) متأثراً بمرضه- فيما كان منشغلاً بقتال الفرنج عند المنصورة- استُدْعِيَ ابنه المعظم تورانشاه من الشام، وبويع له بالملك، وقاتل الفرنج قتالاً عظيماً، إلا أن مماليك أبيه قتلوه، وأقاموا عليهم عزَّ الدين أيبك   1 العصر المماليكي في مصر والشام: (ص1-2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 التركماني، ولقبوه: بالملك المعز1، وكان ذلك في سنة (648هـ) . وقد قضى المماليك بذلك على آخر سلاطين الدولة الأيوبية، وأقاموا أول سلاطين دولتهم: عز الدين أيبك2. وفور سماع الأمراء الأيوبيين في الشام بمقتل تورانشاه، ثارت ثورتهم، وأخذوا يستعدون لغزو مصر والقضاء على دولة المماليك الناشئة، وظل الأمر مُتَوتِّرًا حتى تم الاتفاق بين المماليك والأيوبيين على اقتسام السلطة بينهم: مصر، وفلسطين حتى نهر الأردن، مع غزة والقدس للماليك، وبقية بلاد الشام للأيوبيين، وذلك في سنة (651هـ) 3. ثم لما هزم الله التتار على يد المماليك كما مضى - بعد أن فر الأيوبيون من أمامهم - استقرت الأمور نسبياً للماليك في بلاد الشام، وأصبح نوَّابُ الشام - بالرغم من تمتعهم بالسلطان والنفوذ - تابعين لسلطة المماليك بالقاهرة، التي كانت عاصمة الدولة ومقر الحكومة آنذاك4. وبذلك أصبحت الشام - موطن ابن القَيِّم - خاضعة في حكمها لسلطة المماليك، والسلطان يستنيب عليها من شاء من الأمراء. ويصف الدكتور صفوح خير الوضع آنذاك بقوله: "ثم أصبح مماليك مصر سادة الشام بعد انتصارهم الكبير على المغول في عين   1 البداية والنهاية: (13/188 - 190) ، حوادث سنة (648هـ) . 2 العصر المماليكي في مصر والشام: (ص 9 - 11) . 3 البداية والنهاية: (13/196) ، والعصر المماليكي في مصر والشام: (ص15 - 17) فما بعدها. 4 العصر المماليكي: (ص 197 - 204) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 جالوت ... وأصبحت سوريا بكاملها - اعتباراً من هذا التاريخ - مقاطعة ملحقة بدولة مصر، وعلى رأس هذه الدولة: المماليك الترك الذين ثاروا على سادتهم سلاطين الأيوبيين" 1. إحياء الخلافة العباسية: ثم إنه تم على يد المماليك إعادة منصب الخلافة، وذلك بعد أن ظل شاغراً منذ مقتل الخليفة المستعصم على أيدي التتار سنة (656هـ) . ففي سنة (659هـ) خرج المستنصر بالله أحمد بن الظاهر من معتقله ببغداد، ثم قدم على الظاهر بيبرس في مصر، وبعد ثبوت نسبه بايعه الملك الظاهر، والقاضي، والوزير، والأمراء، وخُطِبَ له على المنابر، وضرب اسمه على السِّكَّة2، ثم قُلِّدَ الظاهر بيبرس السلطة في السنة نفسها3، فكان ذلك بمثابة اعترافٍ رسمي بشرعية حكم الدولة المملوكية آنذاك. ولكن هل كان لمنصب الخليفة هذه المرة قيمة فِعْلِيَّة؟ أم أن ذلك لم يكن إلا أمراً شكلياً يضفي على سلطة المماليك وحكمهم للبلاد الصبغة الشرعية فحسب؟ الواقع أن الأمر لم يكن إلا شكلاً، مع خلوه عن كل مضمون حقيقي لصفة الخليفة، وممارسته لصلاحياته في حكم البلاد.   1 مدينة دمشق - دراسة في جغرافية المدن: (172 - 173) . 2 السكة: حديدة منقوشة تطبع بها الدراهم والدنانير. 3 البداية والنهاية: (13/244 - 245) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ولقد أحسَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - بمرارة هذا الأمر، وتأسف لما وصل إليه حال الخليفة في تلك الأيام، فأخذ يُعَبِّرُ عن ذلك في مؤلفاته وكتاباته، فقال مرة - في معرض ذَمِّهِ للمعرضين عن نصوص الوحي، الْمُقَدِّمين عليها آراء الرجال: "أنزلوا النصوص منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان، له السِّكة والخطبة، وما له حكم نافذ ولا سلطان"1. وهكذا يتأثر ابن القَيِّم - رحمه الله - مرة أخرى بأحداث مجتمعه، فلا يجد إلا قلمه يصوِّر به بعض تلك الأحداث، لافتاً بذلك الأنظار إلى وضع خاطئ، ومرض يحتاج إلى علاج. والواقع أن الأمر بالنسبة للخليفة لم يقف عند مجرد إهماله، وتدبير الأمر دونه، بل تعدَّى ذلك إلى إهانة السلطان له، بل واعتقاله وتشريده؛ فقد استهلت سنة (737هـ) "والخليفة المستكفي بالله قد اعتقله السلطان الملك الناصر، ومنعه من الاجتماع بالناس) 2. ولم تستهل السنة التي بعدها إلا والخليفة المستكفي (منفيٌّ ببلاد قوص، ومعه أهله وذووه، ومن يلوذ به ... "3. فلا حول ولا قوة إلا بالله. التنافس والتناحر بين سلاطين المماليك: أما عن الأمراء والسلاطين الذين حكموا البلاد في تلك الفترة: فقد كانوا في حالة يرثى لها من التناحر، والتطاحن، والتنافس، والتقاتل فيما بينهم.   1 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص42) . 2 البداية والنهاية: (14/187) . 3 البداية والنهاية: (14/190) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فإن هؤلاء المماليك - الذين كانوا أرقَّاء في خدمة السلاطين - قد وصل أكثرهم إلى مناصب مرموقة، وكثر اتخاذ الأمراء منهم، ومن ثَمَّ أصبح كل واحد منهم يتطلع إلى الجلوس على كرسي السلطة، ولا يرى لغيره ميزة في التقدم عليه، واعتلاء السلطة دونه. فأخذ كل واحد منهم يقوِّي من أمر نفسه، ويكثر من المماليك حوله، حتى إذا سنحت له فرصة انقض على السلطان القائم فقتله، أو سجنه، أو نفاه، ثم يحل محله في حكم البلاد. ولم يكن الطمع في السلطة وحده هو الدافع إلى التخلُّص من السلطان القائم، بل إن مجرد عدم رضى الأمراء عن السلطان، أو خوفهم من بطشه بهم، كان مسوِّغاً - كذلك - لإقصائه أو التخلص منه. ومن يستعرض تاريخ تلك الدولة يجد من ذلك عجباً، إذ إن العَدْوَ على السلطان القائم، وقتله أبشع قتلة، لم يكن أمراً مستغرباً آنذاك، حتى إن كلَّ واحد منهم كان يتوقع أن يأتي دوره في أية لحظة، وكان لا يستبعد ذلك، فالأمراء الذين قتلوا المظفر قطز - ظلماً وعدواناً - قيل: إنهم لما قتلوه "حار الأمراء بينهم فيمن يُوَلُّون المُلْك، وصار كلُّ واحد منهم يخشى غائلة ذلك، وأن يصيبه ما أصاب غيره سريعاً ... " 1. فقد اعتلى كرسيَّ السلطنة في الفترة (648 - 784هـ) - وهي ستة وثلاثون عاماً، هي فترة حكم دولة المماليك الأولى - تسعةٌ وعشرون حاكماً، قُتِل أكثرهم أو خُلِع، وقليل منهم توفي أو اعتزل2.   1 البداية والنهاية: (13/236) ، حوادث سنة (658هـ) . 2 انظر: (التاريخ الإسلامي - العهد المملوكي) لمحمود شاكر: (ص 35 - 39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 تلك هي أبرز السمات المميزة للناحية السياسية التي عاشتها تلك الدولة: - أخطار خارجية محدقة بالدولة، تمثلت في حروب التتار والصليبيين ضد الدولة. - ومناوشات وعداوات بين المماليك في مصر والملوك الأيوبيين في الشام، عقب قضاء المماليك على آخر ملوكهم. - وتناحر وتقاتل بين سلاطين الدولة أنفسهم. - مع ضياع سلطة الخليفة في وسط هذه الأحداث، وعدم تمكينه من القيام بأعباء الخلافة، أو تصريف شيء من أمور الدولة. ولا يخفى ما خلَّفَتْه هذه القلاقل والاضطرابات من آثار على الناس في ذلك الوقت: من عدم الأمن والاستقرار، وارتفاع الأسعار وغلاء الأقوات، مع حرمان الناس من المشاركة في حكم بلادهم؛ إذ كان ذلك لطائفة المماليك دون غيرهم، إلى غير ذلك من الأوضاع السيئة التي كان لها أسوأ الأثر على حياة الناس حينذاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 المبحث الثاني: الحالة الدينية في ظل هذا الوضع السياسي المتردي، وهذه الظروف غير المستقرة، ساءت الحالة الدينية في البلاد، وضعف الوازع الديني في نفوس الكثيرين، وَاْرْتُكِبَت الكثير من المحرمات، وشاعت المنكرات. ولقد كان الكثيرُ من الأمراء والسلاطين قدوةً سيئة في هذا الجانب، وذلك بما شانوا به أنفسهم من حياة اللهو والبذخ والانحلال والترف، فنجد أحدهم - وهو الملك المنصور - قد "صدر عنه من الأفعال التي ذكر أنه تعاطاها من شرب المسكر، وغشيان المنكرات، وتعاطي ما لا يليق به ... "1. هذا إلى جانب سفك كل واحد منهم دم الآخر طمعاً في المنصب والسلطة كما تقدم. ولقد انتشر حينذاك التعصب المذهبي، وأدى إلى كثير من الخلافات بين العلماء أنفسهم، فضلاً عن بقية الناس، حتى إن الجامع الأموي في دمشق كان يوجد به إمام لكل مذهب، ولكل إمام محراب، ويشير الحافظ ابن كثير - رحمه الله - إلى شيء من الاختلاف في الجامع، فيقول: "وأمر الكاملُ في يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة أئمة الجامع أن لا يصلي أحدٌ منهم المغرب سوى الإمام الكبير، لِمَا كان يقع من التشويش والاختلاف بسبب اجتماعهم في وقت واحد، وَلَنِعْمَ ما فعل"2.   1 البداية والنهاية: (14/204) حوادث سنة (742هـ) . 2 البداية والنهاية: (13/159) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وكانت هذه الخلافات تؤدي في بعض الأحيان إلى الشحناء والقطيعة بين العلماء، حتى إن السلطان كان يتدخل في ذلك للإصلاح بينهم، ويَحْكِي ابن كثير - رحمه الله - موقفاً من هذه المواقف - وكان حاضره - فيقول: "وجلس نائبُ السلطة في صدر المكان، وجلسنا حوله، فكان أول ما قال: كنا نحن الترك وغيرنا إذا اختلفنا واختصمنا نجيء بالعلماء فيصلحون بيننا، فصرنا نحن إذا اختلفتِ العلماءُ واختصموا فمن يصلح بينهم؟ وشرع في تأنيب من شنَّع على الشافعيّ" 1. وقد كانت العقائد المختلفة المخالفة لعقيدة أهل السنة منتشرة حينذاك، وربما أدت إلى وقوع الخلاف والفتن أيضاً؛ ففي المحرم من سنة 716هـ (وقعت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد، وترافعوا إلى دمشق، فحضروا بدار السعادة عند نائب السلطنة تنكز، فأصلح بينهم) 2. كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله. ولعله - رحمه الله - يشير بهذه الحادثة إلى الخلاف بين الأشعرية3 - الذين كانوا جمهور الشافعية وقتئذ - وبين الحنابلة أهل الحديث والأثر، فالخلاف بينهم في ذلك الوقت معروف، والنزاع بينهم   1 البداية والنهاية: (14/332) . 2 البداية والنهاية: (14/78) . 3 وينسبون إلى أبي الحسن الأشعري (ت324هـ) ، ويثبتون لله سبع صفات فقط، وهي: العلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والحياة، وهذه الصفات قديمة قائمة بذاته، وأما صفات الأفعال، مثل: الخلق والرزق والإحياء والإماتة فهي حادثة. ولهم غير ذلك من الاعتقادات التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة. انظر: الملل والنحل (1/119) ، ورسالة في الرد على الرافضة (ص166) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 مضطرم "زاده اعتماد الحنابلة على النصوص في دراسة العقائد، واعتماد الأشاعرة على الاستدلال العقلي والبرهان المنطقي في دراستها" 1. ولقد كان لابن القَيِّم - رحمه الله - موقفه الواضح في هذه القضية، من: الانتصار لعقيدة أهل السنة والجماعة، والوقوف في وجه الأشاعرة، كما يتضح ذلك من مؤلفاته العديدة في هذا الصدد. هذا عن النزاعات العقدية والمذهبية في ذلك الوقت، التي كانت - ولاشك - من عوامل الفوضى الدينية، والتفرق والاختلاف. كما انتشرت في ذلك الوقت بعض الفرق الضالة التي تنتسب - كذباً - إلى الإسلام، مع شدة عداوتها وحربها لأهله، وعلى رأس هذه الفرق: الرَّافِضَة2، والنُّصَيْرِيَّة3 وغيرهما، وما كان لهذه الفرق   1 الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام: (ص76) . 2 وسموا بذلك: لأن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج على هشام بن عبد الملك، فطعن عسكره في أبي بكر، فمنعهم من ذلك فرفضوه، ولم يبق معه إلا مائتا فارس، فقال لهم: رفضتموني؟ قالوا: نعم. فيقي عليهم هذا الإسلام. وهم فِرق عديدة، ويقولون بإمامة عليٍّ وتفضيله على سائر الصحابة، ويتبرءون من أبي بكر وعمر وكثير من الصحابة، ومنهم من يسب الصحابة ويلعنهم، قبحهم الله. انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: (ص77) ، والفَرْقُ بين الفِرَق: (ص15– 17) . 3 وهم يُنْسبون إلى محمد بن نصير النميري، وكان من أصحاب الحسن العسكري، وادَّعى النبوة، ثم ادَّعى الربوبية. ومن اعتقاداتهم: أن الله كان يَحلُّ في علي، وأنه في اليوم الذي قلع فيه باب خيبر كان الله - تعالى عما يقولون - قد حلَّ فيه. ولهم غير ذلك من الاعتقادات الباطلة. انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: (ص91 - 92) ، والمذاهب الإسلامية- لمحمد أبي زهرة (ص94 - 95) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 من أثر في زعزعة الاستقرار الديني في المجتمع، والكيد للمسلمين، وقد تقدم ما فعلته الرافضة بالمسلمين أثناء غزو التتار. ولقد كان هؤلاء الرافضة - ولله الحمد - يُقَابَلُون بالقتل والتنكيل عندما يُصرِّح أحدهم بكفره؛ ففي سنة (744هـ) "وفي صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه قتل بسوق الخيل حسن بن الشيخ السكاكيني على ما ظهر منه من الرَّفض الدال على الكفر ... ) 1. ووجد رجل آخر، اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي يسب الصحابة ويقول: كانوا على الضلالة، (فعند ذلك حُمِلَ إلى نائب السلطنة، وشهد عليه قوله: كانوا على الضَّلالة، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه، فأخذ إلى ظاهر البلد فضربت عنقه، وأحرقته العامة، قَبَّحَهُ الله"2. ولم تكن النُّصَيْرِيَّة أخف شرّاً ولا أقل ضرراً من أولئك الرافضة، بل إنهم خرجوا في سنة (717هـ) عن الطاعة، وادَّعوا الألوهية لعليِّ، وكفَّروا المسلمين، ودخلوا مدينة (جَبَلَة) وقتلوا خلقاً كثيراً من أهلها، وسَبُّوا الشيخين، وخربوا المساجد واتخذوها خَمَّارَات إلى أن "جُرِّدَت إليهم العساكر، فهزموهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً … وقتل المهدي أضلهم"3. وإلى جانب وجود هذه الفرق المعادية للإسلام والسنة وأهلها، وجدت في أوساط الناس البِدَعُ والخرافات، والاعتقاد في الأشخاص من   1 البداية والنهاية: (14/222) ، حوادث سنة (744هـ) 2 البداية والنهاية: (14/325) ، حوادث سنة (766هـ) . 3 البداية والنهاية: (14/86) ، حوادث سنة (717هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 المشعوذين والدجالين، وقد كان لانتشار فرق الصوفية حينذاك دورٌ كبيرٌ في شيوع هذه الخرافات والترويج لها، وزاد الأمر سوءاً: تشجيع بعض الأمراء لهم، بل والعناية بأمرهم، والإنفاق عليهم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الاعتقاد فيهم؛ كما كان من أمر الظاهر بيبرس؛ إذ كان له شيخ اسمه الخضر بن أبي بكر العدوي، وكان الظاهر "يعظمه تعظيماً زائداً، وينزل إلى عنده إلى زاويته في الأسبوع مرة أو مرتين، ويستصحبه معه في كثير من أسفاره، ويكرمه ويحترمه ويستشيره فيشير عليه برأيه ومكاشفات صحيحةٍ مطابقةٍ؛ إما رحمانيةٍ أو شيطانية ... " 1. وشيخ آخر اسمه ناصر الدين بن إبراهيم العثماني "كان لنائب السلطنة الأفرم فيه اعتقاد، وَوَصَلَهُ منه افتقاد" 2. كما انتشر الْمُنَجِّمُون، وكثر قصد الناس لهم، حتى كانت سنة (733هـ) "أمر السلطان بتسليم المُنَجِّمِين إلى والي القاهرة، فضربوا وحبسوا؛ لإفسادهم حال النساء" 3. أما البدع التي سادت المجتمع في ذلك الوقت فكثيرة، كبدعة الوَقِيْد في المسجد الأموي بدمشق في ليلة النصف من شعبان، وذلك أن الناس يشعلون في هذه الليلة في المسجد قناديل زيادة عما فيه، ويعتقدون أنهم إن لم يفعلوا ذلك في عام مات السلطان، مع إحياءِ هذه الليلة، وفي سنة (751هـ) - عام وفاة ابن القَيِّم رحمه الله – "بطل الوقيد بجامع   1 البداية والنهاية: (17/538 - 539) ، حوادث سنة (676هـ) . 2 البداية والنهاية: (14/66) ، حوادث سنة (711هـ) . 3 البداية والنهاية: (14/169) ، حوادث سنة (733هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 دمشق، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ولله الحمد والمنة، وفرح أهل العلم بذلك وأهل الديانة، وشكروا الله -تعالى- على تبطيل هذه البدعة الشنعاء، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد" 1. كما سادت المجتمع ألوانٌ من الشركيات؛ كالتبرك بالأحجار والجمادات ونحو ذلك، من ذلك ما حكاه ابن كثير - رحمه الله - عن شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، من أنه في شهر رجب سنة (704هـ) : "راح الشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة إلى مسجد التاريخ، وأمر أصحابه - ومعه حَجَّارون - بقطع صخرة كانت بنهر قَلُوطٍ تزار ويُنْذَر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن الناس شبهة كان شرُّهَا عظيماً" 2. كما انتشرت المعاصي والمنكرات بين الناس: من شرب للخمر والحشيش، واحترافِ بعض النساء للبغاء وغير ذلك، حتى إن جماعة من مجاوري الجامع بدمشق جاءوا في سنة (758هـ) "إلى أماكن مُتَّهَمَةٍ بالخمر وبيع الحشيش، فكسروا أشياء كثيرة من أواني الخمر، وأراقوا ما فيها، وأتلفوا شيئاً كثيراً من الحشيش وغيره"3. بل قد وُجِدَ من الأمراء من يضمن هذه المنكرات والفواحش نظير   1 البداية والنهاية: (14/247) ، حوادث سنة (751هـ) . 2 البداية والنهاية: (14/36) ، حوادث سنة (704هـ) . 3 البداية والنهاية: (14/269) ، حوادث سنة (758هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أجر معلوم يأخذه على ذلك، كما كان من حال سيف الدين قَبْجَق1 نائب دمشق؛ فإنه "ضَمِنَ الخَمَّارات ومواضع الزنا من الحانات وغيرها، وجُعِلَت دار ابن جَرَادة … خَمَّارَة وحانة أيضاً، وصار له على ذلك في كل يوم ألف درهمٍ، وهي التي دمَّرته ومحقت آثاره"2. ومن المنكرات التي سادت المجتمع أيضاً: الغناء والطرب، وقد أعلن ابن القَيِّم - رحمه الله - حرباً لا هوادة فيها على الغناء وأهله، وبَيَّنَ شَبَهَهُم، ودحض مزاعمهم في استحلال ذلك، حتى إنه أفرد لذلك مؤلفاً كما سيأتي، كما اعتنى بذلك في مؤلفاته الأخرى، وبخاصة (إغاثة اللهفان) ، وما ذلك إلا دليلٌ على شيوع هذا البلاء في زمنه، واستفحال أمره. تلك هي أهم مظاهر الفساد الديني في ذلك الوقت، ولا شك أن مثل هذه البيئة وما فيها من مفاسد ومخالفات شرعية، من أكبر العوامل التي تُحَرِّكُ الدعاة المخلصين، والعلماء العاملين، للقيام بمجابهة هذه المنكرات، والتحذير منها، والتنبيه على خطرها، ومحاولة الأخذِ بأيدي الناس إلى الطريق القويم، والصراط المستقيم. ولقد كان لابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب جهد مشكور؛ فإنه يُعَدّ واحداً من أبرز علماء هذه الأمة الذين حملوا راية الإصلاح الديني في ذلك العصر، ولا يزال صدى دعوته وأثرها يعمل عمله في الناس إلى يومنا هذا، وسيظل كذلك إن شاء الله.   1 له ترجمة في البداية والنهاية: (18/107) ، حوادث سنة 710هـ، والدليل الشافي: (2/533) . 2 البداية والنهاية: (14/11) ، حوادث سنة (699هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية لا شك أن وضع الناس في المجتمع وما يسودهم من عادات وتقاليد، وما يحكم معاملاتهم وعلاقاتهم، يخضع - بصورة مباشرة - لما يعيشه هذا المجتمع من ظروف سياسية، داخلية كانت أم خارجية. فالحروب المتتابعة التي تعرضت لها البلاد في تلك الفترة أدت إلى عدم الاستقرار في المجتمع، وكثرة الانتقال والترحال - الهجرة الداخلية - وذلك فراراً من خطر القتل، مع ما يصاحب ذلك: من فقدان المأوى، وتعطلِ الأعمال، وكساد التجارات، وقلة الأقوات. ويُصَوِّرُ ابن كثير - رحمه الله - شيئاً من ذلك عندما عزم هولاكو على غزو دمشق، فيقول: "فانزعج الناصر - صاحب دمشق - لذلك، وبعثَ بحريمه وأهله إلى الكَرْك لِيُحَصِّنَهم بها، وخافَ أهل دمشق خوفاً شديداً - ولاسيما لَمَّا بلغهم أن التتار قد قطعوا الفرات - سافر كثير منهم إلى مصر في زمن الشتاء، فمات ناسٌ كثيرٌ منهم ونهبوا" 1. وما يقال عن أثر الحروب الخارجية، يقال - أيضاً - عن أثر السياسة الداخلية لحكام البلاد، وما كان بينهم من منازعات مستمرة. كما أننا نلمح ارتباطاً وثيقاً - كذلك - بين حالة البلاد الدينية، والحالة الاجتماعية؛ فإنَّ الفَهْمَ الصحيح للإسلام، والتطبيق السليم لأحكامه، والالتزامَ الصادقَ بتعاليمه، كل ذلك له أثر طيب على أفراد   1 البداية والنهاية: (13/228) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 المجتمع، وعاداتهم وتقاليدهم؛ فيسود المجتمع الاستقرار والأمن، ويعُمُّه الخير والرخاءُ. وعلى العكس تماماً، فإن الانسلاخ من أحكام الدين وشرائعه، وتضييع تعاليمه وشعائره، من أهم أسباب شيوع الفوضى وعدم الاستقرار في المجتمع، وفساد الأخلاق، وضياع القِيَم. أما عن أهم السمات التي ميَّزت حالة المجتمع، والأوضاع التي سادت أفراده، فإنها تتلخص فيما يلي: أولاً: التفاوت الواضح بين طبقات المجتمع وفئاته، مع عدم المساواة بين أفراده. فطبقة الحكام والأمراء في المقدمة، تحظى بكل الخيرات والنعم، وتستأثر بالإقطاعات الواسعة، وتحوز الأموال الطائلة، التي بلغت - على سبيل المثال - عند أحد الأمراء (ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار) من الذهب، عدا الأموال والأملاك والإقطاعات الأخرى، هذا ما كان يملكه الأمير سيف الدين بشتك1، وأمثاله كثيرون. ثم تلي هذه الطبقة: طبقة الجنود من أتباعهم على اختلاف رتبهم ومقاماتهم، إذ كان الأمراء يولون هذه الفئة عناية فائقة، وذلك كسباً لولائهم، ليكونوا سنداً لهم عند نزول المحن. ثم يلي هؤلاء: بقية فئات المماليك، الذين كانوا يرون لهم ميزةً على سائر أبناء الشعب أصحاب البلاد الأصليين.   1 البداية والنهاية: (14/203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ثم تأتي بعد ذلك سائر فئات الشعب، يتقدمهم العلماء والفقهاء، وغيرهم من المثقفين، وقد كانت هذه الطبقة تحظى باحترام الأمراء والسلاطين أكثر من غيرها. ثم في آخر هذا الترتيب الطبقي: عامة الناس من عمال، وفلاحين، وغيرهم من أصحاب الحرف الأخرى، الذين كانوا يشقون ويكدحون لراحة غيرهم مع ما هم فيه من الفقر والحرمان1. ثانياً: تَعَرُّض الكثيرين من أبناء الشعب لألوان من الظلم: من ضرائب ومُكُوسٍ2 باهظة، وهضم للحقوق، وغير ذلك. ففي شهر جمادى الأولى من سنة (711هـ) (قُرِّرَ على أهل دمشق ألف وخمسمائة فارس، لكل فارس خمسمائة درهم، وضُربت على الأملاك والأوقاف فتألم الناس من ذلك تَأَلُّمًا عظيماً) 3. أما في سنة (712هـ) - بعد ذلك بعام - فقد "تكلم وزير السلطان في البلد، وطلب أموالاً كثيرة، وصادر وضرب بالمقارع4، وأهان جماعة من الرؤساء" 5.   1 ينظر حول ذلك: (العصر المماليكي في مصر والشام) : (ص312 - 325) . 2 جمع مَكْس، وهو الجباية، مصدر، ثم سُمِّي المأخوذ (مكساً) تسمية بالمصدر، وقد غلب استعمال المكس فيما يأخذه أعوان السلطان ظلماً عند البيع والشراء. (المصباح المنير - مادة: مكس) وانظر: (لسان العرب - مادة: مكس) . 3 البداية والنهاية: (14/64) . 4 جمع مِقْرَعَة، وهي خشبة يُضرب بها، وكل ما قَرَعْتَ به، وهي أيضاً ما تُقرع به الدابة. (مختار الصحاح: قرع، والمعجم الوسيط 2/729) . 5 البداية والنهاية: (14/69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ويَحْكي الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في أحداث سنة (745هـ) أنه "دخل الشيخ أحمد1 الزُّرَعِيُّ على السلطان الملك الصالح، فطلب منه أشياء كثيرة: من تبطيل مظالم ومُكُوسات ... " 2. ومن الحوادث التي وقعت إبَّان الغزو التتريّ، والتي ترسم لنا صورةً واضحةً عن مدى الظلم الواقع على أفراد الشعب، مع ما كان يتمتع به جنود المماليك من جاهٍ ونعمةٍ: ما حكاه ابن كثير رحمه الله: من أن التتار لما جاوزوا نهر الفرات واقتربوا من حلب عُقِد مجلس بين يدي المنصور بن المعز التركماني، "وحضر قاضي مصر بدر الدين السِّنْجَاريُّ3، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وتفاوضوا الكلام فيما يتعلق بأخذ شيء من أموال العامة لمساعدة الجند، وكانت العهدة على ما يقوله ابن عبد السلام، وكان حاصل كلامه أنه قال: إذا لم يبق في بيت المال شيء، ثم أنفقتم أموال الحوائص4 المذهبة وغيرها من الفضة والزينة، وتساويتم أنتم والعامة في الملابس - سوى آلات الحرب - بحيث لم يبق للجندي سوى   1 أحمد بن موسى، ابو العباس الزُّرَعِيُّ، الشيخ الصالح، نزيل (زرع) من أعمال دمشق، كان من القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بمصالح الناس عند السلطان والدولة. (توفي 761هـ) . (البداية والنهاية 18/615 - طبعة الدكتور/ التركي، والدليل الشافي 1/91) . 2 البداية والنهاية: (14/224) . 3 القاضي بدر الدين الكردي السِّنْجَاريُّ، باشر القضاء بالديار المصرية مراراً، توفي سنة (663هـ) . (البداية والنهاية 17/463) . 4 جمع حياصة، والحياصة: سير طويل يُشَدُّ به حزام الدابة. (لسان العرب: ص1070، مادة: حيص) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فرسه التي يركبها، ساغ للحاكم حينئذٍ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء عنهم ... " 1. ومثل ذلك: موقف الإمام النووي - رحمه الله - حين أَخَذَ الظاهر بيبرس موافقة علماء الشام على أخذ مال من الرعية يستنصر به على قتال التتر، وامتنع النووي عن الكتابة له بذلك، فسأله عن سبب امتناعه، فقال له: أنا أعرف أنك كنت في الرِّقِّ للأمير بندقدار، وليس لك مالٌ، ثم منَّ الله عليك وجعلك ملكاً، وسمعت أن عندك ألف مملوك، وكل مملوك له حياصةٌ من ذهب، وعندك مائتا جارية، لكل جارية حقٌّ من الحُلِيِّ، فإذا أنفقت ذلك كله، وبقيت مَمَاليكُكُ بالبنود الصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحُلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية ... " 2. وفي هاتين القصتين أيضاً: بيان لما كان يتمتعُ به الأمراء ومماليكهم من نعمة وأموال دون سائر الناس، كما سبق التنبيه على ذلك. ثالثاً: انتشار بعض الأمراض الاجتماعية الخطيرة، والعادات السيئة بين أفراد المجتمع، ومن أبرزها: أ- الرشوة في الولاية وغيرها: ويبدو أن هذا الأمر قد استشرى في المجتمع، وعمَّت به البلوى، حتى كانت سنة (712هـ) "وفيها قدم كتاب من السلطان إلى دمشق:   1 البداية والنهاية: (13/228 - 229) . 2 حسن المحاضرة: (2/105) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أن لا يُوَلَّى أحدٌ بمالٍ ولا برشوة، فإن ذلك يفضي إلى ولاية من لا يستحق الولاية، وإلى ولاية غير الأهل … وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة رحمه الله" 1. ومن ذلك أيضاً: ما حكاه الحافظ ابن كثير في أحداث (714هـ) ، فقال: "وفي يوم الخميس سابع ذي القعدة قَدِم القاضي بدر الدين بن الحداد2 من القاهرة متولِّياً حِسْبَة دمشق، فَخُلِع عليه عوضاً عن فخر الدين سليمان البُصْراويِّ3، عُزِلَ، فسافر4 سريعاً إلى البَرِّيَّة ليشتري خيلاً للسلطان يُقَدِّمُهَا رشوة على المنصب المذكور، فاتفق موته في البَرِّيَّة"5. ب- الحيل المحرمة التي اتخذت وسيلة للتخلص من الأحكام الشرعية، والتلاعب بالدين.   1 البداية والنهاية: (14/68) . 2 هو: الإمام العالم الفقيه، أبو عبد الله، بدر الدين، محمد بن عثمان بن يوسف بن محمد بن الحداد الآمديّ الحنبليّ. سمع الحديث واشتغل وحفظ (المحرر) في مذهب الإمام أحمد. (ت724هـ) . له ترجمة في: البداية والنهاية: (18/248) ، والدرر الكامنة (4/164) . 3 سليمان بن عثمان البُصراوي، والي الحسبة بالشام، وكان شاباً كريم الأخلاق، حسن الشكل، ت (714هـ) في البرية كما في الخبر الذي ساقه ابن كثير أعلاه. (انظر: البداية والنهاية 18/103، 138) . 4 يعني: البصراوي المعزول. 5 البداية والنهاية: (14/73) حوادث سنة (714هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وعلى رأس الحيل التي انتشرت آنذاك: التحليل، وأُعلن ذلك حتى صارت له حوانيت يَتَرَزَّقُ منها أصحابها. وقد أعلن ابن القَيِّم رحمه الله الحرب على هذه الحيلة الشنيعة، فلم يترك مناسبة إلا بين شَرَّها، وحكم الشرع فيها، وخطرها على المجتمع، ويصف - رحمه الله - هذه العادة القبيحة، والحيلة الشنيعة التي انتشرت في مجتمعه فيقول: "فلو شاهدتَ الحرائر الْمَصُوناتِ، على حوانيت المحللين متبذلات، تنظر المرأة إلى التيس نظر الشاة إلى شفرة الجازر ... حتى إذا تشارطا على ما يجلب اللعنة والمقت، نهضا واستتبعها خلفه للوقت، بلا زفاف ولا إعلان، بل بالتَّخَفِّي والكتمان"1. ج- سفور النساء وتبرجهن، وانتشار ذلك، وعموم الشر بسببه: إلى أن "نادى مناد من جهة نائب السلطنة - حرسها الله تعالى - في البلد: أن النساء يمشين في تَسَتُّر، ويلبسن أُزْرهنَّ إلى أسفل من سائر ثيابهن، ولا يُظْهرن زينة ولا يداً، فامتثلن لذلك ولله الحمد والْمِنَّة"2. رابعاً: انعدام الأمن في أنحاء المجتمع. وقد أدى ذلك إلى انتشار السرقة والنهب وقطع الطريق، فقد أمر نائب السلطان مرة "بجماعة انتهبوا شيئاً من الباعة، فقطعوا أحد عشر منهم، وسمر عشرة تسميراً، تعزيراً وتأديباً"3.   1 إغاثة اللهفان: (1/268) . 2 البداية والنهاية: (14/293) . 3 البداية والنهاية: (14/237) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وفي سنة (746هـ) وفي عشية يوم الاثنين رابع عشر جمادى الأولى (قطع نائب السلطنة - ممن وجب قطعه في الحبس - ثلاثة عشر رجلاً، وأضاف إلى قطع اليد قطع الرِّجْلِ من كل منهم، لِمَا بلغه أنه تكرر من جناياتهم) 1. ولقد كان يكثر السطو والنهب والسرقة في أوقات الفتن والقلاقل والاضطرابات الداخلية، أكثر من غيرها من الأوقات. خامساً: نزول الْجَدْبُ والقحط والجفاف بالمجتمع، ونقصُ السلع والأقوات، وغلاء الأسعار. وكثيراً ما كان يحدث ذلك، حتى إن بعض السلع بيعت بأضعاف أضعاف ثمنها الحقيقي؛ فإنه في شهر ذي الحجة من سنة (743هـ) (غلا السعر جداً، وقل الخبز، وازدحم الناس على الأفران زحمة عظيمة، وبيع خبر الشعير المخلوط بِالزُّوَانِ2 والنُّقَارَةِ3 ... فإنَّا لله وإنا إليه راجعون) 4. وفي سنة (748هـ) (عُمِلَت ليلة النصف على العادة من إشعال القناديل ولم يشعل الناس لما هم فيه من الغلاء وتأخر المطر وقلة الغَلَّة) 5.   1 البداية والنهاية: (14/228) . 2 الزُّوان والزِّوان: ما يخرج من الطعام فيرمى به ... وقيل: هو حب يخالط البر. (لسان العرب: ص1983، مادة: زون) . 3 النُّقَارة: ما يتساقط من نقر الحجارة والخشب. (المعجم الوسيط - نقر) . 4 البداية والنهاية: (14/220) . 5 البداية والنهاية: (14/235) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ولا شك أن هذا الغلاء والضَّنَك، والنقص في الأقوات والأرزاق، يرجع إلى إغراق الناس في المعاصي، وتضييعهم حقوق الله سبحانه، وتعديهم حدوده. سادساً: انتشار الأمراض والأوبئة الفَتَّاكة التي كانت تهلك الآلاف من الناس. ولعل أشد ما رأته البلاد من ذلك، هو الطاعون العام - أو الطاعون الأعظم - في سنة (749هـ) ؛ ففي ربيع الأول منه (كثر الموت في الناس بأمراض الطواعين، وزاد الأموات كل يوم على المائة … وإذا وقع في أهل بيت لا يكاد يخرج منه حتى يموت أكثرهم) 1. وفي شهر رجب من السنة نفسها (بلغ الْمُصَلَّى عليهم في الجامع الأموي إلى نحو المائة وخمسين وأكثر من ذلك، خارجاً عمن لا يؤتى بهم إليه من أرجاء البلد ... أما حواضر البلد وما حولها فأمرٌ كثيرٌ، يقال إنه بلغ ألفاً في كثير من الأيام) 2. (واستهل شهر شعبان والفناء في الناس كثيرٌ جداً، وربما أَنْتَنَت البلد) 3. وكان ذلك قبل وفاة ابن القَيِّم - رحمه الله - بعامين. ولعل شدة هذا الوباء، وعظم أمره، من العوامل التي جعلت ابن القَيِّم - رحمه الله - يؤلف كتاباً في (الطاعون) كما ستأتي الإشارة إليه4 عند سرد مؤلفاته.   1 البداية والنهاية: (14/237) . 2 البداية والنهاية: (14/239) . 3 البداية والنهاية: (14/240) . 4 انظر: ص (250) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ويربط ابن القَيِّم - رحمه الله - بين هذه الأوبئة الفتاكة وبين شيوع بعض المنكرات التي تسود المجتمع، وبخاصة: تبرج النساء واختلاطهن بالرجال - وقد مضت الإشارة إلى شيء من ذلك في المبحث الماضي - فيقول رحمه الله: "ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كلِّ بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة ... واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتصلة" 1. تلك هي أبرز الأوضاع التي سادت المجتمع في عصر ابن القَيِّم، والتي تَأَثَّر بها، وسَخَّر جهده ووقته وعلمه لبيان مخاطرها، وطرق علاجها، ووضع الحلول لها، وذلك كله في ضوء ما جاءت به الشريعة المطهرة، وأرشد إليه كتابُ الله وسُنَّةُ رسوله صلى الله عليه وسلم.   1 الطرق الحكمية: (ص281) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المبحث الرابع: الحالة العلمية والثقافية بالرغم من أن الحياة السياسية، والدينية، والاجتماعية في عصر ابن القَيِّم كانت مظلمة ومضطربة في غالبها كما مضى، إلا أن الحالة العلمية للبلاد كانت مشرقةً إلى حد كبير. فإنه لا يخفى على المتتبع للحركة العلمية وسيرها في العالم الإسلامي: أن مصر والشام قد ازدهرت فيهما الحياة العلمية في تلك الفترة، وأصبحتا مقصداً لكثير من أهل العلم الوافدين من سائر أقطار العالم الإسلامي، ولا أدلَّ على صدق ذلك من هذا التراث العلمي الهائل الذي أَثْمَرَتْهُ جهود العلماء في تلك الحِقْبَة. ويشير الحافظ الذهبي - رحمه الله - إلى ازدهار الحركة العلمية، وكثرة العلم في دمشق - أيام ابن القَيِّم وشيوخه - فيقول: "وتَنَاقَصَ العلم بها في المائةِ الرابعة والخامسة، وكَثُرَ بعد ذلك، ولاسيما في دولة نور الدين ... ثم كثر بعد ذلك بابن تَيْمِيَّة، والمزي وأصحابهما ولله الحمد"1. عوامل ازدهار الحركة العلمية آنذاك: هناك بعض العوامل التي كان لها دورٌ كبيرٌ في هذا الازدهار العلمي، فمن أهم تلك العوامل: 1- رعاية سلاطين الدولة وملوكها للعلم وأهله، وتشجيعهم   1 الأمصار ذوات الآثار: (ص162 - 166) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 للنهضة العلمية؛ فقد كان الملك الأشرف - رحمه الله - (شَهْماً، شُجَاعاً كَرِيماً جواداً لأهل العلم، لا سيما أهل الحديث … وقد بنى لهم دار حديثٍ بالسفح) 1. وأما الملك الكامل: فإنه كان (يحب العلماء ويَسْأَلهم أسئلةً مشكلةً) 2. بل إنه قد وجد من سلاطين المماليك وأمرائهم من اشتغل بالفقه والحديث، حتى تصَدَّر بعضهم للإقراء والتدريس3. وقد كان للملك الكامل (كلام جيد على صحيح مسلم) 4. 2- سقوط الخلافة الإسلامية، وضياع بغداد - عاصمة الخلافة الإسلامية - وخرابها، الأمر الذي أدى إلى انتقال النشاط العلمي إلى مصر والشام، وَحَلَّت القاهرة - آنذاك - محل بغداد في تَبَوُّء هذه المكانة. 3- ذهاب صفوة علماء الأمة الإسلامية ومفكريها في أثناء هذه الهجمة التترية الغاشمة، وكذا ضياع كثير من الكتب والمؤلفات القيمة في تلك الهجمة، الأمر الذي وَلَّدَ شعوراً لدى علماء الأمة - في ظل دولتهم الجديدة - بضرورة تحمل المسؤولية في إحياء ما فقدته أمتهم من تراث ومعرفة، فتنافسوا - لأجل ذلك - في التأليف والإبداع.   1 البداية والنهاية: (13/158) . 2 البداية والنهاية: (13/160) . 3 العصر المماليكي في مصر والشام: (ص229 - 230) . 4 البداية والنهاية: (13/160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 4- وقد يكون من أسباب هذه النهضة العلمية أيضاً: انتقال كثير من علماء الإسلام ومفكريه إلى مصر والشام آنذاك، فقد جذبتهم تلك النهضة العلمية المرعية من حكام البلاد، وذلك الجو العلمي المشجع، فكان لهم - ولا شك - دور فعال في إثراء الحياة العلمية في ذلك الوقت. تلك من أبرز العوامل التي لعلها ساهمت بدور هام في تلك النهضة العلمية في مصر والشام آنذاك. مظاهر ازدهار الحركة العلمية وتقدمها آنذاك: أما عن أهم مظاهر الحركة العلمية وازدهارها فيتمثل فيما يلي: أولاً: كثرة معاهد العلم ودوره. وقد اهتم بإنشائها ورعايتها الملوك والسلاطين وغيرهم من الأعيان والموسرين، فكانوا يبنون تلك الدور ويقفون الأوقاف للإنفاق على مدرسيها، وطلابها، وخدَّامها، وقد تمثلت هذه المعاهد والدور فيما يأتي: أ- المدارس: لقد كان للمدارس في ذلك الوقت دور فعال في خدمة العلم وطلابه، وتخريج نخبة من خيرة العلماء آنذاك، وذلك أن تلك المدارس كان يقوم عليها أكابر علماء الوقت، والصفوة منهم في كل فن، مع تفرغ طلابها تفرغاً كاملاً لطلب العلم وتحصيله، إذ كانت تجري عليهم الرواتب والأرزاق، مما أتاح لهم فرصة أكبر للتفرغ لتحصيل العلم، فتخرج من هذه المدارس علماء جهابذة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ولم يكن حضور الدروس بهذه المدارس قاصراً على عوام الطلبة، بل ربما حضرها كبار الناس والأعيان، بل والعلماء، من ذلك ما يحكيه ابن كثير - رحمه الله - عن المدرسة الشامية البرَّانِية، وأنه لما درَّس فيها القاضي جمالُ الدين بن قاضي القضاة تقي الدين السبكي "حضر عنده القضاة والأعيان وجماعة من الأمراء والفقهاء" 1. وقد كان من هذه المدارس بالشام آنذاك عدد كبير، وسأكتفي بالتعريف بمدرستين فقط من مدارس دمشق، وهما: المدرسة الْجَوزِيَّة، والمدرسة الصَدْرِية، وذلك لما لابن القَيِّم - رحمه الله - من علاقة بهما. 1- المدرسة الْجَوزِيَّة: وهي منسوبة إلى واقفها: محي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين ابن أبي الفرج بن الجوزي، المولود (580هـ) . وقد كان من أهل العلم والفضل، وعظ في موضع أبيه بعد وفاته فأجاد وأفاد، ثم لم يزل متقدماً في المناصب حتى وليَ أستاذ دار الخلافة، ثم قتل مع الخليفة المستعصم بالله على يد التتار - قبحهم الله - سنة (656هـ) 2. قال عنها الحافظ ابن كثير - رحمه الله –: "وهي من أحسن المدارس"3. وقال الشيخ بكر أبو زيد: "وهي من أعظم مدارس الحنابلة بدمشق الشام"4.   1 البداية والنهاية: (14/228) . 2 البداية والنهاية: (13/223 - 224) . 3 البداية والنهاية: (13/224) . 4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وقد كان والد ابن القَيِّم - رحمه الله - قيِّماً على هذه المدرسة، وقد أمَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - للصلاة بها كما سيأتي. ولا يزال محل هذه المدرسة معروفاً حتى الآن بدمشق حي (البزورية) الذي كان يعرف قديماً بسوق القمح1، ثم اختلسَ جيرانها مُعْظَمَها وبقيت منها بقية، ثم صارت محكمة في سنة (1327هـ) 2، ثم أقفلت مدة إلى أن فتحتها جمعية الإسعاف الخيري وجعلتها مدرسة لتعليم الأطفال. وقد احترقت في أول الثورة السورية ضد الفرنسيين، ثم أعيد بناؤها مرة أخرى3. ولكنها لم تعد مدرسة بعد إعادة بنائها، وإنما (جُدِّدَ مكانها مخازن ومُصَلَّى بسيط) كما يقول محقق كتاب (الدارس في تاريخ المدارس) 4. ويؤكد ذلك محقق (زاد المعاد) 5 فيقول: "ولم تزل كذلك - يعني محترقة - حتى أعمرت حوانيت، وجُعِلَ فوقها مسجد صغير تقام فيه بعض الصلوات إلى يومنا هذا". فتبين من ذلك: أن هذه المدرسة لم يعد باقياً منها إلا مكانها فقط.   1 وتسميته بذلك عرفت قبل عهد ابن كثير رحمه الله، فإنه قال في أحداث سنة (728هـ) : "وقد كان سوق البزروية اليوم يسمى سوق القمح". (البداية والنهاية: 14/138) . 2 منادمة الأطلال: (ص227) . 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص13) . (2/29) . (1/15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 2- المدرسة الصدرية: نسبة إلى واقفها: صدر الدين أسعد بن المنجاة بن بركات بن مُؤمَّل التنوخي المغربي، ثم الدمشقي، الحنبلي، "أحد المعدلين، ذوي الأموال والمروءات، والصدقات الدارّة البارة". كما يقول ابن كثير رحمه الله، وقد وقفها للحنابلة، وكانت وفاته سنة (657هـ) 1. وقال صاحب (منادمة الأطلال) 2: "كانت بدرب يقال له: دَرْب الرَّيْحَان، بجوار تُرْبة القاضي جمال الدين المصري، ويؤخذ من كلام الذهبي: أن محلها كان داراً للواقف، فجعلها مدرسة ووقف لها أوقافاً ودُفِن بها. قلت: وتربة الجمال المصري هي عند القبور التي يزعم الناس: أن من جملتها قبر معاوية، ولا مدرسة هناك اليوم. والْمُحَقَّق: أن الصَّدْرِية مُحِيت آثارها وصارت دُوراً". وقد دَرَّسَ بهذه المدرسة ابن القَيِّم - رحمه الله - كما سيأتي عند ذكر وظائفه، وكذا درَّس ولداه: عبد الله، وإبراهيم، كما سيأتي بيان ذلك عند الترجمة لهما. ب- الجوامع: لم تكن الجوامع تقل أهمية عن المدارس في الإسهام في ازدهار الحركة العلمية آنذاك. وما قيل عن اهتمام الملوك والأمراء ببناء المدارس، ورعاية أمرها،   1 البداية والنهاية: (13/229) . (ص239) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 والإنفاق عليها، يقال مثله بالنسبة للجوامع والمساجد التي كانت كثيرة منتشرة في ذلك العصر بدمشق. ويحدثنا ابن كثير -رحمه الله- عن اهتمام السلاطين ببناء الجوامع، فيقول في أحداث سنة (632هـ) : "فيها خرَّب الملك الأشرف بن العادل خان الزنجاري الذي كان بالعقبية فيه خواطيء وخمور ومنكرات متعددة، فَهَدَمَه وأمر بعمارة جامع مكانه، سمي: جامع التوبة"1. ويقول في أحداث سنة (717هـ) : "وفي صفر شُرع في عمارة الجامع الذي أنشأه ملك الأمراء تنكز نائب الشام ظاهر باب النصر ... على نهر بانياس بدمشق"2. وأما عن أشهر الجوامع بدمشق في ذلك الوقت فهو: (الجامع الأموي) ويعرف أيضاً بـ (جامع بني معاوية) ، وإذا أُطْلِقَ (جامع دمشق) فلا يراد إلا هو، كما يَسْتَعمل ذلك كثيراً مؤرخو هذه الفترة، وهو من أعظم جوامع دمشق. وقد كان لهذا الجامع في عصر ابن القَيِّم أثرٌ كبيرٌ في الحركة العلمية، ويذكر صاحب (منادمة الأطلال) 3 أنه كان بهذا الجامع:   1 البداية والنهاية: (13/153) . 2 البداية والنهاية: (14/83) . (ص: 363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 - عدة مدارس، منها: الغزالية، والأسدية، والقوصية، والسيفية وغيرها. - وكان له تسعة أئمة. - وإحدى عشرة حلقة للتدريس في الفنون المختلفة. - وثلاث حلقات للاشتغال بالحديث. - وكان به بيت للخطابة، وبه خزانة للكتب. ويذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - شيئاً من النشاط العلمي، ومجالس الوعظ في هذا الجامع، وذلك في مناسبات عديدة من كتابه (البداية والنهاية) ، حتى إنه يذكر أيضاً أخبار عمارته وصيانته1، وشيئاً من البدع التي كانت فيه وأُبْطِلَت بفضل الله ومَنِّه2، إلى غير لك من الأمور التي تدل بوضوح على عظم المكانة العلمية والدينية لهذا الجامع آنذاك. ومن الأخبار العلمية التي أشار إليها ابن كثير في هذا الجامع: ما ذكره في ترجمة الشيخ محب الدين عبد الله بن أحمد المقدسي الحنبلي3، من أنه (كانت له مجالس وعظ من الكتاب والسنة في الجامع الأموي) 4.   1 انظر مثلاً: البداية والنهاية: (14/134، 201) . 2 انظر مثلاً: ما تقدم من كلام لابن كثير على إبطال بدعة الوقيد في الجامع (ص53) . 3 العابد الناسك الإمام، سمع الكثير وقرأ بنفسه، وانتفع به الناس، وكان له صوت طيب بالقراءة، وعليه سكينة ووقار. ت (737هـ) . له ترجمة في البداية والنهاية: (18/396) ، والدرر الكامنة: (2/348) . 4 البداية والنهاية: (14/189) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ويقول عن الشيخ إبراهيم بن المحب1: "كان يحدث بالجامع الأموي ... وكان مجلسه كثير الجمع لصلاحه وحسن ما كان يؤديه من المواعيد النافعة"2. إلى غير ذلك من أخبار هذا الجامع، التي توجد منثورة في الكتب التي تناولت الأحداث التاريخية الإسلامية، خاصة في البيئة الدمشقية. هكذا كانت المدارس والجوامع منتشرة في تلك الفترة بشكل ملحوظ، مع قيامها بواجبها في تخريج العلماء، ونشر المعرفة والعلوم النافعة على أتم وجه، فكانت بذلك عنواناً صادقاً على ازدهار الحركة العلمية آنذاك. ثانياً: كثرة المؤلفات النافعة القيمة في ذلك العصر. فقد كان من مظاهر ازدهار الحركة العلمية - أيضاً - واتساع نطاقها، وعظم شأنها: تلك المؤلفات النافعة القيمة التي أنتجتها جهود العلماء في تلك الفترة. فلقد كانت تلك الفترة التي عاش فيها ابن القَيِّم - رحمه الله - فترة ذهبية في حياة الأمة الإسلامية، من حيث وفرة الإنتاج العلمي وغزارته، مع تنوع الفنون التي تناولتها المؤلفات آنذاك.   1 إبراهيم بن أحمد بن المحب، أبو إسحاق المقدسي، طلب الحديث وقتاً، وسمع جملة، توفي رحمه الله سنة (749هـ) في الطاعون العام. له ترجمة في البداية والنهاية: (14/239) ، والدرر الكامنة: (1/9) . 2 البداية والنهاية: (14/239) حوادث سنة (749هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ولم تكن هذه الحصيلة المباركة من هذه المؤلفات، إلا نتيجة لما زخر به ذلك العصر من علماء أفذاذ، وجهابذة حفاظ: في الحديث، والفقه، والتفسير، واللغة، والتاريخ وغير ذلك، ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - واحداً من أعلام هذا العصر المبارك، الذين أَمَدُّوا المكتبة الإسلامية بقدر هائل من المؤلفات النافعة في شَتَّى الفنون. ولقد اتسمت مؤلفات ذلك العصر - إلى حد كبير - بالشمول والجمع والاستيعاب. فوجدت في ذلك العصر كتب الشروح الحديثية، كـ (شرح البخاري) لقطب الدين الحلبي (ت735هـ) ، و (شرح الترمذي) لابن سيد الناس (ت734هـ) وكلاهما لم يكمل. ووجدت كتب الرجال، وعلى رأسها (تهذيب الكمال) للحافظ الْمِزِّي (ت742هـ) ، و (الميزان) للحافظ الذهبي (ت748هـ) . وكذا وجدت كتب الأطراف الحديثية، وأهمها في ذلك العصر: (تحفة الأشراف) للحافظ الْمِزِّي. ووجدت الكتب التاريخية التي جمعت حوادث تلك الفترة وتواريخها وما قبلها، وعلى رأسها (البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير (ت774هـ) - تلميذ ابن القَيِّم - رحمهما الله تعالى. كما أُلِّفَت كتب جامعة في اللغة، وأهمها: (لسان العرب) للعلامة ابن منظور (ت711هـ) . إلى غير ذلك من المؤلفات الكثيرة النافعة. ولعل ابن القَيِّم - رحمه الله - يكون قد أسهم بمؤلفات جامعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 نافعة في تلك الفترة، وذلك بكتابه النافع: (تهذيب سنن أبي داود) ؛ إذ إنه بَسَطَ فيه الكلام في مواضع عديدة بسطاً واسعاً، وكذلك كتابه (زاد المعاد) الذي يعد مرجعاً متكاملاً في السيرة النبوية، والأحكام الفقهية وغير ذلك. وقد وجدت - إلى جانب ما تقدم - بعض المختصرات، وكذا كتب النكت والتعليقات، إلى جانب ما وُضِعَ في بعض العلوم من منظومات، إلى غير ذلك من فنون التصانيف المختلفة. تلك هي أهم مظاهر النهضة العلمية في تلك الفترة التي تَمَثَّلَت في: - دور العلم ومعاهده الكثيرة في مصر والشام على وجه الخصوص. - ثم في هؤلاء العلماء الأفذاذ الذين خَرَّجَتْهُم تلك المعاهد. - ثم في ذلك التراث الخالد، وتلك المؤلفات النافعة التي خَلَّفَها علماء تلك الفترة، والتي لا يزال الانتفاع بها مستمراً إلى يومنا هذا. وبعد، فهذه هي أوضاع العصر الذي عاش فيه ابن القَيِّم وأحواله، وتلك هي ظروفه: السياسية، والدينية، والاجتماعية، والعلمية. وقد ظهر أن الحالة العلمية للبلاد في تلك الفترة كانت أحسن تلك الأحوال كلها، كما ظهر لنا أيضاً: أثر هذه الأحوال مجتمعة على نهج ابن القَيِّم وتوجهاته: في دعوته، وكتاباته؛ فلقد أثرت تلك الأحوال الْمُتَرَدِّية على المنهج الذي سلكه ابن القَيِّم - رحمه الله - في دعوته الإصلاحية، وَأَثَّرَ ذلك بالتالي على مؤلفاته والموضوعات التي تناولتها تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 المؤلفات، تماماً كما كان للحالة العلمية - على وجه الخصوص - أثر طيب على شخصيته وتكوينه العلمي. وإنني أود في نهاية حديثي عن الأحوال المميزة لعصر ابن القَيِّم رحمه الله، أن أؤكد أمراً مهماً، وهو: أنه بالرغم مما غلب على تلك الأحوال من سوءٍ في عهد الحكم المماليكي، إلا أنه وجدت جوانب حسنةٌ وصورٌ مشرقةٌ في تاريخ تلك الدولة، فمن ذلك: - تلك الغيرة الدينية على حرمات الإسلام ومُقَدَّسَاتِه، التي كانت - بتوفيق الله وتأييده - وراء دفع خطرين عظيمين عن الأمة الإسلامية، وهما: خطر التتار وخطر الصليبين. - الغيرة على حدود الله، ففي أحيان كثيرة كانوا يواجهون المفسدين - على اختلاف أنواعهم - فَيُنْكِّلون بهم، ويطبقون الحدود الشرعية عليهم، وقد مضى ذكر شيء من ذلك. - احترامهم للعلماء - في الكثير الغالب - وتوقيرهم، والنزول عند آرائهم، وعدم قضاء كثير من الأمور المهمة إلا في حضرتهم، مما كان له أكبر الأثر في قيام العلماء بدور مهم في تلك الفترة. - رعايتهم للعلم وأهله، حتى أثَمْرَ ذلك الاهتمام هذه النهضة العلمية التي قدمنا الحديث عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الفصل الثاني: حياة ابن القيم المبحث الأول: اسمه، ونسبه، ومولده. ... المبحث الأول: اسمه، ونسبه، ومولده 1- اسمه، ونسبه، وكنيته، ولقبه: هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حَرِيز، الزُّرَعِي الأصل، ثم الدمشقي، الحنبلي، المشهور بابن قَيِّم الجوزية، شمس الدين، أبو عبد الله. وقد اتفقت أكثر المصادر على الوصول إلى جده الثالث (حريز) 1، بينما وقف بعضها عند جده الأول (أيوب) 2. وقد زاد الشيخ بكر أبو زيد في اسمه جَدّاً رابعاً، فقال: " ... ابن حريز بن مكي زين الدين". وذكر الشيخ أنه قد تحصل له ذلك من ترجمة أخي ابن القَيِّم عبد الرحمن في (الدرر الكامنة) ، حيث زاد فيه هذه الزيادة3. وأما أبوه: فالجميع ذكروا أنه (أبو بكر) ، لم يسمه أحد بغير ذلك، فعلى هذا تكون كنيته اسمه. ويؤكد ذلك: أن ابن القَيِّم نفسه في   1 انظر: الوافي بالوفيات: (2/270) ، والذيل على طبقات الحنابلة: (2/447) ، والرد الوافر: (ص68) ، والدرر الكامنة: (4/21) . 2 انظر: المعجم المختص: (ص269) ، والبداية والنهاية: (14/246) ، والنجوم الزاهرة: (10/249) . 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 7 - 8) . وانظر الدرر الكامنة: (2/434) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 قصيدته الميمية في التضرع1لم يسم أباه إلا بأبي بكر، بل كان يكتب ذلك بخطه2. وأما ضبط (حريز) - جده الأعلى-: فقد استظهر الشيخ بكر أبو زيد أنه: بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين، وبعدهما ياء منقوطة باثنتين من تحت، ثم الزاي المعجمة في آخره، على وزن (فَعِيل) ، وأن هذا الضبط هو الأكثر والأشهر على ألسنة أهل العلم3. وأما (الزُّرَعِيُّ) : فنسبة إلى قرية (زرع) وقد ذكر ياقوت في (معجم البلدان) 4 - نقلاً عن أبي القاسم الدمشقي-: أنها كانت تسمى (زُرَّا) ، فقال: "علي بن الحسين. .. الزُّرِّي الإمام، من أهل زُرَّا، التي تدعى اليوم: زرع، من حوران"5. فَعُلِم من ذلك: أنها كانت في القديم تعرف بـ (زُرَّا) وكانت النسبة إليها: الزُّرِّي، ثم عرفت بعد بـ (زُرَع) فصار المنسوب إليها يقال له: (الزُّرَعِيُّ) .   1 انظر أبياتاً منها: (ص 110) . 2 انظر: صورة خطه في مقدمة (روضة المحبين) بتحقيق الأستاذ أحمد عبيد: ص/ض. 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص7) . (3/135) . 5 كورة واسعة من أعمال دمشق من جهة القبلة، ذات قرى كثيرة ومزارع، وتقع حوران في جنوبي دمشق، وهي المعروفة الآن بمحافظتي: درعا، والسويداء. معجم البلدان: (2/317) ، ومعالم وأعلام في بلاد العرب: (1/351) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وأفاد الدكتور أحمد عبيد: أن (زرع) هذه هي التي تعرف اليوم بـ (إِزْرَع) 1. ويوافق الأستاذ أحمد قدامة الأستاذ أحمد عبيد على ذلك، ويزيد الأمر إيضاحاً، فيقول عند كلامه على (إزرع) : "بلدة في محافظة درعا2، هي مركز منطقة إزرع، ومركز الناحية، تبعد عن درعا 32كم، وعن دمشق 96كم، كانت قديماً تسمَّى: (زرافة) ثم: (زرع) . سكانها: 3226 نسمة"3. فتلخص من ذلك كله: أن هذه القرية التي ينسب إليها ابن القَيِّم: كانت قديماً تسمى: (زرا) - وزرافة على كلام الأستاذ أحمد قدامة - ثم عرفت بعد بـ (زرع) ، ثم أصبحت الآن عند العوام: (إِزْرَع) . ولكن المؤكد عندنا: أنها في أيام ابن القَيِّم - رحمه الله - وإلى آخر حياته لم تكن تعرف إلا بـ (زرع) ؛ فقد ذكر ابن كثير -رحمه الله– في أحداث سنة (748هـ) : أنه نزل المطر، وامتلأت الأودية والغدران، "وامتلأت بركة زرع بعد أن لم يكن فيها قطرة"4. كما أن جماعة كثيرين من أهل العلم قد عرفوا بهذه النسبة في عصر ابن القَيِّم وأيامه5. وقد وقعت زيادة في نسبته، وذلك في ترجمة أخيه عبد الرحمن، حيث قال صاحب (الجوهر المنضد) 6: " ... ابن أيوب بن سعد بن حريز اليمامي، الزُّرَعِي، ثم الدمشقي".   1 مقدمة (روضة المحبين) : (ص/ع) . 2 راجع الكلام الماضي قبل قليل عن (حوران) . 3 معالم وأعلام في بلاد العرب: (1/29) . 4 البداية والنهاية: (14/236) . 5 انظر مثلاً: البداية والنهاية: (14/128، 129، 224، 225) . (ص 57) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ولم أر أحداً من الذين ترجموا له ذكر في نسبته (اليمامي". وأما شهرته - رحمه الله - بابن قَيِّم الجوزية: فقد أجمعت على هذه الشهرة كل المصادر التي ترجمته، وبها عُرِف بين أهل العلم قديماً وحديثاً. وأما عن سبب هذه الشهرة وأصلها: فلأن والده كان قَيِّماً1 على المدرسة (الجوزية) 2 التي كان ابن القَيِّم إمامها. ومع أن وظيفة القِوامة في (المدرسة الجوزية) لم تكن حكراً على أبي بكر - والد ابن القَيِّم - وحده، بل لا بد أن يكون قد تولاها غيره - إما قبله أو بعده - إلا أن الواضح: أن والد ابن القَيِّم كان أشهر من تولى هذا المنصب، فصار هو المراد عندما يقال: (قيم الجوزية) ، وغلبت - بالتالي - هذه الشهرة على ابنه، حتى صار لا يُعرف إلا بها. وقد يكون الأب اكتسب هذه الشهرة بسبب شهرة ابنه شمس الدين، الذي ذاع صيته آنذاك. وهذا كثير عند أهل العلم، ينسبون الرجل إلى وظيفة أو صنعة أبيه أو جَدِّه، كما كان الحافظ الذهبي - رحمه الله - يعرف بـ (ابن الذهبي) نسبة إلى صنعة الذهب التي مارسها أبوه3.   1 القيِّمُ: السيد وسَائِسُ الأمر. (لسان العرب ص: 3784، مادة: قوم) . فالمعنى: المسؤول عن المدرسة، والقائم بتدبير أمورها. 2 وتقدم الكلام عليها: (ص 70) . 3 انظر: الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام: (ص79) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 والمشهور الآن بين أهل العلم وطلابه، وأكثر الناس قولهم: (ابن القَيِّم) بحذف المضاف إليه اختصاراً وجعل (ال) عوضاً عنه، وهذا الاختصار لا مانع منه؛ فقد صار هو المقصود عند الإطلاق لشهرته، ومع ذلك ينبغي التنبه من التباسه بغيره، فقد وقع في ترجمة محمد بن رافع السلامي - صاحب (الوفيات) ، المتوفى سنة 774هـ -: أنه سمع من ابن القَيِّم1، هكذا بدون إضافة، ومع ذلك فليس هو ابن قَيِّم الجوزية الذي نترجم له، وإنما هو: علي بن عيسى بن سليمان بن رمضان، الثعلبي، المصري، الشافعي، بهاء الدين، أبو الحسن، مولده 613هـ. تَفَرَّد بالرواية عن الفخر الفارسي، وليَ نظر الأوقاف، وكان ديِّنَاً، خيِّراً، متواضعاً. توفي سنة 710هـ2. فإذا قيل: إن ابن رافع سمع من ابن القَيِّم، توهم من لم يمعن النظر أنه ابن قَيِّم الجوزية، وبخاصة أن ابن رافع دخل دمشق مراراً، وأخذ عن جماعة هم في طبقة ابن قَيِّم الجوزية، فاحتمال التباسه غير بعيد، ولذا أردت التنبيه، والله أعلم. ومما ينبغي التنبيه عليه أيضاً: ما يسمع على ألسنة البعض من قولهم: (ابن القَيِّم الجوزية) بالجمع بين (أل) والإضافة، ومعلوم أنهما لا يجتمعان في التعريف.   1 الوافي بالوفيات: (3/68) ، وذيل التذكرة - للحسيني: (ص53) ، والرد الوافر: (ص43) . 2 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص26) ، والدرر الكامنة: (3/164-165) . وقد كان أبو هـ قَيِّم قُبَّة الشافعي، كما أفاده الذهبي رحمه الله. (معجم الشيوخ: 2/38) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 كنيته: اتفق كل من ذكر كنيته من مترجميه على أنها (أبو عبد الله) ، وذلك تكنية له باسم ولده عبد الله، وهو أصغر ولديه كما سيأتي في ترجمته. لقبه: واتفقت مصادر ترجمته - أيضاً - على تلقيبه بـ (شمس الدين) ، ولقبه السيوطي بـ (الشمس) 1، بجعل (ال) عوضاً عن المضاف إليه، ومنه قولهم: (التقى ابن تَيْمِيَّة والشهاب ابن حجر) ، أي: تقي الدين وشهاب الدين. وقد كانت هذه الألقاب وأمثالها منتشرة بين أهل العلم في عصره رحمه الله، وربما لقبه بذلك أبوه - أو غيره - تفاؤلاً بأن ينفع الله به، وأن يجعله من العلماء العاملين، الذين تضيء آثارهم طريق العباد هداية ونوراً، فجاء اللقب - بتوفيق الله - مطابقاً للحقيقة، وانتفع القاصي والداني بأنوار علومه، وكان - بحق - شمساً بين أقرانه، نفع الله به البلاد والعباد. 2- مولده: اتفقت الكتب التي ترجمت لابن القَيِّم - رحمه الله - على أن مولده كان في سنة إحدى وتسعين وستمائة (691هـ) .   1 بغية الوعاة: (1/62) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وذكر الصَّفَدِي - من بينهم - يوم ولادته وشهرها، فقال: "مولده سابع صفر سنة إحدى وتسعين وستمائة"1. وتابعه على ذلك: السيوطي2، ثم الداودي3. أما عن مكان ولادته: فلم ينص أحد ممن ترجم له على ذلك، وقد تقدم أنه منسوب إلى (زرع) أولاً، ثم (دمشق) ثانياً، فقال ابن ناصر الدين رحمه الله: " ... الزرعي الأصل، ثم الدمشقي"4. فهل يعني ذلك أنه ولد في (زرع) ، ثم انتقل إلى دمشق؟ أم أن الانتقال حصل لأبيه أو أحد أجداده، وأن مولده كان في دمشق؟ كلا الأمرين محتمل، وعلى كلٍّ فإن الأمر في ذلك سهل؛ إذ إن مكان ولادته لا يخرج عن أحدهما. ثم رأيت بعد ذلك الأستاذ أحمد قدامة يجزم بأنه مولود في دمشق5، فالله أعلم.   1 الوافي بالوفيات: (2/270) . 2 بغية الوعاة: (1/62) . 3 طبقات المفسرين: (2/91) . 4 الرد الوافر: (ص68) . 5 معالم وأعلام في بلاد العرب: (1/267) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المبحث الثاني: أسرته ونشأته الأولى لاشك أن لأسرة الرجل وأهل بيته دوراً كبيراً في تكوينه الخُلُقِي، وتنشأته وتوجيهه، وذلك بحسب ما يكون عليه أفرادها من أخلاق وقيم وعادات، وبحسب ما يولون أولادهم من عناية ورعاية واهتمام. فإن الأسرة التي يغلب على أفرادها الصلاح والتمسك بتعاليم الإسلام وتقوى الله عزوجل، ينشأ أولادها - في الغالب - كذلك، وإذا كان الأمر على خلاف ذلك، فقلَّ أن يرجى من أبناء هذه الأسرة خير. من أجل ذلك، كان علينا - ونحن نصف حياة ابن القَيِّم - أن نتعرف على أسرته وأهل بيته، الذين كان لهم الفضل الأكبر - بعد الله سبحانه - في توجيهه الوجهة الصحيحة، وسلوكه طريق العلم وأهله. ولم يتيسر لي الوقوف على شيء من أخبار هذه الأسرة عن طريق ابن القَيِّم نفسه؛ إذ لم يتعرض لشيء من ذلك - فيما أعلم - مثلما يفعل بعض العلماء، غير أنه أمكن التقاط بعض تلك الأخبار عن هذه الأسرة من خلال بعض الكتب التي تُعنى بالحوادث والتاريخ، وعلى رأسها: (البداية والنهاية) لابن كثير رحمه الله- تلميذ ابن القَيِّم، وصاحبه المقرب- فقد ذكر جملة من الأخبار عنهم، كما كان للشيخ الفاضل بكر بن عبد الله أبي زيد - حفظه الله - فضل السبق في ذلك؛ إذ ذكر طرفاً من أخبار هذه الأسرة المباركة1.   1 في كتابه المفيد النافع (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره) : (ص21 - 23) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَالِدُهُ: هو الشيخ: أبو بكر بن أيوب بن سعد الزرعي، الدمشقي، الحنبلي، قَيِّم المدرسة (الجوزية) بدمشق، كما مضى ذكر ذلك. أما عن أخلاقه وعبادته: فيقول ابن كثير رحمه الله: "كان رجلاً صالحاً، متعبداً، قليل التكلف، وكان فاضلاً"1. وقد جاء أنه - رحمه الله - اشتهر بكثرة عبادته، ولذلك ترجمه ابن كثير بقوله: "الشيخ العابد: أبو بكر". ولا شك أن ذلك كان له أثر كبير على ولده ابن القَيِّم رحمه الله، فأخذ عنه كثرة عبادته، كما سيأتي ذكر ذلك عنه إن شاء الله. وأما عن طلبه للعلم: فيقول ابن كثير رحمه الله: "سمع شيئاً من دلائل النبوة على الرشيدي العامري"2. ولا شك أن عمله في قوامة المدرسة الجوزية والقيام بشأنها، قد أتاح له أن يحيا في جو علمي، وأن يكون على اتصال دائم بالعلم وأهله، وبخاصة أن هذه المدارس كان يوضع في وظيفة التدريس بها أكابر العلماء وأفاضلهم. وأما عن علومه وإفاداته: فقد كان بارعاً في علم الفرائض، بل كان له فيها اليد الطولى، حتى إن ابنه - ابن القَيِّم - تلقاها عنه، ودرسها عليه3.   1 البداية والنهاية: (14/114) . 2 البداية والنهاية: (14/114) . 3 وسيأتي بيان ذلك عند الكلام على شيوخ ابن القَيِّم رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وفاته: توفي - رحمه الله - فجأة ليلة الأحد، تاسع عشر ذي الحجة، من سنة (723هـ) ، وذلك بالمدرسة الجوزية مقر عمله، وصُلِّيَ عليه بعد الظهر من الغد بالجامع - يعني الجامع الأموي- ودفن بباب الصغير12. ولأجل سيرة الوالد الحسنة، وأخلاقه الفاضلة، فقد اكتسب حب الناس ومودتهم، فلما مات - رحمه الله - "كانت جنازته حافلة، وأثنى عليه الناس خيراً"3. وعلى هذا، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - كان عند وفاة أبيه في أواسط عمره، وريعان شبابه، إذ كان آنذاك في الثانية والثلاثين من العمر، وبذلك يكون - رحمه الله - قد نال حظاً وافراً من رعاية والده وعنايته قبل رحيله عن الحياة الدنيا. فرحم الله أبا بكر - قيم الجوزية - رحمة واسعة، فقد جمع بين: حسن الخلق، والصلاح والعبادة، مع الاشتغال بالعلم ونشره، مما كان له أكبر الأثر على حياة الولد - ابن القَيِّم - حيث جمع هذه الصفات كلها وزيادة، كما سيأتي الكلام على ذلك.   1 البداية والنهاية: (14/114) . 2 قال في (منادمة الأطلال) (ص40) : "وهو الباب القبلي للبلد، قال ابن عساكر: سمي بذلك لأنه كان أصغر أبوابها حينما بنيت" اهـ. وهو باق إلى الآن (وفاة ابن بدران صاحب (المنادمة) سنة 1346هـ) بمصلبة الشاغور، ومن جانبه الغربي زقاق يقال له: زقاق الصمادية، ومن شرقيه: طريق يوصل إلى حارة الزط، وبناؤه قوي متين) اهـ. 3 البداية والنهاية: (14/114) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 َأخُوه: وقد بورك للشيخ أبي بكر في ذُرِّيَّتِه وبنيه، فكان لابن القَيِّم أخ يصغره بحوالي عامين، وكان هو الآخر من المشتغلين بالعلم. ولا عجب في ذلك، فإن أباهما كان من أهل العلم-كما سلف- فحبب الله ذلك إلى بنيه، مع ما كان يمارسه الأب من حسن التوجيه، وجميل التربية. أما عن هذا الأخ، فهو: الشيخ القدوة، أبو الفرج، عبد الرحمن بن أبي بكر بن أيوب ... مولده سنة (693هـ) 1 بعد أخيه ابن القَيِّم بحوالي عامين. وقد ذكره ابن رجب الحنبلي في (مشيخته) 2، وقال: "سمعت عليه كتاب (التوكل) لابن أبي الدنيا، بسماعه على الشهاب العابر3. وتفرد بالرواية عنه"4. وقال ابن حجر: "تفرد بالرواية عن الشهاب العابر"5. توفي - رحمه الله - ليلة الأحد، عشرين من ذي الحجة سنة (769هـ) ، ودفن بباب الصغير6. وقد كَمُلَ له من العمر ست وسبعون سنة، فتكون وفاته قد تأخرت عن ابن القَيِّم أخيه بحوالي ثماني عشرة سنة.   1 الدرر الكامنة: (2/434) . 2 ولم أقف عليها. 3 انظر ترجمته فيما يأتي من كلام على شيوخ ابن القَيِّم رحمه الله (ص 146) . 4 منادمة الأطلال: (ص91) . 5 الدرر الكامنة: (2/434) . 6 منادمة الأطلال: (ص91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أولادُه: ولما كانت هذه الشجرة المباركة الطيبة، ثابتة الأصول ضاربة بجذورها الخيرة إلى أعماق بعيدة، فقد كانت دائمة الأُكُل، مستمرة العطاء. فقد رزق الله ابن القَيِّم - رحمه الله - أولاداً صالحين، عالمين عاملين، فكانوا خير خلف لخير سلف. وممن وقفت على تراجمهم وبعض أخبارهم من هؤلاء الأبناء: 1- عبد الله، الفقيه الفاضل الْمُحَصِّل، جمال الدين، ابن الشيخ شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية. مولده سنة (723) 1، وهي سنة وفاة جده أبي بكر. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "الشيخ ... الفاضل المحصل، جمال الدين عبد الله بن العلامة شمس الدين ... كانت لديه علوم جيدة، وذهنه حاضر خارق، أفتى ودَرَّسَ وأعاد وناظر، وحج مرات عديدة، رحمه الله وَبَلَّ بالرحمة ثراه"2. وقال ابن حجر: " ... اشتغل على أبيه وغيره، وكان مفرط الذكاء، حفظ سورة الأعراف في يومين، ثم دَرَسَ (المحرر) في الفقه،   1 الدرر الكامنة: (2/396) . 2 البداية والنهاية: (14/265) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 و (المحرر) في الحديث ... ومهر في العلم، وأفتى ودَرَّسَ، وحج مراراً ... قال ابن رجب: كان أعجوبة زمانه"1. وقال ابن حجر أيضاً: "صلى بالقرآن سنة 731هـ"2. فيكون رحمه الله قد حفظ القرآن وهو ابن تسع سنين. وأما وظائفه العلمية التي شغلها: فإنه قد دَرَّسَ (بالصدرية) عقب وفاة أبيه، قال ابن كثير رحمه الله: "وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان - يعني من سنة 751هـ، بعد وفاة أبيه بشهر - ذكر الدرس بالصدرية شرف الدين عبد الله بن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية عوضاً عن أبيه رحمه الله، فأفاد وأجاد، وسرد طرفاً صالحاً في فضل العلم وأهله"3. كما أنه - رحمه الله - قد اشتغل بالخطابة؛ قال الحافظ ابن كثير: "وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول أقيمت جمعة جديدة بمحلة الشاغور بمسجد هناك يقال له: مسجد المزار، وخطب فيه جمال الدين عبد الله بن الشيخ شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية ... "4. كما ذكر النعيمي في ترجمته أنه كان خطيباً في (جامع سليمان) وأنه أول من خطب به5.   1 الدرر الكامنة: (2/396) . 2 المصدر السابق. 3 البداية والنهاية: (14/247) . 4 البداية والنهاية: (14/259) حوادث سنة (754هـ) . 5 الدارس في تاريخ المدارس: (2/90) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 توفي رحمه الله شاباً، وذلك سنة (756هـ) وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة. "وكانت جنازته حافلة" ودفن عند أبيه بالباب الصغير1، فرحمه الله رحمة واسعة. 2- إبراهيم، العالم الفقيه، برهان الدين، أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن أبي بكر. ذكر ابن رافع أن مولده سنة (716هـ) 2، ووافقه على ذلك: ابن حجر3 رحمه الله، وكذا قال الشيخ بكر أبو زيد4. وذكر الحافظ الذهبي أن مولده سنة: "بضعة عشرة وسبعمائة"5. وأما الحافظ ابن كثير، فقد ذكر عمره حين وفاته، فقال: "بلغ من العمر ثمانياً وأربعين سنة"6. وإذا اعتبرنا ذلك بتاريخ وفاته - الذي اتفقوا على أنه كان سنة 767هـ - فيكون وقت ولادته هو سنة (719هـ) ، وبه جزم صاحب (منادمة الأطلال) 7، ولعله استظهره من كلام ابن كثير رحمه الله، وهذا يعارض ما تقدم من أنه ولد سنة   1 البداية والنهاية: (14/265) . 2 الوفيات: (2/304) . 3 الدرر الكامنة: (1/60) . 4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص23) . 5 المعجم المختص: (ص66) . 6 البداية والنهاية: (14/329) . (ص240) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 (716هـ) ، ولعل الحافظ ابن كثير يكون أعرف به من غيره؛ إذ كان على صلة به ومعرفة، والله أعلم. قال الذهبي رحمه الله: "قرأ الفقه والنحو على أبيه، وسمع وقرأ وتَنَبَّه وسَمَّعَه أبوه من الحجَّار"1. وقال الحافظ ابن كثير: "كان بارعاً فاضلاً في النحو والفقه وفنون أخر على طريقة والده، رحمهما الله تعالى، وكان مدرساً بالصدرية، والتدمرية، وله تصدير2 بالجامع، وخطابة بجامع ابن صلحان"3. وقال ابن رافع: "طلب الحديث وقتاً، وتَفَقَّه، واشتغل بالعربية، وشرح ألفية ابن مالك"4. وقال ابن قاضي شهبة: "وكان له أجوبة مسكتة"5. وذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أنه ولي تدريس الحنابلة في مشيخة دار الحديث التي فتحت بدرب القبلي، وذلك في جمادى الأولى من سنة (765هـ) 6.   1 المعجم المختص: (ص66 - 67) . 2 التصدير: كلمة ترد بمعنى التدريس، لأن المدرس حينما يُكَلَّف بتدريس الطلبة يتصدر المجلس في الجامع أو المجلس لهذه الغاية. (معجم المصطلحات والألقاب التاريخية - مصطفى الخطيب: ص106) . 3 البداية والنهاية: (14/329) . 4 الوفيات: (2/304) . 5 الدارس في تاريخ المدارس: (2/89) . 6 البداية والنهاية: (14/321) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وبعد عمر حافل بالجد والعطاء، وحياة علمية مزدهرة مشرقة، توفي هذا الإمام البارع، ابن الإمام العلامة، وذلك في يوم الجمعة مستهل صفر من سنة (767هـ) 1. "وحضر جنازته القضاة والأعيان، وخلق من التجار والعامة، وكانت جنازته حافلة"2. وقد كان - مع هذا العلم والفضل - ذا مال ونعمة، فقد "ترك مالاً جزيلاً يقارب المائة ألف درهم"3. فرحمه الله رحمة واسعة. ومن هذا العرض لأسرة ابن القَيِّم - رحمه الله - نعلم أن النشأة الأولى كانت طيبة، في جو تسوده الرعاية الدينية الصحيحة، والتربية الإسلامية القويمة، والقدوة الحسنة الرشيدة. فلا عجب إذن أن نجد ابن القَيِّم - رحمه الله - ينشأ هذه النشأة السوية في هذه البيئة الطيبة المباركة. ثم كانت البركة في أسرة ابن القَيِّم مستمرة، فكان أولاده من أهل العلم الأفاضل، الذين بذلوا في خدمته أعمارهم، فكانوا أعلاماً بارزين على طريق البذل والعطاء، كما كان أبوهم من قبلهم، فرحم الله هذه الأسرة الكريمة المباركة، وأسكنها فسيح الجنات، آمين.   1 الوفيات لابن رافع: (2/303) . 2 البداية والنهاية: (14/329) . 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 المبحث الثالث: أخلاقه وصفاته الشخصية إن أول ما يلمسه المرء ويحسه - وبخاصة إذا كان ممن عَرَفَ ابن القَيِّم، وعاش مع تراثه الممتع النافع - أنه أمام عالم عامل، وداعية مخلص صادق، ومربٍ فاضل، أفنى عمره في محاربة كل شر ورذيلة، والدعوة إلى التخلق بكل خير وفضيلة. فلم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - ممن يتكسبون بدعوتهم، أو يطلبون بها عرضاً زائلاً - كما كان حال البعض في عصره - وإنما كان صاحب رسالة سامية، عاش حياته مبلغاً لها ومنافحاً عنها. فلا عجب إذن أن يكون على درجة عالية من الأخلاق الفاضلة، والخلال الحميدة، بشهادة كل من عايشه وسعد بصحبته، فقد كان (الغالب عليه الخير والأخلاق الصالحة) كما وصفه بذلك تلميذه ابن كثير رحمه الله1. كما لا يفوتنا التنبيه على أن هذه الأسرة الطيبة التي نشأ ابن القَيِّم بين أحضانها، وما لقيه منها من رعاية وحسن توجيه - وخاصة والده الذين قدمنا طرفاً من سيرته العطرة - كان لها أكبر الأثر في تحلي ابن القَيِّم - رحمه الله - بجميل العادات، ومحاسن الأخلاق، كما سبق التنبيه على ذلك. ويمكن لنا أن نسجل بعض هذه الصفات التي كان متخلقاً بها،   1 البداية والنهاية: (14/246) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وذلك من خلال شهادة تلاميذه، وأصحابه ومن عرفوه، وكذا من خلال ما يظهر من مطالعة سيرته ومؤلفاته، فلعل ذلك يكون باعثاً على التحلي بمثل أخلاق هذا الإمام الفاضل. فمن هذه الصفات: 1ـ حسن العشرة، وكثرة التودد إلى الناس والتَّحَبُّب إليهم، لاسيما أهل الفضل والصلاح منهم، فكان الحافظ ابن كثير - مثلاً - من (أحب الناس إليه) كما حكى هو كذلك1. 2ـ كَفُّ الأذى عن الخلق، فكان - رحمه الله - "لا يحسد أحداً، ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد". كما قال ذلك أصحب الناس له: ابن كثير2 رحمه الله. هكذا كان ابن القَيِّم متحبباً إلى الناس متجملاً معهم، كَافّاً أذاه عنهم؛ لأنه - رحمه الله - كان يعلم أن حسن الخلق هو: (طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى) . فإنه قد نقل ذلك عن عبد الله بن المبارك رحمه الله، شارحاً به حسن الخلق وموضحاً معناه3. فرحم الله ابن القَيِّم: الذي عَلِمَ، فتخلق بهذا العلم وعمل به، ثم دعا إليه ونشره بين الناس. 3ـ شِدَّةُ محبته للعلم، وكتابته، ومطالعته. كما وصفه بذلك تلميذه ابن رجب4 رحمه الله.   1 البداية والنهاية: (14/246) . 2 المصدر السابق. 3 تهذيب السنن: (7/161) . 4 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وكيف لا يكون شديد الحب للعلم، شديد التعلق به، وهو القائل: "النَّهْمَةُ1 في العلم، وعدم الشبع منه من لوازم الإيمان، وأوصاف المؤمنين"2. 4ـ جِدُّهُ واجتهاده - رحمه الله - في تحصيل ما نذر نفسه لتحصيله من هذا العلم الشريف، وإنفاق أيام العمر وسِنِيِّه في ذلك، بحيث وصف بـ "كثرة الطلب ليلاً ونهاراً"3. 5ـ جرأته - رحمه الله - وصلابته في دين الله، وصدعه بالحق؛ فلم يكن يحابي أحداً فيما يعتقد أنه الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، مع ما سببه ذلك له من محن وإيذاء كما سيأتي. قال الإمام الشوكاني في وصفه إياه: " ... صادعاً بالحق لا يحابي فيه أحداً"4. 6ـ تجرده - رحمه الله - في أبحاثه العلمية من كل هوًى نفسي، أو غرض ذاتي شخصي، وإنما كان يبتغي الوصول إلى الحق والصواب، ولو ظهر هذا الحق على لسان غيره. فمن ذلك: أنه صوّب إثبات (الواو) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" ثم قال: "فهذا ما ظهر لي في هذه اللفظة، فمن وجد شيئاً فليلحقه بالهامش، فيشكر الله له، وعباده سعيه، فإن المقصود: الوصول إلى الصواب، فإذا ظهر وضع ما عداه تحت الأرجل"5.   1 النَّهْمَةُ: بلوغ الهمة في الشيء. وقد نُهِمَ بكذا نَهْمةً، فهو منهوم، أي مولعٌ به. 2 مفتاح دار السعادة: (1/74) . 3 البداية والنهاية: (14/246) . 4 البدر الطالع: (2/143-144) . 5 بدائع الفوائد: (2/177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 7ـ تَوَاضُعُه وإنكاره لِذاتِهِ، واستصغاره لنفسه وعلمه، من ذلك: ما نجده في أكثر كتبه من تصريحه بقلة بضاعته في هذا الشأن، مع إسناده الصواب في ذلك إلى الله، وأن ذلك من فضله وتوفيقه، وإسناده الخطأ والنقص إلى نفسه1. هذا ما يقوله، مع ما عرف عنه من جودة تصانيفه، وكثرة إفاداته، وغزارة علمه رحمه الله. 8 - صَبْرُهُ - رحمه الله - على الأذى والْمِحَن والابتلاء في ذات الله سبحانه، دون جزع أو ضَجَر، فكم عانى من ألم السجن ومرارة الحبس، فكان يقابل كل ذلك صابراً محتسباً، بل "كان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن بالتَّدَبُّرِ والتَّفَكُّرِ، فَفُتِح عليه من ذلك خير كثير ... " كما يقول ابن رجب2 رحمه الله، فانقلبت بذلك محنته إلى منحة، وسجنه إلى خلوة للتعبد والمناجاة. وهذا - لا شك - دال على شجاعته رحمه الله، تلك الخصلة التي وصفها مرة بقوله: "الشجاعة: ثبات القلب عند النوازل"3. ولما كانت الشجاعة - بهذا المعنى - "خلقاً كريماً من أخلاق النفس"4، فقد كان - رحمه الله - متخلقاً بها متحلياً بفضائلها. وأخيراً، فإنه ليس بغريب على مثل ابن القَيِّم - رحمه الله - أن يجمع بين هذه الأخلاق الفاضلة، ويتحلى بكل هذه الخلال الحميدة، ذلك   1 ينظر على سبيل المثال: حادي الأرواح: (ص30) ، والفروسية: (ص2) . 2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) . 3 الفروسية: (ص129) . 4 الفروسية: (ص130) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أن "الأخلاق الفاضلة تتلازم وتتصاحب غالباً"1 كما يقول ابن القَيِّم نفسه. ومع ذلك، فإن ما ذكرناه هنا ما هو إلا طرف يسير مما يتحلى به هذا الإمام الفاضل، والمربي القدوة من أخلاق حسنة، ومن شاء أن يقف على المزيد من فضائله، ومكارم أخلاقه، ومحاسن طباعه: فعليه بمؤلفاته وكتبه، فإن ما رسمه فيها من منهج متكامل لما ينبغي أن يتخلق به المسلم الحق في دينه ودنياه، لم يكن إلا صورةً حقيقية، ومرآة صادقة لأخلاقه رحمه الله، فما من خلة حميدة أو خلق فاضل دعا إليه، إلا وهو متخلق به، عامل بمقتضاه كما تقدم بيان شيء من ذلك، وكما سيأتي في الكلام على زهده وعبادته رحمه الله.   1 الفروسية: (ص129) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 المبحث الرابع: زهده زعبادته ... المبحث الرابع: زهده وعبادته إنَّ في حياة العلامة ابن القَيِّم وسلوكه جانباً آخر- غير ما سبق - وهو جانب: اجتهاده مع مولاه، وخوفه منه ورجائه إياه، وسعيه في تحصيل رضاه، واستعداده ليوم لقاه. فإن (من يقرأ مؤلفات ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى - وبخاصة كتابه (مدارج السالكين) - يخرج بدلالة واضحة: على أن ابن القَيِّم –رحمه الله تعالى– كان لديه من عمارة قلبه باليقين بالله والافتقار والعبودية، والاضطرار، والإنابة إلى الله، الثروة الطائلة، والقدح الْمُعَلَّى في جَوِّ العلماء العاملين، الذين هم أهل الله وخاصته. وأن لديه من الأشواق والمحبة التي أخذت بمجامع قلبه - لا على منهج المتصوفة الغلاة، بل على طريق السلف الصالح - ما عمر قلبه بالتعلق بالله في السِّر والعلن، ودوام ذِكْرِهِ، وأن العبادة حَلَّت منه محل الدواء والمعالجة، وترويض النفس"1. فلقد عَمَرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - ما بينه وبين الله سبحانه، بالاجتهاد في العبادات والطاعات، كما عَمَر ما بينه وبين الناس بحسن الخلق، والاتصاف بجميل العادات، فكان بذلك خير مثال للعلماء الصادقين، الذين جمعوا بين العلم والعمل.   1 بهذه الكلمات المضيئة وصفه الشيخ بكر بن عبد الله أبو بزيد في كتابه: (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره) : (ص25) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 نعم، لقد شَمَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ساعد الجد في العبادة ليلاً ونهاراً، حتى قال عنه أقرب الناس إليه، وأعرفهم به، وأصحبهم له - وهو الحافظ ابن كثير -: "ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه"1. وفيما يلي طرفٌ مما حكاه بعض من شاهد أحواله في ذلك: 1ـ طول صلاته وقيامه بين يدي الله سبحانه، وطول ركوعه وسجوده: فقد وُصِفَ –رحمه الله - بطول الصلاة "إلى الغاية القصوى"2. وكانت طريقته - رحمه الله - في الصلاة: أنه (يطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا يَنْزِع عن ذلك رحمه الله"3. وكيف يَنْزِع عن ذلك، أو يُقْلِع عنه، وقد وجد راحة نفسه، وطمأنينة قلبه، والأنس بمحبوبه في طول الوقوف بين يديه سبحانه، وكثرة المناجاة له؟ وكيف يُقْلِع عن ذلك وهو يرى أن (من لم تكن قرة عينه في الصلاة، ونعيمه وسروره ولذته فيها، وحياة قلبه وانشراح صدره"4، فأولى به أن يكون من السُّرَّاق في صلاتهم، الذين ينقرونها نقراً.   1 البداية والنهاية: (14/246) . 2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) . 3 البداية والنهاية: (14/246) . 4 الصلاة: (ص 165 - 166) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 2ـ تهجده وقيامه الليل: فقد قال عنه ابن رجب رحمه الله: "كان ذا عبادة وتهجد"1. وكيف بهذا العالم الرباني يغفل عن قيام الليل، أو يتوانى في ذلك، وقد علم أنه (وَقْتُ قَسْمِ الغَنَائم) 2، فأسهر ليله، ووقف بين يدي مولاه والناس نيام حتى يكون يوم القيامة من الآمنين، وفي الموقف من المطمئنين؛ فإن من "سَبَّح الله ليلاً طويلاً، لم يكن ذلك اليوم ثقيلاً عليه، بل كان أخفَّ شيء عليه"3. كما يقول هو رحمه الله. ويقرر - رحمه الله - أن في قيام الليل الكثير من الفوائد التي تعود على المسلم بالخير في صحته وبدنه؛ فإن قيام الليل "من أنفع أسباب حفظ الصحة، ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة، ومن أنشط شيء للبدن والروح والقلب"4. 3ـ كثرة ابتهاله وتضرعه ودعائه: فقد وصفه ابن كثير - رحمه الله - بـ (كثير الابتهال) 5. وقد وُصِفَ أيضاً بـ "الافتقار إلى الله، والانكسار له، والاطِّراح بين يديه على عتبة عبوديته"6 بحيث لم يشاهد مثله في ذلك.   1 ذيل الطبقات: (2/448) . 2 تحفة المودود: (ص 241) . 3 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص37) . 4 زاد المعاد: (4/247-248) . 5 البداية والنهاية: (14/246) . 6 ذيل الطبقات: (2/448) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 4ـ ملازمته - رحمه الله - لذكر الله واستغفاره: بحيث كان ذا (لَهَجٍ1 بالذكر ... والإنابة والاستغفار"2. ومما يذكر عنه في ذلك أيضاً: أنه كان إذا صلى الفجر يجلس مكانه يذكر الله - تعالى - حتى يتعالى النهار جداً، وكان إذا سُئِل عن ذلك يقول: هذه غَدْوَتِي3، ولو لم أَتَغَدّ هذه الغدوة سقطت قواي4. وقد ذكر هو - رحمه الله - عن شيخه ابن تَيْمِيَّة مثل ذلك5 فلا مانع أن يكون هذا الفعل ثابتاً عنهما رحمهما الله. وحريّ بمثل ابن القَيِّم أن يحرص على الذكر، ويكثر منه ولا يفارقه، ويجد فيه راحة قلبه؛ وذلك أنه عرف منزلة ذكر الله وفوائده الجمة، حتى أخبر - رحمه الله - أن (في الذكر أكثر من مائة فائدة"6. ثم ساق من هذه الفوائد نيفاً وتسعين فائدة7. فرحم الله ابن القَيِّم، ذاك الذي كان مثلاً صادقاً للعلماء العاملين.   1 اللَّهَجُ بالشيء: الولوع به. (مختار الصحاح: لهج) . 2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) . 3 أي غدائي، ويقصد به الغداء المعنوي الروحي، فشبهه بالطعام الذي تقوم به القوى؛ لأن العبادة تقوى بها الروح وتسمو. والغُدْوَةُ: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس (مختار الصحاح، مادة غدا) . 4 الدرر الكامنة: (4/21) ، وابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (46) . 5 الوابل الصيب: (ص53) ، والرد الوافر: (ص69) . 6 الوابل الصيب: (ص52) . 7 الوابل الصيب: (ص52 - 120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 5ـ قراءة القرآن بالتدبر والتفكر: فقد كان - رحمه الله - لا يفتر عن ذلك حتى في أوقاته الحرجة، ويصف تلميذه ابن رجب - رحمه الله - حاله في السجن، فيقول: "وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر"1. ولأجل ما كان عليه في ذلك من التدبر والتفكر في كتاب الله، فإن تلميذه ابن رجب لم ير "أعرف بمعاني القرآن ... منه"2. 6ـ حرصه - رحمه الله - على أداء الحج مرات وكرات: فقد (حج مرات كثيرة، وجاور بمكة"3. وفي أثناء مجاورته بمكة كان مشتغلاً بالعبادة لا يفتر، حتى إن أهل مكة كانوا "يذكرون عنه من شدة العبادة، وكثرة الطواف أمراً يُتَعَجَّب منه"4. ويصف هو - رحمه الله - شيئاً من عبادته وخضوعه لربه أثناء مقامه بمكة، وذلك عند كلامه على تأليف كتابه (مفتاح دار السعادة) فيقول: "كان هذا من بعض النزل والتُّحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً"5.   1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) . 2 المصدر السابق. 3 المصدر السابق. 4 المصدر السابق. 5 مفتاح دار السعادة: (1/47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وكيف لا يكثر ابن القَيِّم من أداء الحج وهو يصف تلبية الحجيج بأنها (إجابة محب لدعوة حبيبه ... وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى"1. فلم يكن ابن القَيِّم في كثرة حجه، وزيارته لبيت الله الحرام، إلا مجيباً دعوة حبيبه ومولاه. ومع كل هذا الذي كان عليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من الجد في العبادة، وبلوغه في ذلك رتبة عَلِيّة، فقد كان يتهم نفسه بالتقصير في حق مولاه، ويشكو كثرة ذنوبه وخطاياه! وهذا من كمال تواضعه وشدة خوفه من الله. وقد وصف شيئاً من ذلك في قصيدة2 له يُذَكِّر فيها نفسه، أولها: بُنَيُّ أبي بكرٍ كثيرٌ ذُنُوبُهُ ... فَلَيْسَ عَلَى مَنْ نَالَ مِنْ عِرْضِهِ إِثْمُ بُنَيُّ أبي بكر جَهُولٌ بِنَفْسِهِ ... جَهُولٌ بِأَمْرِ الله، أَنَّى له العِلْمُ؟! بُنَيُّ أبي بكر غدا مُتَصَدِّرَاً ... يُعَلِّمُ عِلْمَاً وَهُو لَيْسَ ُلهُ عِلْمُ بُنَيُّ أبي بكر غَدَا مُتَمَنِّيَاً ... وِصَالَ الْمَعَالِي وَالذُّنُوبُ له هَمُّ إلى آخر هذه القصيدة التي تبين خوفه ورجاءه وتضرعه لربه، مع ما كان عليه من الجد في العبادة رحمه الله.   1 مفتاح دار السعادة: (2/4) . 2 ذكرها عنه صلاح الدين الصَّفَدِي، وقد أنشده إياها من لفظه. الوافي بالوفيات: (2/272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وأما زهده: فقد وصف بأنه أزهد أصحاب شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله1. ولعل مما يدل على زهده - رحمه الله - وتقلله من الدنيا، وعدم حرصه عليها ما ذكر في سبب تأليف كتابه (تحفة المودود) ، وهو: أن الله - عزوجل - قد رزق ابنه إبراهيم مولوداً، ولم يكن عند والده - ابن القَيِّم - في ذلك الوقت ما يقدمه لولده من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب وأعطاه إياه، وقال له: "أُتْحِفكُ بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك"2. فهكذا كان ابن القَيِّم - رحمه الله - في عبادته وزهده وخشوعه وانكساره وخوفه وإنابته إلى ربه سبحانه، كان في ذلك كله نِعْمَ القدوة، وأصدق المثلٍ للسائرين إلى ربهم والدار الآخرة، فرحم الله ابن القَيِّم رحمة واسعة، وطَيَّبَ ثراه، وجعل الجنة داره ومثواه، آمين.   1 الجوهر المنضد: (ص114) . 2 انظر مقدمة الأستاذ/ عبد القادر الأرنؤوط لكتاب (تحفة المودود) (ص: ج) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 المبحث الخامس: نُبْل أهدافه ونقاء آرائه تَقَدَّمَ أن ابن القَيِّم - رحمه الله - كان قد عاش في بيئة يسودها كثير من الفساد الديني والأخلاقي، وتنتشر فيها عادات اجتماعية متردية، وتروجُ فيها أفكارٌ ونِحَلٌ منحرفةٌ مع انتسابها - زُوراً - للإسلام. وشاء الله سبحانه وتعالى - وله الحمد - أن يشرح صدر ابن القَيِّم للمنهج الحق، وأن يريه الطريق المستقيم، وأن يُحَبِّبَ إلى قلبه التمسك بالكتاب والسنة دون سواهما. وكان من توفيق الله - عزوجل - أن هيَّأ له أستاذاً فاضلاً، وعلماً شامخاً، وعالماً نِحْرِيراً مجاهداً، وهو: شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، الذي كان سبقه إلى سلوك هذا السبيل، فكان له - بعد توفيق الله - خير القدوة، ونعم المرشد؛ فقد لازمه ابن القَيِّم - رحمه الله - منذ عودته من الديار المصرية إلى دمشق سنة (712هـ) ، إلى أن توفي الشيخ -رحمه الله- في سنة (728هـ) 1، حتى صار من أصحب الناس له، وألصقهم به ومن أخصِّ تلاميذه والْمُقَرِّبِين إليه، ولقد تَمَكَّنَت محبةُ الشيخ من قلب تلميذه ابن القَيِّم رحمه الله، فكان لا يفارقه أبداً، حتى إنه كان محبوساً معه في القلعة إلى أن مات الشيخ رحمه الله. وهكذا كان لابن تَيْمِيَّة - رحمه الله - أثرٌ كبيرٌ؛ بل أكبر الأثر في حياة ابن القَيِّم رحمه الله: توجيهاً وتعليماً، وتربيةً وإرشاداً؛ فقد أخذ عنه   1 البداية والنهاية: (14/246) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 عِلماً غزيراً، واستفاد منه منهجاً قويماً في حياته ودعوته - (مع ما سلف له من الاشتغال) 1، والتحصيل - حتى حَمَل الراية من بعده، وسار على الدَّرْبِ نفسه، داعياً للرجوع إلى الكتاب والسنة، والتمسك بهديهما، وفتح الله عليه في ذلك الفتح المبين، فكان - ولا يزال - مِشْعَلَ خير ونور، هدى الله به الكثيرين إلى صراطه المستقيم2. فلعلها (سرت إليه بركة ملازمته لشيخه ابن تَيْمِيَّة في السراء والضراء، والقيام معه في محنه، ومواساته بنفسه، وطول تردده إليه) 3. كما يقول الإمام الشوكاني رحمه الله. كانت تلك إلماحة سريعة إلى أبرز العوامل التي هيأها الله - سبحانه - لابن القَيِّم في هذه البيئة المظلمة، فكانت أكبر عون له على الصمود في وجه تلك التحديات. ولا بد لنا -بعد ذلك- أن نبرز الأهداف التي تَبَنَّاها ابن القَيِّم رحمه الله، وكان يسعى لتحقيقها، تلك الأهداف التي كانت محور دعوته، ولبَّ رسالته، التي عاش مجاهداً من أجل تحقيقها، حتى لقي الله - عزوجل- على ذلك، وهذه الأهداف وإن تنوعت وتعددت، فإنها تدور في مجملها حول محور واحد وغاية عظمى، ألا وهي: الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة ومحاربة البدعة.   1 البداية والنهاية: (14/246) . 2 وينظر حول اتصال ابن القَيِّم بابن تَيْمِيَّة، وعلاقته به، وأثره فيه، وأنه لم يكن نسخة من شيخه: (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره) : (ص78-97) . 3 البدر الطالع: (2/145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ومن أبرز تلك الأهداف النبيلة والآراء السديدة: أولاً: الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة، والعمل بهما، والتحاكم إليهما عند التنازع، ونبذ ما يخالف ذلك من الآراء والأقوال، فتجعل نصوص الوحي المنزل حكماً على ما سواها من آراء الرجال وأقوالهم. وقد أولى - رحمه الله - هذا الجانب عناية خاصة، واجتهد في تقريره والدعوة إليه، وسخَّر جهده ووقته وقلمه في سبيل الله تحقيقه، بل أفرد لذلك المصنفات التي يردُّ فيها على الفلاسفة وأهل الكلام، وأتباعهم من المنتسبين إلى الإسلام. فنراه - رحمه الله - يتبرأ من "جَعْلِ سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعة لآراء الرجال، منزلة عليها، مسوقة إليها"1. وقال مرة: "ولسنا ممن يعرض الحق على آراء الخلق، فما وافقه منها قَبِلَهُ، وما خالفه رُدَّ، وإنما نحن ممن يعرض آراء الرجال وأقوالها على الدليل، فما وافقه منها اعتدَّ به وقبله، وما خالفه خالفه"2. وسيأتي مزيد كلام له - رحمه الله - في ضرورة التمسك بالسنة، والتحذير من تركها لرأي أحد أو عمله كائناً من كان3. ثانياً: الدعوة إلى اتِّباع السنة النبوية الصحيحة النقية، كما   1 تهذيب السنن: (1/10) . 2 الفروسية: (ص 41) . 3 انظر ص: (329 - 332) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير مما خالط ذلك من البدع الْمُحْدَثَات، التي تَدَيَّنَ بها كثير من الناس، معرضين - في الوقت نفسه - عن الثابت الصحيح من سنته صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الصدد يقول عنه العلامة الشوكاني رحمه الله: "وبالجملة فهو أحد من قام بنشر السنة، وجعلها بينه وبين الآراء الْمُحْدَثة أعظم جُنَّةٍ، فرحمه الله، وجزاه عن المسلمين خيراً"1. وقال ابن القَيِّم في بيان منزلة صاحب السنة وصاحب البدعة: "فصاحب السنة حيُّ القلب مستنيره، وصاحب البدعة ميت القلب مظلمه"2. وَبَيَّنَ مرةً فضل متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر ذلك، فقال: " ... وأكمل الخلق متابعة له: أكملهم انشراحاً ولذةً وقرة عين، وعلى حسب متابعته ينال العبد من انشراح صدره، وقرة عينه، ولذة روحه ما ينال"3. وقد كان - رحمه الله - دائم التنبيه على البدع، وبيان الصحيح من سنته صلى الله عليه وسلم من الدخيل الْمُحْدَثِ، كلما وجد مناسبة لذلك، فمن ذلك: قوله رحمه الله: "ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تَعْليَةُ القبور، ولا بناؤها بآجرٍّ ولا بحجر ولبن، ولا تشييدها ... فكل هذا بدعة مكروهة، مخالفة لهديه صلى الله عليه وسلم"4.   1 البدر الطالع: (2/145) . 2 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص7) . 3 زاد المعاد: (2/28) . 4 زاد المعاد: (1/524) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وقال عن حديث الاكتحال يوم عاشوراء والتطيب: " ... مِنْ وضع الكذَّابين، وقَابَلَهُم آخرون فاتخذوه يوم تَأَلَّمٍ وحزنٍ، والطائفتان مبتدعتان خارجتان عن السنة، وأهل السنة يفعلون فيه ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم، ويجتنبون ما أمر به الشيطان من البدع"1. وقال رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت ولم يكن من هديه أن يُجْتَمَعَ للعزاء، ويقرأ له القرآن، لا عند القبر ولا غيره، وكل ذلك بدعة حادثة مكروهة"2. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة لِذَمِّه - رحمه الله - البدع، وقيامه عليها وتنفيره منها. ثالثاً: ذمُّ التقليد الأعمى، الذي يحمل المقلد على ترك ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لقول مُقَلَّدِهِ، فلا يرى الحق إلا مع إمامه، ولا يقبل من الدين إلا ما جاء من طريقه. ويصف ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا النوع من التقليد المذموم بأنه: "الإعراضُ عن القرآنِ والسننِ وآثارِ الصحابةِ، واتخاذُ رَجلٍ بعينه مِعْيَاراً على ذلك، وتركُ النصوص لقوله، وعرضها عليه، وقبول كل ما أفتى به، ورد كل ما خالفه"3. ولا شك أن استيلاء التقليد على القلوب سببه: ما تقدم من   1 المنار المنيف: (ص112 - 113) . 2 زاد المعاد: (1/527) 3 إعلام الموقعين: (2/250) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الإعراض عن نصوص الكتاب والسنة، ونبذهما وراء الظهور، والالتفات - بدلاً من ذلك - إلى القيل والقال، وآراء الرجال؛ فإن الغالب على من كانت هذه حاله، أنه يكون أسيراً لأقوال إمامه، حبيساً في سجن آرائه، فتجد الواحد منهم قد "أَخْلَد إلى أرض التقليد، وقنع أن يكون عيالاً على أمثاله من العبيد"1. ويُبَيِّن ابن القَيِّم - رحمه الله - شيئاً من حال الْمُقَلِّد، فيقول: "وعياذاً بالله من شر مقلد عَصَبِيّ، يرى العلم جهلاً، والإنصاف ظلماً، وترجيح الراجح على المرجوح عدواناً"2. ويُخْرِجُ ابن القَيِّم المقلد من زمرة العلماء؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء قد وَرَّثُوا العلم، "وكيف يكون مِنْ وَرَثة الرسول صلى الله عليه وسلم من يجهد ويكدح في رد ما جاء إلى قول مقلد ومتبوعه؟! "3 أقسام التقليد المحرم: وقد بَيَّنَ - رحمه الله - أن التقليد المحرم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- الإعراض عمَّا أنزل الله، وعدم الالتفات إليه، اكتفاءً بتقليد الآباء. 2- تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهلٌ لأن يُؤْخذ عنه. 3- التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد.   1 تهذيب السنن: (1/6) . 2 تهذيب السنن: (3/251) . 3 إعلام الموقعين: (1/7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ثم بَيَّنَ حرمة هذه الأنواع كلها، وذمَّ الله - سبحانه - لها في كتابه، وذلك في بحث له طويل ممتع نفيس1. رابعاً: ذمُّ التعصب المذهبي ومحاربته، وكشف عواره، والتحذير منه. فالتعصب المذهبي خطره عظيم، وشره جسيم، وإنما هو ناشئٌ عن التقليد ولا يقل في خطورته عنه، بل إنه أشد ضرراً من التقليد؛ فإن المقلد قد يكون قانعاً بمجرد التقليد، لكن المتعصبين زادوا على ذلك: أنهم - مع تقليدهم - "قد جعلوا التعصب للمذهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتجرون"2، وفي سبيلها يوالون ويعادون ويصلون ويقطعون، ويحبون ويبغضون، فقد "أشقاهم التعصب وأصَمَّهم وأعمى أبصارهم عن نور الوحيين: الكتاب والسنة، حتى بلغ بهم الهوس إلى المهاترات، ورد المذهب بمذهب آخر"3. وقد سبقت الإشارة إلى شيوع التعصب المذهبي وانتشاره في المجتمع الذي عاش فيه ابن القَيِّم، وما كان يسببه ذلك من: فتن وصراعات، ومحن وخلافات4، الأمر الذي جعل ابن القَيِّم رحمه الله - وهو ابن هذه البيئة - يهبُّ في وجه هؤلاء المتعصبة، ويعلنها حرباً عليهم في كل مناسبة وحين، بل قد أعطى هذه القضية من وقته وجهده وكتاباته الكثير والكثير.   1 انظر: إعلام الموقعين: (2/187 - 281) . 2 إعلام الموقعين: (1/7) . 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص44) . 4 انظر: (ص 49 - 50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ويبين ابن القَيِّم - رحمه الله - خطر التعصب، وعاقبة أمره، فيقول: "تالله إنها فتنة عمَّت فَأَعْمَت، ورمت القلوب فَأَصَمَّتْ، رَبَا عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، واتُّخِذ لأجلها القرآن مهجوراً ... "1. ولقد صَبَرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - في محاربته للتقليد والتعصب على كل ما نَالَهُ مِنَ الأذى، وكَانَ ثَابِتَاً كالجَبَلِ الرَّاسِي، لَمْ تُؤَثِّر فيه مؤامراتُ الحاقدين، ولا نَالَتْ من ثَبَاتِهِ سِهَامُ الْمُقَلِّدة المتعصبين، حتى آتت جهوده أطيب الثمار، "فَذَابَتْ العصبيةُ المذهبية في الطريقة الأَثَرِيَّة، فَصُحِّحَت المفاهيم، وأخذ يَدُبُّ في الناس روحُ الأخذِ بِالدليل معَ احترام الأئمة السالفين، بل هو مَسْلَكُهُم ومَنْهَجُهُم، وما زالَ هذا يَدُبُّ في كل عهدِ ومَهْد حتى أيامنا هذه، بل في هذه الأيام والأزمان الحاضرة لم يجد الناس بُدًّا من ذلك المنهج السَّويِّ، والْمَشْرَعِ الرويِّ؛ لأنه هو الذي يتمشى ووقائع العصر ونوازله، فعاد أعداء المدرسة الأثرية لها أصدقاء، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات"2. خامساً: محاربة الانحراف في العقيدة، والدعوة للرجوع إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة في باب العقيدة: فَهْماً وسلوكاً. ولقد كان هذا هو هدف ابن القَيِّم الأهم، الذي أنفق في سبيله الكثير من جهده، وسطَّر من أجله العديد من مؤلفاته3.   1 إعلام الموقعين: (1/7 - 8) . 2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص48) 3 ومن أهمها: (اجتماع الجيوش الإسلامية) ، و (الصواعق المرسلة) ، و (قصيدته النونية) العظيمة التي بلغت ستة آلاف بيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وذلك أنه قد انتشرت في عصره الأفكار الفلسفية، والمناهج الكلامية، وأدى ذلك إلى ظهور بدع التأويل لنصوص الصفات تأويلاً يُفْضي إلى تحريفها عن معناها، أو تعطيلها عن مضمونها ونفيها. ولاشكَّ أن ذلك مخالف لما عليه سلف هذه الأمة من: إثبات ما وصف الله - سبحانه - به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، إثباتاً بلا تشبيه، وتنْزيهه عمَّا نزه عنه نفسه، ونَزَّهه عنه رسوله، تنْزيهاً بلا تعطيل1. من أجل ذلك هبَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - للدفاع عن عقيدة السلف، والدعوة إلى الرجوع إلى ما كانوا عليه في فهم نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب، فكان له جهد مشكور، وبلاء حسن في إحياء عقيدة السلف بعدمَا دَرَسَت، وتصحيح كثير من المفاهيم بعد ما تحرَّفت وانطمست، ولا تزال بركة دعوتِهِ - وشيخه من قبله - ساريةً إلى وقتنا هذا، بما تركاه من كتب نفيسة ومؤلفات نافعة مباركة، يعتصمُ بها طالبُ الحقِّ من الوقوع في الفتن، وينهل من مَعِينها كل راغب في اتباع خير سَنَنٍ. سادساً: تقرير أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة لا يضربُ بعضُهَا بعضاً، وأنها تتفق ولا تفترق، وأنها كلٌّ لا يتجزأ، ولذا فإنه لا ينبغي أخذ بعضها وترك بعضها الآخر، فيأخذ أحدهم ما يناسبه، ويَطِّرِح ما يخالف هواه، بل لابد من تنْزيل كل نص من نصوصها منْزله، وحمله على ما وُضِعَ له.   1 انظر: الصواعق المرسلة: (1/228 - 229) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 يقول ابن القَيِّم - رحمه الله - في معرض ذمِّه لأولئك الذين يأخذون أحاديث التخفيف في الصلاة، وَيَدَعُون الأخرى التي جاءت بتطويله صلى الله عليه وسلم الصلاة -: "فهو يميل من السنة إلى ما يناسبه، ويأخذ منها ما يوافقه، ويَتَلَطَّف لمن خشن في تأويل ما يخالفه، ودفعه بالتي هي أحسن، ونحن نبرأ إلى الله من سلوك هذه الطريقة، ونسأله أن يُعَافِيَنَا مما ابتلى به أربابها ... فليس الشأن في الأخذ ببعض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بعضها، بل الشأن في الأخذ بجملتها، وتنزيل كل شيء منها منزلته، ووضْعِهِ بموضعه"1. وهذا منه - رحمه الله - تشخيص دقيق لداءٍ عضال، قد أصيب به كثير من الناس، يتلمسون من نصوص السنة ما يناسب أهواءهم، فيحملونها على غير مَحَامِلها لِتُنَاسب مقصودهم، ويَطِّرحُون - في الوقت نفسه - من النصوص النبوية ما يشق على نفوسهم اتباعه، وما لا توافقهم أهواؤهم على امتثاله. تلك هي الطائفة التي تقول - كما يصورها ابن القَيِّم -: "حق الله مبني على المسامحة والمساهلة والعفو، وحق العباد مبني على الشح والضيق والاستقصاء، فقامت في خدمة المخلوقين كأنها على الفرش الوثيرة ... وقامت في خدمة ربها وفاطرها كأنها على الجمر المحرق، تعطيه الفضلة ... وتستوفي لأنفسها كمال الحظ"2. فلله درُّ ابن القَيِّم؛ لقد وَضع يده على كثير من أمراض القلوب وأدوائها، فهبَّ يصف الدواء الناجع الذي فيه الشفاء لها.   1 الصلاة: (ص166) . 2 الصلاة: (ص165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 سابعاً: الحرص على توجيه العلماء والمفتين والمبلغين عن رب العالمين، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكونوا صادقين مخلصين، عالمين عاملين، صادعين بالحق لا يخافون. وما ذلك إلا لعظمِ مكانةِ العلماء وخطورة شأنهم؛ فإنه لَمَّا كان قيام الإسلام إنما هو بطائفتي: العلماء والأمراء، كان صلاح الدنيا كلها بصلاحهما، وفسادها بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: وهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلا الْمُلُوُكُ ... وأحبارُ سُوءٍ وَرَهْبَانُهَا ولاشكَّ أن خطر العلماء أشد، ومسؤوليتهم أعظم، فإنهم إن كانوا قائمين بالحق، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، لا يخافون في الله لومة لائم، فإن الملوك سيهابونهم، ويعرفون لهم قدرهم. وأما إن كانوا - والعياذ بالله - علماء سوء، يعينون الحكام على ظلمهم، ويزيِّنون لهم باطلَهم، ولا يُخَوِّفُونهم الله في الناس، فإنهم يكونون شرّاً على الدين والدنيا معاً. ولما أدرك ابن القَيِّم - رحمه الله - خطورة هذا لأمر، وقدره حق قدره، كان حريصاً على التنبيه عليه، والتحذير من التهاون فيه. من شروط العلماء والمفتين: قال رحمه الله: "ولما كان التبليغ عن الله - سبحانه - يعتمد: العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيه، ويكون مع ذلك: حسن الطريقة، مَرْضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله ... ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه"1. ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - كعادته - ممتثلاً ذلك في نفسه أولاً، فكان خير مثل للعلماء العالمين العاملين، الصادقين المخلصين، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر بلسانه ويده، قائماً لله بحقه، فبارك الله له في دعوته، وألقى في القلوب مَحَبَّتِهُ. ثامناً: محاربة الفساد والأوضاع الخاطئة في مجتمعه، وإنكار المنكرات السائدة فيه، والتحذير منها. وقد سبقت الإشارة إلى شيء من مواقفه في ذلك، كموقفه من عادة التحليل، والغناء والسماع الذي عمَّت به البلوى في وقته، وغير ذلك من المنكرات التي انتشرت آنذاك، فوقف لها بالمرصاد: يفضح أمرها، ويبين خطرها وسوءَ عَاقِبَتِهَا. فكان - رحمه الله - يُعدُّ بحق مُصلحاً اجتماعياً ناجحاً. تلك هي أبرز الأهداف النبيلة التي كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يسعى لتحقيقها، والمبادئ التي كان ينادي بالتزامها والتحلِّي بها، والآراء السديدة التي كانت له، فجزاه الله خير الجزاء من عَالِمٍ صادق، وداعية مصلح، وإمامٍ ربانيِّ.   1 إعلام الموقعين: (1/10-11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 المبحث السادس: مِحَنُه وَوَفَاتُه 1- مِحَنُهُ: لقد عشنا مع ابن القَيِّم - رحمه الله - في بيئته التي نشأ وترعرع فيها، وعرفنا أحوال عصره ومجتمعه وما كان يسوده من سلبيات ومفاسد دينية أخلاقية، ورأينا كيف كان ابن القَيِّم- في ظل هذه الأوضاع السيئة- صاحب رسالة سامية، وأهداف نبيلة، ومبادئ إصلاحية يهدف من ورائها: إلى الرجوع بالناس إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة من التمسك بالكتاب والسنة ونبذ البدع والخرافات والتقليد والتعصب. لكن طريقه هذا الذي سار فيه لم يكن سهلاً ميسوراً، بل كان محفوفاً بالمشاقِّ، فنزلت به بسبب ذلك محن عديدة، وتعرَّض لإيذاء واضطهاد وفتن أثناء جهاده لنشر دعوته، وسعيه لإصلاح حال مجتمعه. فلم يكن من السهل على هذا المجتمع الذي سيطرت عليه الأفكار الدخيلة، وسادته البدع المتوارثة، أن يستجيب لهذا المصلح المجاهد الذي بزغ نوره في هذا الظلام الحالك، وكيف يتم له ذلك ولهذه البدع حُرَّاسٌ وحماةٌ من أمراء البلاد وحُكَّامها، بل ومن بعض الْمُنْتَسِبين إلى العلم أنفسهم؟! فقد كان الأمر صعباً إذاً، والمواجهة إلى أشدِّها، وظهر في الساحة أعداء لابن القَيِّم، يتربصون به الدوائر، ويحيكون ضده الدسائس والمؤامرات، كما فعلوا من قبل مع شيخه وأستاذه ابن تَيْمِيَّة رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 إنكاره شَدُّ الرَّحْلِ إلى قبر الخليل، ومحنته بسبب ذلك: من البدع التي سادت المجتمع وقتئذ، وتقرب الناس بها إلى الله: بدعة شَدِّ الرَّحْلِ إلى قبر الخليل إبراهيم عليه السلام. فقام ابن القَيِّم - رحمه الله - في وجه هذه البدعة منكراً لها، ومبيناً مخالفتها لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَدْيِه، فما كان من أعدائِه وشانئيه إلا أن قاموا ضِدَّه، وآذوه، ثم حُبِس بسبب ذلك. قال الحافظ الذهبي: "وقد حبس مدة وأوذي لإنكاره شدَّ الرحل إلى قبر الخليل"1. والظاهر أن هذه هي المرة التي حبس فيها مع شيخه ابن تَيْمِيَّة رحمه الله؛ ذلك أنه في السادس عشر من شعبان سنة 726هـ اعْتُقِل الشيخ ابن تَيْمِيَّة في قلعة دمشق، وذلك بسبب ما أفتى به من المنع من شد الرحل إلى قبور الأنبياء، وبعد ذلك بأيام "أمر قاضي القضاة الشافعي في حبس جماعة من أصحاب الشيخ تقي الدين في سجن الحكم ... وعزَّرَ جماعة منهم على دواب ونودي عليهم، ثمَّ أطلقوا، سوى شمس الدين محمد بن قيم الجوزية؛ فإنه حُبِس بالقلعة، وسكتت القضية"2. ولعل في إطلاقهم كل رفاقه وإبقائه وحده في الحبس، ما يُبَيِّنُ لنا مدى الحِنْق الذي كان في نفوس أعدائه - من أهل البدع - ضده، ويبين لنا في الوقت نفسه، ما كان لابن القَيِّم من دور بارز، وتأثير بالغ في الناس آنذاك، مما جعل هؤلاء يخشونه على بدعهم، فرأوا أن يحجبوه في السجن.   1 المعجم المختص: (ص296) . 2 البداية والنهاية: (14/128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ولكن شاء الله سبحانه أن يشاطر ابن القَيِّم شيخه محنته هذه، فَسُجن معه في القلعة، ولأجل التهمة نفسها، ولكنه كان (منفرداً عنه) 1. ولقد كان للحاقدين على شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة وتلميذه ابن القَيِّم دورٌ قبيح في حبسهما، وتدبير الشر ضدهما، ذلك أنهم حرَّفوا فتوى ابن تَيْمِيَّة: بأنه يُحَرِّمُ زيارة قبور الأنبياء مطلقاً، ويعتبر ذلك معصية، مع أن الشيخ - وكذا تلميذه - " لم يمنع الزيارة الخالية عن شد الرحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك ... ولا قال إنها معصية ... ولا هو جاهل قول الرسول صلى الله عليه وسلم:» زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة «. والله سبحانه لا يخفى عليه شيء ولا تخفى عليه خافية"2. ويَحكي المقريزي - رحمه الله - هذه الواقعة - مبيناً ملابساتها وظروفها - بأوسع من هذا، وأن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد ضُرب في هذه المرة قبل أن يُحبس، فيقول: (وفي يوم الاثنين سادس شعبان - يعني سنة 726هـ - حُبِس تقي الدين أحمد بن تيمية، ومعه أخوه زين الدين عبد الرحمن بقلعة دمشق. وضُرِب شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قَيِّم الجوزية، وشُهِّرَ به على حمار بدمشق. وسبب ذلك: أن ابن قَيِّم الجوزية تكلم بالقدس في مسألة الشفاعة والتوسل بالأنبياء، وأنكر مجرد القصد للقبر الشريف دون قصد المسجد النبوي، فأنكر المقادسة عليه مسألة الزيارة، وكتبوا فيه إلى قاضي القضاة جلال الدين القزويني وغيره من قضاة دمشق.   1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) . 2 البداية والنهاية: (14/129) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وكان قد وقع من ابن تَيْمِيَّة كلام في مسألة الطلاق بالثلاث: (أنه لا يقع بلفظ واحد، فقام عليه فقهاء دمشق، فلما وصلت كتب الْمَقَادِسَة في ابن القَيِّم، كتبوا في ابن تَيْمِيَّة وصاحبه ابن القَيِّم إلى السلطان، فعرف شمس الدين الحريري - قاضي القضاة الحنفية بديار مصر- بذلك، فشَنَّع على ابن تَيْمِيَّة تشنيعاً فاحشاً، حتى كتب بحبسه، وضُرِبَ ابن القَيِّم) 1. وقد ظل ابن القَيِّم محبوساً مدة، ولم يُفْرَج عنه إلا بعد وفاة شيخه بشهر؛ ذلك أن ابن تَيْمِيَّة قد توفي في محبسه بالقلعة في العشرين من ذي القعدة سنة (728هـ) ، (وفي يوم الثلاثاء عشرين ذي الحجة أُفرج عن الشيخ الإمام العالم العلامة أبي عبد الله شمس الدين بن قَيِّم الجوزية) 2. وقد امتحن ابن القَيِّم - رحمه الله - غير هذه المرة أيضاً: فتواه بجواز السباق بغير مُحَلِّل ومحنته بسبب ذلك: كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يُفتي بجواز إجراء السباق بين الخيل بغير مُحَلِّل، وَصَّنف في ذلك كتابه: (بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال) أو: (بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل) 3. كما أنه تناول هذا الموضوع في بحث طويل مفيد ضمن كتابه (الفروسية) 4.   1 السلوك: (2/1/273) . 2 البداية والنهاية: (14/145) . 3 تنظر مؤلفات ابن القَيِّم: ص (233) . (ص 20 - 61) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقد أشار ابن حجر - رحمه الله - إلى محنته هذه، فقال: "وجرت له محن مع القضاة، منها: في ربيع الأول - يعني سنة 746هـ - طلبه السبكي بسبب فتواه بجواز المسابقة بغير مُحَلِّل، فأنكر عليه وآل الأمر إلى أنه رجع عما كان يُفتي به من ذلك"1. وحكى ابن كثير هذه الحادثة، ولكنه ذكر ما يفيد أن ابن القَيِّم كان يفتي في ذلك برأي شيخه، وصَنَّف هذا المصنف لنصرة رأي الشيخ، ثم صار يفتي به دون نسبته إلى شيخه، فظنوه قوله، فحصل له ما حصل، ثم (انفصل الحالُ على أن أظهر الشيخ شمس الدين ... الموافقة للجمهور) 2. قال الشيخ بكر أبو زيد: "وقضية الرجوع محل نظر، فلابد من تثبيت ذلك، وأرجو من الله تعالى أن يمنَّ عليَّ بما يدل على ذلك، نفياً أو إثباتاً"3. قلت: أما كتبه التي بين أيدينا، فليس فيها ما يدل على رجوعه، وبخاصة كتاب (الفروسية) ، ولكن ابن كثير - رحمه الله - يحكي ما شاهده بنفسه من إظهاره الموافقة للجمهور، فهل أظهر ابن القَيِّم ذلك دفعاً للشر عن نفسه دون أن يرجع حقيقة عن رأيه؟ الله أعلم. والذي يهمنا في هذه القضية: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد امتحن من القضاة بسببها، وأوذي في سبيل ذلك.   1 الدرر الكامنة: (4/23) . 2 البداية والنهاية: (14/227) . 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 فتواه في مسألة الطلاق الثلاث ومحنته بسبب ذلك: وقد امتحن ابن القَيِّم مرة أخرى بسبب فتواه بأن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة يقع طلقة واحدة، وهو اختيار شيخه ابن تَيْمِيَّة أيضاً. ويشير ابن كثير - رحمه الله - إلى ما وقع له بسبب ذلك، فيقول: "وقد كان متصدياً للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وجرت بسببها فُصُولٌ يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره"1. ولم يبين لنا ابن كثير ما وقع له بسب ذلك، لكن الظاهر أنه لم يُحْبَس إلا في المرة التي كان فيها مع شيخه ابن تَيْمِيَّة، وذلك بسبب فتوى شد الرحل، وأما مسألة الطلاق، وكذا مسألة المحلل في السباق، فيظهر أنه جرت له بسببهما فتن ومحن مع القضاة فحسب، وأنه لم يُسجن بسبب ذلك، وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد أنه سُجن بسبب هذه الفتاوى كلها2. ولم أر ما يدل على ذلك، ولعل كلام ابن رجب صريح في أنه لم يُحبس إلا في تلك المرة مع الشيخ، فقد قال: "وقد امتُحن وأُوذي مرات، وحُبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة في القلعة ... "3. ومما يؤكد - أيضاً - أن فتواه في مسألة الطلاق قد سببت له   1 البداية والنهاية: (14/246 - 247) . 2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص42) . 3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 مشكلات مع القضاة، ما حكاه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - من الصلح الذي تم بين السبكي وابن القَيِّم، فقد ذكر في أحداث سنة 750هـ - قبل موت ابن القَيِّم بعام واحد - في السادس عشر من شهر جمادى الآخرة منها، أنه (حصل الصلح بين قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وبين الشيخ شمس الدين بن قَيِّم الجوزية، على يدي الأمير سيف الدين بن فضل ملك العرب، في بستان قاضي القضاة، وكان قد نقم عليه إكثاره من الفتيا بمسألة الطلاق) 1. فالمقصود أنه - رحمه الله - ابتلي وأوذي وامتحن بسبب صدعه بالحق، وإعلانه رأيه وما يعتقده دون مجاملة أو خوف من أحد، فرحم الله ابن القَيِّم رحمة واسعة، وجزاه عما قَدَّم خير الجزاء. 2- وفاتُه: وبعد هذه الحياة الحافلة بالجهاد المتصل لنشر منهج السلف، ومحاربة كثير من الانحرافات التي ابتدعها الخلف، وما لقيه من محن في سبيل ذلك، وبعد أن كَمُلَ له من العمر ستون سنة، توفي هذا الإمام العالم العلامة، وذلك في ليلة الخميس، ثالث عشر من شهر رجب، من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة (751هـ) وقت أذان العشاء2. ووقع عند ابن رجب: (ثالث عشرين رجب) 3. ولعله تصحيف   1 البداية والنهاية: (14/244) . 2 الوافي بالوفيات: (2/272) ، البداية والنهاية: (14/246) ، والدرر الكامنة: (4/23) . 3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 طباعي، فتكون كلمة (من) تصحفت إلى (ين) ؟ وذلك لاتفاق المصادر على ما قدمناه من أنه كان في ثالث عشر؛ ولأن ابن رجب من تلاميذ ابن القَيِّم المقَرَّبين، فيبعد أن يخفى عليه يوم وفاته. ووقع في (البدر الطالع) 1 أنه كان في (ثالث شهر رجب) ، وهذا خطأ أيضاً. وقد صُلِّيَ عليه - رحمه الله - من الغد عقب صلاة الظهر بالجامع الأموي2، ثم بجامع جَرَّاح3. ولأن ابن القَيِّم - رحمه الله - كان قائماً لله بالحق، صادقاً في النصح للخلق فقد "كانت جنازته حافلة رحمه الله، شهدها القضاة والأعيان والصالحون، من الخاصة والعامة، وتزاحم الناس على حمل نعشه"4. فقد "شَيَّعَه - رحمه الله - خلق كثير"5، "وكانت جنازته مشهودة"6،"وحافلة جداً"7. نعم لقد كانت جنازته حافلة عامرة، شهدها كثير من الخلق، كما   (2/145) . 2 البداية والنهاية: (14/246) . 3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . 4 البداية والنهاية: (14/247) . 5 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . 6 الرد الوافر: (ص68) . 7 الدرر الكامنة: (4/23) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 كانت جنازة شيخه رحمه الله، التي لم يتخلف عنها من أهل دمشق سوى ثلاثة نفر، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز"1. كانت هذه جنازته - رحمه الله - مع ما كان له في قلوب الكثيرين من العداوات، ومع ما حِيَكَ ضده من المؤامرات. وَدُفِنَ - رحمه الله - عند والدته بمقابر الباب الصغير2. وقد رُؤِيَتْ له بعد موته "منامات كثيرة حسنة"3. وكان هو - رحمه الله - "قد رأى قبل موته بمدة الشيخ تقي الدين - رحمه الله - في النوم، وسأله عن منزلته؟ فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر، ثم قال له: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة رحمه الله"4. فَرَحِم الله ابن القَيِّم رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام وأهله خيراً، وأسكنه فسيح جناته، آمين.   1 البداية والنهاية: (14/143) . 2 البداية والنهاية: (14/246) ، ذيل الطبقات: (2/450) . وأفاد محقق (زاد المعاد) في المقدمة: (1/24) : أن قبره معروف إلى الآن، على يسار الداخل إلى المقبرة من الباب الجديد الذي وسع منذ أكثر من عشرين سنة، وقد أزيل القبر عن موضعه، وأبعد أكثر من مترين إلى الشرق. 3 ذيل الطبقات: (2/450) ، وانظر: الدرر الكامنة: (4/23) . 4 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450 - 451) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الفصل الثالث: سيرته العلمية المبحث الأول: نبوغه وتقدمه في العلم، وشهادة الأئمة له، وثناؤهم عليه. ... المبحث الأول: نبوغه وتقدمه في العلم، وشهادة الأئمة له وثناؤهم عليه. تَقَدَّمَ - عند الكلام على أخلاقه وصفاته - ذكرُ طَرَفٍ من حاله في طلبه للعمل، وشدة محبته له، وجِدِّهِ واجتهاده في تحصيله ليلاً ونهاراً. ولقد أثمر هذا الجهد المتواصل، وتلك المحبة الصادقة للعلم ودرسه، أطيب الثمار، فَنَبَغَ ابنُ القَيِّم - رحمه الله - في علوم عديدة، حَتَّى ذَاعَ صِيتُهُ، وفاق في ذلك أَقْرانَهُ وأهلَ عصره، ولم يُر في وَقْتِهِ مِثْلُهُ. ولقد شهد له تلاميذه ومعاصروه - بل وبعض شيوخه - بطول الباع، وعلو الشأن، وبلوغ الغاية في شتى العلوم وسائر الفنون، فلنذكر طرفاً من شهادات هؤلاء الأئمة وثنائهم عليه، ليعرف بذلك قدره، ومدى تقدمه وعلو شأنه، فمن ذلك: 1- قال القاضي برهان الدين الزُّرَعي1: "ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه"2. 2- وقال شيخه المزي: "هو في هذا الزمان كابن خزيمة في زمانه"3.   1 هو: إبراهيم بن أحمد بن هلال بن بدر، الحنبلي، ولد سنة 688هـ، واشتغل على ابن تَيْمِيَّة وابن الزملكاني، ومهر وتقدم في الفتيا، ودرَّس في المدرسة الحنبلية عوضاً عن ابن تَيْمِيَّة لَمَّا سُجِن، توفي سنة (741هـ) . (الدرر الكامنة: 1/16) . 2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . 3 الرد الوافر: (ص68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وهذا القول من المزي - على جلالته - يطابق بشارة شيخه ابن تَيْمِيَّة له - لَمَّا رآه في المنام - بأنه في طبقة ابن خزيمة، وقد تقدم ذكر ذلك1. 3- وقال الحافظ الذهبي: "الفقيه، الإمام، المفتي، المتفنن، النحوي"2. وقال أيضاً: "عُني بالحديث متونه ورجاله، وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره، وفي النحو وَيَدْرِيه، وفي الأصلين"3. 4- وقال الصَّلاح الصَّفَدِي: "الإمام العلامة"4. وقال أيضاً: "اشتغل كثيراً وناظر، واجتهد، وأكبَّ على الطلب، وصَنَّف، وصار من الأئمة الكبار في: علم التفسير، والحديث، والأصول: فقهاً وكلاماً، والفروع، والعربية، ولم يخلف الشيخ العلامة تقي الدين ابن تَيْمِيَّة مثله"5. 5- وقال أبو المحاسن الحسيني الدمشقي: "الشيخ، الإمام، العلامة، ذو الفنون ... أفتى، ودرَّس، وناظر، وصنف، وأفاد"6. 6- وقال الحافظ ابن كثير: "الإمام العلامة ... سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، لاسيما: علم التفسير، والحديث، والأصلين. ولَمَّا عاد الشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة من الديار المصرية في سنة   1 انظر: ص (133) . 2 المعجم المختص: (ص269) . 3 المصدر السابق. 4 الوافي بالوفيات: (2/270) . 5 الوافي بالوفيات: (2/271) . 6 ذيل العبر: (ص155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 (712هـ) ، لازَمَه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علماً جمَّاً، مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريداً في بابه في فنون كثيرة … وبالجملة: كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله"1. 7- وقال ابن رجب: "الفقيه، الأصولي، المفسر، النحوي، العارف ... تفقه في المذهب، وبرع وأفتى ... وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير لا يُجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيهما المنتهى. والحديث ومعانيه، وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك. وبالفقه وأصوله، وبالعربية، وله فيها اليد الطولى، وبعلم الكلام، والنحو وغير ذلك، وكان عالماً بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، له في كل فنٍّ من هذه الفنون اليد الطولى"2. وقال أيضاً: " ... ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرفَ بمعاني القرآن والسنة، وحقائق الإيمان منه، وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله"3. 8- وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: "أحد المحققين، عَلَمُ المصنفين، نادرة المفسرين"4. وقال أيضاً: "كان ذا فنون من العلوم - وخاصة التفسير والأصول - من المنطوق والمفهوم"5.   1 البداية والنهاية: (14/246) . 2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/447 - 448) . 3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) . 4 الرد الوافر: (ص68) 5 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 9- وقال تقي الدين المقريزي: "برع في عدة علوم، ما بين: تفسير، وفقه، وعربية، وغير ذلك، ولزم شيخ الإسلام، وأخذ عنه علماً جَمًّا، فصار أحد أفراد الدنيا"1. 10- وقال الحافظ ابن حجر: "كان جرئ الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف"2. وقال أيضاً - في تقريظه لكتاب (الرد الوافر) -: "ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير: الشيخ شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية، صاحب التصانيف النافعة السائرة، التي انتفع بها الموافق والمخالف، لكان غاية في الدلالة على عظم مَنْزلته"3. 11- وقال ابن تَغْرِي بَرْدِي: "كان بارعاً في عدة علوم، ما بين: تفسير، وفقه، وعربية، ونحو، وحديث، وأصول، وفروع، ولزم الشيخ تقي الدين بن تيمية ... وأخذ عنه علماً كثيراً، حتى صار أحد أفراد زمانه"4. 12- وقال السخاوي: "العلامة، الحجة، المتقدم في: سعة العلم، ومعرفة الخلاف، وقوة الجنان ... "5.   1 السلوك: (2/3/834) . 2 الدرر الكامنة: (4/21) . 3 الرد الوافر: (ص146) . 4 النجوم الزاهرة: (10/249) . 5 التاج المكلل: (ص419) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 13- وقال السيوطي: "صنَّف، وناظر، واجتهد، وصار من الأئمة الكبار في التفسير، والحديث، والفروع، والأصلين، والعربية"1. 14- وقال ابن العماد: "الفقيه الحنبلي- بل المجتهد المطلق - المفسر، النحو، الأصولي، المتكلم"2. 15- وقال الشوكاني: "العلامة الكبير، المجتهد المطلق، المصنف المشهور ... برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتَبَحَّر في معرفة مذاهب السلف"3. 16- وقال الشَطِّيُّ4: "الفقيه، الأصولي، المفسر، المحدث ... ذو اليد الطولى، الآخذ من كل علم بالنصيب الأوفى ... تَفَنَّن في علوم الإسلام، فكان إليه المنتهى في: التفسير، وأصول الدين، وكان في الحديث والاستنباط منه لا يُجَارى، وله اليد العليا في الفقه وأصوله، والعربية، وغير ذلك"5. تلك هي أقوال هؤلاء الجهابذة، أئمة المسلمين، وأعلام الدين في الشهادة لابن القَيِّم، والثناء عليه، وبيان منزلته ودرجته في العلم، وتأكيد تقدمه وإمامته في سائر العلوم، وشتى الفنون.   1 بغية الوعاة: (1/63) . 2 شذرات الذهب: (6/168) . 3 البدر الطالع: (2/143) . 4 هو: محمد بن جميل بن عمر بن محمد الشطي، فقيه، فرضي، مؤرخ، ناثر، ناظم، توفي سنة 1379هـ. (معجم المؤلفين: 9/161) . 5 مختصر طبقات الحنابلة: (ص61) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وكثير من هؤلاء الأئمة قد عايشه وعرفه عن قرب، ومنهم من تتلمذ عليه وأخذ عنه، ولذلك فإن هذه الشهادات لها قيمة خاصة. فإذا أضيف إلى ذلك: عِظَم مكانة هؤلاء الأئمة، وعلوِّ شأنهم، وذيوع صيتهم- كالذهبي، وابن كثير، وابن رجب، وابن حجر، والسيوطي، والشوكاني، وغيرهم - علمنا القيمة الحقيقية لهذه الأقوال، وتلك الشهادات، وأنها تُعَبِّر تعبيراً صادقاً عن المكانة الحقيقية التي تبوَّأها ابن القَيِّم - رحمه الله - بين أهل العلم وأئمته. على أنه لو لم تكن أمامنا هذه الشهادت، وتلك الأقوال، فإننا - ومعنا كل منصف، متجرد من هوى التعصب على أئمة الهدى وبقية السلف - نستطيع أن نجزم بأن مكانة ابن القَيِّم - رحمه الله - هي هذه التي وضعوه فيها وأعلى؛ وذلك عند النظر في آثاره، والاغتراف من غزير فوائده، والعيش بصدق مع علومه النافعة، وتوجيهاته المخلصة في كل مبحث من مباحثه. وعند التأمل في أقوال هؤلاء الأئمة نلاحظ: أنه يصعب على الباحث أن يجزم بتفوق ابن القَيِّم -رحمه الله- في فن على حساب الفنون الأخرى، فقد اتفقت كلمتهم - أو كادت - على تفوقه في فنون كثيرة، وجمعه بين علوم عديدة، مع التقدم والمهارة وعلو الشأن في ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فلقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله -: مُحَدِّثاً، فقيهاً، أصولياً، مفسراً، نحوياً، لغوياً، أديباً ... له في كل فن من هذه الفنون: القدح الْمُعلَّى، والرتبة الأعلى. وإن كان ابن كثير - رحمه الله - يقدم من علومه: "التفسير، والحديث، والأصلين". ويوافقه ابن ناصر على "التفسير، والأصول". قال الشيخ بكر أبو زيد: "وأما علومه التي تلقاها وبرع فيها: فهي تكاد تعم علوم الشريعة وعلوم الآلة، فقد دَرَسَ التوحيد، وعلم الكلام، والتفسير، والحديث، والفقه وأصوله، والفرائض، واللغة، والنحو، وغيرها ... وبرع هو فيها وعلا كعبه وفاق الأقران، ويكفي في الدلالة على علو منزلته: أن يكون هو وشيخه - شيخ الإسلام - كفرسَي رِهَان. وهذه الجامعية المدهشة في البراعة والطلب نجدها محل اتفاق مسجل لدى تلاميذه الكبار، ومن بعدهم من ثقات النقلة الأبرار"1. وبعد، فهذه هي علوم ابن القَيِّم رحمه الله، وتلك هي فنونه، مع التقدم والتفوق وعلو الشأن في ذلك كله. ولم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - لينال هذه الدرجة الرفيعة إلا بعون الله تعالى، ثم بِهِمَّة عالية، وجهد متواصل، وصبر وجلد، مع ما آتاه الله - عزوجل - من: فهم، وذكاء، وقوة حفظ، فأتاح له كل ذلك - بعد توفيق الله - الوصول إلى تلك الدرجة، واحتلال هذه الرتبة، فرحمه الله ونفع بعلومه، آمين.   1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وابنُ القَيِّم وإن كان بَارِعاً في هذه العلوم كُلِّها، مَتَقَدِّماً في هذه الفنون بأسرها، إلا أن الذي يعنينا من ذلك: هو نُبُوغُهُ في الحديثِ وعلومِهِ على وجه الخصوص، وهو ما عقدنا أبوابَ هذه الرسالة وفصولَها لأجله، وسيرى النَّاظرُ في هذا الكتاب ما يؤكد له هذه الإمامة، وذلك التقدم والنبوغ في الحديث وعلومه إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 المبحث الثاني: شيوخه إن من أهم العوامل التي تسهم بشكل كبير في التكوين العلمي للشخص: شيوخه الذين تلقى عنهم، واستفاد علومه منهم. وقد يكون بعضهم أشدَّ تأثيراً في الطالب من البعض الأخر، وذلك بحسب نوع العلاقة القائمة بين الطالب وشيخه، ومدى ارتباطه به، وصحبته له، وغير ذلك من العوامل التي تميز شخصية الشيخ، وتؤثر بالتالي في الطالب الْمُتَلَقِّي. وقد اعتنى أكثر الذين ترجموا لابن القَيِّم بسرد شيوخه على تفاوت بينهم في ذلك، فبينما حاول بعضهم استيعاب ذلك: كالصَّفَدِي مثلاً، نجد آخرين لم يذكروا له سوى شيخ واحد فقط، كابن كثير، واقتصر البعض على ذكر بعضهم. وفي هذا المبحث أذكر شيوخ ابن القَيِّم الذين أخذ عنهم علومه وثقافته، مع إبراز دور كل واحد من هؤلاء الشيوخ في التكوين العلمي لابن القَيِّم، وذلك بمعرفة الفنِّ الذي أخذه عنه، أو الكتب التي قرأها عليه، مع التعريف بأولئك الذين كان ارتباط ابن القَيِّم بهم أكثر، وأثرهم فيه أكبر. وأسوق هؤلاء الشيوخ على حسب الفنون التي تلقَّاها ابن القَيِّم - رحمه الله - عنهم، فأذكر شيوخ كُلِّ فَنٍّ على حدة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أولاً: شيوخه في الحديث: 1- الشِّهاب العابر: أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة، المقدسي، الحنبلي، شهاب الدين، أبو العباس، عابر الرؤيا. مولده: سنة (628هـ) . سمع الكثير، وروى الحديث، وتَفَقَّه وحَصَّل المذهب، ثم أقبل على علم الرؤيا فبرع فيه، وكان له في اليد الطولى، بحيث فاق في ذلك أهل زمانه، وله فيه تصنيف1. توفي بدمشق في ذي القعدة، سنة: (697هـ) 2. وقد ذكرت أكثر مصادر ترجمة ابن القَيِّم سماعه منه3. وهو من أوائل الشيوخ الذين سمع منهم ابن القَيِّم، وقد "حَدَّث عن شيخه: التعبير وغيره"4. وقد حَدَّثَ ابن القَيِّم - رحمه لله - عنه بتفسير بعض الرؤى في كتابه (زاد المعاد) 5، حيث قال - عند الكلام على تأويل لباس الحلي   1 جاء في حاشية (زاد المعاد) : (3/614) تسميته بـ (البدر المنير) . 2 له ترجمة في: معجم الشيوخ - الذهبي: (1/60) ، والبداية والنهاية: (13/374) ، والشذرات: (5/437) . 3 انظر من ذلك: المعجم المختص: (ص269) ، والوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) ، وطبقات المفسرين - للداودي (2/91) . 4 ذيل العبر - للحسيني: (ص155) . (3/614 - 615) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 للرجل، وأنه يدل على نكد وألمٍ يلحقه - قال: "وأنبأني أبو العباس، أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة بن سرور المقدسي، المعروف بالشهاب العابر، قال: قال لي رجل: رأيت في رِجلي خَلْخَالاً، فقلتُ له: تتخلخل رجلك بألم. وكان كذلك". ثم ساق عنه جملة في هذا الباب، ثم قال: "وهذه كانت حال شيخنا هذا، ورسوخه في علم التعبير، وسمعت عليه عدة أجزاء، ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه، لصغر السن، واخترام الْمَنَيَّة له"1. ويُؤخذ من هذا النص: ابتداء ابن القَيِّم - رحمه الله - بالسماع والطلب في سنٍّ مبكرة؛ إذ إنه عند وفات هذا الشيخ كان قد تجاوز السادسة من عمره بأشهر قليلة. وفي ذلك دلالة ظاهرة على ذكاء ابن القَيِّم الخارق، وإدراكه الْمُبَكِّر، واستعداده العلمي منذ الطفولة، بحيث كان ضابطاً لمسموعه في هذا السن، حتى أَدَّاه من حفظه بعد سنين عديدة. كما أن في كلام ابن القَيِّم في مدح شيخه تأكيداً لما اتفقت عليه كلمة الأئمة: من براعة الشهاب وتمكنه في هذا العلم، فتضاف هذه الشهادة من ابن القَيِّم إلى شهادات أولئك الأئمة. بقي التنبيه على ما وقع من وهمٍ للأستاذ حسن الحَجَّاجِي في دراسته لابن القَيِّم2، حيث ترجم الشهاب العابر بأنه: أيوب بن نعمة بن   1 زاد المعاد: (3/615-616) . 2 الفكر التربوي عند ابن القَيِّم: (ص66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 محمد ... الكحال (ت730هـ) ! والصحيح ما تقدم في اسمه، وهو الذي ترجمه به تلميذه ابن القَيِّم نفسه، وأما الكحال: فشيخ آخر لابن القَيِّم سيأتي ذكره. 2- ابن مكتوم: إسماعيل بن يوسف بن مكتوم بن أحمد بن سليم، صدر الدين، أبو الفداء، السويدي، ثم الدمشقي، الشافعي، المقرئ، الْمُسْنِد، المعمر. مولده: سنة (623هـ) . وكان له سماع في الحديث، وتفرد بسماع (الموطأ) من مكرم بن أبي الصقر بدمشق، وروى الكثير، وتفرد بأشياء. وتلا القرآن على السخاوي: لأبي عمرو، وعاصم، وابن كثير. فكان خاتمة أصحابه. وكان حسن الخلق، وحج في آخر عمره سنة (711هـ) فَحَدَّثَ بالحرم. وكان له أملاك كثيرة وثروة. توفي - رحمه الله - سنة (716هـ) 1. وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي2، وابن حجر3. 3- أيوب بن نعمة بن محمد، زين الدين أبو العلاء، المقدسي، ثم الدمشقي، الكَحَّال. مولده: سنة (640هـ) .   1 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص44) ، ومعجم الشيوخ له: (1/181) ، والدرر الكامنة: (1/410) ، والدليل الشافي: (1/130) . 2 الوافي بالوفيات: (2/271) . 3 الدرر الكامنة: (4/21) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 حَدَّث عن: الرشد العراقي وغيره، وحَدَّث بالكثير، وتفرد في زمانه، وكان حَدَّث بمصر مدة، ثم تحول إلى دمشق بعد سنة 720هـ. وأخذ صنعة الكُحْلِ عن طاهر الكحال، وبرع فيها، وتكسب بها سبعين سنة. توفي - رحمه الله - في ذي الحجة سنة (730هـ) 1. وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي2. 4- ابن عبد الدائم: أبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم بن نعمة، المقدسي، المُعَمِّر، مُسْنِدِ الشام في وقته كأبيه. مولده: سنة (625 أو 626هـ) . سمع من: الناصح ابن الحنبلي، والحافظ الضياء المقدسي، وجماعة. وحَدَّث في حدود سنة 660هـ. وكان مليح الإصغاء، صحيح الفهم، انقطع بموته جملة من المرويات. وكان - رحمه الله - ذا هِمَّة وجلادة، وذِكْر وعبادة، وسَعْي في طلب الرزق. وقد ذهب بصره، وثقل سمعه في الآخر، فَضَعُفَ. توفي - رحمه الله - في رمضان سنة (718هـ) وعاش مثل أبيه: ثلاثاً وتسعين سنة3.   1 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص89) ، ومعجم الشيوخ له: (1/186) ، والدرر الكامنة: (1/464) ، والشذرات: (6/93) . 2 الوافي بالوفيات: (2/271) . 3 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص50) ، ومعجم الشيوخ له: (2/402) ، والدليل الشافي: (2/813) ، والشذرات: (6/48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه جماعة من مترجميه1. 5- الحاكم: سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن أبي عمر، تقي الدين، أبو الفضل وأبو الربيع، المقدسي، الحنبلي، القاضي بدمشق. مولده: في رجب سنة (628هـ) . سَمِعَ الحديث الكثير، وقرأ بنفسه، وحضر جميع (البخاري) على ابن الزبيدي، ورواه عنه. وروى عن الحافظ الضياء نحواً من خمسمائة جزء أو أكثر، وكان محباً للرواية واسِعَهَا، وكان بصيراً خبيراً بالمذهب وشرحه، تَخَرَّجَ به الفقهاء. وكان - رحمه الله - مُهَذَّب الأخلاق، كَيِّساً، متواضعاً، ذكي النفس، خيِّراً، متعبداً، متهجداً، عديم الشر. توفي - رحمه الله - فجأة في ذي القعدة سنة (715هـ) 2. وقد ذكر جماعة من مترجمي ابن القَيِّم سماعه منه3. 6- علاء الدين الكِنْدِي الوَدَاعي: علي بن مظفر بن إبراهيم بن عمر بن زيد بن هبة الله، أبو الحسن، الكندي، الإسكندراني، ثم   1 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) ، والدرر الكامنة: (4/21) ، وبغية الوعاة: (1/62) . 2 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص42) ، ومعجم الشيوخ له: (1/268) ، والبداية والنهاية: (14/77) ، والشذرات: (6/35-36) . 3 انظر: المعجم المختص: (ص269) ، والوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) ، والرد الوافر: (68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الدمشقي، الأديب، المحدِّث المفيد، المقري، كاتب ابن وَدَاعة، وكان يعرف بـ "الوَدَاعِي". مولده: على رأس سنة (640هـ) . وكان كثير السماع، فسمع على أكثر من مائتي شيخ، وعني بالرواية، وقرأ "صحيح البخاري" عدة مرات، وأسمع الحديث. ثم تعانى الإنشاء، وَجَوَّدَ الخط، وتقدم في النظم والنثر، فنظم الشِّعْرَ الحسن الرائق الفائق. وجمع كتاباً في نحوٍ من خمسين مجلداً، فيه علوم جمة أكثرها أدبيات، سماه: (التذكرة الكندية) ، وكانت (الحماسة) من بعض محفوظاته. مات سنة (716هـ) ، ووقع عند ابن تغري بردي وحده: (710هـ) والصواب الأول1. وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي2. 7- عيسى الْمُطَعِّم: شرف الدين، عيسى بن عبد الرحمن بن معالي ابن أحمد بن إسماعيل بن عطاف بن مبارك، المقدسي، مُسْنِدُ الوقت، المطعِّم3 في الأشجار، ثم السمسار في العقار، كما قال الذهبي. سمع الكثير من مشائخ عدة، منهم: الضياء المقدسي، وكريمة، وسمع (صحيح البخاري) بِفَوْتٍ4 من ابن الزبيدي. وقد كان أُميّاً عاميّاً، كما قال الذهبي رحمه الله.   1 له ترجمة في: معجم الشيوخ - للذهبي: (2/58) ، وذكره في آخر التذكرة ضمن شيوخه: (4/1503) ، والبداية والنهاية: (14/80) ، والدليل الشافي: (1/485) . 2 الوافي بالوفيات: (2/271) . 3 أَطْعَمَ الغُصْنَ، وطَعَّمَه، إطعاماً: إذا وَصَلَ به غصناً من غير شجره، وقد أطعمته فَطَعِمَ، أي وصلته فقبِلَ الوَصْلَ. (لسان العرب، مادة: طعم) . 4 يعني: باستثناء مواضع منه فاته سماعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 توفي في ذي الحجة سنة (719هـ) 1. وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه أكثر الذين ترجموه2. 8- البهاء بن عساكر: القاسم بن مُظَفَّر بن نجم الدين بن محمود ابن أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، بهاء الدين، أبو محمد، الدمشقي، المعبِّر، الطبيب. مولده: في صفر سنة (629هـ) . أخذ عن كثير من المشايخ سماعاً وحضوراً، وأجاز له خلق كثيرون، وروى ما لا يُوصَف كثرةً. وخرَّج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخة، وكذا غيره. وكان حَسَنَ البِشْر، حلو المحاضرة، وكان قد اشتغل بالطبِّ، وكان يعالج الناس بغير أجرة، ثم لزم بيته بعدُ لإسماعِ الحديثِ، وتفرد بأشياء كثيرة. وَوَقَفَ على المحدثين أماكن، منها داره، وَقَفَهَا دار حديث. توفي - رحمه الله - في شعبان سنة (723هـ) 3. وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي4.   1 له ترجمة في: ذيل العبر - للذهبي: (ص55) ، والبداية والنهاية: (14/98) ، والشذرات: (6/52) . 2 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) ، والرد الوافر: (ص68، والدرر الكامنة: (4/21) . 3 له ترجمة في: معجم الشيوخ - للذهبي: (2/117) ، والبداية والنهاية: (14/112) . 4 الوافي بالوفيات: (2/271) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 9- القاضي بدر الدين ابن جماعة: محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة بن حازم بن صخر بن عبد الله الكناني، الحموي الأصل، أبو عبد الله. مولده: في ربيع الآخر سنة (639هـ) بحماة. سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وحصَّل علوماً متعددة، وتَقَدَّم وساد أقرانه، وصنف التصانيف الفائقة النافعة. وقد وَلِيَ القضاء مرات في: القدس، ثم مصر، ثم دمشق - مع الديانة، والصيانة، والورع، وكف الأذى - حتى كَبِرَ وَضَعُف وَأُضِرَّ، فاستقال فَأُقِيل. توفي - رحمه الله - سنة (733هـ) بمصر1. وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي2. 10- الحافظ الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي، التركماني، ثم الدمشقي، أبو عبد الله، الحافظ، مؤرخ الإسلام، وشيخ المحدثين. مولده: سنة (673هـ) . طلب الحديث وله ثماني عشرة سنة، فسمع الكثير، ورحل، وَعُني بهذا الشأن، وتعب فيه، وَخَدَمَهُ، إلى أن رسخت فيه قَدَمُهُ. وقد شَرِبَ الحافظُ ابن حجر ماء زمزم ليصل إلى مرتبته في الحفظ.   1 له ترجمة في: البداية والنهاية: (14/171) ، والدرر الكامنة: (3/367) ، وطبقات الشافعية - ابن قاضي شهبة: (2/369) ، ولحظ الألحاظ: (ص107) . 2 الوافي بالوفيات: (2/271) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وشهرة هذا الإمام الجهبذ، والعلم النِحرير تُغْنِي عن الإطالة بذكر مناقبه1. وقد توفي - رحمه الله - سنة (748هـ) 2. أما عن سماع ابن القَيِّم منه، وتتلمذه عليه: فإنه لم يذكر ذلك أحدٌ ممن ترجموا لابن القَيِّم، ولكن وصف ابن القَيِّم الذهبي بأنه شيخه، وذلك في رسالته في الأحاديث الموضوعة - التي سيأتي الكلام عليها مفصلاً عند ذكر مؤلفات ابن القيم إن شاء الله - حيث قال: "سمعت شيخنا أبا عبد الله محمد بن عثمان … "3. وقال مرة في الرسالة نفسها: "وسمعت الحافظ أبا عبد الله محمد بن عثمان ... "4. وقد ذكره في مواضع أخرى من كتب له: فقال مرة في كتابه (جلاء الأفهام) 5 - ناقلاً كلام الذهبي في حديث -: "قال محمد بن عثمان الحافظ: هذا وَضَعَه العُمَرِي". ثم قال: "وهو كما قال؛ فإن هذا الإسناد لا يَحْتَمِلُ هذا الحديث". وقال مرة في كتابه (زاد المعاد) 6 - متعقباً إيّاه في مسألة -:   1 ومن أراد الوقوف على دراسة حياة الإمام الذهبي مستوفاة: فعليه بكتاب (الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام) للدكتور بشار عواد: (ص75-276) . 2 له ترجمة في: ذيل التذكرة - للحسيني: (ص34 - 38) ، والبداية والنهاية: (14/236) ، وطبقات الحفاظ: (ص521 - 523) . 3 رسالة الموضوعات: (ق42/أ) . 4 المصدر السابق: (ق4/أ) . (ص18) . (2/132) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 "وممن غَلِطَ في هذا أيضاً: محمد بن عثمان الذهبي في كتابه (الضعفاء) فقال: مطرف بن مصعب المدني ... ". يعني: وأن الصواب فيه: مطرف أبو مصعب. فهكذا نجد ابن القَيِّم - رحمه الله - في هاتين المرتين ينقل عن الذهبي: مرة مستفيداً منه، ومرة متعقباً إياه، بدون أن يصرح في أي من المرتين بأنه شيخه، أو أنه سمع منه. ثم إن الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله - لَمَّا وقف على نص (رسالة الموضوعات) وما جاء فيها من تصريح ابن القَيِّم بأن الذهبي شيخه، استبعد ذلك قائلاً: "والذهبِيُّ من تلامذة ابن القَيِّم، ولم أر ابن القَيِّم في شيء من كتبه المطبوعة يذكر الذهبي وينقل عنه"1. ثم حكم - بناء على ذلك - بغرابة أسلوب هذه الرسالة على مسلك ابن القَيِّم في التأليف، وَتَوَقَّفَ بالتالي في الحكم بنسبتها لابن القَيِّم2. وأقول: إن كلام الشيخ بكر في نفي مشيخة الذهبي لابن القَيِّم فيه نظر؛ ويتضح ذلك بما يلي: - أما قوله بأن الذهبي من تلامذة ابن القَيِّم: فإنه مما لا دليل عليه، وسيأتي التنبيه على ذلك عند الكلام على تلاميذ ابن القَيِّم، وبيان ضعف الدليل الذي اعتمده الشيخ في الحكم بذلك3.   1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص178 - 179) . 2 وسيأتي تحقيق القول في ذلك إن شاء الله، عند الكلام على مصنفات ابن القَيِّم. انظر: (ص 313) . 3 انظر: (ص 200 - 202) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 - وأما كونه لم ير ابن القَيِّم في شيء من كتبه المطبوعة يذكر الذهبي وينقل عنه: فقد تقدم نقل نصين من كتابين مختلفين، ينقل فيهما ابن القَيِّم عن الذهبي. - فإذا ثبت لدينا عدم انتهاض ما استدل به الشيخ بكر - سلمه الله - على نفي كون الذهبي شيخاً لابن القَيِّم، فإن الواقع والقرائن يؤيدان الحكم بإثبات هذه المشيخة، ويؤكد هذا أمور: أولاً: ذلك النص من ابن القَيِّم في رسالته في الأحاديث الموضوعة، والذي يقول فيه: "سمعت شيخنا"؛ فإنه صريح لا يحتمل تأويلاً، إلا أن يقال: هذا الكتاب لا تصح نسبته لابن القَيِّم، فالكلام ليس كلامه؟ ولا سبيل إلى القول بذلك؛ فإن الكتاب صحيح النسبة لابن القَيِّم بأدلة قوية، كما سيأتي. وأما ما جاء في النصين الآخرين من نقله عن الذهبي دون تصريح بأنه شيخه: فإنه لا يلزم منه نفي كونه شيخه؛ إذ لا مانع من أن ينقل الإنسان عن شيخه دون وصفه بذلك، بل إن ذلك كثير في كلام الأئمة. ثانياً: أن وجود ابن القَيِّم مع الذهبي في بلد واحد - وهو دمشق– ومعاصرة كل منهما للآخر، مع شهرة الذهبي وإمامته، وطول باعه في العلم، وحرص ابن القَيِّم على التحصيل على كبار الأئمة، كل ذلك يجعل القول بتتلمذ ابن القَيِّم على الذهبي غير بعيد، بل عدم سماعه منه وأخذه عنه هو البعيد الغريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ثالثاً: أن فارق السنِّ بينهما يدعم القول بمشيخة الذهبي لابن القَيِّم؛ فإن الذهبي - رحمه الله - ولد سنة (673هـ) ، ومولد ابن القَيِّم سنة (691هـ) ، وبذلك فإن الذهبي يكبره بثماني عشرة سنة، ففي السنة التي وُلِدَ فيها ابن القَيِّم - رحمه الله - شَرَعَ الذهبي في القراءة بالجمع الكبير على شيخين في آنٍ واحد، فما لبث "أن أصبح على معرفة جيدة بالقراءة وأصولها ومسائلها، وهو لم يزل فتىً لم يتعد العشرين من عمره"1. ولبراعَةِ الذهبي وتميزه في ذلك: تَنَازَلَ له شَيْخُهُ شمس الدين الدمياطي عن حلقته بالجامع الأموي أوائل سنة (693هـ) 2، كل ذلك وابن القَيِّم لم يزل بعد في الثانية من عمره، فهل يبعدُ - مع هذا السبق في السِّنِّ والتَّلقِّي - أن يكون الذهبي شيخاً لابن القَيِّم؟ رابعاً: ثم إنه ظهر لي - وأرجو أن أكون مخطئاً في ظني - أنه كانت هناك نفرةٌ بين ابن القَيِّم وشيخه الذهبي، ولعل ذلك يتضح من قول الذهبي في حق ابن القَيِّم: " ... ولَكِنَّهُ مُعْجَبٌ برأيه جرئ على الأمور، غفر الله له"3. فهذه كلمة - ولا شك - تشير إلى عدم انسجام واتفاق، فربما ترتب على ذلك قلة الاتصال بينهما؟ ومن ثم عدم إكثار ابن القَيِّم عنه، بخلاف شيخه المزي مثلاً، كما سيأتي. وعلى كلِّ حال، فما دام ابن القَيِّم - رحمه الله - قد صَرَّح بأن الذهبي شيخه، وذلك في كتاب ثابت النسبة إليه، فإنه لا مجال لنفي ذلك إلا بِبَيِّنَةٍ ودليل قويٍّ.   1 الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام: (ص83 - 84) . 2 المصدر السابق: (ص85) . 3 المعجم المختص: (ص269) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وبعدُ، فقد طال بنا الكلام - شيئاً ما - في إثبات تلمذة ابن القَيِّم للذهبي، والآن نعود مرة أخرى إلى ما كنا بصدده من سرد شيوخ ابن القَيِّم رحمه الله. 11- محمد بن أبي الفتح بن أبي سهل البَعْلَبَكِّيِّ، الحنبلي، شمس الدين، أبو عبد الله، الإمام، العلامة، المحدث. مولده: سنة (645هـ) . تحول إلى دمشق فاشتغل، وأتقَنَ الفقه، وسمع الكثير من: ابن عبد الدائم والكرماني وغيرهما، وعني بالرواية والأجزاء، وله اعتناء بالرجال، جيد الخبرة بألفاظ الحديث. وأتقن العربية، ولع معرفة تامة بالنحو، وأفاد ودَرَّسَ. وكان - رحمه الله - حَسَنَ الْخُلُق، عابداً، متواضعاً، مع القناعة والاقتصاد، وكثرة المحاسن. مات بالقاهرة بعد دخولها بأيام في المحرم سنة (709هـ) 1. وقد ذكر سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي2. 12- ابن الشِّيْرَازِي: محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله بن محمد ابن يحيى بن بُنْدار بن مَمِيل، شمس الدين، أبو نصر، الفارسي، الشِّيرازي الأصل، ثم الدمشقي، الْمِزِّي، المُسْنِد، الْمُعَمِّر. مولده: سنة (629هـ) .   1 له ترجمة في: معجم الشيوخ - الذهبي: (2/324) ، وذكر ترجمته في آخر التذكرة ضمن شيوخه (4/1501) ، وبغية الوعاة: (1/207 - 208) . 2 الوافي بالوفيات: (2/271) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 سمع كثيراً، وأسمع، وأفاد، وتفرد في زمانه، وَرُحِلَ إليه. وكان - رحمه الله - عاقلاً، ساكناً، وقوراً، متواضعاً، خَيِّراً، وكان أُستاذاً في إذهاب المصاحف1. توفي - رحمه الله - ليلة عرفة سنة (723هـ) 2. وقد نص على سماع ابن القَيِّم منه: الصَّفَدِي3، وابن حجر4، والسيوطي5. 13- المزي: يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، القُضَاعي، ثم الكَلْبِي، الدمشقي، الشافعي، أبو الحجاج، جمال الدين، الإمام، العلامة، الحافظ، محدث الشام. مولده: بحلب سنة (654هـ) ونشأ بالْمِزَّة. سمع: (المسند) ، و (الكتب الستة) ، و (معجم الطبراني) ، و (الأجزاء الطبرزدية) ، و (الكندية) ، و (صحيح مسلم) . وَرَحَل فسمع: بالحرمين، وحلب، وحماة، وبعلبك وغيرها. وقد برع ومهر وتقدم في فنون كثيرة، ولاسيما في معرفة الرجال، فهو حامل لوائها، والقائم بأعبائها.   1 أَذْهَبَ المصحف وذَهَّبَه: طلاه بالذهب، فهو مُذَهَّبٌ وَذَهِيبٌ (القاموس المحيط، مادة: ذهب) . 2 له ترجمة في: معجم الشيوخ - للذهبي: (2/279) ، والبداية والنهاية: (14/113) . 3 الوافي بالوفيات: (2/271) . 4 الدرر الكامنة: (4/21) . 5 بغية الوعاة: (1/62) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وكان - رحمه الله - ثقة، حجة، كثير العلم، حسن الأخلاق، كثير السكوت، قليل الكلام جداً، صادق اللهجة، مع التواضع والاقتصاد في المأكل والملبس. وقد ترافق هو وابن تَيْمِيَّة كثيراً في سماع الحديث. توفي - رحمه الله - في صفر: سنة (742هـ) ولم يذكره أحد ممن ترجم لابن القَيِّم ضمن شيوخه، ولكن ابن القَيِّم - رحمه الله - كثير النقل عنه في كتبه مع التصريح بأنه شيخه، وبخاصة فيما يتعلق بالرجال والأسانيد. ويظهر عليه حبه الشديد له، واحترامه وتقديره إيَّاه، حتى كان يطلق عليه "شيخ الإسلام"2 كما كان يطلق ذلك على شيخه الأول: ابن تَيْمِيَّة. يقول مرة ناقلاً عنه فائدة حول راوٍ: "وهكذا هو في (تهذيب الكمال) لشيخنا أبي الحجاج المزي"3. وأحياناً لا يسميه، فيقول: "وقال شيخنا في التهذيب"4. أو: "وذكره شيخنا في التهذيب"5.   1 له ترجمة في: تذكرة الحفاظ: (4/1498 - 1500) ، ومعجم الشيوخ - للذهبي: (2/389) ، والبداية والنهاية: (14/203) . 2 تهذيب السنن: (1/62) . 3 جلاء الأفهام: (ص12) . 4 جلاء الأفهام: (ص 34) . 5 جلاء الأفهام: (ص 35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ويعتمد رأيه كثيراً في الترجيح عند الاختلاف، فتراه يقول: "قال شيخنا أبو الحجاج المزي: والصواب رواية ... "1. وتارة يقول: "وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يرجح هذا أيضاً"2. وقد ينقل عنه في بعض المواضع مما سمعه منه، فيقول: "قال لي شيخنا أبو الحجاج الحافظ"3. ويقول أيضاً: "وسمعت أبا الحجاج الحافظ يقول ... "4. ويظهر واضحاً من هذه النقول: مدى حب ابن القَيِّم لشيخه المزي، واحترامه له، ونقل إفاداته وعلومه في كثير من كتبه. ثانياً: شيوخه في العربية: لقد برع ابن القَيِّم في علوم متعددة، وكان على رأسها: النحو والعربية، حتى وصفه غير واحد من مترجميه بـ "النحوي"5، وأن له في العربية "اليد الطولى"6. ولا عجب في ذلك؛ فقد أولى ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك الجانب عناية فائقة، وتلقاه على أكابر شيوخ عصره، ومن هؤلاء الشيوخ: - محمد بن أبي الفتح البعلبكي الماضي ذكره.   1 حادي الأرواح: (ص98) . 2 تهذيب السنن: (4/342) . 3 حادي الأرواح: (ص270) . 4 زاد المعاد: (4/252) . 5 انظر: المعجم المختص: (ص269) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) . 6 ذيل طبقات الحنابلة: (2/448) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 قال الصَّفَدِي: "قرأ عليه (الْمُلَخَّص) لأبي البقاء، ثم قرأ (الْجُرْجَانِيَّة) ثم قرأ (ألفية ابن مالك) ، وأكثر (الكافية الشافية) ، وبعض (التسهيل") 1. ومن شيوخه في العربية أيضاً: 14- مجد الدين التونسي: أبو بكر بن القاسم، المرسي، ثم التونسي، نزيل دمشق، مجد الدين، شيخ القراءة والنحو. مولده: سنة (656هـ) . سمع من الفخر علي، وجماعة، ويتصدر للقراءة زماناً، وكان من أذكياء وقته، مع الدين والنَّزَاهة والوقار. توفي - رحمه الله - في ذي القعدة سنة (718هـ) 2. 0وقد ذكره ضمن شيوخ ابن القَيِّم جماعة3، وذكر الصلاح الصَّفَدِي: أن ابن القَيِّم قرأ عليه قطعة من (المقرب) ، ونقل الشيخ بكر أبو زيد عن الصَّفَدِي: أنه (الْمُغْرب) 4.   1 الوافي بالوفيات: (2/271) . وانظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص106) . 2 له ترجمة في: معجم الشيوخ - الذهبي: (2/417) . 3 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، والدرر الكامنة: (4/21) ، وبغية الوعاة: (1/62) . 4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص105) ، (والمغرب) معروف للمُطَرِّزي (ت610هـ) وأما (المقرب) : فلم أقف عليه، فلعله تصحف في كتاب الصَّفَدِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ثالثاً: شيوخه في الفقه: أما الفقه: فقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - مشتغلاً به "ويجيد تقريره" كما مضى من كلام الذهبي رحمه الله. وقد أخذ الفقه عن جماعة من أَجِلَّة عصره، منهم: 15- شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة: تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد بن الخضر ... بن تيمية، الحرَّاني، ثم الدمشقي، الإمام، العالم، والفقيه، الحافظ، المفتي، شيخ الإسلام الذي أثنى عليه الموافق والمخالف. مولده: سنة (661هـ) . وشهرة الشيخ تغني عن الكلام عنه، وقد توفي - رحمه الله - سنة (728هـ) محبوساً بقلعة دمشق كما تقدم1. وقد سبقت الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين ابن القَيِّم وأستاذه ابن تَيْمِيَّة2، فلقد توطدت العلاقة بين ابن القَيِّم وشيخه، حتى صار "من عيون أصحابه"3. بل كان "رئيس أصحاب ابن تَيْمِيَّة"4. حتى إنه لا يكاد يذكر ابن تَيْمِيَّة إلا ويذكر معه ابن القَيِّم رحمهما الله تعالى.   1 ولابن تَيْمِيَّة ترجمة في: معجم شيوخ الذهبي: (1/56) ، والتذكرة: (4/1496) ، والبداية والنهاية: (14/141) ، والوافي بالوفيات: (7/15) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/387) ، والدرر الكامنة: (1/154) . 2 انظر: (ص 113) . 3 ذيل العبر: (ص155) . 4 كما قال السخاوي رحمه الله. (التاج المكلل: ص419) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وقد نص على تفقه ابن القَيِّم بابن تَيْمِيَّة أكثر من ترجم له1. وابن القَيِّم - رحمه الله - دائم الذكر لشيخه، كثير النقل عنه في كتبه، مع الإشادة به، وإظهار الحب والتقدير له2. 16- المجد الحرَّاني: إسماعيل بن محمد بن إسماعيل، مجد الدين، أبو محمود، الحرَّاني، الفراء، الحنبلي. مولده بحران: سنة (645هـ) ، ثم انتقل إلى دمشق سنة 670 أو 671هـ. سمع الحديث بدمشق من الجمال ابن الصيرفي وغيره، فسمع (الكتب الستة) و (المسند) . وتفقه حتى برع في المذهب، وتَخَرَّج به عدة فقهاء وأئمة، ولم يُصَنِّف شيئاً. وكان متواضعاً، كثير الصمت عما لا يعنيه، لا يغتاب بشراً، ولا يؤذي أحداً، ومن أكفِّ الناس عن الفتيا، فيه خير ورقَّةٌ. توفي - رحمه الله - في جمادى الأولى سنة (729هـ) 3.   1 الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل العبر: (ص155) ، والدرر الكامنة: (4/21) ، وبغية الوعاة: (1/62) . 2 تنظر أمثلة لنقل ابن القَيِّم عن شيخه ابن تَيْمِيَّة في: زاد المعاد: (1/434، 440، 456) ، وحادي الأرواح: (ص98) ، وجلاء الأفهام: (ص18) ، وتهذيب السنن: (1/62) ، وإعلام الموقعين: (2/344) ، ومواضع النقل كثيرة جداً يصعب حصرها. 3 له ترجمة في: معجم الشيوخ للذهبي: (1/79) ، وذيل العبر له: (ص86) ، والبداية والنهاية: (14/152) ، والدرر الكامنة: (1/403) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وقد نص على تفقه ابن القَيِّم به: الصَّفَدِي1، وابن حجر2. ونص الصَّفَدِي على أنه قرأ عليه: (مختصر أبي القاسم الخرقي) ، و (المقنع) لابن قدامة، وكلاهما في الفقه الحنبلي. 17- شرف الدين بن تيمية: عبد الله بن عبد الحليم ... بن تيمية، شرف الدين، أبو محمد، الحراني، الحنبلي، أخو شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة. مولده: سنة (666هـ) . كان عارفاً بجمل نافعة من الحديث ورجاله، سمع (المسند) ، (والكتب الستة) وغيرهما، وكان عارفاً بالسيرة وأيام الناس، مُحْكِماً للفقه والعربية. وكان كثير المحاسن، كبير القدر، مقتصداً في مأكله وملبسه. وكان أخوه يكرمه ويعظمه. توفي - رحمه الله - في جمادى الأولى سنة (727هـ) 3. وقد نص على تفقه ابن القَيِّم به: الصَّفَدِي4، ونص ابن القَيِّم على أنه شيخه5. وممن أخذ الفقه عنهم أيضاً: - محمد بن أبي الفتح البعلبكي المتقدم ذكره.   1 الوافي بالوفيات: (2/271) . 2 الدرر الكامنة: (4/21) . 3 له ترجمة في: معجم الشيوخ للذهبي: (1/323) ، وذيل العبر له: (ص81) ، والدرر الكامنة: (2/371) ، والشذرات: (6/76) . 4 الوافي بالوفيات: (2/271) . 5 الصواعق المرسلة: (1/320) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 رابعاً: شيوخه في الفرائض: أما شيوخه في الفرائض فهم: 18- والده: أبو بكر بن أيوب، قَيِّم الجوزية. وقد تقدم أنه كان له في الفرائض اليد الطولى1، ولذلك فقد أخذها عنه ابن القَيِّم أولاً، نص على ذلك: الصَّفَدِي2، وابن حجر3، والشوكاني4. ثم أخذها على: - إسماعيل بن محمد الحراني الماضي ذكره5. ثم على: - شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة6. خامساً: شيوخه في أصول الفقه. وقد أخذ أصول الفقه عن جماعة من العلماء، منهم: 19- صفي الدين الهندي: محمد بن عبد الرحيم بن محمد، أبو عبد الله، الأرموي، الشافعي، العَلاَّمة، الأصولي. مولده: سنة (644هـ) بالهند.   1 انظر ترجمته فيما تقدم: (ص 90) . 2 الوافي بالوفيات: (2/271) . 3 الدرر الكامنة: (4/21) . 4 البدر الطالع: (2/143) . 5 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) . 6 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وبغية الوعاة: (1/62) ، وطبقات المفسرين (2/91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 خرج من دِهْلي سنة 667هـ فحجَّ وجاور بمكة أشهراً، ثم دخل اليمن، ثم مصر، ثم سافر إلى الروم، ثم قدم دمشق سنة 685هـ، فاستوطنها، واشتغل بالتدريس، وصنف في الأصول وعلم الكلام. وكان ذا برٍّ وصلة، وله حظ من صلاة وتعبد. توفي - رحمه الله - في صفر سنة (715هـ) وقد استوفى سبعين سنة وأشهراً1. وقد ذكر أخذَ ابن القَيِّم الأصول عنه: الصَّفَدِي2، وابن حجر3، والسيوطي4. وأخذ الأصول - أيضاً - عن: - شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة، فَقَرَأ عليه قطعةً من (المحصول) 5، وقطعة من (الإحكام في أصول الأحكام) 6، كما ذكر ذلك الصَّفَدِي7. وأخذ الأصول - أيضاً - عن: - إسماعيل بن محمد الحراني المتقدم ذكره، فقرأ عليه أكثر   1 له ترجمة في: معجم الشيوخ - للذهبي: (2/216) ، والبداية والنهاية: (14/77) ، والدرر الكامنة: (4/132) . 2 الوافي بالوفيات: (2/271) . 3 الدرر الكامنة: (4/21) . 4 بغية الوعاة: (2/62) . 5 للفخر الرازي (ت678هـ) وهو مطبوع. 6 لسيف الدين الآمدي (ت631هـ) وهو مطبوع. 7 الوافي بالوفيات: (2/271) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 سادساً: شيوخه في التوحيد وأصول الدين: قرأ في التوحيد على: - شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة، قرأ عليه قطعة من (الأربعين) 3 وقطعة من (المحصل) 4. كما أفاد ذلك: الصَّفَدِي5. وقرأ أصول الدين - أيضاً - على: - الشيخ صفي الدين الأرموي المتقدم، قرأ عليه أكثر الكتابين - الأربعين والمحصل - كما أفاده الصَّفَدِي6. سابعاً: شيوخ آخرون: من هؤلاء الشيوخ: 20- ابن سَيِّد الناس: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله ابن محمد بن يحيى ... أبو الفتح، فتح الدين، ابن سيد الناس، الأندلسي الأصل، المصري، الإمام، الحافظ.   1 وهي: (روضة الناظر وجنة المناظر) لموفق الدين ابن قدامة المقدسي (ت620هـ) . طبع مراراً. 2 الوافي بالوفيات: (2/271) . 3 لعل المقصود به: (الأربعين في أصول الدين) للرازي. (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: ص (101) . 4 لعل المراد به: (محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين) للرازي أيضاً. (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: ص (101) . 5 الوافي بالوفيات: (2/271) . 6 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 مولده: في سنة (671هـ) بالقاهرة. سمع الكثير، وأخذ علم الحديث عن: والده، وابن جماعة، وتفقه على مذهب الإمام الشافعي، وبرع في علوم شتى، وفاق أقرانه، ولم يكن بمصر في مجموعه1 مثله: في حفظ الأسانيد، والمتون، والعلل، وغير ذلك. توفي فجأة في شعبان سنة (734هـ) 2. ولم يذكره أحدٌ من مترجمي ابن القَيِّم ضمن شيوخه، لكن حَدَّث عنه ابن القَيِّم مرة، فقال - عند الكلام على سَرِيَّة الخبط -: "وكانت في رجب سنة ثمان، فيما أنبأنا به الحافظ أبو الفتح محمد بن سيد الناس في كتاب (عيون الأثر) 3 له … "4. وقد كان دخول ابن سيد الناس إلى دمشق سنة (690هـ) كما قال ابن كثير5، ولم يكن ابن القَيِّم قد ولد بعد، والظاهر أنه لم يمكث في دمشق كثيراً. فلعل ابن القَيِّم يحدِّث بهذا الكتاب إجازة، أو يكون قد قرأه عليه في إحدى سفراته إلى القاهرة؟ فالله أعلم. ومن هؤلاء الشيوخ - أيضاً - ما ذكره الشيخ بكر أبو زيد:   1 يعني: فيما جمعه من علم. 2 له ترجمة في: التذكرة ضمن شيوخه: (4/1503) ، والبداية والنهاية: (14/178) ، وطبقات الشافعية - ابن قاضي شهبة: (2/390) . 3 هو كتاب: "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير" مطبوع. 4 زاد المعاد: (3/389) . 5 البداية والنهاية: (14/178) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 21- ابن الزَّمْلَكَاني1: كمال الدين بن علي بن عبد الواحد، الأنصاري، الشافعي، شيخ الشافعية بالشام وغيرها. مولده: سنة (666هـ) . طلب الحديث وقتاً، وقرأ بنفسه، وهو أحد المتقدمين في الفتوى والتدريس. توفي - رحمه الله - سنة (727هـ) 2. ومنهم أيضاً: 22- ابن مفلح3: محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، المقدسي، ثم الصالحي، الحنبلي، شمس الدين، أبوعبد الله، أحد الأئمة. سمع من عيسى المطعم وغيره، وتَفَقَّه، وبرع، ودَرَّس، وأفتى، وناظر، وحدَّث، وأفاد. وقال ابن القَيِّم لقاضي القضاة موفق الدين الحجاوي سنة 731هـ: "ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح". وكان أخبر الناس بمسائل ابن تَيْمِيَّة، حتى أن ابن القَيِّم كان يراجعه في مسائله4.   1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص106) . 2 له ترجمة في: البداية والنهاية: (14/136) ، والدرر الكامنة: (4/192) ، وحسن المحاضرة: (1/320) . 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص107) . 4 شذرات الذهب: (6/199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 توفي - رحمه الله - سنة (763هـ) 1. ولم أر النص على تلمذة ابن القَيِّم له وأخذه عنه، فهل بنى الشيخ بكر - حفظه الله - ذلك على مراجعة ابن القَيِّم له في اختيارات شيخ الإسلام؟ وإذا كان هذا هو مستنده، فهل يكون ذلك كافياً للحكم بتلمذته له؟ 23- فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر، البطائحي، البعلبكي، أم محمد. مولدها: سنة (625هـ) . وكانت امرأة صالحة، عابدة، محدِّثَة، مسندة، سمعت (صحيح البخاري) من ابن الزبيدي، وروته عنه مرات، وسمعت (صحيح مسلم) على أبي الثناء ابن الحصيري شيخ الحنفية، وهي آخر من روى عنه وفاة. وطال عمرها، وروت الكثير. توفيت - رحمهما الله - في صفر سنة (711هـ) عن ست وثمانين سنة2. وقد ذكر جماعة سماع ابن القَيِّم منها3، وبعضهم يسميها: "بنت البطائحي"، وهي المقصودة.   1 له ترجمة في: الدرر الكامنة: (5/30) ، والشذرات: (6/199) . 2 لها ترجمة في: معجم الشيوخ - الذهبي: (2/103) ، وذكرها في آخر التذكرة: (4/1495) في الوفيات، والدرر الكامنة: (3/301) ، والشذرات (6/28) . 3 انظر: المعجم المختص: (ص269) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/447) ، وطبقات المفسرين: (2/91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وبعد، فهذا ما أمكن الوقوف عليه من شيوخ ابن القَيِّم رحمه الله، الذين تتلمذ على أيديهم، واخذ العلم عنهم، وتَخَرَّج بهم. ويمكن لنا عند النظر في هؤلاء الشيوخ أن نسجل بعض الملاحظات: 1- أن غالب هؤلاء الشيوخ - إن لم يكونوا جميعاً - أئمة جهابذة حفاظ، وعلماء أعلام، كانوا مقدمين في وقتهم في تلك الفنون التي تلقاها ابن القَيِّم - رحمه الله - عن كل واحد منهم. 2- أن هؤلاء الأئمة - شيوخ ابن القَيِّم - كانوا - أيضاً - على درجة كبيرة من: الزهد، والورع، والتواضع، وحسن الخلق، والاجتهاد في العبادة، إلى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة والخلال الحميدة، كما مضى. 3- أن كل هؤلاء الشيوخ من أهل دمشق: مولداً ونشأة، أو انتقالاً واستيطاناً، وحتى من لم يستوطنها منهم، فقد جلس فيها فترة. وهذا يؤكد - كما سيأتي ذكره -: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يرحل خارج بلده كثيراً لطلب العلم، وإنما حصَّل علومه كلها - أو أكثرها - على شيوخ بلده (دمشق) ، وما ذلك إلا لأهميتها العلمية آنذاك، وتوافد أهل العلم إليها على ما سبق بيانه. فإذا أخذنا هذه الأمور كلها بعين الاعتبار، أمكن لنا أن نتصور إلى أي مدى كان تأثير هؤلاء الشيوخ في علم ابن القَيِّم، وأخلاقه، وتكوين شخصيته تأثيراً إيجابياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 المبحث الثالث: اهتمامه باقتتناء الكتب، وذكر مكتبته ... المبحث الثالث: اهتمامه باقتناء الكتب، وذكر مكتبته إن من الأمور المهمة في حياة العالم، وطالب العلم: اقتناء أكبر قدرٍ ممكن من الكتب في سائر الفنون وشتى العلوم. فلا شك أن وجود مكتبة متكاملة بين يدي طالب العلم يتيح له فرصةً أكبر للقراءة والاطلاع، ومن ثَمَّ يكون ذلك من أكبر العون له على الترقي في المعرفة والتقدم في التحصيل. كما أن نوع المراجع التي تشتمل عليها هذه المكتبة، له أثر مهمٌ في تكوين الشخصية العلمية لصاحبها. قال العلامة بدر الدين بن جماعة - عند ذكر آداب طالب العلم مع الكتب -: "الأول: ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنه، شراءً وإلا فإجارَةً أو عاريةً؛ لأنها آلة التحصيل"1. ولكن ينبغي أن يُعلم أن مجرد جمع الكتب وتحصيلها ليس كافياً في حصول الرِّفْعَةِ والتقدم في العلم، بل لا بد أن يَضُمَّ إلى ذلك: الْجِدَّ والاجتهاد في الطلب، وكثرة المطالعة لها، وبذل الجهد والوقت في نظرها.   1 تذكرة السامع والمتكلم: (ص164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 قال الشيخ ابن جماعة:"ولا يجعل تحصيلها وكثرتها حظَّهُ من العلم، وجمعها نصيبه من الفهم، كما يفعله كثير من الْمُنْتَحِلِين للفقه والحديث، وقد أحسن القائل: إذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظَاً وَاعِيَاً ... فَجَمْعُكَ لِلكُتبِ لا يَنْفَعُ"1 وقد تحدَّثت مصادر ترجمة العلامة ابن القَيِّم عن اشتهاره بحب الكتب، وغرامه بجمع الكثير منها، حتى حصل له من ذلك ما لم يحصل لغيره. ومن أقوال أصحابه ومترجميه في وصف ذلك: قال ابن كثير رحمه الله: "واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عُشْرِهِ، من كتب السلف والخلف"2. وقال ابن رجب الحنبلي: "وكان شديد المحبة للعلم ... واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره"3. وقال الحافظ ابن حجر: "وكان مُغْرىً بجمع الكتب، فَحَصَّل منها ما لا يُحْصَر ... "4. فهكذا كان ابن القيم مغرماً بجمع الكتب، حريصاً على اقتنائها، ولم يكن حظه منها مجرد جمعها، بل جمع إلى ذلك: جِدًّا واجتهاداً في   1 تذكرة السامع والمتكلم: (ص 164) . 2 البداية والنهاية: (14/264) . 3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . 4 الدرر الكامنة: (4/22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 درسها ونظرها، وإنفاقاً لليله ونهاره في مطالعتها، مع ما آتاه الله - سبحانه - من قوة الذكاء، وسعة الحفظ، ونور البصيرة، ومع ما وصف به من شدة الحب للعلم كما تقدم، فانتفع لأجل ذلك كله بهذه الكتب. وربما يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قد نَسَخَ جملةً من هذه الكتب بخطه، فقد قال ابن كثير رحمه الله: "وكتب بخطه الحسن شيئاً كثيراً"1. وقال ابن رجب: "وكتب بخطه ما لا يُوصَف كَثْرَةً"2. وقد يكون المراد بذلك: ما كتبه تصنيفاً، ولكن لا يمتنع - أيضاً - كتابته شيئاً من ذلك على سبيل النسخ، وبخاصة في مرحلة الطلب. وعلى كل حال، فإن الذي يهمنا هو أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد حصَّل من الكتب ما لم يحصله غيره، ويظهر ذلك واضحاً عند النظر في قائمة المصادر التي اعتمدها في مؤلفاته، فقد كانت تلك المصادر غزيرةً وفيرةً، وكانت - في الوقت نفسه - قيِّمة ونفيسة، مع تنوعها واختلاف فنونها3. وليس أدل على ضَخَامَةِ المكتبة التي خَلَّفَهَا ابنُ القَيِّم -رحمه الله-وكثرةِ كتبها، مما حكاه الحافظُ ابن حجر: من أن أولادَ ابن القَيِّم ظلُّوا "يبيعون منها بعد موته دهراً، سوى ما اصطفوه لأنفسهم"4.   1 البداية والنهاية: (14/246) . 2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . 3 انظر ما سيأتي من الكلام على مصادر ابن القَيِّم في كتبه ص: (267) . 4 الدرر الكامنة: (4/22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وقد نَفَعَ الله بهذه المكتبة العامرة بعد موت ابن القَيِّم رحمه الله؛ ذلك أنها آلت إلى أولاده من بعده - وقد كانوا أهل علم وفضل كما مضى - فاصطفوا لأنفسهم جملةً كبيرةً منها كما مرَّ، واقتنى كتباً نفيسةً منها: ابن أخيه عماد الدين إسماعيل بن عبد الرحمن1،"وكان لا يبخل بعاريتها" كما قال ابن حجي2. فرحم الله ابنَ القَيِّم، وأجزل له المثوبة، فلقد خَلَّف لأولاده خير زاد، وأفضل ذخيرة ليوم الْمَعَادِ، مع عموم الانتفاعِ بهذه الكتب بالإعارة وغيرها.   1 ابن أبي بكر بن أيوب ... المعروف "بابن قَيِّم الجوزية" كَعَمِّه، وكان رجلاً حسناً، وقد اقتنى أكثر مكتبة عَمِّه شمس الدين ابن القَيِّم. توفي في رجب سنة 799هـ. له ترجمة في: ذيل ابن عبد الهادي على طبقات ابن رجب: (ص21) ، والدارس في تاريخ المدارس: (2/91) . 2 الدارس في تاريخ المدارس: (2/91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 المبحث الرابع: أَسْفَارُهُ وَرِحْلاتُهُ إن مما ينبغي على طالب العلم أن يرحل عن وطنه إلى البلاد الأخرى، طلباً للعلم، وبحثاً عن الاستزادة منه، ورغبة في التحصيل والسماع من علماء البلدان الأخرى لما لم يسمعه في بلده، وقد كان هذا هو دأب السَّلف من علماء هذه الأمة، كما هو مُدَوَّن في أخبارهم. فالمقصود من الرحلة - كما قال الخطيب البغدادي رحمه الله - أمران: "أحدهما: تحصيلُ علوِّ الإسناد، وقدم السماع. والثاني: لقاء الحفَّاظ، والمذاكرة لهم، والاستفادة منهم". قال رحمه الله: "فإذا كان الأمران موجودين في بلده، ومعدومين في غيره: فلا فائدة في الرحلة، أو موجودين في كل منهما: فَلْيُحَصِّل حديث بلده، ثم يرحل"1. أمَّا الأمر الأول - وهو طلب علو الإسناد - فإنه كان مقصوداً أيام كان الاعتماد في الرواية على المشافهة والسَّمَاع، لِمَا للعلوِّ - في هذه الحالة - من فوائد جَمَّة، أما وقد دُوِّنَت الدواوين، وجُمِعت الأحاديث النبوية فيها، فإن الحاجة إلى طلب العلوِّ لم تعد مُلِحَّة، بل صار القصد من السماع والرواية في الأزمنة المتأخرة هو الْحِرْصُ على بقاء سلسلة الإسناد في الأمة.   1 تدريب الراوي: (2/142) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ولذلك، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يكن بحاجة إلى الرحلة طلباً لعلو الإسناد؛ إذ إنه قد عاش في عصر استقرار المدوَّنات الحديثية. إذن فالرِّحلة في حق ابن القَيِّم لحصول الأمر الآخر، وهو: لقاء الأئمة والعلماء، والاجتماع بهم، ومذاكَرَتُهُم العلم، والاستفادة مما عندهم؛ فلا شك أن الرحلة لأجل تحقيق هذا الغرض مُهِمَّة، ولا يعدمُ صاحبها الفائدة، ولكن شريطةَ أن يفتقدَ ذلك في بلده؛ فإنْ وَجَدَ ذلك في بلده، اشتغل بالتحصيل على شيوخ بلده أولاً، كما سبق في كلام الخطيب رحمه الله. فماذا عن ارتحال ابن القَيِّم - رحمه الله - في طلب العلم؟ لم تسجل لنا المصادر التي ترجمته شيئاً عن رحلته وخروجه من بلده في طلب العلم، ولكن وُجِدَ ما يدل على خروج ابن القَيِّم - رحمه الله - من بلده وبخاصة إلى مصر؛ فقد ذكر - رحمه الله - في كتابه (هداية الحيارى) 1 مناظرةً جرت له بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرِّيَاسَة. ومن ذلك أيضاً: ما أشار إليه الشيخ بكر أبو زيد2 من قول المقريزي: "وقدم القاهرة غير مرة"3. ولكن لا سبيل إلى الجزم بأن ابن القَيِّم قد أَخَذَ عن أحدٍ من أهل العلم هناك في رحلاته تلك.   (ص 87) . 2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثار: (ص32) . 3 وانظر السلوك: (2/3/834) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 كما قد سُجِّلَتْ لابن القَيِّم رحلاتٌ وأسفارٌ داخلية، تَنَقَّلَ خلالها بين بعض مدن الشَّام، وبخاصة بيت المقدس، وقد تَقَدَّمَ كلام المقريزي فيما جرى لابن القَيِّم مع المقادسة في بيت المقدس1. ومن ذلك أيضاً: قوله - عند الكلام على من يولد من الناس مختوناً -: "وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن عثمان الخليلي الْمُحَدِّث ببيتِ المقدس: أنه ولد كذلك ... "2. وسافر أيضاً إلى بَعْلَبَك3؛ فقد قال مرة: "قال لي بعضُ أشياخنا في بعلبك"4. كما أن ابن القَيِّم - إلى جانب تلك السفرات الماضي ذكرها - قد سَافَر للحجِّ مراراً، وجاور بمكة كما تقدَّم، وقد كان يقتنص فرصة وجودِهِ بالبيت الحرام، وفي رحاب الكعبة المشرفة، لإنجاز بعض الأعمال العلمية، كما سبقت الإشارة إلى تأليفه كتاب (مفتاح دار السعادة) في رحاب البيت الحرام.   1 انظر ص: (127) . 2 زاد المعاد: (1/81) . 3 بَعْلَبَكّ: "مدينة قديمة، فيها أبنية عجيبة، وآثار عظيمة، وقصور على أساطين الرخام لا نظير لها في الدنيا، بينها وبين دمشق ثلاثة أيام، وقيل: اثنا عشر فرسخاً من جهة الساحل". (معجم البلدان: 1/453) . قلت: وهي الآن داخلة في لبنان، وتمثل إحدى مدن سهل البقاع المشهور، وتبعد عن العاصمة "بيروت " حوالي ستين كيلو متراً تقريباً. 4 بدائع الفوائد: (1/40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ولا يمتنع أيضاً: أن يكون سمع شيئاً، أو التقى بعض الشيوخ والعلماء في تلك الحَجَّات العديدة، فقد كان موسم الحج ملتقى لكثير من أهل العلم، من مختلف الأقطار وشتى البقاع، وقد سَجَّلَت لنا كتبُ التراجم الكثير من أقوال أهل العلم في ذكر ما سَمِعُوه أو أَسْمَعُوه في موسم الحج. تلك بعضُ رحلات ابن القَيِّم وتنقلاته الداخلية، ولا يمتنع أن يكونَ قد سمع أو قرأ شيئاً على بعض الشيوخ في هذه الرحلات، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار: أن من شُيوخه من هو بعلبكي، ومنهم من هو مقدسي، كما مضى. وقد تكون له رحلاتٌ أخرى لم تصل أخبارها إلى علمنا، فالله أعلم. على أن عدمَ ارتحال ابن القَيِّم كثيراً، وقلة خروجِهِ من دمشق لطلب العلم ولقاءِ المشايخ في بلاد أخرى. له ما يسوِّغه؛ فالذي يظهر أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد وَجَدَ بُغْيَتَه، وحصَّل حاجته على شيوخ بلده "دمشق"، بحيث لم يحتج - مع ذلك - إلى البحث عن المزيد من الشيوخ خارج بلده. فقد تَقَدَّم كيف غَدْتْ الشَّام - وبخاصة دمشق - حاضرةً علميةً، تموج بألوان النشاط العلمي، والمؤسسات التعليمية، مع وجود نُخْبَة من أَجِلَّةِ أهل العلم وجهابذته فيها آنذاك، الذين لا زالت آثارهم باقية تشهد بإمامتهم وطول باعهم، ووفور علمهم، الأمر الذي لم يجد ابن القَيِّم معه حاجة إلى الارتحال خارج بلده، كيف وقد كانت بلده محطَّ رِحَالِ أهل العلم وطلابه من شتى بقاع الدنيا؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ولعلَّ من أوضحِ الأمثلة على انشغال ابن القَيِّم - رحمه الله - بالتحصيلِ على شيوخ بلده، ما مضى من مَلازَمَتِهِ لشيخهِ ابن تَيْمِيَّة ستة عشر عاماً (712-728هـ) ، وإيثاره صحبته إلى آخر حياته، فقد وجد في هذا الإمام العلاَّمة ما يشبعُ نَهْمَتَهُ، ويروي غُلَّتَه، وبخاصة إذا علمنا أن فترة ملازَمَتِهِ له تعدُّ أزهى فترات الطلب والتحصيل في حياة طالب العلم1. تلك هي أبرز المسوِّغات التي يمكن اعتبارها مانعاً من كثرة خروج ابن القَيِّم وارتحاله عن بلده. فالذي تَحَصَّل عندنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - وإن لم تُسَجِّل لنا مصادر ترجمته شيئاً من رحلاته العلمية، إلا أن الْمُتَقَرِّرَ أنه قد سافر ورحل وتَغَرَّبَ عن وطنه وأهله، كما يدلُّ على ذلك تصريحه بتأليف بعض كتبه حال السفر والغربة عن الأهل والأصحاب2، وأنه - رحمه الله - في خلال تلك الأسفار لم يكن ليقعد لحظة عن الاشتغال بالعلم سماعاً ومذاكرةً، وتأليفاً وتصنيفاً، فرحمه الله رحمةً واسعةً، وجزاه عمَّا قَدَّم للإسلام خيرَ الجزاء.   1 فقد بدأ ملازمته له وله من العمر تسع عشرة سنة، إلى أن توفي الشيخ ولابن القَيِّم من العمر سبع وثلاثون سنة تقريباً. 2 انظر: زاد المعاد: (1/70) ، وروضة المحبين: (ص28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 المبحث الخامس: أَعْمَالُهُ العلمية ومَنَاصِبُهُ تَقَدَّم أن ابن القَيِّم - رحمه الله - كان صاحب رسالة سامية غالية، وأنه عاش حياته حاملاً أعباء تأدية هذه الرسالة على أتمِّ وجه. فلا عجب إذن أن نجد ارتباطاً وثيقاً بين مهمة أداء هذه الرسالة والقيام بأعبائها من جهة، وبين الأعمال التي مارسها ابن القَيِّم والوظائف التي تقلدها من جهة ثانية؛ إذ إن هذه الوظائف هي مجال تنفيذ هذه المهمة، ووسيلة تحقيقها. فقد كانت هذه الأعمال وتلك المناصب منحصرةً في دائرة تبليغ العلم ونشره لا تخرج عن ذلك بحالٍ؛ فقد عاش حياته - رحمه الله - متصدراً "للاشتغال ونشر العلم"1. ويمكننا حصر الأعمال التي مارسها ابن القَيِّم رحمه الله، والوظائف التي كان يشغلها - في ضوء ما سَجَّلَتْهُ مصادرُ ترجمته - فيما يلي: 1- التدريس. 2- الإمامة. 3- الخطابة. 4- الإفتاء. 5- التأليف والتصنيف. 1- التَّدْرِيس: سبقت الإشارة إلى أن انتشار المدارس في دمشق في عصر ابن القَيِّم وكثرتها، كان من أبرز مظاهر ازدهار الحركة العِلْمِيَّة آنذاك، وأنه كان يَتَقَلَّدُ   1 المعجم المختص: (ص269) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وظيفة التدريس بهذه المدارس أكابرُ علماء الوقت، فكانت المدارس - بهذه المثابة - تُشْبِه الجامعاتِ العِلْمِيَّةَ في وقتنا الحاضر، بل إنَّ نظام الدراسة في كثير من جامعاتنا اليوم يشبه إلى حدٍّ كبير نظام الدراسة قديماً. ولَمَّا كان ابن القَيِّم - رحمه الله - واحداً من جهابذة علماء ذلك العصر وأئمته المُقَدَّمين؛ فإنه قد شارك بجهده وعلمه في هذا الجانب المهم، ألا وهو التدريس. وقد أشار بعض مترجميه إلى ممارسته هذه الوظيفة1. أما عن الأماكن التي درَّس بها، فقد أجمعت المصادر التي ذكرت ممارسته للتدريس على ذكر تدريسه بالمدرسة "الصدرية"2، وقد سَبَقَ الكلام عليها3. ويُحَدِّد الحافظ ابن كثير تاريخ تَوَلِّيهِ التدريس بهذه المدرسة، فيقول: "وفي يوم الخميس سادس صفر - يعني سنة 743هـ - درَّس بالصَّدْرِيَّةِ صاحبنا الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرَعِيّ"4. ثم يشير - رحمه الله - إلى أن دَرْسَه كان حَافِلاً، حَضَرَهُ جمع من   1 انظر: ذيل العبر: (ص155) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/449) ، والبدر الطالع: (2/143) . 2 انظر: ذيل الطبقات: (2/449) ، والبدر الطالع: (2/143) . 3 انظر ص: (72) . 4 البداية والنهاية: (14/214) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الفضلاء، فيقول: "وَحَضَر عنده الشيخ عِزُّ الدين بن الْمُنَجَّا1 - الذي نزل له عنها - وجماعة من الفضلاء"2. وقد اسْتَمَرَّ - رحمه الله - في التَّدْرِيسِ بـ "الصدرية" حتى آخر حياته، يدلُّ على ذلك ما حَكَاهُ ابن كثير - رحمه الله - من أنه "في يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان - يعني بعد وفاة ابن القَيِّم بشهر - ذكر الدَّرْسِ بالصدرية شرف الدين عبد الله بن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين ابن قيم الجوزية، عوضاً عن أبيه رحمه الله"3. وبذلك تكون مدة تدريسه بها قريباً من ثمان سنين. ولكن هل كانت بداية ابن القَيِّم مع التدريس بِتَوَلِّيه الصدرية سنة 743هـ، وأنه لم يشتغل بالتدريس قبل هذا التاريخ؟ الظاهر - والله أعلم - أنه بدأ التدريس قبل ذلك؛ إذ يبعدُ أن يبقى مثل ابن القَيِّم إلى ما بعد الخمسين من عمره دون أن يمارس وظيفة التدريس، التي كان يمارسها من هو دون ابن القَيِّم بكثير، ولعل ما يؤكد صدق ذلك: ما ذكره السخاوي - رحمه الله -: من أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد "دَرَّسَ بأماكن"4. ولكنه لم يحدد هذه الأماكن.   1 هو: عز الدين، محمد بن أحمد بن محمد بن عثمان بن أسعد بن الْمُنَجَّا، التَنُّوخِي، الحنبلي، مُحْتَسبُ دمشق، وناظر الجامع. وكان رجلاً خيراً، كريم النفس، كثير المروءة، محباً لأهل العلم. توفي سنة (746هـ) . له ترجمة في: ذيل العبر - للحسيني: (ص138) ، والوفيات - لابن رافع: (2/12) . 2 البداية والنهاية: (14/214) . 3 البداية والنهاية: (14/247) . 4 التاج المكلل: (ص419) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وعلى كل حال، فإنَّ هذا ما وصل إلى علمنا من الأماكن التي درَّس فيها وتاريخ ذلك. 2- الإمَامَةُ: إن وظيفة الإمامة لا يصلح لها كل أحد، بل لا بد أن يكون المتصدي لها عارفاً بالقراءة وأحكامها، مع أمور أخرى - في دينه وخُلُقِهِ - لابد من توافرها. ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - "حَسَن القراءة" كما وصفه بذلك ابن كثير1، مع ما كان عليه: من القراءة بالتدبر والتفكر، والعلم بمعاني ما يقرأ، والخشوع والخضوع والتذلل والإنابة لله - عزوجل - على النحو الذي مضى وصفه. كل ذلك يجعل ابن القَيِّم مؤهلاً غاية التأهل لشغل منصب الإمامة، بل إن ذلك يجعله من أحق الناس بها. وقد كان ابن القَيِّم -رحمه الله- متولياً إمامة المدرسة "الجوزية" - التي كان أبوه قَيِّمَهَا - كما ذكر ذلك عنه جماعة2. ويبدو أنه - رحمه الله - كان مشهوراً بذلك جداً، حتى إن بعض مترجميه يذكرونه بذلك في مقام التعريف به، فيقول الذهبي رحمه الله:   1 البداية والنهاية: (14/246) . 2 انظر: ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) ، والدرر الكامنة: (4/21) ، والبدر الطالع: (2/143) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 " ... أبو عبد الله، الدمشقي، إمام الجوزية"1. ويقول ابن كثير رحمه الله: " ... إمام الجوزية، وابن قَيِّمها"2. ولا تُعْرَفُ مُدَّةُ إمامته بـ "الجوزية"، إلا أن ابن رجب - رحمه الله - يقول: "أمَّ بالجوزية مدة طويلة"3. 3- الْخَطَابَةُ: وإلى جانب التدريس والإمامة، فقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - مشتغلاً بالخطابة، فقد ذكر الحافظ ابن كثير في أحداث سنة 736هـ: أنه "في سَلْخِ رجب أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه نجم الدين بن خليخان، تجاه باب كيسان من القبلة4، وخطب فيه الشيخ الإمام العلامة شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية"5. ونقل النعيمي كلام ابن كثير هذا، ثم قال: "ورأيت بخط البرزالي في السنة المذكورة نحو ذلك، وزاد - يعني البرزالي -: وكان قد نودي   1 المعجم المختص: (ص269) . 2 البداية والنهاية: (14/246) . 3 ذيل الطبقات: (2/449) . 4 ويعرف بالجامع "الخليخاني"، نسبة إلى بانيه، وباب كيسان: نقل ابن بدران عن ابن عساكر قوله: "ينسب إلى كيسان بن معاوية ... وهو الآن مسدود". قال ابن بدران: "ولم يزل مسدوداً إلى عهدنا هذا". (منادمة الأطلال: ص 40) . أما عن الجامع، فيقول ابن بدران: "وقد أُدْخِل اليوم في بستان له، يقال له: بستان الأمير، ولم يبق من آثاره اليوم إلا بعض منارته، وقبرٌ إلى جانبها، وقد شاهدته ... بدمشق سنة 1333هـ". (منادمة الأطلال: ص376) . 5 البداية والنهاية: (14/183) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 في البلد لذلك، فحضر خَلْقٌ كثير من الأعيان وغيرهم"1. وابن القَيِّم - رحمه الله - هو أول من خطب بهذا الجامع، كما هو ظاهر كلام ابن كثير الماضي، ونصَّ على ذلك ابن بدران، فقال: "وأول من خطب به: الإمام ابن القَيِّم"2. وذلك في سنة 736هـ تاريخ إقامة الجمعة في هذا الجامع. ولا يمتنع - أيضاً - أن يكون ابن القَيِّم قد عَمِلَ بالخطابة قبل هذا التاريخ، والله أعلم. 4- الإِفْتَاءُ: لا شكَّ أنَّ من كان مثل ابن القَيِّم: في سِعَةِ علمه، وعلوِّ شأنه في هذا العلم، وتَمَكُّنِه منه، وذيوعُ صِيته، مع الدِّيَانة والصِّيَانة؛ فإنه لابُدَّ أن يكون مقصوداً بالفتوى، وينتفعُ بِعِلْمِهِ القريبُ والبعيدُ. فإذا انضمَّ إلى ذلك ما عَلِمْنَاه عن ابن القَيِّم من: رغبة قوية في نشر العلم وتبليغه، والصَّدْعِ بالحق وبيانه، والأخذ بيد الجاهل ليعلم أحكام دينه؛ فإن الانتصاب والتصدي للفتوى سيكون متأكَّداً فيه أكثر من غيره. ولقد وصَفَ غير واحد من الأئمة ابن القَيِّم بأنه كان مشتغلاً بالفتوى، فقال الذهبي: "الإمام، المفتي، الْمُتَفَنِّن"3. وقال الحسيني: "أفتى، ودرَّس ... "4.   1 الدارس في تاريخ المدارس: (2/421) . 2 منادمة الأطلال: (ص376) . 3 المعجم المختص: (ص269) . 4 ذيل العبر: (ص155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وقال ابن رجب: "تفقه في المذهب، وبرع، وأفتى"1. وقال ابن تَغْرِي بَرْدي: "تصدى للإقراء والإفتاء سنين، وانتفع به الناس قاطبة"2. ولقد كان - رحمه الله - فيما يُفتي به: صادعاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائمٍ، وقد تقدم ما جرى له من محنٍ وحبس بسبب بعض فتاويه، فرحمه الله وأجزل مثوبته. كما كان رحمه الله - إلى جانب قيامه بأعباء الفتوى - كثيراً ما يعقد مناظرات بينه وبين خصوم السنة، وأعداء الإسلام - الذين كانوا كثيرين في عصره - فكان له معهم صَولاتٌ وجولاتٌ. ولا شك أن الحاجة تدعو إلى مثل هذه المناظرات: لكبت المعاندين، ورد الخارجين إلى حظيرة أهل السنة، فإن ذلك: "يشبه الجهاد وقتال الكفار"، كما يقول ابن القَيِّم رحمه الله3. وقد ذكر غير واحد من مترجميه قيامه بمثل هذه المناظرات4. ومن المناظرات التي أشار إليها في كتبه: ما تقدم قريباً عند الكلام على رحلاته إلى مصر، وما جرى له من مناظرة مع رئيس اليهود هناك5.   1 ذيل الطبقات: (2/448) . 2 النجوم الزاهرة: (10/249) . 3 الفروسية: (ص28) . 4 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل العبر: (ص155) ، وبغية الوعاة: (1/63) . 5 هداية الحيارى: (ص87) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ولقد كان ابن القَيِّم - بما آتاه الله من قوة الحجة، ونور البصيرة، وسعة الفهم، وغزارة العلم، مع صدق القصد، والرغبة في نصرة الحق - كثيراً ما يقطع خصمه في المناظرة ويسكته، فنجده - مثلاً - في تلك المناظرة المذكورة يصف هذا الرئيس اليهوديّ، الْمُقَدَّم في قومه، بقوله: "فأمسك ولم يُحِرْ جواباً"1. أي لم يرد جواباً. 5- التأليف والتصنيف: أما التأليف والتصنيف: فقد كان له فيه اليد الطولى، والصيت الذائع، والحلاوة الفائقة، والعبارة الرائقة، والفوائد الْجَمَّة، والقبول التام. ولَمَّا كان جانب التأليف في حياة ابن القَيِّم على درجة كبيرة من الأهمية، فقد رأيت أن أرجئ الكلام عليه إلى حين الكلام على آثاره ومصنفاته2؛ فإن محله هناك أنسب. وبعد، فهذه أبرز أعمال ابن القَيِّم ونشاطاته في خدمة هذا العلم الشريف وتبليغه، وتلك مناصبه التي تقَلَّدها وشغلها في سبيل تحقيق هذا الهدف، فكان - في ذلك كله - نعم القدوة، فجزاه الله خيراً، ورحمه رحمة واسعة.   1 هداية الحيارى: (ص88) . وانظر هذه المناظرة في "الصواعق المرسلة": (1/327) . 2 انظر ص: (205) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 المبحث السادس: تلاميذه إن أهم الثِّمَار التي تُجْنَى من جهد أولئك العلماء الجهابذة: تخريج التلاميذ والطلاب الذين يحملون راية الخير والهداية لمن بعدهم، امتداداً لجهود شيوخهم ونشاطهم، وحلقةً في سلسلة متصلة متماسكة لا تنقطع. وكلما تبوَّأ هؤلاء الطلاب مكانتهم بين أهل العلم العاملين، وأئمته البارزين، وجهابذته المشهورين، كان ذلك تعبيراً حقيقياً عن مكانَةِ شيوخهم الذين خَرَّجُوهم، وعلمِهِم، وفَضْلِهِم؛ فالطالب النابغ إنما هو - بعد فضل الله وتوفيقه - ثمرة يانعة من ثمار جهد الأستاذ وعطائه المتواصل، ولعلَّ في قول الحافظ ابن حجر المتقدم في حق ابن القَيِّم وشيخه ابن تَيْمِيَّة، حين قال: "ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير: الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية … لكان غايةً في الدلالة على عظم منزلته"1. لعلَّ في هذه الكلمة من ابن حجر - رحمه الله - ما يؤكد لنا هذه الحقيقة الظاهرة؛ إذ جعل الطالب النابغ، العالم، الفاضل منقبة من مناقب شيخه، وحسنةً من حسناته. ولقد أَثْمَرَ جُهْدُ ابن القَيِّم - رحمه الله - ونشاطُهُ المتواصل، ودعوتُهُ الصادقة، ومجالسُ درسه وتعليمه، أثمر ذلك كله جملة من خيرة طُلاَّبِ العلم، الذين انتفعوا بابن القَيِّم - كما انتفعوا بغيره - فكانوا   1 الرد الوافر: (ص146) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 مشاعلَ نورٍ، وعلماءَ صدقٍ، وذاع صِيتهُم، وارتفع شأنهم، وبقيت آثارهم بيننا خير دليل على مكانتهم العلمية، وجِدِّهم واجتهادهم، وذلك مثلماً بقيت بيننا آثار شيخهم وأستاذهم ابن القَيِّم رحمه الله. ويشير الحافظ ابن رجب - رحمه الله - إلى أخذ الكثيرين من الفضلاء العلم عن ابن القَيِّم، وتتلمذهم على يديه، وانتفاعهم به فيقول: "وأخذ عنه العلم خلق كثير من حياة شيخه، وإلى أن مات، وانتفعوا به، وكان الفضلاءُ يعظمونه ويتتلمذون له ... "1. ولم تُحَدِّثْنَا مصادر ترجمة ابن القَيِّم - رحمه الله - عن أحد من هؤلاء التلاميذ، إلا ما جاء من ذلك عرضاً، ولكن أمكن الوقوف على أبرز هؤلاء التلاميذ وأشهرهم، وذلك من خلال تتبع كتب التراجم والتواريخ المتعلقة بتلك الفترة، وأشهر هؤلاء: 1- ولده: إبراهيم بن محمد ... برهان الدين، وقد تَقَدَّمَت ترجمته وذكر أخباره2، ومضى هناك قول الذهبي رحمه الله: "قرأ الفقه والنحو على أبيه، وسمع وقرأ وتَنَبَّهَ، وسَمَّعَه أبوه من الحجَّار"3. ويتضح لنا مدى تأثر الولد التلميذ بأبيه الشيخ والأستاذ، وذلك من قول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "كان بارعاً فاضلاً في النحو، والفقه، وفنون أُخَر، على طريقة والده رحمهما الله"4.   1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . 2 انظر: (ص 95) . 3 المعجم المختص: (ص66 - 67) . 4 البداية والنهاية: (14/329) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 2- الحافظ ابن كثير: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضَوْء بن كثير، القرشيُّ، البُصْرَويّ، الدمشقيُّ، عماد الدين، أبو الفداء، الإمام، الْمُحَدِّث، المُفَسِّر، الحافظ، البارع. مولده: سنة (701هـ) . تَفَقَّه بالشيخ برهان الدين الفَزَاري وغيره، وسمع من ابن عساكر وخلق، ثم صَاهَر الحافظ الْمِزِّي، وَلَزِمَه، وتَخَرَّجَ به، وأقبلَ على حفظ المتون، ومعرفةِ الأسانيدِ والعللِ والرجال، والتاريخ، فَبَرَعَ في ذلك كله، وَأَفْتَى وَدَرَّسَ ونَاظَر. وله التصانيف المشهورة النافعة السائرة، التي منها: (البداية والنهاية) ، و (التفسير) وغير ذلك. وكانت له خصوصية بابن تَيْمِيَّة ومناضلة عنه، وكان يفتي برأيه في مسألة الطلاق، حتى إنه امتحن بسبب ذلك. توفي - رحمه الله - في شعبان سنة (774هـ) 1. قال الحافظ ابن كثير في ترجمته لابن القَيِّم: "وكنت من أصحب الناس له، وأحبِّ الناس إليه"2. ونصَّ الشيخ بكر أبو زيد على أنه من تلاميذ ابن القَيِّم3.   1 له ترجمة في: طبقات الشافعية - لابن قاضي شهبة: (3/113) ، وذيل التذكرة - للحسيني: (ص57) ، وطبقات الحفاظ - للسيوطي: (ص533) . 2 البداية والنهاية: (14/246) . 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ولم أجد نصاً صريحاً - عن ابن كثير أو غيره - يفيد تلمذته لابن القَيِّم، ولكنه كان دائماً يذكره بـ "الإمام العلامة"، ويعَبِّر عنه بـ "صاحبنا"1. فلا يبعد انتفاعه به وأخذه عنه، وهو داخل في أولئك الفضلاء الذين كانوا "يعظمونه ويتتلمذون له" كما قال ابن رجب، فهو كثير التعظيم له والثناء عليه في كل مناسبة، كما أن ابن كثير عاش بعد ابن القَيِّم - رحمهما الله - أكثر من عشرين سنة. 3- الصَّفَدِي: خليل بن أَيْبَك بن عبد الله، الصَّفَدِي، صلاح الدين، العلامة، الأديب، البارع. مولده: سنة (696هـ) . سمع الكثير، وقرأ الحديث، وأخذ عن القاضي بدر الدين بن جماعة، وابن سيد الناس، والمِزِّي وغيرهم. وحصَّل الفقه، والأدب، والنحو. وكان مليح الخطِّ، كتب بخطه الكثير. وَوَلِيَ عدة وظائف، وتصدَّى للإفادة في الجامع الأموي. وصنف المصنفات النافعة، التي منها: (الوافي بالوفيات) . توفي - رحمه الله - في شوال سنة (764هـ) 2. وقد ذكر - رحمه الله - في ترجمته لابن القَيِّم ما يفيد سماعه منه، وأخْذِه عنه؛ وذلك أنه قال في آخر الترجمة: "وأنشدني من لفظه لنفسه … "3. فذكر القصيدة الميمية في التَّضَرُّع، وقد مضى ذكر بعضها.   1 انظر: البداية والنهاية: (14/214،246) . 2 له ترجمة في: البداية والنهاية: (14/318) ، وطبقات الشافعية - لابن قاضي شهبة: (3/119) ، والدليل الشافي: (1/290) . 3 الوافي بالوفيات: (2/272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 4- ابن رجب الحنبلي: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن عبد الرحمن، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، زين الدين، أبو الفرج. مولده: سنة (736هـ) ببغداد. سمع من أبي الفتح الميدومي وغيره، وأكثر الاشتغال حتى مَهَر وبرع في الحديث والعلل وغيرهما، ولع التصانيف النافعة، التي منها: (شرح علل الترمذي) ، و (ذيل طبقات الحنابلة) وغيرهما. وكان إماماً، زاهداً، ورعاً، له مجالس التذكير المفيدة. توفي - رحمه الله - سنة (795هـ) 1. وقد نصَّ هو - رحمه الله - على تلمذته لابن القَيِّم، وأنه شيخه، فقال في مطلع ترجمته لابن القَيِّم: " ... شمس الدين، أبو عبد الله، ابن قَيِّم الجوزية، شيخنا"2. وقال - أيضاً - في أثناء هذه الترجمة: "لازَمْتُ مَجَالِسَهُ قبل موته أزيد من سنة، وسمعت عليه (قصيدته النونية) الطويلة في السُّنَّة، وأشياء من تصانيفه، وغيرها"3. 5- ولده: عبد الله بن محمد بن أبي بكر ... الذي تقدمت ترجمته، والكلام عليه4، ومضى هناك قول الحافظ ابن حجر: "اشتغل على أبيه وغيره"5.   1 له ترجمة في: (لحظ الألحاظ: (ص180) ، وذيل التذكرة - للسيوطي: (ص367) ، وذيل ابن عبد الهادي عن طبقات ابن رجب: (ص36-41) . 2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/447) . 3 المصدر السابق: (2/448) . 4 انظر: ص (93) . 5 الدرر الكامنة: (2/396) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 6- علي بن الحسين بن علي بن عبد الله، الكناني، البغدادي، المقرئ، الحنبلي، زين الدين. مولده: سنة (693هـ) . وكان رجلاً صالحاً، كثير الخير والتلاوة والذكر، حجَّ مراراً وجاور بمكة. أفاد ذلك ابن رجب في (مشيخته) . وقد ترجمه يوسف بن عبد الله في "ذيله على طبقات ابن رجب"1، وذكر أن ابن القَيِّم - رحمه الله - أجاز له. 7- السُّبكي: علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام، الأنصاري، الخزرجي، تقي الدين، أبوالحسن. مولده: سنة (683هـ) . سمع الحديث من الجمِّ الغفير، ورحل كثيراً، واشتغل، وأَفْتَى، وَصَنَّفَ، ودَرَّسَ في أماكن عديدة، وتَفَقَّهَ به جماعة من الأئمة. توفي - رحمه الله - سنة (756هـ) 2. وقد نقل الشيخ بكر أبو زيد أن الحافظ ابن حجر ذكر في "الدرر الكامنة"3: أن السبكي أخذ عن ابن القَيِّم في رحلته إلى دمشق4.   (ص57) وانظر: (الجوهر المنضد) : (ص84) . 2 له ترجمة في: ذيل التذكرة - للحسيني: (ص39) ، والبداية والنهاية: (14/264) ، وطبقات الشافعية - لابن قاضي شهبة: (3/47) . (3/134) . 4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 8- ابن عبد الهادي: محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة، المقدسي، الحنبلي، شمس الدين، أبو عبد الله. مولده: سنة (705هـ) . سمع الكثير، وتفَنَّنَ في الحديث، والنحو، والفقه، والتفسير، والأصلين، وغير ذلك، وحصَّل من العلوم ما لم يحصِّله الشيوخ الكبار. وكان حافظاً جيداً لأسماء الرجال، وطرق الحديث، عارفاً بالجرح والتعديل، بصيراً بعلل الحديث. توفي - رحمه الله - في جمادى الأولى سنة (744هـ) 1. وقد ذكر ابن رجب - رحمه الله - في ترجمته لابن القَيِّم تتلمذ ابن عبد الهادي على ابن القَيِّم، فقال: "وكان الفضلاء يعظمونه، ويتتلمذون له: كابن عبد الهادي وغيره"2. 9- محمد بن عبد القادر بن محيي الدين بن عثمان بن عبد الرحمن، الجعفري، النابلسي، الجنبلي. مولده: بنابلس سنة (727هـ) . كان فاضلاً، وله إلمام بالحديث، وكان خطه حسناً جداً، وله المصنفات المفيدة، منها: (مختصر العزلة) للخطابي.   1 له ترجمة في: ذيل التذكرة - للحسيني: (ص49) ، والبداية والنهاية: (14/221) ، وطبقات الحفاظ - للسيوطي: (ص524) . 2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 توفي - رحمه الله - سنة (797هـ) 1. قال الحافظ ابن حجر: "قال ابن الْجَزَرِي في مشيخة الْجُنيد البلياني: صحبَ ابن القَيِّم، وتَفَقَّه به، وقرأ عليه أكثر تصانيفه"2. 10- محمد بن محمد بن محمد بن الخضر بن سمرى، الشمس، الزبيري، الغزي، الشافعي. مولده: سنة (724هـ) بالقدس. دخل دمشق "فأخذ بها عن: ابن كثير، والتَّقِىِّ السبكي، وابن القَيِّم وغيرهم"3. توفي - رحمه الله - سنة (808هـ) . 11- المقري: محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر، القرشي، الْمُقْرِي، التلمساني. المتوفى سنة (759هـ) . ذكره الشيخ بكر أبو زيد في تلاميذ ابن القَيِّم، ونقل عن صاحب (نفح الطيب) 4 - وهو حفيد المقري المذكور - أنه حكى عن جده قوله: "ثم أخذتُ على الشام، فلقيت بدمشق: شمس الدين بن قَيِّم الجوزية، صاحب الفقيه ابن تَيْمِيَّة" وأنه سمع منه شيئاً5.   1 له ترجمة في: الدرر الكامنة: (4/138 - 139) ، والشذرات: (6/349) . 2 الدرر الكامنة: (4/139) . وانظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص109) . 3 البدر الطالع: (2/254) . وانظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص110) . (5/254) . 5 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص110-111) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 12- الفيروزابادي: محمد بن يعقوب بن محمد، أبو الطاهر، الفيروزابادي، الشافعي، مجد الدين. مولده: سنة (729هـ) بشيراز. تفقَّهَ ببلاده، وطَلَب الحديث، وسمع من الشيوخ، ومَهَر في اللغة وهو شاب، ورحل كثيراً في سماع الحديث إلى: الشام، ومصر، ومكة. وكان كثيرَ الكتبِ لا يسافر إلا بها. وله التصانيف النافعة السائرة، التي منها: (القاموس المحيط) وغيره. توفي - رحمه الله - سنة (817هـ) 1. وقد ذكره الشيخ بكر أبو زيد ضمن تلاميذ ابن القَيِّم، ونقل عن الشوكاني قوله: "ارتحل إلى دمشق سنة 755هـ، فسمع من: التقي السبكي وجماعة، زيادة على مائة، كابن القَيِّم وطبقته"2. وهذه العبارة لا تخلو من إشكال؛ إذ إن وفاة ابن القَيِّم - رحمه الله - كانت سنة 751هـ، وعلى هذا فإن دخول الفيروزابادي دمشق يكون بعد وفاته!. ثم نظرت ترجمة الفيروزابادي عند غير الشوكاني، فوجدت عبارة ابن حجر في (إنباء الغمر) 3: " … ودخل الديار الشامية بعد الخمسين … ". ثم قال بعد ذلك: "سمع الشيخ مجد الدين من ابن الخَبَّاز،   1 له ترجمة في: إنباء الغمر: (7/159) ، وطبقات الشافعية –لابن قاضي شهبة: (4/79) ، والضوء اللامع: (10/79) ، وبغية الوعاة: (1/273) ، والبدر الطالع: (2/280) . 2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص110) . وانظر: البدر الطالع: (2/280) . (7/160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وابن القَيِّم، وابن الحموي … وغيرهم بدمشق في سنة نيف وخمسين"1. وقال ابن قاضي شُهبة: "وقدم الشام بعد الخمسين - إما سنة خمس، أو في السنة التي بعدها - وسمع بها الحديث"2. وجزم السخاوي بأن دخوله كان سنة (755هـ) 3. وعند النظر إلى هذه الأقوال، نلاحظ اتفاقاً على أن دخوله إلى دمشق كان بعد الخمسين، إلا أنه لم يقع الجزم بسنة دخوله تحديداً، يتضح ذلك من قول ابن حجر: " … سنة نيف وخمسين"، وترددِ ابن قاضي شهبة بين (755) و (756هـ) كما مضى، إلا أن الذين نصّوا على سنة الدخول جعلوها سنة 755هـ، وحتى ابن قاضي شُهبة - مع تردده - لم يجعلها دون ذلك. فلم يبق إلا كلمة الحافظ ابن حجر رحمه الله، فلو اعتبرنا أن (النَّيِّف) من واحدة إلا ثلاث على التحقيق4، لاحتمل إدراكه لابن القَيِّم سنة وفاته وهي (751هـ) . بقي أمرٌ آخر يلزم التنبيه عليه، وهو أن الشيخ بكر أبا زيد - حفظه الله - قد ذكر الحافظ الذهبي ضمن تلاميذ ابن القَيِّم، ثم قال: "ترجم لابن القَيِّم في كتابه (المعجم المختص) لشيوخه، ومن هنا حَصَلتْ الاستفادة بأنه من شيوخه، وهو بَلَدِيُّه، والله أعلم"5.   1 إنباء الغمر: (7/162) . 2 طبقات الشافعية: (4/80) . 3 الضوء اللامع: (10/80) . 4 انظر: لسان العرب: (ص4580) مادة: نوف. 5 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص109) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وأكد الشيخ ذلك في مواضع عديدة من كتابه1، واستبعد - بحسب حكمه هذا - أن يكون الذهبي شيخاً لابن القَيِّم، كما مضى مناقشة ذلك. ولم أر - بعد البحث والنظر - دليلاً صريحاً يفيد تلمذة الذهبي لابن القَيِّم، بل إن الأدلة تؤيد كون ابن القَيِّم تلميذاً للذهبي كما مضى2. أما الذهبي، فلم يرد عنه ما يفيد أخْذه عن ابن القَيِّم أو استفادته منه، وعادته في (المعجم المختص) وغيره: أن يشير في ترجمة الشيخ إلى أنه قد سمع منه أو أخذ شيئاً عنه، حتى ولو كان من تلاميذه، ولكنه في ترجمة ابن القَيِّم، نجده يقول: "سمع معي من جماعة"3. وأما اعتماد الشيخ بكر أبي زيد على كون الذهبي قد ترجم ابن القَيِّم في (المعجم المختص) ، وأنه خاص بشيوخه: ففيه نظر؛ إذ إنه لم يقل أحدٌ بذلك، بل قال الذهبي نفسه في مقدمته: " … فهذا معجمٌ مختصٌّ بذكر من جالسته من المُحَدِّثين، أو أجاز لي مروياته من طلبة الحديث". وقال في (التذكرة) 4: "وقد أَلَّفت معجماً لي، يختص بمن طلب هذا الشأن - يعني الحديث - من شيوخي ورفاقي، فاستوعبت من له أدنى عمل".   1 انظر منها: (ص 39، 40، 178) . 2 انظر: ص (153 - 157) . 3 المعجم المختص: (ص269) . (4/1500) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ومن هذا يتبين: أن هذا المعجم ليس خاصاً بشيوخ الذهبي وحدهم، بل أدخل فيه كل من عُرِفَ بطلب الحديث والعناية به، وهو الواضح من عنوانه: (المعجم المختص بالمحدثين) . وأكد هذا المعنى الدكتور بشار عواد في دراسته القيمة للحافظ الذهبي، فقال: "وهذا الكتاب ليس معجماً لشيوخ الذهبي، بل هو معجم مختصٌّ لطلبة العلم في عصره، فقد ذكر الذهبي فيه حتى صغار الطلبة آنذاك"1. ثم إن ابن القَيِّم لو كان شيخاً للذهبي، لأدخله في (معجم شيوخه) ، الذي ترجم فيه لما يزيد على ألف شيخ، ومنهم من هو دون ابن القَيِّم. فالذي أراه - والله أعلم - أنه لا يُحْكَم بتلمذة الذهبي لابن القَيِّم لمجرد إدخاله إياه في (المعجم المختص) ، فإن وُجِدَ دليل أصرح من ذلك، وإلا فالأمر محل توقف.   1 الذهبي ومنهجه في كتابة تاريخ الإسلام: (ص186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الفصل الرابع: مؤلفات ابن القيم المبحث الأول: منهج ابن القيم في التأليف وخصائص مؤلفاته. ... تمهيد: إن الحديث عن مؤلفات ابن القَيِّم يمس أهم جانب من جوانب النشاط العلمي في حياة هذا الإمام العالم العلامة، وذلك لما تَمَيَّزَت به مؤلفاتهُ من جوانب كثيرة مشرقة، فقد كان له فيها "من حُسْنِ التَّصَرُّفِ، مع العُذُوبَةِ الزَّائِدَة، وحُسْنِ السِّيَاق، ما لا يَقْدِرُ عليه غَالِبُ الْمُصَنِّفِيْنَ، بحيث تَعْشَقُ الأفهامُ كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتُحِبُّهُ القلوب"1. هذا إلى جانب الأهمية البالغة للموضوعات التي تناولها -رحمه الله- في مؤلفاته: من ترقيق للقلوب، ودعوة للعودة إلى صراط الله المستقيم ودينه الخالص، إلى غير ذلك من أهدافه السامية النبيلة التي احتوت عليها كُتُبُه. ولأجل ذلك كله، كتب الله لمؤلفاته الذُّيُوعَ والانتشارَ، في سائر الأمصار والأقطار، واستمرار ذلك على مدى السنين والأعصار، مع محبة القلوب لها، وعِشْقِها لمطالعتها، بحيث لا ينفر منها إلا مقلد عصبي، أو مُبْتَدِع خُرَافِيٌّ. ولعل خير ما يدل على مكانة مؤلفاته رحمه الله، ويؤكد أهميتها وانتشارها وكثرتها: تلك الشهادات التي سُجِّلَت بأقلام مترجميه، من معاصريه فمن بعدهم إلى أيامنا هذه، فمن تلك الأقوال: 1- قال أبو المحاسن الدمشقي: "ومصنفاته سائرة مشهورة"2.   1 البدر الطالع: (2/144) . 2 ذيل العبر: (ص155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 2- وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وله من التصانيف - الكبار والصغار - شيءٌ كثير"1. وقال عند ترجمته لوالده: "وهو والد العلامة شمس الدين صاحب المصنفات الكثيرة النافعة الكافية"2. 3- وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وصنف تصانيف كثيرة جداً في أنواع العلم"3. 4- وقال زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي (ت835هـ) في تقريظه لكتاب (الرد الوافر) : "ابن قَيِّم الجوزية الذي سارت تصانيفه في الآفاق"4. 5- وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: "له التصانيفُ الأنيقةُ، والتآليفُ التي في علوم الشريعة والحقيقة"5. 6- وقال المقريزي: " ... وتصانيفه كثيرة"6. 7- وقال الحافظ ابن حجر: "وكلُّ تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف"7. وقال - أيضاً - في تقريظه لكتاب (الرد الوافر) : "صاحب التصانيف النافعة السائرة، التي انتفع بها الموافق والمخالف"8.   1 البداية والنهاية: (14/246) . 2 البداية والنهاية: (14/114) . 3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . 4 الرد الوافر: (ص152) . 5 الرد الوافر: (ص68) . 6 السلوك: (2/3/834) . 7 الدرر الكامنة: (4/22) . 8 الرد الوافر: (ص146) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 8- وقال السخاوي: " ... صاحب التصانيف السائرة"1. 9- ووصف الشوكاني مصنفاته بأنها: "التصانيف الحسنة المقبولة"2. 10- وقال الشطي: "صاحب التصانيف العديدة المشهورة شرقاً وغرباً، والتآليف المفيدة المقبولة عجماً وعرباً"3. 11- وقال الشيخ محمد بهجة البيطار: "صاحب الآثار الكثيرة الْمُحَرَّرَة"4. تلك بعض أقوال الأئمة في الثناء على مصنفات ابن القَيِّم رحمه الله، والإشادة بها، وبيان عِظَمِ شأنها وكبير فائدتها.   1 التاج المكلل: (ص419) . 2 البدر الطالع: (2/143) . 3 مختصر طبقات الحنابلة: (ص61) . 4 حياة شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة: (ص31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 المبحث الأول: منهجُ ابن القَيِّم في التأليف، وخصائص مُؤَلَّفَاتِهِ إن هذه الشهرة التي حققتها مصنفات ابن القَيِّم - بموجب شهادات أهل العلم التي سبق ذكرها- وهذه المكانة المرموقة التي تبوأتها، وهذا الثناء العاطر الذي نَالَتْهُ من الموافق والمخالف على السواء، إن ذلك كله لم يأت عفواً، وإنما كان نتيجة لخصائص وميزات اتسم بها منهجه - رحمه الله - في هذه المؤلفات، وجهدٍ جادٍّ مخلص في سبيل تحبيرها، وعناية فائقة في تحريرها. ومن هذه الخصائص التي ظهرت لي ولم أقف على من نبّه على الكثير منها: أولاً: التَّعَدُّدُ والتنوع الموضوعي في مؤلفاته: لقد سبق الكلام على تضَلُّع ابن القَيِّم - رحمه الله - في فنون عديدة، وإتقانه علوم كثيرة، بحيث يصعبُ على الدارس أن يَحْكَمَ بتفوقه في جانب من العلوم دون بقيتها، فقد شُهِد له بالإمامة في كلِّ فنٍّ من هذه الفنون1. ولعلَّ هذا الشمول الذي تَمَيَّزَ به ابن القَيِّم في معارفه قد ظَهَرَ جَلِيًّا في المنهج التأليفي عنده، ولذلك فقد عَالَجَتْ مؤلفاته فنون متعددة، وعلوم كثيرة: من فقه، وتفسير، وتوحيد، ولغة، وغير ذلك، فلم يكن نشاطُهُ التأليفي قاصراً على فن واحد.   1 انظر: ما تقدم في ص: (137 - 141) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ثم إن هذا التعدد في الموضوعات والفنون عند ابن القَيِّم ربما كان سمة مُمَيَّزَةً للكتاب الواحد من كتبه، فكتاب (زاد المعاد) - على سبيل المثال - يعد موسوعة شاملة لفنون عديدة: من سيرة، وفقه، وحديث، وغير ذلك. ومع ذلك، فإن الغالب على المصنف الواحد من مصنفات ابن القَيِّم رحمه الله: اتصافه بالوحدة الموضوعية، فنجد كتاب: (الصلاة) ، و (الروح) ، و (حادي الرواح) ، و (الطرق الحكمية) ، و (الصواعق المرسلة) وغيرها، نجدها يعالج كل منها موضوعاً واحداً، وقد يَرِدُ في أثناء الكتاب كلام خارجٌ عن الموضوع، فيكون ذلك من باب الاستطراد الذي يقتضيه المقام. ثانياً: أهميَّةُ الموضوعات التي تَنَاوَلَهَا ابنُ القَيِّم بالتأليفِ، وَعِظَمُ قيمَتِهَا. وقد كان ذلك نتيجةً حتميةً للأهداف التي نَذَر ابن القَيِّم نفسه لتحقيقها، والأوضاع التي عاش مجاهداً لتصحيح الخاطئ منها، فجاءت مؤلفاته - لأجل هذه الأهمية - لا غنى لطالب الحق عنها، ولا مناص للقلوب السليمة من مَحَبَّتِهَا. فجاء كتابُهُ: (الصَّواعِقُ الْمُرْسَلة) ، وكذا (اجتماع الجيوش الإسلامية) لتفنيد كثير من العقائد المنحرفة والمذاهب الفاسدة، وبيانِ المنهجِ الصحيح الذي كان عليه سلفُ هذه الأمة في باب العقائد. وجاء كتابه: (حادي الأرواح) واصفاً الجنة التي أعدها الله لعباده المتقين، مُشَوِّقاً لقارئه إلى السعي بجدٍّ لنيلها، والاجتهاد ليكون من أهلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وجاء كتاب: (الوابل الصيب) ليضع منهجاً متكاملاً للذكر والدعاء في حياة المسلم، الذي به حياة القلوب، وراحة النفوس. وجاء كتابه: (الطُّرقُ الْحُكْمِيَّة) يُمَثِّلُ منهجاً فريداً للقاضي والحاكم فيما ينبغي مراعاته عند الحكم من القرائن والأَمَارَاتِ، وما يتعلق بذلك من الفِرَاسَة المَرْضِيَّة. وهكذا بقية كتبه ومؤلفاته، ما منها كتابٌ إلا وهو يتناول من الموضوعات الْمُهِمَّة ما يحصل به سعادة العبد في دنياه وأُخْرَاه. ثالثاً: وجود علاقة وثيقة بين الموضوعات التي تناولها بالتأليف، وبين أوضاع مجتمعه ومشاكل عصره. فقد عاش ابن القَيِّم - كما مضى بيانه - متأثراً بأحداث عصره ومتيقظاً لواجبه تجاهها، ومن ثَمَّ جاءت أكثر مؤلفاته تعالج تلك المشاكل، وتضع الحلول لكثير من الأدواء الْمُسْتَحْكِمَة في المجتمع. فلم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - وهو يُصَنِّفُ كُتُبَهُ يعيش بِمَعْزِلٍ عن أوضاع مجتمعه وقضاياه المهمة، مما جعل لكتبه أهمية خاصة بالنسبة لكثير من الناس. رابعاً: اعتماده في الاستدلال لمسائله وقضاياه على الأدلة النَّقْلِيَّة من الكتاب والسنة. فقد كان - رحمه الله - مُلْتَزماً ذلك في كل كتاباته، يستدل للمسألة التي يوردها من كتاب الله العزيز، ونصوص الحديث النبوي الصحيح، الذي "لا سبيل إلى مقابلته إلا بالسمع والطاعة، والإذعان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 والقبول، وليس لنا بعده الخيرة، وكل الخيرة في التسليم له والقول به، ولو خالفه مَنْ بَيْنَ المشرق والمغرب"1. وقد مضى ذكر طرف من أقواله في وجوب اتباع نصوص الكتاب والسنة، والتحاكم إليهما دون ما سواهما2. خامساً: الاعتماد في الاستدلال على العقل الصريح إلى جانب النقل الصحيح. فمع اعتماده - رحمه الله - في المقام الأول على نصوص الكتاب والسنة، فإنه لم ير مانعاً من الاعتماد على العقل الصحيح السوي، فإنه يرى "أن ما عُلِم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء، لا يُتَصور أن يعارضه الشرع البتة، ولا يأتي بخلافه"3. ولذلك فإنه كثيراً ما يؤكد ضرورة الاستدلال بالعقل السويّ إلى جانب النقل، فيقول عند الاستدلال على أن الروح قائمة بذاتها: "ولا يمكن جواب هذه المسألة إلى على أصول أهل السنة، التي تظاهرت عليها أدلة القرآن، والسنة، والآثار، والاعتبار، والعقل"4. وقال جواباً عن شُبَه القائلين بنفي الحكمة والتعليل: "الجواب الثاني عشر: أن يقال: العقل الصريح يقضي بأن من لا حِكْمَةَ لفعله، ولا غاية يَقْصِدُهَا به أَوْلَى بالنقصِ ... "5.   1 الروح: (ص183) . 2 انظر ص: (115) . 3 الصواعق المرسلة: (3/829) . 4 الروح: (ص50 - 51) . 5 شفاء العليل: (ص351) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 سادساً: التَّدَرُّجَ في سِيَاقِ الأدلَّةِ النقلية، وتَرْتِيبُهَا حَسْبَ مَكَانَتِهَا وَأَهَمِّيَتِهَا: فنجده - رحمه الله - في كثير من كتبه: يبدأ في الاستدلال للمسألة بسياق نصوص القرآن، ثم يُتْبِعها بنصوص السنة، ثم أقوال الصحابة، وهكذا. ولعل أبرز مثالٍ على تطبيقه لهذا المنهج هو كتابه: (اجتماع الجيوش الإسلامية) ؛ فقد بناه كله على هذه الطريقة، فأخذ في الاستدلال على استواء الله سبحانه: - بنصوص القرآن أولاً. - ثم بالأحاديث الصحيحة الثابتة. - ثم بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم. - ثم بأقوال التابعين. - ثم بأقوال أتباع التابعين، إلى الأئمة الأربعة فمن بعدهم. سابعاً: التَّحَرُّرُ في تَآلِيفِهِ مِن التَّبَعِيَّةِ لِمَذْهَبٍ أو رأيٍ مُعَيَّنٍ يخالفُ الكتاب والسنة. ولعلَّ فيما تقدم من كلام على شدة تمسكه بالدليل، والدعوة إلى الاحتكام إليه دون غيره ما يؤكد هذا المعنى. فابن القَيِّم وإن دَرَسَ المذهب الحنبلي وبَرَعَ فيه، إلا أنه لم يكن بالذي يَتَقَيَّدُ بمذهب إمامه على حساب الدليل، كيف وقد كان حَرْبَاً على التقليد والتعصب المذهبي؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وقد أحسن الإمام الشوكاني - رحمه الله - وصفه بقوله: "وليس له على غير الدليل مُعَوَّلٌ في الغالب، وقد يميل نادراً إلى مذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يَتَجَاسَر على الدفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة، كما يفعله غيره من الْمُتَمَذْهِبِيْنَ، بل لا بد له من مستند في ذلك، وغالب أبحاثه الإنصاف، والميل مع الدليل حيث مال، وعدم التعويل على القيل والقال"1. ولقد حَذَّرَ هو - رحمه الله - من خطورة الفتوى وفق مذهب يعلم المفتي أن دليل غيره أرجح من مذهبه الذي أفتى به، وَعَدَّ ذلك خيانة لله ورسوله، وغِشَّاً في الدين، فقال - رحمه الله - عند ذكره فوائد وإرشادات للمفتين: "ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه: أن يُفتي السائل بمذهبه الذي يُقَلِّدُه، وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلاً ... فيكون خائناً لله ورسوله وللسائل، وغاشاً له". ثم يؤكد - رحمه الله - هذا المعنى مبيناً التزامه ذلك في نفسه، فيقول: "وكثيراً ما تَرِدُ المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده، فنحكي المذهب الراجح ونرجحه، ونقول: هذا هو الصواب، وهو أولى أن يُؤْخَذَ به"2. ومن تَصَفَّحَ كتب ابن القَيِّم وَجَدَ له جملةً من الاختيارات على غير مذهب الحنابلة، ومناقشته له في بعض القضايا، مُرَجِّحَاً غيره عليه بالدليل.   1 البدر الطالع: (2/144 - 145) . 2 إعلام الموقعين: (4/177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ثامناً: طولُ النَّفَسِ فيما يكتب، والتَّوَسُّعُ في استقصاء جوانب البحث واستيفاء مقاصده. وهذه السِّمَة من أهمِّ ما يلفت النظر ويسترعي الانتباه في مؤلفات ابن القَيِّم، وذلك من تمام نصحه، وكمال حرصه على تبليغ الخير ما استطاع، فَيُبَالِغُ في البسط والبيان، وهو دالٌّ في الوقت نفسه على ما تقدم بيانه: من طول باعه في العلم، ورسوخ قدمه فيه، وعمق معرفته، وصبره في سبيل إيصال الفكرة، وتثبيت الحجة، وإقرار الصواب والحق. ويُصَوِّرُ الحافظ ابن حجر هذه الميزة في مؤلفات ابن القَيِّم، فيقول: "وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يَتَعَانَى الإيضاح جُهْدَهُ، ويسهب جداً"1. وقال الإمام الشوكاني واصفاً ذلك: "وإذا استوعب الكلام في بحثٍ وَطَوَّلَ ذُيَولهُ أتى بما لم يأت به غيره"2. ولنذكر مثالاً على ذلك: عند سياقه - رحمه الله - حَجَّة النبي صلى الله عليه وسلم، تكلم على صفة إحرامه صلى الله عليه وسلم، واختار القول بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارناً، وأخذ في تقرير ذلك، وسياق الأدلة عليه، والرد على المخالفين وتفنيد حججهم، فاستغرق ذلك أربعين صفحة، ثم قال: "ولنرجع إلى سياق حجته صلى الله عليه وسلم ... "3.   1 الدرر الكامنة: (4/22) . 2 البدر الطالع: (2/145) . 3 زاد المعاد: (2/107 - 158) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ولا أجدني محتاجاً إلى إيراد المزيد من الأمثلة في هذا الصدد؛ فإن ذلك كثير في مؤلفاته رحمه الله لا يكاد ينحصر. تاسعاً: حُسْنُ الترتيبِ والتبويبِ والعَرْضِ للمعلومات التي يُضَمِّنُهَا كتبه وتواليفه: تمتازُ مصنفاتُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في الكثير الغالبِ - بحسن الترتيبِ والتقسيمِ للمادة التي تحتويها، الأمر الذي يجعلُ لمؤلفاته جَاذِبِيَّةً خاصةً، يشعر بها القارئ وهو يتنقل من باب إلى باب، ومن فصل إلى فصل. وليُنظَرْ على سبيل المثال: كتابه (حادي الأرواح) ، فقد قسمه إلى سبعين باباً، مرتباً إياها ترتيباً بديعاً، مع الترابط والتجانس بينها، بحيث يُسْلِمُكَ كل باب إلى الذي بعده في تسلسل ممتع، هذا عدا الفصول التي تشتمل عليها بعض الأبواب. عاشراً: حلاوةُ الأسلوبِ، وجمالُ العبارةِ، وعذوبةُ الْمَنْطِقِ، وحسنُ البيان. وهذه ميزة أخرى تُزَيِّن مؤلفات ابن القَيِّم، فتُبْهرُ العقول، وتأخذ بمجامع القلوب. ولعل ذلك هو ما عبَّر عنه الشوكاني - رحمه الله - بقوله: "وله من حسن التصرفِ، مع العذوبةِ الزائدة، وحسن السياق، ما لا يقدر عليه غالبُ الْمُصنِّفِين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب"1.   1 البدر الطالع: (2/144) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وهذا الجمال الأخَّاذُ، وتلك العذوبة الزائدة إذا اجتمع إليهما: عُمْقُ الفكرة، ونبلُ الهدف، وصدق الرغبة في إيصال الخير للخلق، عُرِفَ سر هذا الْحُبِّ الْمُتَمَكِّنِ من القلوب لمؤلفاته رحمه الله. حادي عشر: الاعتماد كثيراً على الأحداث والوقائع التاريخية، مع قوة الاستحضار لها، وبراعة الاستشهاد بها. فلم يكن ابن القَيِّم - وهو يكتب - بمعزل عن وقائع التاريخ الإسلامي وأحداثه، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومَنْ بَعْدَهُم، بل كان يستحضر من ذلك الشيء الكثير، ويحشد منها القدر الكبير، تأييداً لفكرة، أو تأكيداً لمعنى يريد تقريره. تكلم مرة عن الشجاعة، والفرق بينها وبين القوة، وأن الشجاعة: ثبات القلب عند النوازل، وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أشجع الأمة - بهذا المفهوم - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال - رحمه الله - في بيان ذلك: "ولو لم يكن إلا ثباتُ قَلْبِهِ يومَ الغار وليلتِهِ، وثباتُ قلبه يوم بدر وهو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله كَفَاكَ مُنَاشَدَتُك ربك، فإنه منجز لك ما وَعَدَك، وثباتُ قلبه يوم أحد وقد صَرَخَ الشيطان في الناس بأن محمداً قد قُتِلَ ... وثبات قلبه يوم الحديبية وقد قَلِقَ فارس الإسلام عمر بن الخطاب حتى إن الصديق لَيُثَبِّتُهُ، وَيُسَكِّنُهُ، وَيُطَيِّبُهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وثبات قلبه يوم حنين حين فرَّ الناس وهو لم يفر، وثبات قلبه حين النازلة التي اهتزت لها الدنيا أجمع، وكادت تزلزل لها الجبال، وعقرت لها أقدام الأبطال ... وخرج الناس بها من دين الله أفواجاً ... وطمع عدو الله أن يعيد الناس إلى عبادة الأصنام ... فَشَمَّرَ الصديق رضي الله عنه من جده عن ساق غير خَوَّار ... فَثَبَّتَ الله بذلك القلب - الذي لو وُزِنَ بِقُلوب الأمة لرجحها - جيوش الإسلام، وَأَذَلَّ بها المنافقين والمرتدين"1. والأمثلة على استشهاده بالوقائع والحوادث الماضية - بهذا التسلسل الشيق، والعرض الممتع - كثيرة جداً بين ثنايا كتبه. ثاني عشر: الاستعانةُ بالتجاربِ الخاصَّةِ، والخبرةِ الشخصية في دَعْمِ أَفْكَارِهِ، وتأييدِ آرائِهِ. فقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - كثيراً ما يُسَجِّلُ تجاربه الخاصة وخبرته الشخصية في أثناء كتاباته، وذلك تأييداً لفكرة ما، وزيادة في إيضاحها، وتوفيراً لأكبر قَدْرٍ من اليقين لناظِرِهَا ومُطَالِعِهَا. يقول - رحمه الله - عند كلامه على تَمَكُّنِ الأرواح الشيطانية من الأجسام في حالات معينة، وأنها تُدفَع بالأذكار، والأدعية، والابتهال الذي يستجلب من الأرواح الْمَلَكِيَّةِ مَا تَقْهَرُ به هذه الأرواح الخبيثة، قال: "وقد جَرَّبْنا نحن وغيرنا هذا مراراً لا يحصيها إلا الله، ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قُرْبِهَا تأثيراً عظيماً ... "2.   1 الفروسية: (ص129) . 2 زاد المعاد: (4/40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وقال عند كلامه على الاستشفاء بماء زمزم: "وقد جَرَّبْتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمرض، فبرأتُ بإذن الله"1. ثالث عشر: التَّواضُعُ الجَمُّ، وهضمُ الذَّاتِ، وإسنادُ ما يُفْتَحُ به عليه من فوائد إلى فضلِ الله وتوفيقه وتأييده. وقد مضى ذكر شيء من الأمثلة لذلك عند الكلام على أخلاقه2، ويُلاحِظُ ذلك كل من يطالع كتبه. رابع عشر: تَحَرِّي الدِّقَّةِ في النقل عن الآخرين، وبخاصة ما كان من ذلك مشافهة. فنجده - رحمه الله - يحرص على توثيق هذا النقل بما لا يدع في نفس القارئ أدنى شك في صدق ناقله. فيقول مرة: "ولقد أخبر بعض الصادقين ... "3. وقال في مناسبة أخرى: "وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن مساب السلاهي - وكان من خيار عبادالله، وكان يَتَحَرَّى الصدق - قال ... "4.   1 زاد المعاد: (4/393) . 2 انظر ص: (102) . 3 الروح: (ص88) . 4 الروح: (ص92) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 خامس عشر: الحرصُ على تحرِيرِ القول في المسائلِ المختلف فيها، وبيان الراجحِ من ذلك. فقد جرت عادة ابن القَيِّم - رحمه الله - في أكثر مؤلفاته: أن يَعْرِضَ آراءَ كلِّ فريقٍ في المسائل الْمُخْتَلفِ فيها، مع ذكر أدلة كل فريق، وتحليل ذلك كله ومناقشته، وبيان الراجح من المرجوح، والصواب من الخطأ. ويكون ترجيحه - رحمه الله - لما تدعمه الأدلة، وتؤيده البراهين. يقول - رحمه الله - في مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تكون كالصلاة على إبراهيم عليه السلام1، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم؟ قال: "ونحن نذكر ما قاله الناس في هذا، وما فيه من صحيح وفاسد"2. ويقول في مسألة الهوي إلى السجود - بعد أن ذكر أقوال الفريقين وأدلتهم -: "والراجح البداءة بالركبتين لوجوه ... "3. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً. سادس عشر: التَّلَطُّفُ مع الْخَصْمِ، والحرصُ على إيصالِ الخير إليه، وحصولُ الهدايةِ والانتفاعِ له. فقد عُلِمَ كثرة الخصوم ابن القَيِّم - رحمه الله - من أعداء السنة، والحاقدين على أهلها، ومع ذلك فإن ابن القَيِّم كان حريصاً في كتاباته   1 يعني في قولنا: " ... كما صليت على إبراهيم". 2 جلاء الأفهام: (ص150) . 3 تهذيب السنن: (1/400) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 على الأخذ بيد الضال منهم، وإرشاده إلى الطريق القويم والصراط المستقيم. ويَوَضِّحُ - رحمه الله - هذا الحرص في مقدمة كتابه (شفاء العليل) 1 فيقول: "فيا أيها المتأمل له، الواقف عليه: لك غُنْمُه وعلى مؤلفه غُرْمُه، ولك فائدته، وعليه عائدته، فلا تَعْجَل بإنكارِ ما لم يَتَقَدَّم لك أسبابُ معرفَتِهِ، ولا يَحْمِلَنَّكَ شنآنُ مؤلِفِهِ وأصحابه على أن تُحْرَمَ ما فيه من الفوائد التي لعلك لا تَظْفَرُ بها في كتاب، ولعلَّ أكبر من تُعَظِّمُهُ ماتوا بحسرتها، ولم يصلوا إلى معرفتها". فانظر إلى حرصه - رحمه الله - على إيصال نور الهداية إلى مَبْغِضِه وإلى كل من لعله في نفسه شيء عليه. ومن هذا أيضاً: ما تَقَدَّمَت الإشارة إليه من مناظراته لبعض أهل الكتاب، وما كان من دعوتهم في آخر هذه المناظرات إلى الدخول في الإسلام، دين الهداية والرشاد. سابع عشر: دِقَّتُهُ - رحمه الله - في اختيار الأسماء والعناوين لكتبه، ومراعاة التطابق بين الاسم والمضمون. وهذا يلاحظه كل من نظر كتبه وتأملها، وطابق بين اسمها وما بداخلها، مع تَفَنُّنِهِ - رحمه الله - في اقتناء هذه الأسماء: قوةً ورقةً، ترهيباً وترغيباً إلى غير ذلك.   (ص: 9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فنجده يختار اسماً رقيقاً جميلاً عندما يريد الكلامَ عن الجنة ونعيمها، والترغيب فيها، وإثارة الشوق إليها، وشحذ الهمم للاستعداد لها، فيقول: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) . وقد نصَّ - رحمه الله - على مطابقة اسمه لمضمونه، فقال في مقدمته: "وسميته: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، فإنه اسم يطابق مُسَمَّاه، ولفظٌ وافق معناه"1. وقريب من ذلك: (روضة المحبين) . بينما نجد لَهْجَتَهُ تشتدُّ - وقد أعلنَ الحربَ على أتباع الفلاسِفَةِ والْمُتَكَلِّمِينَ، من أهلِ التأويل والتعطيل - فيختارُ لذلك عنواناً قوياً مُدَوِّيَاً، يُوحي بتوجيه ضربات موجعة إلى أعداء عقيدة السلف، فيقول: (الصَّواعِقُ الْمُرْسَلَة على الْجَهْمِيَّةِ والْمُعَطِّلَةِ) ، ويقول أيضاً: (اجتماعُ الجيوش الإسلامية على غزوِ المعطلة والجهمية) . وهكذا نجد هذا التناسب بين الاسم والْمُسَمَّى هو الغالب على سائر كتبه، مع الجمال والبلاغة في غالب هذه الأسماء. ثامن عشر: وقوعُ التِّكْرار في مؤلفاته. يلاحظ الناظر في كتب ابن القَيِّم - رحمه الله - تكرار الكلام على الموضوع الواحد في أكثر من كتاب من كتبه، وقد يكون تكرار ذلك بلفظه وحروفه، وقد يكون بالمعنى دون الاتفاق في اللفظ والعبارة. وستأتي عند دراسة الأحاديث التي تكلم عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - أمثلة لذلك، فكان يُكَرِّرُ الكلام على الحديث في مناسبات   1 حادي الأرواح: (ص30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 عديدة1، وكذا كان شأنه في كثير من القضايا الفقهية، والتفسيرية وغير ذلك. يقول الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: "انتقد بعض الكاتبين ظاهرة التكرار في مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله تعالى ... ولكن عند الفحص الدقيق والنظر العميق يتبين للناظر أن هذا ليس من مواضع النقد ولا من مواطن العتب، بل هي ميزة هامة وظاهرة محمودة"2. ثم ذكر - حفظه الله - قضية التكرار في الكتاب والسنة ومؤلفات سلف الأمة، وَحِكَمَ ذَلِكَ وَأَسْرَارَهُ وفوائِدَهُ. وابن القَيِّم - رحمه الله - يلجأ للتكرار لأسباب عديدة وفوائد كثيرة، وعلى رأس هذه الأسباب وتلك الفوائد ما يلي: 1- خطورة الموضوع الذي يتناوله ابن القَيِّم، وأهميته البالغة، فتجده يكرر الكلام فيه كلما وجد لذلك مناسبة، ومن أمثلة القضايا التي كرر الكلام فيها لشعوره بأهميتها وعظيم خطرها: - قضية تحريم سماع الغناء وأضرار هذا المرض الشيطاني3. - قضية الطلاق الثلاث بلفظ واحد4.   1 انظر على سبيل الله المثال الأحاديث رقم: (45، 81، 84، 86، 89، 90، 100، 138، 145، 150) . 2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص122 - 123) . 3 انظر: إغاثة اللهفان: (1/224 - 268) ، وتهذيب السنن: (5/270 - 272) ، وروضة المحبين: (147 - 148) ، وكتابه المفرد في هذا الموضوع: (الكلام على مسألة السماع) . 4 انظر: زاد المعاد: (5/247 - 271) ، وإغاثة اللهفان: (1/283 - 329) ، وتهذيب السنن: (3/128 - 129) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 - الحِيَل وأحكامها، وبيان الِمُحَرَّم منها1. إلى غير ذلك من القضايا التي كررها لأهميتها، وشدة الحاجة إليها. 2- وقد يقع التكرار منه استطراداً لفائدة عارضة؛ فقد كان الاستطراد من عادته رحمه الله، فَرُبَّمَا دَخَلَ في موضوع آخر غير موضوع البحث وتوسَّعَ في الكلام عليه جوداً منه بالعلم، وحرصاً على عدم تضييع الفائدة على القارئ والمتعلم. 3- وقد تدعوه الحاجة إلى ذكر موضوع كان قد ذكره في موضع آخر، فيُكَرِّرُهُ على سبيل الاختصار لِمَا أَفَاضَ فيه في ذلك الموضع، فنجده مرة يقول في كتابه (بدائع الفوائد) 2 في مبحث له في الحب: "ولنقطع الكلام في هذه المسألة، فمن لم يشبع من هذه الكلمات، ففي كتاب (التحفة الْمَكِّيَّة) أضعاف ذلك". ويقول - أيضاً - عند كلامه على الكيمياء في كتابه (مفتاح دار السعادة) 3: "وقد ذَكَرْنَا بُطْلانَهَا وبيان فسادها من أربعين وجهاً في رسالة مفردة". تلك أبرز العوامل التي قد تَحْمِلُه - رحمه الله - على التكرار لبعض الفوائد والمباحث، ولا شكَّ أن في ذلك التكرار - بهذه الصفة -   1 انظر: إغاثة اللهفان: (1/338 - 391) ، (2/1 - 121) ، وإعلام الموقعين: (3/159 - 403) . (2/89) . (ص 241) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فوائد عديدة، أهمها: أن من لم يقف على ذلك البحث الْمُكَرَّرِ في كتاب لابن القَيِّم، فإنه لا يَفُوتُهُ في غيره من الكتب التي تكرر فيها. وبعد، فهذه أبرز الخصائص وأهم السمات التي تميز بها أسلوب ابن القَيِّم - رحمه الله - ومنهجه في البحث والتأليف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 المبحث الثاني: ذكر مؤلفات ابن القَيِّم وأحاول في هذا المبحث حصر مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله، مع التعريف ببعضها، وذكر بعض الفوائد المتعلقة بها، وذلك كله على سبيل الاختصار والإيجاز، إلا فيما يحتاج الأمر فيه إلى زيادة بسطٍ وإيضاحٍ. وقد قام الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله - في هذا الجانب بجهد مشكور، فَحَرَّرَ ذلك تحريراً فائقاً، واستوعب الكلام على مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله، معتمداً في ذلك على المصادر التي ترجمته، وما ظفر به من زيادات على ذلك من خلال مطالعته لكتب ومؤلفات ابن القَيِّم نفسه، فأفاد في ذلك وأجاد1. وسَأُسَجِّلُ ما وقفت عليه من هذه المؤلفات، منبهاً على ما تدعو إليه الحاجة في أثناء ذلك، مع عدم ذكر الكتب التي لم يظهر عندي دليل صريح على نسبتها لابن القَيِّم رحمه الله، مرتباً ذلك على حروف المعجم: 1- (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) . كذا سماه ابن القَيِّم - رحمه الله - في كتاب (الفوائد) 2 له، وسماه أيضاً: (اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية) وذلك في موضعين من كتاب (الصواعق المرسلة) 3.   1 انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص111 - 198) . (ص6) . (4/1254، 1305) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وسماه ابن رجب: (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية) 1. والأمر في ذلك قريب، فكلها أسماء لكتاب واحد. وموضوع الكتاب: إثبات علو الله - سبحانه - واستوائه على عرشه، وجمعُ الأدلة على ذلك: من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين، ومَنْ بعدهم، وبيانُ منهج أهل السنة في هذا الباب، والرد على من خالفهم من أهل التعطيل والتأويل. والكتاب مطبوع متداول. 2- (الاجتهاد والتقليد) . وقد أشار ابن القَيِّم في (تهذيب السنن) 2، ولم يذكره أحدٌ من مترجميه. قال الْمُعَلِّقُ على التهذيب: "لعله الطُّرُق الحُكْمِيَّة ... ". والذي يظهر - والله أعلم - أنه غيره. ومن الجدير بالتنبيه هنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - عَقَد فصلاً في الكلام على التقليد في كتابه (إعلام الموقعين) ، ثم أعقبه بفصل آخر في الكلام على الاجتهاد وعدم جوازه مع وجود النص، وأطال في ذلك وتوسع، بحيث بَلَغَ كلامه في هذين الفصلين - الاجتهاد والتقليد - أكثر من مائة صفحة، مما يجعله يصلح أن يكون كتاباً مستقلاً في هذا الموضوع3، فهل أَفْرَدَهُ ابن القَيِّم من كتابه (إعلام الموقعين) ؟ الله أعلم.   1 ذيل الطبقات: (2/450) . (6/341) . 3 انظر: إعلام الموقعين: (2/187-294) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 3- (أحكام أهل الذمة) . وهو مطبوع في مجلدين كبيرين بتحقيق الدكتور/ صبحي الصالح، ولم أر من مترجميه من العلماء السابقين من ذكره، وقد ذكره الشيخ بكر أبو زيد، وَوَثَّقَ نسبته لابن القَيِّم فضيلة المحقق. 4- (أسماء مؤلفات ابن تَيْمِيَّة) . وهي رسالة مطبوعة بتحقيق الأستاذ/ صلاح الدين الْمُنَجِّد، ولم يذكرها أحدٌ - أيضاً - من مترجميه1. وقد رتَّبَ فيها كتب شيخه على الفنون، ومع أنه ذكر منها قسماً كبيراً إلا أنه لم يستوعب كل مؤلفاته2. 5- (أصول التفسير) . أشار إليه - رحمه الله - في (جلاء الأفهام) 3. 6- (الإعلام باتساع طرق الأحكام) . ذكره ابن القَيِّم في (إغاثة اللهفان) 4 عند الكلام على الأخذ باللَّوثِ5 والعلامات الظاهرة في الحدود6، ولم يذكره أحدٌ من مترجميه.   1 انظر كلام الدكتور بكر أبي زيد حول هذين الكتابين في (ص201، 208) من كتابه: (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره، موارده) . 2 انظر مقدمة المحقق لهذه الرسالة. (ص75) . (2/119) . 5 اللوث: البينة الضعيفة غير الكاملة. (المصباح المنير 2/560) . وقال في (المعجم الوسيط) (مادة: لاث) : "شبه الدلالة على حدث من الأحداث، ولا يكون بينة تامة. يقال: لم يقم على اتهام فلان بالجناية إلا لوث". 6 وانظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 126) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وفي كتابه (الطرق الحكمية) جملة من هذه الأحكام. 7- (إعلام الْمُوَقِّعِينَ عن رب العالمين) . وهو من أشهر كتب ابن القَيِّم وَأَنْفَعِهَا، وقد طبع مراراً. وقد ضمنه ذكر جملة من أعلام المفتين: من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، مع بيان أحكام كثيرة تتعلق بالقضاة والمفتين، وما يحتاجه الكثير منهم من إرشادات وتوجيهات، كما ذكر فيه جملة من الأصول والقواعد الفقهية، ثم خَتَمَهُ بذكر فتاوى إمام المفتين صلى الله عليه وسلم. ولم يسم المؤلف كتابه هذا في مقدمته، ووقع عند الصَّفَدِي تسميته: (معالم الموقعين) 1، ولكن المشهور الأول. وقد اختلف في ضبط همزة (اعلام) هل هي بالكسر أم بالفتح؟ وحاصل الكلام في ذلك: أن كلا الأمرين جائز، فبالكسر بمعنى: الإخبار، وبالفتح جمع (علم) إلا أن الكسر هو الأكثر شهرة2. 8- (إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان) . هكذا سمى المؤلف هذه الرسالة في (مدارج السالكين) كما أفاده الشيخ بكر أبو زيد3. وقد طُبعت هذه الرسالة باسم: (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان) ، وقد يسميها بعضهم (الإغاثة الصغرى) تفرقة بينها وبين كتابه الكبير، وهو:   1 الوافي بالوفيات: (2/271) . 2 انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (127 - 130) . 3 انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 134) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 9- (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان) . وقد نص المؤلف على تسميته بذلك في مقدمته1، وسماه أكثر المترجمين له: (مصائد الشيطان) 2، وقال ابن العمَّاد في شطره الثاني: ( ... من مكايد الشيطان) 3. وهو من أجَلِّ كتب ابن القَيِّم رحمه الله، بَيَّنَ فيه أقسام القلوب، وأسباب حياتها، وما يكون من أمراضها، وطرق علاجها، ثم ختمه بذكر جملة من المكائد التي يكيد بها الشيطان لابن آدم، وأشار إلى أن ذلك هو مقصود الكتاب الذي وَضَعَهُ من أجله والكتاب مطبوعٌ متداول. 10- (اقتضاء الذكر بحصول الخير ودفع الشر) . ذكره الصَّفَدِي4، ولم أقف على معرفة شيء من أخباره. 11- (الأمالي المكية) . ذكره ابن القَيِّم رحمه الله في (بدائع الفوائد) 5، ولم يشر إليه أحدٌ من مترجميه، ولعله من الكتب التي أملاها أثناء مقامه بمكة. 12- (أمثال القرآن) . ذكره جماعة من مترجميه6.   1 إغاثة اللهفان: (1/6) . 2 انظر: ذيل طبقات ابن رجب: (2/450) ، والدرر الكامنة: (4/22) ، والبدر الطالع: (2/144) . 3 شذرات الذهب: (6/170) . 4 الوافي بالوفيات: (2/272) . (2/15) . 6 انظر: ذيل طبقات ابن رجب: (2/450) ، والشذرات: (6/170) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وقد طُبع الكتاب أكثر من طبعة، لعل آخرها تلك التي حققها إبراهيم بن محمد، ونشرت سنة 1406هـ باسم: (الأمثال في القرآن الكريم) ، وقد اعتمدت هذه الطبعة والتي قبلها على أربع نسخ خطية، واعتمد المحقق الأخير كثيراً على الطبعتين السابقتين1. وقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - ذكر جملة من هذه الأمثال في كتابه (إعلام الموقعين) 2، وعند مقابلتي بين هذه الرسالة المطبوعة وبين ما جاء في (إعلام الموقعين) : وجدت تطابقاً كاملاً بينهما، فعلمت أن هذه الرسالة مُسْتَلَّةٌ من هذا الكتاب، فقد جاء في أولها: "قال شيخنا رحمه الله: وقع في القرآن أمثال … " فيكون قد جَرَّدَها أحد تلاميذ ابن القَيِّم، وربما وقع ذلك في حياته رحمه الله، فالله أعلم. وفي ذكر قدماء المترجمين لها ضمن مؤلفاته ما يؤكد أنها فُصِلَت قديماً، وأُفْرِدَت عن الأصل. 13- (بدائع الفوائد) . وهو من كتب ابن القَيِّم المشهورة، وذكره بهذا الاسم عامة من تَرْجَمَ له. وقال عنه السيوطي: "وهو كثير الفوائد، أكثره مسائل نَحْوِيَّة"3. ومع ذلك فالكتاب يحتوي على جملة كبيرة من الفوائد العامة في سائر الفنون، وقد طُبع الكتاب عدة طبعات.   1 انظر: مقدمة المحقق: (ص5) . (1 / 150 - 190) . 3 بغية الوعاة: (1/63) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 14- (بطلان الكيمياء من أربعين وجهاً) . أشار إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في (مفتاح دار السعادة) ، كما أفاده الشيخ بكر أبو زيد1. وذكره بهذا الاسم: ابن رجب، قال: "مجلد"2. 15- (بيان الاستدلال على بطلانِ اشتراط مُحَلِّلِ السِّبَاقِ والنِّضَالِ) . ذكره ابن القَيِّم بهذا الاسم في (إعلام الموقعين) 3. وسماه بذلك الصَّفَدِي4 دون كلمة "اشتراط". وسماه ابن رجب: (بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل) 5، وقد وَهِمَ البعض فعدهما كتابين6. وقد تقدم ذكر ما جرى له من مِحَنٍ بسبب رأيه في هذه المسألة7.   1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 136) . 2 ذيل الطبقات: (2/450) . (4/22) . 4 الوافي بالوفيات: (2/272) . 5 ذيل الطبقات: (2/449) . 6 انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 136 - 137) . 7 انظر ص: (128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 16- (التبيان في أقسام القرآن) . وقد سماه ابن القَيِّم بهذا الاسم1، وسماه أيضاً: (أَيْمَان القرآن) 2، وبهذا الاسم الأخير ذكره مترجموه3، وهما اسمان لكتاب واحد. وقد جمع فيه ابن القَيِّم - رحمه الله - ما ورد في القرآن بمعنى القسم والأيمان، مع الكلام عليها4، وقد طُبع الكتاب باسم: (التبيان … ) . 17- (التَّحْبِيرُ لِمَا يِحِلُّ وَيحرمُ مِن لِبَاسِ الْحَرِير) . ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (زاد المعاد) في موضعين منه5، ووقع في الموضع الأول منهما تصحيف طباعي؛ إذ جاء فيه: (التخيير … ) والصواب الأول، كما ذكره غير واحد من مترجميه. وقد سماه ابن رجب6 - ومن تبعه-7: (التحرير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير) . وسماه الصَّفَدِي: (التحبير فيما يحل ويحرم لبسه من الحرير) 8.   1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 138) . 2 الجواب الكافي: (ص 74) . طبعة/ يوسف بديوي. 3 انظر: ذيل الطبقات: (2/450) ، وطبقات المفسرين: (2/93) . 4 وانظر: كشف الظنون: (ص 341) . (3/488) ، (4/78) . 6 ذيل الطبقات: (2/450) . 7 انظر: طبقات المفسرين - للداودي: (2/93) . 8 الوافي بالوفيات: (2/272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 18- (التحفة الْمَكِّيَّة) . ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (بدائع الفوائد) 1 في مواضع منه بهذا الاسم، وذكره أكثر مترجميه2. وابن القَيِّم - رحمه الله - يعزو كثيراً في (بدائع الفوائد) إلى كتاب آخر باسم: (الفتح المكي) ولعله هو نفسه (التحفة) ؟ وقد عدهما الشيخ بكر أبو زيد كتابين، فالله أعلم. 19- (تُحْفَةُ الْمَوْدُودِ بِأَحكامِ الْمَولُود) . وقد سماه المؤلف بهذا الاسم في مقدمته3، وهو من كتب ابن القَيِّم المشهورة المفيدة الجامعة في بابها، فقد ضَمَّنَه مسائل وأحكام مهمة تتعلق بالطفل منذ ولادته. والكتاب مطبوع متداول. 20- (تحفة النازلين بجوار رب العالمين) . ذكره المؤلف في كتابه (مدارج السالكين) 4، وذكره بهذا الاسم: صِدِّيق حسن5. ولعله من الكتب التي صنفها أثناء مجاورته بمكة؟   (1/119) ، (2/62، 89، 211) 2 انظر: ذيل طبقات ابن رجب: (2/450) ، وطبقات المفسرين: (2/93) . 3 تحفة المودود: (ص6) . 4 انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص141) . 5 التاج المكلل: (ص419) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 21- (التعليق على الأحكام) . ذكره ابن القَيِّم في (جلاء الأفهام) 1 بهذا الاسم، وهل هو تعليق على كتاب بعينه (كأحكام عبد الحق) التي ينقل ابن القَيِّم كثيراً عنها، أم أنه غير مُقَيَّدٍ بكتاب؟ الله أعلم. 22- (تفسير الفاتحة) . ذكره جماعة من مترجمي ابن القَيِّم2 رحمه الله، قال الصفدي: "مجلد كبير" وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد أن الكتاب بهذا الاسم منتخب من (مدارج السالكين) 3، ولكن ذِكْر الصَّفَدِي له ووصفه بأنه مجلد كبير، يشير إلى أنه ربما كان كتاباً مستقلاً، ولو كان هو نفسه فإنه يكون قد أُفْرِد أو انْتُخِبَ قديماً. - (تفسير المعوذتين) : انظر ما يأتي باسم: (الرسالة الشافية … ) . 23- (تفضيل مكة على المدينة) . ذكره أكثر المترجمين لابن القَيِّم بهذا الاسم4، قال ابن رجب: "مجلد". وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن ابن القَيِّم - رحمه الله - تناول   (ص77) . 2 انظر: الوافي بالوفيات: (2/272) ، وبغية الوعاة: (1/63) ، وطبقات المفسرين: (2/93) . 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص143) . 4 انظر: ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) ، وطبقات المفسرين: (2/93) ، والشذرات: (6/170) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الكلام على فضل مكة في (زاد المعاد) 1، فذكر وجوهاً كثيرة لتفضيلها على غيرها من الأماكن والبقاع. 24- (تهذيب مختصر سنن أبي داود) . وستأتي له دراسة مفصلة إن شاء الله2. 25- (الجامع بين السنن والآثار) . ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (بدائع الفوائد) 3، كما أرشد إلى ذلك الشيخ بكر أبو زيد4. ولم يذكره أحدٌ من مترجميه، ولم أقف على شيء من أخباره. ووصفه ابن القَيِّم - رحمه الله - بأنه كتاب كبير، والظاهر أنه خاص بالأحكام الفقهية مع أدلتها من الأحاديث والآثار، يتضح ذلك من النص الوارد عنه؛ فإنه قال عند الكلام على المسح على الجبيرة: "وقد ذكرت في الكتاب الكبير الجامع بين السنن والآثار من قال بذلك من السلف، وذكرت الآثار عنهم بذلك". 26- (جَلاءُ الأفهامِ في الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلى خَيْرِ الأَنَامِ) . كذا سماه ابن القَيِّم في المقدمة5، وسماه مرة في (زاد المعاد) 6:   (1 / 46 - 54) . 2 انظر ص: (290 - 299) . (4/68) . 4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص145) . 5 جلاء الأفهام: (ص3) . (1/87) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 (جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام … ) . وسماه فيه أيضاً: (كتاب الصلاة والسلام عليه) 1 صلى الله عليه وسلم. ووقع عند الصَّفَدِي: (حلي الأفهام … ) 2. ولعله تصحيف. وهذا الكتاب من كتب ابن القَيِّم النفيسة في بابها، وقد أثنى عليه في خطبته فقال: "وهو كتاب فردٌ في معناه، لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده، وغَزَارَتِهَا"3. وقد أثنى عليه الحافظ السخاوي رحمه الله، فإنه قد عدَّ خمسة كتب مصنفة في الباب، خامسها: (جلاء الأفهام) ، ثم قال: "وأما الخامس فهو جليل في معناه … وبالجملة: فأحسنها وأكثرها فوائد خامسها"4. ولعل مما زاد في قيمة الكتاب: اهتمام المؤلف فيه بالناحية الحديثية، ونقد المرويات، وبيان الصحيح من الضعيف. 27- (جوابات عابدي الصُّلْبَان، وأن ما هم عليه دين الشيطان) . ذكره جماعة من مترجميه5، ولم أقف على شيء من أخباره، ولعله المشهور بـ (هداية الحيارى) ، أو له به تعلق؛ فإن موضوعهما واحد كما يظهر من التسمية، وإن زاد في (هداية الحيارى) ذكر اليهود. ولعل ما يؤكد هذه العلاقة بينهما: أن أحداً من مترجميه لم يذكر   1 زاد المعاد: (1/93) . 2 الوافي بالوفيات: (2/272) . 3 جلاء الأفهام: (ص3) . 4 القول البديع: (ص258 - 259) . 5 انظر: ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) ، وطبقات المفسرين: (2/93) ، وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 كتاب (هداية الحيارى) وذكروا الآخر كما مرَّ، فلينظر في ذلك؟! 28- (الجواب الكافي لمن سأل عن ثمرة الدعاء إذا كان ما قدر واقع) . ذكره الشوكاني1. 29- (الجواب عن علل أحاديث الفطر بالحجامة) . ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (تهذيب السنن) 2، فقال: "وقد ذكرت عللها، والأجوبة عنها في مصنف مفرد". - (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) : انظر ما يأتي باسم: (الداء والدواء) . 30- (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) . هكذا سماه مؤلفه في مقدمته3، وسماه مرة: (صفة الجنة) 4، وذكره مرة بالاسمين معاً، فقال: ( … صفة الجنة حادي الأرواح) 5. وتسميته بـ (صفة الجنة) تسمية له بموضوعه، وأشار إلى الاسمين ابن رجب - رحمه الله - فقال: (حادي الأرواح إلى … وهو كتاب: صفة الجنة) 6.   1 البدر الطالع: (2/144) . (3/248) . 3 حادي الأرواح: (ص30) . 4 الصواعق المرسلة: (4/1332) . 5 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (148) . 6 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وهو كتاب نافع ممتع في بابه، "إذا نظر فيه الناظر زاده إيماناً، وجلَّى عليه الجنة حتى كأنه يشاهدها عياناً، فهو مثير ساكن العزمات إلى روضات الجنات، وباعث الهمم العَلِيَّاتِ إلى العيشِ في تلك الغرفات"1. - (حرمة السماع) : انظر ما يأتي باسم: (كشف الغطاء … ) . 31- (الحامل: هل تحيض أم لا؟) . ذكره ابن القَيِّم في (تهذيب السنن) 2، فقال: "وقد أفردت لمسألة الحامل: هل تحيض أم لا؟ مصنفاً مفرداً". 32- (حكم إغمام هلال رمضان) . ذكره من مترجميه: ابن رجب3، وعنه: الداودي4، وابن العماد5. ومن الجدير بالتنبيه هنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد بسط الكلام على هذه المسألة في (زاد المعاد) 6. 33- (حكم تارك الصلاة) . ذكره بهذا الاسم: ابن رجب وقال: "مجلد"7.   1 كذا وصفه مؤلفه رحمه الله، انظره: (ص29 - 30) . (3/109) . 3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . 4 طبقات المفسرين: (2/93) . 5 الشذرات: (6/170) . (2/39 - 49) . 7 ذيل الطبقات: (2/450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وقد طُبع الكتاب عدة مرات، ولعل من آخر طبعاته: تلك التي حققها تيسير زعيتر، ونشرت سنة 1405هـ، باسم: (الصلاة وحكم تاركها) . ولم يشر المؤلف إلى اسم الكتاب في مقدمته، فهو عبارة عن جواب لعشرة أسئلة تتعلق بالصلاة. 34- (حكم تفضيل بعض الأولاد على بعض في العَطِيَّة) . ذكر في (تهذيب السنن) 1 أنه أفرد في هذه المسألة مُصَنَّفًا. 35- (الداء والدواء) . ذكره بهذا الاسم جماعة من مترجميه2. قال ابن رجب: "مجلد". ولم ينص ابن القَيِّم على اسمه في المقدمة، كما هي العادة في الكتب التي تكون جواباً لسؤال أو أسئلة، وقد اشتهر بهذه التسمية التي ربما أُخِذت من موضوع الكتاب؛ فقد سُئِل عن رجل أصيب بداء، ولم يستطع دفعه بكل طريق؟ فأخذ - رحمه الله - في الكلام على: أن لكل داء دواء، وأن ذلك يعم أدواء البدن، والروح، والقلب. وللكتاب اسم آخر وهو: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) ، وقد نُشرت بعض طبعات الكتاب بهذا الاسم، ووقفتُ على طبعة للكتاب، بتحقيق الأستاذ/ يوسف بديوي سنة 1410هـ أثبت   (5/193) وانظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص151) . 2 انظر: ذيل الطبقات: (2/450) ، وطبقات المفسرين: (2/93) ، والبدر الطالع: (2/144) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 على غلاف الكتاب الاسمين معاً، مع إشارته إلى أن العنوان الذي وجده على غلاف المخطوطة هو: (الداء والدواء) 1. ثم طُبع الكتاب مؤخراً في عام 1417هـ بتحقيق الأخ الفاضل/ علي بن حسن بن عبد الحميد، واختار له اسم: (الداء والدواء) مشيراً إلى أن الاسمين واردان، وأنهما اسمان لكتاب واحد، إلا أن الذي اختاره هو الأظهر2. فإذا تقرر ذلك، فإن مَنْ عدَّ هذا الكتاب باسميه كتابين، فقد وَهِمَ في ذلك. والكتاب من أحسن ما كُتب في بيان كثير من أمراض القلوب، وطرق علاجها. 36- (رسالة إلى بعض إخوانه) . وهو كتاب أرسله ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى بعض إخوانه، قال في أوله: "الله المسؤول المرجو الإجابة: أن يحسن إلى الأخ في الدنيا والآخرة … ". وفي هذه الرسالة توجيهات نافعة، ونصائح غالية تنفع المسلم في دينه ودنياه وآخرته. وقد طُبعت هذه الرسالة باسم: (الطريق إلى الهداية) ، ثم طُبعت باسم (رسالة إلى كل مسلم) بتعليق الدكتور/ أسامة عبد العظيم   1 الدار والدواء: (ص13) حاشية 1. 2 مقدمة الطبعة المشار إليها: (ص2 - 3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 سنة1404هـ واعتمد فيها على نسخة خَطِّيَّة محفوظة بدار الكتب المصرية برقم (13مجاميع) 1. - (رسالة في الأحاديث الموضوعة) . انظر ما يأتي باسم: (فوائد في الكلام على حديث الغمامة … ) . 37- (الرِّسَالة التَّبُوكِيَّة) . وهي بعضُ كِتَابٍ سَيَّرَه من تبوك سنة 733هـ، وتضمن الكلام على تفسير قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} الآية [المائدة: 3] . وقد طُبعت الرسالة عدة طبعات باسم (الرسالة التبوكية) ، وسميت في إحدى طبعاتها: (تحفة الأحباب في تفسير قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . وطبعت باسم: (زاد المهاجر إلى ربه) . ولعلها قد أُفردت من الكتاب المذكور، فإنه قد جاء في أولها: "قال الشيخ ... ابن قَيِّم الجوزية ... في كتابه الذي سيَّره من تبوك ... بعد كلام له سبق: أحمد الله بمحامده ... "2. 38- (الرسالة الْحَلَبِيَّة في الطريقة الْمُحَمَّدِيَّة) .   1 رسالة إلى كل مسلم: (ص4) . 2 الرسالة التبوكية: (ص10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ذكرها بهذا الاسم جماعة من مترجميه1، وسماها السيوطي2: (نظم الرسالة الحلبية ... ) . وأشار الشيخ بكر أبو زيد إلى أنها نَظْمٌ3. 39- (الرسالة الشافية في أسرار المعوذتين) . ذكرها بهذا الاسم الصَّفَدِي4، ولعلها المطبوعة باسم (تفسير المعوذتين) . وهذه الأخيرة هي جزء من كتاب (بدائع الفوائد) 5 وقد جاء في إحدى طبعات الرسالة6: أنها قوبلت على نسختين خطيتين، مما يؤكد أنها رسالة مستقلة من قديم كما ذكر الصَّفَدِي. 40- (رفع اليدين في الصلاة) . ذكره أكثر المترجمين لابن القَيِّم7، قال الصَّفَدِي: "سِفْرٌ متوسطٌ". وذكر الشيخ بكر أبو زيد: أن نسخة خطية منه توجد في المكتبة السعودية بالرياض، مخرومة الأول، برقم (82-609) 8.   1 انظر: الوافي بالوفيات: (2/272) ، وطبقات المفسرين: (2/93) . 2 بغية الوعاة: (1/63) . 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص155) . 4 الوافي بالوفيات: (2/272) . (2/198 - 276) . 6 تفسير المعوذتين، الطبعة المنيرية بالقاهرة. 7 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/450) ، والدرر الكامنة: (4/22) . 8 ابن قَيِّم الجوزية- حياته وآثاره: (ص157) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 41- (روضة الْمُحِبِّين وَنزهةُ الْمُشْتَاقِين) . وهو من كتب ابن القَيِّم المشهورة السائرة، وقد سماه بهذا في مقدمة الكتاب1. وهو يشتمل على "ذكر أقسام المحبة، وأحكامها، ومتعلقاتها، وصحيحها، وفاسدها، وآفاتها، وغوائلها، وأسبابها، وموانعها ... "2. وقد ذكره ضمن مؤلفاته أكثر المترجمين له وسماه ابن رجب: (نزهة المشتاقين وروضة المحبين) 3، وقد طُبع عدة مرات. 42- (الرُّوح) . وهو من كتبه المشهورة، وقد ذكره عدد ممن ترجم لابن القَيِّم ضمن مؤلفاته4، وذكره ابن حجر في (فتح الباري) 5 ناقلاً عنه. وقد ثار كلام حول عدم صحة نسبة هذا الكتاب لابن القَيِّم، ولكن الواقع يؤكد صحة هذه النسبة، والأدلة متوافرة على إثبات ذلك، وقد أفاض الشيخ بكر أبو زيد في هذا البحث، وأثبت بأدلة عديدة صحة هذه النسبة، فأفاد وأجاد6.   1 روضة المحبين: (ص28) . 2 روضة المحبين: (ص28 - 29) . 3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . 4 انظر: الدرر الكامنة: (4/22) ، وبغية الوعاة: (1/63) ، والشذرات: (6/170) . (3/239) . 6 انظر: ابن قَيِّم الجوزية- حياته وآثاره: (158 - 161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 43- (الروح والنفس) . وهو غير الكتاب الماضي ذكره؛ فإنه قد نصَّ عليه في كتابه (الروح) ، فقال عند كلامه على أن الروح ذاتٌ قائمة بنفسها: "وعلى هذا أكثر من مائة دليل، قد ذكرناها في كتابنا الكبير في (معرفة الروح والنفس) ... "1. وهذا ظاهرٌ في أنه كتاب آخر أكبر من الماضي، وأنه أَلَّفَه قبل تأليف (الروح) ، فربما كان أصلاً لكتاب (الروح) ومنه اختصره؟ والله أعلم. ولم يذكر هذا الكتاب الكبير أحدٌ ممن ترجم له. 44- (زاد المسافرين إلى منازلِ السعداءِ في هَدي خاتم الأنبياء) . ذكره من مترجميه: ابن رجب2، وتبعه: الداودي3، وابن العماد4، وقال ابن رجب: "مجلد". ولم أقف على شيء من أخباره، ولكن يبدو عنوانه مطابقاً لعنوان كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) وذلك بالمقابلة بين شطري العنوان في كلا الكتابين، فهل يدل ذلك على وجود علاقة بين الكتابين؟ الله أعلم. 45- (زَادُ الْمَعَادِ فِي هَدْيِ خَيْرِ الْعِبَادِ) . وهو ذاك الكتاب الجليل، الذي ذاع صيتُهُ، وطار ذكره في الآفاق،   1 الروح: (ص51) . 2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . 3 طبقات المفسرين: (2/92) . 4 الشذرات: (6/169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وانتفع به القاصي والداني، مع الثناء عليه والاعتراف بجلالته من الموافق والمخالف على السواء. قال الحافظ ابن رجب: "وهو كتاب عظيم جداً"1. ويشير ابن القَيِّم نفسه إلى أهمية الكتاب فيقول في أوله: "وهذه كلمات يسيرة لا يستغني عن معرفتها من له أدنى هِمَّة إلى معرفة نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم، وسيرته وهَدْيِه"2. ويعدُّ هذا الكتاب موسوعة شاملة لكثير من علوم الشريعة، وبخاصة: الفقه وأحكامه، والسيرة النبوية ووقائعها. وقد يسميه بعضهم: (الهدى) 3 اختصاراً، وسماه الحافظ ابن حجر- وهو كثير النقل عنه في شرح البخاري-: (الهدي النبوي) 4، وسماه بذلك السخاوي أيضاً5. وقد طُبع الكتاب مراراً، ولعل من أحسن طبعاته تلك التي طُبعت أخيراً في خمس مجلدات، بتحقيق عبد القادر وشعيب الأرنؤوط. 46- (شرح أسماءِ الكتابِ العزيزِ) . كذا سماه ابن رجب، وقال: "مجلد"6. وسماه غيره: (تفسير أسماء القرآن) 7.   1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . 2 زاد المعاد: (1/70) . 3 انظر: الدرر الكامنة: (4/22) ، والبدر الطالع: (2/144) . 4 فتح الباري: (11/133) . 5 الإعلان بالتوبيخ: (ص537) . 6 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . 7 الوافي بالوفيات: (2/272) ، وبغية الوعاة: (1/63) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 47- (شرح الأسماء الحسنى) . ذكره ضمن مؤلفاته: ابن رجب1، وتبعه: الداودي2، وابن العماد3. 48- (شفاءُ العَلِيلِ في مسائلِ القضاء والقدر والحكمة والتعليل) . وقد سماه بذلك مؤلفه في مقدمة الكتاب4، وقد تناول فيه: ما ورد في القضاء والقدر، والإيمان والرضى به، والرد على "القَدَرِيَّةَ" الذين يقولون: لا قدر والأمر أُنُفٌ، "والْجَبْرِيَّة" الذين ينفون فعل العبد وقدرته واختياره، كما تناول إثبات حكمة الله سبحانه فيما خَلَق وأمَرَ. وذكره ابن حجر5، والشوكاني6 باسم: (القضاء والقدر) ، تسميةً له بموضوعه، والكتاب مطبوع متداول. 49- (الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم) . ذكره ضمن مؤلفاته: ابن رجب7، والداودي8، وابن العماد9. قال ابن رجب: "مجلدان". - (الصلاة) : انظر ما تقدم باسم: (حكم تارك الصلاة) .   1 ذيل الطبقات: (2/450) . 2 طبقات المفسرين: (2/93) . 3 الشذرات: (6/170) . 4 شفاء العليل: (ص7) . 5 الدرر الكامنة: (4/22) . 6 البدر الطالع: (2/144) . 7 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . 8 طبقات المفسرين: (2/93) . 9 الشذرات: (6/170) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 50- (الصَّواعق الْمُرْسلة على الْجَهْمِيَّةِ والْمُعَطِّلة) . كذا سماه ابن القَيِّم رحمه الله في (مدارج السالكين) 1، وكذا سماه: ابن حجر2، وابن العماد3، والشوكاني4. وقال ابن رجب5، والداودي6: (الصواعق المنزلة ... ) . وورد بغير هذين الاسمين. وهذا الكتاب يُعَدُّ موسوعة جامعةً في تقرير عقيدة السلف في الأسماء والصفات، والرد على أهل التعطيل والتأويل، وتَظْهَرُ فيه براعة ابن القَيِّم، وسعة علمه، وقُوَّة حُجَّتِهِ، وطُول نَفَسِه، مع حسن الترتيب والتنظيم، وغزارة الفوائد. وقد كان هذا الكتاب إلى عهد قريب لا يُعرف إلا مختصره، لمحمد ابن نصر الموصلي، حتى منَّ الله - وله الحمد - بإخراج مجلد يمثل ثلث ما وُجد من أصله، وذلك بتحقيق فضيلة شيخنا الدكتور/ علي بن محمد ناصر فقيهي، والدكتور/ أحمد عطية الغامدي، عام 1406هـ. وطبع ذلك بعنوان: (الصواعق المنزلة ... ) . ثم طبع الموجود من الأصل كاملاً بتحقيق الدكتور/ على بن محمد الدخيل الله، سنة 1408هـ في أربعة مجلدات، تمثل النصف الأول من الكتاب تقريباً، إذ إن النصف الثاني من   (3/369) . 2 الدرر الكامنة: (4/22) . 3 الشذرات: (6/169) . 4 البدر الطالع: (2/144) . 5 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . 6 طبقات المفسرين: (2/93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الكتاب يعد في حكم المفقود1، وقد نال به المحقق درجة (الدكتوراه) من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالرياض، بالمملكة العربية السعودية، وقد اختار له عنوان: (الصواعق المرسلة ... ) مرجحًا ذلك على غيره2. 51- (الطاعون) . ذكره ابن رجب، وقال: "مجلد لطيف"3. وقد عقد المؤلف - رحمه الله - فصلاً في الكلام على الطاعون، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في علاجه والاحتراز منه، وذلك في كتابه (زاد المعاد) 4. 52- (طريقُ الْهِجْرَتَيْنِ وبَابُ السَّعَادَتين) . هكذا سماه ابن القَيِّم - رحمه الله - في مقدمته5، وأشار إليه في بعض مؤلفاته باسم: (سفر الهجرتين) ، وسماه في بعضها: (سفر الهجرتين وطريق السعادتين) 6. وبهذه الأسماء ذكره مترجموه. ويُوَضِّحُ ابن القَيِّم في هذا الكتاب النافع: الطريق الذي ينبغي أن يسلكه العبد في كل وقت، والذي يكون له في هجرتان:   1 انظر مقدمة المحقق للكتاب: (ص129) عند الكلام على وصف النسخ الخطية. 2 مقدمة الصواعق: (1/77 - 78) . 3 ذيل الطبقات: (2/450) . (4/37 - 45) . 5 طريق الهجرتين: (ص9) . 6 انظر: ابن قَيِّم الجوزية- حياته وآثاره: (ص 170 - 171) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 - هجرة إلى الله: بالطلب، والمحبة، والعبودية، والإنابة، والتوكل … - وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: بموافقة شرعه في الحركات والسَّكَنَات. وأن سلوك هاتين الهجرتين سيأخذ بيد العبد إلى ولوج باب السعادتين: سعادة الدنيا باتِّبَاع هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم، وسعادة الآخرة بدخول جنات النعيم، ففي هاتين الهجرتين: سعادة الدارين. والكتاب مطبوع متداول. 53- (الطُّرُقُ الْحُكْمِيَّة في السِّياسَة الشَّرعية) . ذكره ابن رجب مختصراً باسم: (الطرق الحكمية) 1. وقد جاء اسمه على غلاف إحدى مخطوطاته: (الفِرَاسَةُ الْمَرْضِيَّة في أحكامِ السِّيَاسَةِ الشرعية) 2. وهذا العنوان متفق مع ما جاء في مطلع الكتاب من الكلام على الحكم بالفراسة والقرائن، وأحكام ذلك. وقد وضع الشيخ محمد حامد الفقي الاسمين كليهما على غلاف طبعته للكتاب، فاصلاً بينهما بـ (أو) . 54- (عِدَةُ الصَّابرين وذخيرةُ الشَّاكرين) . سماه المؤلف بذلك في مقدمته3، وذكره ابن رجب4،   1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . 2 مقدمة الشيخ محمد الفقي للكتاب: (ص9 - 10) . 3 عدة الصابرين: (ص26) . طبعة الخشت. 4 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 والداودي1، وابن العِمَاد2 مختصراً، فقالوا: (عدة الصابرين) . تنبيه: ذكر الشيخ بكر أبو زيد ضمن مؤلفات ابن القَيِّم كتاباً بعنوان: (الصبر والسكن) ، وعزاه إلى (كشف الظنون) ، ومحمد الفقي في مقدمة (إغاثة اللهفان) ، وغيرهما3. وأقول: يظهر لي أن في هذا الكلام خطأً من وجهين: - الأول: أن صوابه (الصبر والشكر) بالشين المعجمة، والراء المهملة، وليس: (السكن) ، وقد وقع على الصواب في (كشف الظنون) 4 الذي عزاه إليه الشيخ، أما عند الشيخ الفقي: فهو كما نقل الشيخ بكر: (الصبر والسكن) 5. - الثاني: أن هذا الكتاب - والله أعلم - هو نفسه كتاب (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين) ، الذي يتناول موضوعي: الصبر والشكر، فيكون من سماه (الصبر والشكر) اختصر العنوان الكبير معبراً عنه بموضوعه، كما وقع هذا لكثير من كتب ابن القَيِّم. ولعل مما يؤكد ذلك: أنه لم يذكر أحدٌ ممن ترجم لابن القَيِّم كتاباً له بعنوان (الصبر والشكر) ؟ فالله أعلم بحقيقة الحال.   1 طبقات المفسرين: (2/93) . 2 الشذرات: (6/170) . 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص167) . (ص 1432) . 5 مقدمة إغاثة اللهفان: (1/24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 55- (عَقدُ مُحْكَمِ الإخاءِ بين الكلمِ الطَّيِّبِ والعملِ الصالحِ المرفوع إلى رب السماء) . ذكره ضمن كتبه: ابن رجب1، والداودي2، وابن العماد3. وقد سماه الشيخ بكر أبو زيد: (عقد محكم الأحباء ... ) بالحاء المهملة، بعدها باء موحدة4، ولعله تابع في ذلك ما وقع في (ذيل الطبقات) لابن رجب؛ فإنه جاء عنده هكذا، ووقع عند ابن العماد (عقد محكم الأحقاء … ) ! وكلاهما - والله أعلم - تصحيفٌ، والصواب: (الإخاء) كما وقع عند الداودي، من: آخى بين الشيئين، إخاءً، ومؤاخاةً، ويكون المعنى: (عقد أوثق الإخاء ... ) ، والله أعلم. ثم هل لهذا الكتاب صلة بالآتي باسم: (الكلم الطيب والعمل الصالح) ؟ فإن هذا الكتاب قد عقد إخاءً محكماً بين هذين، فالله أعلم. 56- (الفتحُ القُدْسِيُّ) . أشار إليه ابن القَيِّم في (بدائع الفوائد) 5 بهذا الاسم، وذكره كذلك: ابن رجب6 ضمن مؤلفاته.   1 ذيل الطبقات: (2/449) . 2 طبقات المفسرين: (2/92) . 3 الشذرات: (6/169) . 4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص174) . (2/211) . 6 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 57- (الفرق بين الخلة والمحبة ومناظرة الخليل لقومه) . ذكره ابن رجب، وقال: "مجلد"1. وله - رحمه الله - كلام في معنى الخلَّة، والفرق بينها وبين المحبة في كتابه: (روضة المحبين) 2. 58- (الفُروسِية الشَّرْعِيَّة) . أشار إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في (إعلام الموقعين) 3، ووصفه بأنه كبير، فقال عند كلامه على مسألة محلل السباق: "وقد ذكرناها في كتابنا الكبير في (الفروسية الشرعية) ، وذكرنا فيه وفي (بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال) بيان بطلانه من أكثر من خمسين وجهاً، وبَيَّنَّا ضعف الحديث الذي احتج به من اشترطه … ". وذكره الصَّفَدِي باسم: (الفروسية المحمدية) 4. وقد طُبع لابن القَيِّم كتاب باسم (الفروسية) من قديم في سنة 1360هـ، ثم طبع أخيراً طبعة أخرى في سنة 1410هـ بتحقيق محمد نظام الدين. وقد قال ابن القَيِّم في خطبة هذا المطبوع: " … وهذا مختصر في الفروسية الشرعية النبوية"5.   1 ذيل الطبقات: (2/450) . (ص 63 - 65) . (4 / 22) . 4 الوافي بالوفيات: (2/272) . 5 الفروسية: (ص2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وقد ذهب الشيخ بكر أبو زيد إلى القول بأن هذا المطبوع هو مختصر من المسمى (بالفروسية الشرعية) ، وعَدَّهُمَا كتابين1. وربما استند في ذلك إلى قول ابن القَيِّم في خطبة المطبوع: "هذا مختصر … " وقوله في النص السابق: " ... كتابنا الكبير في الفروسية الشرعية". والذي يظهر لي - والله أعلم - أن هذا المطبوع هو الكتاب الكبير لابن القَيِّم في الفروسية، وليس مختصراً من غيره، وربما يُسْتَأنس في ذلك ببعض الأدلة، منها: - أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا ليس على طريقة المختصرات والتهذيبات، بل إنه - رحمه الله - تناول فيه أكثر المسائل بنوع بسطٍ واستقصاء، عارضاً أقوال الأئمة في كل مسألة، مع بيان الراجح بالدليل، بل إنه أودعه فوائد شتى في علوم الحديث، والجرح والتعديل، وشروط الأئمة في كتبهم وغير ذلك، ولذلك فقد وقع في طبعته الأخيرة في سبع وعشرين وثلاثمائة صحيفة. - أنه لم يُشِر في هذا المطبوع - ولو مرة واحدة- إلى هذا الأصل الذي اختصر منه هذا الكتاب، وعادة ابن القَيِّم - كما مرَّ - الإحالة على الكتب المؤلفة في الموضوع نفسه، وبخاصة في القضايا التي فيها بسط أكثر. وإنني الآن أتساءل: إذا كان بحث المحلل لم يوفه ابن القَيِّم نصيبه من البحث في هذا المطبوع، فلماذا لم يُحِلْ فيه على (الفروسية الكبير) كما أحال في (إعلام الموقعين) ومر نقله قبل قليل؟   1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 176) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 - لم يُشِر أحدٌ من محققي الطبعتين إلى أن هذا مختصر، وأن له أصلاً كبيراً، ومثل هذا لا يفوتهما في الغالب، مع عنايتهما بالكتاب. - أن التسمية التي نص عليها المؤلف في (إعلام الموقعين) - والتي حملها الشيخ بكر أبو زيد على الكبير - هي بعينها التسمية الواردة في هذا المطبوع، حيث قال في تسميته: (الفروسية الشرعية النبوية) . - أن قوله فيه: "هذا مختصر ... " لا يلزم منه أنه اختصره من غيره، بل يمكن حَمْلُه على أنه صَنَّفَهُ على هذه الصفة المختصرة ابتداءً، فكأنه يقول: هذا كتاب مختصر جمعته في الفروسية، بل لو كان مختصراً من غيره للزمه التنبيه في هذا المقام على أنه اختصره من كذا. - ويظهر: أن قوله " … ذَكَرْنَاهَا في كتابنا الكبير" ليس في مقابلة كتاب صغير في الفروسية، بل لعله قصد - والله أعلم - المقابلة بين (الفروسية) ، وبين كتابه (بيان الاستدلال) ؛ بدليل ذكره معه في السياق نفسه كما مضى؛ فإن (بيان الاستدلال) يُمَثِّل فصلاً من فصول كتاب (الفروسية) وهو الفصل الخاص بالكلام على إبطال أدلة المشترطين للتحليل، فصار (الفروسية) بهذا الاعتبار كبيراً بالنسبة لـ (بيان الاستدلال) . وهذا كقوله - رحمه الله - في (إغاثة اللهفان) 1 في الرد على أصحاب النجوم: "وقد أَشْبَعْنا الرد على هؤلاء في كتابنا الكبير المسمى: بالمفتاح". فهل يقول قائل: إنه صَنَّفَ كتابين باسم (مفتاح دار السعادة) أحدهما كبير والآخر صغير؟   (2/125) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 - أن ما أشار إليه في النص السالف: من بيان فساد اشترط المحلل من خمسين وجهاً، موجود في المطبوع الذي بين أيدينا؛ فإنه قد ذكر فيه ما يقرب من أربعين وجهاً في ذلك1، وكذلك بَيَّنَ ضَعْفَ الحديثِ الْمُشَارِ إليه بِتَوَسُّعٍ2. فهذا ما بدا لي في هذا الموضوع، والأمر - مع ذلك - محل نظر وبحث، فإن وُجد دليل صريح على وجود أصل ومختصر لابن القَيِّم في هذا الموضوع، فإننا لا نملك إلا التسليم والإذعان. 5- (فَضلُ العِلْمِ وأَهْلِهِ) أشار إليه المؤلف في (طريق الهجرتين) 3 بهذا الاسم، كما أرشد إلى ذلك الشيخ بكر أبو زيد4، ولعله هو نفسه المذكور عند ابن رجب باسم: (فضل العلماء) 5، وقال الداودي (فضل العلم) 6. 60- (فوائدُ في الكلامِ على حديثِ الغَمَامةِ، وحديث الغَزَالةِ، والضَّبِّ، وغيره) . ستأتي له دراسة مستقلة مع ذكر الأدلة على صحة نسبته لابن القَيِّم إن شاء الله7.   1 الفروسية: (ص21 - 37) . 2 الفروسية: (ص37 - 53) . (ص 619) . 4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 178) . 5 ذيل الطبقات: (2/450) . 6 طبقات المفسرين: (2/93) . 7 انظر: (ص 310 - 319) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 61- (الفوائد) . لم يذكره أحد من مترجمي ابن القَيِّم، والظاهر أنه مجموع على طريقة الأمالي، فلم تُذْكَرْ له مقدمة ولا خطبة. وهو من كتبه النافعة جداً، حيث اشتمل على جملة من الفوائد المتنوعة: في التوحيد، والتفسير، والزهد والرقاق -وهذا هو الغالب عليه- والمواعظ والحِكَمِ وغير ذلك. تنبيه: ذكر الدكتور/ عبد الله جار النبي1 - عند ذكره كتاب الفوائد-: أن ابن القَيِّم نصَّ عليه في كتابه: (اجتماع الجيوش الإسلامية) . وهذا وهم، والصوابُ: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد نصَّ على كتابه (اجتماع الجيوش) في كتابه (الفوائد) 2 فانعكست القضية عند الأخ. 62- (قُرَّةُ عيونِ الْمُحِبِّين، وروضةُ قلوبِ العارفين) . ذكره الشيخ بكر أبو زيد3، وأفاد أن ابن القَيِّم ذكره في (مدارج السالكين) . 63- (الكافية الشافية في النحو) . ذكره صاحب (كشف الظنون) 4، وأكد الشيخ بكر أبو زيد نِسْبَتَهَا لابن القَيِّم، ورَدَّ على من خَطَّأَ حاجي خليفة في ذلك5.   1 ابن القَيِّم وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف: (ص111) . 2 انظره: (ص6) . 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص179) . (ص1369) . 5 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 180) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 64- (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية) . نظم. وبهذا الاسم ذكرها المؤلف في مقدمتها، وكذا سماها الصَّفَدِي1. واكتفى السيوطي بقوله: (الكافية الشافية) 2. أما ابن رجب3، والداودي4: فَسَمَّيَاهَا: (الشافية الكافية في الانتصار … ) قال ابن رجب: "وهي القصيدة النونية في السنة، مجلد". وقد اشتهرت بين أهل العلم وطلابه: (بالقصيدة النونية) . ووقع عند ابن حجر: (الكافية في الانتصار ... ) 5. قال: "تبلغ ستة آلاف بيت". قال الشيخ بكر أبو زيد: "وقد قمت بعدِّ أبياتها فتحرر لي: أن عدد أبياتها هي (5949) ، أي: ستة آلاف إلا واحداً وخمسين بيتاً"6. وقد نَظَمَ ابن القَيِّم هذه القصيدة في الدفاع عن عقيدة السلف، والرد على أهل الزيغ والانحراف: من الْمُعَطِّلَة، والْجَهْمِيَّةِ، والرافضة، وغيرهم، ببراهين قويَّة وأدلة ساطعة، وهي مطبوعة منتشرة. 65- (الكبائر) . ذكره ابن رجب، وقال: "مجلد"7.   1 الوافي بالوفيات: (2/272) . 2 بغية الوعاة: (1/63) . 3 ذيل الطبقات: (2/450) . 4 طبقات المفسرين: (2/93) . 5 الدرر الكامنة: (4/22) . 6 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 182) . 7 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 66- (كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء) . ذكره الصَّفَدِي بهذا الاسم1، وذكر له حاجي خليفة كتاباً باسم: (حرمة السماع) 2. وقد طُبع أخيراً كتاب لابن القَيِّم باسم: (الكلام على مسألة السماع) في مجلد كبير، بتحقيق/راشد بن عبد العزيز الحمد سنة 1409هـ، وهو عبارة عن سؤال حول السماع، أجاب عنه ابن القَيِّم رحمه الله. والذي يظهر أن هذا هو كتاب ابن القَيِّم في السماع، الذي أشار إليه مرة في (إغاثة اللهفان) 3 بقوله: "وقد ذكرنا شُبَهَ الْمُغَنِّين والْمَفْتُونِين بالسماع الشيطاني، ونَقَضْنَاها … في كتابنا الكبير في السماع". ويكون هو نفسه المسمى بـ (كشف الغطاء … ) . أما تسميته بـ (الكلام على مسألة السماع) ، فلعلها من وضع المحقق، وذلك بالنظر إلى ما جاء في أول جوابه من قوله: "الحمد لله، الكلام في هذه المسألة … ". 67- (الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصَّالِحُ) . ذكره ابن القَيِّم بهذا الاسم في (طريق الهجرتين) 4، فقال: "وقد   1 الوافي بالوفيات: (2/272) . 2 كشف الظنون: (ص650) . وتوجد منه نسخة بقسم المخطوطات، بالجامعة الإسلامية برقم (1263) ، مصورة عن الأسكوريال بأسبانيا، تقع في (78) ورقة. (1/267) . (ص 73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ذكرنا في كتاب (الكلم الطيب والعمل الصالح) من فوائد الذكر: استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده، وذكرنا قريباً من مائة فائدة تتعلق بالذكر … ". وسماه بذلك ابن رجب، وقال: "مجلد لطيف"1. وهذا الكتاب هو نفسه المطبوع المشهور باسم: (الوَابِلُ الصَّيِّبُ من الكَلِمِ الطَّيِّبِ) . وقد نصَّ المؤلف على هذه التسمية أيضاً، فقال في (مدارج السالكين) 2 - عند كلامه على فوائد الذكر-: "وقد ذكرنا في الذكر نحو مائة فائدة في كتابنا (الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب) وذكرنا هناك أسرار الذكر … ". وهي عَيْنُهُا عبارته الماضية قبل قليل عن (الكلم الطيب ... ) . 68- (اللَّمْحَة في الرَّدِّ على ابن طلحة) . ذكره الشيخ بكر أبو زيد3 تبعاً للمناوي في (فيض القدير) 4. ولم أرَ من ذكره ممن ترجم لابن القَيِّم رحمه الله. 69- (مَدَارِجُ السَّالِكِين بين مَنَازِلِ إيَّاك نَعْبدُ وإياك نَسْتَعِين) . وقد طُبع هذا الكتاب مراراً واشتهر بهذا الاسم، ولم يُشِر ابن القَيِّم إلى تسميته في المقدمة.   1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) . (2/448) . 3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 187) . (1/116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وذكره ابن رجب باسم: (مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) 1. ثم قال: "وهو شرح (منازل السائرين) لشيخ الإسلام الأنصاري2، كتاب جليل القدر". وسماه ابن حجر3، والشوكاني4 بموضوعه، فقالا: (شرح منازل السائرين) فكلها أسماء لكتاب واحد. وهو - رحمه الله - في هذا الكتاب يرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال، وذلك من خلال الكلام على (فاتحة الكتاب) ، ومَاتَضَمَّنَتْهُ من منازل السائرين، ومقامات العارفين5. وهو مع ذلك كثيراً ما يَتَعَقَّبُ الهروي أثناء شرحه، حيث كان يرى أن الهروي له طريقة في السلوك مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة؛ إذ إنه "لا يُقَدِّمُ على الفَنَاء شيئاً، ويراه الغاية التي يشعر بها السالكون"6. 70- (المسائل الطرابلسية) . ذكرها ابن رجب، وقال: "ثلاث مجلدات"7.   1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . 2 هو: أبو إسماعيل، عبد الله بن محمد بن علي بن محمد الأنصاري الهروي، من ذرية أبي أيوب الأنصاري، صاحب (ذم الكلام) وغيره، توفي سنة 481هـ. له ترجمة في: سير أعلام النبلاء: (18/503) ، والتذكرة: (3/1183) . 3 الدرر الكامنة: (4/22) . 4 البدر الطالع: (2/144) . 5 انظر: مدارج السالكين: (1/12) . 6 انظر: ابن القَيِّم وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف: (ص117 - 118) . 7 ذيل الطبقات: (2/450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 71- (معاني الأدوات والحروف) . ذكره الصَّفَدِي1، والسيوطي2 وغيرهما. 72- (مفتاحُ دارِ السَّعادة، ومنشورُ ولاية أهل العِلْمِ والإرادة) . كذا سماه مؤلفه في مقدمته3، وسماه مرة: (المفتاح) 4. وذكر جماعة من المترجمين لابن القَيِّم الشطر الأول من اسمه، وهو (مفتاح دار السعادة) 5. وقد خَتَمَهُ المؤلف - رحمه الله - بذكر ما احتواه واشتمل عليه من فوائد وموضوعات6. والكتاب مطبوع عدة طبعات7. 73- (الْمَنَارُ الْمُنِيفُ في الصَّحِيحِ والضَّعِيفِ) . ستأتي له دراسة مستقلة إن شاء الله8. 74- (الْمَوْرِدُ الصَّافِي والظِّلُّ الضَّافِي) . أشار إليه ابن القَيِّم بهذا الاسم في (طريق الهجرتين) 9، وذكر أنه   1 الوافي بالوفيات: (2/272) . 2 بغية الوعاة: (1/63) . 3 مفتاح دار السعادة: (1/47) . 4 الصواعق المرسلة: (4/1450) . 5 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل الطبقات: (2/450) ، والدرر الكامنة: (4/22) . 6 مفتاح دار السعادة: (2/273) . 7 أحسنها طبعة بتحقيق الأخ الفاضل/ علي بن حسن بن علي، في ثلاثة مجلدات سنة 1416هـ. 8 انظر ص: (300) . (ص 103) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 كتاب كبير في المحبة. وهذا الكتاب الكبير في المحبة: أشار إليه مرة في (مدارج السالكين) 1 دون أن يُسَمِّيه. وسماه الشيخ بكر أبو زيد: (المورد الصافي والظل الوافي) 2 تبعاً لصاحب (هدية العارفين) ، فلعله تصحيف، والله أعلم. 75- (مولد النبي صلى الله عليه وسلم) . ذكره الشوكاني3، وصِدِّيق حسن4. 76- (نَقْدُ الْمُنْقُول، والمحكُّ الْمُمَيِّزُ بين المقبول والمردود) . ذكره ابن رجب بهذا الاسم، وقال: "مجلد"5. ولعل لهذا الكتاب علاقة بـ (المنار المنيف) والله أعلم. 77- (نِكَاحُ الْمُحْرِم) . ذكره ابن رجب، وقال: "مجلد"6. 78- (نورُ الْمُؤْمِنِ وَحَيَاتُهُ) . ذكره ابن رجب، وقال: "مجلد"7.   (3/20) . 2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص194) . 3 البدر الطالع: (2/144) . 4 التاج المكلل: (ص419) . 5 ذيل الطبقات: (2/449) . 6 ذيل الطبقات: (2/450) . 7 ذيل الطبقات: (2/450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 - (الوابل الصيب من الكلم الطيب) : انظر ما تقدم باسم: (الكلم الطيب والعمل الصالح) . 79- (هِدَايَة الْحَيَارَى فِي أجْوِبَة اليهودِ والنَّصارى) . كذا سماه المؤلف في مقدمته1، وانظر ما تقدم باسم: (جوابات عابدي الصُّلْبان) . وبعد، فهذا ما وقفت عليه من مؤلفات لابن القَيِّم رحمه الله، ويحسنُ التنبيه على أمر مهم، يلحظه الناظر الْمُدَقِّقُ في هذه القائمة، وهو: وقوع شيء من التكرار في بعض مؤلفات ابن القَيِّم، وذلك نتيجة لعدِّ الكتاب الواحد كتابين كما مرت أمثلة لذلك، ولعل ذلك يرجع لأمور أهمها: - تسمية ابن القَيِّم الكتاب الواحد باسمين، أو يذكره مرة باسمه ومرة بموضوعه، ووقع ذلك من بعض المترجمين له أيضاً. - إفراد بعض البحوث من مؤلفات ابن القَيِّم - إما قديماً أو حديثاً - ثم تطبع هذه المفردات مستقلة بأسماء خاصة بها، فيأتي بعض الناس فيعدُّ هذا المفرد كتاباً آخر. وقد نَبَّه الشيخ بكر أبو زيد إلى أسباب أخرى وراء ذلك، فلتراجع2.   (ص 11) . 2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 111 - 112) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 المبحث الثالث: مَصَادِرُ ابن القَيِّم في مؤلفاته من المهم - عند تناول مؤلفات ابن القَيِّم - أن نتعرف على المصادر التي اعتمدها في كتبه، ونقل عنها في بحوثه؛ فإن نظرةً فاحصةً في قائمة مصادره تبرز لنا أهم الخصائص التي تميز حياة ابن القَيِّم العلمية وكتاباته. ويمكننا أن نتناول في هذا المبحث المتعلق بالمصادر المسائل الآتية: المسألة الأولى: منهجه في النقل عن المصادر، وأهم الخصائص المميزة لمصادره. يمكن تحديد المعالم الأساسية لمنهج ابن القَيِّم في تعامله مع المصادر، وأهم السمات التي تميزت بها مصادره فيما يلي: أولاً: وفرة مصادره وكثرتها، إذ بلغت مصادره في كتاب واحد- وهو (زاد المعاد) -: ثمانين ومائة مصدر تقريباً1، أما عدد المصادر التي وردت في مجلد واحد من (الصواعق المرسلة) فقد بلغت حوالي مائة كتاب2. ثانياً: تنوع مصادره رحمه الله، وشمولها فنون عديدة، وما ذلك إلا لتنوع معارفه، وتصنيفه في أكثر من فنٍّ كما مضى.   1 استفدت ذلك من خلال حصر الكتب الواردة في فهرس المصادر الذي صنعه الأستاذ/ محمد أديب الجادر لزاد المعاد. (انظر ص 455 - 471) . 2 انظر مقدمة محقق (الصواعق المرسلة) : (1/84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ثالثاً: اعتماده في كل فن على أشهر وأهم وأجود ما كُتِبَ وصُنِّفَ فيه، يلحظ ذلك كل من تعامل مع كتبه، أو طالع قائمة مصادره. رابعاً: لم يكتف ابن القَيِّم - رحمه الله - في نقل مادته العلمية بالمصادر المكتوبة فقط، بل رُبَّمَا دَوَّنَ بعض المعلومات بطريق المشافهة والسماع. فيقول مرة: "سألت شيخنا عن سماع يزيد بن عبد الله عن أبي هريرة؟ "1. ويقول مرة أخرى: "قُرئَ على شيخنا أبي الحجاج الحافظ في (التهذيب) وأنا أسمع"2. خامساً: من المصادر التي اعتمد عليها ابن القَيِّم في تسجيل معلوماته أيضاً: المشاهدة والملاحظة والتجارب الشخصية، كما مضت الإشارة إلى شيء من ذلك عند الكلام على منهجِهِ في التأليف3. سادساً: حِرْصُهُ - رحمه الله - على توثيق ما يَنْقُلُه من معلومات من هذه المصادر، حتى إنه ليراجع للكتاب الواحد عدة نسخ عندما يقتضي الأمر ذلك. قال مرة في حديث: "وهذا في جميع نسخ كتاب النسائي هكذا"4. ويقول في حديث آخر: "هذا الذي في رواية اللؤلؤي عن أبي داود، وفي رواية ابن داسة عنه ... "5.   1 جلاء الأفهام: (ص 18) . 2 زاد المعاد: (5/709) . 3 انظر ص: (218) . 4 زاد المعاد: (5/511) . 5 الصلاة: (ص161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 سابعاً: قد يُسَمِّى بعض المصادر بغير ما اشتهرت وعُرِفَت به، فيقول في (سنن أبي داود) : "وقال أبو داود في مسنده"1. ومرة يقول: "رواه أبو داود في صحيحه"2. وكذا قال للدارمي مرة: "قال الدارمي في صحيحه"3. وقال مرة: "رواه ابن الجارود في مسنده"4. وقال عن كتاب (تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة: "اختلاف الحديث"5. وهذا وإن كان قليلاً في كلام ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أن فيه نظراً؛ وذلك من الناحية الفَنِّيَّة الصناعية، وكذا من ناحية احتمال وقوع بعض اللبس للناظر في ذلك، وإن كان قد دَرَجَ عليه كثير من أهل العلم في مؤلفاتهم. ثامناً: يختصر ابن القَيِّم - رحمه الله - في كثير من الأحيان اسم المصدر، أو يشير إليه بموضوعه، الأمر الذي يحتاج من الناظر في كتبه إلى دراية بالكتب ومؤلفيها وموضوعاتها؛ وذلك ليمكنه معرفة الكتاب المقصود. ومن الأمثلة لما جاء عنه في ذلك: قوله: "روى الدارمي في النقض"6 ويقصد به كتاب (النقض على بشر المريسي) . وقال مرة:   1 حادي الأرواح: (ص 125) . 2 حادي الأرواح: (ص361) . 3 إعلام الموقعين: (1/379) . 4 تهذيب السنن: (4/374) . 5 زاد المعاد: (4/150) . 6 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص133) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 "قول الإمام أبي القاسم الطبري اللالكائي … في كتابه في السنة"1. واسم كتابه كاملاً: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) . وقال مرة: "وقال أبو حاتم البُسْتِي في كتاب الضعفاء"2 واسم الكتاب كاملاً: (المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين) ، وهذا الصنيع اشتهر - أيضاً - عند كثير من الأئمة، يفعلونه اختصاراً. تاسعاً: لم يلتزم ابن القَيِّم بذكر اسم المصدر الذي ينقل عنه دائماً، بل إنه كثيراً ما يُسَمِّي الشخص الذي ينقل عنه دون تعيين اسم كتابه، وسيأتي ذكر طرف من ذلك عند الكلام على منهجه في التخريج. ومن أمثلة ذلك أيضاً: قوله: "قال محمد بن عثمان الحافظ"3. وقوله مرة: "قال الحازمي"4. وقوله: "قال الرازي"5. وهذا كثير منه، ومعلوم أن هذا قد يؤدي إلى صعوبة الوصول إلى المصدر المقصود، وبخاصة إذا كان الْمُؤَلِّفُ المشار إليه له أكثر من كتاب في الفن، كالذهبي مثلاً؛ فإن له عدة كتب في الرجال. كما أنه - رحمه الله - رُبَّمَا نقل بعض الفوائد دون تعيين اسم المصدر أو المؤلف. على أن ابن القَيِّم قد يكون معذوراً في ذلك؛ إذا قد عُرِفَ بالدقة   1 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص 121) . 2 الفروسية: (ص44) . 3 جلاء الأفهام: (ص18) . 4 تهذيب السنن: (1/134) . 5 زاد المعاد: (2/145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 في النقل، مع بسط مسائله وشدة تحريرها، بحيث إنه - رحمه الله - لم يُبْقِ للقارئ والمطالع حاجةً للرجوع إلى أصوله التي نقل عنها، على أن هذا الصنيع - أيضاً - عُرِف عن كثير من الأئمة الأعلام في مصنفاتهم وتواليفهم. عاشراً: عِنَايَتُه - رحمه الله - بالمصادر التي تَتَّصِلَ بموضوعه اتصالاً مباشراً، وإِكْثَارُهُ من النقل عنها، بحيث تكون هي المصادر الأساسية لذلك الموضوع. فتجده في (جلاء الأفهام) - الذي يتناول فيه موضوع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ من النقل عن كتاب: (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) 1 لإسماعيل بن إسحاق، حتى إنه قد ينقل عنه باباً بكامله2. وينقل فيه أيضاً عن كتاب: (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) لأبي الشيخ3، ولابن أبي عاصم أيضاً4، وغيرهم. وكذا الحال في سائر كتبه، فإنه يُعنى في المقام الأول بالمصادر المصنفة في موضوع كتابه، أو التي لها به صلة مباشرة. حادي عشر: ربما يلجأُ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تقويم بعض المصادر التي ينقل منها، وإبداء رأيه فيها، وسيأتي الكلام على ذلك بأوسع من هذا.   1 انظر مثلاً: جلاء الأفهام: (ص205، 213، 232، 243، 245، 258، 260) . 2 جلاء الأفهام: (ص 57 - 63) . 3 جلاء الأفهام: (ص 229، 237، 244) . 4 جلاء الأفهام: (ص234) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 تلك أبرز الملاحظات حولَ منهج ابن القَيِّم في الاستفادة من المصادر والنقل عنها، وبيان بعض الخصائص المميزة لبعض هذه المصادر. المسألة الثانية: تقويم ابن القَيِّم لبعض مصادره، وإبداء رأيه فيها. لم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - وهو يستفيد من هذا العدد الهائل من المصادر المتنوعة، مُجَرَّدَ ناقلٍ فحسب، وإنما بَرَزَتْ في بعض الأحيان شخصيته المتميزة وهو يُبْدي رأيه في بعض هذه المصادر: بمدحها والثناء عليها تارةً، وتارةً أخرى ببيانِ عيوبها وبعض المآخذ عليها، وتارةً ثالثة بالتعريف بها أو ذكر بعض المعلومات التوضيحية عنها، أو الفوائد المتعلقة بها. فمن الكتب التي مَدَحها وأَثْنَى عليها: 1- (سنن أبي داود) : قال ابن القَيِّم رحمه الله: "لما كان سنن أبي داود ... من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به، بحيث صار حَكَمَاً بين أهل الإسلام ... فإنه جَمَعَ شَمْلَ أحاديث الأحكام، وَرَتَّبَهَا أحسن ترتيب ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، واطِّرَاحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء"1. ولعل قوله رحمه الله باطراح أبي داود أحاديث المجروحين والضعفاء، يُحْمل على الغالب؛ فقد وُجِدَ بَعْضُهُم في كتابه.   1 تهذيب السنن: (1/8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 2- (الأحاديث الجِيَادُ الْمُخْتَارَة) : للضياء المقدسي (ت643هـ) . قال ابن القَيِّم: " … التي هي أصح من صحيح الحاكم"1. 3- (المعرفة والتاريخ) ليعقوب بن سفيان الفسوي (ت277هـ) . قال ابن القَيِّم: "وهو كتاب جليل، غزير العلم، جمُّ الفوائد"2. 4- (تفسير البغوي) للحسن بن مسعود البغوي (ت516هـ) . قال ابن القَيِّم: " … الذي هو شَجَىً3 في حُلُوق الْجَهْمِيَّة والْمُعَطِّلَة"4. وقال أيضاً: " … الذي اجتمعت الأمة على تلقِّي تفسيره بالقبول، وقراءته على رؤوس الأشهاد من غير نكير"5. 5- (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم (ت224هـ) . قال ابن القَيِّم: "الذي هو لمن بعده من كتب الغريب إمام"6. 6- (السنة) : وهو (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) . لأبي القاسم اللالكائي.   1 الصواعق المرسلة: (2/626) ، وإغاثة اللهفان: (1/287) . 2 إعلام الموقعين: (3/83) . 3 الشَّجَا: ما اعترض في حَلْق الإنسان والدابة من عظم أو عود أو غيرهما، وقد شَجِيَ، يَشْجَى، شجاً. (لسان العرب ص: 2203) . 4 إجتماع الجيوش الإسلامية: (ص122) . 5 المصدر السابق: (ص165) . 6 أحكام أهل الذمة: (2/524) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قال ابن القَيِّم: "وهو من أجلِّ الكتب"1. 7- (الرد على الجهمية) : 8- (النقض على بشر المريسي) : كلاهما لعثمان بن سعيد الدارمي. قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وكتاباه من أَجَلِّ الكتب الْمَصَنَّفَةِ في السنة وَأَنْفَعِهَا، وينبغي لكل طالب سُنَّةٍ مراده الوقوفُ على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كِتَابَيْهِ، وكان شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة -رحمه الله- يُوصي بهذين الكتابين أشد الوصية، ويعظمهما جداً"2. 9- (فرع الصفات في تقريع نفاة الصفات) : لأبي العباس المظفري. قال ابن القَيِّم: "وهو - على صِغَرِ حجمه - كتابٌ جليلٌ، غزير العلم"3. 10- (أقسام اللَّذَّات) : لفخر الدين الرازي. قال ابن القَيِّم: "وهو كتاب مفيد"4.   1 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص121) . 2 المصدر السابق: (ص143) . 3 المصدر السابق: (ص196) . 4 المصدر السابق: (ص194) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ومن الكتب التي انتقدها وبيَّنَ بعض المآخذ عليها: 1- (سنن ابن ماجه) : قال ابن القَيِّم في حديث: «من مات مريضاً مات شهيداً": "من أفراد ابن ماجه، وفي أفرادِهِ غَرَائبُ ومُنْكَراتٌ"1. ونقل كلاماً في هذا المعنى عن شيخيه: ابن تَيْمِيَّة، والمزي2. 2- (المستدرك) : للحاكم. قال يرد على الحاكم في حكمه على حديث بأنه على شرط سلم وليس هو كذلك: "وهذا وأمثاله هو الذي شَانَ كِتَابَهُ وَوَضَعَهُ، وجعل تَصْحِيحَهُ دون تحسين غيره"3. 3- (حقائق التفسير) : لأبي عبد الرحمن السُّلمي (ت 412هـ) . قال ابن القَيِّم: " … التفاسير المستنكرة المستكرهة، التي قُصِدَ بها الإغراب والإتيان بخلاف ما يَتَعَارَفُهُ النَّاس؛ كَحَقَائِق السُّلَمي وغيره، مما لو تُتُبِّعَ وبُيِّنَ بُطلانه، لجاءَ عِدَّة أسفار كِبَار"4. ومن المصادر التي ذكر معلومات تعريفية إيضاحية عنها: 1- (مسند الإمام أحمد) : قال رحمه الله: "الإمام أحمد لم يشترط في مسنده الصحيح ولا   1 الروح: (ص110) . 2 زاد المعاد: (1/435) . 3 المنار المنيف: (ص21) . 4 الصواعق المرسلة: (2/696) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 التزمه، وفي مسنده عِدَّة أحاديث سُئِل هو عنها، فَضَعَّفَهَا بعينها وأَنْكَرَهَا"1. 2- (الكامل في ضعفاء الرجال) : لأبي أحمد بن عَدِيّ (ت365هـ) . قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وهو إنما يذكر فيه غالباً الأحاديث التي أُنْكِرَت على من يذكر ترجمته"2. 3- (خصائص المسند) : لأبي موسى المديني. قال: "وقد صَنَّفَ الحافظ أبو موسى المديني كتاباً ذكر فيه فضائل المسند وخَصَائِصَهُ"3. 4- (جامع الأصول) : لابن الأثير الجزري (ت606هـ) . قال ابن القَيِّم: "رزين بن معاوية صاحب (تجريد الصحاح) … وعلى كتابه التجريد اعتمد صاحب (جامع الأصول") 4. وبعد، فهذه أمثلة لِمَا جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - من كلام في تقويم مصادره والتعريف بها، وفي هذه الأمثلة تظهر شخصيته المتميزة، وأثرها في نقد مصادره - سلباً أو إيجاباً - نقداً مفيداً بنَّاءً، مما يجعل لهذه الأقوال وزنها في التعريف بهذه المصادر، والوقوف على مكانتها وقيمتها.   1 الفروسية: (ص46) . 2 الفروسية: (ص51) . 3 الفروسية: (ص49) . 4 مختصر الصواعق: (2/368) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ويؤكد هذا النقد - في الوقت ذاته - حقيقة أخرى، وهي: يقظة ابن القَيِّم وهو يستفيد من هذه المصادر، ومعرفته بأحوالها، وتمييزه بين غَثِّهَا وسمينها. المسألة الثالثة: في ذكر مصادر ابن القَيِّم الحديثية. وبعد أن استعرضنا منهج ابن القَيِّم في الاستفادة من مصادره، والنقل عنها، رأيت أن أسوق جملة من هذه المصادر، مع الإشارة إلى أبرز استفادته منها في مؤلفاته ما أمكن، وذلك لتكون أمثلة واقعيةً وتطبيقاً عملياً لما تقدم من الكلام على مصادره وسماتها. وقد كنت جمعت كل ما رأيته من ذلك في كتب ابن القَيِّم المختلفة، إلا أنني لَمَّا وقفت على كتاب الشيخ بكر أبي زيد -حفظه الله-: (موارد ابن القَيِّم في كتبه) التي بلغت عنده (569) كتاباً، رأيت أن اقتصر من ذلك على ذكر أهم مصادره وأبرزها في الحديث وعلومه فقط؛ إذ إن ذلك ألصق بموضوع هذا البحث، ومن أراد الزيادة على ذلك فعليه بكتاب الشيخ بكر آنف الذكر. وقد شجَّعني على المضي في ذكر ذلك أنني وجدت بعض المصادر التي وقفت عليها غير موجودة في قائمة الشيخ بكر أبي زيد. وسأُعْرِضُ في هذه القائمة عن ذكر الكتب التي يكثر ورودها عند ابن القَيِّم؛ كالكتب الستة وغيرها من الدواوين المشهورة؛ وذلك تجنباً للإطالة؛ إذ ليس القصد من ذلك الاستقصاء والحصر، وإنما القصد عرض نماذج تكون أمثلة لما وراءها، ومنبئة عن مثيلاتها، وأسوق ذلك كله مرتباً على حروف الهجاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 1- (الأحاديث الجِيَادُ المختارةُ) للضياء المقدسي: إغاثة اللهفان: (1/287) ، تهذيب السنن: (7/337) ، مختصر الصواعق: (2/404) . وذكرها باسم: (المختارة) . 2- (اختلاف الحديث) للشافعي: زاد المعاد: (1/379) ، (2/156) . 3- (الأدب المفرد) للبخاري: تحفة المودود: (132) ، مدارج السالكين: (2/167) . 4- (الأذكار) للنووي: جلاء الأفهام: (260) . 5- (الإرشاد) للخليلي: المنار المنيف: (116) . 6- (الاستيعاب) لابن عبد البر: اجتماع الجيوش: (64) ، جلاء الأفهام: (244) - وسماه فيه: الصحابة - تحفة المودود: (104) . 7- (الأطراف) لأبي القاسم ابن عساكر: وهو أطراف السنن الأربعة. زاد المعاد: (5/276، 627) ، تهذيب السنن: (3/313) . 8- (الأفراد) للدارقطني: زاد المعاد: (1/383) ، (4/60) . 9- (بيان الوهم والإيهام) لابن القطان: زاد المعاد: (2/276) ، تهذيب السنن: (1/356) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 10- (تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة: ذكره باسم: (اختلاف الحديث) . زاد المعاد: (4/150) ، مفتاح دار السعادة: (2/264) . 11- (التاريخ) لابن أبي خيثمة: زاد المعاد: (5/15) ، تهذيب السنن: (3/401) ، (7/114) ، الفروسية: (41) . 12- (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي: اجتماع الجيوش الإسلامية: (209) ، شفاء العليل: (428) ، الجواب الكافي: (335) ، مفتاح دار السعادة: (1/165) . 13- (التاريخ الكبير) للبخاري: تهذيب السنن: (1/136، 363) ، (2/292، 376) ، (3/134) ، زاد المعاد: (3/508) ، (5/626) ، جلاء الأفهام: (12) ، المنار المنيف: (85) ، تحفة المودود: (120، 225) ، الطرق الحكمية: (234) . 14- (تجريد الصحاح) لرزين بن معاوية العبدري: زاد المعاد: (1/491) . 15- (الترغيب والترهيب) لأبي موسى المديني: الروح: (110) . 16- (التقاسيم والأنواع) : وهو (صحيح ابن حبان) : ذكره بهذا الاسم في: عدة الصابرين: (166) . ونقل عنه في غيره كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 17- (التمهيد) لابن عبد البر: اجتماع الجيوش الإسلامية: (75، 76) ، زاد المعاد: (5/360) ، الروح: (112) ، الفروسية: (11/42) ، جلاء الأفهام: (180) ، مختصر الصواعق: (2/310) ، تهذيب السنن: (7/102، 116) . 18- (التمييز) للإمام مسلم: تهذيب السنن: (2/284) . 19- (تهذيب الآثار) لابن جرير الطبري: زاد المعاد: (4/368) ، الفروسية: (70) . 20- (تهذيب الكمال) : للمزي: زاد المعاد: (5/709، 722) ، جلاء الأفهام: (12، 34) ، الفروسية: (3) . 21- (الثقات) لابن حبان: جلاء الأفهام: (12، 20) ، زاد المعاد: (5/680، 681) ، مختصر الصواعق: (2/404) . 22- (الثَّقَفِيَّات) لأبي العباس الثقفي: اجتماع الجيوش: (60) ، جلاء الأفهام: (36) ، هداية الحيارى: (127) . 23- (الجامع) لابن وهب: مفتاح دار السعادة: (2/236) . 24- (الجامع) لسفيان الثوري: زاد المعاد: (2/311) ، تهذيب السنن: (6/324) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 25- (الجامع) لمعمر: زاد المعاد: (3/21) . 26- (الجامعُ لذكرِ أَئِمَّةِ الأمصار الْمُزَكِّين لرواة الأخبار) للحاكم: بدائع الفوائد: (3/195) . 27- (جزء الحسن بن أحمد بن نفيل) : جلاء الأفهام: (17) . 28- (الجمع بين الصحيحين) لعبد الحق: حادي الأرواح: (358) . 29- (حديث الحسن بن علي الجوهري) : زاد المعاد: (4/258) . 30- (حلية الأولياء) لأبي نعيم: الجواب الكافي: (68) . 31- (الخلافيات) للبيهقي: المنار المنيف: (138) . 32- (الدعوات الكبير) للبيهقي: الوابل الصيب: (192، 202) . 33- (الذكر) للفريابي: الوابل الصيب: (202) . 34- (السنن) لابن أبي حاتم1: الصلاة: (25، 47) .   1 ذُكِرَ أنه صنف (مسنداً) في ألف جزء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 35- (السنن) للأثرم: زاد المعاد: (1/227) ، (2/170، 188، 194) ، إعلام الموقعين: (3/55) ، إغاثة اللهفان: (1/140، 141، 270) . 36- (السنن الكبرى) للنسائي: زاد المعاد: (1/303) ، (2/331، 389) ، (5/677) ، الوابل الصيب: (143) ، بدائع الفوائد: (4/101) . 37- (سنن حرملة) : زاد المعاد: (1/510) . 38- (الشمائل) للترمذي: زاد المعاد: (4/307) . 39- (صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) : عدة الصابرين: (64، 98) . 40- (الضعفاء) للعقيلي: عدة الصابرين: (204) . 41- (الضعفاء) لابن الجوزي: الجواب الكافي: (367) . 42- (الضعفاء) للذهبي: زاد المعاد: (2/131) . 43- (الطبقات الكبرى) لابن سعد: زاد المعاد: (3/28، 409) ، جلاء الأفهام: (6، 264) ، الفوائد: (150) ، هداية الحيارى: (89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 44- (طبقات أصحاب الشافعي) للعباداني: زاد المعاد: (5/182) . 45- (علل حديث الزهري) : للذهلي، المعروف بالزهريات: تهذيب السنن: (1/107، 392) . 46- (العلل) لعبد الله بن الإمام أحمد: تهذيب السنن: (1/124) ، مفتاح دار السعادة: (1/169) . 47- (العلل) للخلاَّل: مفتاح دار السعادة: (1/164) . 48- (العلل) للترمذي: زاد المعاد: (2/385) ، تهذيب السنن: (1/80، 137) ، (3/134) ، (5/232) ، إعلام الموقعين: (2/352) ، الصلاة: (108) ، إغاثة اللهفان: (1/270) وغير ذلك. 49- (علل الحديث) لابن أبي حاتم: جلاء الأفهام: (34) ، تهذيب السنن: (1/110، 368) ، بدائع الفوائد: (3/197) ، الفروسية: (41) . 50- (العلل) للدارقطني: جلاء الأفهام: (6، 187) ، تهذيب السنن: (1/26، 184) ، الفروسية: (50) . 51- (العلل المتناهية) لابن الجوزي: إغاثة اللهفان: (1/315) . 52- (علوم الحديث) للحاكم. وهو: (معرفة علوم الحديث) : زاد المعاد: (5/434) ، تهذيب السنن: (7/107، 294) ، اجتماع الجيوش الإسلامية: (117) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 53- (علوم الحديث) لابن الصلاح: رسالة الموضوعات: (ق 47/أ) . 54- (غرائب مالك) للدارقطني: روضة المحبين: (100) . 55- (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم: تهذيب السنن: (3/426) ، أحكام أهل الذمة: (2/524) . 56- (غريب الحديث) للخطَّابي: زاد المعاد: (4/173) . 57- (الغَيْلانِيَّاتِ) وهو (الفوائد المنتخبة العوالي عن الشيوخ الثقات) لأبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: زاد المعاد: (4/339، 404) ، اجتماع الجيوش الإسلامية: (210) ، إعلام الموقعين: (2/334) . 58- (الفصلُ للوَصْلِ الْمُدْرِجِ في النقل) للخطيب البغدادي: تهذيب السنن: (5/399) ، جلاء الأفهام: (188) . 59- (فوائد أبي بكر بن عاصم) : تهذيب السنن: (6/21) . 60- (فوائد أبي سعيد القاص) : جلاء الأفهام: (18) . 61- (فوائد أبي الفرج الثقفي) لأبي الخير بن حمدان: مختصر الصواعق: (2/380) . 62- (الفوائد) لِتَمَّام: مختصر الصواعق: (2/405) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 63- (الكامل في ضعفاء الرجال) لابن عدي: زاد المعاد: (2/415) ، (4/258، 277) ، (5/754) ، الجواب الكافي: (366) ، روضة المحبين: (121) ، الفروسية: (51) ، إعلام الموقعين: (4/167) . 64- (الكفاية في علم الرواية) للخطيب البغدادي: اجتماع الجيوش الإسلامية: (95) . 65- (المترجم) لأبي إسحاق الجوزجاني: الفروسية: (20، 39) . 66- (المراسيل) لأبي داود: زاد المعاد: (1/232) ، (2/332) ، (4/300، 333) ، تهذيب السنن: (3/437) ، الفروسية: (33) ، الطرق الحكمية: (325) ، مختصر الصواعق: (1/89) . 67- (المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين) لابن حبان: الفروسية: (44) وسماه: الضعفاء. 68- (المستخرج) للبرقاني: أحكام أهل الذمة: (2/633) ، حادي الأرواح: (427) ، طريق الهجرتين: (681) . 69- (مسند إسحاق بن راهويه) : شفاء العليل: (18) ، طريق الهجرتين: (690) . 70- (مسند بقي بن مخلد) : المنار المنيف: (122) ، زاد المعاد: (1/446) ، (2/388) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 71- (مسند الحارث بن أبي أسامة) : زاد المعاد: (1/411) ، (4/260) ، عدة الصابرين: (166) ، روضة المحبين: (428) ، المنار المنيف: (147) . 72- (مسند الحسن بن سفيان) : تهذيب السنن: (7/110) ، زاد المعاد: (1/369) . 73- (مسند الحمَّاني) يحيى بن عبد الحميد الحماني: المنار المنيف: (147) . 74- (مسند الروياني) : جلاء الأفهام: (47) . 75- (مسند السَرَّاج) محمد بن إسحاق: روضة المحبين: (113) . 76- (مسند ابن أبي شيبة) : زاد المعاد: (4/180) ، جلاء الأفهام: (15) . 77- (مسند عبد بن حميد) : الروح: (108) ، جلاء الأفهام: (6) . 78- (مسند علي) للنسائي: جلاء الأفهام: (12) . 79- (مسند عمر) للإسماعيلي: جلاء الأفهام: (27، 28) ، الطرق الحكمية: (17) . 80- (مسند ابن منيع) : جلاء الأفهام: (53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 81- (مسند يعقوب بن سفيان) : روضة المحبين: (431) ، الطرق الحكمية: (67، 68) . 82- (مسند أبي مسلم الليثي) : روضة المحبين: (374) . 83- (مصنف وكيع) : زاد المعاد: (4/257) ، (5/440، 602) . 84- (المعجم) لأبي نعيم: مفتاح دار السعادة: (1/120) . 85- (معرفة السنن والآثار) للبيهقي: الروح: (187) ، زاد المعاد: (1/379) . 86- (معرفة الصحابة) لأبي نعيم: زاد المعاد (3/672) . 87- (معرفة الصحابة) لابن منده: جلاء الأفهام: (11) ، تهذيب السنن: (1/361) . 88- (المعرفة والتاريخ) ليعقوب بن سفيان الفَسَوِي: إعلام الموقعين: (3/83) ، الطرق الحكمية: (64) . 89- (المغني في الضعفاء) للذهبي: رسالة الموضوعات: (ق51/أ) . 90- (الموضوعات) لابن الجوزي: المنار المنيف: (63) ، عدة الصابرين: (204) ، زاد المعاد: (4/277) . 91- (موطأ القعنبي) : الفروسية: (29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 92- (موطأ يحيى بن بكير) : جلاء الأفهام: (205) . 93- (الناسخ والمنسوخ) لأبي جعفر النَّحَّاس: زاد المعاد: (5/670) ، إعلام الموقعين: (2/70) . 94- (الناسخ والمنسوخ) : لابن العربي المعافري المالكي: تهذيب السنن: (3/128) . 95- (الناسخ والمنسوخ) : للأثرم: إغاثة اللهفان: (1/189) . 96- (الناسخ والمنسوخ) لأبي عبيد: الطرق الحكمية: (192) . 97- (الناسخ والمنسوخ) : لأبي داود: بدائع الفوائد: (4/170) . 98- (النهاية في غريب الحديث) لابن الأثير: زاد المعاد: (1/161) . وبعد، فهذه أهم المصادر الحديثية التي وقفت عليها، مما أودعه ابن القيم - رحمه الله - في كتبه، مستفيداً منها وناقلاً عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 المبحث الرابع: دراسةُ بعض مؤلفات ابن القَيِّم لقد وقع اختياري على بعض كتبه الحديثية لتقديم صورة واقعية عن منهج ابن القَيِّم في مؤلفاته الحديثية بصورة خاصة، بعد أن استعرضت منهجه في مؤلفاته على وجه العموم. والكتب التي تشملها هذه الدراسة هي: 1- (تهذيب سنن أبي داود) . 2- (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) . 3- (رسالة فيها فوائد حديثية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 أولاً: (تهذيب سنن أبي داود) 1- تسمية الكتاب: لم ينص ابن القَيِّم - رحمه الله - في مقدمة الكتاب على تسميته كما هو الحال في بعض كتبه، ولكنه سماه في كتابه: (زاد المعاد) 1، فقال عند كلامه على نوم الجُنُب دون أن يمس ماءً: "وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب: تهذيب سنن أبي داود، وإيضاح علله ومشكلاته". وقد وافق ابن القَيِّم على هذه التسمية من مترجميه: الصَّفَدِي رحمه الله، فذكر هذا الاسم بحروفه2. أما ابن رجب رحمه الله، فقد سَمَّاه: (تهذيب سنن أبي داود، وإيضاح مشكلاته، والكلام على ما فيه من الأحاديث المعلولة) 3. وتبعه على ذلك: الداودي4، وابن العماد5. وهذه التسمية وإن اختلفت عن تسمية المؤلف، إلا أنها لا تبعد عنها كثيراً، وقد راعى ابن رجب في إطلاقها موضوع الكتاب، كما نصَّ عليه ابن القَيِّم في خطبته. وقد سَمَّاه ابن القَيِّم في مناسبة أخرى تسمية مختصرة، فقال:   (1/154) . 2 الوافي بالوفيات: (2/271) . 3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) . 4 طبقات المفسرين: (2/92) . 5 الشذرات: (6/169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 (تهذيب السنن) 1، وبهذه التسمية عُرِف الكتاب واشتهر. ومما سبق يتبين: أن ما ذكره الشيخ بكر أبو زيد2 من اتفاق جميع المترجمين لابن القَيِّم على اسم واحد للكتاب- وهو ما ذكره ابن رجب - غير صحيح، فقد تقدم أن الصَّفَدِي خالف في ذلك، وجاءت تسميته موافقة لتسمية ابن القَيِّم. 2- موضوع الكتاب: الكتاب في الأصل: تهذيب لمختصر المنذري لسنن أبي داود، وإلى هذا أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - في خطبته، فقال: "وكان الإمام ... المنذري - رحمه الله تعالى - قد أحسن في اختصاره وتهذيبه، وعزوِ أحاديثه، وإيضاح علله وتقريبه … جعلتُ كتابَهُ أفضلَ الزادِ، واتخذته ذخيرةً ليوم المعاد، فَهَذَّبْتُهُ نحو ما هَذَّبَ هو به الأصل"3. ولكن: هل كان كتاب ابن القَيِّم مجرد اختصار وتهذيب لكتاب المنذري؟ إن الدارس لحياة ابن القَيِّم العلمية، والباحث في أعماله التأليفية، لا يجد للمهذبات والمختصرات مكاناً بين كتبه؛ إذ إن ابن القَيِّم كان عنده الجديد الذي يرغب في تقديمه، فقد كان - رحمه الله - بحراً لا ساحل له، ولانهاية لعطائه وفوائده الغزيرة، فَلِمَ يشتغل مثله بالمختصرات والتهذيبات؟   1 بدائع الفوائد: (2/177) . 2 ابن قيم الجوزية - حياته وآثاره: (ص144) . 3 تهذيب السنن: (1/9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 فالناظر في كتابه (تهذيب السنن) يدرك لأول وهلة: أنه وإن كان يصدق عليه وصف الاختصار، إلا أنه في الحقيقة ليس إلا موسوعة من موسوعات ابن القَيِّم العلمية: في الحديث وعلومه، والفقه وأحكامه، وقد أشار - رحمه الله - في خطبته إلى ذلك، فقال: " ... وزدت عليه - يعني كتاب المنذري - من: الكلام على عللٍ سكت عنها أو لم يكملها، والتعرض إلى تصحيح أحاديث لم يُصَحِّحْها، والكلام على متون مُشْكِلَةٍ لم يفتح مُقْفَلَهَا، وزيادة أحاديث صالحة في الباب لم يُشر إليها، وبسطت الكلام على مواضع جليلة لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه، فهي جديرة بأن تُثْنَى عليها الخناصر، ويُعَضُّ عليها بالنواجذ"1. فهكذا يُحَدِّدُ ابن القَيِّم موضوع كتابه، ويصف ما أودعه من علوم بين طيَّاته، وعلى هذا فإنَّ تسمية المؤلف للكتاب - التي مر ذكرها عنه - مطابقةٌ تماماً لموضوع كتابه، فهو: تهذيب، وشرح، وبيانٌ، وتعقب، واستدراك، وغير ذلك. 3- منهج المؤلف في الكتاب: إن الحديث عن منهج ابن القَيِّم في هذا الكتاب قد تقدم ذكره عند الكلام على المنهج التأليفي العام لابن القَيِّم في كتبه، كما سيأتي شيء من ذلك - أيضاً - عند الحديث على منهجه في شرح الحديث والاستنباط منه، إلا أنه - مع ذلك - يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات التي يَتَمَيَّزُ بها هذا الكتاب عن غيره من مؤلفاته، مع إبراز النقاط التي نصَّ عليها في خطبة كتابه، فمن ذلك:   1 تهذيب السنن: (1/9 - 10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 أولاً: الحكم على الحديث وبيان علله التي سَكَتَ عنها المنذري أو لم يُكَمِّلها. فتارةً يحكم على الحديث الذي سكت المنذري عن الحكم عليه وبيان علته، فقد سكتَ المنذري عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ السِّجل كاتب كان للنبي صلى الله عليه وسلم ". فقال ابن القَيِّم: "سمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية يقول: هذا الحديث موضوع ... "1. وتارةً يُورِدُ ما أُعلَّ به الحديث الذي سَكَتَ عنه المنذري، للجواب عن هذه العلل وإثبات صحة الحديث، وهذا كثير في كتابه؛ فقد سكت المنذري عن حديث أنس رضي الله عنه في تخليل اللحية، فنقل ابنُ القَيِّم إعلال ابن حزم وابن القطَّان له، ثم رد عليهما بقوله: "وفي هذا التعليل نظر"2. ثم أخذ في الجواب عن ذلك. وذكر إعلالَ ابن حزم لحديث عائشة - رضي الله عنها - في اعتزال النبي لهن وهن حُيّض - وقد سكت عنه المنذري - ثم قال: "وما ذكره ضعيف ... فالحديث غير ساقط"3. وذكر إعلالَ ابن القطان حديث زينب بنت أبي سلمة في المرأة ترى ما يَرِيبُهَا بعد الطهر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إنما هو عِرْقٌ". ثم قال: "وهذا تعليل فاسد … "4.   1 تهذيب السنن: (4/196) . 2 تهذيب السنن: (3/107) . 3 تهذيب السنن: (1/177) . 4 تهذيب السنن: (1/189) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 والأمثلة على ذلك كثيرة، فحين يكون الحديث مُتَكَلَّماً فيه ويسكت المنذري عن بيان ذلك، نجده يذكر ما أُعِلَّ به الحديث، والجواب عنه وردَّ عِلَّتِهِ، هذا بالإضافة إلى ما سكت عنه المنذري وهو معلول حقاً، كما تقدم مثاله. وأما ما ذكر المنذري بعض علله ولم يكمل باقيها، فمثاله: أن المنذري ذَكَرَ بعض ما أُعِلَّ به حديث ميراثِ ابن الملاعنة، وترك بعضها، فقال ابن القَيِّم: "وأُعِلَّ أيضاً: بعبد الواحد بن عبد الله بن بسر النَّصْرِيِّ، راويه عن واثلة، قال ابن أبي حاتم: … لا يُحْتَجُّ به"1. ثانياً: الكلام على المتون الْمُشْكِلَةِ. فكثيراً ما كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يَعْمَدُ إلى بعض الأحاديث الْمُشْكِلَةِ، فيحاول دفع إِشْكَالاتِهَا، وإزالة غُمُوضِهَا وإِبْهَامِهَا. فمن ذلك: ما جاء في حديث عليّ رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه رشَّ رجليه بالماء وهما في النعلين، قال ابن القَيِّم: "هذا من الأحاديث الْمُشْكِلَةِ جِداً، وقد اختلفتْ مَسَالك الناس في دفع إِشْكَالِه … ". ثم ذكر سبعة من هذه المسالك، وبين رأيه هو2. ثالثاً: زيادة أحاديث في الباب لم يُشر المنذري إليها. وقد فَعَلَ ابن القَيِّم رحمه الله هذا كثيراً، فيقول: وفي الباب حديث فلان. وقد يتوسع في ذلك فيذكر كل من روى أحاديث الباب، مع   1 تهذيب السنن: (4/177) . 2 تهذيب السنن: (1/95 - 98) ، وانظر أمثلة أخرى في: (3/179) ، (4/102) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 قيامه- في بعض الأحيان - بتخريجها، والكلام على طرقها1. وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك - أيضاً - عند الكلام على منهجه في التخريج. رابعاً: زيادة بعض الأبواب مما لم يرد في (سنن أبي داود) . ولم يكتف ابن القَيِّم - رحمه الله - بزيادة أحاديث في بعض الأبواب، بل قام بزيادة بعض الأبواب التي لم ترد في (سنن أبي دود) ، مما رأى أن الأمر يستدعي إثباتها، مع إدخالها في المكان الملائم لها، وإيراد جملة من الأحاديث تحتها، فمن ذلك: أنه زاد في كتاب "الديات" - بعد قول أبي داود: باب فيمن تَطَبَّبَ بغير علم - بابين: - أحدهما: باب لا يُقْتَصُّ من الجرح قبل الاندمال. - والثاني: باب من اطلع في بيت قومٍ بغير إذنهم. ثم قال رحمه الله: "ولم يَذْكُرْ أبو داود هذا الباب ولا الذي قبله، ولا أَحَادِيْثَهُمَا، فذكرناهما للحاجة، والله أعلم"2. خامساً: بسط الكلام على بعض المسائل، والتوسع في بحثها. ففي كثير من المواطن نجد أن ابن القَيِّم يتوسع في الكلام: إما   1 انظر أمثلة لذلك في تهذيب السنن: (1/133) ، (5/99، 229، 317) ، (7/3، 60، 135) . 2 تهذيب السنن: (6/379 - 380) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 بشرح حديث وبيان معانيه، كما في حديث تلبية النبي صلى الله عليه وسلم 1، أو مناقشة علله، كما في حديث القلتين2، أو ذكر مذاهب العلماء في مسألة، وأدلة كل فريق، وبيان الراجح من ذلك، وهذا كثير جداً في كتابه3، أو ذكر ما تَضَمَّنَتْهُ أحاديثُ الباب من أحكام، وما اشتملت عليه من فوائد4. سادساً: تَعَقُّبُ المنذري في بعض المسائل. وأكثر هذه التعقبات إنما وَقَعَتْ في القضايا الحديثية، وما يتعلق بها: - فتارةً يرد إعلال المنذري حديثاً، ويجيب عن ذلك مُبَيِّنَاً ثبوت الحديث، وعدم صحة ما أُعِلَّ به5. - وتارةً يُعِلُّ المنذري حديثاً، فيرى ابن القَيِّم أنَّ له عِلَّةً أقوى من التي ذكر المنذري6. - وتارةً يردُّ عليه وهْمَهُ في تخريج بعض الأحاديث7. - وتارة يتعقب المنذري في تعقبه لأبي داود8.   1 تهذيب السنن: (2/335 - 340) . 2 تهذيب السنن: (1/56 - 74) . 3 انظر: تهذيب السنن: (2/308، 320، 345، 382) ، (4/96، 138) ، (5/111، 297) ، (6/336) . 4 تهذيب السنن: (2/344) ، (5/144) . 5 انظر: تهذيب السنن: (1/128، 148) ، (4/170، 315) ، (5/222) ، (7/94) . 6 تهذيب السنن: (2/316) . 7 تهذيب السنن: (5/419 - 420) . 8 تهذيب السنن: (3/134) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 - ويشتد تعقبه للمنذري إذا رآه يسكت عما لا ينبغي السكوت على مثله، ففي حديث عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم - اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال «قال ابن القَيِّم رحمه الله: "لم يتكلم المنذري على هذا الحديث، وهو وهم ... "1. إلى غير ذلك من الأمور التي تعقب فيها المنذري. 4- قيمة الكتاب: من خلال ما تقدم من عرض لموضوع الكتاب، وبيان لمنهج ابن القَيِّم فيه، يمكن لنا أن نقول: إن هذا الكتاب يعد موسوعة حديثية جامعة، يجد المطالع فيها: 1- شرح الأحاديث وتوضيح معانيها. 2- استنباط أحكامها واستخراج فقهها. 3- حلَّ مُشْكِلاتِها وفتح مُقْفَلاتها. 4- التوفيق بين ما ظاهره التعارض منها. 5- الكلام على عللها، وبيان صحيحها وضعيفها. 6- مع جمع أحاديث بعض الأبواب واستيفاء ما ورد فيها. إلى غير ذلك من الفوائد التي يجدها الناظر منثورة في ثنايا هذا الكتاب وبين صفحاته. 5- طبعات الكتاب: اشتهر الكتاب بتلك الطبعة التي وقعت في ثمانية مجلدات، حيث   1 تهذيب السنن: (2/423) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 طُبعَ معه في هذه المجلدات: (مختصر سنن أبي داود) للمنذري و (معالم السنن) للخطابي، وجاء (تهذيب) ابن القَيِّم في ذيل الصفحة. وقد حقق هذه الطبعة الشيخ/ محمد حامد الفقي، وشَارَكَهُ في الأجزاء الثلاثة الأولى منها: العلامة المحدث/ أحمد محمد شاكر رحمه الله، وكان الفراغ من طبعه في سنة 1369هـ. وهذه الطبعة - مع ما بُذِلَ فيها من جهد - فإنها مليئة بالأخطاء والتصحيفات، مع شيء من السقط لبعض الكلمات في بعض الأحيان القليلة، ولذلك فإن على المراجع لهذا الكتاب أن يكون يقظاً لمثل ذلك: ومن الأمثلة لتلك الأخطاء والتصحيفات: - ابن خزيمة (1/183) صوابه: ابن حزم. - يحيى بن سعيد (1/29) صوابه: بجير بن سعيد. - أخيه عبد ربه (3/309) صوابه: أخيه يحيى. - عن سعيد (3/312) صوابه: عن شعبة. - المقبري (3/312) صوابه: المقرئ. - الخزاعي (3/309) صوابه: الحراني. - محمد المنكدر (3/313) صوابه: محمد بن المنكدر. - حسين بن عبد الله (4/30) صوابه: حيي بن عبد الله. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً. كما أن من الأمور التي ينبغي التنبيهُ عليها: أن كتاب ابن القَيِّم لم يكن منفصلاً بالشكل الذي هو عليه الآن، وإنما كان على شكل تعليقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 على كلام المنذري مختلطة معه، ولا يمكن تمييزها عنها وفصلها إلا بالمقابلة الدقيقة بين كتاب ابن القَيِّم ومختصر المنذري لتمييز الزيادات. وقد قام بتجريد كلام ابن القَيِّم: محمد بن أحمد المسعودي، وتَرَكَ بعضاً من كلام ابن القَيِّم، حيث يقول: "ولست أدَّعي الإحاطة بجميع ما كتبه، بل الغالب والأكثر، وقد سقط منه القليل جداً لتعذركتابته، فعساه زاد لفظة أو لفظات في أثناء الكلام، فلم يُمْكِنُنِي إفرادها لاتصالها بكلام كتبه المنذري"1. وجاء في آخر النسخة - أيضاً - قول ابن القَيِّم رحمه الله: "وَقَعَ الفراغ منه في الحِجْر - حجر إسماعيل شرَّفَه الله تعالى - تحت الْمِيْزَاب - ميزابِ الرَّحمة في بيت الله - آخر شوال، سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة (732هـ) وكان ابتداؤه في رجب من السنة المذكورة"2. فيكون قد عَلَّقَه في مدة أربعة أشهر. كما أن للكتاب طبعة قديمة في دهلي بالهند، سنة 1891هـ، في (154) صفحة3. والظاهر أن هذه الطبعة اقتصر فيها على تهذيب ابن القيم وحده، ولم أتمكن من الوقوف عليها.   1 انظر ما جاء في آخر (تهذيب السنن) : (8/119 - 120) . 2 تهذيب السنن: (8/122) . 3 معجم ما طبع من كتب السنة (ص 94 - 95) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ثانياً: (الْمَنَارُ الْمُنِيفُ في الصَّحِيح والضَّعِيفِ) : 1- تسمية الكتاب: لم ينص ابن القَيِّم على اسم لهذا الكتاب في مقدمته، كعادته فيما يؤلفه إجابة على سؤال أو فتوى، ولم أر - أيضاً - تَسْمِيَتَهُ له ولا إشارته إليه في شيء من كتبه الأخرى. أما الذين ترجموا لابن القَيِّم وسردوا مؤلفاته: فلم يذكر أحدٌ منهم كتاباً له باسم: (المنار المنيف) ، ولكن ذكر بعضهم كتاباً له باسم: (نَقْدُ الْمَنْقُول والْمَحَكُّ المميز بين المردُودِ والْمَقْبُولِ) كما تقدم الكلام على ذلك عند سرد مؤلفاته، وذكرت هناك: أن هذا الكتاب لعله هو نفسه (المنار المنيف) ؛ وذلك لمطابقة هذه التسمية- (نقد المنقول … ) - للمادة الموجودة في (المنار) . فلعل هذا الاسم هو الذي عُرفَ به قديماً، ثم عُرفَ بعد باسم (المنار المنيف) ، وبخاصة أنه قد طُبع مرةً باسم: (نقد المنقول أو المنار ... ) مما يؤكد وجود تلك العلاقة بين الكتابين، فالله أعلم. وآخر طبعة للكتاب نشرت باسم: (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) بتحقيق الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني، وإعداد وإخراج الأخ منصور السِّماري وذلك سنة 1419هـ. وبهذا الاسم ذكره السيوطي ونقل عنه في رسالة له باسم (الأوج في خبر عوج) 1، مما   1 انظر: (الحاوي في الفتاوى) للسيوطي: (2/341) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 يؤكد أن هذا الاسم هو الذي اشتهر به الكتاب وعُرِفَ أخيراً1. 2- موضوع الكتاب: يشتمل هذا الكتاب على إجابة ابن القَيِّم - رحمه الله - على ثلاثة أسئلة سُئل عنها، وهذه الأسئلة على ترتيب ورودها في الكتاب على النحو التالي: السؤال الأول: ويشتمل على أربع مسائل، وهي: 1- السؤال عن حديث "صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك" وكيف يكون هذا التَّضْعِيفُ؟ 2- وقوله في حديث جويرية: "لقد قلتُ بَعْدَكِ أربعَ كلمات، لو وُزِنَت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن". 3- وحديث "صيام ثلاثة أيام من كل شهر يقوم مقام صيام الشهر". 4- وحديث: "من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله ... ". وقد قام ابن القَيِّم - رحمه الله - بالجواب عن هذا السؤال بمسائله الأربع، فبين حال هذه الأحاديث، مع ذكر جملة من الفوائد المتعلقة بها، وبخاصة: الكلام على تفاضل الأعمال وتفاوت درجاتها، وتفاوت قبولها تبعاً لذلك2.   1 وينظر حول تسمية الكتاب: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (192 - 194) ، ومقدمة المنار المنيف: (ص15 من طبعة أبي غدة) . 2 انظر: المنار المنيف: (ص19 - 43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 السؤال الثاني: وهو لبُّ الكتاب، فقد سُئل ابن القَيِّم رحمه الله: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن يُنْظَرَ في إسناده؟ وقد أخذ ابن القَيِّم - رحمه الله - في الجواب عن هذا السؤال - بعد أن بَيَّنَ أَهَمِّيَتَه وعظمَ شأنه - فذكر جملة من الضوابط والقواعد التي يمكن من خلالها معرفة ذلك، مع إيراد جملة من الأمثلة من الأحاديث الموضوعة تحت كل قاعدة. وقد ذَكَرَ ضمن ذلك جملةً من الأحكام الكُلِّيَّةِ الجامعة، كقوله: الأحاديث الواردة في ذلك كلها كذب، أو: لا يصح منها شيء، ونحو ذلك. وهذا هو أهم أبواب الكتاب وأكبرها، وأكثرها فوائد1. السؤال الثالث: عن حديث "لا مهدي إلا عيسى بن مريم"، وكيف يأتلف مع أحاديث المهدي وخروجه؟ وما وجه الجمع بينهما؟ وهل في المهدي حديث أم لا؟ فأخذ في الجواب عن ذلك، وذكر الأحاديث المتواترة في ذكر المهدي وأخباره، وقَسَّمَ الأحاديث الواردة في المهدي أربعة أقسام: صحاحٌ، وحسانٌ، وغرائب، وموضوعة. وأقوال العلماء في المهدي، وذكَرَ من خَرَجَ من الكَذَّابِيْن ممن ادَّعى أنه المهدي. ومن هذا العرض يتضح لنا: أن هذا الكتاب يتضمن الكلام على جملة من الأحاديث، وبيان صحيحها من ضعيفها، وإزالة الإشكالات عن بعضها، والتوفيق بين ما يبدو متعارضاً منها، مع اشتماله بصورة أكبر على   1 انظر: المنار المنيف: (ص43 - 141) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 مباحث مهمة في الأحاديث الموضوعة، وجملة من القواعد والضوابط لمعرفة الحديث الموضوع بالنظر إلى متنه دون إسناده. ولا يخلو الكتاب - مع ذلك كُلِّهِ - من جملة من الفوائد والتعليقات، والشروح والإيضاحات، التي لا يخلو منها كتابٌ من كتب ابن القَيِّم رحمه الله. 3- سبب تأليف الكتاب: ذكر الشيخ أبو غدة في سبب تأليف هذا الكتاب: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - أَلَّفَهُ إجابةً لسائل سأله: (هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط … ؟) فجاء هذا الكتاب جواباً على هذا السؤال، وأنه أضاف إلى هذا الجواب جوابين لسؤالين آخرين1. ولا أدري ما وجه هذا الكلام من الشيخ أبي غدة؟ وما وجه حصره سبب تأليف الكتاب في أنه جواب هذا السؤال بالذات؟ وما دليله على ذلك؟ فالذي أمامنا: أن الكتاب جوابٌ للأسئلة الثلاثة السابقة مجتمعة، وعلى الترتيب الذي بَيَّنَّا، فما وجه تخصيص السؤال الثاني من بينها بأنه سبب تأليف الكتاب؟ لا سيما وقد توسط هذا السؤال الكتاب، وجاء معطوفاً على السؤال الأول بقوله: "وسُئِلْتُ … "؟!. 4- منهج المؤلف في الكتاب: لا يختلف المنهج العام لابن القَيِّم في هذا الكتاب كثيراً عن منهجه   1 مقدمة المحقق للمنار المنيف: (ص10 - 11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 في بقية مؤلفاته، من حيث طريقة تناوله للمسائل الحديثية والفقهية وغيرها، ومع ذلك: فإن الفصل الخاص بالأحاديث الموضوعة وضوابط تمييزها هو الذي يحتاج إلى تسجيل بعض الملاحظات حول منهجه فيه، فمن ذلك: أولاً: يذكرُ ابن القَيِّم - رحمه الله - الضابطَ أو الْمِعْيَار الذي يُعْرَفُ به كون الحديث موضوعاً، ثم يذكر أمثلة لذلك من الأحاديث الموضوعة. وقد أدخلَ ابن القَيِّم ضمن هذه الضوابط: أحكاماً كُلِّيَّةً جامعةً، كقوله أثناء سرد هذه الضوابط: "ومنها: أحاديثُ العقل، كُلُّهَا كَذِبٌ … "1 وقوله: "ومنها: الأحاديث التي يُذْكر فيها الخَضِرُ وحياته، كلها كذب ... "2. وقوله: "ومنها: أحاديث صلوات الأيام والليالي … كل أحاديثها كذب"3. وغير ذلك. فهل هذه الأحكام الكُلِّيَّة الجامعة تدخل ضمن تلك القواعد التي يُسْتَدلُّ بها على وضع الحديث؟ الذي أراه أن بينهما فرقاً، فهذه قواعدُ تعينُ الناظر على معرفة كون الحديث ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أحسن تطبيقها، أما هذه الأحكام الكلية على أحاديثِ أبوابٍ بعينها: فإنها من تطبيقاتِ هذه القواعدِ، ولا يصلُ إليها الشخصُ إلا بعدَ بحثٍ ودرسٍ لأحاديث ذلك الباب وجمعها.   1 المنار المنيف: (ص66) . 2 المنار المنيف: (ص67) . 3 المنار المنيف: (ص95) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ولذلك أرى - والله أعلم - أن هذه الأحكام والضوابط الجامعة لا مكان لها بين هذه القواعد التي يُعرف بها كون الحديث موضوعاً. ويدلُّ على ذلك: أنه بعد سرده لهذه القواعد والضوابط قال: "فصل في ذكر جوامع وضوابط كلية في هذا الباب … "1 ثم أخذ في إصدار تلك الأحكام الكلية على أبواب بعينها: أنه لا يصح فيها شيء، فبدأ بأحاديث الحَمَام، ثم أحاديث اتخاذ الدجاج، ثم أحاديث ذم الأولاد ... إلى آخر هذه الأحكام الكلية؛ لذا أرى أن ما ذكره من هذه الأحكام الجامعة أثناء ذكر القواعد: مكانه الصحيح ضمن هذه الفصول التي عقدها لهذا الغرض، والله أعلم. ثانياً: قد يذكرُ ابن القَيِّم أثناء سرده الأحاديث الموضوعة: الشخص الْمُتَّهَمَ بوضعه، مع بيان حاله، وكلام العلماء فيه. وقد يذكر فِرْقَةً أو طائفة متهمة بوضع حديث ما، كقوله في حديث فضل العدس: "ويشبه أن يكون هذا الحديث من وضع الذين اختاروه على الْمَنِّ والسلوى، أو أشباههم"2. وقوله في بعض الأحاديث الموضوعة في فضائل علي: "كما يَزْعُمُ أَكْذَبُ الطوائف … "3 يعني الرافضة. ثالثاً: قد يُبَيِّنُ - رحمه الله - أثناء سرد أحاديث الباب: أن أمثل شيء جاء فيه كذا، ولا يعني بذلك صحة هذا الأمثل دائماً، ولكنَّ ذلك قد يكون من باب: أصح الضعيفين، فمن ذلك:   1 المنار المنيف: (ص 106) . 2 المنار المنيف: (ص 52) . 3 المنار المنيف: (ص 57) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 - قوله في الأحاديث الواردة في الصخرة ببيت المقدس - بعد أن حكمَ بوضعها-: "وأرفع شيء في الصخرة: أنها كانت قِبْلَةَ اليهود، وهي في المكان كيوم السبت في الزمان، أبدل الله بها هذه الأمة الْمُحَمَّدِيَّةَ الكعبة البيت الحرام"1. - وقال في الأحاديث الواردة في يوم عاشوراء: "وأمثل ما فيها: مَنْ وسَّعَ على عياله يوم عاشوراء، وسَّعَ الله عليه سائر سَنَتِهِ. قال الإمام أحمد: "لا يصح هذا الحديث"2. - وقال في أحاديث الأَبْدَالِ والأقطابِ والأَغْواثِ: "وأقرب ما فيها: لا تَسُبُّوا أهل الشام؛ فإن فيهم البدلاء … ذكره أحمد، ولا يصح أيضاً؛ فإنه منقطع"3. رابعاً: يُصْدِرُ ابن القَيِّم - كما سبق بيانه - أحكاماً كلية جامعة في بعض الأبواب، فيقول: "كلُّ حديثٍ في الصخرة فهو كذب مفترى"4. ونحو ذلك من الأمثلة الكثيرة التي احتلت جزءاً كبيراً من كتابه. وقد يستثني من هذه الأحكام الكلية بعض الأحاديث، كقوله: "أحاديث فضائل الدِّيكِ كُلُّهَا كذب، إلا حديثاً واحداً: إذا سمعتم صياح الدِّيكة فاسألوا الله فصله"5.   1 المنار المنيف: (ص 88) . 2 المنار المنيف: (ص 112) . 3 المنار المنيف: (ص 136) . 4 المنار المنيف: (ص 87) . 5 المنار المنيف: (ص 130) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ولكنَّ بعض هذه الأحكام التي أصدرها ابن القَيِّم - رحمه الله - لا تُسَلَّم له؛ إذ إن بعض الأبواب التي أطلق القول بعدمِ صحة أيِّ حديثٍ فيها، قد وُجِدَ فيها بعض الأحاديث على خلاف ذلك، وأنها تُستثنى من الحكم بالكذب أو الوضع. وقد نبَّه محقق الكتاب على شيء من ذلك1، ولكن تلك الملاحظات الطفيفة لا تُقَلِّلُ من شأن الكتاب بحال، وبخاصة إذا قُورنت بغزارة الفوائد التي احتواها هذا الكتاب. 5- أصل الكتاب: ذهب الشيخ أبو غدة في مقدمة تحقيقه للكتاب إلى أن (المنار المنيف) مختصر من كتاب (الموضوعات) لابن الجوزي، فقال: "وهذا الكتاب اللطيف الحجم، الغزير العلم … اختصر فيه الإمام ابن القَيِّم كتابَ الإمام أبي الفرج بن الجوزي المسمى: (الموضوعات) ، وأحسن الاختصار وأجاده … "! 2. كذا قال الشيخ، وأرى أنَّ هذه دعوى لا دليل عليها، وذلك لما يلي: - أن كتاب (المنار المنيف) ليس كتاباً مصنفاً في الأحاديث الموضوعة فحسب، ولكنه اشتمل - إلى جانب ذلك - على فصول أخرى في بيان الصحيح والضعيف، وغير ذلك كما مضى، ولذلك فإن هذا الكتاب لا يمكنُ إدراجه بجملته ضمنَ الكتب المصنفة في جمع الأحاديث الموضوعة، فضلاً عن عَدِّهِ اختصاراً لكتاب ابن الجوزي.   1 انظر مثلاً: (ص56، 60، 65، 87) . 2 المنار المنيف: (ص 11 - 12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 - أنَّ الكتاب جوابٌ لأسئلة طُرحت على ابن القَيِّم كما تقدم، مما يجعله بعيداً عن أن يكون متعلقاً بكتاب آخر. - لم ينص ابن القَيِّم على اختصاره هذه الفوائد والأجوبة من كتاب ما، وما يمنعُ ابن القَيِّم - رحمه الله - من النص على ذلك إن كان واقعاً. - لم أقف على من ذكر ذلك غير أبي غدة، بل ذكروا من مختصري كتاب ابن الجوزي: السفاريني، والسيوطي، وعلي بن أحمد الفاسي1. - يوجد تفاوتٌ كبيرٌ بين الكتابين: في المنهج والأسلوب، والمادة والمحتوى، وفي الترتيب والعرض. - لابن القَيِّم في (المنار المنيف) مصادره الخاصة به، التي أضاف منها مادةً لا يمكن وجودها في (موضوعات) ابن الجوزي، كالنقل عن شيخيه: ابن تَيْمِيَّة، والمزي، وغير ذلك من المصادر. - كما أن لابن القَيِّم في الكتاب أسلوبه المتميز المعروف، الذي تَظْهرُ فيه شخصيته النقدية واضحةً، مع الشرح والتحليل لبعض القضايا، التي لا يُوجد منها شيء في (الموضوعات) . فهذا ما ظهر لي في هذه القضية، وأنه لا يوجد دليلٌ - صريح أو غير صريحٍ - على أن ابن القَيِّم قد اختصر (الموضوعات) لابن الجوزي في كتابه هذا، فإن كان الشيخ يقصد بذلك: أن ابن القَيِّم استفاد من كتاب   1 انظر: الرسالة المستطرفة: (ص 112-113) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ابن الجوزي كثيراً في باب الموضوعات، وأنه - كما عَبَّر الشيخ - "قد استخلص من الأبواب التي ساقها ابن الجوزي ضوابط وأمارات تدل على الحديث الموضوع"1: فإن الأمر قد يكونُ مقبولاً شيئاً ما، أما أن يكون مجرد اختصار له: فلا، والله أعلم. 6- قيمة الكتاب: من خِلال العَرْضِ المتقدم يَتَبَيَّنُ لنا: أن هذا الكتاب يُعَدُّ مرجعاً مهماً في مجال نقد المتن، وذلك بما اشتمل عليه من ضوابط وقواعد تعين على تمييز الحديث الموضوع من خلال النظر إلى متنه دون إسناده. هذا بالإضافة إلى ما تضمنه من أحكام حديثية: بالصحة، والحسن، والضعف، والكلام على الكثير من الرواة جرحاً وتعديلاً، إلى غير ذلك من الفوائد التي لا يُستغنى عنها، والتي لا يخلو منها كتاب من كتب العلامة ابن القَيِّم رحمه الله.   1 المنار المنيف: (ص 12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ثالثاً: (فوائد في الكلام على حديث الغَمَامَةِ وحديث الغَزالةِ والضَّبِّ وغيره) 1- اسم هذه الرسالة: وردت هذه الرسالة بهذه التسمية في (فهرس مخطوطات المكتبة الظاهرية) 1 للشيخ الألباني، وأفاد أنها من محفوظات المكتبة الظاهرية، تحت رقم عام 5485 (ق100/1 - 117/2) . وهذه التسمية: لعلَّ الشيخ الألباني أخَذَها من موضوع الرسالة؛ فإنها تبدأ بالكلام على أحاديث الغمامة، والغزالة، والضب، والناقة، وغيرها. ووقفت على نسخة منها مصورة عن النسخة الظاهرية، ومحفوظة بمكتبة المخطوطات، بالجامعة الإسلامية، بالمدينة النبوية، ضمن مجموع برقم (1010) م 148. وجاء عنوانها في هذه المصورة: (فائدةُ على بعض الأحاديثِ الْمُشْتَهِرَة) . ووقفت على صورة منها - أيضاً - في مكتبة فضيلة شيخنا العلامة حماد الأنصاري رحمه الله، وكُتِبَ عليها -ولعله خط الشيخ حماد-: (رسالة لابن القَيِّم في الموضوعات) . ومن هذا العرض يتبين: أن هذه الرسالة لم يسمها مؤلفها، ولا أحد ممن ذكر مؤلفاته من مترجميه، وقد وَضَعَ لها بعض الواقفين عليها   (ص100) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 أسماء بحسب ما رأى كل واحدٍ منهم أنه يناسب موضوعها، ولعل أقرب الأسماء إلى موضوعها: تسميتها بأنها (رسالة في الموضوعات) لما سيأتي بيانه. 2- وصف الرسالة: تقع الرسالة في حوالي تسع عشرة (19) ورقة ذات صفحتين. وقد كُتِبَتْ بخط نسخي واضح وجيد، وهي مصححة، ومقابلة كما يتضح من بعض التعليقات والتصحيحات في حواشيها. ويبدو أنها جاءت ضمن مجموعة من الفوائد جمعها شخص في الأحاديث الموضوعة خاصة؛ فقد جاء فيها - في الورقة الأولى وبالخط نفسه -: "فائدة أخرى من غير مختصر الأباطيل". ثم قال بعد ذلك: "فائدة أخرى من كلام الشيخ الإمام العالم، مفتي المسلمين، ناصر السنة المحمدية، أبي عبد الله، شمس الدين، محمد بن أبي بكر بن أيوب، الزرعي الحنبلي تغمده الله برحمته آمين، قال: الحمد لله، أما حديث الغمامة … "1. 3- موضوع الرسالة: الرسالة - كما يظهرُ من كلام ابن القَيِّم في أولها - عبارةٌ عن جواب عن جملة من الأحاديث، سُئِل عنها فأخذ في الكلام عليها، وبيان حالها. وأغلبها من الأحاديث المنكرة والموضوعة كما سيأتي.   (ق1/أ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 - فقد بدأها بالكلام على حديث الغمامة التي أَظَلَّتْ النبي صلى الله عليه وسلم في سفره إلى الشام مع عمه أبي طالب وهو صغير. - ثم حديث الغزالة التي كَلَّمَتْ النبي صلى الله عليه وسلم. - ثم حديث الضَّبِّ الذي نطق بالوحدانية بين يديه صلى الله عليه وسلم. - ثم حديث الناقة التي نَطَقَتْ عنده. - وكذا حماره يعفور وتكليمه إياه، مع بيان نكارة بعض هذه الأحاديث وكذب بعضها الآخر. ويُلاحظُ وحدة الموضوع الذي يجمع هذه الأحاديث الخمسة، وهو إثبات بعضِ المعجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أفاض ابن القَيِّم في الكلام عليها، فاستغرق ذلك قريباً من نصف الرسالة. - ثم ذكر بعد ذلك جملةً من الأحاديث الموضوعة: كأحاديث حياة الخضر، وحديث عوج بن عنق، وأحاديث فضائل السور، وصلوات الأيام والليالي والأسبوع وغير ذلك، وهذه يقرب تناوله لها وكلامه عليها من كلامه في (المنار المنيف) . - ثم انتقل إلى الكلام على جملة من الأحاديث المتعلقة بالمساجد، فذكر تحت ذلك عدة فصول، منها: - فصل في تعاهد النعل عند دخول المسجد. - فصل أنه لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. - فصل في الامتناع عن حضور المسجد لأجل البرد. - فصل في اتخاذ المسجد بيتاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 إلى آخر هذه الفصول المتعلقة بالمساجد، ثم عقد بعد ذلك فصلاً في الصلاة في السفينة. وقد بَيَّن في كلِّ فصلٍ من هذه الفصول نكارةَ بعضِ الأحاديثِ الواردة فيها، وكَذِبِ بعضها، مع بيانِ ثبوتِ أصلٍ لأكثر هذه الأحاديث من جهات أخرى صحيحة. ومن هذا الْعَرْضِ يتضح أنَّ موضوعَ الرسالة: هو الكلامُ على جملة من الأحاديث الضعيفة، والمنكرة، والموضوعة، وبيان حالها تفصيلاً. 4- نسبة هذه الرسالة لابن القَيِّم: سبقت الإشارة إلى أن هذه الرسالة لم يَذْكُرْهَا أحدٌ من الذين ترجموا لابن القَيِّم، ولم أقف - كذلك - على أَيَّةِ إشارة من ابن القَيِّم إليها. وقد تَوَقَّفَ الشيخ بكر أبو زيد في نسبة هذه الرسالة لابن القَيِّم، وكان سبب ذلك عنده: - أن ابن القَيِّم كثير النقل فيها عن الذهبي، ووصفه مرةً بأنه شيخه، مع أن الذهبي - كما يرى الشيخ بكر - تلميذ لابن القَيِّم، ومن ثمَّ فإنَّ نَمَطَ الرسالة غريب على مسلك ابن القَيِّم في التأليف. - وأنه لم ينكشف له من أسباب التوثيق ما يقضي بنسبتها لابن القَيِّم1.   1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص178 - 179) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وأقول وبالله التوفيق: أما القول بأن الذهبي تلميذ لابن القَيِّم: فقد تقدم الجواب عن ذلك وبيانه عند الكلام على شيوخ ابن القَيِّم، وأن الأدلة تثبت تلمذة ابن القَيِّم للذهبي1. وأما أسباب التوثيق التي تؤكد نسبة هذه الرسالة لابن القَيِّم: فقد انكشف لي بعض ذلك، فمن هذه الأدلة: أولاً: نقل ابن القَيِّم كثيراً في أثناء هذه الرسالة عن شيخه ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، وبأسلوبه المعهود في ذلك، فمن ذلك: قوله: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة … "2. وقوله: "سمعت شيخنا أبا العباس بن تَيْمِيَّة … "3. وقوله: "سمعت شيخنا ابن تَيْمِيَّة - رحمه الله - يقول … "4. إلى غير ذلك من المواضع العديدة التي نَقَلَ فيها عن شيخه شيخ الإسلام5. ثانياً: وجود تطابق كبير بين هذه الرسالة وبين سائر كتب ابن القَيِّم من حيث: أسلوبه في الكتابة والتعبير، ومنهجه في البحث والمناقشة للقضايا، وطريقة عرضها وتحليلها.   1 انظر ص: (155) . 2 رسالة الموضوعات: (ق9/أ) . 3 رسالة الموضوعات: (ق9/ب) . 4 رسالة الموضوعات: (ق12/ب) . 5 انظر من ذلك: (ق8/أ، 10/ب، 13/أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 يلمس ذلك كله من له خبرة ومعرفة بأسلوب ابن القَيِّم وطريقته في الكتابة والتأليف، وقد وافقني على ذلك بعض من طالَعَ الرسالة واستفاد منها. ثالثاً: وجودُ تطابقٍ كامل بين كلامه على بعض القضايا التي تناولها في هذه الرسالة، وكلامه على القضايا نفسها في كتبه الأخرى، ومن أمثلة ذلك: 1- أنه تناول في هذه الرسالة قضية وقوع الغلط والوهم من الثقة أحياناً، وأن إخراج أصحاب الصحيح لهذا الثقة فيما لم يخطئ فيه، لا يجعل ما أخطأ فيه على شرطهما1. وقد تناول القضية بعينها في كتابه (الفروسية) 2، فتطابق كلامُهُ في الكتابين إلى حدٍّ كبير. 2- أنه تناوَلَ - عند كلامه على حديث الغمامة - قضية ردِّ أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة لَمَّا نصحه بذلك بحيرى الراهب، وما جاء في الترمذي في هذه القصة: وأرسل معه أبو بكر بلالاً رضي الله عنه، وأنَّ ذلك من الغَلَطِ الظَّاهِرِ في هذه القصة3. وقد تناول القضية بعينها ونَبِّهَ على هذا الغلط في كتابه (زاد المعاد) 4، وبالطريقة نفسها، بشيء من الاختصار.   1 رسالة الموضوعات: (ق4/أ) . (ص45) . 3 رسالة الموضوعات: (ق2/أ) . (1/76) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 رابعاً: يُلاحظُ - أيضاً - وجودُ تطابقٍ كبيرٍ بين مَصَادِرِ ابنِ القَيِّم في هذه الرسالة، وطريقة نقله منها، وتعامله معها، وبين مصادره في سائر كتبه، وليُنْظَرْ - على سبيل المثال - قوله في هذه الرسالة: "روينا في الغيلانيات"1، وقد استعمل الطريقة نفسها في النقل عن هذا الكتاب في (اجتماع الجيوش الإسلامية) 2 فقد وجدت فيه العبارة بحروفها. خامساً: وجودُ تطابقٍ تَامٍّ بين كلام ابن القَيِّم وطريقة معالجته لجملة من الأحاديث الموضوعة في هذه الرسالة، وكلامه على الأحاديث نفسها في كتابه (المنار المنيف) ، فمن ذلك: 1- الكلام على الأحاديث الواردة في حياة الخضر، فقد تطابق كلامه في الكتابين في عدة نقاط، منها على سبيل المثال: - قوله: "قال شيخ الإسلام: لو كان الخَضِرُ حياً لوجب عليه أن يَتَّبِعَ النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون معه، ويجاهد الكفار معه، ولا يتخلف عنه … "3. - وقوله: "سُئِلَ محمد بن إسماعيل البخاري عن الخضر وإلياس، هل هما في الأحياء؟ فقال: وكيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على ظهر الأرض أحد" "4. 2- الكلام على حديث عوج بن عنق الطويل، فقد تطابق كلامه في الكتابين في عدة نقاط، منها:   1 رسالة الموضوعات: (ق16/أ) . (ص 210) . 3 رسالة الموضوعات: (ق9/أ) ، وقارن مع (المنار المنيف) : (ص68) . 4 رسالة الموضوعات: (ق8/ب) ، وقارن مع (المنار المنيف) : (ص67 - 68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 - قوله: "وأظنه من وضع زنادقة اليهود الذين غَرَضُهم السخرية من أتباع الرسل"1. - وقوله: "والعجب ممن يخفى عليه كذبُ هذا الحديث وبطلانه، كيف يرويه ويذكره في تفسيره أصدق الكلام، حتى قال الثعلبي ... "2. 3- أحاديث فضائل السور، فقد تطابق كثير من كلامه عنها في الكتابين فمن ذلك: - قوله: "والذي صحَّ في فضائل القرآن من السور: حديث فضل الفاتحة، وسورة البقرة، وآل عمران، وسورة الإخلاص، والمعوذتين"3. وبالجملة، فالتشابه كبير بين الكتابين: في المادة، وفي الأسلوب وطريقة العرض، يتضح ذلك بأدنى مقارنة بينهما، الأمر الذي يؤكد - بدون شك - صحة نسبة هذه الرسالة لابن القَيِّم. سادساً: ما جاء في مطلع الرسالة من التصريح بذكر ابن القَيِّم، ونسبة هذه الفوائد إليه، فإن ذلك إذا ضُمَّتْ إليه الأدلة السابقة: أكدت صدقه وثبوته. تلك بعض الأدلة التي ظهرت لي، مما يُسْتأنس به في تأكيد صحة نسبة هذه الرسالة لابن القَيِّم رحمه الله.   1 رسالة الموضوعات: (ق9/ب) ، وقارن مع (المنار المنيف) : (ص 78) . 2 رسالة الموضوعات: (ق9/ب) ، وقارن مع (المنار المنيف) : (ص77) . 3 رسالة الموضوعات: (ق12/أ) ، وقارن مع (المنار المنيف) : (ص 113) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 5- منهجه في هذه الرسالة: لا يكاد يختلف منهج ابن القَيِّم - كما سبق التنبيه - في هذه الرسالة، عن منهجه العام في كتبه الأخرى، وبخاصة الكتب ذات الطابع الحديثي، وكذا كتبه الأخرى التي تخللتها بعض المباحث الحديثية. وقد تَمَيَّزَ منهجه في هذه الرسالة: بالتوسع في دراسة بعض الأحاديث، وتفصيل القول في بيان عللها، ومناقشتها، وذكر أقوال العلماء في ذلك كله، وبخاصة الأحاديث الخمسة التي وقعت في أول الرسالة. 6- قيمة هذه الرسالة: تُعَدُّ هذه الرسالة دُرَّةً من دُرَرِ ابن القَيِّم النفيسة، فهي تحوي جملة من الأحكام الحديثية: بالضعف، والنكارة، والوضع، وفي بعض الأحيان: بالصحة، سواء ما كان من كلامه، أو من كلامٍ نَقَلَهُ عن غيره من علماء أعلام. وتظهر فيها شخصية ابن القَيِّم المتميزة في تعليقات له قَيِّمَةٍ ومفيدةٍ في خلال أبحاثه، وكما هي عَادَتُهُ في سائر كتبه. وبذلك تنضمُّ هذه الرسالة إلى قائمة مؤلفات ابن القَيِّم وبحوثه النافعة في خدمة الحديث النبوي وعلومه، وتَمْيِيز صحيحه من سقيمه، وسليمه من معلوله، وصدقه من مكذوبه1.   1 وقد طُبِعَت هذه الرسالة مؤخراً بعد تقديم أطروحتي هذه، وكتابتي هذه السطور، بتحقيق الأخوين الفاضلين: مشهور بن حسن آل سلمان، وإياد بن عبد اللطيف القيسي، في سنة 1416هـ، وصدرت عن دار ابن الجوزي، بالمملكة العربية السعودية، وهي طبعة جيدة معتنىً بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وبعدُ، فهذه أهم مؤلفات ابن القَيِّم الحديثية التي رأيت أن أُبْرِزَها وأتوسع في الكلام عليها وأنا أتحدث عن حياة ابن القَيِّم التأليفية، ومنهجه في ذلك، وما تَرَكَهُ من مؤلفات، وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 الباب الثاني: آراء ابن القيم ومنهجه في الحديث وعلومه الفصل الأول: آراء ابن القيم وإفاداته في مسائل مصطلح الحديث المبحث الأول: أقسام الخبر ... تمهيد في ذكر إضاءات وقبسات من دُرَرِ كلام العلامة ابن القَيِّم رحمه الله، جعلتها توطئة وتقدمة بين يدي هذا الباب، وأجملها في النقاط التالية: أ - بيان حفظ الله - سبحانه - لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. لقد بعث الله - عزوجل - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهُدَى ودين الحق، وأنزل عليه كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأمره بتبليغه إلى الناس كافة، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] . وتَكَفَّلَ - سبحانه - بحفظ هذا الكتاب، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . وقد وَكَلَ إلي نبيه صلى الله عليه وسلم مهمة البيان للقرآن، فقال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] . وقال سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] . فَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خير قيام: يُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، ويُقَيِّدُ مطلقه، ويشرح ألفاظه، ويُوَضِّحُ أَحْكامه ومعانيه، فكان هذا البيان منه صلى الله عليه وسلم هو سُنَّتَه التي بين أيدينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ولما كان هذا البيان منه صلى الله عليه وسلم بياناً لكتاب الله، فإنه كان مؤيداً في ذلك من الله عزوجل، وكانت سُنَّتُه وحياً من عند الله سبحانه، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] . وقال عزوجل آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] . وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيتُ الكِتَاَب ومثله معه" 1. قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: "والذِّكْرُ اسم واقعٌ على كل ما أَنزلَ الله على نَبِيِّهِ: من قرآنٍ، أو سُنَّةٍ وحيٍّ يبيِّنُ بها القرآن"2. وفيما يلي نصوص فريدة عن العلامة ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الموضوع: تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى بالتوضيح والبيان، فقال مرة - بعد أن ذكر جملة من الآيات الدالة على أن السنة وحي من الله - قال: "فَعُلِمَ أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كله وحي من عند الله، وكل وحي من عند الله فهو ذكر أنزله الله.   1 أخرجه أحمد في المسند (4/131) ، وأبو داود (5/10) ح 4604 ك السنة، باب في لزوم السنة، وابن حبان في صحيحه - الإحسان (1/107) ح 12. قال الشيخ الألباني: "صحيح". (صحيح الجامع ح 2643) . 2 الإحكام في أصول الأحكام: (1/36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وقد قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] ، فالكتاب: القرآن، والحكمة: السنة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإني أُوتِيتُ الكتاب ومثله معه"، فأخبَر أنه أُوتي السُّنَّة كما أُوتي الكتاب"1. وقال - رحمه الله - في موضع آخر: "إن كلَّ ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما أنزل الله وهو ذكرٌ من الله أنزله على رسوله"2. فإذا تبين أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذكر الذي أنزله الله عليه، فإنها بذلك تكون داخلة في الوعد الذي قطعه - سبحانه - على نفسه بحفظ هذا الذكر حين قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فتكون السنة محفوظة - بحفظ الله عزوجل لها - من طعنِ الطاعنين، وعبث العابثين، وكذب الكاذبين. * وقد عبَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن هذا الحفظ الإلهي للسنة النبوية، فقال: "وقد تكفل الله سبحانه بحفظه - يعني الذكر - فلو جاز على حُكْمِهِ - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - الكذبُ والغلطُ والسّهوُ من الرواة، ولم يقم   1 مختصر الصواعق المرسلة: (2/371 - 372) . طبعة / دار الفكر. 2 المصدر السابق: (2/481) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 دليلٌ على غَلَطِهِ وسهوِ نَاقِلِه، لَسَقَطَ حُكْمُ ضَمَانِ الله وكفالَتِهِ لحفظه، وهذا من أعظم الباطل ... "1. وقال رحمه الله: "والله تعالى قد ضَمِنَ حفظ ما أوحاه إليه وأنزل عليه، ليقيم به حُجَّتَهُ على العباد إلى آخر الدهر ... فلو جاز على هذه الأخبار أن تكون كذباً، لم تكن من عند الله، ولا كانت مما أنزل الله على رسوله وآتاه إياه، تفسيراً لكتابه وتبييناً له. وكيف تقوم حجته على خلقه بما يجوز أن يكون كذباً في نفس الآمر؟ فإن السنة تجري مجرى تفسير الكتاب وبيان المراد، فهي التي تُعَرِّفُنا مراد الله من كتابه، فلو جاز أن تكون كذباً وغلطاً، لبطلت حجة الله على العباد ... "2. وهذا ظاهر في أن الله - عزوجل - قد تكفل بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ هي بيان لكتابه الكريم، ولو لم يكن هذا الْمُبَيِّن محفوظاً، بحيث لم يُدْرَ صَحِيحهُ من خطئه، ولا صِدْقُهُ من كذبه، لعدم الانتفاع به والاعتماد عليه في معرفة مراد الله من كتابه، وهذا من أبطل الباطل، بل هو محال. وإن من مظاهر هذا الحفظ لسنته صلى الله عليه وسلم: ما قام به علماء الإسلام وجهابذته من جهد ظاهر، وعمل دؤوب مُضْنٍ، في سبيل جمع هذه السنة وتدوينها، ووضع القواعد التي تضبط روايتها، وتحدد قبولها من ردها، وتمحص أحوال نقلتها ورواتها.   1 مختصر الصواعق المرسلة: (2/481) . 2 مختصر الصواعق المرسلة: (2/372) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ولأجل ذلك، لَمَّا سُئل عبد الله بن المبارك - رحمه الله - عن هذه الأحاديث المصنوعة الموضوعة؟ أجاب قائلاً: "يعيش لها الجهابذة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} "1. فعدَّ - رحمه الله - جهود هؤلاء الجهابذة في تنقيتها وتمحيصها، من تمام حفظ الله - عز وجل - لدينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد نوَّه ابن القَيِّم - رحمه الله - بجهد هذه الطائفة المنصورة المؤيدة، واعتبر ذلك من تمام حفظ الله لهذا الدين، فقال: "والله - عزوجل - يؤيد من ينافح عن رسوله صلى الله عليه وسلم تأييداً خاصاً، ويفتح له في معرفة نقد الحق من الباطل فتحاً مبيناً، وذلك من تمام حفظه لدينه، فإنه لا يزال من عباده طائفة قائمة بنصرته إلى أن يأتي أمر الله"2. فَتَخَلَّصَ من ذلك: تأكيد ابن القيم رحمه الله أن هذه السنة النبوية المطهرة لما كانت من وحي الله - عزوجل - الْمُنَزَّلِ، فإنه - سبحانه - قد ضَمِنَ حفظها وصيانتها، وتأييد من يقوم بنصرتها. ب - بيان وجوب اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمها: لما كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنزلة التي قدمنا، وعلى الأهمية التي وصفنا، فقد وجب على كل من أراد معرفة الله - عزوجل -   1 الجرح والتعديل: (1/18) ، وتدريب الراوي: (1/282) . 2 رسالة الموضوعات: (ق43/ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وعبادته على بصيرة أن يتخذ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم طريقاً إلى تحقيق ذلك، وأن يعبده سبحانه على وفق ما جاء به صلى الله عليه وسلم عن ربه. ولقد حَذَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ تَرْكِ سنته والإعراض عنها، بدعوى أنه لا نظير لها في القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا أُلْفِيَنَّ أحدكم مُتَّكِئَاً على أَرِيكَتِهِ، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرتُ به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" 1. ومن كان على هذه الشاكلة - والعياذ بالله - فهو على خطر عظيم، وشرٍّ جسيم، إذ يُفَرِّق بين كتاب الله عزوجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، مع أن الكلَّ من عنده سبحانه. هذا، مع مخالفة أمره - سبحانه - باتباع نبيه في كل ما جاء به، والأخذ عنه؛ إذ قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وقد وقفت على كلمات رائعة لابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الخصوص، فمنها: قال رحمه الله - في بيان خطر هؤلاء الذين يتركون السنن إذا لم يكن لها نظير في القرآن، وذلك عند رَدِّهِ على من نازع في اعتداد المتوفى عنها زوجها في بيتها -:   1 أخرجه: أبو داود في سننه: (5/12) ؛ 4605 ك السنة، باب في لزوم السنة، وابن ماجه في المقدمة: (1/6) ح13، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصححه الشيخ الألباني كما في (تخريج المشكاة) : (ح 162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 "بل غايتها - يعني هذه السنة - أن تكون بياناً لحكم سَكَتَ عنه الكتابُ، ومثل هذا لا تُردُّ به السنن، وهذا الذي حَذَّرَ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه: أن تُتْرَك السنة إذا لم يكن لها نَظِيْرُ حُكْمِهَا في القرآنِ"1. يشير - رحمه الله - بذلك إلى الحديث الماضي ذكره. ويقول - رحمه الله - في مناسبة أخرى - مؤكداً وجوبَ التسليم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو خالفه من خالفه، وذلك عند رَدِّهِ على من عارض حديث الصيام عن الميت -: "ولا سبيل إلى مقابلته - يعني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا بالسمع والطاعة والإذعان والقبول، وليس لنا بعده الخيرة، بل الخيرة كلُّ الخيرة في التسليم له والقولِ به، ولو خالفه مَنْ بين المشرقِ والمغرب"2. وقال - رحمه الله - في خطبة (تهذيب السنن) 3 محذراً من ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم لآراء الرجال: "فما ظَنُّ من اتَّخَذَ غير الرسول إمَامَه، ونَبَذَ سُنَّتَهُ وراء ظهرهِ وجعل خواطر الرجال وآراءها بين عينيه وأَمَامَهُ، فسيعلمُ يوم العرض: أي بضاعة أضاع، وعند الوزن: ماذا أحضر من الجواهر أو خُرْثِيِّ4 المتاع".   1 زاد المعاد (5/692) . 2 الروح: (ص183) . (1/7) . 4 الخُرْثِي: أردأ المتاع والغنائم، وهي سَقَطُ البيت من المتاع. (لسان العرب: ص1124 مادة: خرث) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ونبَّه ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ضرورة العمل بما صحَّ من حديثه صلى الله عليه وسلم، وإن كثر المخالفون، فقال - في الرد على من قدم عمل أهل المدينة على السنن الثابتة -: "وإذا اختلف علماء المسلمين لم يكن عمل بعضهم حُجَّةً على بعض، وإنما الْحُجَّةُ اتباع السُّنَّةِ، ولا تترك السنة لكون عمل بعض المسلمين على خِلافِهَا، أو عمل بها غيرهم، ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها، لَتُرِكَتْ السنن وصارت تبعاً لغيرها. والسنة هي العيار على العمل، وليس العمل عياراً على السنة، ولم تُضْمن لنا العصمة - قط - في عمل مصر من الأمصار دون سائرها ... فمن كانت السنة معه فَعَمَلُهُ هو العمل المعتبر حقاً، فكيف تترك السنة المعصومة لعمل غير معصوم؟ "1. وقال - رحمه الله - في مدح أهل السنة، وبيان صفتهم: "والسنة أجَلُّ في صدورهم من أن يقدموا عليها: رأيا فقهياً، أو بحثاً جدلياً، أو خيالاً صوفياً، أو تناقضاً كلامياً، أو قياساً فلسفياً، أو حكماً سياسياً". ثم يقول: "فمن قَدَّم عليها شيئاً من ذلك: فبابُ الصواب عليه مسدود، وهو عن طريق الرشاد مصدودٌ"2.   1 إعلام الموقعين: (2/380 - 381) . 2 حادي الأرواح: (ص30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فهكذا يؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - ضرورة التمسك بالسنة، وتقديمها على ما سواها، والتحاكم إليها عند التنازع لا إلى آراء الرجال. ويُحَذِّرُ كل التحذير من الإعراض عنها بدعوى عدم وجود حكمها في القرآن. جـ - بَيَانُ فَضِيْلَةِ الإسنادِ، وأَهَمِّيَتِه فِي نَقْل الأحكامِ الشَّرعِيَّة وتوثيقها. لقد اختص الله - سبحانه - أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الخصِّيصة الفاضلة- وهي الإسناد - ومَيَّزَهَا بذلك على سائر الأمم. روى الخطيب في (شرف أصحاب الحديث) 1 بسنده إلى محمد ابن حاتم بن المظفر، أنه قال: "إِنَّ اللهَ أَكْرَمَ هذه الأمة وشَرَّفَهَا وفَضَّلَهَا بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها - قديمهم وحديثهم - إسنادٌ، وإنما هي صحفٌ في أيديهم، وقد خَلَطُوا بكتبهم أَخْبَارَهُم ... ". وقال أبو علي الجياني: "خصَّ اللهُ هذه الأمةَ بثلاثةِ أشياء لم يُعطها مَنْ قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب"2. وما هذه الفضيلة الغالية إلا من تمام نعمته - سبحانه - على هذه الأمة: حفظاً للرسالة الخاتمة، وصوناً لها عن عبث العابثين، لتقوم بها حجة الله على خلقه إلى قيام الساعة.   (ص40) . 2 قواعد التحديث: (ص201) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 إن الإسناد هو الطريق إلى تلقي الأحكام الشرعية عن سيد المرسلين، وقد أكد الأئمة - رحمهم الله - هذا المعنى، فكان مما نُقِلَ عنهم في ذلك: ما رواه مسلم في مقدمة (صحيحه) 1، والترمذي في (العلل المفرد) 2، والخطيب في (شرف أصحاب الحديث) 3 بأسانيدهم إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله، أنه قال: "الإسناد عندي من الدين، ولولا الإسناد لَقَالَ من شاء ما شاء". وروى مسلم بإسناده إلى ابن المبارك - أيضاً - أنه قال: "بيننا وبين القوم القوائمُ"4. يعني الإسناد. وروى الخطيب بسنده إلى سفيان بن عيينة رحمه الله، أنه قال: "الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟ "5. وقال الزهري - رحمه الله - لإسحاق بن أبي فروة - وقد حَدَّثَ عنده بأحاديث لم يسندها -: "قَاتَلَكَ الله يا ابن أبي فروة، ما أجرأكَ على الله، لا تُسْنِدُ حديثك؟ تُحَدِّثُنا بأحاديث ليس لها خُطُمٌ ولا أَزِمَّةٌ"6. والأقوال في هذا المعنى كثيرة مشهورة.   (1/5) . (5/740) من جامع الترمذي. (ص41) . 4 مقدمة صحيح مسلم: (1/5) . 5 شرف أصحاب الحديث: (ص42) . 6 معرفة علوم الحديث: (ص6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وتظهر أهمية الإسناد، والحرصُ على طلبه والسؤال عنه: في أنه وسيلة تمييز الأخبار، وتمحيص الآثار، فعن طريق النظر في الإسناد يُعْرَف الصحيح من الضعيف، ويُنفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو عبد الله الحاكم: "فلولا الإسناد، وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه: لَدَرَسَ1 منار الإسلام، ولَتَمَكَّنَ أهلُ الإلْحَادِ والبدع فيه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد؛ فإنَّ الأخبارَ إذا تَعَرَّت عن وجودِ الأسانيد فيها كانت بُتْراً"2. وقد دلَّ صنيع ابن القَيِّم - رحمه الله - وأقواله في أكثر من مناسبة على الاهتمام بأمر الإسناد، والتوقف عن قبول ما ليس له إسناد، فمن الأمثلة على ذلك: قوله - رحمه الله - في حديث مالك بن يَخامِر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً: " اللهم صَلِّ على أبي بكر فإنه يحب الله ورسوله ... ": "لا عِلْمَ لنا بصحة هذا الحديث، ولم تذكروا إسنادَهُ لننظر فيه"3. وقال مرة في حديثٍ: "لم يُذكر لهذا الحديث إسناد فيُنْظَرَ فيه، وحديث لا يُعْلَمُ حالُهُ لا يُحْتَجُّ به"4.   1 دَرَسَ المنزل دُرُوساً: عَفَا وخفيت آثاره. (المصباح المنير: 1/192) . 2 معرفة علوم الحديث: (ص6) . والبُتْرُ: جمع أبتر، وهو المنقطع. 3 جلاء الأفهام: (ص269) . 4 عدة الصابرين: (ص148) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وقال في حديث صفية في ولادته صلى الله عليه وسلم مختوناً: "ليس له إسناد يُعرف به"1. وقال - أيضاً - متعقباً ابن عبد البر في حديث ذكره: "ولم يذكر له إسناداً فينظر في إسناده"2. فهذه بعض أقوال ابن القَيِّم - رحمه الله - في تأكيد أهمية الإسناد، وعدمِ قبولِ الحديث ما لم يُذكر إسناده؛ إذ إن قبوله متوقف على النظر في حال رواته كما تقدم. وأما ما جاء عنه - رحمه الله - من قوله في قصة إسلام غيلان بن سلمة وتحته عشر نسوة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بإمساكٍ أربع منهن: "فشهرةُ القصةِ تُغني عن إسنادها"3. وقوله في الآثار المرويَّة عن عمر، وعلي، وعثمان - رضي الله عنهم - في جلد الشارب ثمانين: "وشهرتها تغني عن إسنادها"4. وقوله عن الشروط العُمَرِيَّة التي كتب بها إلى نصارى أهل الشام: "وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها: فإن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها"5: فإن   1 تحفة المودود: (ص203) . 2 أحكام أهل الذمة: (2/640) . 3 المصدر السابق: (1/348) . 4 إعلام الموقعين: (1/211) . 5 أحكام أهل الذمة: (2/363 - 364) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 مراده - رحمه الله - بذلك: أن هذه الأحاديث والآثار وإن تكلم في أسانيدها، فإن شهرتها، وتلقى الأمة لها بالقبول، والعمل بمقتضاها يقتضي صحتها ولو كان إسنادها فيه ضعف. وقد قرَّرَ ذلك كثير من أهل الشأن؛ فقال الحافظ ابن عبد البر - عند كلامه على حديث "البحر هو الطهور ماؤه" -: "وهذا الحديث لا يحتجُّ أهل الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيحٌ؛ لأن العلماء تَلَقَّوهُ بالقبولِ له والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء"1. وقال أيضاً في حديث جابر مرفوعاً: "الدينار أربعة وعشرون قيراطاً": "وفي قول جماعة العلماء، وإجماع الناس على معناه غنىً عن الإسناد فيه"2. وقال أبو إسحاق الإسفراييني: "تُعرف صحة الحديث: إذا اشتهر عند أئمة الحديث، بغير نكير منهم"3. وقال السيوطي: "قال بعضهم: يُحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول، وإن لم يكن له إسناد صحيح"4. فهذا الذي عناه ابن القَيِّم - رحمه الله - بما قال، والله تعالى أعلم.   1 التمهيد: (16/218 - 219) . وانظر: الاستذكار: (1/198) . 2 تدريب الراوي: (1/67) . 3 المصدر السابق. 4 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الفصل الأول: آراء ابن القَيِّم وإفاداته في مسائل مصطلح الحديث لقد تتبعت من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - جملاً كثيرةً وحروفاً بارزة يظهر من مجموعها أنه معدود بحق من الأئمة المعنيين بهذا الشأن الْمُبَرِّزَين فيه. وقد صنفت تلك النصوص بحيث تدخل تحت سبعة عشر باباً من أبواب علوم الحديث، وسأذكرها مرتبة ضمن مباحث هذا الفصل. على أنه تجدر الإشارة هنا إلى أن العلاَّمة ابن القَيِّم رحمه الله في حديثه عن هذه الأنواع لم يكن بصدد وضع حدود وتعريفات في هذا الفن، إنما كانت الشواهد في ذلك والنصوص تأتي عرضاً: إما ضمن مناقشة لخصم، أو ردٍّ على مخالف، أو تأييد اختيار له، فيأتي كلامه في ذلك حسبما يقتضيه الحال ويستدعيه المقام، ولا يعدم الناظر فيها أن يراها نُكَتاً نفيسةً وتعليقات طريفة، وإن كانت لم يُقصد بها الإحاطة بما يتصل بها ولا التقصي له. وفيما يلي تعداد هذه الأنواع، كل نوع في مبحث، ثم كلامه - رحمه الله - في كل نوع منها، يتخلل ذلك تعليقات مختصرة، وبيان لآراء الأئمة وأقوالهم في كل نوع منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 المبحث الأول: أقسام الخبر. المبحث الثاني: الحديث الصحيح. المبحث الثالث: الحديث الحسن. المبحث الرابع: المرفوع والموقوف. المبحث الخامس: المرسل. المبحث السادس: تعارض الوصل والإرسال، أو الوقف والرفع. المبحث السابع: المنقطع المبحث الثامن: التدليس وحكم المدلس. المبحث التاسع: الشاذ. المبحث العاشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد. المبحث الحادي عشر: الموضوع. المبحث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته من تردُّ. المبحث الثالث عشر: رواية المجهول. المبحث الرابع عشر: كيفية سماع الحديث وتحمله. المبحث الخامس عشر: ناسخ الحديث ومنسوخه. المبحث السادس عشر: مختلف الحديث. المبحث السابع عشر: معرفة من اختلط من الرواة الثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 المبحث الأول: أقسام الخبر الخبر: عند علماء هذا الفن مرادف للحديث. وقيل: الحديث ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخبر ما جاء عن غيره. وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل حديث خبر من غير عكس1. وعلى هذا القول الأخير: فإن الخبر أعمُّ من الحديث، من جهة شمول الخبر للمرفوع والموقوف، واختصاص الحديث بالمرفوع فقط. أقسام الخبر باعتبار وصوله إلينا: ينقسم الخبر باعتبار وصوله ونقله إلينا إلى قسمين: 1- متواتر. 2- وآحاد. فالمتواتر: "هو ما نقله من يحصلُ العلمُ بصدقهم ضرورةً، عن مثلهم، من أوله إلى آخره". قاله النووي2 رحمه الله. وله شروط أربعة، ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهي: 1- أن يرويه عدد كثير، ولا تنحصر هذه الكثرة في عدد معين على الصحيح، وإنما يُشترط أن تبلغ هذه الكثرة مبلغاً بحيث:   1 نزهة النظر: (ص18 - 19) . 2 التقريب: (ص31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 2- تُحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وأن يقع ذلك منهم اتفاقاً من غير قصد. 3- وأن يستوي الأمر في هذه الكثرة من ابتدائه إلى انتهائه، فتكون الكثرة في جميع طبقات السند. 4- وأن يكون مستند إخبارهم الحسُّ: كمشاهدة أو سماع، لا ما يثبت بقضية العقل الصرف. فمتى توافرت في الخبر هذه الشروط، وانضاف إلى ذلك: أن يصحبَ خبرهم إفادة العلم لسامعه، كان الخبر متواتراً1. واتفقوا على إفادة المتواتر العلم اليقيني إذا اجتمعت فيه هذه الشروط، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في صفة المتواتر: " ... المفيد للعلم اليقيني بشروطه"2. وقال الشيخ أحمد شاكر: "أما الحديث المتواتر ... : فإنه قطعي الثبوت، لا خلاف في هذا بين أهل العلم"3. رأي ابن القَيِّم وإفادته في هذه المسألة: تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة على النحو التالي: أما الحديث المتواتر: فقد ذكر أن المتواتر ينقسم إلى قسمين:   1 نزهة النظر: (ص19 - 21) . 2 نخبة الفكر: (ص18) . 3 الباعث الحثيث: (ص35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 1- متواتر لفظاً ومعنىً. 2- متواتر معنى، وإن لم يتواتر لفظه1. وبيان ذلك: أن الأخبار إذا اتفقت على معنى كُلِّي مشترك بينها، دون اتفاق ألفاظها، سُمّيَ ذلك: تواتراً معنوياً، كوقائع عمر رضي الله عنه في عدله، وعلي في حروبه، وأبي ذر في زهده؛ فإنها اتفقت على معنى كُلِّي، وهو القدر المشترك بين تلك الوقائع، وهو: شجاعة علي، وعدل عمر، وزهد أبي ذر رضي الله عنهم. فإن اتفقت - مع ذلك - ألفاظُ هذه الأخبار: كان متواتراً لفظاً ومعنىً2. هذا فيما يتعلق بتقسيم الخبر المتواتر. وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى الشروط التي يحكم للخبر بمقتضاها بأنه متواتر، فقال: "كالأخبار الواردة في عذاب القبر، والشفاعة، والحوض، ورؤية الرب تعالى، وتكليمه عباده يوم القيامة ... ونحو ذلك: - مما يُعلم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها ... فإنه ما من باب من هذه الأبواب، إلا وقد تواتر فيها المعنى المقصود عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً معنوياً:   1 مختصر الصواعق: (2/355، 356) . طبعة / دار الفكر. 2 انظر: نظم المتناثر: (ص9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 -لنقل ذلك عنه بعبارات متنوعة، من وجوه متعددة. - يمتنع في مثلها - في العادة - التواطؤ على الكذب عمداً أو سهواً"1. فأشار بذلك - رحمه الله - إلى أنه: 1- يرويه جمع كثير (من وجوه متعددة) . 2- تحيل العادة تواطؤهم على الكذب. 3- ويحصل به - مع ذلك - العلم الضروري لسامعه. وقد نصَّ في أثناء كلامه على أن هذا من قبيل التواتر المعنوي، وذلك منطبق على الأمثلة التي ساقها. ثم انتقل - رحمه الله - إلى الكلام عن إفادة هذه الأخبار العلم اليقيني، فقال: "وإذا كانت العادة العامة والخاصة المعهودة من حال سلف الأمة وخلفها، تمنع التواطؤ على الاتفاق على الكذب ... وتمنع العادة وقوع الغلط فيها: أفادت العلم اليقيني"2. هذا فيما يتعلق بالمتواتر. وأما خبر الآحاد: لغة: ما يرويه شخص واحد.   1 مختصر الصواعق: (2/356) . 2 مختصر الصواعق: (2/356) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 واصطلاحاً: ما لم يجمع شروط المتواتر1. وينقسم الآحاد إلى: مشهور، وعزيز، وغريب. - فالمشهور: هو ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين، وهو "المستفيض" على رأي. - والعزيز: هو ما رواه اثنان عن اثنين في كل طبقة من طبقاته، وسمي بذلك: إما لقلة وجوده، وإما لقوته بمجيئه من طريق أخرى. - والغريب: هو ما انفرد بروايته شخص واحد، في أي موضع وقع التفرد من السند2. وخبر الآحاد يقع فيه المقبول والمردود، بخلاف المتواتر فإنه مقبول كله، لإفادة القطع بصدق مخبره3. إفادة أخبار الآحاد العلم: جمهور أهل الحديث، وجمهور أهل الظاهر، وغيرهم: على أن خبر الآحاد يفيد العلم. وخالف في ذلك: أهل الكلام، وأكثر المتأخرين من الفقهاء، وجماعة من أهل الحديث، فقالوا: لا يوجب العلم. وقد نقل ابن القَيِّم - رحمه الله - عن جماعة كثيرين - منهم:   1 نزهة النظر: (25– 26) . 2 نزهة النظر: (ص 23– 25) . 3 نزهة النظر: (ص 26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الشافعي، وابن حزم، وأبو المظفر السمعاني، وشيخ الإسلام بن تَيْمِيَّة - كلاماً طويلاً نافعاً في إثبات إفادة خبر الواحد للعلم1. وانحصر كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الصدد على إفادة خبر الواحد العلم إذا: - كان صحيحاً، ورواه الثقات العدول، دون المردود. - وكان مما تلقته الأمة بالقبول. قال رحمه الله - عند تناوله أقسام الخبر-: " ... أخبار آحاد مروية بنقل العدل الضابط، عن العدل الضابط، عن مثله، حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. وقال مرة: "وكلامنا في أخبار: - تلقيت بالقبول، - واشتهرت في الأمة، - وصرَّح بها الواحد بحضرة الجمع ولم ينكره منهم واحد"3. وقال رحمه الله - عقب نقله كلام ابن حزم في إفادة خبر الواحد العلم -: "وهذا الذي قاله أبو محمد حقٌّ في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول: عملاً واعتقاداً، دون الغريب الذي لم يُعرف تلقي الأمة له بالقبول"4.   1 مختصر الصواعق: (2/360 - 412) . 2 المصدر السابق: (2/356) . 3 المصدر السابق: (2/365) . 4 المصدر السابق: (2/389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 فابن القَيِّم - رحمه الله - يرى أن تلقي الأمة للخبر بالقبول: من أقوى القرائن التي تدل على إفادته العلم1. ولقد سبق ابنُ الصلاح ابنَ القَيِّم إلى القول بذلك فيما تلقته الأمة بالقبول، لكنه خصَّ ذلك بأحاديث الصحيحين2. ويُنَبِّه ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أنه: ليس كل خبر من أخبار الآحاد يفيد العلم، كما لا يجوز القطع بأن أخبار الآحاد كلها لا تفيد علماً، وإنما ذلك بحسب الدليل القائم بكل خبر: - فإن قام دليل كذب الخبر، جُزِمَ بكذبه. - وإن كان دليل كذبه ظَنِّيًّا، فإنه يُظَن كذبه. - وإذا لم يقم دليل أحدهما، تُوقف في الخبر. - وإن قام دليل صدقه جُزِم بصدقه. - وقد يترجحُ صدقه دون جزم بذلك. ويرتكز ابن القَيِّم - رحمه الله - في القول بوجوب إفادة خبر الآحاد العلم على حقيقة ثابتة، وهي: أنه إذا حَدَثَ وهمٌ أو خطأٌ أو كذب في الخبر، فلابد من قيام الدليل على ذلك، فيقول: "وسر المسألة: أن خبر العدول الثقات، الذي أوجب الله تعالى على المسلمين العمل به: هل يجوز أن يكون في نفس الأمر كذباً أو خطأً ولا يَنْصِبُ الله - تعالى - دليلاً على ذلك؟   1 مختصر الصواعق المرسلة: (2/394) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص 14– 15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فمن قال إنه يوجب العلم يقول: لا يجوز ذلك، بل متى وُجدت الشروط الموجبة للعمل به، وجب ثبوت صدق مخبره في نفس الأمر"1. وقد تقدم بيان أن من تمام حفظ الله - سبحانه - لهذا الدين: أن يقَيِّم الدليل على الخطأ والكذب إذا وقعا في الخبر. الأدلة على إفادة خبر الواحد العلم: ثم عقد ابن القَيِّم - رحمه الله - فصلاً في سياق الأدلة على إفادة خبر الواحد العلم، فسرد من ذلك جملة كبيرة، فمن ذلك: 1- أن المسلمين لما أخبرهم مُخْبِرٌ - وهم بقباء في صلاة الصبح - أن القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة، قَبِلُوا خبره، وعملوا به، ولم يُنْكِر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به - وهو قبلتهم الأولى - لخبر لا يفيد العلم. 2- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . وفي قراءة: (فتثبتوا) . فهذه الآية دليل على الجزم بقبول خبر الواحد العدل، وأنه لا يحتاج إلى التثبت. 3- أن الله - سبحانه - قد أمر نبيه بالبلاغ، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] . فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم، لم يقع به التبليغ الذي تقوم به الحجة على   1 مختصر الصواعق: (2/370) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 العباد؛ إذ إن إرسال عدد التواتر إلى الناس جميعاً متعذر، وكذلك مشافهة النبي صلى الله عليه وسلم لكل أحد. فقد قامت حجة الله على العباد بما بلَّغَ الثقات من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم. 4- أن هؤلاء المُنْكرين لإفادة خبر الواحد العلم يشهدون شهادة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم وأقوالهم، ومعلوم أن تلك المذاهب لم يَرْوِها عنهم عدد التواتر بحال، فكيف يحصل لهم العلم بأقوال أئمتهم بخبر الواحد، ولا يحصل لهم ذلك بما أخبر به الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع انتشاره في الأمة وتعدد طرقه؟ 5- ما تقدمت الإشارة إليه: من أنَّ كلَّ ما حَكَمَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَهُ، فهو من الذكر الذي تَكَفَّلَ الله - سبحانه - بحفظه، فلو جاز على حُكمه الغلط والسهو والكذب من الرواة، ولم يقم دليل على ذلك، لسقطَ حكم ضمان الله وحفظه لهذا الذكر، وهذا من أعظم الباطل. إلى غير ذلك من الأدلة القوية المفحمة التي ساقها - رحمه الله - في هذا المقام، والتي أوصلها إلى واحد وعشرين دليلاً1. حُجِّية خبر الواحد في العقائد والأحكام: إن الذين قالوا بأن أخبار الآحاد لا تفيد علماً، رَتَّبوا على ذلك أموراً، منها قولهم: إن هذا النوع من الأخبار يُحْتَجُّ به في الأحكام دون العقائد؛ إذ إنها لا تفيد عندهم إلا الظن.   1 تنظر هذه الأدلة في "مختصر الصواعق": (2/394 - 405) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 قال ابن القَيِّم رحمه الله مخبراً عن هؤلاء: "وطائفة أخرى ردت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت في باب الصِّفَات، وقَبِلَتْهَا إذا كانت في باب الأحكام والزهد والرقائق ونحوها. وهؤلاء طوائفُ من أهلِ الكلامِ الْمُبْتَدعِ المذموم ... "1. ثم بَيَّنَ - رحمه الله - صواب اعتقاد أهل السنة في هذا الباب، وفساد مذهب من سواهم: فقال: "وأهلُ الحديثِ والسُّنَّة يَحْتَجُّون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقَدَرِ، والأسماء، والأحكام، ولم ينقل عن أحدٍ منهم البتة أنه جوَّزَ الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته، فأين سلفُ الْمُفَرِّقِين بين البابين؟ نعم، سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه ... فهم الذين يُعْرَفُ عنهم التفريق بين الأمرين، فإنهم قَسَّمُوا الدين إلى مسائل علمية، وعملية، وسموها: أصولاً، وفروعاً ... "2. وقال مرة: "فإن الذين نقلوا هذه - يعني أحاديث الأحكام - هم الذين نقلوا أحاديث الصفات، فإن جازَ عليهم الخطأ والكذب في نقلها، جاز عليهم ذلك في نقل غيرها مما ذكرناه، وحينئذ: لا وثوق لنا   1 مختصر الصواعق: (2/444) . 2 المصدر السابق: (2/412- 413) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 بشيء نُقِلَ لنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا انسلاخ من الدين والعلم والعقل"1. فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أقام الأدلة الواضحةَ القوية على زيف قول من قال: إن أخبار الآحاد لا تفيد علماً، كما بين فساد قولهم بأن أخبار الآحاد لا يُحْتَجُّ بها في العقيدة؛ إذ لا فرق بين العقيدة وغيرها من أمور الدين في ذلك كما هي عقيدة أهل السنة في هذا الباب، والله أعلم.   1 مختصر الصواعق: (2/433 - 434) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 المبحث الثاني: الحديث الصحيح وفيه مسائل: المسألة الأولى: في تعريف الحديث الصحيح، وضابطه، وشروطه: الحديث الصحيح عند أهل الحديث: هو ما اتصل سنده، بنقل العدل الضابط عن مثله، إلى منتهاه، ولم يكن شاذاً ولا معللاً1. فهذا هو الحديث المحكوم له بالصحة بلا خلاف عند أهل الحديث، وهو ما جمع شروطاً خمسة، وهي: 1- اتصال سنده: بأن يكون إسناده سالماً من سقوط فيه، بحيث يكون كل راوٍ من رواته سَمِعَهُ ممن فوقه. 2- عدالة رواته: والعدل: من له ملكةٌ تحمله على مُلازَمَةِ التقوى والمروءة. 3- ضبط رواته: والضبط نوعان: أ- ضبط صدر: وهو أن يُثبت ما سمعه، بحيث يستحضره متى شاء. ب- ضبط كتاب: وهو صيانته لكتابه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه. وقيَّد ابن حجر الضبط بـ "التام" إشارة إلى الرتبة العليا من ذلك.   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص7 - 8) ، وتدريب الراوي: (1/63) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 4- عدم الشذوذ: والشاذ هو ما خالف فيه الثقة من هو أوثق منه. 5- عدم العلة: بأن لا يكون فيه علة خفية تقدح فيه1. وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - أكثر شروط الحديث الصحيح في عدة مناسبات، وبين أن الحديث لا يصح إلا بتوافر هذه الأمور، فكان مما قال في ذلك: "فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمورٍ، منها: 1- صحة سنده، 2- وانتفاء عِلَّتِهِ، 3- وعدم شذوذه ونكارته، وأن لا يكون راويه قد خالف الثقات أو شَذَّ عنهم"2. ومقصوده - رحمه الله - بصحة السند هنا: كون رواته عدولاً ضابطين؛ فإنه قال ذلك في معرض رَدِّه على الحاكم، إذ صحَّحَ حديثاً بالاستناد إلى ظاهر سنده، وأن رواته ثقات، فقال: "صحيح الإسناد". فرد عليه ابن القَيِّم - رحمه الله - بأن صحة السند - وهي ثقة الرواة - شرطٌ من شروط صحة الحديث، وليست وحدها الموجبة لصحة الحديث، بل لا بد أن ينضم إليها شروط أخرى. ثم بَيَّنَ هذه الشروط وَوَضَّحَهَا في موضع آخر، فقال:   1 انظر تفصيل ذلك في: نزهة النظر مع النخبة: (ص29) . 2 الفروسية: (ص46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 "ثقة الراوي: هي كونه صادقاً لا يتعمد الكذب، ولا يستحل تدليس ما يعلم أنه كذب باطل، وهذا أحدُ الأوصاف المعتبرة في قبول قول الراوي". فأشار - رحمه الله - بذلك إلى وصف العدالة، وبين المقصود بها. ثم قال: "لكن بقي وصفُ الضبط والتحفظ، بحيث لا يُعرف بالتغفيل، وكثرة الغلط". وهذا بيان منه - رحمه الله - للمقصود بشرط الضبط وزيادة تفصيل فيه. ثم قال: "ووصف آخر: وهو أن لا يشذَّ عن الناس، فيروي ما يخالفه فيه من هو أوثق منه وأكبر، أو يروي ما لا يُتابعُ عليه، وليس ممن يُحْتَمَلُ ذلك منه"1. وهذا إشارة إلى اشتراط نفي الشذوذ. وأشار مرة إلى شَرْطَي العدالة والضبط، مع بيان معناهما، فقال: "فلم يُشترط فيها - أي الرواية - عددٌ، ولا ذكوريةٌ، بل اشْتُرِطَ فيها: ما يكون مُغَلِّباً على الظنِّ صدقَ الْمُخْبرِ، وهو: العدالة المانعة من الكذب، واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط"2.   1 الفروسية: (ص53) . 2 بدائع الفوائد: (1/5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وقد أكَّد - رحمه الله - أهمية توافر الضبط والعدالة في الراوي، وأنهما أساس الراوية، فقال في ابن إسحاق: "وثَّقَهُ كبار الأئمة، وأثنوا عليه بالحفاظ والعدالة اللذَيْن هما ركنا الرواية"1. ومن أحكام العدالة التي ذكرها ابن القَيِّم: أنَّ وقوع الراوي في بعض الذنوب لا يُنافي العدالة، فقاله رحمه الله: "قد يُغلط في مسمى العدالة، فَيُظَن أن المراد بالعدل: من لا ذنب له. وليس كذلك، بل هو عدلٌ مؤتمن على الدين، وإن كان منه ما يتوب إلى الله منه، فإن هذا لا ينافي العدالة، كما لا يُنافي الإيمان والولاية"2. وهذا المعنى قد أكدَّه الأئمة - رحمهم الله - قبل ابن القَيِّم، فروى الخطيب في (الكفاية) 3 بسنده إلى سعيد بن المسيب - رحمه الله - أنه قال: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيبٌ لابدَّ، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه، وُهِبَ نَقْصُهُ لِفَضْلِهِ". وروى بسنده أيضاً إلى الشافعي - رحمه الله - أنه قال كلاماً قريباً من ذلك4. فهذه أبرز شروط الحديث الصحيح كما قررها ابن القَيِّم رحمه الله، وقد وافق بذلك ما ذهب إليه أئمة الشأن في كلامهم على الصحيح وشروطه وضوابطه.   1 جلاء الأفهام: (ص6) . 2 مفتاح دار السعادة: (1/163) . (ص: 137 - 138) . 4 الكفاية: (ص 138) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 المسألة الثانية: في الفرق بين قولهم: "حديث صحيح"، وقولهم: "إسناده صحيح". تقدَّم في المسألة التي قبل هذه: بيانُ ابن القَيِّم - رحمه الله - لعدم التلازم بين ثقة الرواة وصحة الإسناد، وبين صحة الحديث نفسه. فإذا تقرر ذلك، فإنه ينبغي التفريق بين قولهم لحديث: "حديث صحيح"، وقولهم: "إسناده صحيح". وقد نَبَّه على هذه المسألة ابن الصلاح رحمه الله، فقال في "مقدمته"1: "قولهم: هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد، دون قولهم: هذا حديث صحيح أو حسن، لأنه قد يُقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ولا يصح، لكونه شاذاً أو معللاً". وقد أَكَّدَ ابن القَيِّم هذا المعنى في أكثر من موضع من كتبه، وفي عدة مناسبات، فقال مرة: "ومن له خبرة بالحديث يُفَرِّقُ بين قول أحدهم: هذا حديث صحيح، وبين قوله: إسناده صحيح. فالأول: جَزْمٌ بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: شهادة بصحة سنده، وقد يكون فيه علةٌ أو شذوذ، فيكون سنده صحيحاً، ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه"2. ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - مُطَبِّقَاً لهذا المبدأ في تعامله مع النصوص الحديثية وحكمه عليها، فمن ذلك: قوله في حديث رواه عبد الرزق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حَلَفَ على يمين،   (ص19) . 2 مختصر الصواعق: (2/478) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فقال: إن شاء الله، لم يحنث" قال رحمه الله: "وهذا الإسناد متفق على الاحتجاج به، إلا أن الحديث معلول"1. وقال في حديث وقوع الفأرة في السمن، وما جاء في رواية: معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة من التفرقة بين الجامد والمائع، قال: "ولَمَّا كان ظاهر هذا الإسناد في غاية الصحة، صحح الحديث جماعة، وقالوا: هو على شرط الشيخين، وحُكِيَ عن محمد بن يحيى الذُّهَلِي تصحيحه، ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه، ولم يروه صحيحاً، بل رأوه خطأ محضاً"2. فهذه بعضُ أمثلة من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - تُوَضِّحَ تفرقته بين صحة السند وصحة المتن، وأن الحديث الذي يصح سنده ويكون فيه علة لا يقال له: حديث صحيح، وإن قيل له: صحيح الإسناد. المسألة الثالثة: حول (الصحيحين) البخاري ومسلم: وتحت هذه المسألة فروع: الفرع الأول: في أن (صحيح البخاريِّ) أصحُّ الكتب الْمُصَنَّفَةِ في الصحيح. قال الإمام النووي - رحمه الله - في معرض كلامه على   1 تهذيب السنن: (4/360) . 2 تهذيب السنن: (5/340) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 (الصحيحين) : " ... وصحيح البخاري أَصَحُّهُما، وأكثرهما فوائد ... "1. وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تقديم البخاري في ذلك، فقال عنه: "أجَلُّ من صَنَّفَ في الحديث الصحيح"2. وقد أفاد رحمه الله: أن تقديم البخاري وترجيح كتابه راجعٌ إلى دقة نظره، وشدة انتقائه، فقال في حديث أبي هريرة في الرجل الذي رأى رؤيا وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله فيها: "وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض، فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوتَ، ثم أخذ به رجلٌ آخر فعلا ... ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل، فعلا به ... "3. قال رحمه الله: "فلفظة: (ثم وصل له) فلم يذكر هذا البخاري، ولفظ حديثه: ... (ثم وصل) فقط، وهذا لا يقتضي أن يوصل له بعد انقطاعه به ... وهذا مما يبينُ فضلَ صدق معرفة البخاري، وغور علمه في إعراضه عن لفظة (له) ... وإنما انفرد بها مسلم"4. الفرع الثاني: في أنهما - رحمهما الله - لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما: فإنه قد جاء عنهما التصريح بعدم استيعابه، قال ابن الصلاح: "روينا عن البخاري أنه قال: ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صحَّ، وتركت من الصحاح لملال الطول"5.   1 شرح مسلم: (1/14) . 2 زاد المعاد: (1/303) . 3 انظر: صحيح البخاري: ك التعبير، باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب ح 7046، ومسلم: (4/1777) ح 17 (2269) . 4 تهذيب السنن: (7/20) . 5 مقدمة ابن الصلاح: (ص10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وسئل الإمام مسلم - رحمه الله - عن حديث؟ فقال: "هو عندي صحيح". فقيل له: لِمَ لَمْ تَضَعْهُ ههنا؟ قال: "ليس كلُّ شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه"1. وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الأمر مراراً، وردَّ بذلك على من يُعِلُّ حديثاً بعدم إخراج البخاري ومسلم له، فكان مما قال في ذلك: "وتَرْكُ إخراج أصحاب الصحيح له - يعني حديث: " من أدخل فرساً بين فرسين ... " - لا يدل على ضعفه، كغيره من الأحاديث الصحيحة التي تركا إخراجها"2. وقال مرة رداً على من أعلَّ حديثاً بذلك: "وتَرْكُ رواية البخاري له لا يوهنه، وله حكمُ أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه؛ فإنه سماه: الجامع المختصر الصحيح"3. وقال عن حديث: "من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال ... ": "فإن قيل: فَلِمَ لا أخْرَجَهُ البخاري؟ قيل: هذا لا يلزم؛ لأنه - رحمه الله - لم يستوعب الصحيح"4.   1 صحيح مسلم: (1/304) ح 63. 2 الفروسية: (ص38) . 3 إغاثة اللهفان: (1/294) . 4 تهذيب السنن: (3/312) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الفرع الثالث: في رواية البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن بعض من تُكُلِّمَ فيه. تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه القضية، فبين أن من أخرجا له ممن تُكُلِّمَ في حفظه، فإنهما لم يخرجا له اعتماداً، وإنما أخرجا له ما عَلِمَا أنه قد تُوبعَ عليه. قال - رحمه الله - في حديث أبي أيوب مرفوعاً: " من صام رمضان، ثم أتبعه بستِّ من شوال ... " - وقد أخرجه مسلم1 من حديث سعد بن سعيد الأنصاري، وقد تُكُلِّمَ فيه بسببه –: "سَلَّمنا ضعفه، لكنَّ مسلماً إنما احتج بحديثه لأنه ظَهَرَ له أنه لم يخطئ فيه بقرائن ومتابعات، ولشواهد دَلَّتْهُ على ذلك، وإن كان قد عُرِفَ خطؤه في غيره، فكون الرجل يخطئ في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه، وهكذا حُكْمُ كثير من الأحاديث التي خَرَّجَاها وفي إسنادها من تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ حفظه، فإنهما لم يخرجاها إلا وقد وجدا لها متابعاً"2. وقد تناول ابن حجر هذه القضية، وأكد أن من أخرجا له ممن وُصِفَ بالغلط وسوء الحفظ، فإن ذلك يكون في المتابعات لا الأصول3.   1 صحيح مسلم: (2/822) ح 204، (1164) ك الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال .... 2 تهذيب السنن: (3/312) . 3 هدي الساري: (ص384) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 المسألة الرابعة: في الصحيح الزائد على الصحيحين، ومن أين يُتَلَقَّى؟ تَقَدَّم أن أصحاب الصحيحين لم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك، ومن ثَمَّ فقد بقي خارج الصحيحين كثير من الأحاديث الصحيحة. ومن الكتب التي هي مَظِنَّةُ وجود الصحيح غير الصحيحين، مما كان لابن القَيِّم كلام عليها: أولاً: (المستدرك) للحاكم: وفيه بعض المسائل: المسألة الأولى: مراد الحاكم بقوله: "على شرط الشيخين". أبان الحاكم عن مراده بذلك حين قال في خطبة كتابه: "وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات، قد احتج بمثلها الشيخان - رضي الله عنهما - أو أحَدُهُمَا"1. وهذا الكلام صريحٌ في أن مراده: أن يكونا قد احتجا بمثل هذا الإسناد، ولكن تصرفه - رحمه الله - يخالف هذا الذي صرَّح به، ويدل على أن مراده: أن يكون رواة هذا الحديث الذي يستدركه عليهما قد خُرِّجَ عنهم بأعيانهم في "الصحيحين". فإنه - رحمه الله - إذا كان الحديث قد أَخَرَجَا أو أحدهما لرواته، قال: "صحيح على شرط الشيخين، أو أحدهما". وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له قال: "صحيح الإسناد" حسب.   1 المستدرك: (1/3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ويُؤَكِّد هذا المعنى ويوضحه: أنه - رحمه الله - حَكَمَ على حديث من طريق أبي عثمان بأنه صحيح الإسناد، ثم قال: "وأبو عثمان هو مولى المغيرة، وليس هو بالنهديّ، ولو كان النهدي لحكمتُ بصحته على شرطهما"1. ولأجل ذلك، فقد ذهب ابن الصلاح، والنووي، وابن دقيق العيد، والذهبي إلى أن مراده بقوله: "على شرطهما": أن يكون رجال الإسناد المحكوم عليه بأعيانهم في كتابيهما2. وخالف في ذلك العراقي3، فحمل كلامه على المعنى الأول الذي أشار إليه في خطبة كتابه، ولكن رده الحافظ ابن حجر مؤيداً ما ذهب إليه الجماعة المتقدمون بأمثلة وبيان4. وقد ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - في فهمه لكلام الحاكم إلى ما ذهب إليه الأكثرون، ومن ثَمَّ كان كثيراً ما يتعقبه عندما يخالف في أحكامه هذا الاصطلاح، ومن الأمثلة في هذا الصدد: أن الحاكم قد صحح حديثاً على شرط مسلم، فتعقبه ابن القَيِّم بقوله: "في إسناده حسين بن عبد الله، ولم يخرج له في الصحيحين"5.   1 المستدرك: (4/249) . وانظر: نكت ابن حجر على ابن الصلاح: (1/320) . 2 تنظر أقوالهم في: مقدمة ابن الصلاح: (ص11) ، وتدريب الراوي: (1/127) ، وفتح المغيث: (1/44) . 3 التقييد والإيضاح: (ص30) . 4 النكت على ابن الصلاح: (1/319 - 321) . 5 تهذيب السنن: (4/30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 كما أن الحاكم - رحمه الله - في حكمه على الحديث بأنه على شرطهما: لم يراع حالهما وتصرفهما مع بعض الرواة، بل جعل ذلك أمراً مطلقاً في كل راوٍ رآه في كتابيهما. فمن ذلك: أنهما قد يخرجا للشخص في المتابعات دون الأصول، فيطلق الحاكم القول في هذا الراوي: أنه على شرطهما. ومن تعقبات ابن القَيِّم عليه في ذلك: أنه روى حديثاً من طريق: الزهري، عن ابن إسحاق، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - في فضل السواك، ثم قال: "صحيح على شرط مسلم" فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "ولم يصنع الحاكم شيئاً؛ فإن مسلماً لم يروِ في كتابه بهذا الإسناد حديثاً واحداً، ولا احتج بابن إسحاق، وإنما أخرج له في المتابعات والشواهد"1. وقال في حديث من رواية ابن إسحاق صححه الحاكم على شرط مسلم: "وفي هذا نوع مساهلة منه؛ فإن مسلماً لم يحتجَّ بابن إسحاق في الأصول، وإنما أخرج له في المتابعات والشواهد"2. ومن ذلك أيضاً: أن البخاري ومسلماً قد يحتجان براوٍ وشيخه كل على انفراد، ولا يحتجان بهذين الراويين إذا اجتمعا وكانت رواية هذا   1 المنار المنيف: (ص21) . 2 جلاء الأفهام: (ص5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 التلميذ عن ذلك الشيخ؛ وذلك: لضعفه فيه، أو عدم سماعه منه أو غير ذلك من الأسباب. فيأتي الحاكم فيحكمُ على حديث من رواية هذا الراوي عن هذا الشيخ بأنه على شرطهما، وذلك لمجرد وجود هذين الراويين في كتابيهما. ومن تعقبات ابن القَيِّم عليه في ذلك: أن الحاكم قال في حديث تضمين العارية من رواية الحسن عن سمرة: "على شرط البخاري"، فرد عليه ابن القَيِّم قائلاً: "وفيما قاله نظر؛ فإن البخاري لم يخرج حديث العقيقة في كتابه من طريق الحسن عن سمرة ... "1. يعني على القول بأنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة. ومن ذلك أيضاً: أن صاحب الصحيح قد يَطَّرِحُ من حديث الثقة ما يعلم أنه قد غلط فيه، فيأتي الحاكم فيستدرك عليه جميعَ حديث هذا الثقة، دون نظرٍ إلى طريقة صاحب الصحيح في استبعاد بعض حديثه. وفي هذا المعنى يقول ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فغلط في هذا المقام من استدرك عليه جميع حديث الثقة - يعني الحاكم - "2. فهذه الأمثلة كلها من تصرف الحاكم تؤكد مراده بقوله على شرطهما، وأنه يقصد وجود هؤلاء الرواة أنفسهم في الصحيحين، وتعقبات ابن القَيِّم عليه - كما مضى - تؤكد حمله اصطلاحه على هذا المعنى.   1 تهذيب السنن: (5/197-198) . 2 زاد المعاد: (1/364) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 المسألة الثانية: تساهل الحاكم: قضى الأئمة على الحاكم بأنه متساهل في شرط الصحيح، فقال ابن الصلاح: "وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل في القضاء به"1. وَوَصَفَهُ بذلك النووي2 - أيضاً - وغيره. وقد وَضَعَهُ ابن القَيِّم - أيضاً - في مرتبة المتساهلين في التصحيح: فقال مرة - وهو يتكلم على حديث: "من عشق فعفَّ ... " - "وأنكره أبو عبد الله الحاكم على تساهله"3. وقال مرة: " ... مع فرط تساهله فيما استدركه عليهما"4. ولذلك كان ابن القَيِّم - رحمه الله - كثيراً ما يتعقبه في تصحيحاته، فمن ذلك: أن الحاكم صحَّحَ حديثاً في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد من رواية: يحيى بن السباق، عن رجل من آل الحارث، عن ابن مسعود مرفوعاً، فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وفي تصحيح الحاكم لهذا نظرٌ ظاهرٌ؛ فإن يحيى بن السباق وشيخه غير معروفين بعدالة ولا جرح"5. وصَحَّحَ الحاكم حديثاً في المسح على الخفين وفيه مجهولون، فقال   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) . 2 انظر: تدريب الراوي: (1/105) . 3 الجواب الكافي: (ص366) . 4 الفروسية: (ص58) . 5 جلاء الأفهام: (ص20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ابن القَيِّم: "والعجب من الحاكم، كيف يكون هذا مُسْتَدركاً على الصحيحين، ورواته لا يُعْرَفون بجرح ولا تعديل؟! "1. المسألة الثالثة: بيان مرتبة تصحيح الحاكم: أما عن مرتبة ما يصححه الحاكم ودرجته، فقد قال ابن الصلاح- بعد أن حكى تساهل الحاكم-: "فالأولى أن نتوسط في أمره، فنقول: ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة: إن لم يكن من قبيل الصحيح، فهو من قبيل الحسن، يُحْتَجُّ به ويُعمل به، إلا أن تظهر عِلَّةٌ توجب ضعفه"2. ووافق النوويُّ ابنَ الصلاح على ذلك، ولكنه حَصَرَهُ في الحسن فقط3. وتعقبهما البدر ابن جماعة، فقال: "والصواب: أن يُتتبع ويحكم عليه بما يليق بحاله من الحسن أو الصحة أو الضعف". نقله عنه العراقي وصَوَّبَهُ4. وإذا كان ما ذهب إليه ابن الصلاح والنووي في ذلك يُعَدُّ نوعاً من التساهل - إذ من شأنه أن يؤدي إلى تصحيح الضعيف - فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد تّشَدَّدَ جداً في مرتبة ما يصححه الحاكم ودرجته: فقال مرةً - وقد صحح الحاكم على شرط مسلم حديث   1 تهذيب السنن: (1/118) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) . 3 انظر: تدريب الراوي: (1/107) . 4 التقييد والإيضاح: (ص30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 عائشة - رضي الله عنها - في تفضيل الصلاة بسواك على الصلاة بغير سواك-: "لم يصنع الحاكم شيئاً ... وهذا وأمثاله هو الذي شان كتابه وَوَضَعَهُ، وجعل تصحيحه دون تحسين غيره"1. وقال مرة - يرد على الحاكم تصحيحه إسناد حديث المُحَلِّل -: " ... ولا يَعْبَأُ الحُفَّاظ - أطباء الحديث - بتصحيح الحاكم شيئاً، ولا يرفعون به رأساً ألبتة، بل لا يدل تصحيحه على حُسْنِ الحديث، بل يُصحح أشياء موضوعة بلا شك عند أهل العلم بالحديث ... والرجل يصحح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه"2. وقال مرة في كلامه على الحديث نفسه: " ... وبالجملة: فتصحيح الحاكم لا يستفاد منه حسن الحديث ألبتة، فضلاً عن صحته"3. وهذا منه - رحمه الله - مبالغة وتشدد، والأولى والأليق في ذلك ما سبق في كلام ابن جماعة رحمه الله: من تتبع ما حكم عليه، ووضع كل حديث منها - بعد دراسته - في المرتبة اللائقة به؛ ذلك أن (المستدرك) فيه "شيء كثير على شرطهما، وشيء كثير على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب، بل أقل ... وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد، وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب، وفي غضون ذلك أحاديث - نحو المائة - يشهد القلب ببطلانها" كما قال الذهبي4.   1 المنار المنيف: (ص21) . 2 الفروسية: (ص46) . 3 الفروسية: (ص52) . 4 سير أعلام النبلاء: (17- 175) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ومن مظان وجود الصحيح الزائد على الصحيحين أيضاً: ثانياً: "جامع الترمذي": قال ابن الصلاح: "ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة ... كأبي داود السجستاني وأبي عيسى الترمذي"1. وقد وَصَفَ ابن القَيِّم - رحمه الله - الترمذي بشيء من التساهل في التصحيح، فقال مرةً في حديث عليٍّ رضي الله عنه في ترخيص النبي في الجمع بين اسمه وكنيته بعد وفاته، وقول الترمذي عنه: "حسن صحيح": "وحديث عليٍّ رضي الله عنه في صحته نظرٌ، والترمذي فيه نوع تساهل في التصحيح"2. وقال مرةً: "مع أن الترمذيَّ يُصَحِّحُ أحاديثَ لم يُتَابعْهُ غيرهُ على تصحيحها، بل يصحح ما يُضَعِّفُهُ غيره أو يُنْكِرُهُ"3. وقد حَكَمَ بتساهل الترمذي أيضاً: الحافظ الذهبي، ولكنه أسرف في ذلك وبالغ، فقال في ترجمة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف: "وأما الترمذي: فقد روى من حديثه: الصلح جائز بين المسلمين، وصححه؛ فلهذا لا يَعْتَمِدُ العلماء على تصحيح الترمذي"4.   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) . 2 زاد المعاد: (2/348) . 3 الفروسية: (ص45) . 4 الميزان: (3/ 407) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وقال مرة أخرى: " ... فلا يُغْتَرُّ بتحسين الترمذي، فعند الْمُحَاقَقَةِ: غَالِبُهَا ضِعَافٌ"1. ولا شكَّ أن هذا غير مقبول من الذهبي رحمه الله، ولذلك فقد رَدَّهُ الحافظ العراقي بقوله: "وما نقله عن العلماء من أنهم لا يعتمدون تصحيح الترمذي: ليس بجيد، وما زال الناس يعتمدون تصحيحه"2. ولذلك فإن ما قاله ابن القَيِّم أقرب إلى الواقع، وأليقُ بحال الترمذي ومكانة (جامعه) ؛ فإنه لم يجعل التساهل عاماً في أحكام الترمذي، شاملاً لكل كتابه، وإنما قال: "فيه نوع تساهل في التصحيح" وقال: "يصحح أحاديث لم يتابعه غيره على تصحيحها". فهو يخالف في تصحيح بعض الأحاديث، وهذا - لا شك - أولى من إطلاق القول بتساهله، وعدم الاعتماد على أحكامه. ومما يدل على تحفظ ابن القَيِّم نفسه في ذلك الحكم، وعدم إهداره أحكام الترمذي - كما قال غيره -: أنه يعتمد كثيراً أحكام الترمذي، وينقلها محتجاً بها ساكتاً عليها، يعرفُ ذلك كلُّ من طالع كتب ابن القَيِّم. وعلى كل حال، فإن هذا الكلام لا يقلل من مكانة الإمام الترمذي وكتابه.   1 الميزان: (4/416) . 2 الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين: (ص241) نقلاً عن (شرح الترمذي) للعراقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ثالثاً: "صحيح ابن حبان": وهو من الكتب التي يُعتمد عليها في معرفة الصحيح أيضاً؛ فقد التزم فيه مؤلفه الصحة، وهو وإن كان خيراً من المستدرك بكثير1، إلا أنه قد وقع له نوع تساهل أيضاً، وجعله ابن الصلاح مقارباً للحاكم في التساهل2. وابن القَيِّم - رحمه الله - يعتمد تصحيح ابن حبان في الكثير الغالب، مما جعله يحتج أحياناً ببعض الضعيف من "صحيحه"3. ومع ذلك، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد انتقد ابن حبان من جهة أخرى؛ وذلك أنه قال في حقه: "وابن حبان كثيراً ما يرفع في كتابه ما يعلم أئمة الحديث أنه موقوف"4. وقد استشهد ابن القَيِّم على هذه الدعوى بمثالين، وتبين بعد الدراسة: أن أحدهما قد صحَّ مرفوعاً، رواه كذلك غير واحد ولم ينفرد برفعه ابن حبان5. والحديث الآخر: الصواب فيه الوقف، ولكن شارك ابن حبان في روايته مرفوعاً جماعة؛ منهم: أحمد، وأبو يعلى وغيرهما6، ولم ينفرد ابن حبان بروايته مرفوعاً.   1 اختصار علوم الحديث - ابن كثير: (ص27) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) . 3 ينظر على سبيل المثال: زاد المعاد: (1/43 –44) ، (3/204-205) . 4 أحكام أهل الذمة: (2/622) . 5 انظر حديث رقم: (128) من قسم الأحاديث. 6 انظر حديث رقم: (123) من قسم الأحاديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وعلى كل حال، فإن هذا الحكم من ابن القَيِّم - رحمه الله - لم أر من أطلقه على ابن حبان غيره، ولو وقع في (صحيح ابن حبان) شيء من ذلك، فهل يكون بالكثرة التي وصف ابن القَيِّم؟؟ الأمر يحتاج إذن إلى دراسة وتتبع لما انفرد ابن حبان بروايته مرفوعاً والناس يروونه موقوفاً، وحينئذٍ يمكن معرفة صحة دعوى ابن القَيِّم من عدمها. المسألة الخامسة: في فوائد متفرقة تتعلق بالحديث الصحيح. الفائدة الأولى: في قولهم لحديثين: "هذا أصح من هذا". إذا قيل لحديث: إنه أصح من حديث، فهل يلزم من ذلك صحة هذا الحديث الْمُرَجَّحِ مطلقاً؟ نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على ذلك، وبين أن ذلك قد يكون من باب "التصحيح الْمُقَيَّدِ"، أو "التصحيح النسبي". فقد قال أبو داود في حديث ركانة: أنه طَلَّقَ امرأته ألبتة، وأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: والله ما أردت إلا واحدة ... فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً ... "1. فاعترضه المنذري قائلاً: "وفيما قاله نظر"2. فرد ابن القَيِّم على المنذري بقوله: " ... فإن أبا دود لم يَحْكُمْ بصحته، وإنما قال بعد روايته: هذا أصحُّ من حديث ابن جريج ... وهذا لا يدل على أن الحديث عنده   1 سنن أبي داود: (2/657) ك الطلاق، باب في البتة. 2 مختصر السنن: (3/134) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 صحيح، فإن حديث ابن جريج ضعيف، وهذا صعيف أيضاً، فهو أصح الضعيفين عنده. وكثيراً ما يُطلق أهل الحديث هذه العبارة على أرجح الحديثين الضعيفين، وهو كثير في كلام المتقدمين، ولو لم يكن اصطلاحاً لهم، لم تدل اللغة على إطلاق الصحة عليه؛ فإنك تقول لأحد المريضين: هذا أصح من هذا، ولا يدل على أنه صحيح مطلقاً، والله أعلم"1. الفائدة الثانية: في معنى قولهم: "صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في معنى هذه العبارة: "إن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون: صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك جَزْمٌ منهم بأنه قاله، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين: إن المراد بالصحة: صحة السند، لا صحة المتن. بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم: صحة الإضافة إليه، وأنه قاله"2. ثم بَيَّن - رحمه الله - أن بين "صحة السند"، و" صحة الحديث" فرقاً، فلذلك لا يصح حمل قولهم: "صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" على صحة السند. وقد تقدم الكلام على الفرق بين صحة السند، وصحة الحديث3.   1 تهذيب السنن: (3/134) . 2 مختصر الصواعق: (2/478) . 3 انظر ص: (359) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الفائدة الثالثة: عدم جواز الجزم بنسبة ما لا يُعلم صحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن القَيِّم - رحمه الله - عند كلامه على عدم جواز إطلاق حكم الله على ما لا يعلم الشخص يقيناً أنه حكم الله: "وهكذا لا يَسُوغُ أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. لما لا يُعلَمُ صحته، ولا ثقة رواته، بل إذا رأى أي حديث كان، في أي كتاب، يقول: لقوله صلى الله عليه وسلم. أو: لنا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم، وهذا خطر عظيم، وشهادة على الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يَعْلَم الشاهد"1. قلت: وهذا من باب الاحتياط والتَّثَبُّتِ فيما يُنْسَبُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من يَنْسُبُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يَعْلَمُ صحته مُعَرَّضٌ للوقوع في الكذب عليهصلى الله عليه وسلم. وقد حَذَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ونبه عليه، فقال - فيما رواه عنه المغيرة بن شعبة وغيره -: "من حدَّثَ عني بحديث يُرَى أنه كَذِبٌ، فهو أحد الكاذبين" 2.   1 أحكام أهل الذمة: (1/20) ، فهو - رحمه الله - يعيبُ من لا يعلم عن ثبوت الحديث شيئاً ومع هذا يورده للاحتجاج فيقول: "لقوله صلى الله عليه وسلم" يعني الحجة والدليل قوله صلى الله عليه وسلم، أو: "لنا قوله" أي: دليلنا. 2 أخرجه مسلم في (صحيحه) في المقدمة (1/9) باب وجوب الرواية عن الثقات، وترك الكذابين. وابن ماجه في المقدمة أيضاً: (1/14) ح38 - 41. باب من حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً وهو يرى أنه كذب. وأحمد في مسنده: (4/250) ، وابن عبد البر في التمهيد - المقدمة - (1/41) ، والبغوي في شرح السنة (1/266) ح 123. قال البغوي: "حديث صحيح". ورمز له السيوطي بالصحة. (الجامع الصغير مع فيض القدير 6/116 ح 8631) ، وصححه الشيخ الألباني (صحيح الجامع ح 6199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - في مناسبة أخرى ما كان عليه أهل العلم بالحديث من الجزم بنسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند تَأَكُّدِهِم من صحته، وتعبيرهم عن ذلك بصيغة التمريض عند عدم تأكدهم من صحته أو شكهم في ذلك، فقال: "كما كانوا يجْزِمُون بقولهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر، ونهى، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك، يقولون: يُذكرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى عنه، ونحو ذلك"1. ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - ملتزماً هذا المبدأ في تعامله مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمه عليه، فمن ذلك: أنه - رحمه الله - ذكر حديثين في فضل الفَاغِيَة2، ولم يكن متأكداً من صحتهما، ولا عارفاً بحالهما، فَصَدَّرَهُمَا بصيغة التمريض: (رُوِيَ) ، ثم قال: "والله أعلم بحال هذين الحديثين، فلا نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا نعلم صحته"3.   1 مختصر الصواعق: (2/478) . 2 هي نَوْرُ الحناء. وقيل: نور الريحان ... وقيل: فَاغِيَةُ كلُّ نَبْتٍ: نوره. والنَّوْرُ: زهر الشجرة. (النهاية: 3/461، ومختار الصحاح: ن ور) . 3 زاد المعاد: (4/348) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 المبحث الثالث: الحديث الحسن وفيه مسائل: المسألة الأولى: في تعريف الحسن، وشروطه: اختُلِفَ في تعريف الحديث الحسن على أوجه كثيرة، ومن أشهر تعريفاته: - تعريف الإمام الخطابي رحمه الله، إذ عرفه بأنه: "ما عُرِفَ مخرجه، واشتهر رجاله"، قال: "وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء"1. - وقد اعترض على تعريف الخطابي هذا: بأنه أدخل الصحيح في حد الحسن؛ فإن الصحيح - أيضاً - قد عُرِفَ مخرجه، واشتهر رجاله2. - وعرَّفَه الإمام الترمذي بقوله: "كل حديث يُروى: لا يكون في إسناده مَنْ يُتَّهَم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويروى من غيره وجه نحو ذاك: فهو عندنا حديث حسن"3. ولكن اعْتُرِضَ عليه أيضاً4.   1 معالم السنن: (1/11) . 2 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص15) ، والاقتراح: (ص163 - 164) . 3 علل الترمذي المطبوعة في آخر "جامعه": (5/758) . 4 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص15) ، وتدريب الراوي: (1/155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وتعريف الترمذي - على هذا - يدخل فيه: رواية المستور، والضعيف بسبب سوء الحفظ، والموصوفُ بالغلط والخطأ، وحديث المختلط بعد اختلاطه، والمدلس إذا عَنْعَنَ، وما في إسناده انقطاع خفيف، فكل ذلك عند الترمذي من قبيل الحسن بالشروط الثلاثة الماضية في تعريفه. كما أفاد ذلك الحافظ ابن حجر، وذكر لكل نوع من هذه الأنواع مثالاً مما حَسَّنَه الترمذي في كتابه1. وقد حَمَلَ ابن الصلاح تعريف الترمذي على أنه منصرف إلى الحسن لغيره، وهو ما اعتضد بمجيئه من غير وجه، وحَمَلَ تعريف الخطابي على الحسن لذاته، فكأن كل واحد منهما قد عَرَّفَ أحد نوعي الحسن2. وقد عرَّفَه الحافظ ابن حجر رحمه الله: بأنه الحديث الذي جمع شروط الحديث الصحيح، إلا أنه خفَّ - أي قلَّ - ضبط راويه. وهو الحسن لذاته، لا الحسن لغيره الذي حُسْنُهُ بسبب اعتضاده بغيره3. وقد تعرض ابن القَيِّم - رحمه الله - في بعض المناسبات لحدِّ الحسن، وبيان بعض ضوابطه، وذلك أثناء دراسته لحديث ميراث الخال، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ... والخالُ وارث من لا وارث له". حيث حَكَمَ عليه بعضهم بالضعف، فقالوا: إن أحاديثه - يعني ميراث الخال - ضعاف. فردَّ ابن القَيِّم ذلك بقوله:   1 النكت على ابن الصلاح: (1/387 - 399) . 2 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص15 - 16) . 3 النكت على نزهة النظر: (ص91 - 92) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 "وأما قولهم: إن أحاديثه ضعاف: فكلام فيه إجمال، فإن أُرِيدَ بها أنها ليست في درجة الصحاح التي لا علة لها: فصحيح، ولكن هذا لا يمنع الاحتجاج بها، ولا يوجب انحطاطها عن درجة الحسن، بل هذه الأحاديث وأمثالها هي الأحاديث الحِسَانُ؛ فإنها قد تَعَدَّدَت طُرُقُهَا، وَرُوِيَت من جوه مختلفة، وعُرِفَت مخارجها، ورواتها ليسوا بمجروحين ولا مُتَّهَمِين ... وليس في أحاديث الأصول ما يُعَارِضُها"1. وبالنظر إلى كلام ابن القَيِّم هذا: نجد أنه قد ضَبَطَ الحديث الحسن وحدَّهُ بما حدَّه به الترمذي والخطابيُّ معاً، وكأنه أراد أن يقول: إن أحاديث توريث الخال ينطبق عليها وصفُ الحسن بقسميه، وأنها لا تخرجُ عمَّا ضُبِطَ به الحسن بحالٍ. المسألة الثانية: مراتب الحديث الحسن. تتفاوت مراتب الحديث الحسن في القوة كتفاوت الصحيح، وقد أشارَ إلى هذا التفاوت الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عند كلامه عن الحسن لذاته، فقال: "وهذا القسم من الحسن مشاركٌ للصحيح في الاحتجاج به - وإن كان دونه - ومشابهٌ له في انقسامه إلى مراتب   1 تهذيب السنن: (4/171) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 بعضها فوق بعض"1. وقال السيوطي: "الحسن - أيضاً - على مراتب كالصحيح"2. وقد ألمح ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذا التفاوت في مراتب الحديث الحسن، بل حدَّدَ - رحمه الله - هذه المراتب في ثلاث: عليا، ووسطى، ودنيا، ومن كلامه في ذلك: أن حديث عامر بن ربيعة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قد رُويَ من طريقين، في أحدهما: عاصم بن عبيد الله العمري، وفي الآخر: عبد الله ابن عمر العمري، فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وإن كان حديثهما فيه بعض الضعف، فرواية هذا الحديث من هذين الوجهين المختلفين يدل على أن له أصلاً، وهذا لا ينزل عن وسط درجات الحسن"3. وأما المرتبة الثالثة للحديث الحسن عند ابن القيم - وهي أدنى مراتبه - فقد قال - رحمه الله - في حديث تميم الداري في الرجل يُسْلِمُ على يديه الرجل، وأنه أولى الناس بمحياه ومماته، قال: "وحديث تميم وإن لم يكن في رتبة الصحيح، فلا ينحط عن أدنى درجات الحسن"4. فتخلص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يرى أن الحديث   1 نزهة النظر: (ص33) . 2 تدريب الراوي: (1/160) . 3 جلاء الأفهام: (ص29) . 4 تهذيب السنن: (4/186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الحسنَ على مراتب متفاوتة في القوة، وأنه ذكر من ذلك: أوسط درجات الحسن، وأدنى درجاته. ويؤخذ من كلامه هذا - والله أعلم -: أن هناك درجة عليا للحسن، هي فوق الوسطى، ودون أدنى درجات الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 المبحث الرابع: المرفوع والموقوف المرفوع: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً: قولاً، أو فعلاً، أو تقريراً، لا يقع مطلقه على غيره، متصلاً كان أو منقطعاً1. والموقوف: قال النووي: "هو المروي عن الصحابة: قولاً لهم، أو فعلاً أو نحوه، متصلاً كان أو منقطعاً. ويستعمل في غيرهم مقيداً، فيقال: وَقَفَهُ فلانٌ على الزهري ونحوه"2. ومن المسائل التي تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - مما يتعلق بالمرفوع والموقوف: المسألة الأولى: إذا قيل عند ذكر الصحابي: يرفعه، أو: يبلغ به. إذا قيل عند ذكر الصحابي: يرفعه، أو يَنْمِيهِ3، أو: يَبْلُغُ به، أو: روايةً ونحو ذلك: فإنه مرفوع عند أهل العلم4. قال ابن الصلاح: "فكل ذلك وأمثاله: كناية عن رفع الصحابي   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص22) ، وتدريب الراوي: (1/183 - 184) . 2 التقريب: (ص6) . 3 نَمَى الحديث إلى فلان: أسنده له ورفعه. (مختار الصحاح: ص681) . 4 انظر: فتح المغيث: (1/122) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمُ ذلك عند أهل العلم حكم المرفوع صريحاً"1. وكذا إذا قال الراوي عن التابعي: يرفع الحديث، أو: يبلغ به، ونحو ذلك مما تقدم، فإنه مرفوعٌ أيضاً، قال ابن الصلاح: "ولكنه مرفوع مرسل"2. وقد نَقَلَ السخاوي - رحمه الله - عن ابن القَيِّم كلاماً في مسألة: قول الراوي عن التابعي: يرفعه أو يبلغ به، فقال في ذلك: " ... مرسل مرفوع بلا خلاف، ولذا قال ابن القَيِّم: جزماً"3. فالسخاوي - رحمه الله - يستند إلى ما قرره ابن القَيِّم في نفي الخلاف بين أهل العلم في تحديد اصطلاح "مرسل مرفوع"، وعزا ذلك كالإجماع إلى أهل العلم مستدلاً على ذلك بكلام ابن القَيِّم في المسألة. المسألة الثانية: في قول الصحابي: أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أو حَرَّمَ كذا، أو: أوجب كذا. قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقول الصحابي: حرَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو: أَمَرَ بكذا، وقضى بكذا، وأوجب كذا: في حكم المرفوع اتفاقاً عند أهل العلم، إلا خلافاً شاذّاً لا يُعْتدُّ به، ولا يُؤْبَهُ له".   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص24 - 25) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص25) . 3 فتح المغيث: (1/122) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ثم بَيَّن - رحمه الله - الشبهة التي تعلق بها المخالف في ذلك، فقال: "وشبهة المخالف: أنه لعله رواه بالمعنى، فظن ما ليس بأمر ولا تحريم كذلك". ثم رد ذلك بقوله: "وهذا فاسدٌ جداً؛ فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص، وقد تَلَقَّوْها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يُظَنُّ بأحد منهم أن يُقْدِمَ على قوله: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: حرَّم، أو: فَرَضَ. إلا بعد سماع ذلك، ودلالة اللفظ عليه. واحتمال خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية، بل دونه1؛ فإن رُدَّ قوله: أمر، ونحوه بهذا الاحتمال، وَجَبَ ردُّ روايته لاحتمال السهو والغلط، وإن قبلت روايته: وجب قبول الآخر"2. وهذا كلام بديع محكم من ابن القَيِّم في رد هذه الشبهة. وهذه الشبهة نقلها ابن الأثير عن أهل الظاهر، وأجاب عنها بنحو جواب ابن القيم3.   1 أي: أحطَُ منه منزلة، وأراد بذلك تعنيف صاحب الشبهة؛ لأن وصفه للصحابي بسوء الفهم أشد من وصفه له بالغلط والسهو. 2 تهذيب السنن: (5/101) . 3 مقدمة جامع الأصول: (1/92) . وثَمَّة شبهة أخرى تعلق بها المانعون، وهي: احتمال كون الصحابي سمع ذلك من غير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون رواية عن غيره عنه. وقد رد الخطيب ذلك في (الكفاية) (ص 590 - 591) مرجحاً رأي الجمهور في ذلك، وأنه ينبغي حمله على أن الصحابي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 فتلخص من ذلك: أن ما اختاره ابن القَيِّم - رحمه الله - في إثبات حكم الرفع لما هذه صفته، هو الصواب الذي عليه الجمهور، وأن ما تَمَسَّك به المخالفون من شبه ضعيف لا يُقَاوِمُ رأي الجمهور، والله أعلم. المسألة الثالثة: في حكم ما يقوله الصحابي مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد. إذا قال الصحابي قولاً مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد، فهل يثبت لذلك حكم الرفع؟ قَرَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - أن ذلك له حكم الرفع؛ فإنه قال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في امتحان أهل الفترة، والمعتوه ونحوهما1 - وقد رُوِيَ عنه مرفوعاً وموقوفاً - قال: "غاية ما يُقَدَّرُ فيه: أنه موقوف على الصحابي، ومثل هذا لا يُقْدِمُ عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد، بل يُجْزَمُ بأن ذلك توقيف لا عن رأي"2. وقرر ذلك أيضاً: الحافظ ابن حجر رحمه الله، وذهب إلى أنه من باب المرفوع حكماً لا تصريحاً، ولكن قَيَّدَهُ بمن لم يُعرف بالأخذ عن الإسرائيليات والكتب القديمة، فإذا قال الصحابي ما "لا مجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح غريب، كالإخبار عن الأمور الماضية: من بدء الخلق، وأخبار الأنبياء. أو الآتية: كالملاحم والفتن، وأحوال يوم   1 انظر: أحكام أهل الذمة: (2/650 - 651) . 2 أحكام أهل الذمة: (2/654) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 القيامة، وكذا الإخبار عمَّا يحصل بفعله ثوابٌ مخصوص أو عقاب مخصوص"1. فإن ذلك له حكم الرفع. وقد نَبَّهَ الشيخ أحمد شاكر على ضرورة الاحتياط في ذلك، وعدم إطلاق القول بالرفع في كل ما يَرِدُ من ذلك، وأشار إلى أن مما يجب مراعاته في ذلك: بعض فتاوى الصحابة واجتهاداتهم في بعض المسائل، التي بنوها على عمومات وأصول الشريعة، فقد يظَنُّ البعض أن هذا مما لا مجال فيه للرأي2. فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم يذهب إلى إثبات حكم الرفع لما قاله الصحابي مما لا مجال للرأي فيه، ولكنه لم يقيد ذلك ببعض القيود الضرورية التي مرَّ ذكرها. وسبب عدم تقييد ابن القَيِّم كلامه: أنه جاء مرتبطاً بقضية معينة، وحديث بعينه، والله أعلم. المسألة الرابعة: فيما يَنْسِبُ الصحابي فاعِلَهُ إلى العِصْيَان. ما يَنْسِبُ الصحابي فاعله إلى الكفر أو العصيان: هل يثبت له حكم الرفع، أم يكون موقوفاً على الصحابي؟ اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة القول: بأن ذلك موقوفٌ على الصحابي، فقال عند كلامه على حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه: "من صام هذا اليوم - يعني يوم الشك - فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ": "وذكر جماعة أنه موقوف، ونظير هذا قول أبي هريرة: "من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله".   1 نزهة النظر: (ص53) . 2 الباعث الحثيث: (ص47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 والحكم على الحديث بأنه مرفوع بمجرد هذا اللفظ لا يصح، وإنما هو لفظ الصحابي قطعاً. ولعل الصحابي فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين": أن صيام يوم الشك تَقَدُّمٌ، فهو معصية، كما فهم أبو هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحَدَكم أخاه فليجبه ": أن ترك الإجابة معصية لله ورسوله. ولا يجوز أن يُقَوَّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله. والصحابي إنما يقول ذلك استناداً منه إلى دليل فَهِمَ منه أن مخالفة مقتضاه معصية، ولعله لو ذكر ذلك الدليل لكان له محمل غير ما ظنه، فقد كان الصحابة يخالف بعضهم بعضاً في كثير من وجوه دلالة النصوص"1. كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أن جمعاً من الأئمة ذهبوا إلى إثبات حكم الرفع لذلك، فجزم به الحاكم في (علوم الحديث) 2، والفخر الرازي3، والزركشي4، وأيَّدَه الحافظ العراقي5. وقال الحافظ ابن حجر: "فهذا ظاهره أن له حكم الرفع، ويحتمل أن يكون موقوفاً لجواز إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد.   1 تهذيب السنن: (3/321 - 322) . (ص 21 - 22) . 3 النكت على ابن الصلاح - لابن حجر: (2/530) . 4 تدريب الراوي: (1/191) . 5 شرح الألفية: (1/140) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 والأول أظهر، بل حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه مسند"1. وأما ما قاله ابن القَيِّم - رحمه الله - من أن الصحابي إنما يقول ذلك استناداً إلى دليل يفهم منه أن مخالفة مقتضاه تكون معصية: فإنه لا يخلو من نظر، ويُجاب عما رآه ابن القَيِّم في هذه المسألة بما أجاب به هو عن المسألة المتقدمة، وهي: قول الصحابي: حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو: أمر بكذا، فيقال: إن الصحابة أعلم بمعاني النصوص، فلا يُظَنُّ بأحدهم أن يُقدِمَ على الحكم بالكفر أو المعصية على أحدٍ إلا وقد سمع ذلك، مع دلالة اللفظ عليه، فالصحابة هم أفهم الناس لدلالة النصوص على الكفر والمعصية من عدم دلالتها على ذلك. فتخلص من ذلك: أن الراجح في هذه المسألة هو الحكم في ذلك بالرفع، وأن ما ذهب إليه ابن القَيِّم من الحكم لذلك بالوقف: هو خلاف الأظهر من قولي أهل العلم في المسألة، وخلاف الراجح، والله أعلم. المسألة الخامسة: في حكم تفسير الصحابي للقرآن. هل ما يُفَسِّرُه الصحابي من آي القرآن يُعَدُّ حديثاً مرفوعاً؟ اشتهر عن الحاكم القول بذلك، بل نسبه إلى البخاري ومسلم، فقد قال في (المستدرك) 2: "وقد اتفقا على أن تفسير الصحابيّ حديث مسند".   1 النكت على ابن الصلاح: (2/530) . (1/542) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وقد قيده ابن الصلاح1 - وتبعه عليه النووي2، والعراقي3- بما يتعلق من ذلك بسبب النزول، وسبق هؤلاء جميعاً إلى التقييد بذلك: الخطيب البغدادي، وأبو منصور البغدادي، كما أفاده الحافظ ابن حجر4. على أنه قد جاء عن الحاكم التقييد بذلك أيضاً، فقال - بعد أن ذكر حديث جابر رضي الله عنه في سبب نزول قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]-: "هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها وليست بموقوفة، فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا، فإنه حديث مسند"5. وقد اعتمد ابن القَيِّم - رحمه الله - رأي الحاكم في "المستدرك"، ونقله عنه في كثير من المواضع، محتجاً به على إثبات حكم الرفع لما يقوله الصحابي من التفسير. فقد نقل عنه كثيراً قوله: "تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع"6.   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص24) . 2 التقريب: (ص6) . 3 شرح الألفية: (1/132) . 4 النكت على ابن الصلاح: (2/530) . 5 معرفة علوم الحديث: (ص20) . وانظر: تدريب الراوي: (1/193) . 6 انظر: تهذيب السنن: (3/77) ، وتحفة المودود: (ص17) ، وإعلام الموقعين: (4/153) ، وحادي الأرواح: (ص366) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ولكن: هل يَحْمِلُ ابن القَيِّم هذا الكلام من الحاكم على إطلاقه فَيُثْبِتُ لتفسير الصحابي حكم الرفع مطلقاً؟ والجواب عن ذلك يظهر من شرح ابن القَيِّم لمراد الحاكم بمقالته؛ إذ قال رحمه الله: "ومراده - أي الحاكم -: أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج، لا أنه إذا قال الصحابي في آية قولاً، فلنا أن نقول: هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وله وجه آخر: وهو أن يكون في حكم المرفوع، بمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لهم معاني القرآن، وفسره لهم، كما وصفه تعالى بقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} " [النحل: 44] . فَبَيَّن لهم القرآن بياناً شافياً كافياً، وكان إذا أشكل على أحد منهم معنىً، سأله عنه، فأوضحه له، كما سأله الصديق عن قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 1 [النساء: 123] فبين له المراد، ... وكما سألته أم   1 وحديث أبي بكر الصديق أخرجه أحمد في المسند (1/11) ، والحاكم في المستدرك (3/74 - 75) ، والبيهقي في السنن (3/373) ، وغيرهم، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فكل سوء عملنا جزينا به! فقال صلى الله عليه وسلم: "يرحمك الله يا أبا بكر، ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء؟ فهذا ما تجزون به". (وانظر: مرويات الإمام أحمد في التفسير رقم 878) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 سلمة عن قوله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} 1؟ [الانشقاق: 8] فبين لها أنه العرض ... وهذا كثير جداً. فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن، فتارة ينقلونه عنه بلفظه، وتارة بمعناه، فيكون ما فسروا بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى، كما يروون عنه السنة تارة بلفظها، وتارة بمعناها. وهذا أحسن الوجهين، والله أعلم"2. فابن القَيِّم - رحمه الله - ينفي أن يكون المراد بأن له حكم الرفع: نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قاله، ولكنه يؤكد كونه حجة كالمرفوع، كما مضى في كلامه، بل ويصرح بذلك في مناسبة أخرى، فيقول: "تفسير الصحابة حجة"3. ويُقيِّدُ ابن القَيِّم - رحمه الله - الاحتجاج بتفسير الصحابي   1 وهذا الحديث الذي أشار إليه ابن القَيِّم أخرجه البخاري في صحيحه: ك العلم، ب من سمع شيئاً فراجع حتى يعرفه، برقم 103، وفي غير ذلك من المواضع، من حديث عائشة رضي الله عنها "أنها لما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب عذب" قالت: أو ليس يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحاسب يهلك". وكذا وقع عند ابن القَيِّم هنا في "إعلام الموقعين ": (أم سلمة) ! والمشهور عن عائشة رضي الله عنها، فلعله وهم من النساخ أو الطابعين؟! فقد أورده على الصواب في الصواعق (3/1053) . 2 إعلام الموقعين: (4/153 - 154) . 3 زاد المعاد: (5/243) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 بقيدين، وهما: 1- أن لا يعارضه نصٌّ في المسألة. 2- أن لا يعارضه قول غيره من الصحابة. فإذا توافر لتفسيره هذان الشرطان عُلِمَ أن الصواب في قوله؛ إذ يمتنع أن يكون قول أحدهم في كتاب الله خطأ محضاً ويُمسكُ الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به؛ فإنه من المحال خلوّ عصرهم عن ناطق بالصواب واشتماله على ناطق بالخطأ فقط1. فهذا حاصل كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في تفسير الصحابي، وبيان مراد الحاكم بقوله: إنه في حكم المرفوع، وأن تفسيره في الحجية كحجية المرفوع سواء، ولكن بشرطين مهمين. ومما يحسن التنبيه عليه هنا: أن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ذَكَرَ ضابطاً آخر لما يفسره الصحابي، فقال: "والحق: أن ضابط ما يفسره الصحابي رضي الله عنه: - إن كان مما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا منقولاً عن لسان العرب: فحكمه الرفع، وإلا: فلا، كالإخبار عن الأمور الماضية: من بدء الخلق، وقصص الأنبياء. وعن الأمور الآتية: كالملاحم والفتن، والبعث، وصفة الجنة والنار، والإخبار عن عمل يحصل به ثواب أو عقاب مخصوص. فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد فيها، فيحكم لها بالرفع ...   1 إعلام الموقعين: (4/155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 - وأما إذا فسر آية تتعلق بحكم شرعي، فيحتمل أن يكون ذلك مستفاداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن القواعد، فلا يُجْزَم برفعه. وكذا إذا فَسَّرَ مفرداً، فهذا نقل عن اللسان خاصة، فلا يجزم برفعه. وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة: كصاحبي الصحيح، والإمام الشافعي، وأبي جعفر الطبري، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي بكر بن مردويه في تفسيره المسند، والبيهقي، وابن عبد البر في آخرين"1. وهذا القيد لم يتعرض له ابن القَيِّم رحمه الله، مع أنه قد تَقَدَّم عنه - في المسألة الثالثة - القول: بأن ما يقوله الصحابي مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد يثبت له حكم الرفع؛ وذلك بناءً على ما تقدم عنه من إطلاق كون تفسير الصحابي مسنداً مرفوعاً بشرط عدم معارضة نصٍّ له أو تفسير لصحابي آخر، فيكون من مختلف الحديث، فكأنه لم يقيده بكونه مما لا مجال للرأي فيه في خصوص التفسير وحده، والله أعلم.   1 النكت على ابن الصلاح: (2/531 - 532) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 المبحث الخامس: الْمُرْسَل حدُّ الحديث المرسل وصورته. اختلفت عبارات الأئمة في حدَّ الحديث المرسل على وجوه، أشهرها: ما قاله الحافظ ابن حجر: "هو ما سقط من آخره من بعد التابعي". قال: "وصورته: أن يقول التابعيُّ - سواء كان كبيراً أو صغيراً-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، أو فُعِلَ بحضرته كذا، أو نحو ذلك"1. قال: "وهذا الذي عليه جمهور الْمُحَدِّثِين"2. ويمكن أن نتناول بعض المسائل المتعلقة بالمرسل، مما بحث فيها ابن القَيِّم رحمه الله، فمن ذلك: المسألة الأولى: في حكم الحديث المرسل، والقول في قبوله أو رده. فقد اختلفوا في الاحتجاج بالمرسل على أقوال: - أحدها: قبول مراسيل الصحابة فقط، ورد ما عداها مطلقاً3. وهذا الذي عليه عمل أئمة الحديث4.   1 نزهة النظر: (ص41) . 2 النكت على ابن الصلاح: (2/543) . 3 جامع التحصيل: (ص 47) . 4 نكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/548) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 - الثاني: ردُّ المرسل مطلقاً، حتى مراسيل الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول أبي إسحاق الإسفراييني1. - الثالث: القبول مطلقاً في جميع الأعصار والأمصار. قال العلائي: "وهو توسُّعٌ بعيدٌ جداً غير مرضي"2. - الرابع: قبول مرسل الصحابة وكبار التابعين فقط، وهو مذهب الشافعي وجماعة من المتقدمين. ولكن لقبوله شروط عند الشافعي رحمه الله، بعضها في الخبر الْمُرْسَل نفسه، وبعضها في نفس الراوي الْمُرْسِل. فأما شروط الخبر المرسل، فهي أن يتوافر له أحد أربعة أشياء تعضده، وهي: 1- أن يُروى هذا المرسل من وجهٍ آخر مسنداً، فيدلُّ ذلك على صحة الحديث. 2- أو يروى مرسلاً، أرسله من أخذ العلم عن غير شيوخ المرسل الأول؛ فإنه يتقوى بذلك أيضاً، وإن كان أضعف في التقوية من الذي قبله. 3- أو يوجد ما يوافقه من كلام بعض الصحابة فيُسْتَدَلُّ بذلك على أن لهذا المرسل أصلاً صحيحاً؛ لأن الصحابي إنما أخذ قوله عن النبيصلى الله عليه وسلم. 4- فإن لم يوجد من ذلك شيء، وَوُجِدَ أكثر أهل العلم يقولون به، فإن ذلك يدل على صحة هذا المرسل أيضاً، وأن له أصلاً، وأنهم قد استندوا في فتواهم إلى ذلك الأصل.   1 النكت على ابن الصلاح: (2/546) . 2 جامع التحصيل: (ص48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وأما شروط الْمُرْسِل نفسه، فهي: 1- أن يكون من كبار التابعين، فإنهم لا يروون في الغالب إلا عن صحابي أو تابعي كبير. 2- أن يكون الْمُرْسِل إذا سَمَّى من روى عنه سمى ثقة مقبولاً، ولم يسم ضعيفاً ولا مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه. 3- ألا يخالف الحفاظ إذا شارَكَهم فيما أسندوه، فإن كان ممن يخالف لم يقبل مرسله. فهذه جملة الشروط التي ذكرها الشافعي - رحمه الله - لقبول المرسل1. فإذا توافرت في حديث مرسل قُبِلَ، وقال الحافظ العلائي: "المرسل الذي حصلت فيه هذه الشواهد أو بعضها يسوغ الاحتجاج به"2. - الخامس: قبول مرسل من عُرِفَ من عادته أو صريح عبارته أنه لا يُرْسِلُ إلا عن ثقة، فإن كان كذلك قُبِلَ، وإلا فلا. قال الحافظ العلائي: "فهذا القول أرجح الأقوال في هذه المسألة وأَعْدَلُهَا"3. وقال مرة عن هذا المذهب ومذهب الشافعي الذي قبله: "وهذا القول والذي قبله أعدلُ المذاهب، وبه يحصل الجمع بين الأدلة المتقدمة من الطرفين"4.   1 الرسالة: (ص461 - 464) . 2 جامع التحصيل: (ص43) . 3 جامع التحصيل: (ص34) . 4 جامع التحصيل: (ص96) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وأيَّدَهُ في ترجيح ذلك: الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ونقل أقوالاً عدة في تأييده، ثم قال: "وبهذا المذهب يحصلُ الجمع بين الأدلة لطرفي القبول والرد"1. وفي المسألة أقوالٌ أخرى غير ما ذكرنا. فتحَصَّلَ من ذلك أن أقوال العلماء في الاحتجاج بالمرسل تدور على ثلاثة مذاهب، وهي: 1- القبول مطلقاً. 2- الرد مطلقاً. 3- التفصيل في المسألة، أو: قبوله بشروط. وبالنظر إلى تَصَرُّف ابن القَيِّم - رحمه الله - في الاحتجاج بالمرسل، واختياره في ذلك: فقد ذهب - رحمه الله - إلى قبول المرسل إذا توافرت فيه تلك الشروط التي ذكرها الشافعي رحمه الله، وأضاف إلى ذلك مُعَضِّداً - لعله أخذه من الأصوليين- وهو: اعتضاد المرسل بالقياس، وسيأتي نقل ذلك عنه. فمن أقواله التي يُقَرِّرُ فيها شروط الاحتجاج بالمرسل: قوله في حديث أبي قتادة في عدم كراهية الصلاة يوم الجمعة وقت الزوال - وقد أُعِلَّ بالإرسال -:   1 النكت على ابن الصلاح: (2/552 - 555) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 "الْمُرْسَلُ: إذا اتصَّل به عملٌ، وعضده قياسٌ، أو قول صحابي، أو كان مُرْسِلُه معروفاً باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته: عُمِلَ به وأيضاً: فقد عضده شواهد أخر"1. ثم أخذ في سياق بعض الشواهد المسندة لهذا الحديث. وبالنظر إلى كلام ابن القَيِّم هذا، نجد أنه قد أعمل شروط المذهبين الراجحين السالف ذكرهما. فكون المرسل: تعضده شواهد مسندة. أو يَعْمَلُ به أكثر أهل العلم. أو يوافقه قول صحابي. فإن هذه من شروط قبول المرسل عند الإمام الشافعي رحمه الله. وكون مُرْسِلهُ: ممن عرف بالرواية عن الثقات، وتجنب الضعفاء والمتروكين، فإن هذا مقتضى المذهب الذي تقدم ترجيحه آنفاً، وأضاف إلى ذلك كله: كونه مما يعضده القياس، وهذا مما زاده الأصوليون في   1 زاد المعاد: (1/379) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الاعتضاد، كما نصَّ عليه السيوطي1 رحمه الله. وقال - رحمه الله - في حديث ميراث المرأة، وأنها "تحوز ميراث: عتيقها، ولقيطها، والذي لاعنت عليه" - وقد أورد عدة آثار مرسلة ومسندة في ميراثها ولد الملاعنة خاصة - قال: "وهذه الآثار يشد بعضها بعضاً، وقد قال الشافعي: إن المرسل إذا رُوِيَ من وجهين مختلفين، أو رُوِيَ مسنداً، أو اعتضد بعمل بعض الصحابة: فهو حجة". قال: "وهذا قد رُوِيَ من وجوه متعددة، وعمل به من ذكرنا من الصحابة، والقياس معه ... "2. وقد لاحظنا في هذا المثال ذكر شرط آخر من شروط الاعتضاد، وهو: أن يوافق هذا المرسل مرسل آخر يُروى من وجه آخر. وأورد مرسل سعيد بن المسيب في القضاء بين رجلين بالقرعة، ثم ساق له شاهداً مرسلاً - أيضاً - من رواية سليمان بن يسار، ثم قال: "فهذا مرسل: قد روى من وجهين مختلفين،   1 تدريب الراوي: (1/201) . 2 تهذيب السنن: (4/177 - 178) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وهو من مراسيل ابن المسيب، وتشهد له الأصول التي ذكرناها في القرعة"1. وقوله هنا بأنه "من مراسيل سعيد بن المسيب" يعني: أنه عُرِفَ من حاله أنه لا يُرْسِل إلا عن ثقة، وتقدم بيان هذا الشرط، والكلام عليه. فقد قَبِلَ الشافعي - رحمه الله - مراسيل ابن المسيب خاصة، فإنه قال: " ... ليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع ابن المسيب"2. وقد ذهب آخرون إلى تقديم مراسيل ابن المسيب، والقول بأنها أصح المراسيل3. أما الشافعي رحمه الله: فقالوا إنه كَشَفَ عن مراسيل ابن المسيب، فوجده لا يَروِي إلا عن ثقة، وأن مراسيله مسندة متصلة من جهات أخرى4. وقد أخذ بذلك ابن القَيِّم رحمه الله - كما ستأتي الإشارة إليه - ومن ثم فإن قوله - رحمه الله - في هذا الحديث: إنه من رواية ابن المسيب. هو بمثابة قوله في غيره: أرسله من لا يُرْسِلُ إلا عن ثقة متقن. ومن هذا العرض يتبين لنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد اختار في قبول المُرْسَلِ أعدل المذاهب، وهو المذهب المتوسط بين طرفي القبول والرد، والذي يقبل المرسل بشروط وضوابط، إذا توافرت في المرسل دَلَّتْ في الغالب على صحته وثوبته.   1 الطرق الحكمية: (ص325) . 2 "المراسيل" لابن أبي حاتم: (ص6) ، و"آداب الشافعي" له: (ص232) . 3 انظر "جامع التحصيل": (ص45 - 46) ، (ص99) . 4 جامع التحصيل: (ص34) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ومع ذلك، فقد وَجَدتُ كلاماً لابن القَيِّم - رحمه الله - يؤخذ منه: أنه يذهب إلى قبول الْمُرْسَل مطلقاً بلا قيد ولا شرط، فقد قال - في مرسل مجاهد - رحمه الله - في اعتداد المتوفَّى عنها زوجها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للنسوة اللاتي سألنه: "تحدَّثْنَ عند إحداكن ما بدا لكن، فإذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها" - قال: "وهذا وإن كان مرسلاً، فالظاهر أن مجاهداً: إما أن يكون سمعه من تابعي ثقة، أو من صحابي. والتابعون لم يكن الكذب معروفاً فيهم، وهم ثاني القرون المفضلة، وقد شاهدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا العلم عنهم، وهم خير الأمة بعدهم، فلا يُظَنُّ بهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الرواية عن الكذابين، ولا سيما العَالِمُ منهم إذا جَزَمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرواية، وشهد له بالحديث، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر ونهى، فيبعد كلَّ البعد أن يُقْدِمَ على ذلك مع كون الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كَذَّاباً أو مجهولاً. وهذا بخلاف مراسيل من بعدهم، فكلما تأخرت القرون، ساءَ الظن بالمراسيل، ولم يُشْهَدْ بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. وقد تضمن هذا الكلام من ابن القَيِّم - رحمه الله - أموراً تحتاج إلى مناقشة: - فأما القول بأن مجاهداً أخذه عن صحابي، أو تابعي ثقة: فكلُّ   1 زاد المعاد: (5/692 - 693) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ما فيه هو تحسين الظن به، إلا أنهم لم يذكروا مجاهداً بأنه كان لا يأخذ إلا عن ثقة، كما قالوا في حق سعيد بن المسيب مثلاً. وقد بَيَّنَ الحافظ العلائي - رحمه الله - أن احتمال كونِ الساقط ضعيفاً أو مجهولاً، قد يرجح في بعض المواضع على احتمال كونه صحابياً أو تابعياً ثقة، قال: "ولا أقل من أن تتساوى الاحتمالات، وحينئذٍ فلا يصح الاحتجاج به"1. - وأما قوله: إن الكذب لم يكن معروفاً في هذا العصر: فقد أجاب عن ذلك الحافظ العلائي أيضاً، وقال بأن ذلك "ممنوع؛ بل إن الواقع خلافه"2. ثم أخذ - رحمه الله - في ذكر بعض الوقائع التي تثبت عكس ذلك، وأن جماعة قد أرسلوا عن ضعفاء ومجاهيل3. بل حكى ابن عبد البر: أن محمود بن لبيد حكى عن جماعة أنهم حدَّثُوه عن عبد الله بن جعفر بما أنكره ابن جعفر، قال: "وهذا في زمن فيه الصحابة، فما ظنك بمن بعدهم؟ "4. - وأما القول بأن الواحد منهم لا يجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذاب أو مجهول: يعني أن الراوي لا يرسل الحديث إلا بعد جزمه بعدالة من أرسل عنه، وهذه "دعوى لا دليل عليها" كما قال الحافظ العلائي.   1 جامع التحصيل: (ص88) . 2 جامع التحصيل: (ص82) . 3 جامع التحصيل: (ص86) . 4 التمهيد: (1/54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 والذي حملهم على هذا هو القول: بأنه لو لم يكن عدلاً عنده، لكان بجزمه بالرواية عنه فاسقاً؛ لإثباته الخبر وهو لا يغلب على ظنه ثبوته، مع تعديله من ليس عدلاً. وأجاب عن ذلك الحافظ العلائي - رحمه الله - فقال: "لا يلزم ذلك؛ لأنه لم يُكَلَّفْ إلا بما ظهر له، وقد يظهر لغيره خلاف ذلك، ويترجح على تعديل هذا، كما قد وقع للزهري - مع إمامته - في إرساله عن سليمان بن أرقم لظنه تعديله، وهو ضعيف متروك لا يُحْتَجُّ به، ومثل هذا كثير جداً، فلا تَلازُمَ بين الأمرين كما قالوا"1. ومن هذا يتبين لنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - بإطلاقه القول بقبول مراسيل التابعين - بناء على قوله هذا - قد تساهل كثيراً، وتوسَّعَ توسعاً لا يتفق مع ما قدمنا عنه: من أن المرسل لا يُقْبَلُ إلا بالشروط المذكورة، وأنه قد قَرَّرَ ذلك في غير مناسبة. ولذلك، فإنه لا ينبغي أن يُفهمَ أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يرتضي هذا المذهب ويعتمده في مسألة الاحتجاج بالمرسل، ولعل ما نقلناه عنه في القول بقبول المرسل بشروطه قد بلغ من الكثرة بحيث لا يُعارضُ بهذا القول الواحد، ولعله كان يرى الإطلاق ثم استقرَّ رأيه على ما هو المذهب المعتمد في ذلك، ولا سيما أنه لم ينظر إلى مراسيل التابعين نظرةً واحدة، بل كان يرى التفاوت بينها قبولاً ورداً؛ كما سيأتي في المسألة الثالثة. فهذا - من جهة أخرى - يؤكد استقرار رأيه على قبوله بشروط، والله أعلم.   1 جامع التحصيل: (ص 81) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 المسألة الثانية: في حكم مراسيل الصحابة. إذا قال الصحابي الصغير: كابن عباس، وابن الزبير ونحوهما، وكذا الصحابي الكبير فيما ثَبَتَ أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا بواسطة، إذا قال أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يُحْكَمُ لذلك بالاتصال؟ الصحيح الذي عليه جمهور أهل الحديث وغيرهم: أن ذلك صحيح متصل محتج به. قال ابن الصلاح في ختام كلامه على المرسل: "ثم إنَّا لَمْ نَعُدَّ في أنواع المرسل ونحوه ما يُسَمَّى في أصول الفقه: مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة1، والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول"2. وقَرَّرَ النووي: أن الحكم بصحة مرسل الصحابي هو المذهب الصحيح3. وحجة من ردَّ مرسل الصحابي: احتمال كون الصحابي سمعه من تابعي، وإذا كان كذلك، فيُحْتَمَلُ أن يكون هذا التابعي ضعيفاً.   1 قال العراقي: "الصواب أن يقال: لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة؛ إذ قد سمع جماعة من الصحابة من بعض التابعين" (التقييد والإيضاح: ص75) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص26) . 3 التقريب: (ص7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وأجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: "والانفصال عن ذلك أن يُقال: قول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ظاهر في أنه سمعه منه أومن صحابي آخر، فالاحتمال أن يكون سمعه من تابعي ضعيف نادر جداَّ لا يؤثر في الظاهر، بل حيث رووا عن من هذا سبيله، بينوه وأوضحوه"1. وقد تَعَرَّضَ ابن القَيِّم - رحمه الله - لهذه المسألة أثناء مناقشته لابن القطان في حديث أَعَلَّهُ بأنه مرسل صحابي، ففي الحديث الذي رواه أبو بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم "صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات، ثم انصرف، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، وكانت له ست ركعات، وللقوم ثلاث ركعات" قال ابن القطان - عن هذا الحديث، وحديث آخر لأبي بكرة -: "وعندي أن الحديثين غير متصلين؛ فإن أبا بكرة لم يُصَلِّ معه صلاة الخوف؛ لأنه بلا ريب أسلمَ في حصار الطائف ... وهذا كان بعد فراغه صلى الله عليه وسلم من هوازن، ثم لم يلق صلى الله عليه وسلم كيداً إلى أن قبضه الله". فرد ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك عليه قائلاً: "وهذا الذي قاله لا ريب فيه، لكن مثل هذا ليس بعلة ولا انقطاع عند جميع أئمة الحديث والفقه، فإن أبا بكرة وإن لم يشهد القصة، فإنه إنما سمعها من صحابي غيره، وقد اتفقت الأمة على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من الصحابة، مع أن عامتها مرسلة عن   1 النكت على ابن الصلاح: (2/570) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينازع في ذلك اثنان من السلف وأهل الحديث والفقهاء، فالتعليل على هذا باطل"1. فوافق ابن القَيِّم - رحمه الله - الجمهور في القول بصحة مراسيل الصحابة، والحكم لها بالاتصال. المسألة الثالثة: في حكم بعض المراسيل، وبيان منزلتها. تَكَلَّمَ الأئمة - رحمهم الله - على حكم مراسيل بعض التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينوا درجتها ومنزلتها، وما يُقْبَلُ منها وما يُرَدُّ. وقد كانت هذه الأحكام نتيجة بحثهم وتَحَرِّيهِم، واعتبارهم بمرسلات كل واحد من الرواة، وعادته فيما يرسله، ومن ثمَّ حكموا على مرسل كل شخص بما يناسب حاله. وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - أثناء بحوثه بعض هؤلاء الْمُرْسِلِين، وَتَكَلَّم عن حالهم، وبين درجة مراسيلهم من حيث القبول والرد، والقوة والضعف. وأنا أذكر ما وقفت عليه من كلامه في هذا الباب، مُقَارِناً ذلك بكلام الأئمة أهل هذا الشأن، فمن هؤلاء: 1- سعيد بن المسيب: ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى صحة مراسيل ابن المسيب، وأن ما قال فيه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهو حُجَّةٌ، حتى عند من لم يقبل المرسل.   1 تهذيب السنن: (2/71 - 72) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ومن أقواله في هذا المعنى: قال رحمه الله: " ... فإن ابن المسيب إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حجة"1. وقال: "وسعيد بن المسيب إذا أرسَلَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبلَ مُرْسَلُهُ"2. وقال: " ... ومن لم يقبل المرسل قَبلَ مرسل سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم"3. وقال في حديث مرسل يريد أن يُقَوِّيهُ ويعضده: "وهو من مراسيل ابن المسيب"4. فهكذا كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يرى حُجِّيَّةَ مراسيل ابن المسيب، وصحتها على الإطلاق، وهو بذلك موافق للجمهور من أئمة الحديث؛ فقد قال الحافظ العلائي رحمه الله: "وقد اتفقت كلمتهم على سعيد بن المسيب، وأن جميعَ مراسيله صحيحة، وأنه كان لا يُرسلُ إلا عن ثقة من كبار التابعين، أو صحابي معروف. قال معنى ذلك بعبارات مختلفة جماعة من الأئمة، منهم: مالك، ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، وعلى بن المديني، ويحيى بن معين، وغيرهم"5.   1 تهذيب السنن: (2/316) . 2 تهذيب السنن: (4/364) . 3 تهذيب السنن: (7/294) . 4 الطرق الحكمية: (ص 325) . 5 جامع التحصيل: (ص99) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وقد تَقَدَّم أن الشافعي - رحمه الله - استثنى من المراسيل كلها مراسيل ابن المسيب، فجعلها حجة مطلقاً، وعبارته: " ... ليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع ابن المسيب"1. وممن صرَّحَ بتقديمها أيضاً: الحاكم في (علوم الحديث) 2. وجعله الحافظ الذهبي - رحمه الله - من أصح المراسيل3. فتبين من ذلك: أن ابن المسيب من أصح الناس مرسلاً، والجمهور على قبول مراسيله مطلقاً، وهو الذي اختاره ابن القَيِّم - رحمه الله - ومشى عليه في كتبه. 2- الزُّهْرِي: ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ضعف مراسيل الزهري، وعدم الاحتجاج بها، بل ذهب إلى أنها من أضعف المراسيل، فقال: "مراسيل الزهري عندهم ضعيفة، لا يحتجُّ بها"4. وقال مرة: "مراسيل الزهري عندهم من أضعف المراسيل، لا تصلح للاحتجاج؛ قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان قال: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول: هو بمنزلة الريح. وقُرئ على عباس الدوري، عن ابن معين قال: مراسيل الزهري ليست بشيء"5.   1 المراسيل - لابن أبي حاتم: (ص6) . (ص 25 - 26) . 3 الموقظة: (ص38 - 39) . 4 زاد المعاد: (5/364) . 5 تحفة المودود: (ص170 - 171) . وانظر "المراسيل": (ص3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وقال العلائي: "اختلف في مراسيل الزهري، لكن الأكثر على تضعيفها"1 ثم نقل عن الشافعي قوله: "يقولون: نُحَابي، ولو حابينا أحداً لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم". ثم قال العلائي رحمه الله: "والظاهر: أن قولَ الأكثر أولى بالاعتماد"2. وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: "ومن أوهى المراسيل عندهم: مراسيل الحسن، وأوهى من ذلك: مراسيل الزهري، وقتادة، وحميد الطويل من صغار التابعين. وغالب المحققين يَعُدُّون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات، فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعي كبير، عن صحابي، فالظن بِمُرْسِلِه أنه أسقط من إسناده اثنين"3. فظهر من أقوال هؤلاء الأئمة - رحمهم الله - أن المختار: ضعف مراسيل الزهري، وعدم الاعتماد عليها بحال. وهو ما قَرَّرَهُ ابن القَيِّم رحمه الله. 3- الشَّعْبِي: قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في قول الشعبي: " إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرُدَّها - يعني زينب ابنته - إلا بنكاح جديد" قال:   1 جامع التحصيل: (ص101) . 2 جامع التحصيل: (ص 101 - 102) . 3 الموقظة: (ص40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 "إن صحَّ عن الشعبي: فإن كان قاله برأيه فلا حجة فيه، وإن كان قاله رواية فهو منقطع لا تقوم به حجة، فَبَيْنَ الشعبي وبَيْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَفَازَةٌ1 لا يُدْرى حالها"2. هكذا جزم ابن القَيِّم برد مرسل الشعبي، وأنه لا تقوم به حجةٌ! ولننظر أقوال الأئمة في ذلك: قال العجلي: "مرسل الشعبي صحيح، لا يُرْسِل إلا صحيحاً صحيحاً"3. وقال أبو داود: "مرسل الشعبي أحبُّ إليّ من مرسل النخعي"4. وقَدَّم ابن معين مراسيل إبراهيم النخعي عليها5. وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: " ... مراسيل مجاهد، وإبراهيم، والشعبي: فهو مرسل جيد، لا بأس به، يقبله قوم ويرده آخرون"6. وجعل السخاوي مراسيله في مرتبة من كان يَتَحَرَّى في شيوخه7. قلت: فغاية مراسيل الشعبي أنه مختلف فيها، وإن كان ظاهرُ كلام   1 الْمَفَازَةُ: الموضع المهلك، مأخوذة من فَوَّزَ إذا مات، لأنها مظنة الموت. (المصباح المنير: 2/483) . 2 أحكام أهل الذمة: (1/336) . 3 تاريخ الثقات (ترتيب الهيثمي) : (ص244) . 4 تهذيب التهذيب: (5/68) . 5 تاريخ ابن معين - الدوري: (2/18) . 6 الموقطة: (ص40) . 7 فتح المغيث: (1/152) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الأئمة احتمالها، ولم أقف على تسمية من حكم بردِّهَا كما ذهب إليه ابن القَيِّم - وإن كان الذهبي أشار إلى جماعة قالت بردها - فهي إلى القبول أقرب منها إلى الردِّ، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 المبحث السادس: تَعَارُض الوصل والإرسال، أو الرفع والوقف إذا روى بعض الثقات الحديث مُرْسَلاً وبعضهم مُتَّصِلاً، فهل يُحكمُ في ذلك للوصل أم للإرسال؟ اختلفَ أهل العلم في ذلك على أقوال: الأول: أن الحكم في ذلك لمن وصله، سواء كان المخالف له مثله أو أكثر، أحفظ منه أم لا. وهذا القول صححه: الخطيب1، والنووي2، والعراقي3. قال ابن الصلاح: "وما صححه - يعني الخطيب - هو الصحيح في الفقه وأصوله"4. القول الثاني: أن الحكم في ذلك لمن أرسل. عزاه الخطيبُ لأكثر أصحاب الحديث5. قال السخاوي - رحمه الله - في توجيه هذا القول: "فسلوك غير الجادة دال على مزيد التحفظ، كما أشار إليه النسائي ... "6.   1 الكفاية: (ص 580 - 581) . 2 التقريب: (ص 8) . 3 شرح الألفية: (1/175) . 4 مقدمة ابن الصلاح: (ص 34) . 5 الكفاية: (ص580) . 6 فتح المغيث: (1/170) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 القول الثالث: أن الحكم للأكثر؛ فإن كان من أرسله أكثر ممن وصله، فالحكم للإرسال، وإن كان من وصله أكثر، فالحكم للوصل. قال السخاوي: "لأن تطرق السهو والخطأ إلى الأكثر أبعد"1. القول الرابع: أن الحكم في ذلك للأحفظ. والذي اختاره الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: هو أن الْمُحَدِّثِين- رحمهم الله - ليس لهم في ذلك قانونٌ ثابت؛ فإنهم لا يحكمون في مثل ذلك بحكم مطرد، وإنما يرجحون في مثل ذلك بالقرائن2. ولكن عملهم هذا، وترجيحهم بالقرائن إنما هو فيما يَظْهَرُ فيه الترجيح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وهذا ... إنما هو فيما يظهر لهم فيه الترجيح، وأما ما لا يظهر فيه الترجيح: فالظاهر أنه المفروض في أصل المسألة"3. يعني أنه هو الذي تجري فيه الأقوال الأربعة الماضية. وقد ذكر ابن القَيِّم - عند تعرضه لهذه القضية - بعض المذاهب في المسألة، فمن ذلك: أنه - رحمه الله - قال في حديث تخيير البكر الكارهة في الزواج - وقد رُوي مرسلاً ومسنداً-: "وليس رواية هذا الحديث مرسلة بعلة فيه، فإنه قد روى مسنداً ومرسلاً، فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادةٌ، ومن وصله مُقَدَّم   1 فتح المغيث: (1/171) . 2 انظر: النكت على ابن الصلاح (2/605) . 3 النكت على ابن الصلاح: (2/605) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 على من أرسله: فظاهرٌ، وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث ... وإن حكمنا بالإرسال - كقول كثير من المحدثين -: فهذا مرسل قويٌ قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة ... "1. ثم يبالغُ - رحمه الله - في الرد على من ضَعَّفَهُ بالإرسال، فيقول: "وعلى طريقة البيهقي وأكثر الفقهاء، وجميع أهل الأصول: هذا حديث صحيحٌ؛ لأن جرير بن حازم ثقة ثبت، وقد وصله، وهم يقولون: زيادة الثقة مقبولة، فما بالها تقبل في موضع - بل في أكثر المواضع التي توافقُ مذهب المقلد - وترد في موضع يخالف مذهبه؟! "2. وبغَضِّ النظر عن تقديم الوصل أو الإرسال في هذا الحديث، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّر: أن مذهب الفقهاء والأصوليين: تقديمُ الوصل والحكم للزيادة دائماً إذا كانت من ثقة، وأن مذهب كثير من المحدثين: تقديم الإرسال. وقال - أيضاً - موضحاً طريقة الفقهاء والأصوليين عند كلامه على أحاديث الفطر بالحجامة: "وعلى قول جمهور الفقهاء والأصوليين: لا يُلتفت إلى شيء من تلك العلل، وأنها ما بين تعليل بوقف بعض الرواة وقد رفعها آخرون، أو إرسالها وقد وصلها آخرون، وهم ثقات، والزيادة من الثقة مقبولة"3.   1 زاد المعاد: (5/96- 97) . 2 تهذيب السنن: (3/40) . 3 تهذيب السنن: (3/248) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وأما اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة: فقد كان يرى عدم لزوم حكم ثابت مُطَّرِد دائماً، وإنما يدور الحكم لأحد الجانبين مع القرائن والمُرَجِّحات، فمن أقواله في هذا الصدد: ما قاله في حديث: "من دخل حائطاً فليأكل ولا يَتَّخِذُ خُبْنَةً": "ولكن لو حَاكَمْنَا منازعينا من الفقهاء إلى أصولهم، لكان هذا الحديث حجةً على قولهم؛ لأن يحيى بن سليم من رجال الصحيحين، وهو لو انفرد بلفظةٍ، أو رفعٍ، أو اتصالٍ، وخَالَفَه غيره فيه لحكموا له، ولم يلتفتوا إلى من خالفه، ولو كان أوثق وأكثر ... ولكنَّا لا نرضى بهذه الطريقة، فالحديثُ عندنا معلول"1. فابن القَيِّم - رحمه الله - ينتقد طريقة الفقهاء عند وقوع ذلك، وأنهم يحكمون دائماً لمن زاد، دون مراعاة للاعتبارات الأخرى التي قد ترجح الجانب الآخر: كالكثرةِ، وكونِ المخالف أوثق، وغير ذلك من المرجحات. ويؤكد - رحمه الله - في مناسبة أخرى فسادَ طريقة من يحكم بحكمٍ ثابتٍ عند تعارض الوصل والإرسال، فيقول - رحمه الله - في حديث ابن عباس رضي الله عنه في القضاء باليمين مع الشاهد: "وقد أَعَلَّه طائفةٌ بالإرسال بأن عمرو بن دينار رواه عن محمد ابن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وهذا أيضاً تعليلٌ فاسدٌ لا يؤثر في الحديث؛ لأن راويه عن عمرو إنسانٌ ضعيفٌ، لا يُعترض بروايته على الثقات ...   1 تهذيب السنن: (3/426) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وهذه الطريق في مقابلها طريق الأصوليين، وأكثر الفقهاء: أنهم لا يلتفتون إلى علة للحديث إذا سلمت طريق من الطرق منها، فإذا وصله ثقةٌ أو رفعه، لا يبالون بخلاف من خالفه ولو كثروا"1. فأشار - رحمه الله - بذلك إلى أن من يُقَدِّم الوصلَ دائماً، وكذا من يُقَدَّم الإرسال على الوصل دائماً، كلاهما على طرفي نقيض. ثم يُقَرِّرُ - رحمه الله - الصواب في ذلك، فيقول: "والصواب في ذلك: طريقةُ أئمةِ هذا الشأن العَالِمِين به وبعلله، وهو: النظر والتَّمَهُّرُ في العلل، والنظرُ في الواقِفِين والرَّافِعِين، والمُرْسِلين والواصلين: أَيُّهم أكثرُ، وأَوْثَقُ، وأخصُّ بالشيخ، وأعرف بحديثه، إلى غير ذلك من الأمور التي يَجْزِمون معها بالعِلَّة المُؤَثِّرة في موضع، وبانتفائِها في موضعٍ آخر، ولا يرتضون طريقَ هؤلاء، ولا طريقَ هؤلاء"2. فهذا بيانُُ منه - رحمه الله - للطريقةِ المعتبرة في مثل ذلك، وهي: الترجيحُ بالقرائنِ والاعتباراتِ المحيطة بكل خبرِ على حدة. وقد ذكر في ضمن كلامه هذا بعض المُرَجِّحَاتِ والقرائنِ التي يُلْجَأُ إليها في مثل ذلك، ومنها: 1 - الترجيحُ بالكثرة. 2- الترجيحُ بالثقةِ والإتقانِ والحفظ، بكون أحد الجانبين أوثق وأحفظ من الآخر.   1 تهذيب السنن: (5/228- 229) . 2 تهذيب السنن: (5/229) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 3 - الترجيحُ باختصاصِ أحدِ الجانبين بالشيخ، وملازمتِهِ له، ومعرفته بحديثه. ويشير - رحمه الله - إلى وجه رابع من وجوه الترجيح، وهو: 4 –كون أحد الجانبين قد سمعوا الحديث من الشيخ في أوقات مختلفة، والآخرون سمعوه منه في مجلس واحد عرضاً1. نقل ذلك عن الترمذي في ترجيحه الوصلَ على الإرسال في حديث أبي موسى مرفوعاً: "لا نكاح إلا بولي". قال الحافظُ ابن حجر-رحمه الله- "ولا يخفى رُجْحَان ما أُخِذَ من لفظِ المُحَدِّث في مجالس متعددة، على ما أُخِذَ عنه عرضاً في محل واحد"2. ويؤكد ابن القَيِّم الترجيحَ بالملازمة للشيخ، والاختصاص به، فيقول في حديث أبي موسى الماضي -عند ذكره وجوه ترجيح الوصل-: "ترجيحُ إسرائيل في حفظه وإتقانه لحديثِ أبي إسحاق ... وإن كان شعبةُ والثوري أجلُّ منه، لكِنَّه لحديثِ أبي إسحاقَ أتقن، وبه أعرف"3. ومن أمثلة استعماله القرائن في الترجيحِ، وعدم لزومه حالة واحدة: قوله في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في مسح أعلى الخف وأسفله:   1 تهذيب السنن: (3/31) . 2 النكت على ابن الصلاح: (2/607) . 3 تهذيب السنن: (3/31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 "وقد تَفَرَّدَ الوليدُ بن مسلم بإسناده ووصله، وخَالَفَهُ مَنْ هو أحفظ منه وأجلُّ - وهو الإمام الثبت: عبد الله بن المبارك - فرواه عن: ثور، عن رجاء، قال حُدِّثْتُ عن كاتب المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا اختلف عبد الله بن المبارك والوليد بن مسلم، فالقول ما قال عبد الله"1. فقد رجح الإرسال هنا: لكون راويه أتقن وأحفظ من الآخر. أما حينما يكون الذي وصل الحديث أو رفعه ثقة متقن، ولا يقلُّ عن الذي أرسله حفظاً وإتقاناً، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - يحكم بتقديم زيادة الثقة؛ فإنه قال في حديث: " لا نكاح إلا بولي " الماضي: "وَصْلُه زيادةٌ من ثقة ليس دون من أرسله، والزيادةُ إذا كان هذا حالها، فهي مقبولة"2. فاتَّضَحَ من ذلك طريقةُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب، واختياره في ذلك، حيث إنَّه اختارَ طريقة أئمة الشأن في تعاملهم مع تعارض الوصل والإرسال؛ وذلك أنهم يدورون مع القرائن التي تُرَجِّح عندهم أحد الجانبين على الآخر، ولا يلتزمون في ذلك حكماً ثابتاً يطبقونه على كل حالة من هذه الحالات. وقد قَرَّرَ ابنُ القَيِّم في أكثر من مناسبة - كما مضى - أن هذه الطريقة هي الصواب، وكان -رحمه الله- مُطَبِّقاً لذلك في كلِّ الأحاديث التي بحثها من هذا القبيل.   1 تهذيب السنن: (1/126) . 2 تهذيب السنن: (3/31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وهكذا كان موقفه - رحمه الله - فيما يتعارض فيه الوقف والرفع: فيقدم الرفع تارة إذا كان مَنْ رَفَعَهُ ثقة متقن، فيكون من باب زيادة الثقة1. وتارة يرجح الوقف إذا كانت هناك مرجحات، ككثرة الواقفين، وكونهم أشهر وأعلم بحديث الشيخ2، إلى غير ذلك من المرجحات، والله أعلم.   1 انظر مثلاً: تهذيب السنن: (4/96) . 2 انظر مثلاً: تهذيب السنن: (3/252) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 المبحث السابع: الْمُنْقَطِعُ تعريفه: هو ما سقط من إسناده راوِِ واحد قبل الصحابي، من أي موضع كان السقط1. وكذا لو سقط من إسناده اثنان، لكن لا على التوالي2. وهذا هو الأكثر في استعمالهم، كما صَرَّح به الخطيب وغيره3. ومن المسائل المتفرعة عن نوع المنقطع: العَنْعَنَةُ، أو: الإسناد الْمُعَنْعَن: إذا قال الراوي في حديثه: عن فلان، من غير بيان للتحديث والإخبار والسماع، فما حكم هذا الإسناد؟ اختلف في ذلك: - فقال بعضهم: هو من قبيل المنقطع والمرسل حتى يتبين اتصاله. - والصحيح الذي عليه العمل: أنه من قبيل الإسناد المتصل، هذا الذي ذهب إليه الجمهور من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم، بل ذهب البعض إلى إجماع أهل النقل على ذلك4، وذلك بشرطين:   1 فتح المغيث: (1/153) . 2 تدريب الراوي: (1/208) . 3 فتح المغيث: (1/155) . 4 مقدمة ابن الصلاح: (ص 29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 أحدهما: أن يكون الْمُعَنْعِنُ غير معروف بالتدليس. الثاني: أن يثبت اللقاء بين الراوي المعنعن وشيخه، ولو مرة واحدة، كما ذهب إلى ذلك: البخاري، وشيخه علي بن المديني، وغيرهما من النقاد1. واكتفى الإمام مسلم في الحكم لذلك بالاتصال: بأن يكون الراوي المعنعن وشيخه متعاصرين، مع إمكان اللقاء، وبالغ في خطبة "صحيحه"2 في الرد على من قال باشتراط ثبوت اللقاء، وأنه قول مخترعٌ لم يُسْبَق قائله إليه. وقد أخذ ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة بمذهب الإمام مسلم رحمه الله، فكان يحكم على الإسناد المعنعن بالاتصال بمجرد تحقق المعاصرة بين الراوي وشيخه، وإمكان لقائهما، ولم ير أنه يلزم في ذلك ثبوت اللقاء بينهما، يتضح ذلك من كلامه في مناسبات عدة، فمن ذلك: أن الطحاوي أعل حديث ابن عباس رضي الله عنه في القضاء باليمين مع الشاهد: بأن قيس بن سعد لا يُعْلَم حدث عن عمرو بن دينار بشيء، فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "هذه عِلَّة ٌباطلة؛ لأن قيساً ثقة ثبت، غير معروف بتدليس. وقيسٌ وعمرو مكِّيَّان في زمان واحد، وإن كان عمرو أسن وأقدم وفاة منه. وقد روى قيس عن عطاء ومجاهد، وهما أكبر وأقدم موتاً من عمرو ابن دينار"3.   1 نزهة النظر: (ص 64) . (1/29- 35) . 3 تهذيب السنن: (5/227) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 فابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا المثال يكتفي - للحكم باتصال هذا السند - بكون قيس وعمرو عاشا في زمان واحد، وأن لقاءهما ممكن غير مستبعد، هذا مع كون قيس بن سعد ثقة ثبت ولا يُعرف بتدليس. وما قاله ابن القَيِّم هنا من أن قيساً غير معروف بتدليس: غير كافِِ للحكم بالاتصال؛ إذ قد يكون المعاصر غير مُدَلِّس، ولكنه يرسلُ إرسالاً خفياً، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: "وقيل: يُشترط في حمل عنعنة المعاصر على السماع: ثبوت لقائهما ... ولو مرة واحدة، ليحصل الأمن في باقي العنعنة عن كونه من المرسل الخفي، وهو المختار"1. ولما أعلَّ البخاري - رحمه الله - حديث عقبة بن عامر في: " لَعْن الْمُحَلِّل والْمُحَلَّل له"، بأن الليث بن سعد لم يسمعه من مشرح بن هاعان، وكذا أعلَّه أبو زرعة بقوله:"لم يسمع الليث من مشرح شيئاً ... "، ردَّ ذلك ابن القَيِّم بقوله: "فإن الليث كان معاصراً لمشرح، وهو في بلده، وطلب الليث العلم وجمعه لم يمنعه أن لا يسمع من مشرح حديثه عن عقبة بن عامر وهو معه في البلد"2. فهكذا كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب في هذه المسألة إلى الحكم للسند بالاتصال بمجرد المعاصرة مع إمكان اللقاء. والذي يظهر - والله أعلم - أن ما ذهب إليه البخاري، وشيخه   1 نزهة النظر: (ص 64) . 2 إعلام الموقعين: (3/46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ابن المديني هو الراجح، وما ذهب إليه مسلم - رحمه الله - من انعقاد الإجماع على خلافه: غير مُسَلّمٍِ له، بل عمل أكثر الأئمة المتقدمين على مذهب البخاري. وقد أشار ابن رجب - رحمه الله - إلى أن مذهب البخاري هذا هو مقتضى كلام الإمام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أعيان الحفاظ، قال: "بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع، كما تقدم عن الشافعي رضي الله عنه ... "1. ثم قال - بعد أن نقل أمثلة كثيرة من كلام هؤلاء الأئمة تدل على اشتراطهم اللقيّ-: "فإذا كان هذا قول هؤلاء الأئمة الأعلام - وهم أعلم أهل زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه، مع موافقة البخاري وغيره - فكيف يصح لمسلم - رحمه الله - دعوى الإجماع على خلاف قولهم، بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا، يقتضي حكاية إجماع الحُفَّاظِ الْمُعْتَدِّ بهم على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يُعْرَفُ عن أحد من نظرائهم، ولا عَمّن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم ... "2. وسبق ابنَ رجب إلى الاعتراض على مسلم في ذلك: ابنُ الصلاح رحمه الله؛ إذ قال: "وفيما قاله مسلم نظرٌ، وقد قيل: إن القول الذي رَدَّهُ مسلمٌ هو الذي عليه أئمة هذا العلم: عليّ بن المديني والبخاري وغيرهما"3.   1 شرح علل الترمذي: (ص272) . 2 شرح علل الترمذي: (ص278) . 3 مقدمة ابن الصلاح: (ص 31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وقد نقل الإجماع على مذهب البخاري حافظا المشرق والمغرب: الخطيب1 وابن عبد البر2. وبَيَّنَ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في عِدَّة مناسبات رُجحانَ مذهب البخاري، فقال: "وهو المختار، تبعاً لعلي بن المديني، والبخاري، وغيرهما من النقاد"3. وقال في مكان آخر - بعد أن بَيّن الباعث للبخاري على اشتراط ذلك -: "فتبيّن رجحان مذهبه"4. ونقل عنه السيوطي - رحمه الله - قوله: "من حَكَمَ بالانقطاع مطلقاً: شَدَّدَ، ويليه من شَرَطَ طول الصحبة، ومن اكتفى بالمعاصرة: سَهَّل، والوسطُ - الذي ليس بعده إلا التعنت -: مذهب البخاري ومن وافقه ... "5. فَتَبَيّنَ من ذلك: أن ما ذهبَ إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من الحكم بالاتصال بمجرد المعاصرة: مرجوحٌ، وأنَّ الراجح هو اختيار البخاري ومن وافقه: من اشتراط ثبوت اللقاء؛ إذ إن ذلك مقتضى الاحتياط، والله تعالى أعلم.   1 انظر: فتح المغيث: (1/160) . 2 التمهيد: (1/12 - 13) . 3 نزهة النظر: (ص 64) . 4 النكت على ابن الصلاح: (2/596) . 5 تدريب الراوي: (1/216) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 المبحث الثامن: التدليس وحكم المدلس وينقسم إلى قسمين: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ. أولاً: تدليس الإسناد: وهو "أن يروي المحدث عمّن قد سمع منه ما لم يسمعه منه، من غير أن يذكر أنه سمعه منه". قاله ابن القطان1. وعَرَّفَهُ ابن حجر بقوله: "أن يروي عمن لقيه شيئاً لم يسمعه منه بصيغة مُحْتَمِلة، ويلتحق به: من رآه ولم يجالسه"2. وهذا النوع هو الذي غلبت تسميته بـ "تدليس الإسناد" وسماه بعضهم: "تدليس السماع"3. ويلحق بهذا النوع ما يسمى بـ "تدليس التسوية"، وصورته - كما قال الحافظ العراقي -: "أن يجيء المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة، وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة، فيعمد الْمُدَلِّس - الذي سمع الحديث من الثقة الأول - فَيُسْقِطُ منه شيخ شيخه الضعيف، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها، فيصير الإسناد كله ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه، لأنه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل"4.   1 انظر (نكت ابن حجر على ابن الصلاح) : (2/614) . 2 طبقات المدلسين: (ص25) . 3 انظر: جامع التحصيل: (ص 110) . 4 التقييد والإيضاح: (ص96) ، وانظر: إتحاف النبيل: (2/31- 42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ولتدليس الإسناد صور أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر1. ثانياً: تدليس الشيوخ: وهو: "أن يصف شيخه بما لم يشتهر به من اسم أو لقب أو كنية أو نسبة"2. قال الحافظ العلائي: " ... فهو يختلف باختلاف الأغراض: فمنهم من يُدَلِّس شيخه لكونه ضعيفاً أو متروكاً حتى لا يُعْرَف ضعفه إذا صَرَّح باسمه. ومنهم من يفعلُ ذلك لكونه كثير الرواية عنه كي لا يتكرر ذكره كثيراً ... "3. قال ابن حجر فيمن يفعل ذلك لإخفاء ضعف شيخه: "وهو خيانةٌ ممن تعمّده"4. ومن المسائل التي تعرض لها ابن القَيِّم - رحمه الله - فيما يتعلق بالتدليس: المسألة الأولى: في حكم حديث المُدَلِّس. اختلف أهل العلم في قبول خبر من عُرف بالتدليس - وبخاصة ما يتعلق بتدليس الإسناد - على أقوال:   1 انظر: طبقات المدلسين: (ص25) . 2 طبقات المدلسين: (ص 26) 3 جامع التحصيل: (ص118- 119) . 4 طبقات المدلسين: (ص26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 أحدها: أن خبره مردود مطلقاً غير مقبول. عزاه الخطيبُ لفريق من الفقهاء وأصحاب الحديث1. الثاني: القبول مطلقاً. عزاه الخطيب - أيضاً- إلى خلقِِ كثير من أهل العلم. وذلك أنهم لم يروا التدليس من باب الكذب، ولا أنه ينقض عدالته2. الثالث: التفصيل: فمن كان لا يُدَلِّس إلا عن ثقة قُبِلَ تدليسه، وإلا فلا. عزاه ابن عبد البر لأكثر أئمة الحديث3. الرابع: يُقبل ممن كان وقوعه منه نادراً، وأما من غَلَبَ ذلك على حديثه: فلا4. الخامس: التفصيل أيضاً، فيُقبَل من المُدَلِّس الثقة إذا صرَّح فيه بالسماع، وأما ما رواه بلفظ محتمل فلا، وهذا هو المعتمد. قال السخاوي: "وممن ذهب إلى هذا التفصيل: الشافعي، وابن معين، وابن المديني"5. وقَرَّرَ العلائي: أنه "الصحيح الذي عليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول"6. وصححه الحافظ الخطيب7، وكذا   1 الكفاية: (ص515) . 2 الكفاية: (ص515) . 3 التمهيد: (1/17) . 4 فتح المغيث: (1/181- 182) . 5 فتح المغيث: (1/182) . 6 جامع التحصيل: (ص111) . 7 الكفاية: (ص515) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 صححه ابن الصلاح1. ونفى ابن القطان الخلاف في ذلك، فقال: "إذا صَرَّحَ المُدَلِّس الثقة بالسماع: قُبِلَ بلا خلاف، وإن عنعن: ففيه الخلاف"2. وقد كان ابن القَيِّم يذهب إلى هذا التفصيل في حقِّ المدلسين، وجاءت عباراته صريحة في هذا المعنى في أكثر من مناسبة، فمن ذلك: قوله في حق محمد بن إسحاق: "إن ابن إسحاق ثقة لم يُجْرَح بما يوجب ترك الاحتجاج به ... إنما يُخَاف من تدليسه، وهنا قد صرح بسماعه للحديث من محمد بن إبراهيم التيمي، فزالت تهمة تدليسه"3. قال ذلك في حديث أبي مسعود في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة. وقال في حديث ابن إسحاق - أيضاً-:حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة طلاق ركانة بن عبد يزيد: "وقد زالت تهمة تدليس ابن إسحاق بقوله: حدثني"4. وقال عنه مرة:"والذي يُخاف من ابن إسحاق: التدليس، وقد قال: حدثني"5.   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص35) . 2 فتح المغيث: (1/182) . 3 جلاء الأفهام: (ص6) . 4 إغاثة اللهفان: (1/287) . 5 إعلام الموقعين: (4/350) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وقال - رحمه الله - في حديث عَنْعَنَ فيه بقية بن الوليد - وهو حديث ذمِّ القدرية وأنهم مجوس هذه الأمة -: "لو قال بقيةُ: حدثنا الأوزاعي. مشى حال الحديث، ولكن عَنْعَنَهُ مع كثرة تدليسه"1. وقال عنه مرة: "وإنما نُقِمَ عليه التدليس، مع كثرة روايته عن الضعفاء والمجهولين، وأما إذا صرح بالسماع: فهو حجة"2. ومع تقرير ابن القَيِّم - رحمه الله - لمذهب الجمهور، وعمله بمقتضاه في عدة مناسبات - كما سبق نقل أمثلة لذلك - فإنه يذهب إلى استثناء بعض المدلسين من هذه القاعدة، فيرى: أن من كان لا يدلس إلا عن ثقة، فإنه تقبل عنعنته، ولا يطالب بإظهار السماع والتحديث. وقد مضى معنا أن هذا أحد المذاهب في المسألة، وأن ابن عبد البر حكاه عن أكثر أئمة الحديث، وجزم به الذهبي رحمه الله3. فكأن ابن القَيِّم - رحمه الله - جمع بين هذين المذهبين في العمل، فيرى: أن حديث المدلس لا يقبل منه إلا ما صَرَّحَ فيه بالسماع، إلا فيمن كان لا يُدَلِّس عن الضعفاء، وكان لا يُدَلِّسُ إلا عن ثقة. ومما قاله في هذا الصدد: "وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس، فليس معروفاً بالتدليس عن الضعفاء، بل تدليسه من جنس تدليس السلف، لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح، وإنما كثر هذا النوع من التدليس في المتأخرين"4.   1 تهذيب السنن: (7/60) . 2 تهذيب السنن: (1/129) . 3 الموقظة: (ص 45) . 4 زاد المعاد: (5/457) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 ويؤكد - رحمه الله - هذا المعنى في حق أبي الزبير، فيقول في مناسبة أخرى: "وأكثرُ أهلِ الحديث يَحْتَجُّونَ به إذا قال: عن، ولم يُصَرِّح بالسماع، ومسلم يُصَحِّح ذلك من حديثه ... "1. ولكن، لعل ابن القَيِّم - رحمه الله - أراد بعبارته الأولى أن ينفي عن أبي الزبير تدليس اسم شيخه الضعيف تغطية لحاله، وهو ما يعرف: "بتدليس الشيوخ" كما مرّ، فإن مناسبة كلام ابن القَيِّم هذا: أن أبا الزبير قال في إسناد الحديث الذي ذكره ابن القَيِّم: "عن رجل صالح من أهل المدينة". فقال ابن القَيِّم ما قال دفعاً لتوهم قيام أبي الزبير بذلك في حق شيخه المذكور. وأما قوله - رحمه الله - عن السلف: "لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح": فلعله يشير بالسلف هنا إلى التابعين خاصة، وأبو الزبير منهم، فهل يسلم له أن التابعين لم يقع منهم التدليس عن الضعفاء؟؟ فقد ذهب إلى ذلك أيضاً: الحاكم رحمه الله، فرأى أن التابعين بأسرهم لم يكونوا يدلسون إلا عن ثقة، نقل ذلك عنه العلائي2، ثم اعترضه بقوله: "وهذا لا يتم إلا بعد ثبوت أن من دَلَّسَ من التابعين لم يكن   1 زاد المعاد: (5/226) . 2 جامع التحصيل: (ص115- 116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وعلى هذا، فإنَّ إطلاق ابن القَيِّم القول بذلك في حق التابعين غير مُسَلّم، ويَرِدُ عليه ما أورده العلائي على أبي عبد الله الحاكم. فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب إلى أن خبر المدلس لا يحتج به إلا إذا صرح بالسماع، وقد يُستثنى من ذلك عنده: من عُرِفَ بأنه لا يدلس إلا عن ثقة. المسألة الثانية: حكم ما وجد في "الصحيحين" من عنعنة المدلسين. تَعَرَّضَ ابن القَيِّم - رحمه الله - لهذه المسألة، فقال في حديث أطيط العرش، وما أُعِلَّ به من عنعنة ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة: " ... فإنه قد لقي يعقوب وسمع منه، وفي الصحيح قطعة من الاحتجاج بعنعنة المدلس: كأبي الزبير عن جابر، وسفيان عن عمرو بن دينار، ونظائر كثيرة لذلك"2. فظاهرُ كلام ابن القَيِّم: الحكم بالاتصال لعنعنة الْمُدَلِّس إذا كان لقي من عنعن عنه، وسمع منه. ويستدل لذلك بما وجد في "الصحيحين" من الاحتجاج بعنعنة المدلسين. أما الحكم على عنعنة الشخص بالاتصال لكونه لقي من   1 جامع التحصيل: (ص 116) . 2 تهذيب السنن: (7/98) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 عنعن عنه وسمع منه: فهذا في غير المدلسين باتفاق العلماء، وقد مضى معنا البحث في ذلك. وأما المدلس إذا عنعن: فالصحيح - كما مضى قبل قليل - أنه لا يحتج به إلا إذا صرح بالتحديث، بل إن ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب إلى ذلك، كما سبق نقله عنه. أما أن يكون ثبوت اللقاء سبباً للحكم بالاتصال فيما عنعنه المدلس: فلا. وأما ما وجد في "الصحيحين" من عنعنة المدلسين، وإخراجهما ذلك على سبيل الاحتجاج، واستناد ابن القَيِّم - رحمه الله - على ذلك في الحكم لما وُجِدَ في غيرهما بالاتصال: فقد قال غير واحد من أهل العلم بأن ذلك محمول على ثبوت السماع عندهما في هذا المعنعن من جهة أخرى، "ولو لم نقف نحن على ذلك: لا في المستخرجات - التي هي مظنة لكثير منه - ولا في غيرها" كما قال السخاوي1. وممن صَرَّح بذلك من الأئمة: ابن الصلاح2، وتبعه النووي - رحمه الله - فقال: "وما كان في الصحيحين وشبههما3 عن المدلسين بـ "عن": محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى"4. ووافقهما الحافظ ابن حجر رحمه الله، لكنه أشار إلى تقييد ذلك بما كان عندهما على   1 فتح المغيث: (1/183) . 2 كما في (النكت) لابن حجر: (2/635) . 3 يعني: من الكتب التي اشترط أصحابها الصحة. 4 التقريب: (ص9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 سبيل الاحتجاج، أما ما أخرجاه من عنعنة المدلسين في المتابعات، فقد يحصل في مثله نوع من التساهل1. وأما ما مَثَّل به ابن القَيِّم رحمه الله: فأما أبو الزبير عن جابر: فلابد من تقييد ذلك"بصحيح مسلم"؛ لأن البخاري لم يخرج له إلا متابعة. ثم إن الأئمة قد احتملوا عنعنة أبي الزبير عن جابر إذا كانت من رواية الليث بن سعد عنه؛لأنه أعلم له على الأحاديث التي سمعها من جابر2. وأما ما كان في "صحيح مسلم" من ذلك، وليس من رواية الليث عنه: فقد قال الحافظ العلائي رحمه الله: "كأن مسلماً- رحمه الله - اطلع على أنها مما رواه الليث عنه، وإن لم يروها من طريقه"3. وأما سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار: فإن ابن عيينة لم يكن يدلس إلا عن ثقة، وقال ابن حبان: "وهذا شيء ليس في الدنيا إلا لسفيان ابن عيينة"4. وعلى كل حال، فلابد من حمل ما وقع في "الصحيحين"من ذلك على ما تقدم من كلام الأئمة، تحسيناً للظن بكتابيهما، ولإجماع الأمة على صحة ما وقع فيهما.   1 النكت على ابن الصلاح: (2/635- 636) . 2 انظر (الميزان) : (4/37) . 3 جامع التحصيل: (ص 126) . 4 جامع التحصيل: (ص 116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 فهذا ما يجاب به عن تخريج أصحاب "الصحيحين" لعنعنة المدلس في مقام الاحتجاج، وأما إجراء هذا الحكم على ما وقع من ذلك خارج كتابيهما - كما هو ظاهر كلام ابن القَيِّم رحمه الله - قياساً عليهما: فغير مسلّم؛ لما تقدم من أن "للصحيحين" في ذلك خصيصة ليست لغيرهما، لتقدم كتابيهما على غيرهما، ولتلقي الأمة لهما بالقبول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 المبحث التاسع: الشَّاذ تعريفه: اخْتُلِفَ في تعريف الحديث الشاذ على أقوال، أرجحها: أنه: مخالفة الثقة لمن هو أرجح منه. قال الحافظ ابن حجر: "وهذا هو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح"1. وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله، وجماعة من أهل الحجاز2. وعلى هذا المذهب: لابد أن يتوافر للحكم بالشذوذ شرطان: الأول: أن يكون الْمُتَفَرِّد ثقة. الثاني: أن يكون هذا المتفرد مخالفاً لمن هو أرجح منه: لمزيد ضبط، أو كثرة عدد، أو غير ذلك من المرجحات. وقد حَدَّ الخليلي الشاذ: بمطلق التفرد، ولم يقيده بالمخالفة، ولا بكون المتفرد ثقة3. وذهب الحاكم إلى تقييد الشاذ: بتفرد الثقة، ولكنه لم يشترط فيه المخالفة4. والراجح هو التعريف المتقدم أولاً، كما مضى في كلام ابن حجر، ورجحه أيضاً ابن كثير5.   1 انظر: (نخبة الفكر مع نزهة النظر) : (ص35) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص36) ، ونكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/653) . 3 مقدمة ابن الصلاح: (ص36) . 4 معرفة علوم الحديث: (ص119) . 5 اختصار علوم الحديث: (ص58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وقد حَرَّرَ ابن الصلاح أن الشاذ المردود على قسمين: أحدهما: الحديث الفرد الذي خالف راويه من هو أولى منه في الحفظ والضبط. الثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يكون جابراً لما يوجبه التفرد من النكارة والضعف1. وهذا الذي حرره ابن الصلاح في حد الشاذ وصفته قال به ابن القَيِّم رحمه الله؛ فإنه قال - عند كلامه على صفة الراوي المقبول وشروط قبول خبره -: "أن لا يشذ عن الناس: فيروي ما يخالفه فيه من هو أوثق منه وأكبر، أو يروي ما لا يتابع عليه، وليس ممن يُحتمل ذلك منه: كالزهري، وعمرو بن دينار، وسعيد بن المسيب، ومالك، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة ونحوهم؛ فإن الناس إنما احتملوا تفرد أمثال هؤلاء الأئمة بما لا يتابعون عليه للمحل الذي أحلهم الله به من الإمامة والإتقان والضبط. فأما مثل: سفيان بن حسين، وسعيد بن بشير، وجعفر بن برقان، وصالح بن أبي الأخضر ونحوهم: فإذا انفرد أحدهم بما لا يتابع عليه فإن أئمة الحديث لا يرفعون به رأساً. وأما إذا روى أحدهم ما يخالف الثقات فيه، فإنه يزداد وهناً على وهن"2.   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص37) . 2 الفروسية: (ص 53 - 54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وهذا الكلام من ابن القَيِّم - رحمه الله - يُحَدِّدُ بوضوحٍ صفة الحديث الشاذ بقسميه المتقدم بيانهما عند ابن الصلاح، فقد بيّن - رحمه الله - أن الشاذ هو: 1- أن يروي الثقة ما يخالفه فيه من هو أوثق وأكبر. 2- أو: ينفرد بما لا يتابع عليه، وليس هو ممن يحتمل تفرده، وذلك لقلة ضبطه، وعدم تمام حفظه. وهذا بخلاف تفرد الثقة الضابط، فإنه مقبول محتج به. ويؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى ويزيده وضوحاً، فيذكر أن التفرد أنواع، وأنه ليس كل تفرد يكون الحديث بموجبه شاذاً، فيقول رحمه الله: "التفرد نوعان: 1- تفرد لم يُخَالَف فيه من تفرد به؛ كتفرد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين1، وأشباه ذلك. 2- وتفردٌ خُولِفَ فيه المتفرد، كتفرد همام بهذا المتن2 على هذا الإسناد؛ فإن الناس خالفوه فيه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِق. فهذا هو المعروف عن ابن جريج عن الزهري، فلولم يرو هذا عن ابن جريج، وتفرد همام بحديثه، لكان نظير حديث عبد الله بن دينار ونحوه.   1 يشير إلى تفرد مالك بحديث: " دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر". وتفرد عبد الله بن دينار بحديث: "النهي عن بيع الولاء وهبته". 2 وهو حديث: "وضع النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه إذا دخل الخلاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله"1. ففي هذا الكلام منه - رحمه الله - بيان للفرق بين تَفَرُّدِ الثقة بما لم يروه غيره - مع كونه ممن يحتمل تفرده -: فهذا مقبول، وبين تفرد الثقة بما يخالفه فيه الثقات: فهذا الذي يكون شاذاً مردوداً، وهذا الفرق سبق بيانه واضحاً في كلام ابن الصلاح وغيره. ويؤكد هذا المعنى في مناسبة أخرى، فيقول رحمه الله: "والتَّفَرُّدُ الذي يُعَلَّلُ به: هو تفرد الرجل عن الناس بوصل ما أرسلوه، أو رفع ما وقفوه، أو زيادة لفظة لم يذكروها. وأما الثقة العدل: إذا روى حديثاً وتفرد به، لم يكن تفرده علة، فكم قد تفرد الثقات بسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم عملت بها الأمة"2. ويشير مرة إلى أن تفرد الثقة - إذا لم يخالف - لا يضر، فيقول في حديث السعاية، وما قيل من تفرد ابن أبي عروبة به: "ثم لو قدر تفرد سعيد به لم يضره"3. فتخلص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد حرر بكلامه هذا: معنى الشاذ، وصورته الصحيحة، وبيّن الفرق بين التفرد الذي يعد شذوذاً وما لا يكون كذلك.   1 تهذيب السنن: (1/29- 30) . 2 تهذيب السنن: (3/224) . 3 تهذيب السنن: (5/399) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 ومع ذلك، فكأنه - رحمه الله - أراد التنزل مع من يسمي تفرد الثقة غير المخالف "شاذاً"، فذهب إلى القول: بأن ذلك وإن سمي شاذاً، فإنه ليس بمردود بل هو محتج به. وقد سبق أن هذا المعنى وقع في تعريف الحاكم - رحمه الله - للشاذ، فهو عنده: تفرد الثقة دون متابع. قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فأما إذا روى الثقة حديثاً منفرداً به، لم يرو الثقات خلافه: فإن ذلك لا يُسمى شاذاً، وإن اصطلح على تسميته شاذاً بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح مُوجباً لرده، ولا مُسوِّغاً له".1 وقال مرة في حديث صيام ست شوال: "فإن قيل: مداره على عمر بن ثابت الأنصاري، لم يروه عن أبي أيوب غيره، فهو شاذ، فلا يحتجُّ به. قيل: ليس هذا من الشاذ الذي لا يحتج به، وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه المثابة، كحديث الأعمال بالنيات"2. وذلك محمول - كما تَقَدَّمَ - على التنزل منه - رحمه الله - مع المخالفين، وإلا فقد سبق تأكيده على أن هذا ليس شاذاً، ونقلنا كلامه في ذلك، والله أعلم.   1 إغاثة اللهفان: (1/296) . 2 تهذيب السنن: (3/313) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 المبحث العاشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد الاعتبار: "هو الهيئة الحاصلة في الكشف عن المتابعة والشاهد". قاله الحافظ ابن حجر1. ذلك أن الأئمة يأتون إلى الحديث الذي يُظن كونه فرداً، فينظرون: هل وافق راويه أحد غيره على روايته أم لا؟ وذلك بالبحث والتفتيش في: الصِّحَاح، والجوامع، والمسانيد، والمعاجم، والفوائد، والمشيخات وغيرها. فهذا النظر والتفتيش يسمى "اعتباراً". فإن وُجِدَ أحد شارك هذا الراوي فرواه عن شيخه، أولم يوجد ولكن وُجد من رواه عن شيخ شيخه، وهكذا حتى الصحابي، فعند ذلك يُسمى حديث هذا المُشارك: "متابعة". وكلما بَعدت المشاركة عن ذلك الراوي الذي اعتبرت روايته، كلما كانت المتابعة أنقص وأقصر. فإن فُقِدَت المتابعة بهذا المعنى، ولكن وُجِدَت رواية هذا الحديث أو معناه عن صحابي آخر، فهو: "الشاهد". فعُلِمَ بذلك أن الاعتبار: هو عملية البحث والتفتيش عن متابع أو شاهد للحديث الذي يُظن أنه فردٌ، فإن فُقِدَتْ المتابعاتُ والشواهدُ فالحديث بذلك يكون فرداً2.   1 النكت على ابن الصلاح: (2/681) . 2 انظر: التقييد والإيضاح: (ص109- 111) ، وتدريب الراوي: (1/241- 245) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب: المسألة الأولى: هل يتقوَّى الحديث الضعيف بتعدد طرقه؟ جمهور أئمة الحديث على أن الحديث الضعيف يَتَقَوَّى بمجيئه من طرق أخرى، قال الإمام الزركشى: "وَشَذَّ ابنُ حزم عن الجمهور، فقال: ولو بلغت طرق الضعيف ألفاً لايقوى ... "1. وقال ابن دقيق العيد: "قد عُلِمَ أن تَضَافَرُ الرواةِ على شيء، ومتابعة بعضهم لبعض في حديث: مِمَّا يَشُدُّهُ ويقويه، وربما التحق بالحسن وما يحتجُّ به"2. ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - موافقاً للجمهور في القول بتقوية الضعيف بتعدد طرقه. ومن أقواله - رحمه الله - في ذلك: أنه قال في أحاديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء فيها من أمرهصلى الله عليه وسلم بما يفيد الوجوب، قال: "الدليل الرابع - يعني من أدلة الوجوب -:ثلاثة أحاديث كل منها لا تقوم به الحجة عند انفراده، وقد يقوي بعضها بعضاً عند الاجتماع"3.   1 البحر الذي زخر: (3/1075) . 2 المصدر السابق: (3/1080) . 3 جلاء الأفهام: (ص199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وقال - رحمه الله - عند كلامه على مقدار زكاة الفطر: "وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار مرسلة ومسندة يقوي بعضها بعضاً"1. وقال في حديث اعتداد أم سلمة رضي الله عنه وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها في الصَّبِر: "لا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار" قال: "وَذَكَرَ أبو عمر في "التمهيد" له طرقاً يشدُّ بعضها بعضاً"2. فهذه بعض الأقوال لابن القَيِّم فيما يتعلق بتقوية الضعيف واعتضاده بتعدد الطرق. المسألة الثانية: كتابة الحديث الضعيف للاعتبار به، دون اعتماد عليه. كثير من الأئمة يكتبون الحديث الضعيف ويخرجونه في كتبهم في باب المتابعات والشواهد، دون أن يكون الاعتماد عليه. قال الإمام أحمد رحمه الله: "ابن لهيعة ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد"3. وقال النووي رحمه الله: "وإنما يفعلون هذا - يعني إدخال الضعفاء في المتابعات والشواهد - لكون التابع لا اعتماد عليه، وإنما   1 زاد المعاد: (2/19) . 2 زاد المعاد: (5/703) . 3 شرح علل الترمذي: (ص112) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الاعتماد على من قبْله"1. قال السخاوي - عقب نقله كلام النووي هذا -: "ولا انحصار له في هذا، بل قد يكون كل من المُتابِعِ والمتابَع لا اعتماد عليه، فباجتماعهما تحصل القوة"2. فالحاصل: أن الأئمة - رحمهم الله - يكتبون حديث الضعيف - ضعفاً قريباً- متابعةً واستشهاداً، ويكون اعتمادهم على الرواية الأصلية إن كانت مما يصلح لذلك، أو يكون الاعتماد على مجموع الروايتين معاً إذا كان كل منهما لا ينتهض للحجة بانفراده. وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى جواز كتابة الحديث الضعيف وذكره في المتابعات والشواهد، دون أن يكون الاعتماد عليه وحده، فمن ذلك: ما جاء عنه في حديث بلال بن الحارث، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: "إنه من أحيا سنةً من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل من عمل بها ... ". وقد رُوِيَ من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، وضَعَّفَهُ بعضهم، فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "لكن هذا الأصل ثابت من وجوه: كحديث: " من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه" ...   1 شرح صحيح مسلم: (1/34) . 2 فتح المغيث: (1/205) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وحديث: " من دل على خير، فله مثل أجر فاعله" وهو حديث حسن". قال: "فهذا الأصل محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث الضعيف فيه بمنزلة الشواهد والمتابعات، فلا يَضُرُّ ذكره"1. وقال أيضاً - عند ذكره أحاديث الفطر بالحجامة -: "إن الأئمة العارفين بهذا الشأن قد تظاهرت أقوالهم بتصحيح بعضها ... والباقي إما حسن يصلح للاحتجاج به وحده، وإما ضعيف فهو يصلح للشواهد والمتابعات، وليس العمدة عليه"2. فظهر بذلك: موافقةُ ابن القَيِّم - رحمه الله - لأئمة هذا الشأن في جواز ذكر الضعيف في المتابعات والشواهد، دون الاعتماد عليه.   1 مفتاح دار السعادة: (1/76) . 2 تهذيب السنن: (3/247 - 248) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 المبحث الحادي عشر: الموضوع الخبر الموضوع: هو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المُختلق، المصنوع1. أي: أن واضعه اختلقه وصنعه2. والموضوع شرُّ أنواعِ الضعيف، كما قال الخطَّابي3، وتبعه ابن الصلاح4رحمهما الله تعالى. ولقد كان لابن القَيِّم - رحمه الله - اهتمام خاص بما يتعلق بالحديث الموضوع، والكشف عنه، وبيان خطره، والتحذير منه، ويتضح ذلك جليًّا في كتابه النافع (المنار المنيف) ، إذ ضمَّنه جملة من الضوابط التي يعرف بها كون الحديث موضوعاً، مع التنبيه على الكثير من الأحاديث الموضوعة، وبيان حالها، وذكر المتَّهم بها، وقد مضى بيان ذلك واضحاً5. ومن المسائل المتعلقة بالحديث الموضوع مما تناوله ابن القَيِّم رحمه الله: المسألة الأولى: حكم رواية الحديث الموضوع أو الاستشهاد به. لا يجوز - عند أهل العلم بالحديث وغيرهم - ذكر الحديث الموضوع - برواية وغيرها - لمن عَلِمَ حاله، إلا مقروناً ببيان أمره6.   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص47) ، وفتح المغيث: (1/248) . 2 شرح ألفية العراقي: (1/261) . 3 معالم السنن: (1/11) . 4 مقدمة ابن الصلاح: (ص47) . (ص 300 - 309) . وانظر ما يأتي في (ص 460 - 469) . 6 فتح المغيث: (1/249- 250) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "يجب على المحدث أن لا يروي شيئاً من الأخبار المصنوعة، والأحاديث الباطلة الموضوعة، فمن فعل ذلك بَاء بالإثم المُبين، ودخل في جملة الكذّابين"1. وأما من رواه مبيناً حاله، وذكره منبِّهاً على وضعه: فإن ذلك جائز، قال الخطيب رحمه الله: "ومن روى حديثاً موضوعاً على سبيل البيان لحال واضعه، والاستشهاد على عظيم ما جاء به، والتعجب منه، والتنفير عنه: ساغ له ذلك، وكان بمثابة إظهار جرح الشاهد في الحاجة إلى كشفه والإبانة عنه"2. وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة المهمة، فأكد عدم جواز ذكر الحديث الموضوع إلا مع بيان حاله. فقال عن حديث عوج بن عنق الطويل: "وليس العجب من جُرْأَةِ مثل هذا الكَذَّاب على الله، إنما العجبُ ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم: من التفسير وغيره، ولا يبيِّن أمره"3. وقد أَوْرَدَ مرة حديثين موضوعين باطلين في فضل "الأرز" ومدحه، ثم قال: "ذكرناهما تنبيهاً وتحذيراً من نسبتهما إليه صلى الله عليه وسلم"4.   1 فتح المغيث: (1/250) . 2 فتح المغيث: (1/250- 251) . 3 المنار المنيف: (ص77) . 4 زاد المعاد: (4/285) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 فَنَبَّهَ بذلك على ما يلزم العالم من واجب البيان للحديث الموضوع والتحذير منه. المسألة الثانية: بيان عظم جناية الوضاعين على الإسلام. لا شك أن خطر الوضاعين على شريعة الإسلام عظيم، وهل هناك جناية أعظم من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على عظم جناية هؤلاء الوضاعين، وكبير جرمهم، فقد أورد - رحمه الله - حديث تكليم حمار النبي - صلى الله عليه وسلم - يعفور له، وبيّن أنه باطل موضوع، ثم ذكر أن مثل هذه الأحاديث قد فتحت باباً عظيماً للزنادقة للطعن في الدين، فقال: "هذه الأحاديث وأمثالها هي التي جرأت الزنادقة والملاحدة على الطعن في الإسلام، والقدح في الدين. فالجناية على الإسلام بالوضاعين والكذابين، تضاهي الجناية عليه من الزنادقة والطاعنين"1. المسألة الثالثة: بيان الشبهة التي يتعلق بها بعض الوضاعين، والرد عليها. والمقصود في هذا المقام خاصة: أولئك الذين حملهم التدين الناشيء عن الجهل على وضع الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم، يحتسبون بذلك بزعمهم، ويتقربون إلى الله بجهلهم.   1 الموضوعات: (ق 43/ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وقد اعتنى هؤلاء بوضع أحاديث في الفضائل، والترغيب والترهيب، وكان من الشُّبه التي تعلق بها بعضهم في ذلك قولهم: إن الكذب في الترغيب والترهيب كذب للنبي صلى الله عليه وسلم، لا كذب عليه!! قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وهذا من كمال جهلهم، وقلة عقلهم، وكثرة فجورهم وافترائهم؛ فإنه - عليه السلام - لا يحتاج - في كمال شريعته وفضلها- إلى غيره"1. وقد ألمح ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى شبهتهم هذه، ورد عليها - وذلك عندما أورد بعض الأحاديث التي وضعوها في فضائل سور القرآن- فقال: "وقال بعض جهلاء الوضاعين في هذا النوع: نحن نكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نكذب عليه. ولم يعلم هذا الجاهل: أنه من قال عليه ما لم يقل، فقد كذب عليه، واستحق الوعيد الشديد"2. المسألة الرابعة: بيان أنه من المحال وقوع الكذب والغلط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون كشفه. إن من تمام حفظ الله - عز وجل - لهذا الدين: أن هيأ جهابذةً نقاداً، وأئمة أفذاذاً، مَحَّصُوا هذه الأحاديث، وميزوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم من كلام غيره من الكذابين.   1 اختصار علوم الحديث: (ص 79) . 2 المنار المنيف: (ص114- 115) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 قيل لعبد الله بن المبارك رحمه الله: هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: "يعيش لها الجهابذة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] "1. وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذا المعنى، وأن الله - عز وجل - لابد وأن يُقِيمَ في هذه الأمة من ينافح عن دينه، ويذبُّ الكذب عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: " ... ونحن لا نَدَّعي عصمة الرواة، بل نقول: إن الراوي إذا كذب، أو غلط، أو سها، فلا بد أن يقوم دليل على ذلك، ولا بد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه، ليتم حفظه لحججه وأدلته، ولا تلتبس بما ليس منها"2. ثم بيّن - رحمه الله - أن لهذه الطائفة تأييداً خاصاً، وتوفيقاً من الله عز وجل، فقال: "والله - عز وجل - يؤيد من ينافحُ عن رسوله تأييداً خاصاً، ويفتحُ له - في معرفة نقد الحق من الباطل - فتحاً مبيناً، وذلك من تمام حفظه لدينه، وأنه لا يزال من عباده طائفة قائمة بنصرة الحق إلى أن يأتي أمر الله، جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه"3.   1 الجرح والتعديل: (1/1/18) . 2 مختصر الصواعق: (2/481) . 3 الموضوعات: (ق43/ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 المسألة الخامسة: في بيان الأغراض الحاملة للوضاعين على وضع الحديث. تختلف الأغراض الباعِثَةُ للوضَّاعين على وضع الحديث وتتنوع، ومن ثَمَّ فهم ينقسمون إلى فرق وطوائف عديدة، وذلك بحسب الغرض الحامل لكل طائفة منهم على الكذب. ومن الأسباب التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - مما كان باعثاً للوضاعين على وضع الحديث: 1- قوم حملهم على ذلك: الاستخفاف بالدين والطعن فيه، والتنقص للرسول صلى الله عليه وسلم والإضلال للناس، وهم الزنادقة: المبطنون للكفر المظهرون للإسلام، أو: الذين لا يتدينون بدين1. وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذه الطائفة - عند ذكره: أن الحديث الموضوع يشتمل على مجازفات لا يصدر مثلها عن النبي صلى الله عليه وسلم - فقال: "وأمثال هذه المجازفات الباردة لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين: إما أن يكون في غاية الجهل والحمق، وإما أن يكون زنديقاً قصد التنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم بإضافة مثل هذه الكلمات إليه"2.   1 فتح المغيث: (1/253) . 2 المنار المنيف: (ص 51) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 2- وصنف آخر، كان قصدهم من وضع الحديث: شغل الناس بالخير وصرفهم عن الشر بزعمهم، فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب، والفضائل: كفضائل سور القرآن سورة سورة، وغير ذلك. وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذه الطائفة وصنيعها، فذكر ما قاموا به من وضع أحاديث فضائل السور، ثم قال: "وقد اعترف بوضعها واضعها، وقال: قصدت أن أشغل الناس بالقرآن عن غيره. وقال بعض جهلاء الوضاعين في هذا النوع: نحن نكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نكذب عليه. ولم يعلم هذا الجاهل: أنه من قال عليه ما لم يقل، فقد كذب عليه واستحق الوعيد الشديد"1. وهذه الطائفة غالباً ما ينسبون إلى الزهد والصلاح، ولذا فهم أعظم هذه الطوائف خطراً؛ لثقة الناس بهم2. وقد أشار بعض الأئمة - رحمهم الله - إلى حال هؤلاء القوم وسوء صنيعهم وكذبهم في الحديث النبوي، من ذلك قول يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: "ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث"3. 3- وطائفة ثالثة من أصحاب الأهواء والبدع، وضعوا الحديث نصرةً لمذاهبهم، وتعصباً لِنِحَلِهم، وتأييداً لبدعهم: كالروافض، والخوارج، وغيرهم.   1 المنار المنيف: (ص114 - 115) . 2 انظر: ألفية الحديث وشرحها - للعراقي: (1/266) 3 الجامع للخطيب البغدادي: (2/199) . وانظر أيضاً: مقدمة صحيح مسلم مع شرح النووي: (1/94) ، والتمهيد: (1/52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأما ما وضعه الرافضة في فضائل علي: فأكثر من أن يعد". ثم نقل عن الخليلي قوله: إنهم وضعوا ثلثمائة ألف حديث، ثم قال: "ولا تستبعد هذا؛ فإنك لو تتبعت ما عندهم من ذلك لوجدت الأمر كما قال"1. ومن ذلك أيضاً: ما أشار إليه - رحمه الله - من وضع أهل البدع أحاديث في الاكتحال والتطيب يوم عاشوراء، وذكر أن ذلك كله كذب من وضع المبتدعة، تأييداً لبدعهم2. 4- وطائفة من هؤلاء كانوا من أصحاب المصالح الدنيوية، والأغراض الشخصية، فوضعوا أحاديث لتحقيق تلك المصالح، وتحصيل تلك الأغراض. قال ابن القَيِّم - رحمه الله - يصف بعض هذه الطوائف: "وكل حديث في الصخرة فهو كذب مفترى، والقدم الذي فيها كذب موضوع، مما عملته أيدي الْمُزَوِّرين، الذين يُرَوِّجُون لها ليكثر سواد الزائرين"3. ويشير بذلك إلى الأحاديث التي وُضعت في فضل الصخرة ببيت المقدس. وبعد، فهذه بعض الأغراض التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - مما حمل بعض الناس على وضع الحديث.   1 المنار المنيف: (ص116) . 2 المنار المنيف: (ص111- 113) . 3 المنار المنيف: (ص87) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 المسألة السادسة: العلامات التي يُعرف بها كون الحديث موضوعاً. تناول الأئمة رحمهم الله - عند كلامهم على الحديث الموضوع - بعض العلامات التي تدل على كون الحديث موضوعاً، وذلك مما يقع في متنه دون إسناده، بحيث ترشد هذه العلامات الناظرَ فيه إلى أنه ليس من كلام النبيصلى الله عليه وسلم. ولكن ليس ذلك بمقدور كل أحد، وإنما تميزت بذلك طائفة معينة من الأئمة، هيأهم الله لذلك، واختصهم بخصائص ليست لغيرهم، أولئك: هم جهابذةُ الحديث وأطباؤه، وصيارفته ونقاده. قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في بيان صفة هذه الطائفة، والأسباب التي أوصلتهم إلى هذه المرتبة: "وإنما يعلم ذلك - يعني كون الحديث موضوعاً -: من تَضَلَّع1 في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة، بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه"2.   1 تَضَلَّعَ الرجل: امتلأ ما بين أضلاعه شبعاً ورياً. (لسان العرب: ص2599، مادة: ضلع) .فمراد ابن القَيِّم هنا: من تَشَبَّعَ بمعرفة السنن حتى امتلأ من هذه المعرفة، وصار له فيها شأن. 2 المنار المنيف: (ص44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 ولقد أسهم ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الجانب إسهاماً فَعَّالاً، وشارك بجهد نافع؛ذلك أنه - رحمه الله - قد سئل عن إمكان معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير نظر في إسناده. فأجاب - بعد أن بين أهمية هذا السؤال وعظم قدره - بجملة من الضوابط والدلائل التي يعرف بها ذلك1فجاءت كلماته نافعة في بابها، مفيدة لمن طالعها ونظرها. فمن هذه الضوابط والعلامات التي ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله: 1- اشتمال الحديث على مجازفات باردة لا يمكن أن يقول مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والْمُجَازَفَة: هي إرسال الكلام إرسالاً من غير قانون. ويُقَالُ لمن كان هذا شأنه: جازف في كلامه2. فقصد ابن القَيِّم بذلك: أن يكون الحديث مشتملاً على كلام مبالغ فيه، وتهويلات لا ضابط لها. ويكثر هذا النوع من المجازفات الفارغة في أحاديث الترغيب والترهيب، وقد مثَّل ابن القَيِّم لذلك بأحاديث، منها: - حديث: " من صلى الضحى كذا وكذا ركعة، أعطي ثواب سبعين نبياً".   1 انظر: المنار المنيف: (ص50 - 102) . 2 المصباح المنير: (1/99) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 قال ابن القَيِّم: "وكأن هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي لو صَلَّى عُمْرَ نوحٍ - عليه السلام - لم يعط ثواب نبيٍّ واحد".1 - وحديث: " من صلى بعد المغرب ست ركعات، لم يتكلم بينهن بشيء عدلن له عبادة اثنتي عشرة سنة " 2. إلى غير ذلك من المبالغات الكثيرة التي نسجها الكذابون على هذا المنوال3. 2- أن يكون الحديث مما يكذبه الحس. كأن يكون الحديث مشتملاً على أمر يشهد الواقع المحسوس المشاهد بكذبه، ومن أمثلة ما وضع من هذا القبيل: - حديث: " الباذنجان شفاء من كل داء " 4. - وحديث: " الباذنجان لما أكل له " 5.   1 المنار المنيف: (ص50) ، وانظر (الموضوعات) لابن الجوزي (2/416- 417) ح992، فقد ذكر حديثاً طويلاً في ثواب من صلى الضحى يوم الجمعة، وفيه: "والذي بعثني بالحق إن له من الثواب كثواب إبراهيم، وموسى ويحيى وعيسى ... ". ثم حكم بوضعه. أما اللفظ الذي ذكره ابن القَيِّم رحمه الله: فلم أقف عليه. 2 المنار المنيف: (ص47) ، وأورده ابن طاهر في (معرفة التذكرة في الأحاديث الموضوعة) : (ص219ح824) . ورواه ابن حبان في (المجروحين) (2/83) في ترجمة عمر بن راشد اليمامي، قال: "كان ممن يروي الموضوعات عن ثقات أئمة … ". ثم قال: "وهو الذي روى عن يحيى بن أبي كثير ... " فساق هذا الحديث. 3 المنار المنيف: (ص44- 51) . 4 انظر: الفوائد المجموعة (ص167) ح36 من كتاب الأطعمة والأشربة، وتذكرة الموضوعات (ص148) . 5 انظر: تذكرة الموضوعات: (ص148) ، والمصنوع: (ص73ح75) ، وكشف الخفاء (ح874) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... ولو أكل الباذنجان للحمى والسوداء الغالبة، وكثير من الأمراض لم يزدها إلا شِدَّة، ولو أكله فقيرٌ ليستغني لم يفده الغنى، أو جاهلٌ ليتعلم لم يفده العلم"1. فهذه الأحاديث وأمثالها مما يكذبها الواقع، وتدل المشاهدة والحقائق المقررة على خلافها. 3- سماجة الحديث، وكونه مما يُسْخَرُ منه. والسَّمَاجُة: نقيض الملاحة، وسَمُجَ الشيء، فهو سَمْجٌ، وَسَمِجٌ: قَبُحَ2. ومن الأمثلة التي أوردها ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الأمر: - حديث: " لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً ... " 3. - حديث: " لا تسبوا الديك؛ فإنه صديقي ... " 4. 4- مخالفة الحديث لصريح القرآن. - كحديث مقدار الدنيا، " وأنها سبعة آلاف سنة، ونحن في الألف السابعة" 5.   1 المنار المنيف: (ص51) . 2 لسان العرب: (ص2087. مادة: سمج) ، والمصباح المنير: (1/287) . 3 المنار المنيف: (ص54) ، وانظر المصنوع (148ح252) ، وتذكرة الموضوعات (ص148) ، وتمييز الطيب من الخبيث (ص 135) . 4 المنار المنيف: (ص55) ، وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (3/133ح1347) ، وتنزيه الشريعة (2/249ح60) . 5 المنار المنيف: (ص80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 فهذا الحديث يناقض نصوص القرآن الكثيرة التي فيها أن الله عز وجل قد اختص بعلم الساعة، ولم يطلع على ذلك أحداً، كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ} [الأعراف: 187] . 5- مناقضة الحديث لما جاءت به السُّنة الصريحة مناقضةً بَيِّنة. قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فكل حديث يشتمل على فساد، أو ظلم، أو عبث، أو مدح باطل، أو ذم حق، أو نحو ذلك: فرسول الله صلى الله عليه وسلم منه بريء"1. ومن أمثلة ذلك مما ساقه ابن القَيِّم رحمه الله: الأحاديث الواردة في مدح من اسمه محمد أو أحمد، وأنه من تسمى بذلك لا يدخل النار2. قال ابن القَيِّم: "وهذا مناقض لما هو معلوم من دينه صلى الله عليه وسلم: أن النار   1 المنار المنيف: (ص57) . 2 من أمثلة ذلك: ما يروى عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: "يُوقف عبدان بين يدي الله عزوجل فيأمر بهما إلى الجنة، فيقولان: ربنا بما نستأهل الجنة ولم نعمل عملاً تجازينا؟! فيقول الله لهما: عبديّ ادخلا الجنة، فإني آليت على نفسي أن لا يدخل النار من اسمه أحمد أو محمد". أخرجه ابن الجوزي في (الموضوعات) : (1/240- 241ح326) . أخرجه ابن الجوزي، وأورده ابن عراق في (تنزيه الشريعة) : (1/173ح13) . وينظر جملة من الأحاديث الواردة في ذلك في موضوعات ابن الجوزي - المصدر السابق - الأحاديث رقم (320 - 328) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 لا يجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة"1. 6- أن يُدَّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم فَعَلَ أمراً ظاهراً بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه. فإن العادة قد جرت على أن مثل ذلك ينقله العدد الكثير، أما أن يطبق الجميع على كتمان ذلك وعدم نقله، أو ينفرد واحد من دون هذا الجمع بنقل ذلك: فإنه لا يكاد يقع. وقد مَثَّل ابن القَيِّم - رحمه الله - لذلك بما ادَّعته الرافضة: من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي رضي الله عنه بمحضر من الصحابة كلهم وهم راجعون من حجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع، ثم قال: " هذا وَصِيّ وأخي، والخليفة من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا ". ثم اتفقوا جميعاً على كتمان ذلك ومخالفته2. 7- أن يكون الحديث باطلاً في نفسه، فَيَدُلُّ بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة ذلك:   1 المنار المنيف: (ص57) . 2 المنار المنيف: (ص57) ، وأخرج حديث الوصية لعلي: الجورقاني في (الأباطيل) : (2/148) ح543 - 544. ثم قال في الأول منهما: "هذا حديث باطل، لا أصل له". وقال في الثاني: "هذا حديث باطل، وفي إسناده ظلمات" وأخرج ابن الجوزي في (موضوعاته) (2/147) عدة أحاديث في الوصية لعلي، برقم (702 - 709) . وحكم عليها كلها بالضعف والوضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 - حديث: "الحجامة على القفا تورث النسيان" 1. - وحديث: " إذا غضب الله أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزله بالعربية" 2. - وحديث: " الْمَجَرَّةُ التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش" 3. 8 - أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء، فضلاً عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو وحي. وقد ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - أمثلة كثيرة لذلك، أغلبها من الأحاديث الواردة في حسان الوجوه، وأن النظر إليهم يجلو البصر، أو أنه عبادة، أو أنهم لا يعذبون، وغير ذلك4. 9- أن يكون الحديث مشتملاً على ذكر تاريخ حوادث مستقبلة. نحو: "إذا كان سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت، وإذا كان شهر كذا وكذا وقع كيت وكيت". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأحاديث هذا   1 المنار المنيف: (ص59) .وانظر: كشف الخفاء (ح1106) ، وتمييز الطيب من الخبيث (ص68) ، والأسرار المرفوعة (ح168) . وعزوه جميعاً للديلمي من طريق عمر بن واصل، وابن واصل اتهمه الخطيب بالوضع. وهو عندهم بلفظ " الحجامة في نقرة الرأس ... ". ونقرة القفا: حفرة في آخر الدماغ. (كما في المعجم الوسيط: نقر) . 2 المنار المنيف: (ص59) . 3 النار المنيف: (ص59) . 4 المنار المنيف: (ص61 - 63) . وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (1/252) ح337، 338، باب: النظر إلى الوجه الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الباب كلها كذب مفترى"1. وهذا الحكم - لا شك - مبني على استقراءٍ لأحاديث الباب كلها، فإنه قد قرر أن هذه الأحاديث - مع اشتمالها على معان باطلة - لم يصح منها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. 10- أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطُّرُقِيَّة أشبه وأليق. ومن الأمثلة التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - لذلك: - حديث: "الهريسة تشد الظهر" 2. - وحديث: "أكل السمك يوهن الجسد" 3. - وحديث: "من أخذ لقمة من مجرى الغائط أو البول، فغسلها ثم أكلها غفر له" 4. 11- أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه. والظاهر أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قصد بذلك: مخالفة الحديث للشواهد الصحيحة من الكتاب والسنة.   1 المنار المنيف: (ص64) ، وانظر ص (110 - 111) . وينظر حول ذلك: الموضوعات لابن الجوزي (3/460 - 476) . 2 المنار المنيف: (ص64) . وانظر: الأسرار المرفوعة (ص418) . 3 المنار المنيف: (ص64) . وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (3/155) ح1368، واللآلئ (2/233) ، وتنزيه الشريعة (2/239) ح17. ولفظه عند هؤلاء الثلاثة: "يذهب الجسد". قال ابن الجوزي عقبه: "هذا حديث ليس بشيء لا في إسناده، ولا في معناه، ولعله "يذيب الجسد" فقد اختلط على الراوي وفسره على الغلط، والسمك لا يذيب الجسد، ولا يذهب الحسد"، ثم بين شدة ضعف إسناده، ثم قال: "وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُتحاشى عن مثل هذا". 4 المنار المنيف: (ص65) ح117. وانظر: الأسرار المرفوعة (ص420) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وقد مثَّل - رحمه الله - لذلك بحديث عُوج بن عُنُق، وما جاء من: أن طوله كان ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مائة وثلاثة ثلاثين وثلثاً، وأن نوحاً لما خَوَّفَهُ الغَرَقَ، قال له: احملني في قصعتك هذه ... إلى آخر ما جاء في الحديث. ثم بين ابن القَيِّم - رحمه الله - قيام شواهد عديدة من الكتاب والسنة على بطلانه1. 12- ركاكةُ ألفاظِ الحديثِ وسَمَاجَتُهَا، بحيث يَمُجُّهَا السَّمع، ويدفعها الطبع ويسمج معناها للفطن2. 13- ما يقترن بالحديث من القرائن التي يعلم بها أنه باطل. وقد مثل ابن القَيِّم لهذا الضابط بحديث: " وضع الجزية عن أهل خيبر". ثم بين أنه يشتمل على قرائن عديدة تدل على بطلانه3. فمن القرائن التي جاءت في هذا الخبر، وهي تدل على كذبه: - أن فيه "شهادة سعد بن معاذ"، وسعد توفي قبل ذلك في غزوة الخندق. - وفيه: "وكتب معاوية بن أبي سفيان". ومعاوية إنما أسلم زمن الفتح. إلى غير ذلك من القرائن الدالة على كذبه.   1 المنار المنيف: (ص76 - 77) . وانظر: الأسرار المرفوعة (ص425 - 427) ، وتعليق محقق الكتاب على هذا الحديث. 2 المنار المنيف: (ص90) . 3 المنار المنيف: (ص102 - 105) . وانظر: الأسرار المرفوعة (ص444) ، وتعليق المحقق على الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 14- أن يكون الحديث مما لم يوقف عليه في المصنفات الحديثية. قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في حديث عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس، وقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة": " ... فنحن نشهد بالله شهادة نُسأل عنها إذا لقيناه: أن هذا كذب على عمر رضي الله عنه، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فلو يكون هذا عند عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... لما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام"1. وقد ذهب الفخر الرازي - رحمه الله - إلى أن الخبر إذا روي في زمان استقرت فيه الأخبار، فَفُتِّشَ عنه فلم يوجد في بطون الكتب، ولا في صدور الرجال، عُلِمَ بطلانه، وذلك فيما بعد عصر الصحابة؛ فإنَّ الأخبار في عصرهم لم تكن استقرت2. ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه، بحيث يَتَسَنَّى لكل شخص الحكم ببطلان الحديث لمجرد أنه لم يقف عليه في كتب السنن، بل لابد من قيد وضابط لهذه المسألة، وقد ذكر الحافظ العلائي - رحمه الله - لذلك قيداً حسناً، فقال: "وهذا إنما يقوم به - يعني التفتيش عن الحديث - الحافظ الكبير، الذي قد أحاط حفظه بجميع الحديث أو بمعظمه؛ كالإمام أحمد، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ومن بعدهم: كالبخاري، وأبي   1 زاد المعاد: (5/539) . 2 نكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/847) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 حاتم، وأبي زرعة، ومن دونهم: كالنسائي ثم الدارقطنى؛ لأن المأخذ الذي يحكم به - غالباً - على الحديث بأنه موضوع: إنما هي الملكة النفسانية الناشئة عن جمع الطرق، والاطلاع على غالب المرويِّ في البلدان المتنائية، بحيث يعرف بذلك ما هو من حديث الرواة مما ليس من حديثهم. وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة، فكيف يَقْضِي بعدم وُجْدَانِهِ للحديث بأنه موضوع؟! هذا ما يأباه تصرفهم، فالله أعلم"1. فلابد من تقييد كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - بمثل ذلك. وبعد، فهذه هي الأمارات والضوابط التي وضعها ابن القَيِّم - رحمه الله - لمعرفة الحديث الموضوع بمجرد النظر في متنه، دون البحث في إسناده. ويحسنُ في هذا المقام التنبيه على أن بعض الأئمة قد ذكر بعضاً من هذه الضوابط2، إلا أن ابن القَيِّم قد انفرد بزيادات عنهم3، مع حُسْنِ عرضها وتنسيقها، وجمع أمثلة وشواهد عديدة تحت كل ضابط منها، بحيث تكون مرجعاً مهماً في هذا الباب.   1 نكت ابن حجر: (2/847) . 2 انظر الكفاية: (ص 50 - 51) ، ونكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/844- 847) ، وفتح المغيث: (1/264 - 265) . 3 انظر مثلاً العلامات والضوابط رقم: (1، 3، 5، 8، 9، 10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 المبجث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد ... المبحث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد اشتراط العدالة والضبط في الراوي: قال ابن الصلاح رحمه الله: "أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه: على أنه يُشْتَرط فيمن يحتجُّ بروايته أن يكون عدلاً، ضابطاً لما يرويه ... "1. فَبَيَّنَ - رحمه الله - بذلك: أن رُكْنَي القبول للراوي هما: العدالة، والضبط. وقد سَبَقَ ضمن مباحث الحديث الصحيح الكلام عن هذين الشرطين. وقد عَبَّرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ضرورة توافر هذين الشرطين فيمن تقبل روايته، فقال: " ... اشْتُرِطَ فيها - أي الرواية - ما يكون مُغَلِّباً على الظن صدقَ الْمُخْبر، وهو: العدالةُ المانعةُ من الكذب واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط"2. فالشطرُ الأولُ من كلامِهِ يشيرُ إلى شرطِ العدالة، والشطرُ الثاني يشير إلى شرطِ الضبطِ. ومن المسائل التي تتعلق بالكلام على صفة من تُقْبَل روايته ومن ترد:   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 50) 2 بدائع الفوائد: (1/5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 إنكار الأصل تحديث الفرع: إذا روى ثقة عن شيخ ثقة - أيضا ً- حديثاً، فأنكر الشيخ هذا الحديث ونفاه، فإن لذلك صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الشيخ جَازِمَاً بِرَدِّهِ، فيقول: "ما رويته"، أو: "كذب عليّ". فعند ذلك يتعارض الجزمان، والشيخُ هو الأصل، فيجبُ رَدّ حديثِ فَرْعِهِ تبعاً لذلك1. وإنِّمَا رُدَّ الخبر لكذبِ واحدٍ منهما لا بعينه، كما قال ابن حجر رحمه الله2. وفي هذه الحالة - حالة جزم الشيخ بالنفي - سَوَّى ابن الصلاح رحمه الله - وتبعه الحافظ ابن حجر3- بين تصريح الشيخ بكذب الراوي، وبين مجرد الإنكار. إلا أن السخاوي - رحمه الله - حكى خلافاً بين المحدثين في الصورة الثانية خاصة - وهي إنكار الشيخ الرواية دون تكذيب - وأن بعضهم قال بقبول الرواية في هذه الحالة4. الصورة الثانية: ألا يجزم الشيخ برد ذلك المروي، كأن يقول: "لا أذكره"، أو: "لا أعرفه" أو نحو ذلك من الألفاظ التي تقتضي نسيانه، فإن ذلك لا يوجب رد رواية الراوي، بل تقبل عند الجمهور من المحدثين، ومعظم الفقهاء5.   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 55) . 2 نزهة النظر: (ص61) . 3 نزهة النظر: (ص61) . 4 فتح المغيث: (1/340 - 341) . 5 مقدمة ابن الصلاح: (ص55) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وَحُكِيَ عن قوم من الحنفية القول بإسقاط المروي في هذه الحالة، وعدم قبوله. وَرَدَّ ذلك الحافظ ابن حجر بقوله: "وهذا مُتَعِقَّبٌ بأن عدالةَ الفرع تقتضي صدقه، وعدم علم الأصل لا ينافيه، فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافي"1. وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه القضية وبيّن رأيه فيها، فإنه لمّا تكلم على حديث: ربيعة، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه في القضاء باليمين مع الشاهد، وأن سُهَيلاً لما عرض عليه قال: "لا أحفظه"، ثم إنه - يعني سُهيلاً- رواه عن ربيعة - راويه عنه - فقال: "أخبرني ربيعة - وهو عندي ثقة - أني حدثته إياه"، وقد طعن قوم في الحديث بسبب ذلك، فأجاب ابن القَيِّم عن ذلك - مصححاً الحديث - بقوله: " ... إنَّ هذا يدل على صدق الحديث؛ فإن سُهيلاً صَدَّقَ ربيعة، وكان يرويه عنه عن نفسه، ولكنه نسيه، وليس نسيان الراوي حجة على من حفظ. الثالث: أن ربيعة من أوثق الناس، وقد أخبر أنه سمعه من سهيل، فلا وجه لرد حديثه ولو أنكره سهيل، فكيف ولم ينكره، وإنما نسيه للعلة التي أصابته؟ وقد سمعه منه ربيعة قبل أن تصيبه تلك العلة"2. فتضمن كلامه - رحمه الله - أموراً، وهي:   1 نزهة النظر: (ص62) . 2 تهذيب السنن: (5/226) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 1- أن الأصل قد صَدَّقَ الفرع، وكان يرويه عنه، مما يؤكد صدق الفرع، وهذا صريح في كلامه رحمه الله. 2- أن الأصل نَسِيَ الحديث لِعِلَّة أصابته، والنسيان لا يوجب رد الحديث، فمن حفظ حجة على من نسي. 3- أن الفرع إذا كان ثقة وأخبر أنه سمعه، فلا وجه لرد الحديث وإن أنكره الأصل، وهذا مفهوم من قوله عن سهيل: "فكيف ولم ينكره؟ ". وهذا الكلام منه - رحمه الله - لا غبار عليه، وهو متفقٌ مع ما تَقَدَّمَ تقريره في هذه المسألة، إلا أنه لم يتعرض لحالة انضمام التكذيب إلى الإنكار. فيمكن أن يُحْمَلَ كلامُ ابن القَيِّم - رحمه الله - على القبول في حالة إنكار الشيخ دون تكذيب، أو يكون قد اختار من الخلاف في هذه الصورة - حتى مع التكذيب -: القول بعدم الرد، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 المبحث الثالث عشر: رواية المجهول المجهول عند أهل الفن على قسمين: مجهول العين، ومجهول الحال. أما مجهول العين: فهو: "من لم يرو عنه إلا واحد، ولم يوثق". وأما مجهول الحال: فهو: "من روى عنه أكثر من واحد، ولم يوثق". ويقال له أيضاً: المستور1. ومن المسائل المتعلقة بالمجهول: المسألة الأولى: تعديل الْمُبْهَم. ذهب ابن القَيِّم إلى أن المبهم تثبت عدالته: إذا عدّله الراوي عنه الثقة؛ فقد أعلَّ ابن حزم حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن - في سقوط الحضانة بالتزويج - بالجهالة، حيث قال فيه أبو الزبير: "عن رجل صالح من أهل المدينة". فرد ابن القَيِّم ذلك عليه قائلاً: "وعنى بالمجهول: الرجل الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلاح، ولا ريب أن هذه الشهادة لا تُعَرِّفُ به، ولكنَّ المجهول إذا عَدَّلَهُ الراوي عنه الثقة: ثبتت عدالته؛ وإن كان واحداً على أصح القولين ... هذا مع أن أحد القولين: أن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له وإن لم يصرح بالتعديل ... وأما إذا روى عنه وصَرَّحَ بتعديله: فقد   1 نزهة النظر: (ص50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 خَرَجَ عن الجهالة التي تُرَدُّ لأجلها روايته، ولا سيما إذا لم يكن معروفاً بالرواية عن الضعفاء والمتهمين"1. وهذا الذي ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - هو الراجح بالنسبة للراوي الذي سُمِّيَ، إذا كان الْمُعَدِّلُ متأهلاً لذلك2. وأما الراوي المبهم الذي لم يسم - كما في المثال الذي معنا - ففيه قولان للعلماء: الأول: أن ذلك لا يكفي في توثيق الراوي. قاله الخطيب البغدادي، وابن الصباغ، والصيرفي وغيرهم. الثاني: أن ذلك يكفي في توثيقه، قاله أبو حنيفة. والصحيح من ذلك القول الأول، قال السخاوي رحمه الله: "لأنه لا يلزم من تعديله أن يكون عند غيره كذلك، فلعله إذا سَمَّاهُ يعرف بخلافها، وربما يكون قد انفرد بتوثيقه ... بل إضراب المحدث عن تسميته ريبة توقع تردداً في القلب"3. ثم إنه لو ووفق ابن القَيِّم على ثبوت التوثيق للراوي المبهم، وزوال الجهالة عنه بمجرد ذلك، فإن ذلك لا ينطبق على المثال الذي توجه إليه كلام ابن القَيِّم رحمه الله؛فقد جاء فيه: "عن رجل صالح ". فما المراد بالصلاح هنا؟   1 زاد المعاد: (5/456 - 457) . 2 انظر: نزهة النظر (ص50) . 3 فتح المغيث: (1/308) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ظاهر الكلام: أن المقصود الصلاح في الدين، لا الصلاح في باب الرواية، قال السخاوي - عقب قول الخليلي في رجل: شيخ صالح -: "أراد صلاحيته في دينه، جرياً على عادتهم في إطلاق الصلاحية حيث يريدون بها الديانة، أما حيث أريد: في الحديث، فيقيدونها"1. يعني بقولهم: صالح الحديث. فإذا تبين ذلك، فإن الوصف بهذا لا يؤخذ منه تعديل، فقد يكون الرجل صالحاً في دينه ولكنه ضعيف في الرواية2. فتلخص من ذلك: أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم من ثبوت عدالة المجهول بتوثيق الراوي عنه له: مع كونه صواباً في المجهول المُسَمَّى إذا كان الموثق له متأهلاً لذلك، إلا أنه ليس بصواب في الراوي المبهم. المسألة الثانية: بمَ ترتفعُ جهالةُ الحالِ عن الراوي؟ وأما مجهول الحال: فقد ذَهَبَ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أن الجهالة تزول عنه، ويحتج بحديثه: 1- إذا روى عنه ثقتان فأكثر. 2- ولم يُعلم فيه جرحٌ ولا قدحٌ. ففي حديث سلمة بن المحبق في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقع على جارية امرأته - وقد أعل بجهالة خالد بن عرفطة - قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فإن الحديث حسن؛ وخالد بن عرفطة قد روى عنه   1 فتح المغيث: (1/200) . 2 انظر الكلام على هذه المسألة فيما يأتي: (ص 570) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 ثقتان: قتادة، وأبو بشر. ولم يعرف فيه قدح، والجهالة ترتفع عنه برواية ثقتين ... "1. وخالد هذا: جَهَّلَه أبو حاتم الرازي2، والبزار3، وقال الذهبي: "لا يعرف"4. ولم يوثقه غير ابن حبان على مذهبه. وقال في حق الوليد بن زوران - وقد أعل ابن القطان حديثاً له بجهالة حاله -: "وفي هذا التعليل نظرٌ؛ فإن الوليد هذا روى عنه جعفر بن بُرْقان، وحجاج بن منهال، وأبو الْمَلِيح الحسن بن عمر الرقي وغيرهم. ولم يعلم فيه جرح"5. وقال في حق العالية بنت أنفع - وقد حَكَمَ الشافعي والدارقطني بجهالتها -: "هذا الحديث - يعني حديث النهي عن العينة - حسن، ويحتج بمثله؛ لأنه قد رواه عن العالية ثقتان ثبتان: أبو إسحاق زوجها، ويونس ابنها، ولم يعلم فيها جرح، والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك"6. فهكذا يذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ارتفاع جهالة الحال عن الراوي والاحتجاج بخبره: برواية ثقتين عنه، ما لم يعلم فيه جرح.   1 زاد المعاد: (5/38) . 2 الجرح والتعديل: (1/2/340) . 3 تهذيب التهذيب: (3/107) . 4 المغني: (1/204) . 5 تهذيب السنن: (1/107) . 6 تهذيب السنن: (5/100) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وقد نصَّ الخطيب البغدادي وغيره على أن: رواية الاثنين عن المجهول ترفع عنه جهالة العين، ولا تُثْبِت له عدالة ولا توثيقاً، وأنه لابد من التصريح بثقته والنص على ذلك1. وهذا مذهب الجمهور من الأئمة والمحققين2. على أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد سُبِقَ إلى مثل ذلك أيضاً، فقد نُسِبَ إلى البزار والدارقطني القول بارتفاع جهالته والعمل بروايته، وعبارة الدارقطني - كما نقلها السخاوي رحمه الله -: "من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته، وثبتت عدالته"3. وكذا اكتفى بروايتهما: ابن حبان كما نص عليه السخاوي أيضاً4. فَتَلَخَّصَ من ذلك أن في قبول رواية مجهول الحال أقوالاً: 1- رَدُّ روايته مطلقاً. وهو مذهب الجمهور، وذلك بناءً على أنه لابد من التصريح بتوثيقه. 2- قبولها مطلقاً. وهو منسوب إلى البزار والدارقطني كما مضى، وبه يقول ابن حبان أيضاً. وقد مضى بيان هذين المذهبين، وهناك مذهب ثالث، وهو:   1 انظر: الكفاية: (ص150) . 2 فتح المغيث: (1/320) . 3 فتح المغيث: (1/320) . 4 فتح المغيث: (1/320) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 3- التوقف فيها، فلا تقبل ولا ترد حتى يتبين حاله، وهو مذهب إمام الحرمين الجويني، وأيده الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: "والتحقيق: أن رواية المستور - ونحوه مما فيه الاحتمال - لا يطلق القول بردها ولا بقبولها، بل هي موقوفة إلى استبانة حاله، كما جزم به إمام الحرمين"1. وبذلك يتضح أن ما اختاره ابن القَيِّم من ارتفاع جهالة الحال عن الراوي بمجرد رواية اثنين عنه، مع عدم العلم بجرحه، ومن ثم الاحتجاج بخبره: مذهب مرجوح، وأن جمهور أهل العلم على خلافه، وأنه لابد في مجهول الحال من التوثيق الصريح، حتى تزول جهالته ويعمل بخبره. المسألة الثالثة: جهالةُ الصحَابي. إن توقفَ الأئمة في رواية المجهول وعدم قبولها: إنما هو للجهل بحال الراوي من العدالة. إذ إن عدالة الرواة شرط من شروط قبول الخبر، ولما كان عدم العلم بعدالة المجهول ينافي تحقق شرط العدالة، لزم - لأجل ذلك - التوقف عن قبول خبره حتى يعلم حاله. ولكن، هل يقال ذلك - أيضاً - في حق الصحابة رضوان الله عليهم؟؟ بمعنى: أنه إذا جاء الخبر عن صحابي غير مسمى مثلاً، فهل يتوقف عن قبول خبره بدعوى الجهل بحاله؟ الْمُتَقَرِّرُ عند أئمة هذا الشأن: أن ذلك يجري فيمن دون الصحابة، أما الصحابة - رضي الله عنهم - فإنهم جميعاً عدول بتعديل الله - عزوجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم.   1 نزهة النظر: (ص50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم، سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن". ثم ساق - رحمه الله - جملة من آيات القرآن في مدحهم والثناء عليهم، ثم قال: "ووصفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصحابة مثل ذلك، وأطنب في تعظيمهم، وأحسن الثناء عليهم"1. ثم ساق جملة من الأحاديث في هذا المعنى. وقال ابن الصلاح رحمه الله: "للصحابة بأسرهم خِصِّيصَة، وهي: أنه لا يُسْئَلُ عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم - على الإطلاق - معدلين بنصوص الكتاب، والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة"2. وقد أَكَّد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى في أكثر من مناسبة، مبيناً أنه لا ينبغي إعلال حديث بدعوى الجهل بحال صَحَابيِّهِ، ومن أقواله في ذلك: أن ابن حزم - رحمه الله - أعل حديث أبي الزبير، عن بعض   1 الكفاية: (ص 93- 94) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص146 - 147) . وانظر في ذلك أيضاً: معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد: (ص46) ، والإصابة: (1/9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لُمْعَةٌ قدر الدرهم، لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة". فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأما العلة الثانية: فباطلة على أصل ابن حزم وأصل سائر أهل الحديث؛ فإن عندهم جهالة الصحابي لا تقدح في الحديث؛لثبوت عدالة جميعهم ... "1. وقال - رحمه الله - في حديث لأبي أمامة بن سهل رضي الله عنه في صفة صلاة الجنازة - وقد وقع في بعض طرقه: عن أبي أمامة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -: "وليس هذا بعِلَّةٍ قادحة فيه؛ فإنَّ جهالةَ الصحابي لا تَضُرُّ"2. المسألة الرابعة: هل تتقوى رواية المجهول بالمتابعات والشواهد؟ إذا بَقِيَ مجهول العين على جهالته، فهل تتقوى روايته برواية غيره، ويُقْبَلُ خبره في المتابعات والشواهد؟ أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك، فقال في حديث ميمونة رضي الله عنها في مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في الحيض وهن مُتَّزِرَات - وقد أعله ابن حزم بأن نُدْبة - راويته عن ميمونة - مجهولةٌ لا تعرف - فقال ابن القَيِّم - رحمه الله - يرد عليه: "فأما تعليله حديث ندبة بكونها مجهولة: فإنها مدنية، روت عن مولاتها ميمونة، وروى عنها حبيب، ولم يعلم أحد جرحها.   1 تهذيب السنن: (1/129) . 2 جلاء الأفهام: (ص48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 والراوي إذا كانت هذه حالهُ، إنما يُخشى من تَفَرُّدِهِ بما لا يُتَابع عليه. فأما إذا رَوَى ما رواه الناس، وكانت لروايته شواهد ومتابعات، فإن أئمة الحديث يقبلون حديث مثل هذا، ولا يردونه ولا يعللونه بالجهالة. فإذا صاروا إلى معارضة ما رواه بما هو أثبت منه وأشهر: عللوه بمثل هذه الجهالة، وبالتفرد. ومن تأمل كلام الأئمة رأى فيه ذلك، فيظن أن ذلك تناقض منهم، وهو بمحض العلم والذوق والوزن المستقيم. فيجب التنبه لهذه النكتة، فكثيراً ما تمر بك في الأحاديث، ويقع الغلط بسببها"1. فابن القَيِّم - رحمه الله - يقرر: أن رواية مجهول العين تتقوى بغيرها من المتابعات والشواهد، وتكون مقبولة؛ حيث لم ينفرد. وأما إذا انفرد هذا المجهول بهذه الرواية، أو خالف من هو أوثق منه وأشهر: فإن خبره حينئذ يكون مردوداً؛لأنه - والحالة هذه - يكون من قبيل المنكر. وقد أشار الحافظ الدارقطني - رحمه الله - إلى مثل ذلك، فقال: " ... فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد، وانفرد بخبر، وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره"2. وقد نصَّ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - على ذلك أيضاً، لكنه خصه برواية مجهول الحال - المستور - فقال: "ومتى توبع السيئ الحفظ بِمُعْتَبَرٍ، وكذا: المستور، والمرسل، والمدلس: صار حديثهم حسناً، لا لذاته بل بالمجموع"3.   1 تهذيب السنن: (1/176) . 2 سنن الدارقطني: (3/174) . 3 نخبة الفكر: (ص51 - 52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وجعل الحافظُ السخاوي - رحمه الله - روايةَ المجهول مما يصلحُ في المتابعات والشواهد، وأنها تُكْتَبُ روايته للاعتبار، وذلك عند كلامه على مراتبِ الجرح والتعديل، وحكم رواية أصحاب كل مرتبة منها. فقد جعل "المجهول" في آخر مراتب الجرح - المرتبة السادسة - ثم حَكَمَ بأن أصحاب هذه المرتبة والتي قبلها ممن يُخَرَّجُ حديثهم في المتابعات والشواهد، قال: "لإشعار هذه الصِيَغِ بصلاحيةِ الْمُتَّصِفِ بها لذلك، وعدمِ منافاتها لها"1. فَتَبَيَّنَ من ذلك: صحة ما ذهبَ إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من: أن رواية مجهول العين - وبالأحرى مجهول الحال - تَتَقَوَّى بالمتابعات والشواهد، وأن جماعة من أئمة هذا الشأن قد ذهبوا إلى ذلك.   1 فتح المغيث: (1/375) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 المبحث الرابع عشر: كيفية سماع الحديث وتحمله من المسائل التي تتعلق بكيفية التحمل والأداء مما تعرض له ابن القَيِّم رحمه الله: المسألة الأولى: في تحمل الحديث قبل وجود الأهلية لذلك. هل يصحُّ تحمل الصَّبِي والكافر الحديث، بحيث يُقْبَلُ منهما مَا أَدَّيَاه بعد البلوغ والإسلام؟ أما صِحَّةُ تحمل الكافر: فمتفق عليها بين أهل هذا الشأن1. وأما تحمل الصغير الذي لم يبلغ: فإنه يصح على المذهب الصحيح الذي جزم به غير واحد من العلماء، منهم: ابن الصلاح2، والنووي3، وابن كثير4، والعراقي5 وغيرهم. ومَنَعَ من ذلك آخرون، ولم يُجَوِّزُوه، قالوا: لأنَّ الصبيَّ مَظِنَّةُ عدمِ الضبط6. وقد رَدَّ الأئمةُ ذلك عليهم، فقال ابن الصلاح: "وَمَنَعَ من ذلك قومٌ فأخطؤوا"7.   1 انظر: فتح المغيث: (1/380) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص60) . 3 التقريب: (ص15) . 4 اختصار علوم الحديث: (ص 108) . 5 شرح الألفية: (2/15) . 6 انظر: فتح المغيث: (1/381 - 382) . 7 مقدمة ابن الصلاح: (ص60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وقال العراقي: "وهو خطأ مردود عليهم"1. ومما يُقَوِّي جانب القبول: أن الأئمة - رحمهم الله - أجمعوا على قبول حديث جماعة من الصحابة مما تحملوه حال الصغر: كالحسن، والحسين، وابن عباس وغيرهم. فلم يروا فرقاً بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده2. ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب هذا المذهب الراجح في هذه المسألة، فقد أعل قوم حديث محمد بن عمرو بن عطاء المدني، عن أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله فيه: سمعت أبا حميد الساعدي، بعدم سماع محمد بن عمرو من أبي حميد. فَرَدَّ عليهم ابن القَيِّم ذلك، وقال - بعد أن أثبت إمكان لقاء محمد بن عمرو لأبي حميد، وسماعه منه -: "ولو امتنع أن يكون رجلاً - لتقاصر سِنِّهِ عن ذلك - لم يمتنع أن يكون صبياً مميزاً، وقد شاهد القصة في صغره، ثم أداها بعد بلوغه، وذلك لا يقدح في روايته وتحمله اتفاقاً، وهو أسوة أمثاله في ذلك. فَرَدُّ الأحاديث الصحيحة بمثل هذه الخيالات الفاسدة: مما يرغب عن مثله أئمة العلم"3. فهذا اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة، وهو   1 شرح الألفية: (2/15) . 2 انظر: فتح المغيث: (1/383 - 384) . 3 تهذيب السنن: (1/363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 الصحيح كما تقدم، ولعل نقله الاتفاق على ذلك إشارة إلى أن من خالف في هذه المسألة لا يعتد بخلافه، والله أعلم. المسألة الثانية: متى يصحُّ سَمَاع الصَّغِير؟ اختلف أهل العلم في ضابط سماع الصغير على أقوال عدة، الصحيح المعتبر منها: اعتبار تمييز كلِّ صبيٍّ وفهمه، دون اعتبار لسن معينة في ذلك؛ فَإنْ فَهِمَ الخطاب ورد الجواب: كان سماعه صحيحاً، وإن كان سِنُّهُ أقلَّ من خمس سنين، وإن لم يكن كذلك: لم يصح سماعه، وإن زاد عن الخمس. هذا ما صححه الأئمة: ابن الصلاح1، والنووي2، والعراقي3، وابن حجر4. وقد جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - ما يفيد اعتباره للتمييز في صحة السماع. فقد تَقَدَّم قوله في المسألة التي قبل هذه في حق محمد بن عمرو بن عطاء: "ولو امتنع أن يكون رجلاً ... لم يمتنع أن يكون صبياً مميزاً، وقد شاهد القصة في صغره ... وذلك لا يقدح في روايته وتحمله اتفاقاً". وقال في حق فاطمة بنت المنذر - وقد أعل قوم حديثاً بأنها روته عن أم سلمة، وقد لقيتها صغيرة -:   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص62) . 2 التقريب: (ص15) . 3 شرح الألفية: (2/20 - 21) . 4 فتح الباري: (1/173) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 " ... فلا يلزم انقطاع الحديث من أجل أن فاطمة بنت المنذر لقيت أم سلمة صغيرة؛فقد يَعْقِلُ الصغيرجداً أشياء ويحفظها، وقد عقل محمود بن الربيع الْمَجَّةَ وهو ابن سبع سنين1، ويعقل أصغر منه"2. فجعل - رحمه الله - عَقْلَ الصغير وتمييزه - دون مراعاة لسن معينة - أساساً للحكم بصحة سماعه من عدمه، وهذا هو القول المعتبر كما تقدم. المسألة الثالثة: هل يصح السماع ممن وراء حجاب؟ هل يصح سماع من سمع من شخص دون أن يراه؟ الجمهور على صحة ذلك وجوازه إن ثبت عنده أنه صوته: إما بعلمه وخبرته، أو بإخبار ثقة عدل بأن هذا صوته3. ومن الأدلة على صحة ذلك: حديث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فقد كن يحدثن من وراء حجاب، ونقل ذلك عنهن، واحْتُجَّ به في الدواوين المعتمدة4. ومنع من ذلك شعبة رحمه الله، فقال: "إذا حَدَّثَكَ المحدثُ فلم تر   1 كذا وقع في (زاد المعاد) ، والمشهور أنه "خمس سنين" كما في (صحيح البخاري) . انظر: فتح الباري: (1/172) ح77، ك العلم. والْمَجَّة: الماء أو الشراب يرمي به من فيه. 2 زاد المعاد: (5/590) . 3 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص71) ، وفتح المغيث: (1/434) . 4 شرح ألفية العراقي - له: (2/58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 وَجْهَه، فلا ترو عنه، فلعله شيطان قد تَصَوَّرَ في صورته يقول: حدثنا، وأخبرنا"1. وردَّ الأئمة هذا القول منه رحمه الله، فقال النووي: "وهو خلاف الصواب وقول الجمهور"2. وقال ابن كثير: "وهذا عجيب وغريب جداً"3. وقد بين ابن القَيِّم - رحمه الله - أن عدم رؤية الراوي المحدث لا يقدح في سماعه منه، وأن عدم الرؤية لا ينافي السماع. فقد كَذَّبَ هشام بن عروة محمد بن إسحاق في قوله: إنه حَدَّث عن زوجته فاطمة بنت المنذر، واعتمد في ذلك على أنه لم يرها أحد من الرجال منذ تزوجها، فقال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... إن هشاماً إنما نفى الرؤية، ولم ينف سماعه منها، ومعلوم أنه لا يلزم من انتفاء الرؤية انتفاء السماع. قال الإمام أحمد: لَعَلَّه سمع منها في المسجد، أو دخل عليها فحدثته من وراء حجاب، فأي شيء في هذا؟! فقد كانت امرأة كبرت وأَسَنَّت"4. فابن القَيِّم - رحمه الله - يؤكد أنه لا تلازم بين السماع والرؤية، بل قد يحصل سماع لفظ الْمُحَدِّث دون رؤيته، ومع ذلك يكون سماعه صحيحاً معتبراً، والله أعلم.   1 شرح ألفية العراقي - له: (2/58) . 2 التقريب: (ص17) . 3 اختصار علوم الحديث: (ص118) . 4 تهذيب السنن: (7/97) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 المسألة الرابعة: الوجادة، وحكم العمل بها. تعريفها: قال الحافظ العراقي: "أن تجد بخطِّ من عَاصَرْتَهُ - لقيته أو لم تلقه - أو لم تعاصره - بل كان قبلك - أحاديث يرويها، أو غير ذلك مما لم تسمعه منه ولم يُجِزْهُ لك"1. ويلحق بذلك: ما يجده الشخص من كتب المصنفين ممن عاصره كذلك، أولم يعاصره2. أما حكم الوجادة: فإنها منقطعة غير متصلة، ولكنها تأخذ نوعاً من الاتصال في حالة وثوقه بأنه خط من وجد ذلك عنه، وذلك لقوله: "وجدت بخط فلان"3. ولا يجوز أن يقول فيها: "عن فلان" أو: "قال فلان"، فضلاً عن قوله: "حدثنا وأخبرنا"4. هذا من ناحية الراوية بالوجادة، فالرواية بها لا تكون متصلة. وأما جواز العمل بالوجادة: ففيه أقوال ثلاثة: الأول: المنع من العمل بها. قال بذلك معظم المحدثين والفقهاء من المالكية وغيرهم.   1 شرح الألفية - للعراقي: (2/112) . 2 فتح المغيث: (1/536) . 3 شرح الألفية - للعراقي: (2/113- 114) . 4 انظر: (مقدمة ابن الصلاح) : (ص86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الثاني: جواز العمل بها. وذلك مَحْكِي عن الإمام الشافعي رحمه الله، وطائفة من نظار أصحابه. الثالث: وجوب العمل بها عند حصول الثقة به. جزم بذلك بعض المحققين من أصحاب الشافعي في أصول الفقه1. واختار ابن الصلاح - رحمه الله - القولَ بالوجوب، فقال: "وما قَطَعَ به هو الذي لا يَتَّجِه غيره في الأعصار المتأخرة؛ فإنه لو تَوَقَّف العمل فيها على الرواية لانسَدَّ باب العمل بالمنقول، لتعذر شرط الرواية فيها"2. ووافق ابنَ الصلاح على ذلك: النووي3، وابن كثير4، والعراقي5. وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - قضية النُّسَخ والكتب التي أُخِذَت عن طريق الوجادة، وأكد أن الأخذ عنها، والعمل بمقتضاها متعين، وأن ذلك هو دأب علماء هذه الأمة قديماً وحديثاً. قال - رحمه الله - في الرد على من طعن في سماع الحسن من سمرة: "وغاية هذا أنه كتاب6، ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديماً   1 ينظر حول العمل بالوجادة: مقدمة ابن الصلاح: (ص87) ، وتدريب الراوي: (2/63) ، وفتح المغيث: (1/534 - 535) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص87) . 3 التقريب: (ص21) . 4 اختصار علوم الحديث: (ص128) . 5 شرح الألفية للعراقي: (2/114- 115) . 6 فقد قال بهز بن أسد: إن اعتماده على كتب سمرة. (المراسيل - لابن أبي حاتم: ص32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وحديثاً، وأجمع الصحابة على العمل بالكتب، وكذلك الخلفاء بعدهم ... وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي، فيعمل بها من تصل إليه، ولا يقول: هذا كتاب. وكذلك خلفاؤه بعده، والناس إلى اليوم. فَرَدُّ السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل، والحفظ يخون، والكتاب لا يخون"1. ويؤكد في مناسبة أخرى حُجِّيَّة هذه الكتب، مشيراً إلى ضابط العمل بها، وشرط ذلك، فيقول - في الرد على من طعن في رواية مخرمة ابن بكير عن أبيه بأنها كتاب -: "إن كتاب أبيه كان عنده محفوظاً مضبوطاً، فلا فَرْقَ في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به، أو رآه في كتابه، بل الأخذ عن النسخة أحوط إذا تَيَقَّنَ الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها. وهذه طريقة الصحابة والسلف ... ولو بَطَلَ الاحتجاجُ بالكتب، لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير؛ فإنَّ الاعتماد على النُّسَخِ لا على الحفظ، والحفظ خَوَّان، والنسخة لا تخونُ، ولا يُحْفظُ في زمنٍ من الأزمان المتقدمة أن أحداً من أهل العلم رَدَّ الاحتجاج بالكتاب، وقال: لم يُشَافِهْني به الكاتب، فلا أقبله. بل كُلُّهُم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كتابه"2.   1 إعلام الموقعين: (2/144) . 2 زاد المعاد: (5/242) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 فابن القَيِّم - رحمه الله - يؤكد صحة العمل بما وُجدَ من تلك الكتب، وبخاصة ما كان منها موثوقاً به، ومتأكداً من صحة نسبته إلى صاحبه ومؤلفه. وهو بذلك يوافق ما رَجَّحَهُ أكثرُ الأئمة المتقدم كلامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 المبحث الخامس عشر: ناسخ الحديث ومنسوخه النسخ: هو "عبارة عن رفع الشارع حكماً منه متقدماً بحكم منه متأخر". ذكر ذلك ابن الصلاح رحمه الله، ثم قال: "وهذا حد وقع لنا سالم من اعتراضات وردت على غيره"1. طرق معرفة النسخ: ويعرف ذلك بأمور، وهي: أولاً: تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو أصرحها، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه بريدة رضي الله عنه: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". ثانياً: أن يجزمَ الصحابيُّ بأن ذلك الخبر متأخر، كقول جابر رضي الله عنه: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار". ثالثاً: يُعرف ذلك - أيضاً - بالتاريخ، وهو كثير. رابعاً: أن يقعَ الإجماع على ترك العمل بحديث، وأنه منسوخ. والإجماع لا يَنْسَخ ولا يُنْسخ، وإنما يدل على وجود ناسخ2. وقد ورد في كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - استعماله لبعض الطرق التي يستدل بها على النسخ، فمن ذلك:   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 139) . 2 ينظر تفصيل ذلك في: مقدمة ابن الصلاح: (ص139 - 140) ، وتدريب الراوي: (2/190 - 192) ، ونزهة النظر: (ص 38 - 39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 1- استدلاله على النسخ بمعرفة التاريخ. قال - رحمه الله - في حديث طلق في الرُّخصة في ترك الوضوء من مَسَّ الذكر، ومعارضته بحديث أبي هريرة وغيره: "أن حديث طلق لو صح، لكان حديث أبي هريرة ومن معه مُقَدَّماً عليه؛لأن طَلْقاً قَدِم المدينة وهم يبنون المسجد، فذكر الحديث، وفيه قصة مس الذكر، وأبو هريرة أسلم عام خيبر بعد ذلك بست سنين، وإنما يُؤْخَذُ بالأحدث فالأحدثِ من أمره صلى الله عليه وسلم"1. 2- وجود قرائن تدل على تأخر أحد الخَبَرين. فقد استدلَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - على نسخ حديث أبي هريرة مرفوعاً: " من أَدْرَكَه الفجر جنباً فلا يصوم ". بما رواه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من " أنه كان يصبح جنباً ويصوم "، فقال في تأييد القول بنسخ حديث أبي هريرة: "لا يصح أن يكون آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبطال الصوم بذلك؛ لأن أزواجه أعلم الأمة بهذا الحكم، وقد أخبرن بعد وفاته: أنه كان يصبح جنباً ويصوم. ولو كان هذا هو المتقدم لكان المعروف عند أزواجه مثل حديث أبي هريرة، ولم يحتج أزواجه بفعله الذي كان يفعله ثم نسخ، ومحال أن يخفى هذا عليهن؛ فإنه كان يقسم بينهن إلى أن مات في الصوم والفطر"2.   1 تهذيب السنن: (1/135) . 2 تهذيب السنن: (3/266 - 267) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 شروط تحقق النسخ: لابد للحكم بالنسخ في الخبرين المتعارضين من توافر بعض الشروط، وقد وَقَعَ في كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - ذكر شيء من هذه الشروط، فمن ذلك: قوله - رحمه الله - في الرد على من ادعى أن التمتع في الحج منسوخ: "أما العذر الأول، وهو النسخ، فيحتاج إلى أربعة أمور ... يحتاج إلى: - نصوص أخر، - تكون تلك النصوص معارِضَة لهذه، - ثم تكون - مع هذه المعارضة - مُقَاوِمة لها، - ثم يثبتُ تأخرها عنها"1. وأشار مرة إلى بعض هذه الشروط، فقال في حديث عبد الله بن حمار في ترك قتل شارب الخمر في الرابعة، وأنه ناسخ للأمر بقتله في الرابعة: "وأما ادعاء نسخه بحديث عبد الله بن حمار، فإنما يتم بـ: - ثبوت تأخره، - والإتيان به بعد الرابعة، - ومنافاته للأمر بقتله"2.   1 زاد المعاد: (2/187) . 2 تهذيب السنن: (6/237) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 ففي هذا تصريح منه - رحمه الله - بضرورة أن يكون الناسخ متأخراً، وأن يعارض المنسوخ معارضة لا يمكن معها الجمع بينهما. وعَبَّر - رحمه الله - عن ذلك مرة بقوله: "لا يمكن إثباته - يعني النسخ - إلا بعد أمرين: أحدهما: ثبوت معارضته المقاوم له. والثاني: تأخره عنه"1. وقال - رحمه الله - في الردِّ على من ذهب إلى أن القيام للجنازة- قيام تابعها، ومن مرت به، والمشيع عند القبر - منسوخ، رد على ذلك بقوله: "وهذا المذهب ضعيف من ثلاثة أوجه: أحدها: أن شرطَ النسخ: المعارضةُ، والتأخرُ. وكلاهما منتف في القيام على القبر بعد الدفن، وفي استمرار قيام المشيعين حتى توضع ... "2. ويؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - ضرورة مقاومة الناسخ - في الصحة والقوة - للمنسوخ، فيقول في حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعاً في الإذن في الإقران بين التمرتين، وأنه ناسخ لحديث ابن عمر رضي الله عنه في النهي عن ذلك: "وهذا الذي قالوه - يعني ادعاء النسخ - إنما يصح لو ثبت حديث بريدة، ولا يثبت مثله ... "3.   1 تهذيب السنن: (4/173) . 2 تهذيب السنن: (4/312) . 3 تهذيب السنن: (5/332) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 فتلخص من ذلك: أن الشروط التي قررها ابن القَيِّم - رحمه الله - للحكم بالنسخ، هي: 1- عدمُ إمكان الجمع بين الخَبَرَين. 2- صَلاحِية كلٍّ منهما للحُجَّة. 3 - معرفةُ الْمُتَأَخِّرِ. أما عدم إمكان الجمع بينهما: فلأن الجمع أولى من المصير إلى النسخ، قال الحازمي رحمه الله: " ... فَإِنْ أَمْكن الجمع جمع ... ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة كان أولى؛ صوناً لكلامه - بأبي هو وأمي - عن سمات النقص"1. وأما اشتراط صلاحية كل من الخبرين للحجة: فلأن القويَّ لا تُؤَثِّر فيه مخالفة الضعيف2، فضلاً عن أن يقاومه فينسخه. وأما اشتراط ثبوت تأخر أحد الخبرين: فقد أشار إليه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بقوله: "فإن عرف - يعني التاريخ - وثبت المتأخر به أو بأصرح منه: فهو الناسخ والآخر المنسوخ"3.   1 الاعتبار: (ص 9) . 2 انظر: نزهة النظر: (ص37) . 3 نزهة النظر: (ص 38) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 المبحث السادس عشر: مُخْتَلِفُ الحديث تعريفه: قال النووي رحمه الله: "هو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهراً، فَيُوَفَّقُ بينهما أو يرجَّح أحدهما"1. أقسامه: ينقسم مختلف الحديث إلى قسمين: أحدهما: أن يمكن الجمع بين الحديثين، فَيَتَعَيَّن حينئذ المصير إلى ذلك، والقول بهما جميعاً. الثاني: أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمعُ بينهما، وهذا يكون على ضربين: 1- أن يظهر كون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً، فَيُعْمَلُ بالناسخ ويَتْرَكُ المنسوخ. 2- أن لا تقوم دلالة على النسخ، فَيُصَارُ إلى ترجيحِ أحدهما على الآخرِ بوجه من وجوه الترجيح2. فَتَبَيَّنَ من ذلك: الخطوات التي ينبغي أن تسلك فيما ظاهره التعارض، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "فصار ما ظاهره التعارض واقعاً على هذا الترتيب:   1 التقريب: (ص33) . 2 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص 143) ، والتدريب: (2/196- 198) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 - الجمع إن أمكن، - فاعتبار الناسخ والمنسوخ، - فالترجيح إن تعين، - ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين"1. وقد بَيَّنَ ابن القَيِّم - رحمه الله - أنَّ الأحاديث التي ظاهرها التعارض لا تخرج عن أحد ثلاث حالات، فقال: "فإذا وقع التعارض: - فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً، فالثقة يغلط. - أو يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر إذا كان مما يقبل النسخ. - أو يكون التعارض في فهم السامع، لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم. فلابد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة"2. فقد بَيَّنَ ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذه القسمة العقلية أن الحديثين إذا وقع بينهما تعارض: فإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قالهما، أو أن أحدهما لا يكون من كلامه، ويكون أحد الرواة غلط فجعله من كلامه، كمن يرفع الموقوف أو يزيد لفظة ليست من كلامه صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك.   1 نزهة النظر: (ص 39) . 2 زاد المعاد: (4/149) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 فإذا ثبت أن أحد الخبرين ليس من كلامه فلا إشكال، فإن الضعيف لا يُعَارَضُ به الثابت الصحيح. وأما إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قالهما جميعاً: فإنه ينظر في نسخ أحدهما بالآخر إذا ثبت تأخر أحدهما. فإن لم نجد سبيلاً إلى نسخ أحدهما بالآخر، فإنه يتعين الجمع بينهما، وحينئذ لا يكون هناك تعارض في واقع الأمر، وإنما التعارض في فهم السامع. شرط وقوع التعارض: لابد للحكم على حديثين بالتعارض، وجعلهما من باب مختلف الحديث: أن يكون كل منهما مُحْتَجًّا به، أما إن كان أحدهما لا يُقْبَلُ بحال، فإنه لا يُعَارَضُ به القوي؛ إذ إنه - والحالة هذه - لا أَثَر له. وقد بين ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك وأكده، فقال: "لا يجوز معارضة الأحاديث الثابتة بحديث من قد أجمع علماء الحديث على ترك الاحتجاج به"1. وقال: "ومعارضة الأحاديث الباطلة للأحاديث الصحيحة لا توجب سقوط الحكم بالصحيحة، والأحاديث الصحيحة يصدق بعضها بعضاً"2.   1 تهذيب السنن: (6/324) . 2 أحكام أهل الذمة: (2/641) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 ذِكْرُ بعض وجوه الترجيح التي استعملها ابن القَيِّم رحمه الله: فمن وجوه الترجيح التي استعملها عند التعارض، أو أشار إليها: 1- أن يكون رواة أحد الخبرين من أهل الرجل - صاحب القصة - وخاصته، فإنهم أعلم به من غيرهم، فيقدم خبرهم. قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في قصة توبة كعب بن مالك وانخلاعه من ماله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: "أمسك عليك بعض مالك" من غير تعيين لقدره، وما عارض ذلك من أنه عَيَّنَ له الثلث، قال مُقَدِّماً رواية عدم التعيين: "فإن الصحيح ... ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزهري، عن ولد كعب بن مالك، عنه ... وهم أعلمُ بالقصةِ من غيرهم؛ فإنهم وَلَدُهُ، وعنه نقلوها"1. وقال في حديث جابر رضي الله عنه في قصة الصلاة على شهداء أحد: "وحديث جابر بن عبد الله في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح، وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ، فله من الخبرة ما ليس لغيره"2. 2- أن يكون عمل الصحابة أو أكثرهم - ولاسيما الخلفاء   1 زاد المعاد: (3/586 - 587) . 2 تهذيب السنن: (4/296) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 الراشدين - موافقاً لأحد الخبرين، فيقدم على ما لم يكن كذلك. قال أبو داود رحمه الله: "إذا تنازع الخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر بما أخذ به أصحابه"1. قال ابن القَيِّم في ترجيحه أحاديث المزارعة على غيرها: "الأحاديث إذا اختلفت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده، وقد تقدم ذكر عمل الخلفاء الراشدين، وأهليهم، وغيرهم من الصحابة بالمزارعة"2. وقال عند الكلام على أحاديث نقض الوضوء بمس الذَّكَر: "لو قُدِّر تعارض الخبرين من كل وجه، لكان الترجيح لحديث النقض؛ لقول أكثر الصحابة به: منهم: عمر بن الخطاب، وابنه، وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة بنت صفوان رضي الله عنهم ... "3. قال الحازمي - رحمه الله - في وجه الترجيح بعمل الصحابة والخلفاء: " ... فيكون إلى الصحة أقرب، والأخذ به أصوب"4.   1 السنن: (2/428) . 2 تهذيب السنن: (5/60) . 3 تهذيب السنن: (1/135) . 4 الاعتبار: (ص19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 3- أن يكون أحد الخبرين جاء بالشك، والآخر مجزوماً به، فَتُقَدَّم روايةُ الجازم على رواية الشاكِّ. قال ابن القَيِّم في حديث تعريف اللُّقَطَة، وتقديم الرواية التي فيها التعريف سَنَة، على حديث أُبَيٍّ الذي فيه: أن التعريف ثلاث سنين: "ووقع الشك في رواية حديث أُبَيِّ بن كعب أيضاً: هل ذلك في سنة أو في ثلاث سنين؟ وفي الأخرى: عامين أو ثلاثة؟ فلم يجزم، والجازم مَقَدَّمٌ"1. وقال عند الكلام على رمي الجمرة، وقول ابن عباس رضي الله عنه: "ما أدري أَرَمَاهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بست أو بسبع؟: "قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رمى الجمرة بسبع حصيات من رواية: ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر. وشكُّ الشاكِّ لا يُؤَثِّرُ في جَزْمِ الجازم"2. 4- تقديم ما أخرجاه في "الصحيحين" أو أحدهما على ما لم يُخَرَّجْ فيهما3. قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في قصة صلاة معاذ بقومه وتطويله عليهم:   1 تهذيب السنن: (2/268) . 2 تهذيب السنن: (2/417 - 418) . 3 وقد ذكر العراقي ذلك من المرجحات، التقييد والإيضاح: (ص 289) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 "الذي في الصحيحين: أنه قرأ سورة البقرة ... وقصة قراءته بـ (اقتربت) لم تُذْكَر في الصحيح، والذي في الصحيح أولى بالصحة منها"1. 5- تقديم خبر الْمُثْبتِ على خبرِ النَّافي؛ لأن المثبت معه زيادة علم خَفِيَتْ على النافي. قال ابن القَيِّم في حديث جابر في الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين، وما جاء في حديث أسامة بن زيد من قوله: "أُقِيْمت الصلاة فصلَّى المغرب ... ثم أقَيِّمت العشاء فصلاها" قال في حديث أسامة هذا: " ... وسكت عن الأذان ... بل لو نفاه جملة، لَقُدِّمَ عليه حديث من أَثْبَتَهُ؛ لِتَضَمُّنِهِ زيادة خفيت على النافي"2. وقال - رحمه الله - في الأحاديث التي تثبت سجوده صلى الله عليه وسلم في المفصل، والأحاديث التي تنفي ذلك: "فلو تعارض الحديثان من كل وجه، وتقاوما في الصحة، لَتَعَيَّنَ تقديم حديث أبي هريرة؛ لأنه مثبتٌ معه زيادةُ علمٍ خفيت على ابن عباس"3. 6- أن يكون أحد الحديثين قد اختلفت الرواية فيه، والآخر لم   1 الصلاة: (ص 191 - 192) . 2 تهذيب السنن: (2/402) . 3 زاد المعاد: (1/364) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 تختلف، فَيُقَدَّمُ الذي لم يختلف على غيره1. قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في ترجيح حديث بُسْرَة في نقض الوضوء بِمَسِّ الذَّكَر على حديث طَلْق في عدم النقض: "أن طلقاً قد اختلفت الرواية عنه، فروي عنه: "هل هو إلا بضعة منك؟ " وروى أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعاً: "من مسَّ فرجه فليتوضأ"" 2 7- الترجيح بكثرة عدد الرواة لأحد الخبرين. قال الحازمي: "وهي مؤثرة في باب الرواية؛ لأنها تقرب مما يوجب العلم، وهو التواتر"3. وقال السيوطي: "لأن احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعد من احتماله على الأقل"4. وقد رَجَّحَ ابن القَيِّم - رحمه الله - بالكثرة، فقال في أحاديث النقض بمس الذكر أيضاً: "أن رواة النقض أكثر ... فإنه من رواية: بسرة، وأم حبيبة، وأبي هريرة، وأبي أيوب، وزيد بن خالد"5. وبعد، فهذه أبرز الْمُرَجِّحَات التي وقفتُ عليها في كلامِ ابن القَيِّم وأبحاثه في الترجيح بين الأخبار.   1 وانظر: الاعتبار: (ص15) . 2 تهذيب السنن: (1/135) . 3 الاعتبار: (ص11) . 4 تدريب الراوي: (2/198) . 5 تهذيب السنن: (1/135) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 المبحث السابع عشر: معرفة من اختلط من الرواة الثقات الْمُخْتَلِطِ: هو سيء الحفظ الذي يكون سوء الحفظ طارئاً عليه؛ لكبره، أو لذهاب بصره، أو لاحتراق كتبه، أو عَدَمِها: بأن كان يعتمدها فَرَجَعَ إلى حفظه فساء1. وحقيقة الاختلاط: "فساد العقل، وعدمُ انتظام الأقوالِ والأفعال: إما بِخِرَف أو ضرر، أو مرض، أوعرض: من موتِ ابن أو سرقة مالٍ كالمسعودي، أو ذهاب كتب: كابن لهيعة، أو احتراقها: كابن الملقن". قاله السخاوي2. حكم رواية الْمُخْتَلِطِ: الحكم في ذلك يكون باعتبار الرواة عن الْمُخْتَلِطِ: - فمن أخذ عنه قبل الاختلاط: قُبِلَ حديثه. - ومن أخذ عنه بعد الاختلاط، أو أشكل أمره، فلم يُدْرَ أخذ عنه بعد الاختلاط أو قبله: لم يُقْبل حديثه.   1 نزهة النظر: (ص51) . 2 فتح المغيث: (3/331) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 كذا قال غير واحد من أهل العلم1. ولكن إذا تُوبِع الْمُخْتَلِطِ - فيما روي عنه بعد الاختلاط - أو فيما لم يتميز من حديثه - فَوُجِدَ لروايته أصلٌ من غير طريقه: بأن وَافَقَهُ ثقة، أو مَنْ يَصْلُحُ حديثه للاعتبار: قُبِلَتْ روايته2. وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أن الْمُخْتَلِطَ يُقْبَل حديثه إذا كان الراوي له أَخَذَ عنه قبل الاختلاط، فقال - في حديث لسعيد الجُريري من رواية يزيد بن هارون عنه - وقد أخذ عنه بعد الاختلاط -: "إن حماد بن سلمة قد تابع يزيد بن هارون على روايته ... وسماع حماد منه قديم"3. يعني: فيكون مقبولاً. وقال في حديث أبي هريرة مرفوعاً: " من صَلَّى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه" - وقد روى من طريق: ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة -: "وهذا الحديث حسن؛ فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه، وسماعُهُ منه قديمٌ قبل اختلاطِهِ، فلا يكون اختلاطه موجباً لرد ما حَدَّثَ به قبل الاختلاط"4.   1 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص195) ، وتدريب الراوي: (2/372) . 2 انظر: نزهة النظر: (ص 51 - 52) . 3 تهذيب السنن: (3/426) . 4 زاد المعاد: (1/501) . وانظر: تهذيب السنن: (4/325) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 وقال في حديث السِّعَاية - وقد روى من طريق سعيد بن أبي عروبة -: "وسعيدٌ وإن كان قد اختلط في آخر عمره، فهذا الحديث من رواية: يزيد بن زريع، وعبدة، وإسماعيل، والجِلَّة عن سعيد، وهؤلاء أعلم بحديثه، ولم يرووا عنه إلا ما كان قبل اختلاطه؛ ولهذا أخرج أصحاب الصحيح حديثهم عنه"1. فهكذا نجدُ ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّرُ ما ذهبَ إليه أئمة هذا الشأن: من قبول رواية الْمُخْتَلِطِ إذا كانت من رواية من أَخَذَ عنه قبل اختلاطه، ويؤكد أن ما وُجِدَ من ذلك في "الصحيحين" فإنه محمول على هذا2. وأما إذا كانت رواية الْمُخْتَلِطِ لم تأت إلا من طريق من أخذ عنه بعد اختلاطه، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يرَ رَدَّ ذلك مطلقاً، ولا جعله عِلَّةً دائماً، بل يرى أنه لابد من ضبطه بضابطٍ، فقال مرة في رواية يزيد بن هارون، عن سعيد الجريري، وقد روى عنه بعد الاختلاط: "هذا إنما يكون علة إذا كان الراوي ممن لا يُمَيِّزُ حديث الشيخ صحيحه من سقِيمه. وأما يزيد بن هارون وأمثاله إذا رووا عن رجل قد وقع في حديثه بعض الاختلاط، فإنهم يميزون حديثه وينتقونه"3.   1 تهذيب السنن: (5/399) . 2 وانظر: تدريب الراوي: (2/380) . 3 تهذيب السنن: (3/426 - 427) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 وهذا الكلام منه - رحمه الله - فيه إطلاق لابد من ضبطه وتقييده، فَيُقَالُ: يُقبل حديث من روى عن الْمُخْتَلِطِ في الاختلاط: إذا كان ممن يَنْتَقِي من حديثه، ويميزُ بين الصحيح والسقَيِّم، بتصريحه أو نحو ذلك، كما كان من حال وكيع بن الجراح مع سعيد بن أبي عروبة، فقد قال له يحيى بن معين: تُحَدِّثُ عن سعيد بن أبي عروبة، وإِنَّمَا سمعت منه في الاختلاط؟ قال: رأيتني حدثت عنه إلا بحديث مُسْتَوٍ؟ 1. فهذا التصريح من وكيع - رحمه الله - يدل على أنه ينتقي من حديثه، وأما من لم يصرِّح بذلك، ولم يأت عنه دليل آخر يفيد ذلك: فإن الأمر بالنسبة له محل توقف، والله أعلم.   1 الكفاية: (ص 217) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 الفصل الثاني: آراء ابن القيم وإفاداته ومنهجه في الجرح والتعديل المبحث الأول: آراء ابن القيم في الجرح والتعديل المطلب الأول: في جواز الجرح، وأنه ليس من الغيبة المحرمة. ... الفصل الثاني: آراء ابن القَيِّم وإفاداته ومنهجه في الجرح والتعديل ويتضمن هذا الفصل: عرضُ آراء ابن القَيِّم - رحمه الله - وإفاداته في علم "الجرح والتعديل" وقواعده، ومقارنة ذلك بآراء الأئمة الآخرين المعنيين بهذا الفن. وقد وُجِدت هذه الآراء، وتلك الإفادات مبثوثةً في أثناء كتبه، وذلك عند بحثه ومعالجته للقضايا الحديثية، ونقده للأسانيد وحكمه عليها. فإنه - رحمه الله - في أثناء تناوله لرجال الأسانيد، وكلامه فيهم جرحاً وتعديلاً، كان رُبَّمَا دَعَتْهُ الحاجة إلى ذكر قاعدة من قواعد الفن، وبيان رأيه فيها، وذلك: إما لتأييد حكمه على رجل، أو لرد تُهْمَةٍ ألصقت بآخر، أو لغير ذلك من الأغراض التي تبعث على الاستشهاد بقواعد هذا الفن. والغَرَضُ من عرضِ ذلك: التعريفُ بمكانة ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب، ومدى تَمَكُّنِهِ منه، وإِلْمَامِهِ بقواعده، وكيفية تطبيقه لتلك القواعد في أثناء تعامله مع النصوص الحديثية، وحكمه على أسانيدها. ومن أغراض ذلك أيضاً: تأكيد أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد بَنَى كلامه في الرجال - جرحاً وتعديلاً - على قواعد هذا الفن وأسسه، فلم يكن مجرد ناقل لكلام الأئمة في الرجال دون تمحيص ودراية، بل كان - رحمه الله - على وعي تام، وإدراك كامل لمعاني كلامهم، ومدلولات ألفاظهم، والضوابط التي كانت تحكم كلامهم في الرجال جرحاً وتعديلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 وقد جعلت الكلام في هذا الفصل من خلال مبحثين: المبحث الأول: آراء ابن القَيِّم في الجرح والتعديل. المبحث الثاني: منهجه في الجرح والتعديل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 المطلب الأول: في جواز الجرح، وأنه ليس من الغيبة المحرمة أكثر علماء السَّلف على جواز الكلام في الرواة جرحاً وتعديلاً، وذلك صوناً للأحاديث النبوية عن أن يُدْخَل فيها ما ليس منها، قال ابن أبي حاتم رحمه الله: "ولما كان الدين هو الذي جاءنا عن الله عز وجل، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بنقل الرواة، حق علينا معرفتهم، ووجب الفحص عن النَّاقِلَةِ، والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والثبت في الرواية ... وأن يُعْزَل عنهم الذين جَرَحَهُم أهل العدالة، وكشفوا لنا عن عَوْرَاتِهِم ... "1. والأصل في ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي استأذن عليه: "ائذنوا له فبئس رجل العشيرة". قال الخطيب رحمه الله: "ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: بئس رجل العشيرة؛ دليل على أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة للسائل؛ ليس بغيبة". قال: "وكذلك أئمتنا في العلم بهذه الصناعة، إنما أطلقوا الجرح فيمن ليس بعدل؛ لئلا يتغطى أمره على من لا يخبره فيظنه من أهل العدالة فيحتج بخبره ... "2. وكذلك حديث فاطمة بنت قيس لما استشارته في خطبة معاوية وأبي جهم لها، فقال لها صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه،   1 مقدمة الجرح والتعديل: (ص5) . وانظر مقدمة ابن الصلاح: (ص193) معرفة الثقات والضعفاء من رواة الحديث. 2 الكفاية: (ص83 - 84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحى أسامة بن زيد ... " الحديث. قال الخطيب: "في هذا الخبر دلالة على إجازة الجرح للضعفاء على جهة النصيحة؛ لتجنب الرواية عنهم، وليعدل عن الاحتجاج بأخبارهم ... "1. وقال المعلمي اليماني: "أول من تكلم في أحوال الرجال القرآن، ثم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه"2. وقد عَبَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن مذهب الجمهور في ذلك، فقال - عند كلامه على الفوائد المستنبطة من قصة الثلاثة الذين خُلِّفُوا في غزوة تبوك -: "ومنها: جوازُ الطعْنِ في الرَّجُلِ - بما يَغْلُب على اجتهادِ الطاعن - حَمِيَّة3، أو ذبًّا عن الله ورسوله، ومن هذا: طعنُ أهلِ الحديث فيمن طَعَنُوا فيه من الرواة، ومن هذا: طعنُ ورثةِ الأنبياء، وأهلِ السنة في أهل الأهواء والبدع، لله لا لحظوظهم وأغراضهم"4. ويشير ابن القَيِّم - رحمه الله - بذلك إلى قول رجل من بني سلمة في كعب بن مالك: "يا رسول الله، حَبَسَه بُرْدَاهُ، ونظره في عطفه، وذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك: "ما فعل كعب؟ " 5.   1 الكفاية: (ص84 - 85) . (4) علم الرجال وأهميته: (ص18) . 3 الْحَمِيَّة: الأنفة. (المصباح المنير: 1/153) . 4 زاد المعاد: (3/575) . 5 صحيح البخاري: ك المغازي، باب حديث كعب بن مالك … ح4418. فتح الباري: (8/114) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وقد أكد الأئمة - رحمهم الله - جواز ذلك، وبيان الغرض الباعث عليه، وردوا على من منع ذلك وعابه، وهاك بعض أقوالهم في ذلك: قال الإمام الترمذي رحمه الله: "وقد عاب بعض من لا يفهم على أهل الحديث الكلام في الرجال، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلموا في الرجال ... ". ثم ساق - رحمه الله - جملة من هؤلاء الأئمة، وأقوالهم فيمن جرحوهم، ثم قال: "وإنَّمَا حملهم على ذلك عندنا - والله أعلم - النصيحة للمسلمين، لا يُظَنُّ بهم أنهم أرادوا الطعن على الناس أو الغِيبة، إنما أرادوا عندنا: أن يُبَيِّنُوا ضعف هؤلاء لكي يُعْرَفوا". ثم ساقَ بإسناده إلى يحيى القطان رحمه الله، أنه قال: "سألت سفيان الثوري، وشعبة، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة: عن الرجل تكون فيه تهمة أو ضعف، أَسْكُتُ أو أُبَيِّن؟ قالوا: بَيِّنَ"1. وقال الخطيب البغدادي: "وقد أَنْكَرَ قومٌ لم يتبحروا في العلم قولَ الحفاظ من أئمتنا، وأولي المعرفة من أسلافنا: إن فلاناً الراوي ضعيف، وفلاناً غير ثقة، وما أشبه هذا من الكلام، ورأوا ذلك غيبةً لمن قيل فيه ... "2. قال: "وليس الأمر على ما ذهبوا إليه؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به، وفي ذلك دليل على جواز الجرح لمن لم يكن صدوقاً في روايته،   1 علل الترمذي: انظر جامع الترمذي: (5/738 - 739) . 2 الكفاية: (ص81) باب وجوب تعريف المزكِّي ما عنده من حال المسئول عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 مع أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وَرَدَتْ مُصَرِّحَةً بتصديق ما ذكرنا، وبضدِّ قول من خالفنا"1. والآثار عن أئمة السلف - رحمهم الله - في جواز ذلك - بل ووجوبه - كثيرة لا تُحْصَى2. ولقد أحسنَ ابن القَيِّم رحمه الله بدقيق فهمه، وحسن استنباطه، حينما استدل بهذه القصة على جواز ذلك؛ إذ إن كلام الرجل في كعب ابن مالك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرته – ذَبًّا عن الله ورسوله وغَضَباً لهما: لو كان ذلك من الغيبة المحرمة، لما سكتَ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أقرَّه، فدلَّ ذلك - أوضح دلالة - على جوازه لمصلحة شَرْعِيَّةٍ، ولا شك أن بيان حال نقلة السُّنن، وحملة الآثار من أعظم تلك المصالح. فالحاصل: أن ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى - قد وافق أئمة الحديث والجَرْحِ والتعديل في هذه المسألة، وهي: جوازُ جَرْحِ الرواة، وكشف عيوبهم، وبيان ضعفهم، نصيحة لله ورسوله، وذَبًّا عن شريعة الإسلام.   1 الكفاية: (ص83) . 2 راجع للوقوف عليها: شرح علل الترمذي: (ص76 - 81) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 المطلب الثاني: هل يثبتُ الجَرْحُ والتَّعْدِيْلُ بقولِ الواحد؟ اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال ثلاثة: أولها: أنه لا يقبل في جرح الرواة وتعديلهم أقل من اثنين، قياساً على الشهادات. ثانيها: أنه يكفي في الجرح والتعديل قول الواحد، في الرواية والشهادة على السواء. ثالثها: التفريق في ذلك بين الرواية والشهادة: فيقبلُ في جرح الرواة وتعديلهم قول الواحد، ولا يقبل في الشهادة إلا اثنان1. والرَّاجِح هو المذهب الثالث، نَقَلَهُ الخطيب عن كثير من أهل العلم، ثم قال: "والذي نَسْتَحِبُّهُ: أن يكون من يُزَكِّي الْمُحَدِّثَ اثنين للاحتياط، فإن اقْتُصِرَ على تزكية واحد: أَجَزَأَ"2. وقال ابن الصلاح: "وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره ... ؛ لأن العدد لم يُشْتَرَطْ في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادات"3. ورجحه كذلك: العراقي4، وابن حجر5، والسخاوي6.   1 الكفاية: (ص 160-161) . ومقدمة ابن الصلاح: (ص52) . 2 الكفاية: (ص 161) . 3 مقدمة ابن الصلاح: (ص52) . 4 شرح الألفية: (1/295) . 5 نزهة النظر مع النخبة: (ص72) . 6 فتح المغيث (1/290) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة رأي الجمهور: وهو الاكتفاء بقول الواحد في الجرح والتعديل. قال مرة: " ... فإن التعديل من باب الإخبار والحُكْم، لا من باب الشهاد ة، ولا سِيَّمَا التعديل في الرواية؛ فإنه يُكْتَفَى فيه بالواحد ولا يزيد عن أصل نصاب الرواية"1. يعني: لَمَّا كان يُكْتَفَى في قبول الرواية بالواحد، فكذلك تعديلُ رَاوِيهَا وجرحُهُ لا يشترط له أكثر من واحد. فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يوافق اختياره اختيار الجمهور في هذه المسألة، وهي: الاكتفاء في الجرح والتعديل بقول الواحد، وعدم اشتراط أكثر من ذلك فيهما.   1 زاد المعاد: (5/456 - 457) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 المطلب الثالث: بماذا تثبت العدالة؟ الصحيح المشهور: أن العدالة تثبتُ بأحد أمرين: 1- فتارةً تثبت بتنصيص الْمُعَدِّلِين على عدالته، وقد تَقَدَّم أنه يُكتفى في ذلك بقول الواحدِ على الصحيح. 2- وتارة تثبت العدالة بالاستفاضة والشهرة، "فمن اشتهرتْ عَدَالَتُهُ بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة، اسْتُغْنِي فيه بذلك عن بَيِّنَةٍ شاهدة بعدالته تنصيصاً"1. فمثل: مالك، والثوري، وابن عيينة، وشعبة، والأوزاعي، والليث، وابن المبارك، ويحيى القطان، وأحمد، وابن مهدي، والشافعي، ووكيع، "ومن جَرَى مجراهم في: نباهة الذِّكْرِ، واستقامةِ الأمر، والاشتهارِ بالصِّدق والبصيرةِ والفهم، لا يُسْأَل عن عدالتهم، وإنما يُسْأَل عن عدالةِ من كان في عِدَاد المجهولين، أو أَشْكَلَ أَمْرُهُ على الطالبين"2. قال ابن الصلاح: "وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه. وممن ذكر ذلك من أهل الحديث: أبو بكر الخطيب الحافظ"3. وأما ابن القَيِّم - رحمه الله-: فقد تَوَسَّعَ في إثبات العدالة،   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) . 2 الكفاية: (ص147) . 3 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 فذهب إلى أنها تثبت لكل من عُرِفَ بحملِ العِلْمِ، والعناية به، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" 1. قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ العلم الذي جاء به يحمله عُدُولُ أُمَّتِهِ من كلِّ خَلَفٍ، حتى لا يضيعَ ويذهب، وهذا يتضمن تعديله صلى الله عليه وسلم لحملة العلم الذي بُعِثَ به ... فكل من حَمَل العلم المشار إليه، لا بد أن يكون عدلاً، ولهذا اشتهر عند الأمة عدالة نَقَلتِهِ وحَمَلَتِهِ، اشتهاراً لا يَقْبَلُ شَكَّاً ولا امتراء، ولا ريب أن من عَدَّلَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُسمعُ فيه جَرْحٌ، فالأئمة الذين اشتهروا عند الأمة بنقل العلم النبوي وميراثه، كلهم عدول بتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا يقبل قدح بعضهم في بعض، وهذا بخلاف من اشتهر عند الأمة جَرْحُه والقدحُ فيه: كأئمة البدعِ، ومن جرى مجراهم من المتهمين في الدين، فإنهم ليسو عند الأمة من حملة العلم، فما حَمَل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عدل"2. ثم حَدَّدَ - رحمه الله - مفهوم العدالة، فقال: "ولكن قد يُغْلَط في مُسَمَّى العدالة، فَيُظَنُ أن المراد بالعدل: من لا ذنب له! وليس كذلك، بل هو عَدْلٌ مؤتمن على الدين، وإن كان منه ما يتوب إلى الله منه، فإن هذا لا يُنَافي العدالة، كما لا ينافي الإيمان والولاية"3.   1 أخرجه ابن عبد البر في (التمهيد) : (1/59) ، والخطيب في (شرف أصحاب الحديث) (ص29) ، من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، وغيرهما، وسيأتي الكلام عليه بعد قليل. 2 مفتاح دار السعادة: (1/163) . 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 فقد تَضَمَّنَ كلام ابن القَيِّم هذا أموراً: - أنَّ العدالة تثبت لكل من عُرِفَ بحمل العلم النبوي. - وأنَّ هذه العدالة ثابتةٌ لهذه الطائفة بشهادَتِهِ وخبره صلى الله عليه وسلم. - وأنَّ هذه العدالةَ لا يُنَافِيهَا الوقوع في الذنوب الصغيرة التي يتوب العبد منها. وقد سبقَ ابنَ القَيِّم - رحمه الله - إلى القول بذلك: ابنُ عبد البر، فقال: "كل حامل علم، معروف العناية به، فهو عدل، محمول في أمره أبداً على العدالة، حتى يتبين جرحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحملُ هذا العلم من كل خلف عُدُولُه" 1". وقد تُعُقِّبَ ابن عبد البر في ذلك، فقال ابن الصلاح: "وفيما قاله اتساع غير مرضي"2. وبيان المآخذ على ما ذهب إليه ابن القَيِّم - وسبقه إليه ابن عبد البر - من وجوه: أولها: ضَعْفُ الحديث الذي بنوا عليه هذا القول، وهو حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ... ". وقد روي مرسلاً ومسنداً3.   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) . وانظر التمهيد: (1/58-59) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) . 3 ينظر دراسة هذا الحديث والكلام عليه: فيما علقته على (البدر المنير) : (1/214-219) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 فقد ضَعَّفَ هذا الحديث: ابن القطان1، والحافظ ابن كثير2، والعراقي3وغيرهم. وصَحَّحَ الإمام أحمد الرواية المرسلة4. وذهب جماعة إلى أن الحديث يقوى بمجموع طرقه، ويصل إلى درجة الحسن، قال ذلك: العلائي5، والقسطلاني6، والسخاوي7، والقاسمي8، وغيرهم. وقد مال ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تقويته أيضاً، فقال: "يُروى عنه من وجوهٍ شَدَّ بعضها بعضاً"9. ثانيها: أنه على فرض ثبوت هذا الحديث، فإنه لا يصحُّ حَمْلُه على الخبر "لوجودِ من يحمل العلم وهو غير عدل وغير ثقة ... فلم يبق له محمل إلا على الأمر، ومعناه: أنه أمرٌ للثقات بحملِ العلمِ؛ لأن العلم إنما يُقْبَلُ عن الثقات"10. ويؤيد ذلك: مجيئهُ من بعض الطرق بصيغة الأمر: "ليحمل هذا العلم ... " 11.   1 التقييد والإيضاح: (ص139) . 2 الباعث الحثيث: (ص94) . 3 التقييد والإيضاح: (ص138) . 4 شرف أصحاب الحديث: (ص29) . 5 بغية الملتمس: (ص34) . 6 إرشاد الساري: (1/4) . 7 الهداية في علم الرواية: (ق16/ب) . 8 قواعد التحديث: (ص49) . 9 طريق الهجرتين: (ص619) . 10 فتح المغيث: (1/294- 295) . 11 الجرح والتعديل: (1/1/17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وَحَمَلَهُ بعضهم على إرادة الغالب، فقال السخاوي: " ... بل لا مانع أيضاً من كونه خبراً على ظاهره، ويُحْمَل على الغالب، والقصد: أنه مَظِنَّةٌ لذلك"1. على أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله - ومن قبله ابن عبد البر - قد أَيَّدَهُما فيه جماعة، منهم: ابن الْمَوَّاق، فقال كمقالة ابن عبد البر2. وقال المزي: "هو في زماننا مرضي، بل ربما يتعين"3. وقال ابن الجزري: "ما ذهب إليه ابن عبد البر هو الصواب، وإن رَدَّهُ بعضهم"4. وقال ابن سيد الناس: "لست أراه إلا مرضياً"5. وقال النووي رحمه الله: "وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة العلم وحفظه، وعدالة ناقليه، وأن الله - تعالى - يُوَفِّقُ له في كلِّ عصرٍ خَلَفَاً من العدول يحملونه، وينفون عنه التحريف ... وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهذا من أعلام النبوة. ولا يَضُرُّ - مع هذا - كون بعض الفُسَّاقِ يَعْرِفُ شيئاً من العلم؛ فإن الحديث إنما هو   1 فتح المغيث: (1/295) . 2 التقييد ولإيضاح: (ص139) . 3 فتح المغيث: (1/297) . 4 المصدر السابق. 5 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 إخبار: بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرفُ شيئاً منه"1. قال السخاوي - عقب مقالة النووي هذه -: "على أنه يقال: ما يَعْرِفُهُ الفُسَّاقُ من العلم ليس بعلم حقيقة؛ لعدم عَمَلِهِم به ... وَصَرَّحَ به الشافعي في قوله: ولا العلم إلا مع التُّقَى ... ولا العَقْلُ إلا مع الأَدَبِ"2 وقال الحافظ الذهبي: "إنه حق - ولا يدخلُ فيه المستور، فإنه غير مشهور بالعناية بالعلم - فكلُّ من اشتهر بين الحفاظ بأنه من أصحاب الحديث، وأنه معروفٌ بالعناية بهذا الشأن، ثم كشفوا عن أخباره فما وجدوا فيه تَلْيِيناً، ولا اتَّفَقَ لهم علم بأن أحداً وَثَّقَهُ: فهذا الذي عَنَاه الحُفَّاظ، وأنه يكونُ مقبول الحديث إلى أن يلوح فيه جَرْحٌ"3. فظهر بذلك أن ابن القَيِّم - رحمه الله - له في قوله هذا مُؤَيِّدون، وأنه لم ينفرد بذلك، وأن هذا المذهب قَوَّاهُ جماعة لا يستهان بهم من أئمة هذا الشأن. وبنظرةٍ فاحصة إلى كلام هؤلاء الأئمة يتبين لنا: أنه لا منافاةَ بين حملِ هذا الحديث على الخبر على الحقيقة، وبين ما وَقَعَ من حَمْل بعض ساقطي العدالة لهذا العلم، وذلك إذا أخذنا في الاعتبار بعض الأمور، منها: أولاً: أن يُحْمَلَ هذا الخبر على الغالب، أي: غالبُ من يحمل هذا العلم، أو: أَنَّ من يَحْمِلُهُ تغلبُ عليه العدالة، قال السخاوي: "والقصد:   1 تهذيب الأسماء واللغات: (1/17) . 2 فتح المغيث: (1/295) . 3 فتح المغيث: (1/297) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 أنه مظنة لذلك"1. ثانياً: ما قَرَّرَه النووي - رحمه الله - من أن: معرفة بعض الفُسَّاِق بهذا العلم، لا يتنافى مع إخباره صلى الله عليه وسلم بحمل العدول إياه؛ فإنَّ معرفتهم بهذا العلم غيرُ داخلة في هذا الحمل. هذا على فرض صحة تسمية ما يحمله هؤلاء الفساق علماً. فَتَلَخَّص من ذلك: أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من ثبوت العدالة لكل من عرف بحمل هذا العلم، والاشتغال به، قد يكون مقبولاً إذا حُمل على ما تقدم ذكره. ومع ذلك فإن ما ذهب إليه الجمهور، من أنه لابُدَّ - لإثبات العدالة - من التنصيص على ذلك، أو الاعتماد على الشهرة والاستفاضة: هو الأقرب إلى الاحتياط، ولذلك قال ابن أبي الدم2 - في رَدِّهِ على ابن عبد البر-: "وهو غير مرضي عندنا؛ لخروجه عن الاحتياط"3. والله أعلم. ويلتحق بمسألة ثبوت العدالة مسألة أخرى وهي: إذا روى العدل عن رجل وَسَمَّاهُ، هل تُعْتَبُر روايتهُ عنه تعديلاً له؟   1 فتح المغيث: (1/297) . 2 العلامة، شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم، الهمداني الحموي الشافعي. حَدَّث بالقاهرة وكثير من بلاد الشام، وولي قضاء حماة، وكان إماماً في المذهب الشافعي، توفي سنة (642هـ) . له ترجمة في سير أعلام النبلاء (23/25) ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/124) . 3 فتح المغيث: (1/296) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 في المسألة ثلاثة أقوال1: الأول: أنه ليس بتعديل له؛ لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل، وهذا هو قول أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم، وصححه ابن الصلاح2، وقال النووي: "هو الصحيح"3. الثاني: أنه تعديل له مطلقاً، وهذا قول بعض أهل الحديث، وبعض أصحاب الشافعي. واحتجوا لهذا القول: بأن العدل لو كان يَعْلَم فيه جرحاً لَذَكَرَهُ. وَرَدَّهُ الخطيب، فقال: "وهذا باطل؛ لأنه يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالته، فلا تكون روايته عنه تعديلا ولا خبراً عن صدقه، بل يروي عنه لأغراض يقصدها. كيف وقد وُجِدَ جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أَمْسَكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم، مع علمهم بأنها غير مرضية، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب في الرواية، وبفساد الآراء والمذاهب"4. ثم ساق - رحمه الله - أمثلة مما وقع فيه ذلك. الثالث: التفصيل؛ فإن كان ذلك العدل الذي روى عنه لا يروي إلا عن عدول، كانت روايته تعديلاً، وإلا فلا. وهذا المختار عند الأصوليين: كالسيف الآمدي، وابن الحاجب وغيرهما5. قال السخاوي: "بل وذهب إليه جمع من المحدثين، وإليه ميل الشيخين، وابن خزيمة في   1 شرح الألفية: (1/320-321) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص53) . 3 التقريب: (ص13) . 4 الكفاية: (ص 150-151) . 5 شرح ألفية العراقي: (1/321-322) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 صحاحهم، والحاكم في مستدركه ... "1. وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - القول الثاني: وهو أن ذلك يكون تعديلاً له مطلقاً؛ فإنه قال: " ... ورواية العدل عن غيره تعديل له، ما لم يعلم فيه جرح"2. وقال مرة في حديث رواه أبو إسحاق السبيعي، عن العالية في بيع العينة: "وأما العالية: فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي، وهي من التابعيات، وقد دَخَلَت على عائشة، وروى عنها أبو إسحاق، وهو أعلمُ بها ... ولا سيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له، والكَذِبُ لم يكن فاشياً في التابعين فُشُوّه فيمن بعدهم"3. ويدلُّ كلامه - رحمه الله - في أكثر من مناسبة على اختياره هذا المذهب وقوله به، فمن أمثلة ذلك: أنه - رحمه الله - استدل على ثقة "سعد بن سعيد"4برواية جماعة من الأَجِلَّةِ عنه، فقال رحمه الله - رداً على من ضَعَّفَه -: " ... لكنه ثقة صدوق ... روى عنه: شعبة، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن جريج، وسليمان بن بلال، وهؤلاء أئمة هذا الشأن"5.   1 فتح المغيث: (1/313) . 2 زاد المعاد: (5/181) . 3 تهذيب السنن: (5/105) . 4 الأنصاري، صدوق سيئ الحفظ. التقريب: (231) . 5 تهذيب السنن: (3/311) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 ومن أمثلة ذلك أيضاً: أنه رد تضعيف مغراء العبدي1 بقوله: "قد روى عنه أبو إسحاق السبيعي على جلالته"2. فهذا هو اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة، وقد تَقَدَّمَ ضعف هذا المذهب وعدمُ صحته، وذلك لأمور، منها: 1- جوازُ أن يكون العدل لا يَعْرِفُ عَدَالة من روى عنه، فلا تكون روايته عنه تعديلاً له ولا خبراً عن صدقه. 2- أن العدل قد يَرْوِي عَمَّن تكون حالُهُ غير مرضية - مع علمه بحاله - ومع ذلك يمسك عن ذكر ذلك وبيانه. أشار إلى هذين الوجهين الخطيب كما تقدم. 3- وأمر ثالث ذكره أبو بكر الصيرفي، وهو: أن الرواية تعريف - أي مطلق تعريف - تزول جهالة العين بها بشرطه. أما العدالة: فلا تثبت إلا بالخبرة، ومجرد الرواية عنه لا تدل على الخبرة3. ولكن: إذا كان العدل قد عُرِفَ بأنه لا يَرْوِي إلا عن ثقة عنده، فهل تكون روايته عَمَّنَ روى عنه تعديلاً له؟ تقدم عند الكلام على المذهب الثالث في هذه المسألة: أن جماعة ذهبوا إليه من الأصوليين والمحدثين، قال الخطيب البغدادي: "إذا قال   1 الكوفي، أبو المخارق، مقبول. التقريب: (542) . 2 الصلاة: (ص119) . 3 فتح المغيث: (1/313) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 العَالِمُ: كل من أروي عنه وأُسَمِّيه فهو عدلٌ رضاً مقبولُ الحديثِ، كان هذا القول تعديلاً منه لكل من روى عنه وسماه"1. وقال الحافظ ابن حجر: "من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن ثقة، فإنه إذا روى عن رجل وصف بكونه ثقة عنده، كمالك، وشعبة، والقطان، وابن مهدي، وطائفة ممن بعدهم"2. وابن القَيِّم - رحمه الله - قد أخذ بهذا القول وأَعْمَلَه؛ فإنه قال في داود بن الحصين: "وروى عنه مالك، وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده"3. وقد جاء عن الإمام مالك - رحمه الله - ما يفيد ذلك، فقد سأله بشر بن عمر الزهراني عن رجل؟ فقال: "رأيته في كتبي؟ " قال: لا. قال: "لو كان ثقة لرأيته في كتبي"4. ولكن هل هذه القاعدة على عمومها في حق كل من قيل فيه إنه لا يروي إلا عن ثقة؟؟ قال الحافظ الذهبي - رحمه الله - عقب مقالة مالك هذه: "فهذا القول يعطيك بأنه لا يروي إلا عَمَّن هو عنده ثقة، ولا يلزم من ذلك أنه يروي عن كل الثقات، ثم لا يلزم مما قال أن كل من روى عنه، وهو   1 الكفاية: (ص154) . 2 لسان الميزان: (1/15) . 3 رسالة في الأحاديث الموضوعة: (ق48/ ب) 4 مقدمة الجرح والتعديل: (ص24) ، وسير أعلام النبلاء: (8/71-72) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 عنده ثقة، أن يكون ثقة عند باقي الحفاظ، فقد يخفى عليه من حال شيخه ما يظهر لغيره، إلا أنه - بكل حال - كثير التَّحَرِّي في نقد الرجال"1. ولهذا قال السخاوي - رحمه الله -: "من كان لا يروي إلا عن ثقة - إلا في النادر -: الإمام أحمد ... ومالك، ويحيى القطان"2. فاحترز بقوله: "إلا في النادر. فظهرَ من ذلك أن هذه القاعدة أغلبية، وليست كُلِّيَّة في حق من قيل ذلك في حقه، وإذا كان كذلك فلا يصحُّ الاعتماد عليها في الحكم بعدالة كل من روى عنه واحد من أولئك الأئمة. ويتلخص من ذلك: أن القول الأول - وهو عدم اعتبار رواية العدل تعديلا لمن روى عنه - هو الصواب والأقرب للاحتياط، كما تقدم بيانه. وأن القول الثاني - وهو الذي اختاره ابن القَيِّم - غير صحيح، والأخذ به ينافي الاحتياط في الرواية. وأما القول الثالث: فهو تَوَسُّطٌ بين القولين، لكن يراعى تقييده وعدم إطلاقه، فيحمل على الغالب في حق من قيل فيه، ولذلك فإنه لا يعمل به بمجرده دون مراعاة أقوال الأئمة الآخرين في الرجل، وغير ذلك من الاعتبارات، كما هو واضح في كلام الذهبي المتقدم، والله أعلم.   1 سير أعلام النبلاء: (8/72) . 2 فتح المغيث: (1/314) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 المطلب الرابع: إذا خالف رأي أو الراوي أو فتواه روايته، هل يوجب ذلك القدح في روايته؟ ... المطلب الرابع: إذا خالفَ رأي الراوي أو فتواه روايته، هل يوجب ذلك القدح في روايَتِهِ؟ وهذه المسألة لها تعلق بالمسألة التي سبقتها - وهي: هل رواية العدل عمن سماه تعديل له؟ - وكذلك هنا: هل فتوى العالم وفق حديث، أو عمله بمقتضاه يوجب تصحيحاً لهذا الحديث، وتعديلاً لرواتِهِ؟؟ وهل عمله أو فتواه على خلافه يوجب ضعفاً لروايته، وقدحاً في رواته؟؟ والذي يعنينا في هذا المقام هو مسألة: مخالفة فتوى الراوي أو عمله لروايته، هل يوجب ذلك ضعفَ روايته؟؟ فقد تناول ابن القَيِّم هذه القضية في مناسبات عدة، واختار: أن ذلك غير قادح ولا مؤثر في صحة حديثه، وبالتالي في عدالة رواته. قال - رحمه الله - في فتوى ابن عباس رضي الله عنهما: ألا يصوم أحد عن أحد، مع أنه راوي حديث الصيام عن الميت1: "فغاية هذا أن يكون الصحابي قد أفتى بخلاف ما رواه، وهذا لا يقدح في روايته؛ فإن روايته معصومة، وفتواه غير معصومة"2. ثم يذكر ابن القَيِّم بعض الأسباب التي قد تحمل الراوي على ترك العمل بروايته، فيقول:   1 صحيح مسلم: (2/804) ح 1148، ك الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت. 2 الروح: (ص 184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 "ويجوز أن يكون قد نسي الحديث، أو تَأَوَّلَه، أو اعتقد له معارضاً راجحاً في ظنه"1. وفي حديث عائشة رضي الله عنها، في أن الْحُرَّةَ تَعْتَدُّ بثلاث حيض، وأنها خالفت ذلك، فقالت: "الأَقْرَاء: الأطْهار". فقد خالف رأيها روايتها، قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ليس هذا بأول حديث خالفه راويه، فَأُخِذَ بروايته دون رأيه"2. وقد ساق - رحمه الله - في (إعلام الموقعين) 3 ما يزيد على عشرين مثالاً لمخالفة رأي الراوي وفتواه لروايته، وقُدِّمَت في كل ذلك روايتُهُ على رَأْيِه. وما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة موافق لما ذهب إليه أئمة هذا الشأن: فقد قال الخطيب البغدادي: "إذا روى رجل عن شيخ حديثاً يقتضي حُكماً من الأحكام، فلم يعمل به، لم يكن ذلك جرحاً منه للشيخ؛ لأنه يحتمل أن يكون ترك العمل بالخبر: - لخبر آخر يعارضه، أو عموم، أو قياس.   1 الروح: (ص 184) . 2 زاد المعاد: (5/611-612) . (3/ 38-39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 - أو لكونه منسوخاً عنده. - أو لأنه يرى أن العمل بالقياس أولى منه، وإذا احتمل ذلك لم نجعله قدحاً في راويه"1. وقال ابن الصلاح: " ... وكذلك مخالفته للحديث، ليست قدحاً منه في صحته، ولا في راويه"2. وقد خالف في ذلك ابن رجب الحنبلي رحمه الله، فإنه قال في آخر كتابه (شرح علل الترمذي) 3: "قاعدة - في تضعيف حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه". ثم قال: "قد ضَعَّفَ الإمام أحمد وأكثر الحفاظ أحاديث كثيرة بمثل هذا". ثم ذكر أمثلة لذلك. وقد حَقَّقَ ابن القَيِّم - رحمه الله - أن في ذلك عن الإمام أحمد روايتين، وذكر أن الراجح عنده في ذلك: الأخذ برواية الراوي دون رأيه، فقال رحمه الله: "وأصل مذهبه، وقاعدته التي بنى عليها: أن الحديث إذا صحَّ لم يَرُدَّه لمخالفة راويه له، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأَمَةِ، فأخذ بروايته: أنه لا يكون طلاقاً، وترك رأيه"4.   1 الكفاية: (ص 186) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص53) . (ص529) . 4 إعلام الموقعين: (3/35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 وقال مرة: "والمشهور عنه: أن العِبْرَة بما رواه الصحابي لا بقوله، إذا خالف الحديث ... "1. فهذا ما يتعلق بالإمام أحمد رحمه الله، وأن عنه في ذلك روايتين، المشهور منهما ما وافق رأى الأكثرين، وهو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله. وأما غيره من الحفاظ الذين قال عنهم ابن رجب إنهم "أكثر الحفاظ": فلم يتبين لي من هم؟ وأما الأحاديث التي ضَعَّفُوها، فإنهم - والله أعلم - لم يضعفوها لمجرد مخالفة راويها لها، بل قد يكونوا ضعفوها لكونها ضعيفة في نفسها، فإذا صح - مع ذلك - عن راويها العمل على خلافها، تَأَكَّدَ حينئذ ضعفها، أما أن تكون هذه الروايات صحيحة في نفسها، ثم يَرُدُّونها لمخالفة راويها لها، ويقدحون بذلك في صحتها: فلا. فَتَلَخَّص من ذلك: أن اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله – في هذه المسألة قد وافق اختيار الخطيب، وابن الصلاح، وابن كثير وغيرهم، وهو الصواب، والله أعلم.   1 إغاثة اللهفان: (1/293) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 المطلب الخامس: هل يشترطُ ذكر سببِ الْجَرْح والتعديل؟ هل يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل؟ وأنه لا بد أن يكون مُفَسَّراً، أم أنهما يقبلان مُبْهَمين غير مفسرين؟ في المسألة مذاهب أربعة: الأول: يقبلُ التعديل من غير ذكر سببه، وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسراً مبين السبب. وهذا مذهب الجمهور من المحدثين وغيرهم. - أما عدم اشتراط التفسير في التعديل: فلأن أسباب التعديل كثيرة يصعب ذكرها؛ إذ لو طُلب إليه ذلك، للزمه أن يقول في حقِّ الْمُعَدَّل: "يفعل كذا وكذا"، فيعد ما يجب عليه فعله. "وليس يفعل كذا ولا كذا" فيعد ما يجب عليه تركه، وهذا لا شك فيه عُسْرٌ ومشقة. أما الجرح: فإنه يحصل بأمر واحد، فلا يشق في الغالب ذكره1. - وأما اشتراطه في الجرح: فلأن الناس مختلفون في أسباب الجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناءً على ما اعتقده جرحاً، وليس هو بجرح في نفس الأمر، فمطالبته إذن ببيان السبب مزيل لهذا المحذور؛ إذ بالنظر في السبب المذكور يُعْرَف ما إذا كان الجرح قادحاً أم لا2. ويؤيد ضرورة ذلك: أنه ربما اسْتُفْسِرَ الجارح عن سبب جرحه، فذكر ما لا يصلح جارحاً، فمن ذلك: أن شعبة قيل له: لم تركت حديث   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) ، وشرح ألفية العراقي، له: (1/300) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص51) ، وفتح المغيث: (1/299) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 فلان؟ فقال: "رَأَيْته يركضُ على بِرْذَوْن، فتركت حديثه"1. ومنه: أن مسلم بن إبراهيم سألوه عن حديث الصالح المُرِّيِّ؟ فقال: "ما يُصْنع بصالح، ذكروه يوماً عند حماد بن سلمة، فامتخط حماد"2. إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا يُعَدُّ الجرح فيها قدحاً في الراوي3. الثاني: عكس الأول، فيجب بيان سبب العدالة، ولا يجب بيان سبب الجرح، قالوا: - لأن أسباب العدالة يكثر التصنع فيها، فيسارع الناس إلى الثناء على الظاهر4. الثالث: أنه لا بدَّ من ذكر أسباب الجرح والتعديل معاً، حكاه الخطيب والأصوليون. قالوا: - فكما يَجْرَحُ الجارح بما لا يقدح، فكذلك الْمُعَدِّل قد يُوَثِّقُ بما لا يقتضي العدالة5؛ كما استدل أحمد بن يونس على عدالة عبد الله العُمَري وثقته بقوله:"لو رأيتَ لحيته، وخضابه، وهيئته، لعرفت أنه ثقة".   1 الكفاية: (ص182) . والبرذون: الدابة، ويطلق على غير العربي من الخيل والبغال، عظيم الخلقة. والجمع: براذين، والأنثى برذونة. (لسان العرب: برذن، والمعجم الوسيط: برذن) . 2 الكفاية: (ص185) . 3 انظر (الكفاية) : (ص181-186) فقد عقد باباً لذلك. 4 شرح ألفية العراقي: (1/303) ، وفتح المغيث: (1/301) . 5 فتح المغيث: (1/302) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وهذا لا شك مما لا يعتمد عليه في إثبات العدالة، قال الخطيب: "لأن حسن الهيئة مما يشترك فيه العدل والمجروح"1. الرابع: عكس الثالث، فلا يجب ذكر السبب في واحد منهما، إذا كان الجارح والمعدل عالماً بأسباب الجرح والتعديل، بصيراً مرضياً في أفعاله واعتقاده2. والراجح من هذه الأقوال: هو القول الأول الذي ذهب إليه الجمهور، قال الخطيب البغدادي: "هو الصواب عندنا، وإليه ذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونُقَّاده، مثل: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري ... "3. وقال ابن الصلاح: "التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور". قال: "وأما الجرح فإنه لا يقبلُ إلا مفسراً مبيَّنَ السبب ... وهذا ظاهرٌ مقررٌ في الفقه وأصوله"4. وقال العراقي: "هو الصحيح المشهور"5. وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - مذهب الجمهور، وصرح به في عدة مواضع، فقال في "عبد الحميد بن جعفر":   1 الكفاية: (ص165) . 2 شرح ألفية العراقي: (1/304) ، وتدريب الراوي: (1/308) . 3 الكفاية: (ص179) . 4 مقدمة ابن الصلاح: (ص50-51) . 5 شرح الألفية: (1/300) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 "وثقَهُ يحيى بن معين في جميع الروايات عنه، ووثقه الإمام أحمد أيضاً، واحتج به مسلم في صحيحه، ولم يُحفَظ عن أحد من أئمة الجرح والتعديل تضعيفه بما يوجب سقوط روايته ... وحتى لو ثبت عن أحد منهم إطلاق الضعف عليه، لم يقدح ذلك في روايته ما لم يُبَيِّن سبب ضعفه، وحينئذ يُنظر فيه: هل هو قادحٌ أم لا؟ "1. فابن القَيِّم - رحمه الله - يؤكد هنا أن الجرح لا يقبلُ إلا مُفَسَّراً، ويذكر تعليل ذلك: بأنه قد لا يكون جرحاً قادحاً مؤثراً، ولا يمكن معرفة ذلك إلا بذكر سببه وتفسيره. ومثال آخر يقرر فيه ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا القول ويؤكده، فيقول في حق "محمد بن عمرو بن عطاء" - وقد نقل عن يحيى بن سعيد تضعيفه له -: " ... تضعيف محمد بن عمرو بن عطاء: ففي غاية الفساد؛ فإنه من كبار التابعين المشهورين بالصدق والأمانة والثقة، وقد وَثقَه أئمة الحديث: كأحمد، ويحيى بن سعيد ... وتضعيف يحيى بن سعيد له - إن صحَّ عنه - فهو رواية، المشهور عنه خلافها، وحتى لو ثبت على تضعيفه فأقام عليه، ولم يبينْ سَبَبَهُ لم يُلْتَفت إليه، مع توثيق غيره من الأئمة له ... "2. ويُبْرِزُ لنا ابن القَيِّم - رحمه الله - ثمرة عدم قبول الجرح إلا   1 تهذيب السنن: (1/360) . 2 تهذيب السنن: (1/360) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 مفسراً وفائدته، وأن ذلك هو السبيل لمعرفة ما إذا كان الجرح قادحاً أم لا، فيقول في تضعيف شعبة "للمنهال بن عمرو" بسماعه صوت طنبور من بيته، أو أنه سمع صوت قراءة بالتطريب: "ومعلوم أن شيئاً من هذا لا يقدح في روايته ... ولعله مُتَأوِّلٌ فيه ... وقد يمكن أن لا يكون ذلك بحضوره، ولا إِذنه، ولا عِلْمه. وبالجملة: فلا يُرَدُّ حديث الثقات بهذا وأمثاله"1. وقال مرة: "وهذا لا يوجب القدح في روايته، واطِّراح حديثه"2. ولما ردَّ ابن حزم رواية "أبي الطفيل، وأبي عبد الله الجدلي" بأنهما كانا في جيش المختار3، وأن الجدلي كان حامل رَايَتِه قال ابن القَيِّم - رحمه الله - يرد عليه: "فَرَدُّ رواية الصاحب، والتابع الثقة بذلك باطل"4. وقد وافقه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - على أن الجرح بمثل هذا ليس بقادح، فقال: "ولا يقدح ذلك فيهما إن شاء الله"5. فهذه الأمثلة وغيرها للجرح غير القادح تُوَضِّح لنا دقة مسلك   1 تهذيب السنن: (7/140) . 2 الروح: (ص64) . 3 الذي أرسله إلى مكة ليمنع ابن الحنفية مما أراد به ابن الزبير. (تهذيب التهذيب 12/148) . 4 تهذيب السنن: (1/117) . 5 تهذيب التهذيب: (12/149) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 الجمهور في اشتراط تفسير الجرح، وبيان سببه. وإذا عرفنا رأيَ ابن القَيِّم - رحمه الله - وطريقته في هذه المسألة، وأنه مع الجمهور في ضرورة تفسير الجرح، وأن التعديل يقبل على الإبهام، فإنه لا يفوتنا أن ننبه على أمر مهم، وهو: هل يُطْلب تفسير الجرح دائماً، وفي كل راوٍ مُجَرَّح، أم أن هناك ضابطاً لهذا الأمر؟ هذا ما أجاب عنه ابن القَيِّم - رحمه الله - حين قال: "وهذا إنما يُحْتَاج إليه - يعني طلب تفسير الجرح - عند الاختلاف في توثيق الرَّجُل وتضعيفه، وأما إذا اتَّفَق أئمة الحديث على تضعيف رجل، لم يُحْتَج إلى ذكر سبب ضعفه. هذا أولى ما يُقَال في مسألة التضعيف المطلق"1. وقد ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - مثل ذلك، إذ قال: "فإنْ خلا المجروح عن التعديل: قُبِل الجرح فيه مُجْمَلاً غير مبين السبب، إذا صَدَرَ من عارف على المختار؛ لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حَيِّزِ المجهول، وإعمال قول الْمُجَرِّح أولى من إهماله"2. وقال مرة: " ... فوجه قولهم: إن الجرح لا يقبل إلا مفسراً: هو فيمن اخْتُلِفَ في توثيقه وتجريحه"3.   1 تهذيب السنن: (1/360) . 2 نزهة النظر: (ص73) . 3 لسان الميزان: (1/ 16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 وهذا الضابط الذي وَضَعَه ابن القَيِّم - رحمه الله - لاشتراط تفسير الجرح، والتفصيل الذي فَصَّلَهُ، ووافقه عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله، استحسنه غيرُ واحد، وعدَّه اللَّكنوي قولاً خامساً في المسألة1، بعد أن قال: " ... لكنه تحقيق مستحسن، وتدقيق حسن"2. فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم قد وافق الجمهور على عدم قبول الجرح إلا مفسراً، ثم أضاف إلى ذلك ضابطاً حسناً، وتفصيلاً دقيقاً، في مسألة طلب تفسير الجرح، وهو: أنه يستغنى عن طلب التفسير في حالة الاتفاق على التضعيف، وهو نفسه الذي عبر عنه الحافظ ابن حجر "بالخلوِّ من التوثيق"، وقد جاء ذلك لبيان أن التفسير لا يشترط طلبُهُ على الإطلاق. وقد تضمن كلامه - رحمه الله - الإشارة إلى حالة تعارض أقوال المعدلين والمجرحين في الراوي، فيطلب حينئذ تفسير الجرح للترجيح، وسيأتي الكلام على تعارض الجرح والتعديل في المطلب التالي.   1 فقد مضى أن في مسألة اشتراط ذكر سبب الجرح والتعديل أربعة أقوال. (انظر ص 541) . 2 الرفع والتكميل: (ص110) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 المطلب السادس: في تعارض الجرح والتعديل إذا تعارض الجرحُ والتعديل في راو، فَجَرَحَهُ جماعة، وعَدَّلَه آخرون، فللعلماء في ذلك أربعة أقوال: الأول: أن الجرح مُقَدَّم مطلقاً، سواء زاد عدد الْمُعَدِّلين على الْمُجَرِّحين، أو نقص عنه، أو استويا. هذا قول الجمهور كما قال الخطيب1، وقال ابن الصلاح: "هو الصحيح"2. وذلك: - لأن مع الجارح زيادة علم لم يَطَّلِع عليها الْمُعَدِّل، فهو قد علم ما علمه المعدل من حاله الظاهرة، وزاد عليه علم ما لم يعلمه من اختبار أمره. - ولأن إخبار الْمُعَدِّل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح فيما أخبر به، فوجب تقديم قول الجارح3. الثاني: إذا كان عدد الْمُعَدِّلين أكثر، قُدِّم التعديل على الجرح. قالوا: - لأن كثرة المعدلين تُقَوِّي حالهم، وتوجب العمل بخبرهم. وقِلَّة الجارحين تضعف خبرهم.   1 الكفاية: (ص 175- 177) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص52) . 3 الكفاية: (ص175) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 قال الخطيب - بعد أن حكى هذا القول عن طائفة -: "وهذا خطأ ... وبُعْدٌ ممن تَوَهَّمَهُ؛ لأن الْمُعَدِّلِين - وإن كثروا - ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون"1. الثالث: يُقَدَّم الأحفظ. نقله السيوطي2 عن البلقيني، وظاهره أنه إذا زاد المعدلون أيضاً. الرابع: أنهما يتعارضان فلا يُرَجَّح أحدهما على الآخر إلا بِمُرَجِّحٍ، نقله العراقي عن ابن الحاجب3، وهذا أيضاً فيما إذا كان عدد المعدلين أكثر، قال السخاوي: "ووجهه: أن مع الْمُعَدِّلِ زيادة قوة بالكثرة، ومع الجارح زيادة قوة بالإطلاع على الباطن"4. والراجح هو مذهب الجمهور، كما تقدم في كلام الخطيب، وابن الصلاح، وقال السيوطي: "هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين"5. ولكن ينبغي عدم القول بتقديم الجرح على التعديل مطلقاً، بل لابد من تقييد ذلك: بكون الجرح مُفَسَّراً مبيناً، من عارفٍ بأسبابه. وإلى هذا أشار الحافظ ابن حجر بقوله: "والجرح مقدم على التعديل، وأطلق ذلك جماعة، ولكن مَحَله: إن صدر مَبَيَّناً، من عارف بأسبابه"6.   1 الكفاية: (ص 177) . 2 تدريب الراوي: (1/310) . 3 شرح الألفية: (1/313) . 4 فتح المغيث: (1/308) . 5 تدريب الراوي: (1/309) . 6 نزهة النظر مع النخبة: (ص73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 وقال السخاوي: "لكن ينبغي تقييد الحكم بتقديم الجرح بما إذا فُسِّرَ ... أما إذا تعارضا من غير تفسير: فالتعديل - يعني مقدم - كما قاله المزي وغيره"1. وقال السيوطي: "وإذا اجتمع في الراوي جرح مفسر وتعديل: فالجرح مقدم، ولو زاد عدد المعدل"2. ولم أقف لابن القَيِّم - رحمه الله - على رأي صريح في هذه المسألة - مسألة تعارض الجرح والتعديل - إلا أن كلامه في المسألة السابقة - مسألة اشتراط تفسير الجرح - يمكن أن يعطينا تصوراً عن رأيه في هذا الموضوع. فقد قَرَّرَ ابن القَيِّم فيما مضى: أن الجرح لا ينبغي قبوله إلا مفسراً، وأن تفسير الجرح إنما يطلب عند الاختلاف في الراوي، وتعارض أقوال المجرحين والمعدلين فيه؛ وذلك للنظر في الأسباب التي أبداها المجرح هل هي قادحة أم لا؟ 3. وبهذا يلتقي قول ابن القَيِّم في هذه المسألة مع قول الجمهور القائلين بتقديم الجرح على التعديل عند التعارض، مع تقييد ذلك بكون الجرح مفسراً، وأسبابه قادحة مؤثرة4.   1 فتح المغيث: (1/307) . 2 تدريب الراوي: (1/309) . 3 انظر كلام ابن القَيِّم المتقدم في ص: (543- 547) . 4 انظر ما تقدم في ص: (548 - 549) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 على أن تقديم الجرح على التعديل، أو إعمال التعديل والإعراض عن الجرح، يكون محكوماً - في بعض الأحيان - ببعض الضوابط والأمور التي ينبغي أن تراعى عند التعرض لهذه المسألة. ونستطيع - من خلال النظر في كلام ابن القَيِّم في الرجال، وتحليل بعض أقواله - أن نستخلص بعض هذه الضوابط وتلك الملاحظات، فمن ذلك: أولاً: أن أقوال الأئمة في الراوي قد تَرِدُ مقيدة، فيجب مراعاة تلك القيود عند التعارض. تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة في أكثر من مناسبة، وبَيَّنَ أن الرجل قد يحتج به فيما رواه عن شيخ، ويترك في شيخ آخر. أو يوثق في روايته عن أهل بلد، ويضعف - هو بعينه - فيما رواه عن أهل بلد آخر. ونَبَّهَ - رحمه الله - على ضرورة مراعاة ذلك في كلام الأئمة وحكمهم على الرواة، وأنه لا ينبغي في مثل ذلك معارضة أقوال بعضهم ببعض، بل يُعمل بكل قول باعتبار. قال رحمه الله -: "وهذه مسألة غير مسألة تعارض الجرح والتعديل، بل يظن قاصر العلم أنها هي، فيعارض قول من جَرَحَهُ بقول من عَدَّلَه، وإنما هي مسألة غيرها، وهي: الاحتجاج بالرجل فيما رواه عن بعض الشيوخ، وترك الاحتجاج به بعينه فيما رواه عن آخر"1.   1 الفروسية: (ص44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 ومن الصور التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - لتلك المسألة: 1- تضعيف حديث الراوي في بعض الشيوخ، وتوثيقه في غيرهم. وذلك أن الراوي يكون ثقة في نفسه، لكنه يُضَعَّف في روايته عن بعض الشيوخ دون بقية شيوخه. ويبيِّن ابن القَيِّم - رحمه الله - أن من الأسباب التي تجعل حديث الرجل ضعيفاً في شيخ بعينه: كونه غير معروف بالرواية عنه، وحفظ حديثه وإتقانه، وملازمته له1. ومن الأمثلة التي وردت عند ابن القَيِّم لهذه الصورة: أ- سفيان بن حسين2عن الزهري: قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "ثقة صدوق، وهو في الزهري ضعيف لا يحتج به؛ لأنه إنما لَقِيَه مرة بالموسم، ولم يكن له من الاعتناء بحديث الزهري، وصحبته، وملازمته له، ما لأصحاب الزهري الكبار: كمالك، والليث، ومعمر، وعقيل، ويونس، وشعيب"3.   1 الفروسية: (ص44) . 2 ابن حسن، أبو محمد أو أبو حسن، الواسطي، ثقة في غير الزهري باتفاقهم، من السابعة /خت م 4. التقريب: (ص244) . 3 الفروسية: (ص44) . وينظر حول ذلك: تهذيب التهذيب: (4/107) ، وهدي الساري: (ص457) ، وشرح علل الترمذي: (ص455) ، والثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم: (ص364-370) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 ب- قبيصة بن عقبة1 عن سفيان الثوري: قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "ومثل هذا: تضعيف قبيصة في سفيان الثوري، واحْتُجَّ به في غيره، كما فَعَل أبو عبد الرحمن النسائي"2. 2- توثيق حديث الرجل في أهل بلد، وتضعيفه في غيرهم. ومثال ذلك عند ابن القَيِّم: - إسماعيل بن عَيَّاش3: قال ابن القَيِّم: " ... وهذا كإسماعيل بن عياش، فإنه عند أئمة هذا الشأن حجة في الشاميين أهل بلده، وغير حجة فيما رواه عن الحجازيين والعراقيين، وغير أهل بلده"4. فالحاصل: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يقرر أنه إذا وجد في الرجل من أمثال هؤلاء جرح وتعديل، فإنه لا يُقَدَّمُ أحدهما على الآخر مطلقاً، بل تارة يقدم الجرح، وتارة يقدم التعديل، وذلك طبقاً للموازين التي مر ذكرها، والتي تضبط إطلاقات الأئمة في هذا الصدد.   1 السوائي، أبو عامر الكوفي، صدوق ربما خالف، مات سنة 215 هـ- /ع. التقريب: (ص453) . 2 الفروسية: (ص 44) . وينظر حول ذلك: تهذيب التهذيب: (8/347) ، وهدي الساري: (ص436) ، والثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم: (ص141-149) . 3 الحمصي، صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم /ى 4 التقريب: (ص109) . 4 الفروسية: (ص44) . وانظر: شرح علل الترمذي: (ص428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 ثانياً: عدم معارضة أقوال أئمة الشأن الْمُعْتَبَرين بقول غيرهم. إذا تعارض قول جماعة من الأئمة المعتبرين، وقول واحد ممن دونهم في هذا الشأن، فإن الأخذ بقول هؤلاء الأئمة - مع علمهم وإمامتهم في هذا الشأن - أولى من الأخذ بقول من دونهم، وكذا من كان مُتَأَخِّراً عنهم زمناً. قال ابن القَيِّم رحمه الله - رَدًّا على ابن حزم في تضعيفه عمرو بن شعيب -: "وإذا تَعَارَضَ معنا في الاحتجاج برجل قولُ ابن حزم، وقول: البخاري، وأحمد، وابن المديني، والْحُمَيدي، وإسحاق بن راهويه وأمثالهم، لم يُلْتَفَت إلى سواهم"1. وقال مرة في ابن إسحاق - وقد نقل عن ابن عيينة قوله: ما سمعت أحداً يتكلم في ابن إسحاق إلا في قوله في القدر -: "ولا ريب أن أهل عصره أعلم به ممن تكلم فيه بَعْدَهُم"2. فهكذا نجد ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّر: أن مَتَانَة الإمام الْمُتَكَلِّم في الرجل، ورسوخ قدمه، وطول باعه في الفَنِّ، مع مُعَاصَرَتِهِ للراوي - أو قرب عهده به - أَدْعى إلى تقديم قوله على قول غيره ممن ليس بهذه المثابة. ثالثاً: مراعاة صحة سند القول المنسوب إلى أئمة الجرح والتعديل. قد يَرِدُ قول لا يصح سنده إلى الإمام المنسوب إليه، فلا يجوز   1 زاد المعاد: (5/456) . 2 تهذيب السنن: (7/95) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 حينئذ اعتماد هذا القول قي الترجيح عند التعارض؛ لأنه - والحالة هذه - كعدمه. فمن ذلك: حكاية تكذيب محمد بن إسحاق، من رواية سليمان ابن داود، قال: قال لي يحيى بن سعيد القطان: أشهد أن محمد بن إسحاق كَذَّاب. قلت: وما يدريك؟ قال: قال لي وهيب بن خالد. فقلت لوهيب: ما يدريك؟ قال: قال لي مالك بن أنس. فقلت لمالك بن أنس: ما يدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة. قلت لهشام بن عروة: وما يدريك؟ قال: حَدَّثَ عن امرأتي فاطمة ابنة المنذر، ودَخَلَتْ عليَّ وهي ابنة تسعِ سنين، وما رآها حَتَّى لَقِيَتْ الله. قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "إن سليمان بن داود - رَاوِيها عن يحيى - هو: الشاذكوني، وقد اتُّهِم بالكذب، فلا يجوز القدح في الرجل بمثل رواية الشاذكوني"1. وقد وافق الذهبيُّ ابنَ القَيِّم على تكذيب هذه الحكاية، فقال: "معاذ الله أن يكون يحيى وهؤلاء بدا منهم هذا بناءً على أصل فاسدٍ واهٍ، ولكن هذه الخرافة من صَنْعَةِ سليمان، وهو الشاذكوني - لا صَبَّحَه الله بخير -؛ فإنه مع تَقَدُّمه في الحفظ مُتَّهَمٌ عندهم بالكذب، وانظر كيف سلسل الحكاية؟! "2.   1 تهذيب السنن: (7/ 97) . 2 سير أعلام النبلاء: (7/49) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 فهكذا ينبهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أنه لا يُعْتَمَد على جرح لا يصح سنده، فَيُعَارَض به أقوال الأئمة الآخرين ممن وَثقَ الرَّجُلَ. وبعد، فهذه بعض الضوابط التي تيسر الوقوف عليها من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - فيما يتعلق بمسألة تعارض الجرح والتعديل، والتي ينبغي التنبه لها عند الوقوف على أقوال متعارضة للأئمة في الرجل، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 المطلب السابع: في حكم رواية الْمُبْتَدِعِ مناسبة الكلام على رواية المبتدع في مبحث الجرح والتعديل: أن "البِدْعَةَ" من أسباب الطَّعْنِ في الراوي وجرحه، وبالتالي رَدِّ حديثه بشروطه. والبدعة إما أن تكون مُكَفِّرةً، أو غير مكفرةٍ. فالبدعة المكفرة1: الجمهور على عدم قبول رواية صاحبها، قال النووي: "مَنْ كَفَر ببدعته لم يحتج به بالاتفاق"2. وقال ابن كثير: "المبتدع إن كفر ببدعته، فلا إشكال في ردِّ روايته"3. واختار الحافظ ابن حجر - رحمه الله - التفصيل في ذلك، فقال: "والتحقيق: أنه لا يُرَدُّ كل مُكَفَّرٍ ببدعته ... فالمعتمد: أن الذي تُرَدُّ روايته: من أَنْكَرَ أمراً متواتراً من الشرع، معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه. فأما من لم يكن بهذه الصفة، وانضم إلى ذلك ضَبْطُه لما يرويه، مع وَرَعِهِ وتقواه: فلا مانع من قبوله"4.   1 قال ابن حجر: "لا بد أن يكون ذلك التكفير متفقاً عليه من قواعد جميع الأئمة، كما في غلاة الروافض من دعوى بعضهم حلول الإلهية في عليٍّ أو غيره، أو الإيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة، أو غير ذلك". هدي الساري (ص 385) ، وانظر: فتح المغيث: (1/332 - 333) . 2 التقريب: (ص13) . 3 اختصار علوم الحديث: (ص99) . 4 نزهة النظر: (ص50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 وَسَبَقَهُ إلى هذا المعنى ابنُ دقيق العيد، فقال: "والذي تَقَرَّرَ عندنا: أنه لا تُعْتَبَرُ المذاهب في الرواية؛ إذ لا نُكَفِّرُ أحداً من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة. فإذا اعتقدنا ذلك، وانضم إليه التقوى والورع والضبط والخوف من الله تعالى، فقد حصل معتمد الرواية ... "1. وأما البدعة غير الْمُكَفِّرة: فللعلماء في قبول رواية صاحبها أقوال: أولها: عدم قبولها مطلقاً: قالوا: لأن في الرواية عنه ترويجاً لأمره، وتنويهاً بذكره. وقد رَدَّ العلماء هذا القول، قال ابن الصلاح: "بعيدٌ مباعد للشائع عن أئمة الحديث؛ فإن كُتُبَهُم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة ... "2. وقال ابن حجر: "وهو بعيد"3. الثاني: تقبل مطلقاً ما لم يكن مُسْتَحِلاًّ للكذب لنصرةِ مذهبه. قالوا: لأن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه4. وعزاه بعضهم للشافعي، لقوله: "أقبلُ شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم"5.   1 الاقتراح: (ص333-334) . 2 مقدمة ابن الصلاح: (ص55) . 3 نزهة النظر: (ص50) . 4 المصدر السابق. 5 مقدمة ابن الصلاح: (ص54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 الثالث: التفصيل، فتقبل رواية من لم يكن داعية إلى بدعته، ولا تقبل رواية الداعية. وهذا مذهب الأكثرين من العلماء، قال ابن الصلاح: "وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولاها"1. وَفَصَّل ابن حجر - رحمه الله - في غير الداعية أيضاً، فقال: "الأكثر على قبول غير الداعية، إلا إنْ روى ما يقوِّي بدعته فَيُرَدُّ على المذهب المختار"2. وبالنظر إلى استبعاد الأئمة للمذهب الأول، فإنه يتحصل لدينا من مجموع المذهبين الباقيين أن رواية المبتدع تُقبل بشروط ثلاثة: 1- أن يكون صاحبُها ممن لا يستحل الكذب لنصرة مذهبه، فيقبلُ أهلُ الصدق منهم. 2- أن يكون غير دَاعِيَةٍ إلى بدعته. 3- أن لا يروي ما يؤيد بدعته ويوافقها ويُقَوِّيها. وقد عرض ابن القَيِّم - رحمه الله - لهذه القضية في مناسبات مختلفة، والذي يظهر من مجموع كلامه: هو القول بقبول رواية المبتدع بالشروط التي مر ذكرها. فمن كلامه - رحمه الله - في قبول رواية أصحاب البدع غير المكفرة:   1 مقدمة ابن الصلاح: (ص55) . 2 نزهة النظر: (ص51) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 "وقد رُمِي جماعة من الأئمة الْمُحْتَجِّ بروايتهم بالقدر: كابن أبي عروبة، وابن أبي ذئب، وغيرهما. وبالإرجاء: كَطَلْق بن حبيب وغيره، وهذا أشهر من أن يذكر نظائره، وأئمة الحديث لا يردون حديث الثقة بمثل ذلك"1. وقال مرة: "رواية أهل البدع مقبولة، فكم في الصحيح من رواية الشيعة الغلاة، والقدرية، والخوارج، والمرجئة، وغيرهم ... ؛ إذ مجرد كونهم شيعة لا يوجب رد حديثهم"2. يعني: إذا لم يكن داعية، ولم يرو ما يؤيد بدعته؛ فإن ما خُرِّجَ في الصحيح من رواية هذا الضرب، محمول على هذا3. ومقصوده بالشيعة الغلاة: من كان من هؤلاء في زمان السلف، وهم يختلفون عمن وجد منهم في الأزمنة المتأخرة، قال الذهبي رحمه الله: "فالشيعي الغالي في زمان السلف وَعُرْفِهم: هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه، وتَعَرَّض لِسَبِّهم. والغالي في زماننا وعرفنا: هو الذي يُكَفِّرُ هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضالٌّ مُعَثَّرٌ"4.   1 تهذيب السنن: (1/361) . 2 تهذيب السنن: (3/101) . 3 انظر: هدي الساري: (ص385) . 4 الميزان: (1/ 6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 واعتبر - رحمه الله - التشيع الغالي في عهد السلف من البدع الصغرى، وأنه لا يُتْرَكُ حديثهم. وأما الرَّفْضُ الكامل، والحطُّ على الشيخين فقد عَدَّه بدعةً كبرى، فلا يحتج بأصحابها ولا كرامة1. وقد جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - ما يؤكد عدم قبوله رواية المبتدع إذا روى ما يؤيد بدعته، فإنه - رحمه الله - قال عن الأجلح بن عبد الله - وكان شيعياً -: "وأما حديث الأجلح بن عبد الله بن أبي الهذيل، عن علي رضي الله عنه، أنه قال: "ما أعرف أحداً من هذه الأمة عَبَدَ الله بعد نَبِيِّهَا غَيْري، عبدتُ الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين": فالأجلح وإن كان صدوقاً، فإنه شيعي، وهذا الحديث معلوم بطلانه بالضرورة؛ فإن علياًرضي الله عنه لم يعبد الله قبل جميع الصحابة سبع سنين"2. فتبين من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يتفق مع أكثر العلماء وجمهورهم في قبول رواية المبتدع بشروطها، كما دل عليه كلامه الذي نقلناه عنه.   1 الميزان: (1/5-6) . 2 أحكام أهل الذمة: (2/505) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 المطلب الثامن: في ذكر فوائدَ متفرقة في الجرح والتعديل الفائدة الأولى: في عدم جواز ذكر الجرح في الرجل، والسكوت عن التعديل. من المعلوم أنه إذا كان الراوي فيه جرح وتعديل، فإنه لابد لمن يتعرض للكلام فيه - مُصَنِّفاً كان أم ناقلاً - أن يَذْكر كل ما قيل فيه جرحاً وتعديلاً، لا أن يذكر الجرح ويُعْرض عن التعديل، أو يذكر التعديل ويسكت عن الجرح. ولا شك أن هذا الصنيع مذموم مِنْ فاعله؛ إذ يترتب عليه - في الحالة الأولى وهي: ذكر الجرح - ظن من لا معرفة له بهذا الشأن أن هذا الراوي مجمع على ضعفه، فيبني على ذلك حُكْمَهُ بِرَدِّ حديثه، وإسقاط روايته. ولذلك فقد عاب الحافظ الذهبي - رحمه الله - ابن الجوزي لسلوكه هذا المسلك في كتابه (الضعفاء) ، فقال في ترجمة أبان بن يزيد العطار: "وقد أورده - أيضاً - العلامة أبو الفرج بن الجوزي في الضعفاء، ولم يذكر فيه أقوال من وَثَّقَه. وهذا من عيوب كتابه: يسرد الجرح، ويسكتُ عن التوثيق"1. ولما طَعَنَ الكوثري في "أسد بن موسى" بنقله كلام ابن حزم في جرحه، وسكوته عن نقل كلام من وَثَّقَهُ، كشف حاله العلامة المعلمي في (التنكيل) 2. ثم قال: "وقد أساء الأستاذ إلى نفسه جداً؛ إذ يقتصر على   1 الميزان: (1/16) . وانظر: تهذيب التهذيب: (1/102) . (1/206) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 كلمة ابن حزم في صدد الطعن، مع علمه بحقيقة الحال، ولكن! ". ولقد بَيَّنَ ابن القَيِّم - رحمه الله - رأيه في هذه القضية بوضوح، ونَبَّه على خطورة هذا المسلك، وذلك عند كلامه على حديث عبد الله ابن أنيس في كلام الله - عز وجل - بصوت، ومحاولة بعضهم إعلاله بضعف عبد الله بن محمد بن عقيل، والقاسم بن محمد، فقال رحمه الله: "ولا التفاتَ إلى ما أعلَّه به بعض الجهمية ظلماً منه وهضماً للحق، حيث ذكَر كلام الْمُضَعِّفين لعبد الله بن محمد بن عقيل، والقاسم بن محمد، دون من وَثقَهُمَا وأثنى عليهما، فيوهم الغِرَّ1 أنهما مجمعٌ على ضَعْفِهِمَا لا يحتجُّ بحديثهما"2. الفائدة الثانية: في أن ثقة الراوي لا تعني صحة كل ما روى. إذا حَكَم الأئمة للراوي بأنه ثقة، فهل يعني ذلك بالضرورة صحة كل حديث رواه؟ وهذا السؤال يدعونا إلى سؤال آخر، وهو: هل الراوي الذي حُكِمَ له بالثقة لا يجوز عليه الخطأ والوهم؟ وهذان السؤالان مرتبطان تمام الارتباط، وسأحاول الجواب عنهما بشيء من البيان، وذلك من خلال تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - للمسألة.   1 رجل غِرٌّ - بالكسر - وغَرِيرٌ: أي غيرُ مُجَرِّبٍ. (مختار الصحاح: ص471) . 2 مختصر الصواعق: (2/ 404) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 فقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه القضية في أكثر من مناسبة، وأكد أن الثقة قد يغلط ويهم، وتقع العلل في حديثه، فقال رحمه الله: " ... فإن الثِّقَةَ قد يغلط وَيَهِمُ، ويكون الحديثُ من حديثه معلولاً عِلَّة مؤثرة فيه، مانعة من صحته"1. ويؤكد - رحمه الله - هذا المعنى في مناسبة أخرى، فيقولُ - عند الكلام على من وَهِمَ في تحريم متعة النساء، وقال: إنها حُرِّمَت عام حجة الوداع -: "وهو وهم من بعض الرواة، سَافَرَ فيه وهمه من فتحِ مكة إلى حجة الوداعِ ... وَسَفَرُ الوهمِ من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن واقعة إلى واقعة، كثيراً ما يَعْرِضُ للحُفَّاظِ فمن دونهم"2. وقد تناول الحافظ الذهبي - رحمه الله - هذه القضية أيضاً، فكان مما قال - في معرض رَدِّه على العقيلي لإدخاله عليّ بن المديني في كتاب (الضعفاء) -: "وأنا أشتهي أن تُعَرِّفَني: من هو الثَّقَةُ الثَّبْتُ الذي ما غَلِطَ ولا انفرد بما لا يُتَابَعُ عليه، بل الثقةُ الحافظ إذا انفردَ بأحاديث كان أَرْفَعَ له، وأكمل لرُتْبَتِهِ، وأدلَّ على اعتنائه بعلم الأثر ... "3. وقال أيضاً: " ... ولا مِنْ شرط الثقة: أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ"4.   1 رسالة الموضوعات: (ق 39/ أ) . 2 زاد المعاد: (3/459) . 3 الميزان: (3/140) . 4 المصدر السابق: (3/141) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 فإذا تَقَرَّر ذلك، فإنه لا ينبغي الحكم على كل حديث بالصحة بمجرد توثيق الأئمة لراويه، بل ينبغي مراعاة كون هذا الحديث مما لا علة له، ويكون خالياً من الشذوذ والنكارة. ويشيرُ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى الغلط الحاصل للبعض نتيجة لهذا التصور الخاطئ فيقول: " ... أن يرى مثل هذا الرجل قد وُثِّقَ وشُهِدَ له بالصدق والعدالة، أو خُرِّجَ حديثه في الصحيح، فيجعلُ كلَّ ما رواه على شرط الصحيح. وهذا غلط ظاهر؛ فإنه إنما يكون على شرط الصحيح: إذا انتفت عنه العلة، والشكوك، والنكارة، وتوبع عليه ... "1. ثم يستدل - رحمه الله - على أنَّ توثيق الراوي، وإخراجَ حديثه في الصحيح لا تناقض بينه وبين تخطئتِهِ أحياناً، وإعلال حديثه، بقوله: "فالبخاري يُوَثِّقُ جماعة، ويُعَلِّلُ هو بعينه بعضَ حديثهم، ويُضَعِّفُهُ، وكذلك غيره من الأئمة، ولا تنافي عندهم بين الأمرين، بل هذا عندهم من علم الحديث، وفقه علله، التي بها يُمَيِّزُهُ نُقَّاده وأطباؤه"2. ويقول أيضاً - في الرد على من جَعَلَ كل راوٍ أخرج له مسلم واحتج به على شرطه في كل حديث يرويه -: "فإن مسلماً إذا احتج بثقة، لم يلزمه أن يصحح جميع ما رواه3، ويكون كل ما رواه على شرطه؛ فإن الثقة قد يَغْلَطُ ويَهِمُ،   1 الفروسية: (ص 45) . 2 الفروسية: (ص 52-53) . 3 يعني الراوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 ويكون الحديث من حديثه معلولاً علة مؤثرة فيه، مانعة من صحته، فإذا احتج بحديث من حديثه غير معلول، لم يكن الحديث المعلول على شرطه"1. فتبين بعد هذا العرض: أن الثقة جائز عليه الوهم والغلط، وما دام الأمر كذلك، فلا مانع من إعلال ما تَبَيَّنَ أنه أخطأَ فيه، ولا يُجْعَلُ هذا المعلول صحيحاً اعتماداً على مجرد ثقة هذا الراوي، والله أعلم. الفائدة الثالثة: إذا أخطأ الراوي في حديث، فإن ذلك لا يُوجِبُ جَرْحاً لازماً له. وهذه المسألة لها صلة بالتي مضت، وهي على العكس منها: هل تضعيف الحديث بكون الراوي أخطأ فيه يورثه جرحاً لازماً له لا ينفك عنه، فَيُرَدُّ بذلك كل حديث رواه، حتى ولو كان صحيحاً سالماً من الخطأ؟ فقد تقرر فيما سبق: أن الثقة يغلط، وأن الحُكْمَ بثقتِهِ لا يمنعُ إعلال ما أخطأ فيه أو وهم، وكذلك الحال هنا: فإن إعلال حديث أخطأ فيه الثقة أو وهم، لا يجعله مجروحاً، ولا يجعل كل حديث له مردوداً. فكما أَنَّا في الحالة الأولى لم نعتبر ثقة الراوي فيما أخطأ فيه، فكذلك الأمر هنا: لا نعتبرُ خطأه مُؤَثِّراً فيما أصاب فيه، ووافَقَ فيه غَيْرَهُ. وقد تناولَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة عند كلامِهِ على المسألة التي سبقتها، فَبَيَّنَ - رحمه الله - أن ذلك يقعُ ممن لا نظر عنده،   1 رسالة الموضوعات: (ق 39/ أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 وممن قصر ذوقه وفهمه عن ذوق وفهم أئمة العلل في نقدهم للمرويات، ثم بين غلط من يقع في ذلك، فقال: "النوع الثاني من الغَلَطِ: أن يَرَى الرَّجُلَ قد تُكُلِّمَ في بعض حديثه، وضُعِّفَ في شيخ أو في حديث، فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجده، كما يفعله بعض المتأخرين من أهل الظَّاهر وغيرهم"1. وقال مرة: "والطائفة الثانية: يرون الرجل قد تُكُلِّمَ فيه بسبب حديث رواه، وضُعِّفَ من أجله، فيجعلون هذا سبباً لتضعيف حديثه أين وجدوه، فيضعفون من حديثه ما يجزم أهل المعرفة بصحته"2. ثم يُقَرِّرُ - رحمه الله - الصواب في ذلك، فيقول: "كون الرجل يخطئ في شيء، لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه"3. وقال أيضاً: "وأئمة الحديث على التفصيل والنقد، واعتبار حديث الرجل بغيره، والفرق بين ما انفرد به أو وافق فيه الثقات"4. ولقد نبه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - على هذه القاعدة الجليلة النافعة، فقال:   1 الفروسية: (ص45) . 2 تهذيب السنن: (5/326) . 3 تهذيب السنن: (3/312) . 4 الفروسية: (ص45) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 "فإذا جُرِحَ الرجل بكونه أخطأ في حديث أو وهم أو تفرد، لا يكون ذلك جرحاً مُسْتَقَراً، ولا يُرَدُّ به حديثه"1. ومن الأمثلة الظاهرة لإيضاح هذه القاعدة وبيانها عند ابن القَيِّم رحمه الله: كلامه عن "عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي" - وقد تُكُلِّم فيه من أجل حديث الشفعة - فقال رحمه الله: "عبد الملك أجلُّ وأوثق من أن يُتَكَلَّمَ فيه، وكان يُسَمَّى "الميزان" لإتقانه وضبطه وحفظه، ولم يتكلمْ فيه أحدٌ قطُّ إلا شعبة، وتكلم فيه من أجل هذا الحديث - يعني حديث الشفعة - وهو كلام باطل. فإنه إذا لم يضعفه إلا من أجل هذا الحديث، كان ذلك دوراً باطلا؛ فإنه لا يثبت ضعف الحديث حتى يثبت ضعف عبد الملك، فلا يجوز أن يستفاد ضعفه من ضعف الحديث ... ؛ فإن الرجل من الثقات الأثبات الحفاظ، الذين لا مَطْمَحَ للطعن فيهم، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخَرَّجَ له عدة أحاديث ... "2. وثمة مثال آخر، وهو ما جاء عن ابن حبان - رحمه الله - في تضعيف "بهز بن حكيم" بسبب روايته حديث "إنا آخذوها وشطر إبله"، وقوله: بأنه لولا هذا الحديث لأدخله في الثقات. فَرَدَّه ابن القَيِّم - رحمه الله - بقوله: "كلام ساقط جداً؛ فإنه إذ لم يكن لضعفه سبب إلا روايته هذا الحديث، وهذا الحديث إنما رُدَّ لضعفه، كان هذا دوراً   1 لسان الميزان: (1/ 17- 18) . 2 تهذيب السنن: (5/ 166 - 167) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 باطلاً ... وهذا غير موجب للضعف بحال"1. فالحاصل: أن خطأ الراوي في حديث، لا يقضي عليه بالضعف، ولا يُجعل في عداد المجروحين بسبب ذلك، وبخاصة إذا لم يكن هناك سبب لضعفه سوى روايته لهذا الحديث، والله أعلم. الفائدة الرابعة: لا يلزمُ من كون الراوي لم يُذْكَر في "الصحيحين" أن يكون مجروحاً. هل من لم يُخَرَّج عنه في "الصحيحين" يكون مجروحاً؟ من المعلوم المقرر: أن البخاريَّ ومسلماً - رحمهما الله - لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما، وذلك باعترافهما وإقرارهما2. وما دام الأمر كذلك، وأنه بقيت أحاديث صحيحة كثيرة خارج كتابيهما، فإنه - وتبعاً لذلك - قد بقي رواة كثيرون ثقات عدول لم يخرج عنهم في "الصحيحين". قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "ومن الثقات الذين لم يُخَرَّجْ لهم في "الصحيحين" خَلْقٌ، منهم: من صَحَّحَ لهم الترمذي وابن خزيمة ... "3. فإذا تقرر ذلك، فإنه لا يلزم من كون الراوي غير مخرج له في "الصحيحين"، أو أحدهما، أن يكون مجروحاً. وقد أكد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى، فقال في شأن   1 تهذيب السنن: (2/194) . 2 انظر مقدمة ابن الصلاح: (ص10) . 3 الموقظة: (ص 81) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 "يعقوب بن عتبة" - وقد حاول بعضهم تضعيف حديث بكونه تفرد به، وأنه ليس ممن خرج له في الصحيحين -: "هذا ليس بِعِلَّةٍ باتفاق المحدثين؛ فإن يعقوب بن عتبة لم يُضَعِّفْهُ أحد، وكم من ثقة قد احتجوا به وهو غير مخرج عنه في الصحيحين"1. ومثل هذا قول الذهبي - رحمه الله - في ترجمة أشعث بن عبد الملك الحمراني من "ميزانه"2: "إنما أوردته لذكر ابن عدي له في "كامله"، ثم إنه ما ذَكَرَ في حقه شيئاً يدلُّ على تليينه بوجه، وما ذكره أحد في كتب الضعفاء أبداً. نعم ما أخرجا له في "الصحيحين"، فكان ماذا؟ ". وهذا واضحٌ بَيِّن، والله تعالى أعلم. الفائدة الخامسة: في عدم الاعتماد في الرواية على الصالحين والزُّهَّاد. إنَّ الغالب على أمثال هؤلاء - ممن اشتهروا بالصلاح والزهد والعبادة - الغلط والوهم في الحديث. كما قال ابن رجب3 رحمه الله. وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على أنه لا ينبغي الاغترار بصلاح الرجل وتقواه وزهده، إن لم يكن معروفاً بحمل الحديث   1 تهذيب السنن: (7/ 98) . (1/ 267) . 3 شرح علل الترمذي: (ص480) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 وحفظه وإتقانه؛ إذ إن صلاحه وزهده لا يلزم منه أن يكون ثقة في الحديث، فقال: " ... فقد يكون الرجل صالحاً، ويكون مُغَفَّلاً: ليس تَحَمُّلُ الحديث، وحفظُهُ، وروايته من شأنه"1. وعقد الحافظ الخطيب - رحمه الله - في "كفايته"2 باباً للتنبيه على ذلك، فقال: "باب ترك الاحتجاج بمن لم يكن من أهل الضبط والدراية، وإن عُرِفَ بالصلاح والعبادة". ثم ذكر تحت هذا الباب جملة من الأخبار عن أهل العلم في التنبيه على ذلك، منها قول يحيى بن سعيد: "ما رأيت الصالحين في شيء أشد فتنة منهم في الحديث"3. ونقل ابن رجب عن أبي عبد الله بن منده قوله: "إذا رأيت في حديث: حدثنا فلان الزاهد، فاغسل يدك منه"4. ولكن، لا يعني ذلك أنَّ أهلَ الحديث وحُفَّاظَهُ وجهابذته ليسو من أهل الصلاح والعبادة، ولكن المقصود: من لم يكن من أهل الحفظِ والإتقانِ منهم.   1 زاد المعاد: (5/540) . (ص 247) . 3 الكفاية: (ص 247) . 4 شرح علل الترمذي: (ص480) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 المبحث الثاني: في بيان منهج ابن القيم في الجرح والتعديل المطلب الأول: في مكانة ابن القيم ـ رحمه الله ـ في نقد الرجال ... المبحث الثاني: في بيان منهج ابن القَيِّم في الجرح والتعديل والغرض من هذا المبحث: إبرازُ الناحية العملية التطبيقية في الجرح والتعديل عند ابن القَيِّم، مع بيان ما اتَّسَم به منهجه في هذا الباب، ودراسة بعض عباراته في الحكم على الرجال، مع محاولة عَرْضِ نماذج من الرجال الذين تكلم فيهم بجرح أو تعديل من سائر كتبه التي وقفت عليها ونظرت فيها. وقد رأيت أن يكون الكلام في هذا المبحث مشتملاً على عدة مطالب: المطلب الأول: في مكانة ابن القَيِّم -رحمه الله - في نقد الرجال. المطلب الثاني: في منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال. المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل. المطلب الرابع: في ذكر بعض الفوائد المتفرقة في الرجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 المطلب الأول: مكانةُ ابن القَيِّم في نقدِ الرِّجَال لقد خاضَ ابن القَيِّم - رحمه الله - غمار هذا الفن بعد أن استقرت قواعده، وَدُوِّنَت أقوال الجهابذة النقاد في الرجال جرحاً وتعديلاً، فلم يبق أمام من جاء بعد: إلا النظر في أقوال المتقدمين، والاعتماد عليها في الحكم على الرواة. وبذلك بقيت جهود المتأخرين - ممن صَنَّفَ في الرجال - محصورة في: تهذيب هذه المؤلفات السابقة واختصارها، أو الجمع بينها، ونحو ذلك من فنون التصنيف وأغراضه المختلفة. ولكن ذلك لا يمنع من القول: بأنه قد بَرَزَتْ - أيضاً - جهود لبعض الجهابذة النقاد، الذين كان لهم أثرٌ واضحٌ في تحرير وتنقيح الكثير من قواعد هذا الفن، ووضع كل راو في مرتبته اللائقة به، والترجيح بين الأقوال المختلفة في الراوي، إلى غير ذلك من الجهود الموفقة في هذا الباب. وكان على رأس هؤلاء الأئمة: الحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى. وعلى الرغم من قيام هذه المحاولات العديدة في زمن ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أنه لم يضع كتاباً في الرجال، وإنما جاءت أقواله وإفاداته منثورة في أثناء كتبه، عند كلامه على الأحاديث. ولكن عدم وجود مُصَنَّفٍ لابن القَيِّم في هذا الباب لا يَنْفِي أن له فيه مشاركة فعالة، فقد كانت له شخصيته الواضحة المتميزة، وإسهاماته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 العديدة في الكلام على الرجال جرحاً وتعديلاً، بحيث لو جُمِعَت أقواله المنثورة في أثناء كتبه، لأعطت صورة حقيقية عن جهد ابن القَيِّم وإفاداته في هذا الباب، ولجاءت مرجعاً لا يُستهان به في هذا الفن. والذي يَهُمُّنَا في هذا المقام: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - بالرغم من وجود هذا القدر الهائل من المؤلفات في الرجال، واطِّلاعه عليها، وإفادته منها، لم يكن مجرَّد ناقلٍ لأقوال غيره فحسب، وإنما كانت له شخصيته النقدية المتميزة، الأمر الذي أعطى لأحكامه النقدية قِيمة حقيقية، وفائدة لا يمكن إغفالها. وتتلخص أهمية أقوال ابن القَيِّم في الجرح والتعديل وأحكامه فيما يلي: 1- اجتهاد ابن القَيِّم - رحمه الله - في شأن بعض الرواة المختلف فيهم جرحاً وتعديلاً، بحيث أعطى لنا - بعد الدراسة والنظر - حُكْماً في هؤلاء: إما بترجيح أحد الأقوال على غيره، أو بالجمع بين تلك الأقوال المتعارضة. فمن أمثلة ما قام فيه بالترجيح: ما جاء في كلامه على "زيد بن الحواري"، فإنه نقل فيه اختلاف العلماء، ثم رجح جانب التعديل، فقال: "وحسبه رواية شعبة عنه"1. وقال عن "سعد بن سعيد الأنصاري" مرجحاً تعديله:"ثقة   1 حادي الأرواح: (ص272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 صدوق روى له مسلم، وروى عنه: شعبة، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن جريج، وسليمان ابن بلال. وهؤلاء أئمة هذا الشأن"1. ويرجح - رحمه الله - جانب توثيق "عمرو بن شعيب"، فيقول عند كلامه على حديث سقوط الحضانة بالتزويج: "وقد صَرَّح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو - يعني في الحديث المذكور -، فبطل قول من يقول: لعله محمد والد شعيب، فيكون الحديث مرسلاً. وقد صحَّ سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، فبطل قول من قال: إنه منقطع، وقد احتجَّ به البخاري خارج "صحيحه" ونصَّ على صحة حديثه، وقال: كان عبد الله بن الزبير الحميديُّ، وأحمد، وإسحاق، وعلي بن عبد الله يحتجون بحديثه، فمن الناس بعدهم؟! "2. وقال عن عكرمة: "فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه"3. 2- بيان ابن القَيِّم - رحمه الله - مرتبة كثير من الرواة في عبارة موجزة جامعة، وقد يكون ذلك: بكلمة أو كلمتين أو أكثر، وذلك نتيجة دراسته لأقوال العلماء ونظره فيها، ثم الخروج بهذا الحكم المختصر الجامع. ولاشكَّ أن لذلك فائدةً كبيرة، وبخاصة لمن يريد الحكم في الراوي   1 تهذيب السنن: (3/311) . 2 زاد المعاد: (5/ 434) . 3 إغاثة اللهفان: (1/296) ، وسيأتي مزيد كلام على ذلك عند منهجه في الجرح والتعديل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 خالصاً، دون الدخول إلى تلك الكتب المطولة، والبحث فيها. وهذه الأحكام المختصرة المعتصرة تُمَثِّل جانباً كبيراً من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، ومن أمثلة ذلك: قوله في الراوي: "ثقة"1، أو: "ضعيف"2، أو: "لا يحتج به"3. أو: "متروك"4، إلى غير ذلك من الأحكام التي صاغها - رحمه الله - بعد دراسة الرجل، مختصراً بذلك تلك الأقوال المتعددة التي قيلت فيه. 3- اعتماد بعض الأئمة الحفاظ على أقوال ابن القَيِّم في الجرح والتعديل؛ كالحافظ ابن حجر رحمه الله، فقد نقل عنه في (لسان الميزان) 5 في ترجمة "العلاء بن إسماعيل العطار"، حيث قال فيه: "مجهول". ونقل عنه أيضاً في: (تهذيب التهذيب) 6، في ترجمة عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي، فقال: "قال أبو عبد الله بن القَيِّم في كتاب "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم": مجهول لا يعرف في غير هذا الحديث، ولم يذكره أحد من المتقدمين". ولا شك أن نقل مثل ابن حجر - مع سعة اطلاعه، وطول باعه في هذا الفن - عن ابن القَيِّم رحمه الله، لَيُعَدُّ دليلاً على القِيمة العلمية لإسهامات ابن القَيِّم وأقواله في نقد الرجال.   1 زاد المعاد: (5/511) . 2 تهذيب السنن: (1/59) ، (3/217) . 3 زاد المعاد: (2/417) . 4 زاد المعاد: (1/197) ، تهذيب السنن: (1/209) . (4/182) . (6/201) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 4- العبارات القوية والفريدة التي أطلقها ابن القَيِّم على بعض الرواة، ومنها ما لم يستعمله أحد - فيما أعلم - قبله. ولاشك أن هذه العبارات تمثل إضافات جديدة - لها قيمتها - إلى قاموس ألفاظ الجرح والتعديل1. 5- تعقبات ابن القَيِّم واستدراكاته على بعض الأئمة، والتنبيه على بعض الأوهام التي وقعت لبعضهم في الجرح والتعديل. فمن ذلك: أن ابن حزم - رحمه الله - حكَم على مُطَرِّف بن مصعب - في سند حديث عند ابن ماجه - بالجهالة، فَتَعَقَّبَهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - قائلاً:"ليس هو بمجهول، ولكنه ابن أخت مالك، روى عنه البخاري، وبشر بن موسى، وجماعة. قال أبو حاتم: صدوق مضطرب الحديث ... وكأن أبا محمد بن حزم رأى في النسخة: مطرف بن مصعب فَجَهَّلَهُ، وإنما هو: مطرف أبو مصعب، وهو مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار"2. ومن ذلك أيضاً: أن الحاكم أبا عبد الله قال في عاصم بن كليب: "لم يخرج حديثه في الصحيح". فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وليس كما قال، فقد احتج به مسلم، إلا أنه ليس في الحفظ كابن شهاب وأمثاله"3.   1 وسيأتي التنبيه على بعض هذه الألفاظ عند دراسة عباراته في الجرح والتعديل. (انظر ص: 593) . 2 زاد المعاد: (2/132) . 3 تهذيب السنن: (1/368) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 ورد على ابن حزم تضعيفه "الحارث بن أبي أسامة" بقوله: "فإنما اعتمد في ذلك على كلام أبي الفتح الأزدي، ولا يلتفت لذلك"1. والأمثلة في هذا الصدد كثيرة. تلك أبرز الفوائد التي اشتمل عليها كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، والتي يمكن أن تعطينا تصوراً عاماً عن أهمية ما جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - من كلام في نقد الرجال وبيان مراتبهم. وأخيراً أستطيع القول: إن ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذه المشاركات الفعالة في الجرح والتعديل، يُعَدُّ واحداً من نُقَّادِ هذا الفنِّ المعتبرين الذين لا ينبغي إغفال جهدهم في هذا المجال.   1 تهذيب السنن: (1/ 187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 المطلب الثاني: منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال تقدَّم أن كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الحكم على الرواة لم يأت نتيجة عمل مخصص لهذا الغرض، بمعنى: أننا لم نجد كلام ابن القَيِّم على الرجال مجموعاً مفرداً في مُؤَلَّف، حتى نتمكن من الوقوف على منهجه وأسلوبه من خلال ذلك، وإنما وُجِدَت أقواله في الرجال منثورة في أثناء كتبه، في أماكن متفرقة ومناسبات شتى، وذلك تبعاً لظروف دراسة كل حديث والحكم عليه. ومع ذلك، فإنه يمكننا أن نُحَدِّد المنهج العام الذي التزمه، والخصائص الْمُمَيِّزَة لعمله في هذا الباب، وذلك من خلال استعراض النقاط التالية: أولاً: لم يلتزم ابن القَيِّم - رحمه الله - طريقة واحدة في الحكم على الراوي. فتارة ينقل أقوال العلماء في الرجل، وتارة يحكم عليه هو بنفسه، وذلك بكلمة أو كلمتين، أو أكثر، وذلك بحسب ظروف كل راو، وما يقتضيه المقام. ثانياً: قد يختلف حكم ابن القَيِّم - رحمه الله - على الرجل الواحد من مكان لآخر ومن مناسبة لأخرى. وليس ذلك من التناقض، ولكن يحصل ذلك لاختلاف الظروف والمناسبات، فكل حكم من هذه الأحكام يكون خاضعاً لتلك الظروف التي صَدَرَ فيها. ومن أمثلة ذلك: كلامه في الحجاج بن أرطاة، فبينما هو يضعفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 في مواطن عدة1 - وذلك حيث ينفرد أو يخالف غيره - نجده يُقَوِّي أمره في مواطن أخرى، وذلك عندما يروي ما رواه الناس، ولا ينفرد بما يُنْكَرُ عليه. فقد قال رحمه الله في حديث جابر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافاً واحداً": "فيه الحجاج بن أرطاة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء، أو يخالف الثقات"2. وقال - رحمه الله - في الحديث نفسه في موضع آخر: "وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة، فقد روى عنه: سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق عنه. قال الثوري: وما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه. وعيب عليه التدليس، وقلَّ من سلم منه ... وقال أبو حاتم: إذا قال: حدثنا، فهو صادق لا نرتاب في صدقه وحفظه"3. فهكذا نجده يقبله في الشواهد والمتابعات، ويثني عليه، ويقوِّي حاله، ويضعفه حيث ينفرد ولا يُتَابَع. ثالثاً: قد يلجأ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى الترجيح بين أقوال الأئمة عند التعارض. ويكون اختياره وترجيحه في الغالب مطابقاً لما يدعمه الدليل، وتؤيده قواعد الفن.   1 انظر مثلاً: تحفة المودود: (ص 175-176) .، وزاد المعاد: (1/50، 438) ، والفروسية: (ص45) . 2 زاد المعاد: (2/111) . 3 زاد المعاد: (2/147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 ومن أمثلة ذلك: قوله في صالح مولى التوأمة: "للحفاظ في صالح هذا ثلاثة أقوال، ثالثها أحسنها، وهو: أنه ثقةٌ في نفسه ولكنه تَغَيَّرَ بآخرته، فمن سمع منه قديماً فسماعه صحيح، ومن سمع منه أخيراً ففي سماعه شيء. فمن سمع منه قديماً: ابن أبي ذئب، وابن جريج، وزياد بن سعد، وأدركه مالك، والثوري بعد اختلاطه"1. ورجَّحَ جانبَ التعديل في عكرمة قائلاً: "فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصَحَّحَ أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قَدْحِ من قَدَحَ فيه"2. ورجَّح توثيق عمرو بن شعيب على تضعيفه، فقال: "الجمهور يحتجون به ... واحتج به الأئمة كلهم في الديات"3. وقال مرة مؤكداً هذا الاختيار: "ونحن نحتج بعمرو بن شعيب"4. وكذا اختار توثيق محمد بن إسحاق، إمام المغازي، فقال: "وثناء الأئمة على ابن إسحاق، وشهادتهم له بالإمامة، والحفظ، والصدق، أضعاف أضعاف القدح فيه"5. رابعاً: قد يلجأ ابن القَيِّم إلى الجمع بين الأقوال التي ظاهرها التعارض في الرجل المختلف فيه. بحيث يحمل كل قول منها على وجه   1 جلاء الأفهام: (ص15) . 2 إغاثة اللهفان: (1/296) . 3 تهذيب السنن: (6/374) . 4 زاد المعاد: (5/ 429) . 5 أحكام أهل الذمة: (1/332) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 يحتمله، فيخرج من هذه الأقوال بحكم يمثل "قولاً وسطاً" في هذا الراوي، فلا هو يضعف مطلقاً، ولا يُوَثَّقُ مطلقًا. فمن ذلك: قوله في عبد الله بن لهيعة: "وحديثُ ابن لهيعة يُحْتَجُّ منه بما رواه عنه العبادلة: كعبد الله بن وهب، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقرئ"1. ويقول في محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "ثقةٌ حافظٌ جليلٌ، ولم يزل الناس يحتجون بابن أبي ليلى على شيء ما في حفظه يُتَّقَى منه ما خَالَفَ فيه الأثبات، وما تفرد به عن الناس"2. فَبَيَّن - رحمه الله - أنه يعتبر به إذا وافق غيره، ولم يأت بما ينكر عليه، وأنه يترك من حديثه ما خالف فيه أو انفرد عن الناس، فلا يكون حجة في ذلك. ويقول في سفيان بن حسين: "في الزهري: ضعيف"3. ثم يُبَيِّن وجه الجمع بين قول من وَثقَهُ وقول من ضَعَّفَهُ، فيقول: "ولا تنافي بين قول من ضعفه وقول من وثقه؛ لأن من وثقه جمع بين توثيقه في غير الزهري وتضعيفه فيه"4. فهكذا يبين - رحمه الله - أن بعض الرواة لا يعارضُ تضعيفُهُم   1 إعلام الموقعين: (2/406-407) . 2 زاد المعاد: (5/150) . 3 تهذيب السنن: (3/ 344) . 4 الفروسية: (ص44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 توثيقَهُم؛ إذ كل منهما له وجه ومحمل، فإذا أخذ ذلك في الاعتبار أمكن الجمع بين الأقوال المتعارضة في الرجل، وهذا يحتاج إلى إحاطة كاملة ومعرفة تامة بمقاصد العلماء فيما يطلقونه من أقوال في الرواة ووجه كل قول منها، وبخاصة عند الاختلاف في الراوي، وقد مضى كلام ابن القَيِّم في التنبيه على ذلك. خامساً: غالباً ما يقوم ابن القَيِّم - رحمه الله - بالدفاع عن الراوي الذي يرى أنه قد ضُعِّفَ تعنتاً، وأن من جرحه لم يأت بما يقدح فيه. فيجتهد - رحمه الله - في الذَّبِّ عنه، وإثبات ثقته، وله في ذلك أسلوبه المتميز، وعباراته القوية التي تتسم بوضوح الْحُجَّة وقوةِ الدليل. فمن ذلك: قوله في الردِّ على من ضعف ابن إسحاق: "إن ابن إسحاق بالموضع الذي جعله الله: من العلمِ والأمانة ... قال علي بن المديني: لم أجد له سوى حديثين منكرين. وهذا في غاية الثناء والمدح، إذ لم يجد له - على كثرة ما روى - إلا حديثين منكرين"1. وقال أيضاً: "ثقة لم يجرح بما يوجب ترك الاحتجاج به ... "2. وقال - رحمه الله - في الدفاع عن المنهال بن عمرو - وقد حاول بعضهم جَرْحَهُ بسماع صوت طنبور من بيته -: "وليس في شيء من هذا ما يقدح فيه"3. وقال مرة - بعد أن نقل توثيقه عن الأئمة -:   1 تهذيب السنن: (7/ 94- 95) . 2 جلاء الأفهام: (ص6) . 3 تهذيب السنن: (1/ 92) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 "وبالجملة: فلا يرد حديث الثقات بهذا وأمثاله"1. ويقول مدافعاً عن عكرمة مولى ابن عباس: "وإن قَدَحْتُم في عكرمة - ولعلكم فاعلون - جَاءَكُم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به - أنتم وأئمة الحديث - من روايته، وارتضاء البخاري إدخال حديثه في صحيحه"2. ويقول أيضاً: "وطَعَنَ - يعني: بعضهم - في عكرمة، ولم يصنع شيئاً"3. ويقول عن عبد الملك بن أبي سليمان - وقد ضعفوه بحديث الشفعة -: "وتلك شكاة ظاهر عنه عارها"4. وقال عن إبراهيم بن طهمان - وقد ضعفه ابن حزم -: "لله ما لقي إبراهيم بن طهمان من أبي محمد بن حزم، وهو من الحفاظ الأثبات الثقات ... "5. وكذلك نجده - رحمه الله - عندما يُعَارَضُ الثقة بشخص ضعيف، فإنه يرد ذلك بشدة، مؤكداً ضعف هذا المعارض، ومن أقواله في ذلك: قوله في عَطَّاف بن خالد - وقد خالف الثقات فزاد في الإسناد   1 تهذيب السنن: (7/ 140) . 2 زاد المعاد: (5/ 264) . 3 زاد المعاد: (2/ 434) . 4 زاد المعاد: (2/ 146) . وهذه العبارة شطر بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وتمامه: وعَيَّرَهَا الواشون أَنِّي أُحِبُّها ... وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عَنْكَ عارُها يقال: ظهر عني هذا العيب، إذا لم يعلق بي ونبا عني. (لسان العرب: ظهر) . 5 زاد المعاد: (5/ 708) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 رجلاً -: "فأما عطاف: فلم يرض أصحاب الصحيح إخراج حديثه، ولا هو ممن يُعَارض به الثقات الأثبات ... "1. وقال في أبي شيخ الهنائي - وقد روى عن معاوية النهي عن أن يُقْرن بين الحج والعمرة -: "وأبو شيخ: شيخ لا يحتج به، فضلاً عن أن يُقَدَّم على الثقات الحفاظ الأعلام ... "2. سادساً: الشمول، والإحاطة، وغزارة المعلومات في عباراته التي يطلقها على الرواة. بحيث تشتمل عبارة واحدة - مثلاً - على معلومات متكاملة عن الراوي، وبذلك يكون لهذه العبارات أثر كبير في تجلية صورة الراوي وتوضيحها. فيقول - رحمه الله - في إبراهيم بن طهمان: "من الحفاظ الأثبات الثقات الذين اتفق الأئمة الستة على إخراج حديثهم، واتفق أصحاب الصحيح - وفيهم الشيخان - على الاحتجاج بحديثه، وشهد له الأئمة بالثقة والصدق، ولم يحفظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش، ولا يُحْفَظُ عن أحد من المحدثين قط تعليل حديث رواه، ولا تضعيفه به"3. فهذه الجملة - على وجازتها - قد أحاطت بأحوال الْمُتَرْجَم وبَيَّنت مرتبته، وأعطت صورة كاملة عنه، فهو: 1- من الحفاظ الأثبات الثقات المشهود لهم بالثقة والصدق.   1 تهذيب السنن: (1/ 363) . 2 زاد المعاد: (2/ 138) . 3 زاد المعاد: (5/ 708) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 2- أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة. 3- احتج به الشيخان في (صحيحيهما) . 4- لم يُحْفظ عن أحد من الأئمة فيه خدش ولا قدح. 5- ولا ضَعَّفَ أحد من الأئمة حَديثاً رواه، ولا أعله به. ومثل ذلك: قوله في "بقية بن الوليد": "ثقة في نفسه، صدوقٌ حافظٌ، وإِنَّمَا نُقِمَ عليه التدليس، مع كثرةِ روايته عن الضعفاء والمجهولين، وأما إذا صَرَّح بالسماع فهو حجة"1. وقال في "حميد بن صخر": "ضَعَّفَهُ النسائي، ويحيى بن معين. ووثقه آخرون. وأنكر عليه بعض حديثه. وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد"2. فقد أفادت هذه العبارة أن حميداً هذا:   1- اخْتُلِفَ فيه، فوثقه جماعة وضعفه آخرون. 2- وأنه أنكرت عليه أحاديث. 3- والخلاصة في أمره: أنه لا يحتج بما ينفرد به. وبعد، فهذا ما أمكنَ التنبيه عليه فيما يتعلق بالخطوط العامة للمنهج الذي سار عليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في نقد الرجال والحكم عليهم، ولعل ذلك يُسْهِم في تقديم صورة واقعية للناحية النقدية عند ابن القَيِّم، ويلقي الضوء على شخصيته المتميزة في هذا الجانب المهم من 1 تهذيب السنن: (1/ 129) . 2 زاد المعاد: (1/ 359) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 مباحث علوم الحديث، والذي يمثل الأساس المتين للحكم على المرويات ونقدها وتمحيصها. وبعد هذا العرض العام لمنهجه - رحمه الله - في ذلك، يمكن استخلاص أبرزِ السِّمَات والخصائص التي اتسمت بها شخصيته النقدية، وأقوالُهُ في الرجال، فمن ذلك: 1- سعَةُ اطِّلاعه على أقوال الأئمة، وإلمامه بما قيل في الراوي، فنجده - مثلاً - يقول في "حبيب بن أبي حبيب": "كَذَّاب وضَّاع باتفاق أهل الجرح والتعديل"1. وقد يكون قصده بذلك جمهورهم وأكثرهم، ولكن هذا لا ينفي ما قدمنا. ومثله ما تقدم من قوله في "إبراهيم بن طهمان": "لم يُحْفَظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش"2. 2- كثرة مصادره في الرجال، فنجده - رحمه الله - ينظرُ في الرجل الواحد عدة مصادر، فمن ذلك: أنه قال في رجل - وقد اختلف في اسمه -: "وهكذا هو في: "تاريخ البخاري"، "وكتاب ابن أبي حاتم"، "والثقات" لابن حبان، "وتهذيب الكمال" لشيخنا أبي الحجاج المزي"3. 3- تَمَيُّزُ شخصيته - رحمه الله - في نقد الرواة؛ فلم يكن مجرد ناقل لأحكام غيره، بل كان له أثر بارزٌ في تمحيص هذه الأقوال ونقدها، وقد مرت أمثلة لذلك.   1 مختصر الصواعق: (2/391) . 2 زاد المعاد: (5/708) . 3 جلاء الأفهام: (ص12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 4- مَعْرِفَتُهُ - رحمه الله - بكثير من ضوابط الجرح والتعديل، وإعماله هذه الضوابط أثناء حكمه على الرواة، ومن هذه القواعد والضوابط: أ - أنَّ الْجَرْحَ غير القادح لا أثر له في رد الرواية. ب - الوَهْمُ اليسير لا يؤثر على ثقة الراوي وإتقانه؛ إذ إن ذلك لا يسلم منه أحد. ج - عدم قبول رواية الْمُبْتَدِع إذا روى ما ينصر بدعته. د - عدمُ قبول الجَرْحِ إلا مفسراً، وبِخَاصة في الراوي الْمُخْتَلَفِ فيه. وقد تقدم الكلام على هذه الضوابط وذكر أمثلة لها في المبحث الماضي. 5- معرفته - رحمه الله - بكثير من دقائق هذا الفن وأموره التي لا غنى عنها للناقد والْمُتَكَلِّمِ في الرجال، فمن ذلك: أ - معرفته بأوطان الرواة وبلدانهم، فيقول مثلاً: "هذا إسناد شامي"1. ب - معرفته بطبقات الرواة، واستفادته من ذلك في أحكامه على الرجال، والأمن من الخلط بين المشتبهين، فمن ذلك: أن ابن الجوزي اشتبه عليه عبد الله بن وهب الإمام، بعبد الله بن وهب النسوي الوضاع، فَغَلَّطَهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في ذلك، مستدلاً بأن الحديث من رواية:   1 تهذيب السنن: (1/169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 أصبغ بن الفرج، ومحمد بن عبد الله بن الحكم وغيرهما من أصحاب عبد الله بن وهب الإمام. وأما النسوي: فهو متأخر، فإنه من طبقة يحيى بن صاعد1. ج - معرفته - رحمه الله - بمراتب الرواة، ودرجاتهم في الحفظ، وَمَنِ الْمُقَدَّم منهم عند الاختلاف، فمن ذلك: قوله في أصحاب شعبة: "وغندر أصحُّ الناس حديثاً في شعبة"2. ويقول في أصحاب قتادة: "وهشام - يعني الدستوائي - وإن كان مقدماً في أصحاب قتادة، فليس همام وجرير إذا اتفقا بدونه"3.   1 انظر: تهذيب السنن: (5/251-252) . 2 تهذيب السنن: (3/312) . 3 تهذيب السنن: (3/404) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل لم يقتصر ابن القَيِّم في حكمه على الرواة على مجرد التصريح بعبارات التوثيق والتضعيف، وإنما كانت له - إلى جانب ذلك - أساليب أخرى. ويمكن إيجاز بعض تلك الأساليب فيما يلي: 1- الاكتفاء بالإشارة إلى وجود الراوي - المراد جرحه أو تعديله - في الحديث أو الإسناد. قال في شعبة: "ولكنه حديث فيه شعبة"1. يريد بذلك مدحه وتوثيقه. وقال - رحمه الله - في تضعيف الحجاج بن أرطأة: "ولكن في إسناد حديث الترمذي: الحجاج بن أرطاة"2. وقال في حديث: "رواه الترمذي، ولكن دَرَّاجاً أبا السمح بالطريق"3. وفي مثل ذلك يُعرف مراده رحمه الله - من جرح أو تعديل - بالقرائن المحيطة بذلك الراوي. وهذه الطريقة استعملها ابنُ القَيِّم - رحمه الله - في الجرح   1 حادي الأرواح: (ص274) . 2 زاد المعاد: (2/287) . 3 حادي الأرواح: (ص 270) . وقوله: "بالطريق" أي هو في إسناد هذا الحديث، ففيه إشارة لتضعيفه بهذا الراوي، مع كون الترمذي رواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 والتعديل على السواء، ولكن هناك بعض الأساليب ورد استعمال ابن القَيِّم لها في التعديل خاصة، فمن ذلك: 2- تكرار اسم الشخص، إشارة إلى ثقته وإمامته وإتقانه. فقد قال في شعبة: "وشعبة هو شعبة"1. وقال في حديث: "فإذا رجحنا بالحفظ والإتقان، فشعبة شعبة"2. وقال عن الإمام مالك رحمه الله: "ومالك مالك"3. 3- التعبير عن ثقة الراوي بإخراج الشيخين أو أحدهما له. وقد استعمل - رحمه الله - هذا الأسلوب في مناسبات عدة، فمن ذلك قوله في عمرو بن أبي سلمة التنِّيسي: "محتجٌّ به في الصحيحين"4. وقال في سليمان بن كثير: "اتفق الشيخان على الاحتجاج بحديثه"5. 4- التعبير عن ثقة الراوي برواية الأئمة المشهورين - أو أحدهم - عنه. فقد قال - رحمه الله - في مَغْرَاء العبدي: "روى عنه أبو إسحاق السبيعي على جلالته"6. وقال مرة في تقوية شأن حجاج بن أرطاة: "وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أطارة، فقد روى عنه: سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق"7.   1 تهذيب السنن: (5/407) . 2 إعلام الموقعين: (2/ 369) . 3 تهذيب السنن: (2/330) . 4 زاد المعاد: (5/283) . 5 الفروسية: (ص52) . 6 الصلاة: (ص119) . 7 زاد المعاد: (2/147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 فهذه بعض الأساليب التي اعتمدها ابن القَيِّم - رحمه الله - في التعبير عن جرح الرواة أو تعديلهم، وذلك إلى جانب من صرح فيهم بلفظ التوثيق أو التجريح. التنبيه على بعض العبارات الخاصة بابن القَيِّم رحمه الله. ويحسنُ في هذا المقام التنبيه على بعض العبارات التي استعملها ابن القَيِّم، مما يغلب على الظن أنها مما تميز - رحمه الله - بها، وأنه لم يُسبق إليها. ولاشك أن ذلك يُلْقِي المزيدَ من الضوء على أهمية كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، ومدى ما له من جهد وإسهام بارز في هذا الفن المهم، فمن هذه العبارات: 1- قوله: "فلانٌ من الحُفَّاظ الثقاتِ الذين لم تُغْمَزْ قَنَاتُهُم". وأصل الغمز: العصر باليد. والقناة: هي قناة الرمح، أي خشبته. ورمح غير مغموز القناة: إشارة إلى استقامته، ونفيٌ لاعوجاجه ولينه1. فقول ابن القَيِّم - رحمه الله - عن الرواة "لم تغمز قناتهم": نفي لضعفهم ولينهم، وإثبات لثقتهم وقوتهم. فهي من عبارات التعديل عنده، فقد قالها - رحمه الله - في رجل حاول البعض إعلال حديث بتفرده به، وهو: جعفر بن إياس2، فقصد   1 انظر: (لسان العرب) : (ص 3296) مادة: غمز. "والمغرب": (2/112-113) . مادة: غمز. (بتصرف) . 2 تهذيب السنن: (3/425) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 ابن القَيِّم بعبارته: أن هذا الراوي على درجة من الثقة والتثبت لا يضر معها تفرده، وإنما يضر تفرد من كان مجروحاً، وليس هذا كذلك. 2- قوله: "ما سَوَّى اللهُ ولا حُفَّاظُ دينه بين فلانٍ وفلانٍ". قال ذلك في المقارنة بين راويين لبيان أن أحدهما ثقة، والآخر ضعيف، فلا يمكن مقارنته بهذا الضعيف وتشبيهه به. فقد قال ابن حبان في شأن داود بن الحصين، وزيد بن جبير - وقد وقعا في حديث -: "يجب تجنب رواية زيد وداود جميعاً". فَرَدَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك بقوله: "ما سَوَّى الله ولا حفاظُ دينه بين زيد ابن جبير وداود بن الحصين". ثم أخذ في نقل أقوال الأئمة في توثيق داود ابن الحصين، ثم قال بعد ذلك: "وأما زيد بن جبير: فقال البخاري وغيره: متروك ... " وسرد أقوال الأئمة في تضعيفه1. 3- قوله: "ارْتَقَى مِنْ حَدِّ الضَّعْفِ إلى حَدِّ التَّرْكِ". وَصَفَ بذلك الجارودَ بن يزيد2، وقد كَذَّبَه جماعة، وحكم آخرون بأنه متروك3، وكانت كلمات بعضهم توحي بمجرد ضَعْفِه. وقد قال فيه ابن القَيِّم هذه الكلمة بمناسبة روايته حديثاً في عدم وقوع الطلاق إذا استثنى الْمُطَلِّق، فكأن ابن القَيِّم - رحمه الله - أراد أن يؤكد بكلمته هذه: أن مجيئه بمثل هذه الطامات مما يعزز الحكم بكونه   1 رسالة الموضوعات: (ق48) . 2 إعلام الموقعين: (4/69) . 3 انظر: الميزان: (1/384) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 "متروكاً" لا يحل الاحتجاج به، وأن كلمة "ضعيف" قليلة في حقه. كما أن هذه العبارة من ابن القَيِّم - رحمه الله - تحملُ نوعاً من السخرية والتهكم؛ إذ إن التَّرقي عادة يكون إلى الأحسن والأعلى. 4- قوله: "لم يُسْفِرْ1 صباحُ صِدْقِهِ في الرواية". قال هذه العبارة في عمر بن صبح2 كناية عن كذبه، والتصاق هذا الوصف به، وإقامته على ذلك. وهذا من الأساليب البلاغية التي استعملها - رحمه الله - في نقد الرواة، حيث لجأ إلى الطِّباق والتورية للتعبير عن جرح هذا الرجل. 5- قوله: "كُسَيْرٌ عن عُوَيْرٍ"3. قالها في "العرزمي عن الكلبي"4، وفي "سليمان بن عيسى السجزي عن عبد الرحيم العمي"5. وهاتان الكلمتان مأخوذتان من مَثَلٍ عربيٍّ قديم، وهو قولهم: "عُوَيْرٌ وكُسَيْرٌ، وكلٌّ غَيْرُ خَيْر". وهو من الأمثال التي تُعَبِّرُ عن الخلة غير المحمودة، كما قال أبو عبيد البكري6، ثم ذكر قصة هذا المثل ومناسبته.   1 أسفر الصبح: أضاء. (مختار الصحاح: ص301) . 2 تهذيب السنن: (6/ 324) . 3 وهما تصغير: "مكسور"، و "أعور". 4 تهذيب السنن: (5/ 409) . 5 جلاء الأفهام: (ص 237) . 6 فصل المقام في شرح كتاب الأمثال: (ص378) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 وقال الجوهري: "يقال في الخصلتين المكروهتين: كُسَير وعوير، وكل غير خير"1. وقد تَبَيَّن من صنيع ابن القَيِّم - رحمه الله - استعمال هاتين الكلمتين للجرح الشديد، ولاسيما في حق من كان متهماً بالكذب. وبعد، فهذا ما أمكنَ التنبيه عليه من ألفاظ الجرح والتعديل التي يغلب على الظن: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد انفرد بها، والله أعلم.   1 انظر: لسان العرب: (ص 3164) مادة: عور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 المطلب الرابع: في ذكر بعض الفوائد الْمُتَفَرِّقَةِ في الكلام على الرواة وقد رأيت أن أختمَ هذا الفصل ببعض الفوائد المتفرقة، مما يتعلق بكلامه - رحمه الله - في ضبط بعض الأسماء الْمُشْكِلَة، أو تقييد بعض ما جاء من ذلك مُهْمَلاً، إلى غير ذلك من الفوائد الْمُهِمَّات في هذا الباب، فمن ذلك: الفائدة الأولى: في ذكر جماعة من الرواة ينسبون إلى أمهاتهم. وهذه الفائدة - وما سيأتي بعدها - ذكرها في كتابه "بدائع الفوائد"1 في بحث عارض. أما الذين نسبوا إلى أمهاتهم: أولاً: من الصحابة: 1- بلال بن حمامة2، وأبوه: رباح. 2- ابن أم مكتوم3، وأبوه: عمرو.   1 انظر: بدائع الفوائد: (2/221-222) . 2 أبو عبد الله، مولى أبي بكر، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. له ترجمة في: الاستيعاب: (1/141) ، سير أعلام النبلاء: (1/347) ، تهذيب التهذيب: (1/502) ، الإصابة: (1/165) . 3 عمرو - وقيل: عبد الله - بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة، القرشي، المؤذن. وكان ضريراً. له ترجمة في: الإصابة: (2/ 308، 351) ، وسير أعلام النبلاء: (1/360) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 3- بشير بن الخصاصية1، وأبوه: معبد. 4- الحارث بن البرصاء2، وأبوه: مالك. 5- خفاف بن ندية3، وأبوه: عمير. 6- شرحبيل بن حسنة4، وأبوه: عبد الله. 7- مالك بن نميلة5، وأبوه: ثابت. 8 - معاذ ومعوذ ابنا عفراء6، وأبوهما: الحارث. 9 - يعلى بن مُنَيَّة7، وأبوه: أمية.   1 له ترجمة في: الاستيعاب: (1/150) ، الإصابة: (1/ 159) ، تهذيب التهذيب: (1/467) . 2 هو الحارث بن مالك بن قيس الليثي. له ترجمة في: الاستيعاب: (1/295) ، الإصابة: (1/289) ، تهذيب التهذيب: (2/155) . 3 له ترجمة في: الاستيعاب: (1/ 434) ، الإصابة: (1/ 452) . 4 هو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع بن عمرو بن كندة، حليف بني زهرة. وجزم غير واحد بأن "حسنة" أمه. وقيل: بل تبنته وليس بابن لها. له ترجمة في: الاستيعاب: (1/139) ، الإصابة: (2/143) ، تهذيب التهذيب: (4/324) . 5 هو مالك بن ثابت المزني، حليف بني معاوية بن عوف بن مالك. يعد في الأنصار، قتل يوم أحد. له ترجمة في: الاستيعاب: (3/ 375) ، الإصابة: (3/357) . 6 وأبوهما: الحارث بن رفاعة بن سواد. ترجمة معاذ في: الاستيعاب: (3/363) ، والإصابة: (3/ 428) . ومعوذ ترجمته في: الإصابة: (3/ 450) . 7 هو: يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام الحنظلي، حليف قريش. له ترجمة في: الاستيعاب: (1/ 661) ، الإصابة: (1/668) ، تهذيب التهذيب: (11/399) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 10 - عبد الله بن بحينة1، وأبوه: مالك. ثانياً: من غير الصحابة، وهم: 11- إسماعيل بن علية2، وأبوه: إبراهيم. 12- منصور بن صفية3، وأبوه: عبد الرحمن. 13- محمد بن عائشة4، وأبوه: حفص. 14- إبراهيم بن هراسة5، وأبوه: سلمة. 15- محمد بن عثمة6، وأبوه: خالد.   1 هو: عبد الله بن مالك بن القشب، أبو محمد الأزدي. له ترجمة في: الإصابة: (1/364) ، تهذيب التهذيب: (5/381) . 2 هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم. له ترجمة في: سير أعلام النبلاء: (9/107) ، الميزان: (1/216) ، تهذيب التهذيب: (1/275-279) . 3 هو: منصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث القرشي العبدري. وأمه: صفية بنت شيبة. له ترجمة في: ثقات ابن حبان: (7/ 476) ، تهذيب التهذيب: (10/310) . 4 له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/2/236) ، ثقات ابن حبان (9/62) . 5 أبو إسحاق الشيباني الكوفي. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/1/143) ، الضعفاء الصغير للبخاري: (ص30) ، الضعفاء المتروكين - للنسائي: (ص13) ، الميزان: (1/72) . 6 الحنفي البصري. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/2/243) ، تهذيب التهذيب: (9/142) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 الفائدة الثانية: في تقييد بعض الأسماء المهملة، ممن يشتركون في الاسم. وفائدة معرفة ذلك: الأمن من الوقوع في الاشتباه، خاصة إذا كانوا ممن يروون عن شيخ واحد. وممن ذكرهم ابن القَيِّم - رحمه الله - من هذا الصنف1: 1- جماعة يروون عن أبي هريرة ممن يسمون بـ"عطاء": * عطاء، عن أبي هريرة: "في كل صلاة قراءة". * وعطاء، عنه مرفوعاً: "لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن". فذكر الخلفاء الأربعة. * وعطاء، عنه مرفوعاً: "إذا أُقِيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة". * وعطاء، عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في: اقرأ باسم ربك". * وعطاء، عنه مرفوعاً: "إذا مضى ثلث الليل، يقول الله تعالى: ألا داع ... ". قال رحمه الله: فالأول: ابن أبي رباح2. والثاني: الخراساني3.   1 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) . 2 انظر ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/330) ، ثقات ابن حبان: (5/198) ، الميزان: (3/70) ، تهذيب التهذيب: (7/199) . 3 وهو عطاء بن أبي مسلم الخراساني، نزيل الشام. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/1/334) ، المجروحين: (2/ 130) ، الميزان: (3/73) ، تهذيب التهذيب: (7/212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 والثالث: ابن يسار1. والرابع: ابن ميناء2. والخامس: مولى أم صبية3. 2- عدة نساء يروين عن عائشة ممن يسمين: "عَمْرَة"4: عمرة: أنها دخلت مع أمها على عائشة، فسألتها: ما سمعتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الفرار من الطاعون؟ قالت: سمعته يقول: "كالفرار من الزحف". وعمرة قالت: خرجتُ مع عائشة سنة قتل عثمان إلى مكة، فمررنا بالمدينة، ورأينا المصحف الذي قتل وهو في حجره، فكانت أول قطرة قطرت على هذه الآية: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137] . قالت عمرة: فما مات منهم رجل سَوِيًّا.   1 الهلالي، أبو محمد المدني، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. انظر ترجمته في: جزء من اسمه عطاء - للطبراني: (ص12) ، الجرح والتعديل: (3/1/338) ، سير أعلام النبلاء: (4/448) ، تهذيب التهذيب: (7/217) . 2 المدني، وقيل: البصري، الدوسي، أبو معاذ. له ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/336) ، ثقات ابن حبان: (5/ 200) ، تهذيب التهذيب: (7/216) . 3 المدني، الجهني. له ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/339) ، ثقات ابن حبان: (5/202) ، الميزان: (3/78) ، تهذيب التهذيب: (7/221) . 4 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 وعمرة عن عائشة: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الوصال". قال رحمه الله: الأولى: بنت عبد الرحمن1. الثانية: بنت قيس العدوية2. الثالثة: بنت أرطأة3. الرابعة: يقال لها: الصحاحية4. 3- ذكر جماعة رووا عن ثابت، عن أنس ممن يسمون بـ"حماد"5. حماد، عن ثابت، عن أنس: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم في النخل صوتاً ... " الحديث. حماد، عن ثابت، عن أنس: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الرحمن صفرة ... " الحديث.   1 ابن أسعد بن زرارة الأنصارية المدنية. لها ترجمة في: ثقات ابن حبان: (5/288) ، وسير أعلام النبلاء: (4/507) ، تهذيب التهذيب: (12/438) . 2 لها ترجمة في: تهذيب التهذيب: (12/440) . 3 لم أقف عليها. 4 كذا ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - رابعة، والمتقدم ذكرهن ثلاثة فقط، فلعل حديثها سقط في الطباعة، والله أعلم. 5 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 حماد، عن ثابت، عن أنس يرفعه: "مثل أمتي كالمطر". قال ابن القَيِّم رحمه الله: الأول: ابن سلمة1. الثاني: ابن زيد2. الثالث: الأبح3. الفائدة الثالثة: من روى عن شيخين متفقي الاسم: أحدهما ثقة، والآخر ضعيف4. فمن هؤلاء: 1- قتادة5: يروي عن عكرمة مولى ابن عباس6.   1 هو حماد بن سلمة بن دينار البصري. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/2/ 140) ، والميزان: (1/590) ، وتهذيب التهذيب: (3/11) . 2 هو: حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/1/176) ، سير أعلام النبلاء: (7/456) ، تهذيب التهذيب: (3/9) . 3 هو: حماد بن يحيى الأبح، أبو بكر السلمي. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/2/151) ، الميزان: (1/601) ، تهذيب التهذيب: (3/21) . 4 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) . 5 ابن دعامة السدوسي. 6 يعني: وهو ثقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 وعن عكرمة بن خالد1: ضعيف2. 2- وكيع3: يروى عن النضر بن عربي4: ثقة. وعن النضر بن عبد الرحمن5: ضعيف. 3- حفص بن غياث: يروى عن أشعث بن عبد الرحمن6: ثقة. وعن أشعث بن سوار7: ضعيف. وبعد، فهذه بعض الفوائد المتعلقة بالرجال مما وجد في كلام ابن القَيِّم رحمه الله تعالى.   1 ابن العاص بن هشام المخزومي، ثقة خ م د ت س. (التقريب: 396) . 2 كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، ولكن الأمر على خلاف ذلك؛ فإن في الرواة آخر يسمى: عكرمة بن خالد أيضاً، وهو: عكرمة بن خالد بن سلمة المخزومي وهذا هو الضعيف، وهو قريب للأول. وقد وهم بعضهم فَضَعَّفَ الثقة ظاناً أنه هو هذا الضعيف، وهذا الثقة هو الذي يروى عنه قتادة. انظر: الميزان: (3/90) ، تهذيب التهذيب: (7/258-259) . 3 هو: ابن الجراح بن مليح. 4 الباهلي مولاهم، أبو روح، الحراني، لا بأس به، مات سنة 168 هـ- /د ت (التقريب: 562) . 5 أبو عمر الخزاز، متروك/ ت. (التقريب: 562) . 6 لم يتبين لي من هو؟ وحفص بن غياث يروي عن ثلاثة يسمون أشعث وهم: ابن سوار، وابن عبد الله الحداني، وابن عبد الملك الحمراني. انظر: تهذيب الكمال: (7/56 - 57) . 7 الكندي، النجار، الأثرم، قاضي الأهواز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 المجلد الثاني الباب الثاني: آراء ابن القيم ومنهجه في الحديث وعلومه الفصل الثالث: منهج ابن القيم في تخريج الحديث والحكم عليه المبحث الأول: منهج ابن القيم في تخريج الحديث وعزوه. ... الفصل الثالث: منهج ابن القَيِّم في تخريج الحديث والحكم عليه والمقصود في هذا الفصل: بيان المنهج الذي سلكه ابن القَيِّم في الحكم على الأحاديث، وبيان درجتها: من الصحة، أو الضعف، أو غيرهما، وما يلتحق بذلك من الكلام على منهجه في بيان العلل. وذلك كله من خلال ما وقفت عليه من كلامه على الأحاديث في كتبه المختلفة. ويسبق ذلك: الكلام على منهجه في تخريج الأحاديث وعزوها. وقد جعلت هذا الفصل في مبحثين: المبحث الأول: منهج ابن القَيِّم في تخريج الحديث وعزوه. المبحث الثاني: منهجه في الحكم على الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 المبحث الأول: منهجه في تخريج الحديث وعزوه لما كانت العلاقة وثيقة بين التخريج وبين التوصل إلى الحكم على الحديث، رأيت أن يكون الكلام على التخريج، ومنهج ابن القَيِّم في ذلك أول مباحث هذا الفصل، وذلك كالتمهيد للكلام على الحكم على الحديث إن شاء الله. والمراد بالتخريج هنا: عزو الحديث إلى مصادره الأصلية - التي جمعها أصحابها بأسانيدها - والدلالة على موضعه فيها، مع بيان درجته عند الحاجة1. فيكون المقصود من التخريج بهذا المعنى: التوصل إلى الحكم على الحديث، وبيان درجته من الصحة أو الضعف؛ إذ عن طريق التخريج يمكن للباحث الوقوف على طرق الحديث وجمع أسانيده، ومن ثَمَّ دراسة هذه الطرق والحكم من خلالها على الحديث وبيان حاله، مع ما في ذلك من فائدة الوقوف على شواهد الحديث ومتابعاته، فقد يرتقي بها الحديث من حال الضعف إلى حال القوة والاحتجاج. ولقد قام ابن القَيِّم - رحمه الله - بمهمة التخريج للأحاديث التي أوردها في كتبه، وخلال أبحاثه المختلفة على خير وجه، واعتنى بذلك عناية فائقة، وتنوع أسلوبه في ذلك تبعاً لظروف كل بحث. وفيما يلي ذكر منهجه في التخريج على وجه الإجمال:   1 انظر (أصول التخريج) للدكتور/ محمود الطحان: (ص 12- 13) ، و (دراسات في علوم الحديث) للدكتور/ عجمي دمنهوري: (ص 72-73) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 أولاً: إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما، فإن ابن القَيِّم - في الغالب - يكتفي بالعزو إليهما، ولا يتعداهما إلى غيرهما إلا في القليل النادر، كأن يحتاج إلى التنبيه على فائدة زائدة وليست عندهما. - ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لا إله إلا الله ... " قال: "رواه البخاري ومسلم"1. والحديث مخرج في: سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي2. - وقال في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مسلم، يَشْهَدُ ألا إله إلا الله، وَأَنِّي رَسُولُ الله إلا بِإِحدى ثلاث ... ": "أخرجاه في الصحيحين"3. والحديث مَخَرَّجٌ أيضاً: عند النسائي وابن ماجه4، وغيرهما. - وَخَرَّجَ حديث علي رضي الله عنه في "النهي عن لباس المعصفر" من (صحيح مسلم) وحده5. والحديث أخرجه أيضاً: أبو داود والنسائي6. - وعزا حديث أم سلمة رضي الله عنها "في القسم للبكر والثيب" لمسلم وحده7.   1 الصلاة: (ص 17) . 2 د: (3/101) ح 2640، ت: (5/3) ح2606، س (5/ 14) . 3 الصلاة: (ص 17) . 4 س: (7/90) ، جه: (2/847) ح 2534. 5 زاد المعاد: (1/138) . 6 د: (4/322) ح 4044، س: (8/204) . 7 زاد المعاد: (5/ 149) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 والحديث أخرجه: مالك، وأبو داود1. - وقال: "وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيهِ صِيامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" 2. والحديث مُخَرَّج: عند أبي داود، وأحمد3 وغيرهما. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحْصَى. وأما حين يحتاج ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى التنبيه على لفظة زائدةٍ، أو جملة مغايرةٍ، وليس ذلك في الصحيحين، فإنه يضيف إليهما غيرهما من المصادر التي فيها تلك الزيادة، فمن ذلك: - أنه ساقَ حديث أبي هريرة مرفوعاً: "يقول الله: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِين مَا لا عَينٌ رَأَتْ ... ". ساقه بطوله، ثم قال: "رواه بهذا اللفظ والسياق: الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصدره في الصحيحين"4. - وقال رحمه الله: " ... ما رواه مسلم في صحيحه: "أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد ... " وهذا الرجل هو ابن أم مكتوم ... وفي مسند أحمد، وسنن أبي داود: عن عمرو بن أم مكتوم قال ... "5.   1 طأ: (2/529) ح 14، د: (2/ 594) ح 2122. 2 الروح: (ص 161) . 3 د: (2/ 791) ح 2400، حم: (6/ 69) . 4 حادي الأرواح: (ص 206) . 5 الصلاة: (ص 117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 فقد عزا الحديث إلى أحمد وأبي داود بعد عزوه إلى مسلم، وذلك لما اشتملت عليه روايتهما من زيادة وبيان؛ حيث جاء عندهما التصريح باسم الرجل. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يكتفي بالتخريج من الصحيحين ويَسْتَغْنِي بهما عن غيرهما، إلا إذا دَعَتْ الضرورةُ إلى الزيادة عليهما، فإنه يفعل ذلك. ثانياً: لم يلتزم ابن القَيِّم - رحمه الله - بتخريجِ كُلِّ حديث أورده في كتبه، بل إنه - في بعض الأحيان - يذكرُ الحديث مُسْتَدِلاً بهِ لِمَسْأَلة، دون أن يعزوه لأحدٍ ممن خرجه1. والْمُطَالِع لكتبه - رحمه الله - يجد اهتماماً كبيراً بتخريج الأحاديث التي أوردها في مباحثه، فيكون ما وقعَ له من ذلك: إِمَّا لِشهرةِ الحديث وصحَّتِهِ فيستغني بذلك عن تخريجه، أو لرغبته في الاختصار، أو لأنه خَرَّجَهُ في موضع آخر من كتبه، أو لغير ذلك من الأسباب الكثيرة. ثالثاً: وكما أنه - رحمه الله - قد يذكر الحديث ساكتاً عن تخريجه، فإنه قد يصرح بعدم وقوفه عليه ولا معرفته بمن خرجه، فمن أمثلة ذلك:   1 انظر أمثلة لذلك في: زاد المعاد: (1/ 188، 189، 191، 240، 262، 285) ، (3/76، 77، 78، 79، 91، 115، 320) ، (4/332) . والوابل الصيب: (ص99) ، وروضة المحبين: (ص 276، 277) وحادي الأرواح: (ص 230) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 - قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: "مَنْ أَجْلَبَ عَلَى الخيل يوم الرِّهان فليس منا" قال: "ذَكَرَهُ صاحب المغني، ولا أعرف مَنْ خَرَّجَهُ"1. - وقال في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: في إطراق الفحل، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ إِكْرَاماً فَلا بَأْسَ" قال: "ولا أعرفُ حال هذا الحديث، ولا من خَرَّجَهُ"2. أما إذا كان شَاكَّاً وغير متأكد من وجود الحديث في المصدر الذي يعزو إليه، فِإِنَّهُ لا يجزمُ بنسبته إليه، ومن ذلك قوله في حديث: "وأظنه في المسند"3. رابعاً: طولُ نَفَسِهِ - رحمه الله - واستيعابه في التخريج، فيتوسع أحياناً في تخريجِ الحديثِ الواحد توسعاً كبيراً، حتى إنه ليكادُ يأتي على رواياته، ويستوفي جميع طرقه. ومن أمثلة ذلك: - حديث: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَب". قال رحمه الله: "رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنس بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وعلي بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري، وأبو ذر، وصفوان بن عَسَّال،   1 الفروسية: (ص 99) . 2 زاد المعاد: (5/ 796) . 3 مدارج السالكين: (2/ 327) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وعبد الله بن يزيد الخطمي ... " فَعَدَّ تسعة عشر صَحَابياً، ثُمَّ أخذ في تخريج رواية كل صحابي، وبيان درجتها1. - وحديث النهي عن لحوم الحمر الأهلية، قال رحمه الله:" ... رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم: عليُّ بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، والبراء بن عازب، وابن أبي أوفى ... " فعد عِشْرِين صحابياً، ثم أخذ في تخريجها حديثاً حديثاً2. - وحديث: "أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" ساقه - رحمه الله - من طريق: شداد بن أوس، وأبي هريرة، وعائشة، وأسامة بن زيد، وأبي موسى، ومعقل بن سنان، وابن عباس، وبلال رضي الله عنهم أجمعين، مع ذكر من أخرجَ كلَّ رواية من هذه الروايات3. - وقال - رحمه الله - مرة: " وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخ الحجِّ إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه، وأحاديثهم كُلُّهَا صِحَاحٌ، وهم: عائشةُ، وحفصة أَمَّا المؤمنين، وعلي بن أبي طالب، وفاطمة، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد، والبراء، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وسبرة بن معبد الجهني، وسراقة بن مالك المدلجي رضي الله عنهم"4.   1 تهذيب السنن: (8/ 23 - 26) . 2 تهذيب السنن: (5/ 317- 324) . 3 تهذيب السنن: (3/ 243-245) . 4 زاد المعاد: (2/ 178-187) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 ثُمَّ أَخَذَ في سَرْدِ أحاديثهم حَدِيثاً حديثاً، مع تخريجها والكلام عليها. وهكذا نجده - رحمه الله - يتوسع في إيراد طرق الحديث في مناسبات عديدة، ويكون ذلك منه رحمه الله: - إما لمحاولة استقصاء أحاديث الباب، واستيعاب المرويات في الموضوع الذي هو بصدد بحثه؛ كما فعل ذلك كثيراً في (تهذيب السنن) 1. - وإما تأييداً ونصرةً لما يختاره في مسألة مُخْتَلَفٍ فيها، كما هو الحال في المثالين الأخيرين من الأمثلة التي سُقْتَهَا قبل قليل. - أو لغير ذلك من الأغراض. خامساً: قد يعزو الحديث إلى أحد الأئمة المشهورين دون تصريح باسم كتابه. فيقول مثلا: "قال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ... "2. ويقول: "قال ابن شاهين: حدثنا عبد الله بن سليمان ابن الأشعث ... "3. ويقول: "قال عبد الرحمن بن أبي حاتم ... "4. ويقول: "قال أبو نعيم: حَدَّثَنَا محمد بن معمر ... "5.   1 انظر مثلاً: (3/ 77، 120) ، (7/ 60، 130، 135، 228، 312) . 2 جلاء الأفهام: (ص 50) . 3 جلاء الأفهام: (ص53) . 4 جلاء الأفهام: (ص 228) . 5 حادي الأرواح: (ص 199) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 ولكنَّ الكثير الغالبَ: أنه يعزو الحديث إلى مصدره، ويذكر الكتابَ الذي خَرَّجَهُ، كما هو ظاهرٌ بَيِّنٌ لمن طَالَعَ كتبه. سادساً: تنوع طرق نقله للحديث من مصادره. - فتارة يسوقُ الحديثَ بإسناد صاحب الكتاب الذي أخرجه، وتارةً يكتفي بذكر صحابيِّ الحديث فقط. ويُلاحظ أنه - رحمه الله - يُكْثِرُ من ذكر أسانيد الأحاديث في بعض كتبه دون بقيتها، فنجد أن ذلك يكثر - مثلا - في (حادي الأرواح) ، وفي (جلاء الأفهام) ، وغيرهما من الكتب التي أفردها لجمع أحاديث موضوع بعينه، أي: الكتب التي تَتَّسِمُ بوحدة الموضوع. ولعل السبب في ذلك: أن هذه الكتب يغلبُ عليها المادةُ الحديثية، دون الكلام والشرح والأخذ والردِّ، مِمَّا هو موجود في غيرها من كتبه، فيكونُ - لأجل ذلك - قد أولاها عنايته، واهتم بسردها مسندة. ويُلاحظ أيضاً: أنه لا يسوق - غالباً - أسانيدَ الأحاديث الْمُتَّفَقِ على صِحَّتِهَا، أو التي أخرجها أحد صَاحِبَي الصحيح. - وتارةً نجده يُسقط حَتَّى ذكر الصحابي، ويُعَلِّقُ الحديثَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: "ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال"1. ويقول: "وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في غزوة فقال ... "2. ويقول: "قال النبي صلى الله عليه وسلم ... "3.   1 الصلاة: (ص 35) . 2 الوابل الصيب: (ص 150) . 3 الوابل الصيب: (ص 185) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 ولكنَّ ذلك قليل إذا قُورِنَ بِمَا صَرَّح فيه بذكرِ الصحابي. - وقد ينقل - رحمه الله - بعضَ الأحاديث بإسناده الْمُتَّصِل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وغالباً ما يعبر عن ذلك بقوله: "روينا". قال مرة: "وقد روي لنا عنه - يعني نَبِيِّ الله إبراهيم عليه السلام - حديثاً وقع لنا متصل الرواية إليه، رويناه في كتاب الترمذي وغيره ... "1. فهذه بعض الملاحظات عن أسلوبه في النقل عن المصادر، والعزو إليها، والتخريج منها، وتنوع ذلك منه رحمه الله. سابعاً: قد يذكر الحديث عند تخريجه إياه بالمعنى، ولا يلتزم بذكر لفظه2. وهذا - والله أعلم - يقع في بعض الأحاديث التي يذكرها من حفظه خاصة، دون التي ينقلها من مصادرها. ومع ذلك، فإن الغالب عليه - رحمه الله - المحافظة على لفظ الحديث، ونَقْلِهِ بِنَصِّهِ، كما يظهرُ ذلك عند المقارنة بين كثيرٍ من النصوص الحديثية، ومصادرها التي نقل عنها وعزا إليها.   1 جلاء الأفهام: (ص 149) . 2 انظر مثلا: زاد المعاد: (1/ 318) وقارن مع الترمذي: (2/281) ح420، والزاد: (1/215) وقارن مع ابن حبان: (الإحسان: 4/180) ، والزاد: (2/108) وقارن مع أبي داود: (2/505) ح 1992، والمنار المنيف: (ص83) وانظر حاشية رقم 5 من الكتاب المذكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 على أنه - رحمه الله - قد يَرِدُ عنه ما يدلُّ على نقله الحديث بالمعنى، فنجده يقول مثلا: "أو كما قال صلى الله عليه وسلم"1. وقد ينصُّ صراحةً على أن ما ذكره هو معنى الحديث دون لفظه، فمن ذلك: - قوله في حديث: "النَّظرةُ سَهْمٌ مسمومٌ من سِهَامِ إبليس، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عن محارمِ امرأة لله، أورثَ الله قلبه حلاوةً إلى يوم يلقاه" قال: "هذا معنى الحديث"2. - وقال مرة: "وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم حديث معناه: أن الله جعلَ طعامَ ابن آدم، وما يخرجُ منه مثلاً للدنيا ... "3. ثامناً: الدقة في تمييز الروايات، وبيان الفرق بين ألفاظها، ونسبة كل لفظ إلى الكتاب الذي أخرجه. - فيقول مثلا: "هذا الحديث في الصحيحين، واللفظ لمسلم"4. - ويقول في حديث آخر: "رواه الإمام أحمد وأبو داود، وروى النسائي وابن ماجه أَوَّلَهُ"5.   1 مفتاح دار السعادة: (1/181) . 2 الجواب الكافي: (ص 229) . 3 طريق الهجرتين: (ص 455) . 4 مختصر الصواعق: (1/ 61) . 5 الروح: (ص 55) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 - ويقول في حديث آخر: "رواه ابنُ ماجه، والترمذي وهذا لفظه"1. - وعزا حديث أكلِ الحسنِ أو الحسينِ من تَمْرِ الصدقة للبخاري بلفظ: "فقال: أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة". ثم قال: "ورواه مسلم، وقال: "إنا لا تحل لنا الصدقة" 2. وبعد، فهذه أهم الخطوات التي سَارَ عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - في تخريجه للأحاديث وعزوها إلى مظانها من كتب السنن، والمسانيد وغيرها من المصادر، وما اتَّسَمَ به منهجه في ذلك. وفي ختام ذلك أُورِدُ بعض الملحوظات اليسيرة، وهي وإن كانت مما يؤخذ على ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أنها لا تكادُ تُذْكَرُ في جانب جهده الْمُوَفَّقِ في هذا الباب، وكفى المرء نُبْلاً أن تُعَدَّ مَعَايِبُه. فمن هذه الملحوظات والمآخذ: 1- أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد يطلق عزو الحديث لمؤلف من المؤلفين دون تحديد للكتاب الذي أُخْرِج فيه هذا الحديث، وقد يؤدي ذلك إلى وقوع شيء من الالتباس، وبخاصة إذا كان لهذا المؤلف أكثرُ من كتاب، فمن أمثلة ذلك:   1 الروح: (ص 108) . 2 جلاء الأفهام: (ص 111) . وانظر مزيداً من الأمثلة على ذلك في: حادي الأرواح: (ص159، 166، 206، 250) ، وزاد المعاد: (3/ 285) ، والصلاة: (ص147، 159) ، وتهذيب السنن: (7/ 81، 150، 151، 330) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 - ما ذكره من دعائه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، وقوله: "اللهم إِنَّكَ تَسْمَعُ كلامي، وترى مكاني، وتَعْلَم سِرِّي وعلانيتي ... ". فقد قال عقبه: "ذكره الطبراني"1. ومعلوم أن للطبراني معاجمَ ثلاثة، وله كتاب (الدعاء) الذي هو مظنة لوجود هذا الحديث، فلا شكَّ أن إطلاق العزو للطبراني - والحالة هذه - يوقع في نوع التباس، فلا يُدرى في أي كتب الطبراني هو؟ فهذا الحديثُ الذي عزاه للطبراني: مُخَرَّجٌ في معجميه: (الكبير) 2، و (الصغير) 3، فلزم تقييده لأجل ذلك. - ومن ذلك: عزوه حديث معاوية بن قرة في قتل من عَرَّسَ بامرأة أبيه. للنسائي دون تحديد4، مع أن الحديثَ في (سننه الكبرى) 5. فكان لابد من تقييده دفعاً لالتباسه بالصغرى، إذ هي المرادة عند الإطلاق. - ومثله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك" وأن ذلك كان في صلاة الليل، فقد عزاه إلى (سنن النسائي) 6. مع أن الحديث ليس في (الصغرى) كما هو المتبادر عند الإطلاق، وإنما هو في الكبرى7.   1 زاد المعاد: (2/ 237) . (11/ 174) ح 11405. (1/247) . 4 تهذيب السنن: (6/267) . (6/444 – 445) ح 7182 – 7186. 6 المنار المنيف: (ص 27) . (1/237) ح 404، (2/135) ح 1345. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 - وعزا حديث عمران بن حصين في ثواب السلام إلى النسائي، فقال: "رواه النسائي"1. وليس الحديث في السنن كما هو المتبادر، وإنما هو في (عمل اليوم والليلة) 2 له، ولم أر من عزاه للسنن. - وذكر حديث: "كان إذا عَرَّسَ3 بليلٍ اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عَرَّسَ قبيل الصبح نَصَبَ ذراعه ووضع رأسه على كفه" قال: "هكذا قال الترمذي"4. وليس هذا الحديث في (جامع الترمذي) كما يُفْهَمُ من إطلاقه، وإنما أخرجه في (الشمائل) 5. - وقريب من ذلك أيضاً: قوله عن حديث: "وفي بعض المسانيد ... "6. هكذا بدون تحديد. 2- قد يعزو - رحمه الله - الحديثَ إلى المصدر الأدنى رتبةً، والأبعدِ شهرةً، مع وجوده في الكتب المتقدمة رتبة وشهرة، كالصحيحين مثلا. فمن ذلك: - أنه عزا حديث أنس رضي الله عنه: "مَا صَليت خلفَ رجلٍ أوجز صلاة   1 زاد المعاد: (2/ 417) . (ص 287) ح 337. 3 التعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. (النهاية 3/206، عرس) . 4 زاد المعاد: (1/ 158) . (ص222) ح 247. 6 زاد المعاد: (1/ 168) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " عزاه لأبي داود1. مع أن الحديث بإسناده ولفظه مخرج في (صحيح مسلم) 2. - وعزا حديث الرَّجُلِ الذي كان يُتَّهَم بأم ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم علياً لقتله، وأنه وجده مجبوب الذكر. عزاه لابن أبي خيثمة وابن السكن3. مع أن الحديث في (صحيح مسلم) 4، وقد نبه على ذلك محقق (الزاد) . - وعزا حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقوله لمروان بن الحكم: "ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل ... " عزاه لأصحاب السنن5، مع أن الحديث مخرج في (صحيح البخاري) 6. 3- قد تقع لابن القَيِّم - رحمه الله - أوهام في العزو والتخريج، فمن ذلك: - حديث: "قَسَمَ الله الخير، فَجَعَله عشرة، فَجَعَل تسعة أعشاره في الشام، وبقيته في سائر الأرض". عزاه للإمام أحمد في (مسنده) 7. وليس الحديث في المسند فيما بحثت عنه، ونَبَّهَ على ذلك العلامة أحمد شاكر في تعليقه على (تهذيب السنن) .   1 الصلاة: (ص 148) . (1/ 344) ح196 (473) . 3 زاد المعاد: (5/ 16) . (4/ 2139) ح 59 (2771) . 5 زاد المعاد: (1/ 211) . 6 ك الأذان، باب القراءة في المغرب، ح764 (فتح الباري2/246) . 7 تهذيب السنن: (3/ 355) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 - وعزا حديث أنس رضي الله عنه: "مَا زَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقنتُ في الفجر حَتَّى فَارَقَ الدنيا". للترمذي1. وليس الحديث في الترمذي2. - وعزا حديث إسرائه صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ إلى الصحيح3، وليس هو في واحد منهما، وقد نَبَّهَ عليه محقق (زاد المعاد) . - وقال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر فبدا له الفجر قال: "سَمِعَ سَامعٌ بحمد الله ونعمته ... ". قال: "إسناد صحيح على شرط مسلم"4. وظاهر عبارته أن مسلماً لم يخرجه، وأنه على شرط كتابه، مع أن الحديث مُخَرَّج في (صحيح مسلم) 5. وأقول: الغالبُ أن ذلك لا يقعُ - على قِلَّته وَنُدْرَتِهِ - لابن القَيِّم إلا فيما كتبه من حفظه؛ حيث إنه كان لا يَكُفُّ عن الكتابة والتأليف حالَ السفر، وفي غياب الكتب، كما نَصَّ على ذلك في (زاد المعاد) وغيره، فهو لأجل ذلك معذور، ومن ذا الذي يسلم من الوهم والخطأ؟! وهذه الأوهام اليسيرة إنما هي قطرة في بحر حفظه وإتقانه وقوة استحضاره، وشيء لا يكاد يذكر إذا قيس بكثرة ما كتب وسطر، رحمه الله تعالى، وأجزل له الأجر والمثوبة، وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.   1 زاد المعاد: (1/ 275) . 2 انظر: نصب الراية: (2/131 -132) . 3 زاد المعاد: (3/434) . 4 الوابل الصيب: (ص 198) . (4/ 2086) ح 69 (2718) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 المبحث الثاني: فِي بَيَانِ مَنْهَجِهِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الحديث لا شكَّ أَنَّ الحكم على الحديث، وبيان صحته من ضَعْفِه، وصدقه من كذبه، ليس مقصوداً لذاته، وإنما وراء ذلك غاية عظيمة، ألا وهي: أن يعبد الإنسان ربه على بصيرة وهدى، مُتَّبِعاً في ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، معرضاً عما سواه. إذ لولا تسخيرُ الله لهؤلاء الأئمة الجهابذة النُّقَّاد - الذين مَيَّزُوا الصحيحَ من المعلول، والصدق من الكذب - لقال من شَاءَ فِي دِين الله مَا شاء، ولَعُبِدَاللهُ - سبحانه - بالأهواءِ والبدعِ، التي ما أنزل بها من سلطان، ولا جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن ينبغي أن يُرْجَعَ في معرفة ذلك إلى أئمة هذا الشأن وأربابه العارفين به، المشهود لهم بالتَّقَدُّمِ ورسوخِ القدم في الكشف عن خباياه، ومعرفة خفاياه. وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذا المعنى، وأشار إليه، فقال - عند كلامه على حديث: "مَنْ عَشِقَ فَكَتَم ... " -: "والتحاكم في ذلك إلى أهلِ الحديث، لا إلى العارين الغرباء منه"1.   1 روضة المحبين: (ص 194) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وقال في موضع آخر - عند كلامه على الحديث نفسه -: "وكلامُ حفاظ الإسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان، وإليهم يرجعُ في هذا الشأن، وما صَحَّحَهُ - بل ولا حَسَّنَهُ - أحدٌ ممن يُعَوَّلُ في علم الحديث عليه، ويُرجع في التصحيح إليه"1. وقد مضى ذِكْرُ كلامه - رحمه الله - في بيان أهمية الوقوف على الإسناد في الحكم على الحديث2؛ إذ عن طريق النظر في الإسناد يتمكن الناقدُ من كشف عِلَّةِ الحديث، ومعرفة صحته من ضعفه. وقد قام ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذه المهمة الجليلة - مهمة الحكم على الحديث وبيان درجته - خير قيام، فلا يكاد يخلو بحث من الأبحاث التي تَعَرَّضَ لها، ولا مناسبة من المناسبات التي تستدعي مناقشة أدلة الخصم، ولا موضوعٍ من الموضوعات التي نَذَرَ على نفسه أن يستوفي الكلام فيها، إلا وهو قائمٌ بهذه المهمة على أَتَمِّ الوجوه، فجمع بذلك: بين العلم بالحديث، والفقه فيه، ومعرفةِ عِلَلِهِ، وتمييز صحيحه من سقيمه. بيان منهجه في الحُكْمِ على الحديث: لسنا - ونحن بصدد الكلام عن ذلك - أمام كتاب واحد ينحصر فيه جهد ابن القَيِّم في هذا الباب، ولكننا أمام مقدار هائلٍ من المؤلفات في فنون مختلفة: من فقه، وحديث، وعقيدة، ولغة، وغير ذلك.   1 الجواب الكافي: (ص 367) . 2 انظر ص: (1/335 - 336) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 ومع هذا، فإنه يمكن تحديدُ المنهج العام لابن القَيِّم في الحكم على الحديث فيما يلي: أولاً: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - مع اهتمامه بالحكم على أكثر الأحاديث التي أوردها في كتبه، وعنايته بذلك عناية فائقةً، قد تَرَكَ جملةً كبيرةً من الأحاديث فلم يحكم عليها، مع إيراده بعضها مورد الاستدلال بها1، وستأتي بعد قليل إشارةٌ إلى بعض الأحوال والظروف التي يسكت فيها عن الأحاديث أو يَقِلُّ حكمه عليها. ثانياً: قد يصرح ابن القَيِّم - رحمه الله - بعدم مَعرفَتِهِ بحال الحديث ودرجته من الصحة أو الضعف. فيقول مثلاً: "لا أعرف حال هذا الحديث"2. ويقول: "والله أعلم بحال هذين الحديثين"3. ويقول: "وَرَدَ ... في حديث لا نعلم صِحَّتَهُ"4. إلى غير ذلك من الأمثلة5. وهذا من كمال تواضعه، وتمام نصحه، وعلو شأنه رحمه الله تعالى. ثالثاً: تفاوت أحكامه - قلة وكثرة - بحسب موضوع الكتاب؛ فبينما يكثرُ من الحكمِ على الحديث، وبيان درجته في الكتب والمباحث التي   1 وقد جمعت الأحاديث التي سكت عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - في كتبه فبلغت شيئاً كثيراً. 2 زاد المعاد: (5/ 796) - وانظر: أحكام أهل الذمة: (2/ 449) . 3 زاد المعاد: (4/ 348) . 4 زاد المعاد: (4/ 395) . 5 انظر منها: زاد المعاد: (1/ 141، 177) ، (4/ 31، 228) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 تُعنى بالأحكام الفقهية، والتوحيد والعقيدة، وما شابه ذلك من المباحث التي تتعلق بالحلال والحرام، نجد أن حكمه على الحديث والكلام عليه يقلُّ في الكتب والمباحث التي تتناول: الزهد والرقائق، والترغيب والترهيب، والفوائد العامة ونحو ذلك. فبينما نجد كتباً مثل: (زاد المعاد) و (تهذيب السنن) و (الصلاة) و (جلاء الأفهام) و (اجتماع الجيوش الإسلامية) ، و (إعلام الموقعين) تمتلأُ بتلك الأحكام الحديثية، وبيانُ علل كثير من الأحاديث، وصحيحها من ضعيفها، فإن كتباً أخرى، مثل: (بدائع الفوائد) و (الجواب الكافي) و (مدارج السالكين) ، و (روضة المحبين) وأمثالها تَقِلُّ فيها هذه الأحكام بالنسبة لسابقتها. وليس هذا من باب الإهمال والإغفال، أو قِلَّةِ العناية، وإنما هذا ما تقتضيه ظروف البحث في الغالب؛ فابن القَيِّم حينما يواجه خصوماً ومخالفين فيما يتعلق بأحكام الدين، يتطلب الأمر مزيداً من الجهد في بيان ضعف أدلتهم، وفي المقابل تقرير صِحَّة ما يستند إليه، أو رَدِّ الطعن الموجه إليه. في حين أنه لا يكون محتاجاً إلى كل هذا الجهد وهو يتحدث عن: أمراض القلوب وأدوائها، وتشخيص الدواء الناجع لعلاجها، وأنواع المحبة وأقسامها، وتفسير بعض الآيات وبيان بعض أسرارها، وشرحِ بعض الألفاظ اللغوية وبيان إعرابها، إلى غير ذلك من البحوث والمؤلفات التي هذا حالها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 رابعاً: ثبات أحكامه الحديثية وعدم تغيرها؛ فإن ابن القيم قد يتناول الحديث الواحدَ بالكلام في أكثر من كتاب من كتبه، ومع ذلك: نجد أَنَّ حُكْمَهُ على الحديثِ، وطريقةَ معالجته له - تصحيحاً أو تضعيفاً - لا يكادُ يختلفُ من موضعٍ لآخر في الكثير الغالب، وَإِن وَقَعَ خلاف ذلك، فإنَّه يكون نادراً جداً. وهذا - بلا شك - يؤكد حقيقة مهمة، وهي: الاستقرار والثبات في أحكام ابن القَيِّم الحديثية، وعدم التناقض والتضارب، بحيث يقل - بل يندر - وقوع اضطراب في أحكامه على الحديث الواحد. ومن أمثلة ذلك: - حديث: "مَنْ عَشِقَ وَكَتَمَ وَعَفَّ وَصَبَرَ ... ". فقد تناوله ابن القَيِّم - رحمه الله - في كتبه: (الجواب الكافي) 1، و (روضة المحبين) 2، و (زاد المعاد) 3. وَجَاءَ كَلامُهُ في الحكم عليه، وبيان علته، وإثباتِ بطلانه، جاء كلامه في ذلك متفقاً - إلى حَدٍّ كبير - في هذه المواضع الثلاثة. ومن الأمثلة على ذلك أيضاً: - حديث "لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ له". فقد عالجه بالطريقة نفسها في: (إغاثة اللهفان) 4، و (زاد المعاد) 5، و (إعلام الموقعين) 6.   1 ص: (367) . (ص 193- 194) . (4/275- 278) . (1/270) . (5/109) . (3/44) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 - وحديث أبي مالك الأشعري "في ذَمِّ الغِنَاء والملاهِي". فقد تَكَلَّم عليه في: (إغاثة اللهفان) 1، و (تهذيب السنن) 2 و (روضة المحبين) 3، و (الكلام على مسألة السماع) 4. - وحديث: "أَفْطَر الحاجمُ والمحجوم". فقد ذكره وحكم عليه وَتَوَسَّعَ فيه في: (زاد المعاد) 5، و (تهذيب السنن) 6. - وحديث تلقين الميت بعد دفنه. تكلم عليه في: (زاد المعاد) 7، و (الروح) 8، و (تحفة المودود) 9. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تكرر فيها حكمُ ابن القَيِّم على الحديث الواحد في مواضع شَتَّى، مع اتِّسَاق كلامه وتوافقه، وعدم اختلاف حكمه. خامساً: اختلاف عبارات ابن القيم في الحكم على الحديث وتنوعها؛ فلم تكن الأحكام الحديثية التي صَدَرَتْ عن ابن القَيِّم - رحمه الله - على شَاكِلَةٍ واحدة، وَإِنَّمَا اختلفت عباراته وأحكامه: طولاً وقصراً، وإجمالاً وتفصيلاً.   (1/258- 263) . (5/270- 272) . (ص147- 148) . (ص 410، 472) . (3/502) . (3/243- 257) . (1/522- 523) . (ص 16) . (ص 149) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 فبينما نجده - رحمه الله - يحكمُ على حديث بكلمةٍ واحدةٍ أو كلمتين أو أكثر، نجده في حديث آخر يُسَطِّرُ أوراقاً كثيرةً في الكلام على هذا الحديث، وبيان ما فيه، وتقرير صحته أو ضعفه. ولا شَكَّ أن هذا التفاوتَ والتباينَ خاضع للظروف والأحوال الخاصة بكل حديث: - فيطيلُ مثلاً في تقرير صحة الحديث وإثباته: إذا كان مما طُعِنَ فيه بما يرى أنه كلام لا يثبتُ مثله في ميزان النقد، فيقوم بَرَدِّ هذه العلل والجواب عنها، وإثبات صِحَّة الحديث أو حسنه. - وكذا يطيل في بيان ضعف الحديث، وسردِ علله وتفصيلها: حين يجدُ أن هذا الحديث يعارضُ ما يرى أنه أَصَحُّ منه وأثبت، فيبالغ حينئذٍ في إثباتِ الصحيح، ورد ما يعارضه مما يكون معلولاً. أما الأحاديث التي يكون الحكم عليها مُسَلَّمَاً لا نزاع فيه، فإنَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - يطلق حكمه عليها في إيجاز واختصار. - وأيضاً: فإنه يطيلُ النَّفَس، ويوسع الكلام على الأحاديث المتعلقة بالعقيدة والأحكام، بخلاف الأحاديث التي ليست كذلك، فإنَّ الحكم عليها غالباً ما يكون مقتضباً. - وأيضاً: فإنَّه قد يختصرُ الكلامَ على الحديث في موضع، اعتماداً على أنه قد فَصَّلَ الكلام عليه في موضع آخر من كتبه، أو من الكتاب نفسه، وقد يُنَبِّهُ - في مثل ذلك - في موضع الاختصار على موضع البسط ويشير إليه، ومن أمثلة ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 أنه عند كلامه على حديث: "نومه صلى الله عليه وسلم جُنُبَاً دون أن يَمَسَّ ماءً". قال في كتابه (زاد المعاد) 1: "وهو غلط عند أئمة الحديث، وقد أشبعنا الكلامَ عليه في كتاب تهذيب سنن أبي داود ... "2. سادساً: في كثير من الأحيان ينقل ابن القَيِّم أقوال الأئمة في الحكم على الحديث: تأييداً لحكمه، وتأكيداً لاختياره، فمن ذلك: - قوله في حديث "قَدْ أَفْطَرَ" - يعني: الذي قَبَّلَ وهو صائم - قال: "فلا يصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وقال الدارقطني ... : لا يثبت هذا. وقال البخاري: هذا لا أُحَدِّثُ به، هذا حديث منكر"3. - وقال في حديث جابر رضي الله عنه في استثناء كلب الصيد مما نُهِيَ عن ثمنه: "لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء كلبِ الصيد بوجهٍ، أمَّا حديث جابر: فقال الإمام أحمد - وقد سئل عنه -: هذا من الحسن بن أبي جعفر، وهو ضعيف. وقال الدارقطني: الصواب أنه موقوف على جابر. وقال الترمذي: لا يصحُّ إسناد هذا الحديث"4. - وقال في حديث: "مَنْ دَخَلَ السُّوق فَقَال: لا إله إلا الله ... ": "فهذا الحديث معلول أعله أئمة الحديث ... قال الترمذي: هذا حديث غريب ... وقد روي من طريق: عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، لكنه   (1/154) . 2 انظره: (1/154-155) . 3 زاد المعاد (2/58) . 4 زاد المعاد: (5/770) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 معلول أيضاً". ثم نقل عن أبي زرعة وأبي حاتم قولهما: "هذا حديث منكر". وعن ابن أبي حاتم قوله: "هذا الحديث خطأُُ"1. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا الجانب. سابعاً: قد لا يصرح ابن القَيِّم - رحمه الله - برأيه واختياره في الحكم على الحديث، بل يكتفي بعرض آراء المصححين والمضعفين لهذا الحديث، وأجوبة كُلِّ فريق عن الآخر، دون أن يَنُصَّ صراحة على حكمه واختياره في هذا الحديث. وفي مثل ذلك ندرك رأى ابن القَيِّم - رحمه الله - ببعض القرائن التي تظهر من خلال كلامه، أو بحكمه على الحديث نفسه في موضع آخر. - ومن أمثلة ذلك: "حديث القلتين"2.فقد أَخَذَ ابن القَيِّم -رحمه الله- في عرض آراء المصححين له، معبراً عنهم بقوله: "قال المحددون"، ثم عَرَضَ أجوبة المضعفين للحديث، معبراً عنهم بقوله: "قال المانعون من التحديد بالقلتين". لكن دلت عباراته - فيما بعد - على أنه لا يرى التحديد بالقلتين، فَفُهِمَ أنه مع من يضعفون هذا الحديث. - ومن ذلك أيضاً: كلامه على حديث "الأوعال". فقد عرض رأى من رَدَّهُ وحججهم، ثم قال: "قال المثبتون ... ". ثم ساق رأى من صححه، وَرَدَّهم على مضعفيه، وقد فُهِمَ أخذه بتصحيح هذا الحديث من   1 المنار المنيف: (ص 41-42) . 2 تهذيب السنن: (1/56-74) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 بعض كلامه، كقوله في الردِّ على من ضعفه بالوليد بن أبي ثور: "فأيُّ ذنب للوليد في هذا؟ وأي تعلق عليه؟ وإنما ذنبه: روايته ما يخالف قول الجهمية، وهي علته المؤثرة عندهم"1. وهذا ظاهرٌ في إثباته الحديث، وذلك من رَدِّهِ على الجهمية نفاة الصفات. ثم جاء تصحيحه له صريحاً في مواضع أخرى؛ فإنه قال في (اجتماع الجيوش) 2: "حديث حسن صحيح". وقال في موضع آخر: "رواه أبو داود بإسناد جيد"3. فالمقصود: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - حين لا يُصَرِّح برأيهِ في الحكم على الحديث، ولا ينصُّ على ذلك، فإنَّ النَّاظِرَ في كلامه عليه مراعاة أمرين: - الأول: التَّنَبُّهُ لبعض القرائن الموجودةِ في كلامهِ، مما يُعِينُ على معرفةِ اختياره. - الثاني: البحثُ في كُتُبِهِ الأخرى عن كلام له حول الحديث نفسه، فقد يُحْكَمُ عليه هناك. ثامناً: قد يَكْتَفِي ابن القَيِّم بتصدير الحديث بلفظةٍ تفيدُ صِحَّتَهُ أو ضعفه، دون إصدار حكمٍ صريح عليه.   1 تهذيب السنن: (7/93) . (ص 93) . 3 مختصر الصواعق: (2/ 356) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 - فمن ذلك: استعماله كلمة: (ثَبَتَ) في التعبير عن صحة الحديث، وقد تَبَيَّنَ لي بالتتبع أنه يستعملها - في الكثير الغالب - في الحديثِ الذي خُرِّجَ في (الصحيحين) أو أحدهما1. وربَّمَا ضَمَّ إلى هذه الكلمة التصريح بكونه في (الصحيحين) ، فيقول: "وثبت عنه في الصحيحين ... "2. - وقد تَرِدُ هذه الكلمة عنده مقرونةً ببيان صِحَّةِ الحديثِ، كقوله: "ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث بهز بن حكيم ... أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة". ثم قال: "قال أحمد، وعلى بن المديني: هذا إسناد صحيح"3. - ومن الألفاظِ التي استعملها في هذا الصدد أيضاً: (صِيَغُ التمريض) للتعبير عن ضَعْفِ الحديث، فقد أَكْثَرَ من استعمال كلمة: (يُذْكَر) 4، وكلمة: (رُوِيَ) 5 مقتصراً على ذلك في التعبير عن ضَعْفِ الحديث. - وقد ينص - مع ذلك - على ضعف الحديث، إضافة إلى تصديره بصيغة التمريض، فمن ذلك:   1 انظر مثلاً: زاد المعاد: (1/285) ، (2/334، 335، 384، 387) . 2 زاد المعاد: (2/383) . 3 زاد المعاد: (5/ 5) . 4 انظر مثلاً: زاد المعاد: (2/370، 375، 376، 383، 393، 401، 404، 415، 440، 456) ، (3/125) ، (4/148، 156، 165، 212) . 5 انظر مثلاً: زاد المعاد: (2/77، 406، 466) ، والوابل الصيب: (ص27) ، والكلام على مسألة السماع: (ص199، 112) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 قوله: "ويُذْكَرُ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند فطره: "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت ... " ولا يثبت"1. وقوله: "ويُذْكَر عنه: "من خيرِ خصالِ الصَّائمِ السواك"، رواه ابن ماجه من حديث مجالد، وفيه ضَعْفٌ"2. وقوله: "ويُذْكَر عنه: "أنه كان يُكَبِّر من صلاة الفجرِ يوم عرفة إلى العصر من أيام التشريق، فيقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد"، وهذا وإن كان لا يصحُّ إسنادُهُ، فالعمل عليه"3. وقال: "وقد رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم "أنه كان يُسَلِّمُ تسليمةً واحدةً تلقاءَ وجهه"، ولكن لم يثبت عنه ذلك من وجه صحيح"4. وقال: "وقد رُوِيَ عنه: "أنه صلى على معاوية بن معاوية الليثي وهو غائب"، ولكن لا يصح ... "5. وقال: "وقد رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصوم السبت والأحد كثيراً، يقصد بذلك مخالفة اليهود والنصارى ... " وفي صحة هذا الحديث نظر"6.   1 زاد المعاد: (2/51) . 2 زاد المعاد: (2/63) . 3 زاد المعاد: (2/ 395) . 4 زاد المعاد: (1/ 259) . 5 زاد المعاد: (1/520) . 6 زاد المعاد: (2/78) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 فهذه بعضُ الأمثلة لما استعمله ابن القَيِّم - رحمه الله - من ألفاظ للدلالة على درجة الحديث: إما مكتفياً بهذه الألفاظ وحدها، أو ضَامًّا إليها التصريح بصحة الحديث أو ضعفه. تاسعاً: قد يلجأ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى بعض الأساليبِ لِتَأكيدِ الحًُكْمِ الذي أصدره على الحديث. ومن أبرز الأساليب التي استعملها في ذلك: الحلف على ثبوت الحديث أو عدمه، فيستعمل - رحمه الله - أقوى المؤكدات في إثبات الحكم الذي توصل إليه وارتضاه في الحديث. وكان أكثرُ استعماله لهذه الطريقة في الأحاديث التي لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو التي وقع فيها غلط ووهم، فمن ذلك: - قوله في حديث أبي هريرة: في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، فقال: "يفرق بينهما": "منكر لا يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً ... فوالله ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سمعه أبو هريرة، ولا حدث به"1. - وقال في حديث عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثاً "أن لها السكنى والنفقة": "فنحن نشهدُ بالله شهادةً نُسْأَلُ عنها إذا لقيناه: أن هذا كذبٌ على   1 زاد المعاد: (5/520-521) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 عمر رضي الله عنه، وكذبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. - وقال في حديث معاوية رضي الله عنه، أنه قَصَّرَ عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام العشر: "فنحن نحلف بالله: أن هذا ما كان في العشر قط"2. فهذه بعضُ الأمثلة للأحكام الحديثية التي حَلَفَ عليها ابن القَيِّم رحمه الله، وهي تَدُلُّ على تَمَكُّنِه في هذا الباب، وسعةِ اطِّلاعِهِ عَلَى الْمَرْوِيَّات، والقدرة على تَمْييزِ صحيحها من سقيمها، وصَوَابها من غلطها، بحيث يُمْكِنُهُ - بكل ثقة - أن يجزم بحكمه، حالفاً بالله تعالى، ومشهداً إِيَّاه على حكمه. عاشراً: قد يحكمُ على الحديث من خلال النَّظر إلى مَتْنِه، دون دراسة إسناده والنظرِ في حالِ رواته. وقد سبق - عند الكلام على "الحديث الموضوع" - بيانُ الضوابطِ التي وضعها - رحمه الله - لمعرفةِ كونِ الحديثِ موضوعاً دون النظر في إسناده3، فإنَّ مَا أَودعه في كتابه (المنار المنيف) من ذلك يُمَثِّل منهجاً متكاملاً لنقد المتن والحكم عليه بِمَعْزِل عن إسناده. ولم تكن تجربةُ ابن القَيِّم في نقد المتن محصورةً في هذا الكتاب   1 زاد المعاد: (5/539) . 2 زاد المعاد: (2/137) . 3 انظر ص: (1/460 - 469) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وحده، بل إنه قد انتهج ذلك في سائر كتبه وأبحاثه، كما يُشَاهد ذلك كُلُّ مَنْ طَالَعَ كتاباته. من المعايير التي استعملها لنقد المتن في غير كتابه (المنار) : 1- استدلاله على بطلانِ الْمَتْنِ بكونه مما يَسْتحِيلُ وقُوعُه عَقْلاً: - ففي قصة قدوم وفد هَمْدَان على النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من إسلامهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بقتال ثقيف، قال ابن القَيِّم - رحمه الله - منتقداً هذا المتن: "ولم تكن همدان أن تقاتلَ ثقيفاً، ولا تُغِير على سرحهم؛ فإنَّ هَمْدَان باليمن، وثقيفاً بالطائف"1. - وفي قصة قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، وخروجِ النساء والصبيان لِتَلَقِّيهِ وهم ينشدون: طَلَعَ البَدْرُ عَلَينَا ... مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعِ قال ابن القَيِّم: "وبعض الرواة يَهِمُ في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة، وهو وَهْمٌ ظاهرٌ؛لأن ثَنِيَّات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادمُ من مكة إلى المدينة، ولا يَمُرُّ بها إلا إذا تَوَجَّهَ إلى الشام"2. فاستدلَّ - رحمه الله - على بطلانِ وغلطِ هذين الحديثين: باستحالة حصول ما تَضَمَّنَاه عقلاً.   1 زاد المعاد: (3/623) . 2 زاد المعاد: (3/551) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 2- استدلاله على بطلان المتن بكونه مما يستحيل وقوعه زمنياً: - ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نأكلُ مما قَتَلَ الله؟ فأنزل الله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} [الأنعام: 121] ".، قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في إعلال هذا الحديث من جهة متنه: "إنَّ سورة الأنعام مَكِّيَّة باتفاق، ومجيءُ اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومجادلتهم إياه إنما كان بعد قدومه المدينة، وأما بمكة فَإِنَّمَا كان جدالُهُ مع المشركين عُبَّاد الأصنام"1. - وفي حديث الترمذي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مكة يوم الفتح وعبد الله بن رواحة بين يديه ينشد ... ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وهذا وَهْمٌ؛ فإنَّ ابن رواحة قُتِلَ في هذه الغزوة - يعني مؤتة - وهي قبل الفتح بأربعة أشهر، وإنما كان يُنْشَدُ بين يديه شِعْرُ ابن رواحة، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل النقل"2. 3- استدلالُهُ على بطلان المتن بكونه قد وَقَعَ مِثْلُهُ ولم يأخذْ حُكْمَهُ: - فاستدل - رحمه الله - على استحالة أن يكون كُلٌّ من: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع من أهل بدر: بأن النبي صلى الله عليه وسلم هَجَرَهُمَا، ولو كانا من أهل بدر ما فَعَلَ ذلك معهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَهْجُر حَاطِباً وقد جَسَّ عليه3.   1 تهذيب السنن: (4/113) . 2 زاد المعاد: (3/386) . 3 زاد المعاد: (3/577) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 فهذه بعض الأساليب التي اعتمدها ابن القَيِّم في نقد المتن والاستدلال على غلطه، دون النظر إلى إسناده. حادي عشر: رُبَّمَا استعمل ابن القَيِّم - رحمه الله - في حكمه على الأحاديث بعض العبارات التي تفيدُ التصحيح النسبي، كقوله في حديث: "هذا أصحُّ من كذا". أو: "أَمْثَل منه"، ونحو ذلك. وقد مضى معنا في مبحث الحديث الصحيح نقل ضوابط مهمة عن ابن القَيِّم في ذلك، وأن هذا لا يلزم منه أن يكون هذا الْمُقَدَّمُ على غيره صحيحاً، بل يكون ضعيفاً ويقال له: "أصحُّ من غيره"، وذلك بالنسبة لهذا الغير1. وَتَقَدَّمَ - أيضاً - عند الكلام على منهجه في (المنار المنيف) نقل بعض أمثلة من ذلك، وأن أحاديث البابِ قد تكونُ كُلها ضعيفة أو باطلة، ومع ذلك فإنه يذكر أمثلها أو أحسنها ولا يعني ذلك – أبداً- صحة هذا المقدم2. ومن أمثلة ذلك أيضاً: أنه ذَكَرَ حديثين في الوتر، وَحَكَمَ ببطلانهما، وهما: حديث "نَهَى عن البُتَيْرَاء"، وحديث: "وترُ الليل ثلاثٌ كوتر النهار صلاة المغرب". ثُمَّ قال في الثاني منهما: "وهذا الحديث ... أصحُّ من الأول"3. هذا مع حكمه ببطلانهما.   1 انظر ص: (1/374 – 375) . 2 انظر ص: (1/305 – 306) . 3 إعلام الموقعين: (2/373-374) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وبعدُ، فهذا مَا تَيَسَّرَ التَنْبِيه عليه حول منهج ابن القَيِّم - رحمه الله - في الحكم على الحديث وبيان درجته، ويمكنُ مراجعة المزيد من أحكامه الحديثية وأمثلة لها فيما تَقَدَّمَ ذكره عند الكلام على آرائه في علوم الحديث وقواعده، وكذا فيما يأتي في باب دراسة الأحاديث التي حَكَمَ عليها إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 الفصل الربع: منهج ابن القيم في شرح الحديث، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه المبحث الأول: منهجه في شرح الحديث، وبيان معانيه. ... الفصل الرابع: مَنْهَج ابن القَيِّم في شَرْحِ الحديث، وبيانِ معانيهِ، واسْتِخْرَاجِ أَحْكَامِهِ، وَطُرُقِ اسْتِدْلالِهِ بِهِ، وَمَا يَلْحَقُ بِذلِك لقد اتَّسَمَتْ مؤلفات ابن القَيِّم - رحمه الله - وأبحاثُهُ باشتمالها على معالجة النصوص الحديثية، والكلامِ عليها، وذلك من خلال: بيان معانيها، وشرح غريبها، واستخراج أحكامها وفوائدها، واستنباط الفقه منها، والكَشْفِ عن وجه دلالة تلك النصوص على الحكم الشرعي، إلى غير ذلك من الأمور الْمُهِمَّاتِ التي لا غِنَى عنها للَّناظرِ في الأحاديث النبوية والمطالع لها. ويمكننا أن نُمَيِّزَ المنهجَ الذي سار عليه ابن القَيِّم في ذلك كُلِّهِ من خلال المباحث التالية: المبحث الأول: منهجه في شرحِ الحديثِ، وبيان معانيه. المبحث الثاني: منهجه في بيان غريب الحديث . المبحث الثالث: منهجه في التعريف بالأماكن والبقاع. المبحث الرابع: منهجه في الاستدلال بالنصوص الحديثية على آرائه. المبحث الخامس: منهجه في التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 المبحث الأول: مَنْهَجُهُ فِي شَرْحِ الحديثِ وبَيَانِ مَعَانِيه إن النَّاظِر في كتب ابن القَيِّم - رحمه الله - والمطالع لها يلاحظُ أنَّ الشَّرْحَ الكُلِّي الْمُتَكَامِل، وعلى وجه التفصيل، لم يحتل رقعةً واسعةً ضمن أبحاثه، وذلك أَنَّ ابن القَيِّم رحمه الله - في الكثير الغالب - يُوردُ النصوص الحديثية: - مستدلاً بها على رأي يراه، أو مبدأٍ يقرره. - أو رَادًّا بها على الرأي المخالف، فيبرهنُ على أَنَّ النصوص على خلاف هذا الرأي. - أو مُبَيِّنَاً وجه دلالة النَّصِّ على مذهبٍ ما. - أو مُوَضِّحِاً بها حديثاً آخر ومؤكداً إياه، فيسرد الأحاديثَ الموافقةَ له في الباب. إلى غير ذلك من المقاصد التي اشتملت عليها مؤلفاته رحمه الله. ولذلك فَإِنَّ إفراد النصوص الحديثية بالشرحِ والبيانِ على وجه التفصيل، لم يكن شُغل ابن القَيِّم الأول، وأنه وإنِ اشتملت أبحاثه - في الغالب - على مقاصد الشرح وعناصرِه الأساسية - كما سيأتي ضمن موضوعات هذا المبحث - إلا أن تلك العناصر لم تكن تجتمعُ وتتكاملُ في الحديث الواحد إلا في القليل؛ إذ كان - رحمه الله - يتناول كل حديث بما يناسب حاله، وبما يقتضيه المقام: من بيان فائدة، أو تنبيه على حكم، أو تعقب لرأي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 نماذج من شروح ابن القَيِّم للأحاديث النبوية: ويمكننا أن نستعرضَ في هذا المقام بعض الأمثلة من شرحِ ابنِ القَيِّم لبعض الأحاديث التي تَكَامَلَ فيها شرحه، وذلك للوقوفِ على العناصر الأساسية التي تُمَيِّزُ منهجه في ذلك، فمن ذلك: - حديث: "مِفْتَاحُ الصَّلاة الطُّهور، وتَحْرِيْمُهَا التكبيرُ، وَتَحْلِيلُهُا التَّسْلِيم". قال ابن القَيِّم رحمه الله: " اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أحكام: الحكم الأول: أن مِفْتَاحَ الصلاة الطهور. والمفتاح: ما يُفْتَحُ به الشيء المغلق، فيكونُ فاتحاً له، ومنه: "مِفْتَاح الجنة: لا إله إلا الله". وقوله: "مِفْتَاح الصَّلاة الطُّهور" يفيد الحَصْرَ، وأنه لا مفتاحَ لها سواهُ، من طريقين: - أحدهما: حصرُ المبتدأ في الخبر إذا كانا معرفتين، فَإِنَّ الخَبَرَ لابُدَّ أن يكون مساوياً للمبتدأ أو أَعَمَّ منه … فإذا كان المبتدأُ مُعَرَّفًا بما يقتضي عمومه -كاللام، وكل ونحوهما - ثم أخبر عنه بخبر، اقتضى صحةُ الإخبار أن يكونَ إخباراً عن جميع أفراد المبتدأ؛ فإنه لا فردَ من أفراده إلا والخبرُ حاصل له. وإذا عُرِفَ هذا، لَزِمَ الحصرُ، وأنه لا فردَ من أفراد ما يُفتتح به الصلاة إلا وهو الطهور … الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 - والثاني: أن المبتدأَ مضافٌ إلى الصلاة، والإضافة تَعُمُّ، فكأنَّه قيل: جميعُ مفتاح الصلاة هو الطهور. وإذا كان الطهور هو جميع ما يُفْتَحُ به، لم يكن لها مفتاح غيره … . وإذا عرف هذا، ثَبَتَ أن الصلاة لا يمكنُ الدخولُ فيها إلا بالطهور. وهذا أدل على الاشتراط من قوله: "لا يقبلُ الله صلاة أحدكم إذا أَحْدَثَ حتى يتوضأ" من وجهين: - أحدهما: أن نفي القبولِ قد يكونُ لفواتِ الشرط وعدمه، وقد يكونُ لمقارنة مُحَرَّمٍ يمنعُ من القبول: كالإباق، وتصديق العَرَّاف، وشربِ الخمر ... ونحوه. - الثاني: أن عَدَمَ الافتتاح بالمفتاح يقتضي أنه لم يحصل له الدخول فيها، وأنه مصدود عنها ... وأما عدم القبول فمعناه: عدم الاعتداد بها، وأنه لم يرتبْ عليها أثرها المطلوب منها، بل هي مردودة عليه … فإن قيل: فهل في هذا الحديث حجةٌ لمن قال: إن عادم الطَّهورين لا يُصَلِّي حتى يقدر على أحدهما؛ لأن صَلاتَهُ غيرُ مفتتحة بمفاتحها، فلا تقبلُ منه؟ قيل: قد اسْتَدَلَّ به من يرى ذلك، ولا حجةَ فيه. ولابُدَّ من تمهيد قاعدة يتبين بها مقصود الحديث، وهي: أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الله - تعالى - ورسوله، أو جَعَلَهُ شرطاً للعبادة، أو رُكْنَاً فيها، أو وَقَفَ صِحَّتَهَا عليه: هو مُقَيَّدٌ بحال القدرة؛ لأنها الحالُ التي يُؤْمَرُ فيها به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وأما في حال العجز فغيرُ مقدورٍ ولا مأمورٍ، فلا تَتَوقفُ صحةُ العبادة عليه. وهذا كوجوب القيام والقراءة والركوع والسجود عند القدرة، وسقوط ذلك بالعجز. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار". ولو تَعَذَّرَ عليها الخمارُ صَلَّتْ بدونه، وَصَحَّتْ صلاتها ... ونظائره كثيرة، فيكون "الطهور مفتاح الصلاة" هو من هذا … وفي الحديث دليلٌ على اعتبار النِّيَّةِ في الطهارة بوجهٍ بديعٍ؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم جَعَل الطهور مفتاح الصلاة التي لا تُفْتتح ويُدْخَل فيها إلا بِهِ، وما كان مفتاحاً للشيء كان قد وُضِعَ لأجله وأُعِدَّ له. فَدَلَّ على أن كونه مفتاحاً للصلاة هو جهة كونه طهوراً، فإنه إنما شُرِعَ للصلاة، وجُعِلَ مفتاحاً لها، ومن المعلوم: أن ما شُرِع للشيء ووضع لأجله لابد أن يكون الآتي به قاصداً ما جُعِلَ مفتاحاً له ومُدْخِلاً إليه، هذا هو المعروف حِسَّاً، كما هو ثابت شرعاً. ومن المعلوم أن من سَقَطَ في ماء - وهو لا يريد التطهر - لم يأتْ بما هو مفتاح الصلاة، فلا تفتح له الصلاة، وصار هذا كمن حكى عن غيره أنه قال: لا إله إلا الله. وهو غير قاصد لقولها، فإنها لا تكون مفتاحاً للجنة منه، لأنه لم يقصدها … فهكذا هذا يجب أن لا يكونَ مُتَطَهِّرَاً، وهذا بحمد الله بَيِّنٌ. فصل الحكم الثاني: قوله: "وَتَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيرُ". وفي هذا من حصرِ التحريمِ في التَّكْبِير نظيرُ ما تَقَدَّمَ في حصرِ مفتاحِ الصلاة في الطهور من الوجهين. وهو دليل بَيِّنٌ أنه لا تحريم لها إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 التكبير. وهذا قول الجمهور وعَامَّةِ أهل العلم قديماً وحديثاً. وقال أبو حنيفة: ينعقدُ بكلِّ لفظٍ يدلُّ على التعظيم، فاحتج الجمهور عليه بهذا الحديث. ثم اختلفوا، فقال أحمد ومالك وأكثر السلف: يتعينُ لفظ "الله أكبر" وحدها، وقال الشافعي: يتعين أحد اللفظين: "الله أكبر" و"الله الأكبر" … والصحيح قول الأكثرين، وَأَنَّه يتعين "الله أكبر" لخمس حجج: - إحداها: قوله: "تحريمها التكبير"، واللامُ هنا للعهد، فهي كاللامِ في قوله: "مفتاح الصلاة الطهور" ... وهكذا التكبير هنا: هو التكبير المعهود، الذي نقلته الأمة نقلاً ضرورياً خلفاً عن سلف عن نبيها صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقوله في كل صلاة، لا يقولُ غيره ولا مرةً واحدةً ... وهذا حُجَّة على من جوز "الله الأكبر" و "الله الكبير"؛ فإنه وإن سُمِّيَ تكبيراً، لكنه ليس التكبير المعهود المراد بالحديث". ثم ذَكَر بقية الحجج الخمس، ثم قال: "وفي افتتاحِ الصلاةِ بهذا اللفظ، المقصود منه استحضار هذا المعنى وتصوره: سِرٌّ عظيمٌ يعرفُهُ أهل الحضور، الْمُصَلُّونَ بقلوبهم وأبدانهم؛ فإنَّ العَبْدَ إذا وَقَفَ بين يدي الله - عز وجل - وقد عَلِمَ أنه لا شيء أكبر منه، وَتَحَقَّقَ قلبه ذلك، وَأُشْرِبُهُ سِرُّه، استحيى من الله، وَمَنَعَهُ وقاره وكبرياؤه أن يشغلَ قَلْبَهُ بغيره. وما لم يستحضر هذا المعنى واقف بين يديه بجسمه، وقلبه يهيم في أودية الوَسَاوِسَ والخَطَرَاتِ، وبالله المستعان، فلو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 كان الله أكبرُ من كلِّ شيءٍ في قلب هذا، لما اشتغل عنه، وَصَرَفَ كُلَّيَةَ قلبه إلى غيره … فصل الحكم الثالث: قوله: "وتحليلها التسليم". والكلام في إفادَتِهِ الحصر كالكلام في الجملتين قبله. والكلام في التسليم على قسمين: - أحدهما: أنه لا يَنْصَرِفُ من الصلاة إلا بالتسليم. وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ. وقال أبو حنيفة: لا يتعيَّنُ التسليم، بل يخرجُ منها بالْمُنَافِي لَهَا، من حَدَثِ أو عملٍ مبطلٍ ونحوه". ثم ذَكَرَ حجج أبي حنيفة على قوله هذا، وجواب الجمهور عنها، ثم قال: فصل وقد دَلَّ هذا الحديث على أَنَّ كُلَّ ما تحريمه التكبير وتحليله التسليم، فمفتاحه الطهور، فيدخل في هذا: الوترُ بركعة، خلافاً لبعضهم … ويدخل في الحديث أيضاً: صلاةُ الجنازة؛ لأنَّ تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ... وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مِفْتَاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" هو فصل الخطاب في هذه المسائل وغيرها، طرداً وعكساً، فكل ما كان تحريِمُهُ التكبيرُ وتحليله التسليم، فلا بُدَّ من افتتاحه بالطهارة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 ثم أَخَذَ - رحمه الله - في ذكر بعض العبادات الأخرى، وبيان اندراجها تحت هذا الأصل، وعلاقتها به، فذكر من ذلك: - الطواف بالبيت. - وسجود التلاوة والشكر1. وبعد عرض هذا المثال، يمكن استخلاص المنهج العامِّ لابن القيِّم في شرح الحديث، والجوانب التي اشتمل عليها شرحه، وذلك فيما يلي: 1- شرحُ المفردات اللغوية التي تحتاج إلى بيانٍ. 2- بيانُ بعض الأوجه النحوية التي لها علاقة بالشرح، وتوجيه بعض العبارات في هذا الباب. 3- بيانُ الأحكام الفقهية التي يشتملُ عليها الحديث. 4- الاستشهاد - أثناء الشرح - ببعض النصوص الحديثية التي تَدْعَمُ كَلامَهُ، وَتُوَضِّحُ مراده. 5- بيانُ مذاهبِ الأئمة في الأحكام التي يشتملُ عليها الحديث، مع بيان الراجح منها. 6- بيان الأدلة التي يستندُ عليها في ترجيح الرَّاجِحِ من هذه المذاهب.   1 تهذيب السنن: (1/ 45 - 56) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 7- بيانُ بعض القواعد التي تُعِينُ على فهمِ الحديث، وَتُبَيِّن مرادَ الشارعِ منه، ومدى انطباق هذه القواعد على ما شَابَهَ ذلك من النصوص. 8- قَد يستطردُ أثناء الشرح فيوردُ بعض القضايا التي تتعلق بالحديث، مع مناقشتها، وبيان الراجح فيها عند الخلاف. تلك أبرزُ النقاط، وأهمُ الخطوات التي سَارَ عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - في شرحِ الحديث، وهي وإن كانت مُسْتَخْلَصَةً من خلال مثال واحدٍ، إلا أنَّ هذا المنهجَ هو الغالب عليه في كلامه على الأحاديث وشرحها. ويمكن أن تنظر مزيد من الأمثلة على هذا المنهج في كلامه على الأحاديث الآتية: - حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: "من أَسْلَفَ في شيء فلا يصرفه إلى غيره" 1. - وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "لا يَحِلُّ سلفٌ وبيعٌ، ولا شرطان في بيع ... " 2الحديث. - وحديث الحارث الأشعري مرفوعاً: "إِنَّ الله - سبحانه - أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها … " 3. الحديث بطوله.   1 تهذيب السنن: (5/ 111 - 118) . 2 تهذيب السنن: (5 / 144 - 158) . 3 الوابل الصيب: (ص 21 -52) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 - وحديث: "كفى ببارقةِ السيوف على رأسه فتنة" 1. يعني: الشهيد. - وحديث قدومِ وفد بني المنتفق على النبي صلى الله عليه وسلم2. هذا فيما يتعلق بشرحه الحديث على وجه التفصيلِ والشمولِ والإحاطة، وبيان المعاني التي اشتمل عليها، والأحكام التي تَضَمَّنَهَا، والفوائدِ المستخرجة منه. ويمكنُ الوقوف على قسطٍ كبير من هذا الكلام المبسوط، والشرحِ المستوفى في كتابه (تهذيب السنن) على وجه الخصوص، ولعله - رحمه الله - قد أشار إلى ذلك في مقدمة هذا الكتاب حين قال: "وبسطت الكلام على مواضع جليلة، لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه، فهي جديرةٌ بأن تُثْنَى عليها الخناصرُ، ويُعَضَّ عليها بالنواجذ"3. أما الأحاديث التي شَرَحَهَا شَرْحَاً مجملاً مختصراً، أو بالغ في إبراز معنىً فيها بعينه وتوضيحه، فمن أمثلتها: - حديث: "أحبُّ الدين إلى الله: الحنيفية السمحة". قال رحمه الله: "فهي حنيفية في التوحيد وعدمِ الشرك، سَمْحَةٌ في العمل وعدم الآصارِ والأغلالِ بتحريمهم من الطيبات الحلال. فَيُعْبَدُ   1 الروح: (ص 107، 109 - 110) . 2 زاد المعاد: (3 / 673 - 686) . 3 تهذيب السنن: (1/ 9-10) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 سبحانه بما أَحَبَّهُ، ويستعانُ على عبادته بما أَحَلَّهُ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51] . وهذا هو الذي فَطَرَ الله عليه خَلْقَهُ، وهو محبوبٌ لكلِّ أحدٍ، مستقر سنته في كل فطرة؛ فإنه يتضمن التوحيد، وإخلاص القصد، والحب لله وحده، وعبادته وحده بما يحب أن يعبد به ... "1. والأمثلة من هذا القبيل كثيرة2. ومما يَحْسُنُ التنبيهُ عليه ونحن بصدد الكلام على منهجه في شرح الحديث: اهْتِمَامُهُ بذكرِ الفوائد والنُّكَتِ التي تشتمل عليها الأحاديث، فإنه في كثير من الأحيان -بعد أن يسوقَ الحديث في المسألة - يذكر ما تَضَمَّنَهُ من فوائد وأحكام، فمن ذلك: - أنه ذكر النصوصَ الواردةَ في غزوة تبوك، ثم أشارَ إلى الفوائد المستنبطة منها، فذكر من ذلك ما يزيد على أربعين فائدة3. - وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاة" ذَكَرَ - رحمه الله - جملةً   1 شفاء العليل: (ص500) . 2 انظر منها: شفاء العليل: (ص63، 472) ، وروضة المحبين: (ص53-54، 173) ، والروح: (ص318) ، وجلاء الأفهام: (ص144، 156، 235) ، وزاد المعاد: (1/316-317) ، (2/407، 443، 462) ، (4/28، 35، 42، 92، 218) ، والصلاة: (21، 177) ، وإعلام الموقعين: (1/243) . 3 زاد المعاد: (3/558-592) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 كبيرةً من الفوائد والأحكام التي يشتملُ عليها هذا القول1. - وفي قصة الْمُحْرِم الذي سَقَطَ عن راحلته فمات ... , قال: "وفي هذه القصة اثنا عشر حكماً ... "2فَسَرَدَهَا. والأمثلة في هذا الباب كثيرة3.   1 تهذيب السنن: (2/434-435) . 2 زاد المعاد: (2/238-246) . 3 انظر منها: زاد المعاد: (2/77، 437) ، (4/48-61) ، (5/53، 135، 193، 358) ، وحادي الأرواح: (ص48) ، وتهذيب السنن: (1/45، 344) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 المبحث الثاني: مَنْهَجُهُ في بَيَانِ غَرِيبِ الحَدِيثِ لقد كان ابنُ القَيِّم في كثير من الأحيان يقفُ عند الألفاظ الغريبةِ الغامضةِ التي تَمُرُّ في النصوص الحديثية، فيكشفُ غموضها ويوضح معناها. أما عن المنهج الذي سَلَكَهُ في بيان الألفاظ الغريبة، فقد كان على النحو التالي: 1- تنوع طريقة ابن القَيِّم - رحمه الله - من حيث البسط والاختصار؛ فتارةً يشرحُ اللفظةَ الغريبةَ بكلمةٍ أو كلمتين أو جملة قصيرة: - فيقول في حديث: "إذا بايعت فقل: لا خِلابة": "أي: لا خديعة"1. - ويقول في حديث: "كلُّ خطبة ليس فيها تَشَهُّدٌ، فهي كاليد الجذماء": "اليد الجذماء: المقطوعة"2. - وقال في حديث عائشة رضي الله عنها: "وكانَ إِذَا تَعَرَّقْتُ عَرْقَاً3 أَخَذَهُ فَوَضَعَ فمه موضع فمها": "العَرْق: العظم الذي عليه لحم"4.   1 روضة المحبين: (ص49) . 2 جلاء الأفهام: (ص207) . 3 العَرْقُ: - بالسكون - العظم إذا أُخِذَ عنه معظمُ اللحم، وجمعه: عُرَاق. وتَعَرَّقَهُ: إذا أخذ عنه اللحم بأسنانه. (النهاية 3/220، عرق) . 4 زاد المعاد: (1/152) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 - وقال في حديث احتجامه صلى الله عليه وسلم في الأخدعين والكاهل: "والكَاهِلُ: هو ما بين الكتفين"1. إلى غير ذلك من الأمثلة على بيانه الغريب بإيجازٍ واختصار2. وتارةً أخرى يطيلُ النَّفَسَ في ذكر معنى الكلمة، وبيان وجوهها، ومن ذلك: - حديث: "الْمُهَجِّرُ إلى الجمعة كالمُهْدي بدنة" فقد أفاض-رحمه الله- في شرح معنى التهجير، واشتقاقِ هذه الكلمة ومعانيها، وَطَوَّلَ في نقل أقوال العلماء في ذلك3. وهو إنما يلجأ إلى ذلك لحاجة وضرورة تدعوه إلى مثل هذه الإطالة؛ فإن قوماً حملوا هذا الحديث على أن المراد به: الذهابُ في الهاجرة، وهو وقت الزَّوَال، فأرادَ أن يُثْبِتَ أن المراد بالتهجير: التبكير والمبادرة إلى كلِّ شيء. - وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه في قسمة الضحايا، وقوله: فبقي عتود، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ضَحِّ به أنت". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "العَتُودُ من ولدِ المَعْزِ: ما قَوِيَ وَرَعَى، وأتى عليه حولٌ، قاله الجوهري". ثم نَقَلَ أقوالاً أخرى في معنى ما قاله الجوهري، ثم قال: "فيكون هو الثَّنِيُّ   1 زاد المعاد: (1/ 164) . 2 وانظر أيضاً: حادي الأرواح: (ص 245) ، وزاد المعاد: (1/ 347، 484) . 3 زاد المعاد: (1/ 403 - 406) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 من المعز، فتجوز الضَّحِيَّةُ به"1. فنجده قد استقصى الأقوال في معنى هذه الكلمة لَمَّا أراد أن يثبتَ هذا الحكم، وهو جواز التضحية بالعتود. - وسلك الطريقة نفسها في شرح معنى "الإهاب" في حديث الدِّبَاغ2. فهكذا نجده يشرح الكلمة الغريبة بإيجاز واختصارٍ تارةً، وتارة يُفَصِّلُ ويتوسعُ في بيان معناها حين يقتضي المقامُ ذلك. 2- قيامه بضبط الكلمة الغريبة وتقييدِهَا بالحروف، وذلك حينما يخشى من التباسها بغيرها: - فيقول في كلامه على حَجَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَبَّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ بِالغِسْلِ- وهو بالغين المعجمة، على وزن: كِفْل - وهو: ما يُغْسَلُ بِهِ الرأس من خِطْمِيٍّ ونحوه، ويُلَبَّدُ به الشعرُ حَتَّى لا ينتشر"3. - ويقول في حديث وفد بني المنتفق: "الشَّرَبة - بفتح الراء -: الحوض الذي يجتمع فيه الماء، وبالسكون والياء: الحنظلة"4. 3- اعتماده في شرح الغريب على أئمة اللغة وأرباب الشأن،   1 تهذيب السنن: (4/ 103) . 2 انظر: تهذيب السنن: (6/ 67- 68) . 3 زاد المعاد: (2/ 158) . 4 زاد المعاد: (3/ 678) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 سواء منهم من عُرِفَ بالتصنيف في (غريب الحديث) : كأبي عبيد1، وابن الأثير2. أو غيرهم من أئمة اللغة الذين لم يُصَنِّفُوا فيه: كالجوهري في (صحاحه) 3، والأزهري في (تهذيب اللغة) 4، وغيرهم. ولكنه في الكثير الغالب يشرحُ الكلمة بنفسه، دون نقلٍ عن أحد، أو قد يكون ناقلا عن غيره دون تصريح5. 4- التنبيه على ما يقع من غلطٍ في ضبطِ كلمةٍ غريبةٍ في الحديث، وبيان وجهَ الصواب فيها، فمن ذلك: - ما جاء في الحديث: " ... كيف تُعْرَضُ صَلاتُنَا عَلَيْكَ وقد أَرِمْتَ" - يعني: بَلِيتَ -، فقد بَيَّنَ - رحمه الله - أن بعضهم غَلِطَ في لفظ الحديث، فقال: " ... فقالوا اللفظ به: أَرَمَّتَ، بفتح الراء، وتشديد الميم وفتحها، وفتح التاء ... "، ثم أَخَذَ في بيان خطأ هذا القول، ووجه الصواب في ذلك6.   1 انظر: حادي الأرواح: (ص 233، 248) . 2 انظر: زاد المعاد: (1/ 161) . 3 انظر: حادي الأرواح: (ص 253) ، وزاد المعاد: (4/ 37) . 4 انظر: زاد المعاد: (1/ 404) . 5 وانظر مزيداً من الأمثلة على شرحه الغريب في: زاد المعاد: (2/247) ، (4/37، 113) ، وروضة المحبين: (ص 57، 84، 365) ، وحادي الأرواح: (ص 180، 204، 231) ، وإغاثة اللهفان: (1/ 262) . 6 تهذيب السنن: (2/ 154) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 المبحث الثالث: مَنْهَجُهُ في التعريفِ ببعضِ الأماكنِ والبقاعِ التي تَرِدُ في النصوص الحديثية، وضبط ذلك اهْتَمَّ ابن القَيِّم رحمه الله - في ضمن كلامه على الحديث - بضبط أسماء الأماكن والمواضع التي تردُ في النصوص الحديثية، مع تحديد وبيان موقعها والدلالة عليها. وكان ربما اكتفى بتحديد الموضع فقط: - كقوله في (حُنَين) و (أوطاس) : "وهما موضعان بين مكة والطائف"1. - وقوله: "أن وادي وجّ - وهو وادٍ بالطائف - حَرَمٌ يحرم صيده"2. إلا أَنَّهُ في مناسبات أخرى قد يقومُ بضبطِ اسمِ المكان عندما يَخْشَى التباسُهُ بغيره، أو لغير ذلك من الأسباب: - فقال في حديث جابر رضي الله عنه: "آجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة بنت خويلد سفرتين إلى جرش ... ": "قال في النهاية: جُرَش - بضم الجيم وفتح الراء -: من مخاليف اليمن، وهو بفتحهما: بلد بالشام.   1 زاد المعاد: (3/ 465) . 2 زاد المعاد: (3/ 508) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 قلت: إن صحَّ الحديث، فإنما هو المفتوح الذي بالشام"1. وَإِنَّمَا قَامَ بِضَبْطِ ذلك وتحريره: لِيُبَيِّنَ أن المقصود في هذا الحديث "جَرَش" الشام؛ وذلك لأنَّه كان بصدد الكلام عن سَفَرِ النبي صلى الله عليه وسلم بتجارة خديجة إليها، فَنَبَّهَ على ذلك حتى لا تلتبس بـ "جُرَش" المضمومة التي باليمن. - وقال عند كلامه على غزوة دُومة الجندل: "وهي بضم الدَّال، وأما دَومة - بالفتح - فمكانٌ آخر"2. - وقال عن "ذات السلاسل": "وهي وراء وادي القرى، بضم السِّين الأولى وفتحها، لغتان، وبينها وبين المدينة عشرة أيام"3. فهكذا يقوم - رحمه الله - بضبط اسم المكان عند خشية التباسه بغيره، أو عندما يكون في ضبطه أكثر من لغة.   1 زاد المعاد: (1/ 161) . 2 زاد المعاد: (3/ 255) . 3 زاد المعاد: (3/ 386) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 المبحث الرابع: مَنهَجُهُ في الاستدلالِ بِالنُّصُوصِ الْحَدِيْثِيَّةِ عَلَى آرَائِهِ واخْتِيَارَاتِه لقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - في بحوثهِ وآرائهِ وتقريراتهِ، يعتمد اعتماداً كبيراً - مع القرآن - على النصوصِ الحديثية، يستدل بها على ما يذهب إليه ويراه صواباً، ويردُّ بها على المخالفين ويدحض بها دعاواهم. وكان من أهم السمات التي ميزت منهجه في سياق الأدلة، والاستنباط منها، وبيان أوجه الدلالة فيها، ما يلي: 1- كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يعرضُ القضيةَ التي يريدُ تقريرها، أو الرأيَ الذي يختاره ويذهب إليه، ثم يسوقُ الأدلة على ذلك: - فيقول مثلاً: "وكان هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في ابتداء السلام أن يقول: السَّلام عليكم ورحمة الله. وكان يَكْرَهُ أن يقولَ المبتدئ: عليك السلام. قال أبو جُزَيّ الهُجَيمِي: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: عليكَ السَّلام يا رسول الله. فقال: "لا تَقُلْ عَلَيك السَّلام؛ فإن عَليك السلام تحية الموتى" 1. - وقال: "للصوم تأثيرٌ عجيبٌ في حفظِ الجوارحِ الظاهرةِ، والقوى الباطنة ... وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصَّوم جُنَّة" 2. - وقال مرة: "وبالجملة: فَتَنْبيهُ الشَّارع وحكمته يقتضي أن الفِطْرَ لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر، فكيف وقد أشار إلى العلة، وَنَبَّهَ   1 زاد المعاد: (2/420) . 2 زاد المعاد: (2/29) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 عليها، وَصَرَّحَ بِحُكْمِهَا، وَعَزَمَ عليهم بأن يفطروا لأجلها. ويَدُلُّ عليه: ما رواه عيسى بن يونس، عن شعبة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم فتح مكة: "إِنَّهَ يَومُ قِتَال فَأَفْطِرُوا "1. ففي هذه الأمثلة وغيرها: نرى أَنَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّرُ المسألة، أو يضعُ القاعدة، أو يُبَوِّبُ الباب، ثم يسوقُ لذلك الأدلة من الأحاديث النبوية. 2- ومع ذلك، فإنه - في مواطن أخرى - يقومُ بإيراد الحديث في مطلع كلامه، ثم يَتَكَلَّمُ عن أحكامه، وفقهه، ووجه الاستدلال منه، فمن ذلك: - أَنَّه عند كلامه على حكمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حضانة الولد: ساقَ جملة أحاديث في الباب، ثم بدأَ في الكلامِ على الأحكام التي تشتمل عليها هذه الأحاديث2. - وعند كلامه على أحكام الرضاعة، وما يحرمُ بها: ذكر أحاديث عِدَّة، ثم قال: "فَتَضَمَّنَتْ هَذِه السُّنَنُ الثَّابِتَة أَحْكَامَاً عديدة ... "3 ثم أَخَذَ في بيان هذه الأحكام.   1 زاد المعاد: (2/ 54) . 2 زاد المعاد: (5 / 432 - 465) فما بعدها. 3 زاد المعاد: (5/ 552 - 556) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 - وَكَذَا صَنَع في الكلام على حكم استبراءِ المرأة من السبي قبل وطئها1. 3- ومما تميز به ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب: الإكثار من الأدلة التي يوردها للمسألة الواحدة: - فعند كلامه على صِفَةِ حَجَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه أَحْرَمَ قَارِنًا لبضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك"2.ثم أَخَذَ في سَرْدِهَا. - وأورد ثمانية عشر حديثاً في إثبات عذاب القبر3. - وَسَاق في بيان فضل السِّواك وتأكيده ثَمَانِيَة عشر حديثاً أيضاً4. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً. فهكذا كان رحمه الله: إذا تناول مسألةً، فَإِنَّهُ يورد في الاستدلالِ عليها قدراً كبيراً من الأحاديث النبوية على وجه الخصوص؛ إذ اعتماده في ذلك على النصوص في المقام الأول. 4- لم يكتف ابن القَيِّم بِمُجَرَّدِ سَوْق النصوصِ الحديثية في معرض الاستدلال، بل إنه - في بعض الأحيان - يُبَيِّنُ وجه الاستدلال من النص   1 زاد المعاد: (5/ 711 - 745) . 2 زاد المعاد: (2/ 107 - 115) . 3 تهذيب السنن: (7/ 142 - 146) . 4 المنار المنيف: (ص 23 - 28) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 للمسألة المستدل لها، وبخاصة إذا لم تكن دلالة النص صريحة: - فيقول مثلاً: عِنْد سِيَاقِه أَدِلَّة كفر تارك الصلاة -: "الدليلُ العاشر: قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا: فَهُوَ المسلم ... " قال: "ووجه الدلالة فيه من وجهين ... "1 فذكرهما. وعلى ذلك أمثلة أخرى2. 5- التَّدَرُّجُ في سياقِ الأدلةِ حسب قوتها وأهميتها، وقد مضى الكلام على ذلك عند عرض منهجه - رحمه الله - في التأليف3.   1 الصلاة: (ص 48) . 2 انظر مثلاً: الصلاة: (ص 19، 120، 121، 125) . 3 انظر (1/213) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 المبحث الخامس: مَنْهَجُهُ في التوفيقِ والجمعِ بينَ الأحاديث التي ظَاهِرُهَا التَّعَارض تَقَدَّمَتْ الإشارة - عند الكلام على "مختلف الحديث" - إلى كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - ورأيه في الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وذكرنا هناك جملة من المرجحات التي استعملها في الترجيح عند التعارض1. وأنبه هنا على بعض المعالم الرئيسة لمنهج ابن القَيِّم في الجمع والتوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، مع ذكر بعض الأمثلة من كلامه. - فقد كان - رحمه الله - حريصاً على التأليف بين الأحاديث المتعارضة، ونفي التضادِّ عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مُقَرِّراً أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يَضْرِبُ بعضُهَا بعضاً، وإِنَّمَا تتفقُ وتتآلف. - وبالرغم من أن التعارضَ لا يكون مُعْتَبَراً إلا بَين حديثين صحيحين، إلا أَنَّ ابن القَيِّم كان رُبَّمَا قَامَ بالجمع بين خبرين أحدهما ضعيف، أو لا يُقَاِوم الآخر في الصحة. ويكون هذا - في الغالب - من باب التَنَزُّلِ منه، فيقررُ عدم صحة الْمُعَارِض، ثم يقول: بأنه على فرض ثبوته، أو على القول بتسليم صحته، فإن الجمع بينه وبين معارضه ممكن على نحو كذا وكذا، أو يجعل   1 انظر: (1/502 - 508) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 الجمع والتأويل معلقاً على ثبوته، فيقول مثلاً: إن صَحَّ الخبر فتأويله كذا، أو: وجهه كذا1. ومن أمثلة الأحاديث التي قام بالتأليف والتوفيق بين ما ظَاهِرُهُ التعارض منها: 1- أحاديث الإذن في الرُّقْيَة، كحديث عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تَسْتَرْقِي من العين". وحديث جابر رضي الله عنه: "رَخَّصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لآل حزم في رقية الحَيَّة". وغير ذلك من الأحاديث. وما جاء في النهي عن ذلك، كما في حديث جابر رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الرُّقَى". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فهذا لا يعارضُ هذه الأحاديث؛ فَإِنَّه إنما نَهَى عن الرُّقى التي تتضمنُ الشِّرْكَ، وتعظيمَ غيرِ الله سبحانه، كغالبِ رُقَى أهل الشرك. والدليل على هذا: ما رواه مسلم في (صحيحه) 2 من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا عليَّ رُقَاكُم، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم يكن فيه شرك" …   1 انظر مثلا: تهذيب السنن: (5/ 361 -362) ، والفروسية: (ص 101) . (4/ 1727) ح64 (2200) ك السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وهذا المسلك في هذه الأحاديث وأمثالِهَا: فيما يكون الْمَنْهِيُّ عنه نوعاً، والمأذون فيه نوعاً آخر، وكلاهما داخلٌ تحت اسمٍ واحدٍ، من تَفَطَّنَ له زال عنه اضطرابٌ كثيرٌ، يَظُنُّهُ من لم يُحِطْ عِلماً بحقيقة الْمَنْهِيِّ عنه من ذلك الجنس، والمأذون فيه: متعارضاً، ثم يسلكُ مسلك النسخ، أو تضعيف أحد الأحاديث"1. 2- الأحاديث الواردة في أكل الْمُحْرِم لحمَ الصيد، وما جاء من المنع من ذلك.، قال رحمه الله: قال رحمه الله: "فَحَيْثُ أَكَلَ: ُعُلِمَ أَنَّهُ لم يُصَدْ لأجلهِ، وحيث امتنع: عُلِمَ أنه صيد لأجله. فهذا فعله، وقوله في حديث جابر يدل على الأمرين، فلا تعارض بين أحاديثه صلى الله عليه وسلم بحال"2. وحديث جابر الذي أشار إليه: هو ما أخرجه أبو داود في (سننه) 3 عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: "صَيْد البَرِّ لَكُم حلالٌ ما لم تصيدُوه، أو يُصَادُ لكم". 3- حديث: "من كان له شَعْرٌ فليكرمه" وحديث: "النَّهْي عن التَّرَجُّلِ إلا غِبّاً". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "والصَّواب: أنه لا تعارض بينهما بحال، فإن العبدَ مأمورٌ بإكرامِ شعره، وَمَنْهِيٌّ عن المبالغةِ والزيادةِ في الرفاهية والتنعيم، فيكرم شعره ولا يتخذُ الرَّفَاهِية والتنعيم ديدنه، بل يترجل غباً.   1 تهذيب السنن: (5/ 367) . 2 تهذيب السنن: (2/ 365) . (2/ 427) ح 1851 ك الحج، باب لحم الصيد للمحرم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 هذا أولى ما حمل عليه الحديثان، وبالله التوفيق"1. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا الباب2. وبعدُ، فهذه أبرزُ المسائل المتعلقة بكلام ابن القَيِّم - رحمه الله - على الحديث: شرحاً، واستدلالاً، واستنباطاً، وجمعاً وتوجيهاً عند التعارض، وغير ذلك، مع بيان منهجه في كل مسألة من تلك المسائل، والله أعلم.   1 تهذيب السنن: (6/ 85) . 2 انظر منها: زاد المعاد: (1/208، 275 - 285) ، إعلام الموقعين: (2/334 -335) ، تهذيب السنن: (1/137- 138) ، بدائع الفوائد: (2/ 222 - 223) ، مفتاح دار السعادة: (2/ 264-269) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 الباب الثالث: دراسة جملة من الأحاديث المختارة مما تكلم عليه ابن القيم المدخل ... الباب الثالث: دِرَاسَةُ جملة من الأحاديث المختارة مِمَّا تَكَلَّم عَلَيه ابن القَيِّم ويتضمن هذا الباب أحاديث منتقاة من: 1- كتاب الطهارة. 2- كتاب الحيض. 3- كتاب الصلاة. 4- كتاب الزكاة. 5- كتاب الصوم. 6- كتاب الحج. 7- كتاب الجهاد 8- كتاب الجنائز. 9- كتاب النكاح. 10- كتاب الطلاق. 11- كتاب البيوع. 12- كتاب الأطعمة والصيد والذبائح. 13- كتاب الأيمان والنذور. 14- كتاب العتق. 15- كتاب الحدود والديات. 16- كتاب الأدب. 17- كتاب الفرائض. 18 - كتاب الأذكار. 19- كتاب الفضائل. 20- كتاب التفسير. 21- كتاب التوحيد والأسماء والصفات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 الباب الثالث: دِرَاسَةُ جملة من الأحاديث المختارة مِمَّا تَكَلَّم عَلَيه ابن القَيِّم وهي أحاديث تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - بالدراسة في كتبه، وحكم عليها: بالصحة، أو الضعف، أو غير ذلك من أحكام. وقد حرصت في انتقاء هذه الأحاديث على أن تكون شاملةً لجملة متنوعة من أحكام ابن القَيِّم الحديثية، مع اشتمالها - كذلك - على أكبر قدر ممكن من الكلام على العلل الحديثية المختلفة، وكيفيةِ تعاملِ ابن القَيِّم - رحمه الله - معها. فيجدُ الناظر في هذه الأحاديث: كلامَ ابن القَيِّم في الحكم على الحديث ابتداء، ويجد كَلامَهُ في تَعَقُّبِ بعض الأحكام الحديثية لآخرين، ويجد - أيضاً - تناول ابن القَيِّم لعلل بعض الأحاديث، وكذا أجوبته عن عللٍ لأحاديث أخرى لا يراها معلولة. وبذلك تمثل هذه الدراسة لهذه المجموعة من الأحاديث: جملةً من المناقشات العلمية الحديثية التي كان ابنُ القَيِّم طرفاً رئيساً فيها. الهدف من جمع هذه الأحاديث ودراستها: وقد قَصَدتُ من وراءِ دراسة هذه الأحاديث: 1- أَنْ يَكون ذلك بِمَثابة تطبيقٍ عَمَلِيٍّ على ما تَقَدَّمَ بيانُه من منهج ابنِ القَيِّم وآرائه في الحديث وعلومه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 2- تُمَثِّلُ هذه الدراسة محاولةً لجمع شتات ما تَفَرَّقَ من أحكام ابن القَيِّم الحديثية في كُتُبه المختلفة، على أَنَّ ذلك يُعَدُّ مرحلةً أولى في سبيلِ إخراج "موسوعة ابن القَيِّم الحديثية" كاملة. 3- تسهيل الوصول إلى البُغْيَةِ من هذه الأحكام بأيسر طريق؛ إذ إِنَّ استخراجَ ذلك من كُتُبِهِ - مع كثرتها، وتنوع مباحثها، وعدم توافر فهارس دقيقة لها - لا يَتِمُّ إلا بعسرٍ ومشقة. 4- كما أن ذلك يتيحُ الفرصةَ لدراسةِ أحكام ابن القَيِّم دراسةً مُقَارَنَةً بأحكامِ غَيْرِهِ من أئمة هذا الشأن وَنُقَّادِهِ، فيُعْرَفُ بذلك مكانه بينهم، ومكانته في هذا الفن. 5- ويمثل ذلك - أيضاً - خدمةً حديثيةً جليلة لعددٍ هائلٍ من كُتُبِ ابن القَيِّم رحمه الله؛ وذلك: بتخريج أَحَادِيثِها، والحكمِ عليها؛ إذ إن كثيراً من كُتُبِ ابن القَيِّم لم تُخْدَمْ من الناحية الحديثية. 6- وأخيراً: فإن هذه المحاولة لجمع ودراسةِ أحكام ابن القَيِّم الحديثية، قد تُسْهِم في إضافة مَرْجَعٍ مُهِمٍّ إلى جملة المراجع في باب الدِّراسة الحديثية النقدية. منهجي في دراسة هذه الأحاديث: وقد اتَّبَعْتُ في دراسة هذه الأحاديث الخطوات التالية: 1- رَتَّبْتُ هذه الأحاديث على كتب الفقه وأبوابه المعروفة، تسهيلاً لمراجعتها وحصول البغية منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 2- لَمْ أَلْتَزِم في ذلك استيعاب كُلِّ أبوابِ الفقه المشهورة، ولكنني - مع ذلك - حرصت على استيعاب أكبر قدر منها. 3- وَقَد رَقَّمْتُ هذه الأحاديث ترقَيِّماً تسلسلياً، وكذا رقمتُ الكتبَ الفقهية، والأبوابَ الواردة تحتَ كُلِّ كتابٍ. 4- أَبْدَأ بذكر متن الحديث المراد دراسته، مقتصراً على ذكر صَحَابِيِّه فقط. 5- وَكثيراً ما يذكرُ ابن القَيِّم طرفاً من الحديث، أو يذكره بمعناه، أو يشير إليه، وقد التزمت في ذلك كُلِّهِ بسياق لفظ الحديث كاملاً من مصادره الأصلية، مع التنبيه على المصدر الذي سقت لفظه. 6- ثم أُتْبِعُ ذلك بنقلِ كلام ابن القَيِّم وحُكْمِهِ على الحديث، فإذا كان كلامه على الحديث طويلاً، فإنني ألخصه، ذاكراً من ذلك النقاط الأساسية في كلامه. 7- ثم انتقلُ إلى تخريج الحديث من دواوين السنة المشهورة، ولم التزم في ذلك باستيعاب المصادِرِ التي خَرَّجَتْ الحديث، وَإِنَّمَا أَكْتَفِي - في الغالب - بأمهات كتب الحديث: من سنن، ومسانيد، ومعاجم وغيرها. 8- في الترجمة لرجال الإسناد: لم أترجم إلا لمن تدعو الحاجة إلى ترجمته، ممن يكون - في الغالب - مُضَعَّفَاً، أو مُخْتَلَفَاً في توثيقه وتضعيفه، وقد أترجم لبعض الثِّقَاتِ من غير المجمع عليهم من باب التعريف بهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 9- وقد اكتفيتُ في الترجمة لرجال الإسناد: بـ (تقريب التهذيب) للحافظ ابن حجر، ولا أخرجُ عنه إلا لضرورة، كأن يكون الرَّجُلُ مختلفاً فيه، فأنقل أقوال الأئمة في ذلك، أو عندما يُخَالَف ابن حجر في حكمه، وكذا عندما لا يكون الرجل من رجال (التقريب) . 10- أعرضُ حكمَ ابن القَيِّم على ما حَكَمَ به أَئِمَّةُ الشأن على الحديث، وأُرَجِّحُ - عند الاختلاف - ما أراه الصواب، وذلك بحسب ما يظهر لي أن الأدلَّة في جانبه، وذلك على ضوء قواعد أهل الفن. 11- قد أسوقُ بعض المتابعات والشواهد لبعض الأحاديث إذا دَعَتْ الحاجة إلى ذلك. 12- ثم أذكر - في نهاية المطاف - خلاصةَ البحث في الحكم على الحديث، موضحاً ما تَرَجَّحَ لديّ من خلال الدراسة. 13- لم أتعرضْ في دراستي هذه لشيءٍ من الأحاديث الْمُخَرَّجَةِ في الصحيحين أو أحدهما، وإن كان لابن القَيِّم حُكْمٌ عليها. 14- وقد استعملتُ رموزاً للدلالة على بعض المصادر الحديثية وغيرها عند التخريج، وذلك من باب الاختصار، وقد سبق ذكر هذه الرموز في أول الكتاب1.   1 انظر: (1/22 - 23) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 من كتاب الطهارة 1ـ باب ما جاء في الرخصة في استقبال القبلة عند الحاجة ... - من كتاب الطهارة 1- باب ما جاء في الرخصة في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة 1- (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُوِلِ الله صلى الله عليه وسلم قَومٌ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِفُرُوجِهِمُ القِبْلَةَ. فَقَال: "أُرَاهُمْ قَدْ فَعَلُوهَا، اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي القِبْلَة" 1. أوردَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في كتابيه: (زاد المعاد) 2، و (تهذيب السنن) 3، وذكر أنه ضعيف بجملة أمور: - أولها: أنه مضطرب. - ثانيها: أنه منقطع. - ثالثها: أن الصواب فيه الوقف. - رابعها: ضَعفُ "خالد بن أبي الصَّلْت" في إسناده. قلت: هذا الحديث مداره على: خالد4 الحَذَّاء، عن خالد بن أبي الصَّلْت5، عن عراك بن مالك6، عن عائشة رضي الله عنها به. ورواه عن خالد الحَذَّاء جماعة:   1 أي: حَوِّلوا موضع قضاء حاجتي إلى جهة القبلة؛ لبيان جواز ذلك في البيوت، وليزول ما في قلوبهم من الإنكار لذلك. (2/ 384) . (1/ 22-23) . 4 ابن مهران، أبو المنازل، البصري، الحَذَّاء ... ثقة يرسل، من الخامسة، أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تَغَيَّرَ لَمَّا قَدِم من الشام / ع. (التقريب 191) . 5 البصري، مدني الأصل، كان من جهة عمر بن عبد العزيز بواسط، مقبول، من السادسة / ع. (التقريب 188) . 6 الغفاري، الكناني، المدني، ثقة فاضل، من الثالثة، مات في خلافة يزيد بن عبد الملك، بعد المائة/ع. (التقريب 388) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 منهم: حماد بن سلمة، فرواه أبو داود الطيالسي1 عن حماد. وأخرجه أحمد2، وابن ماجه3، والدارقطني4 عن وكيع. وأخرجه الدارقطني في (سننه) 5 عن يحيى بن إسحاق. وأخرجه أحمد في (مسنده) 6 عن بَهْز7. كُلُّهُم عن: حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء بالإسناد الماضي ذكره. وألفاظهم بنحو لفظ ابن ماجه الذي صَدَّرْنَا به البحث، إلا رواية بهز عند أحمد ففيها قول خالد بن أبي الصلت: ذكروا عند عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - استقبال القبلة بالفُرُوجِ، فقال عراك بن مالك: قالت عائشة ... الحديث. وتابع حمادَ بن سلمة على هذه الرواية: عليُّ بن عاصم8، عن خالد الحَذَّاء، بالإسناد المتقدم، أخرجه: أحمد في (مسنده) 9، والدارقطني10،   1 المسند: (ح 1541) . 2 المسند: (6/ 137) . (1/ 117) ح 324، باب الرخصة في ذلك في الكنيف ... واللفظ الذي ذكرته لفظه. 4 السنن: (1/ 60) ح 7. (1/ 60) ح 7. (6/ 219) . 7 ابن أسد العمي، أبو الأسود البصري، ثقة ثبت، من التاسعة، مات بعد المائتين، وقيل قبلها / ع. (التقريب 128) . 8 ابن صهيب الواسطي، التيمي مولاهم، صدوق يُخْطِئ وَيُصِرُّ، وَرُمِيَ بِالتَّشَيُّع، من التاسعة، مات سنة 201 هـ / د ت ق. (التقريب 403) . (6/ 184) . 10 (1/ 59 - 60) ح 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 والبيهقي1 في (سننيهما) ، ولفظه عندهم عن خالد بن أبي الصَّلْت أنه قال: "كنت عند عمر بن عبد العزيز في خلافته، وعنده عراك بن مالك، فقال عمر: ما استقبلت القبلة ولا استدبرتُهَا ببولٍ ولا غائطٍ منذ كذا وكذا. فقال عراك: حَدَّثَتْنِي عائشة ... فذكره. قال البيهقي عقبه: "تابعه حماد بن سلمة في إقامة إسناده ... " يشيرُ إلى رواية حماد التي رواها عنه الجماعة المتقدمون، والتي توافق رواية علي بن عاصم هذه. ورواه أبو عوانة، والقاسم بن مطيب2، ويحيى بن مطر، ثلاثتهم: عن خالد الحَذَّاء، عن عراك بن مالك عن عائشة به. أخرجه الدارقطني في (سننه) 3 عنهم هكذا بإسقاط "خالد بن أبي الصَّلْت" من الإسناد، ثم نَبَّهَ - رحمه الله - على سقوط ابن أبي الصَّلْت، فقال: "بين خالد وعراك: خالد بن أبي الصَّلْت". ثم أخرجَ رواية حماد بن سلمة، وعلي بن عاصم المتقدمتين، ثم قال: "وهذا أَضْبَطُ إسنادٍ، وزاد فيه خالد بن أبي الصلت، وهو الصواب"4. ورواه عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن رجل، عن عراك، عن عائشة به. أخرجه كذلك الدارقطني في (سننه) 5، فجعل مكان خالد ابن أبي الصلت: "عن رجل".   (1/ 92- 93) . 2 العجلي، البصري، فيه لين، من الخامسة / بخ. (التقريب 452) . (1/ 59) ح 3، 4، 5. 4 سنن الدارقطني: (1/60) . (1/60) ح 8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 فهذه بعض أوجه الاختلاف في إسناد هذا الحديث، وقد أُعِلَّ لذلك بالاضطراب، فقال البخاري لَمَّا سَأَلَهُ عنه الترمذي: "هذا حديث فيه اضطراب"1. ولكن عند التأمل نجدُ أنه يمكنُ ترجيحُ رواية حماد بن سلمة، وعلي ابن عاصم: عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، عن عراك، عن عائشة. وقد مضى معنا أن الدارقطني صوب هذه الرواية، وقال إنه "أضبط إسناد". وأما العِلَّة الثَّانية، وهي أنه منقطعٌ: فقد سألَ ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث، فقال: "مرسل". فقال له: عراك بن مالك قال: سمعت عائشة رضي الله عنها؟ فأنكره، وقال: "عراك بن مالك؟! من أين سمع عائشة؟! ما له ولعائشة، إنما يروى عن عروة، هذا خطأٌ. قال لي: من روى هذا؟ قلت: حمادُ بن سلمة، عن خالد الحذاء. فقال: رواه غير واحد عن خالد الحذاء، ليس فيه "سمعت"، وقال غير واحد أيضاً: عن حماد بن سلمة، ليس فيه: سمعت"2. ونقل العلائي في (جامع التحصيل) 3 أن أحمد بن حنبل - رحمه الله - حَكَمَ عليه بذلك، وسأله عنه الأثرم، فقال قولاً قريباً من قول أبي حاتم رحمهما الله تعالى. وأما العِلَّة الثالثة، وهي أن الصواب وقفه على عائشة: فقد   1 علل الترمذي: (1/90) . 2 علل ابن أبي حاتم: (ص 162 - 163) . (ص 288) ترجمة عراك بن مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 حكم عليه بذلك البخاري وأبو حاتم رحمهما الله، قال البخاري: "والصحيح: عن عائشة، قولها"1. وسأل ابن أبي حاتم أباه عنه، فقال: "فلم أزل أقفو أثر هذا الحديث، حتى كتبت بمصر عن إسحاق بن بكر بن مضر أو غيره، عن بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عروة، عن عائشة موقوف. وهذا أشبه"2. وأشار البخاري - رحمه الله - إلى هذه الرواية في (التاريخ الكبير) 3، ثم قال: "وهذا أصحُّ". وكذا رَجَّحَ رواية الوقف ابن عساكر رحمه الله، ونَقَلَهُ عنه الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة) 4. قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في تأكيده لهذه العلة: "وقال بعض الحُفَّاظ: هذا حديث لا يصحُّ، وله عِلَّةٌ لا يدركها إلا المعتنون بالصناعة، المُعَانُون عليها؛ وذلك أنَّ خالد بن أبي الصَّلْت لم يحفظ متنه، ولا أقامَ إسنَادَهُ. خَالَفَهُ فيه الثقة الثبت، صاحب عِراك بن مالك المختصُّ به، الضابط لحديثه: جعفر بن ربيعة الفقيه، فرواه عن عراك، عن عروة، عن عائشة: أنها كانت تنكر ذلك وجعفر بن ربيعة هو الحجة في عراك بن مالك"5.   1 علل الترمذي: (1/ 91) . 2 علل ابن أبي حاتم: (1/ 29) ح 50. (2/1/ 156) . (1/ 356) . 5 تهذيب السنن: (1/ 22) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وأما العِلَّة الرابعة، وهي ضعفُ خالد بن أبي الصَّلْت: فقال أحمد بن حنبل: "ليس معروفاً"1. وقال عبد الحق: "ضعيف"2. وقال ابن حزم: "حديث ساقط، وخالد بن أبي الصلت مجهول، لا يُدْرَى من هو؟ "3. وقال الذهبي: "لا يَكَاد يُعْرَف"4. وَوَثَّقَهُ ابن حبان على قاعدته المعروفة5. وقد سَبَقَ حُكمُ الحافظ ابن حجر عليه بأنه "مقبول" يعني إذا تُوبع، وإلا فلين الحديث، وهو لم يُتَابِع، بل خَالَفَهُ جعفر بن ربيعة كما مضى، فتكون روايته منكرة كما سيأتي. فَتَحَصَّلَ من ذلك: أن هذا الحديث ضعيف لا تقوم به حُجَّة، وقد تقدمت أقوال العلماء في إعلاله وتضعيفه، وهذا ما ذَهَبَ إليه ابن القَيِّم رحمه الله، فأصاب. ومن الأحاديث التي تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب أيضاً: 2- (2) عن جابر رضي الله عنه قال: "نَهَى نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ بِبَولٍ، فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أن يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا". ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (زاد المعاد) 6 مُبَيِّناً أنه   1 تهذيب التهذيب: (3/ 98) . 2 المصدر السابق. 3 المحلى: (1/ 261) . 4 الميزان: (1/ 632) . 5 الثقات: (6/ 252) . (2/ 385) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 لا يعارضُ أحاديثَ المنع؛ لأنه ما بَين معلولِ السَّنَد، أو ضعيف الدلالة. ثم نقل عن الترمذي أنه اسْتَغْرَبَهُ بعد تحسينه، وأن البخاري صَحَّحَهُ، ثم قال: "فإن كان مرادُ البخاري صِحَّتَهُ عن ابن إسحاق، لم يدل على صِحَّتِه في نفسه، وإن كان مراده صِحَّته في نفسه، فهي واقعةُ عَين ... ". ثم ذَكَر الحديث في (تهذيب السنن) 1، وذكر أن ابن حزم ضَعَّفَهُ بجهالة أبان بن صالح، ثم نقل كلاماً لابن مُفَوِّز في الرد على ابن حزم وتوثيق أبان بن صالح، لكنه انفرد به ابن إسحاق ولا يحتجُّ به في الأحكام. ثم قال ابن القَيِّم: "وهو - لو صحَّ - حكاية فعل لا عموم لها فكيف يُقَدَّم على النصوص الصحيحة الصريحة بالمنع". قلت: هذا الحديثُ أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سننهم) 2، وأحمد في (مسنده) 3، وابن الجارود في (المنتقى) 4، وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما) 5، والدارقطني والبيهقي في   (1/ 22) . 2 د: (1/ 21) ح 13 باب الرخصة في ذلك (يعني استقبال القبلة عند قضاء الحاجة) . ت: (1/ 15) ح 9، باب الرخصة في ذلك. جه: (1/ 117) ح 325، باب الرخصة في ذلك في الكنيف، وإباحته دون الصحاري. ثلاثتهم في كتاب الطهارة. (3/ 360) . (ص 21) ح 31. 5 خز: (1/ 34) ح 58. حب: الإحسان (2/ 346) ح 1417. ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة الحديث أنه ناسخ للزجر ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 (سننيهما) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، كلهم من طريق: محمد بن إسحاق3، عن أبان بن صالح4، عن مجاهد5 عن جابر به. ولفظهم هو الذي سُقْنَاه أول البحث، إلا أن لفظه عند أحمد، وابن الجارود، وابن حبان، والدارقطني: "كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد نَهَانَا أن نَسْتَدْبِر القِبْلَةَ أو نَسْتَقْبِلَهَا بِفُرُوجِنَا إذا أهرقنا الماء. قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة". وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلل، وهي: 1- عنعنة ابن إسحاق وهو مُدَلِّس، ومن أجل ذلك توقف فيه النووي - رحمه الله - في (كلامه على سنن أبي داود) - ونقله عنه صاحب (البدر المنير) 6 - فقال: " ... ابن إسحاق مُدَلِّس، والْمُدَلِّس إِذَا قال: "عن" لا يحتجُّ به، فكيفَ حَسَّنَهُ الترمذي؟! ".   1 قط: (1/ 58) ح 2. هق: (1/ 92) . (1/ 154) . 3 ابن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يُدَلِّس، وَرُمِيَ بالتَّشَيُّع والقَدر، من صغار الخامسة، مات سنة150 هـ/خت م4. (التقريب 467) . 4 ابن عمير بن عبيد القرشي مولاهم، وَثَّقَهُ الأئمة، وَوِهِمَ ابن حزم فَجَهَّلَهُ، وابن عبد البر فضعفه، من الخامسة، مات سنة بضع عشرة / خت 4. (التقريب 87) . 5 ابن جبر، أبو الحجاج المخزومي، المكي، ثِقَةٌ إمام في التفسير وفي العلم، من الثالثة، مات سنة 101 هـ، وقيل غير ذلك/ ع. (التقريب 520) . 6 جـ 1 (105/ أ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 - وقال آخرون: انفرد به ابن إسحاق، وليس هو ممن يحتجُّ به في الأحكام، فكيف يُعارض بأحاديثه الأحاديث الصحيحة. قاله ابن مُفَوِّز، ونقله عنه ابن القَيِّم1. 3- وضعفه آخرون بـ "أبان بن صالح" فقال ابن عبد البر: "وليس حديث جابر بصحيح عنه، فَيُعَرَّجُ عليه؛ لأنَّ أبان بن صالح الذي يرويه ضعيفٌ"2. وَجَهَّلَهُ ابن حزم3. والجواب عن هذه العلل كما يلي: أولاً: أما عنعنة ابن إسحاق: فقد صَرَّحَ بالتحديث في رواية أحمد، وابن الجارود، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي؛ فعند هؤلاء جميعاً قول ابن إسحاق: "حدثني أَبَانُ بن صالح". فزالت بذلك شُبْهَة التدليس عن ابن إسحاق ولله الحمد، وقد أشار إلى جواب هذه الشبهة ابن الملقن4 رحمه الله. ثانياً: وأما القول بأن ابن إسحاق لا يُحْتَجُّ به في الأحكام: فليس الأمر كذلك، بل قد وَثَّقَهُ أَئِمَّة، واحتجَّ به آخرون، واسْتَشْهَدَ به الإمام مسلم في (صحيحه) ، والأمر فيه على ما قاله الذهبي: "فالذي يظهر لي: أن ابنَ إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق، وما انفردَ به ففيه   1 تهذيب السنن: (1/ 22) . 2 التمهيد: (1/ 312) . 3 المحلى: (1/ 265) . 4 البدر المنير: جـ 1 (ق 105/ أ) . وانظر: التلخيص الحبير: (1/104) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 2 نكارةٌ؛ فإنَّ في حفظه شيئاً، وقد احتجَّ به أئمة، فالله أعلم"1. قلت: ولم ينفرد ابن إسحاق برواية هذا الحُكْمِ، بل جاء مثل ذلك عن غيره، كحديث ابن عمر، وحديث عراك بن مالك، على كلام فيه مضى بيانه. ثالثاً: وأما تضعيفُ ابن عبد البر لأ بَان بن صالح: فقد رَدَّه عليه الأئمة، وكذا رَدُّوا على ابن حزم حكمه عليه بالجهالة. قال ابن الملقن في (البدر المنير) 2: "وهذا تعليل ساقط؛ فإن أَبَان لم يضعفه أحد، وهو أبان ابن صالح بن عمير القرشي مولاهم ... " ثم ساق أقوال الأئمة في توثيقه3. وقال ابن حجر: "وَضَعَّفَهُ ابن عبد البر بِأَبَان بن صالح، وَوَهِمَ في ذلك؛ فإنه ثِقَة باتفاق، وادَّعى ابن حزم أنه مجهول فَغَلِطَ"4. وكذا رَدَّ ابن مفوز على ابن حزم، وأفاض في إثبات ثقة أبان والاحتجاج به5، وكذا رد عليه ابن عبد الحق6. ومع أن هذه العلل مردودةٌ، فإن هذا الحديث قد صَحَّحَهُ جماعة، وَحَسَّنَهُ آخرون: فقال البخاري: "حديث صحيح، رواه غير واحد عن محمد ابن إسحاق". كذا نقل غير واحد عن البخاري: أن الترمذي سأله عنه؟   1 ميزان الاعتدال: (3/475) . 2 جـ 1 (ق 105/ أ) . 3 وانظر: تهذيب الكمال: (2/10-11) . 4 التلخيص الحبير: (1/104) . 5 انظر: تهذيب السنن: (1/22) . 6 انظر: البدر المنير: جـ 1 (ق105/ أ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 فقال ذلك، منهم: البيهقي، وعبد الحق1، وكذا ابن القَيِّم2، وابن حجر3 وغيرهم. لكن الذي في (العلل) 4 للترمذي قول البخاري: "رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق" دون قوله: "صحيح". ثم رجعت إلى النسخة الخطية من (العلل) فوجدت هذه الكلمة ملحقة في هامش النسخة5. وحَسَّنَهُ الترمذي، وكذا البزار6 وَصَحَّحَهُ ابن السكن7، وقال الدارقطني عن إسناده: "كلهم ثقات". وقال الحاكم أبو عبد الله: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، لكن تعقبهما ابن الملقن، فقال: "وفي كونه على شرط مسلم نظرٌ؛ لأن في إسناده ابن إسحاق، ولم يحتجَّ به مسلم، إنما أخرج له متابعة"8. وقال ابن الملقن: "صحيح، معمول به"9. وقال الشيخ الألباني: "حسن"10. هذا مع تصحيح ابن خزيمة وابن حبان له.   1 كما في البدر المنير: جـ 1 (ق105/ أ) . 2 تهذيب السنن: (1/22) . 3 التلخيص الحبير: (1/104) . (1/87) . باب الرخصة في استقبال القبلة بغائط أو بول. 5 انظر العلل رواية أبي طالب: (ق2/ب) . نسخة أحمد الثالث المصورة في مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم 530. 6 انظر: البدر المنير: جـ 1 (ق 105/ أ) . 7 المصدر السابق، والتلخيص الحبير: (1/104) . 8 البدر المنير: جـ 1 (ق 105 / أ) . 9 المصدر السابق. 10 صحيح ابن ماجه: (ح 261) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وقد ذَهَبَ بَعْضُهم إلى أن هذا الحديث ناسخٌ لأحاديث المنع، لكن لم يوافق على دعوى النسخ جماعة، منهم: ابن قتيبة1. وقال ابن حجر: "والحق أنه ليس بناسخ لحديث النهي خلافاً لمن زعمه"2. وكذا استبعد النسخ ابن خزيمة، فقال في ترجمته لهذا الحديث: " ... وَيَتَوَهَّمُ من لا يفهمُ العلم، ولا يُمَيِّزُ بين المفسر والمجمل: أن فعلَ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ناسخٌ لنهيه عن البول مستقبل القبلة"3. وكذا قال ابن حبان حيث ترجم له بقوله: "ذكرُ خبرٍ أوهم من لم يُحْكِمْ صناعة الحديث أنه ناسخ للزجر الذي تَقَدَّمَ ذكرنا له"4. والذي ذهب إليه الجمهور وارتضاه أكثر العلماء: هو الجمع بين الأخبار في هذا الباب، قال ابن قتيبة: "وليسا عندنا من الناسخ والمنسوخ، ولكن لكل واحد منهما موضع يستعمل فيه، فالموضع الذي لا يجوز أن تُسْتَقْبَل القبلة فيه بالغائط والبول: هي الصحارى والبراحات. وكانوا إذا نزلوا في أسفارهم لهيئة الصلاة، استقبل بعضهم القبلة بالصلاة، واستقبلها بعضهم بالغائط، فَأَمَرَهُمْ أن لا يستقبلوا القبلة بغائط ولا بول إكراماً للقبلة وتنزيهاً للصلاة. فظن قوم أن هذا أيضاً يكره في البيوت والكُنُفِ المحتفرة ... "5. وترجم ابن خزيمة في (صحيحه) 6 وكذا ابن حبان7 بما يفيد ذلك.   1 تأويل مختلف الحديث: (ص 90) . 2 فتح الباري: (1/ 245) . 3 صحيح ابن خزيمة: (1/ 34) . 4 الإحسان: (2/ 346) . 5 تأويل مختلف الحديث: (ص 90) . (1/ 34) ح 59، باب رقم (44) . 7 الإحسان: (2/ 347) ح 1418. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وقال الخطابي في (معالم السنن) 1: "وذهب عبد الله بن عمر إلى أن النهي عنه إنما جاء في الصحاري، فأما الأبنية فلا بأس باستقبال القبلة فيها". ثم قال: "الذي ذهب إليه ابن عمر ومن تابعه من الفقهاء أولى؛ لأن في ذلك جمعاً بين الأخبار المختلفة، واستعمالها على وجوهها كلها". وقال ابن عبد البر - بعد أن ذكر أن ذلك مذهب مالك، والشافعي، وقول ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه -: "والصحيح عندنا الذي يُذهب إليه: ما قاله مالك وأصحابه، والشافعي؛ لأن في ذلك استعمال السنن على وجوهها الممكنة فيها، دون رَدِّ شيء ثابتٍ منها"2. وقال الحافظُ ابن حجر: "وبالتفريق بين البنيان والصحراء مطلقاً قال الجمهور ... وهو أَعْدَلُ الأقوال، لإعمال جميع الأدلة"3. وبعدُ، فإن حديث جابر رضي الله عنه في استقباله صلى الله عليه وسلم القبلة ببوله: لا يَقِِلُّ عن درجة الحسن، وما أُعِلَّ به قد أُجيب عنه، والذي يظهر من صنيع ابن القَيِّم - رحمه الله - الميل إلى القول بضعفه، وأنه ذَهَبَ - بناء على ذلك - إلى القول بعدم جواز استقبال أو استدبار القبلة ببولٍ أو غائطٍ مطلقاً، وقد ظَهَرَ مما تَقَدَّمَ أن الصواب خلاف ذلك، والله أعلم.   (1/ 20) . 2 التمهيد: (1/ 312) . 3 فتح الباري: (1/ 246) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 2- باب وضع الخاتم عند دخول الخلاء 3- (3) عن أنس رضي الله عنه قال: "كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دَخَل الخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمه". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "هذا الحديث رواه همام1 - وهو ثقة - عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس"2. ثم نَقَل عن الدارقطني أنه ذكر في (علله) وجوه الاختلاف فيه، وأنه ذهب إلى شذوذه بهذا اللفظ، ونَاقَشَ بعض شواهده، ونقل أقوال الأئمة حول هذا الحديث، وتَوَصَّل في النهاية إلى أن الحديث شاذ أو منكرٌ، وإن كان سَنَدُه صَحِيحَاً. قلت: الحديث بهذا الإسناد الذي ذكره ابن القَيِّم أخرجه: أصحاب السنن الأربعة3، والترمذي في (الشمائل) 4، وابن حبان في   1 ابن يحيى بن دينار العوذي، أبو عبد الله أو أبو بكر، البصري، ثِقَة رُبَّما وَهِمَ، من السابعة، مات سنة 164 هـ أو 165 هـ / ع. (التقريب 574) . 2 تهذيب السنن: (1/ 26) . 3 د: (1/25) ح19ك الطهارة، باب الخاتم يكون فيه ذكر الله تعالى يدخل به الخلاء. ت: (4/ 229) ح1746، ك اللباس، باب ما جاء في لبس الخاتم في اليمين. س: (8/ 178) ك الزينة، باب نزع الخاتم عند دخول الخلاء. جه: (1/ 110) ح 303، ك الطهارة، باب ذكر الله عز وجل على الخلاء والخاتم في الخلاء. (ص 93) ح 88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 (صحيحه) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، والبيهقي في (سننه) 3. كلهم باللفظ المذكور آنفاً، إلا الترمذي في كتابيه، والنسائي، فإنَّ لفظه عندهما: "نَزَع خَاتَمه" بدل: "وَضَعَ". والحديثُ بهذا الإسناد أعله جماعة من الأئمة، فقال أبو داود: "هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس: "أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِق ثم ألقاه"، والوهمُ فيه من هَمَّام، ولم يروه إلا همام". وقال النسائي: "هذا حديث غير محفوظ"4. وأشار الدارقطني إلى شذوذه5. وذكره الحافظ العراقي في (ألفيته) 6 مثالاً للمنكر. وحكم الحافظ ابن حجر بشذوذه7. ووجه شُذُوذ هذا الحديث أو نكارته: أن هَمَّامَاً تَفَرَّد عن ابن جريج بذكر نزع الخاتم، والمحفوظ عن ابن   1 الإحسان: (2/ 344) ح 1410، باب الخبر الدال على نفي إجازة دخول المرء الخلاء بشيء فيه ذكر الله. (1/ 187) . (1/ 94) . 4 وعبارة النسائي هذه لم أجدها في (المجتبى) عقب روايته الحديث، لكن نقلها عنه: المنذري في: (اختصار السنن 1/26) ، والمزي في: (تحفة الأشراف 1/385) ، وابن حجر في (التلخيص الحبير 1/107 - 108) ، وفي (النكت على ابن الصلاح 2/677) . 5 في (علله) ولم أقف على كلامه فيه بعد البحث، لكن نقله عنه ابن القَيِّم هنا، وغيره. 6 الألفية مع شرحها للعراقي: (1/ 197 - 201) . 7 النكت على ابن الصلاح: (2/ 677) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 جريج في ذلك ما ذكره أبو داود، وهو حديث اتخاذه صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق، ثم أنه ألقاه بعد ذلك. وقد كشف الدارقطني - رحمه الله - عن وجوه الاختلاف فيه في (علله) - ونقله ابن القَيِّم عنه - فقال: "رواه سعيد بن عامر وهدبة بن خالد، عن همام، عن ابن جريج، عن الزهري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم. وخالفهم عمرو بن عاصم، فرواه عن هَمّام، عن ابن جريج، عن الزهري عن أنس "أنه كان إذا دخل الخلاء" موقوفاً، ولم يُتابع عليه. ورواه يحيى ابن المتوكل ويحيى بن الضريس، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس، نحو قول سعيد بن عامر ومن تابعه عن همام. ورواه عبد الله بن الحارث المخزومي وأبو عاصم وهشام بن سليمان وموسى بن طارق، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس: "أنه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب، فاضطربَ النَّاس الخواتيم، فَرَمَى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لا أَلْبَسُهُ أبداً". وهذا هو المحفوظ والصحيح عن ابن جريج"1. وهذه الرواية التي قال عنها الدارقطني: إنها المحفوظة عن ابن جريج، سبق أن نقلنا عن أبي داود أنه قال ذلك فيها أيضاً. وقد أخرج هذه الرواية الإمام مسلم في (صحيحه) 2 من طريق ابن جريج، أخبرني زياد بن سعد، أن ابن شهاب أخبره، أن أنس بن مالك أخبره: "أنَّه رَأى في يَدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خَاتَمَاً من وَرق يوماً واحداً، ثُمَّ   1 تهذيب السنن: (1/26-27) . (3/1658) ح (60) ... ك اللباس، باب في طرح الخواتم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 إن الناس اضطربوا1 الخواتم من وَرِق، فلبسوها، فَطَرَحَ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتمهم". وعَلَّقَه البخاري في (صحيحه) 2 وقد نُسِبَ الزهري في هذا الحديث إلى الغلط؛ لأن المعروف أن الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم كان من ذهب كما في حديث ابن عمر وغيره، وقد أجيب عن ذلك بأجوبة بسطها ابن حجر في (فتح الباري) 3 فلتنظر هناك. قال ابن القَيِّم رحمه الله - عَقِبَ نقله كلام الدارقطني هذا-: "وهَمَّام وإن كان ثقة صدوقاً احتجَّ به الشيخان في الصحيح، فإن يحيى بن سعيد كان لا يُحَدِّث عنه ولا يَرْضَى حفظه ... وقال يزيد بن زريع - وسُئِل عن همام-: كتابه صالح، وحفظه لا يسوى شيئاً. وقال عفان: كان هَمَّام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا يَنْظر فيه، وكان يُخَالَفُ فلا يرجع إلى كتاب، وكان يكره ذلك، قال: ثُمَّ رَجَعَ بعد فنظر في كتبه، فقال: يا عفان كُنَّا نخطئ كثيراً، فنستغفر الله عز وجل". ثم قال ابن القَيِّم: "ولا ريبَ أَنه ثقةٌ صدوق، ولكنه خُولِفَ في هذا الحديث، فَلَعَلَّهُ مِمَّا حَدَّثَ به من حفظه فَغَلِطَ فيه، كما قال أبو داود والنسائي والدارقطني وعلى هذا: فالحديث شاذ أو منكر كما   1 اضطرب خاتماً: سأل أن يُضْرَبَ له، وهو افتعل من الضرب: الصياغة، والطاء بدل من التاء. (النهاية 3/80، ولسان العرب ص2565، مادة: ضرب) . 2 البخاري مع الفتح: (10/318) ح5868، ك اللباس، باب خاتم الفضة. (10/320 - 321) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 قال أبو داود، وغريبٌ كما قال الترمذي"1. قلت: وقد مَالَ الحافظ ابن حجر إلى كونه شاذاً، واستبعد أن يكون منكراً، فقال: "وَحُكْمُ النسَائِي عليه بكونه غير محفوظ أصوب، فإنه شَاذٌّ في الحقيقة؛ إذ المنفرد به من شرط الصحيح، لكنه بالمخالفة صار حديثه شاذاً"2. ثم رد ابن القَيِّم - رحمه الله - على من نَازَعَ في نَكَارَتِهِ أو شذوذِهِ، فقال: "فإن قيل: إن هَمَّامَاً ثقة، وتَفَرُّدُ الثقة لا يوجبُ نكارة الحديث، فقد تفرد عبد الله بن دينار بحديث: النهي عن بيع الولاء وهبته، وَتَفَرَّدَ مالك بحديث: دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المِغْفَر. فهذا غايته أن يكون غريباً كما قال الترمذي، وَأَمَّا أن يكون منكراً أو شاذاً: فلا؟ "3. ثم أجاب ابن القَيِّم عن ذلك، فقال: "التَّفَرُّدُ نوعان: تَفَرُّدٌ لم يُخَالَف فيه من تفردَ به، كتفرد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين، وأشباه ذلك. وَتَفَرُّدٌ خُولِفَ فيه المتفرد، كتفرد همام بهذا المتن4 على هذا الإسناد؛ فإن الناس خالفوه فيه، وقالوا: "إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِقٍ ... " الحديث. فهذا هو المعروف عن ابن جريج عن الزهري، فلو لم يرو هذا عن ابن جريج وَتَفَرَّدَ هَمَّام بحديثه لكان نظير حديث عبد الله بن   1 تهذيب السنن: (1/ 28) . وانظر: أقوال العلماء في "همام بن يحيى" في تهذيب التهذيب: (11/ 68 - 70) . 2 النكت على ابن الصلاح: (2/ 677) . 3 تهذيب السنن: (1/ 28) . 4 وهو حديث (نزع الخاتم عند دخول الخلاء) ، وهو موضوع دراستنا هذه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 دينار ونحوه. فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله"1. قلتُ: وقد خالف هَمَّاماً جماعةٌ من أصحاب ابن جريج كما تقدم من كلام الدارقطني، ولا شك أن العددَ الكثير أولى بالحفظ والضبط من الواحد. وأما المتابعة التي ذكرها الدارقطني لهمام، من رواية يحيى بن المتوكل2، ويحيى بن الضريس3: فقد أخرج رواية ابن المتوكل الحاكم في (المستدرك) 4، عنه عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَبِسَ خَاتَمَاً نقشه "محمد رسول الله"، فكان إذا دَخَلَ الخلاء وَضَعه". قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، إنما أخرجا حديث نقش الخاتم فقط"، ووافقه الذهبي. وقد سقط ذكر أنس رضي الله عنه من مطبوعة (المستدرك) ، لكنه في رواية البيهقي من طريقه. وأخرجه البيهقي في (سننه) 5 من طريق الحاكم، ثم قال: "وهذا شاهد ضعيف". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وإنما ضَعَّفَه لأنَّ يحيى هذا قال فيه الإمام أحمد: وَاهِي الحديث. وقال ابنُ مَعين: ليس بشيءٍ. وَضَعَّفَهُ   1 تهذيب السنن: (2/ 29 - 30) . 2 الباهلي، البصري، أبو بكر، صدوق يُخْطِئ، من التاسعة، مات بالمصيصة/تمييز. (التقريب 596) . 3 البجلي، الرازي، صدوق، من التاسعة، مات سنة 203هـ/م ت. (التقريب592) . (1/ 187) . (1/ 95) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 الجماعة كلهم"1. كذا قال ابن القَيِّم! وقد وَهِمَ في ذلك رحمه الله؛ فإن يحيى بن المتوكل الذي ضَعَّفَه أحمد ويحيى والجماعة كلهم هو: أبو عقيل العمري المدني، مولى العمريين2، أما المقصود هنا: فَإِنَّه البَاهِلِي البصري أبو بكر، فهو الذي يروي عن ابن جريج، قال ابن معين: "لا أعرفه"3. وذكره ابن حبان في (الثقات) 4. وقال: "كان يخطئ". قال ابن حجر: " ... قُولُ يحيى بن معين: لا أعرفه، أراد به جَهَالة عدالته لا جهالة عينه، فلا يُعْتَرَض عليه بكونه روى عنه جماعة؛ فإن مُجَرَّد روايتهم عنه لا تَسْتَلْزِم معرفة حاله. وأما ذكر ابن حبان له في (الثقات) : فإنه قال فيه - مع ذلك -: كان يُخْطِئ، وذلك مِمَّا يُتَوقَّف به عن قبول أفراده"5. لكن يحيى هذا قال عنه الذهبي: "صدوق"6، وقال الحافظ ابن حجر: "صَدُوقٌ يُخْطِئ"، وقال - أيضاً - عن حديثه هذا: "رجاله ثقات"7. وحينئذٍ فقد يصلح حديثه للمتابعة. وأما المتابعة الأخرى عن يحيى بن الضريس: فإنني لم أَقِف على من أَخْرَجَها، ولا وَجَدت أحداً أشار إلى مُخْرِجِها، سوى ما جَاءَ من ذكر   1 تهذيب السنن: (1/ 27) . 2 انظر ترجمته في: (الميزان 4/404) ، وتهذيب التهذيب: (11/270) . 3 سؤالات ابن الجنيد لابن معين: (ص487) . (7/612) . 5 النكت على ابن الصلاح: (2/677 - 678) . 6 المغني: (2/742) . 7 التلخيص الحبير: (1/ 108) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 الدارقطني لها في كلامه آنف الذكر، لكن قال ابن حجر في (التلخيص الحبير) 1: "وأخرجهما - يعني: رواية يحيى بن المتوكل، ويحيى بن الضريس - الحاكم والدارقطني"! كذا قال رحمه الله، ولم أجده في واحد منهما بعد البحث، أما الحاكم فقد أخرج حديث يحيى بن المتوكل وحده كما تقدم، وأما الدارقطني فلم أجد فيه أَيّاً منهما. حتى إن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يذكر من أخرج هذه المتابعة، وكأنه لم يقف على ذلك، ولكنه قال: "وأما حديث يحيى بن الضريس: فيحيى هذا ثقة، فَيُنْظَرُ الإسنادُ إليه"2. وقال مرة: "وحديث ابن الضريس يُنْظَرُ في حاله، ومن أخرجه"3. وعلى كل حال: فإنَّ هذه المتابعة من يحيى بن المتوكل، ثم من يحيى ابن الضريس قد تفيد في تقوية رواية همام، لكنها مع ذلك تبقى مُخَالِفَةً لرواية الجماعة من أصحاب ابن جريج، وهم أكثر عَدَدَاً، وفيهم أبو عاصم النبيل "الثقة الثبت"، وعبد الله بن الحارث المخزومي "الثقة"، وغيرهما من ثقات أصحاب ابن جريج؛ ومن هنا جاء حكم الحفاظ على هذه الرواية بالشذوذ.   (1/ 108) . 2 تهذيب السنن: (1/ 27 - 28) . 3 المصدر السابق: (1/ 30) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 على أَنَّ هناك اتجاهاً نحو القول بأن هذا الحديث جاء عن الزهري على أوجه كثيرة، وأن حديث همام هذا أحدها، وقد عَبَّر ابن حجر - رحمه الله - عن هذا الاتجاه فقال: "على أن للنظر مجالاً في تصحيح حديث هَمَّام؛ لأنه مبني على أن أصله حديث الزهري، عن أنس في اتخاذ الخاتم. ولا مانع أن يكون هذا متن آخر غير ذلك المتن ... "1. لكن أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك، فإنه سَاقَ عدة روايات عن الزهري في اتخاذه صلى الله عليه وسلم الخاتم، ثم قال: "هذه الروايات كُلها تَدُلُّ على غَلَط هَمَّام؛ فإنها مجمعةٌ على أن الحديث إِنَّمَا هو في اتخاذ الخاتم ولبسه، وليس في شيءٍ منها نزعه إذا دخل الخلاء. فهذا هو الذي حَكَمَ لأجله هؤلاء الحُفَّاظ بنَكَارَة الحديث وشذوذه، والمصحح له لَمَّا لم يمكنه دَفْعَ هذه العلة حكم بغرابته2 لأجلها، فلو لم يكن مخالفاً لرواية من ذُكِرَ فما وجه غرابته؟ "3. وَلِرواية هَمَّام هذه عِلَّة أخرى لم يَتَعَرَّض لَهَا ابن القَيِّم رحمه الله، وهي: تَدْلِيس ابن جريج، قال الحافظ ابن حجر: "والخَلَلُ في هذا الحديث من جهة أن ابن جريج دَلَّسَهُ عن الزهري بإسقاط الواسطة، وهو زياد بن سعد"4. بل ذهب الحافظ - رحمه الله - إلى أن التَّدْلِيسَ هو   1 النكت على ابن الصلاح: (2/ 678) . 2 يشير بذلك إلى حكم الترمذي - رحمه الله - عليه، حيث قال "حسن غريب" وسيأتي. 3 انظر: تهذيب السنن: (1/ 30- 31) . 4 النكت على ابن الصلاح: (2/ 677) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 عِلَّتَهُ الوحيدة - بعد أن قال بإمكان تصحيح رواية هَمَّام وحَمْلِهَا على أَنَّهَا متن آخر لحديث الزهري - فقال: "ولا عِلَّة له عِنْدي إلا تَدْلِيس ابن جريج، فإن وُجْدَ عنه التصريح بالسَّماع فلا مَانِعَ مِنَ الحكم بِصِحَّتِه في نقدي. والله أعلم"1. وقد ذَهَبَ فريق آخر من أهل العلم إلى تصحيح هذا الحديث، ولم يروه معلولاً، فقال الترمذي: "حسن غريب"، وفي نسخة: "حسن صحيح غريب"2. وصَحَّحَه الحاكم على شرط الشيخين من طريق يحيى ابن المتوكل، عن هَمَّام، ووافقه الذهبي كما مضى. وَرَجَّحَ الْمُنذري ما حكمَ به الترمذي، وأنه يكون غريباً - كما قال الترمذي - لا شاذاً3. وذكره ابن دقيق العيد في كتابه (الاقتراح) 4 ضمن الأحاديث الصحيحة التي خَتَمَ بها كتابه. وصححه كذلك ابن التركماني وقال: بأن الأمر على ما قال الترمذي من الحسن والصحة5. وفي نظري: أن أَكْثَر من صَحَّحَه إِنَّمَا نَظَر إلى ظاهر إسنادِهِ، ولم يلتفت إلى العِلَّةِ الواقعة في مَتْنِه، وهو ما الْتَفَتَ إليه وَنَبَّه عليه حُذَّاقُ الأئمة العارفين بمكامن العلل، ومواطن الأدواء: كأبي داود، والنسائي، والدارقطني، وقد تقدم قولهم في ذلك، ولذلك قال النووي في   1 النكت على ابن الصلاح: (2/677) . 2 كما في تحفة الأشراف: (1/ 385) . 3 مختصر السنن: (1/ 26) . (ص 433) . 5 الجوهر النقي: (1/ 95) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 (الخلاصة) 1: "قول الترمذي: حسن، مردود عليه". ثُمَّ إن قول الترمذي - الذي اسْتَنَد إليه بعض من صَحَّحَهُ - يُمْكِنُ أن يَلْتَقِي مع قول من أَعَلَّهُ ولا يُعَارِضُه، وقد عَبَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك فقال: "وَلَعَلَّ الترمذي موافق للجماعة؛ فإنه صَحَّحَهُ مِن جِهَةِ السَّنَد لِثِقَةِ رُوَّاتِهِ، واسْتغربه لهذه العِلَّة، وهي التي منعت أبا داود من تصحيح متنه، فلا يكون بينهما اختلاف، بل هو صحيح السند لكنه معلول"2. فالحاصلُ: أن الراجح إعلال هذا الحديث، وأنه غيرُ محفوظ بهذا اللفظ، بل المحفوظ عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس خلافه، وهذا ما رَجَّحَهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في بَحْثٍ لَّهُ نافع ماتع، أثبتَ فيه أن ذلك ليس من باب تَفَرُّدِ الثِّقَةِ بما لم يروه غيره أصلاً، وَإِنَّمَا من باب مُخالفةِ الثِّقَة لِمَنْ هو أَوْثَقُ منه: وهو الشاذُّ. وإنني أرى أن الحكم عليه بالشذوذ أولى من الحكم بنكارته، وهذا الذي ذهب إليه النسائي، وَرَجَّحَهُ الحافظ ابن حجر كما مضى. كما أن الحديث معلول - بالإضافة إلى ذلك - بتدليس ابن جريج، وهذا ما لم يتعرض له ابن القَيِّم في بحثه، وقد نَبَّهْتُ على ذلك مُسْتَشْهِدَاً بكلام الحافظ ابن حجر رحمه الله. وقد ضَعَّفَ الحديث - أيضاً - الشيخ الألباني، وَصَوَّبَ القول بأنه شاذ3، والله أعلم.   (ق 10 / ب) . 2 تهذيب السنن: (1/ 31) . 3 مختصر الشمائل: (ح 75) ، والتعليق على المشكاة: (ح 343) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 3- باب ما جاء في تخليل الأصابع عند الوضوء 4- (4) عَنِ الْمُسْتَورد بن شَدَّاد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّه كَانَ يُدَلِّكُ أَصَابِعَ رِجْلَيْه عِنْدَ الوضوءِ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في معرض كلامه على عدم مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل، ثم تَكَلَّم - رحمه الله - على هذا الحديث بما حاصله: 1- أن في إسناده ابن لهيعة، لذلك: فالحديث - في نظره - في ثبوته نظر. لكن كأنه لم يقطع بضعفه، وأنه قَابلٌ للتصحيح، ولذلك قال: 2- "وهذا إن ثبتَ عنه: فإنما كان يفعله أحياناً". ثم استدل على عدم مداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: 3- "ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه، كعثمان، وعلي، وعبد الله بن زيد، وغيرهم"1. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سنهم) 2 وأحمد في (مسنده) 3، والبيهقي في (سننه) 4، من طرق، عن:   1 انظر: زاد المعاد: (1/ 198) . 2 د: (1/ 103) ح 148، باب غسل الرجلين. ت: (1/ 57) ح 40، باب ما جاء في تخليل الأصابع. جه: (1/ 152) ح 446، باب تخليل الأصابع، ثلاثتهم في ك الطهارة. (4/ 229) . (1/ 76) باب كيفية التخليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 ابن لهيعة1، عن يزيد بن عمرو2، عن أبي عبد الرحمن الحبلي3، عن المستورد بن شداد4 رضي الله عنه قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا تَوَضَّأَ يدلك أصابعَ رجليه بخنصره". هذا لفظ أبي داود، ومثله الترمذي. وعند أحمد: "يُخَلِّلُ"، وابن ماجه "خَلَّلَ" بدل: "يدلك". ولفظ البيهقي مثل أبي داود، لكن عنده: "ما بين أصابع رجليه". أما إعلال هذا الحديث بأن ابن لهيعة في إسناده: فقد أجاب عنه الأئمة: بأن ابن لهيعة لم ينفرد به، بل تُوبع عليه: قال ابن القطان: "وابن لهيعة ضعيف، ولكنه قد رواه غيره، فَصَحَّ"5، ثم ساق هذه المتابعة من طريق ابن أبي حاتم6. وأشار ابن الْمُلَقِّن7 - رحمه الله - إلى هذه المتابعة. وقال ابن حجر: "وفي إسناده ابن لهيعة، لكن تابعه: الليث بن سعد، وعمرو بن   1 عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري، القاضي، صدوقٌ خَلَّطَ بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدلُ من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون، مات سنة 174 هـ/م د ت ق. (التقريب 319) . 2 المعافري، المصري، صدوق، من الرابعة/د ت ق. (التقريب 604) . 3 هو: عبد الله بن يزيد المعافري، ثقة، من الثالثة، مات سنة100هـ بإفريقية/بخ م 4. (التقريب 329) . 4 ابن عمرو القرشي الفهري، حجازي، نزل الكوفة، له ولأبيه صحبة، مات سنة 45هـ/ خت م 4. (التقريب 527) . 5 بيان الوهم والإيهام: (5/264) ح 2463. 6 وهي في (الجرح والتعديل) - المقدمة: (1/ 31-32) . 7 البدر المنير: جـ 1 (ق 95/ب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الحارث. أخرجه البيهقي، وأبو بشر الدولابي، والدارقطني في غرائب مالك، من طريق ابن وهب عن الثلاثة"1. قلت: وهذه المتابعة أخرجها البيهقي2 من طريق: عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: أنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب3، قال: سمعت عَمِّي - يعني عبد الله بن وهب - يقول: سمعت مالكاً يُسْئَلُ عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خَفَّ الناس، فقلت له: يا أبا عبد الله! سمعتك تُفْتِي في مسألة تخليل أصابع الرجلين، زعمت أن ليس ذلك على الناس، وعندنا في ذلك سُنَّة. فقال: وما هي؟ فقلت: ثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث4، عن يزيد بن عمرو المعافري ... فساق الحديث كما مضى. قال مالك: هذا حديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته يسئل بعد ذلك، فأمر بتخليل الأصابع. فهذه - كما نرى - متابعةٌ قويةٌ من الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث لابن لهيعة على هذا الحديث، ولا سيما أنها من طريق ابن وهب، وروايته عن ابن لهيعة أعدل من رواية غيره عنه5.   1 التلخيص الحبير: (1/ 94) . 2 السنن: (1/ 76-77) . 3 ابن مسلم، المصري، لقبه: بحشل، أبو عبيد الله، صدوق تغير بأخرة، من الحادية عشرة، مات سنة 264 هـ/م. (التقريب 82) . 4 ابن يعقوب الأنصاري مولاهم، المصري، أبو أيوب، ثقة فقيه حافظ، من السابعة، مات قديماً قبل 150 هـ/ع. (التقريب 419) . 5 قال الذهبي رحمه الله: "حدث عنه ابن المبارك وابن وهب وأبو عبد الرحمن المقرئ وطائفة قبل أن يكثر الوهم في حديثه وقبل احتراق كتبه، فحديث هؤلاء عنه أقوى، وبعضهم يصححه، ولا يرتقى إلى هذا". (تذكرة الحفاظ 1/238) . وتقدم معنا نقل كلام الحافظ ابن حجر في ذلك في مطلع الدراسة لهذا الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 لكنَّ ابن التركماني - رحمه الله – حاولَ غمز هذه المتابعة، فقال: "في ذلك السند أحمد بن أخي ابن وهب؛ وهو وإن خَرَّجَ عنه مسلم، فقال أبو زرعة: أدركناه ولم نكتب عنه. وقال ابن عدي: رأيت شيوخ أهل مصر الذين لحقتهم مجمعين على ضعفه"1. كذا قال ابن التركماني، ولم يذكر أن جماعةً وَثَّقُوه وارتضوه، منهم: محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حيث قال: "ثِقَة، ما رأينا إلا خيراً"2. وقال أبوحاتم: "أدركته وكتبت عنه"3. ومرة قال: "كان صدوقاً"4. وقال أبوحاتم: "سمعت عبد الملك بن شعيب بن الليث يقول: ... ثقة"5. وأما عدم كتابة أبي زرعة عنه فلأنه خلط في أحاديث6، ولكنه رجع عن ذلك رحمه الله، وقد بلغ أبا زرعة رُجُوُعُه عن تلك الأحاديث، فقال: "إن رجوعه مما يُحَسِّنُ حاله، ولا يبلغ به المنزلة التي كان قبل ذلك"7. ومن أجل رجوعه تَمَسَّكَ ابن خزيمة بالرواية عنه؛ فإنه قِيلَ له: لِمَ رويتَ عن ابن أخي ابن وهب وتركتَ سفيان بن وكيع؟ فقال: "لأن أحمد لما أنكروا عليه تلك الأحاديث رجع عنها إلى آخرها، إلا حديث   1 الجوهر النقي: (1/76-77) . 2 الجرح والتعديل: (1/1/60) . 3 المصدر السابق. 4 المصدر السابق. 5 المصدر السابق. 6 انظر: الكواكب النيرات: (ص63-71) . 7 الجرح والتعديل: (1/1/60) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 مالك عن الزهري عن أنس "إذا حَضَرَ العشاء ... " وأما سفيان بن وكيع: فَإِنَّ وَرَّاقَهُ أدخل عليه أحاديث فرواها، فَكَلَّمْنَاهُ فلم يرجع عنها، فاستخرت الله وتركته"1. وقال ابن القطان: "وَثَّقَهُ أهل زمانه"2. فهؤلاء الأئمةُ قد وثقوه وأثنوا عليه، وحمدوا له رجوعه عن تلك الأحاديث التي أُنْكِرت عليه، وتمسك بالرواية عنه ابن خزيمة مع شدة تحريه في الرجال، هذا كله مع إخراج مسلم له في (الصحيح) ، فهل يُسْمَعُ بعد ذلك قولُ طاعن فيه؟! ولكن، ثَمَّةَ أمرٌ آخر قد يكون مدخلاً للطعن في هذه المتابعة، وهو ما ذكره ابن القطان - رحمه الله - إذ قال: "وَإِنَّمَا الذي يجب أن يُتَفَقَّدَ من أمر هذا الحديث: قول أبي محمد بن أبي حاتم: أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن. فإني أظنه يعني في الإجازة؛ فإنه لَمَّا ذكرهُ في بابه قال: إِنَّ أبا زرعة أدركه ولم يكتب عنه، وإن أباه قال: أدركته وكتبتُ عنه. وظاهر هذا أنه هو لم يسمع منه؛ فإنه لم يقل: كتبت عنه مع أبي، وسمعت منه، كما هي عادته أن يقول فيمن يشترك فيه مع أبيه"3. وقد أجاب ابن الملقن - رحمه الله - عن شبهة ابن القطان هذه، فقال: "وقد استغنينا عن هذا التفقد الذي أشار إليه ابن القطان برواية البيهقي المتقدمة حيث قال - يعني ابن أبي حاتم-: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وكذلك - أيضاً - رواه عن ابن أخي ابن وهب: أبو بشر أحمد بن محمد بن حماد الدولابي، حَدَّثَ به الدارقطني في (غرائب   1 تهذيب التهذيب: (1/54-55) . 2 بيان الوهم والإيهام: (5/265) . 3 بيان الوهم والإيهام: (5/266) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 مالك) عن أبي جعفر ... عن الدولابي: ثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثني عمى ... عن ابن لهيعة والليث بن سعد، ولم يذكر عمرو بن الحارث. فهذا أبو محمد بن أبي حاتم، وأبو بشر الدولابي كلٌّ منهما يقول: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن"1. قلت: فزالت - بحمد الله - هذه الشبهة، وبقيت هذه المتابعة قوية، تشد رواية ابن لهيعة الماضية وتعضدها. وقد صَحَّحَ العلماء حديث المستورد هذا بهذه المتابعة، فقال ابن القطان - ومضى كلامه -: " ... فَصَحَّ بإسناد صحيح". وقال ابن الملقن: "الحديث حسن صحيح"2. وقد مضى استحسان الإمام مالك له وعمله به. وظاهرُ صَنِيع البيهقي يقتضي تصحيحه إياه، حيث سَاقَ له هذه المتابعة بإسناده إلى ابن وهب. وقال ابن حجر رحمه الله: "وفي إسناده ابن لهيعة، لكن تابعه الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث ... "3. وقال في (النكت الظراف) 4 - مُعَلِّقَاً على قول الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة -: "وهو يُتَعَقَّبُ؛ فقد أخرجه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ... وصَحَّحَه ابن القطان من هذا الوجه". وذكره البغوي في قسم الحسن من (مصابيحه) ، وتَبِعَهُ على ذلك   1 البدر المنير: جـ 1 (ق 95/ب) . 2 البدر المنير: جـ 1 (ق95/ب) . 3 التلخيص الحبير: (1/94) . (8/376) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 التبريزي في (المشكاة) 1. وصَحَّحَه الشيخ الألباني2. ومع ذلك فللحديث شواهد عدة، أَمْثَلُهَا - كما قال الزيلعي3 - حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: "أَسْبِغْ الوضوء، وخَلِّلْ بين الأصابع، وَبَالِغْ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً" هذا لفظ الترمذي4، وأخرجه أيضاً: أبو داود في (سننه) 5، وأحمد، والدرامي في (مسنديهما) 6، وابن الجارود في (المنتقى) 7، وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما) 8، والحاكم في (المستدرك) 9، والبيهقي في (سننه) 10. وسياقه عند أحمد وأبي داود مُطَوَّل، فيه ذكر قصة وفد بني المنتفق، أما الباقون فلفظهم مختصر قريب من لفظ الترمذي. وهو عند الجميع من طريق: عاصم بن لقيط11، عن أبيه لقيط بن صبرة به.   (1/128) ح407. 2 صحيح ابن ماجه: (ح360) ، وحاشية المشكاة: (1/128) ح407. 3 نصب الراية: (1/ 27) . (3/ 146) ح 778 ك الصوم، باب كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم. (1/ 97) ح 142، ك الطهارة، باب في الاستنثار. 6 حم: (4/ 211) مي: (1/ 144) ح 711 ك الطهارة، باب تخليل الأصابع. (ص 36) ح 80. 8 خز: (1/ 78) ح150 ك الطهارة، باب الأمر بالمبالغة في الاستنشاق إذا كان المتوضئ مفطراً. حب: الإحسان: (2/ 208) ح 1084. (1/147، 148) . 10 (1/76) باب تخليل الأصابع. 11 ابن صبرة العقيلي، ثقة، من الثالثة/بخ 4. (التقريب 286) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال البغوي: "حسن"1، وَصَحَّحَه ابن القطان2. وقال الحاكم: "حديث صحيح، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وقال ابن الملقن: "رجاله رجال الصحيح، إلا إسماعيل بن كثير المكي ... وإلا عاصم بن لقيط بن صبرة"3. ثم نقل أقوال الأئمة في توثيقهما. وَتَقَدَّمَ قول الزيلعي أنه أمثل الأحاديث الواردة في ذلك. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديثَ المستورد بن شداد صحيحٌ، أو حسنٌ على أقلِّ أحواله، وما أَعَلَّهُ به ابن القَيِّم من وجود ابن لهيعة في إسناده مردود بمتابعة جماعةٍ له على روايته. ثم يأتي حديث لقيط بن صبرة فيشهد له ويشد أزره.   1 مصابيح السنة: (1/22) باب سنن الوضوء. 2 بيان الوهم والإيهام: (5/592) ح2810. 3 البدر المنير: (3/312) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 4- باب من قال بالموالاة في الوضوء وعدم جواز تفريقه 5- (5) عن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي، في ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ1 قَدْرَ الدِّرْهَم لم يُصِبْهَا الماءُ، فَأَمَرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعِيدَ الوضوء والصلاة". بَحَثَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وأجاب عَمَّا أُعِلَّ به، وذلك في (كلامه على سنن أبي داود) 2، وسيأتي نقل كلامه في ذلك. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والبيهقي كذلك في (سننه) 4 من طريق أبي داود. قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا بقية5، عن بحير بن سعد6، عن خالد بن معدان7، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم به.   1 اللُّمْعَة في الأصل: القطعةُ من النَّبْتِ تأخذُ في اليبس، قال ابن الأعرابي: "وفي الأرض لمعة من خَلىً" أي: شئ قليل، والجمع: لِمَاعٌ ولُمِعٌ. وقيل للموضع الذي لا يصيبه الماء في الغسل أو الوضوء من الجسد: لَمْعَةٌ على التشبيه بالقطعة من النبت. (النهاية: 4/272) ، و (المصباح المنير: 2/559) . 2 تهذيب السنن: (1/128-129) . (1/121) ح175 ك الطهارة، باب تفريق الوضوء. (1/83) . 5 ابن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي، أبو يحمد، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، من الثامنة، مات سنة 197هـ/خت م 4. (التقريب 126) . 6 السحولي، أبو خالد الحمصي، ثقة ثبت، من السادسة /بخ 4. (التقريب 120) . 7 الكلاعي الحمصي، أبو عبد الله، ثقة عابد يرسل كثيراً، من الثالثة، مات سنة 103هـ، وقيل بعد ذلك /ع. (التقريب 190) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلتين: أولهما: أن في إسناده بقية بن الوليد، وفيه مقال. قال ذلك المنذري في (مختصر السنن) 1. العلة الثانية: أن راويه مجهول لا يُدْرَى من هو. أَعَلَّه بذلك ابن حزم2 وأَعَلَّه ببقية أيضاً. وقد نَقَلَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هاتين العلتين، ثم شَرَعَ في الجواب عنهما3 فقال: "أما الأولى: فإن بقية ثِقَةٌ في نفسه صدوق حافظ، وإنما نُقِمَ عليه التدليس، مع كثرةِ روايته عن الضعفاء والمجهولين4 وأما إذا صَرَّحَ بالسَّمَاع فهو حُجَّةٌ5. وقد صَرَّحَ في هذا الحديث بسماعه له6، قال   (1/128) . 2 المحلى: (2/98) . 3 انظر: تهذيب السنن: (1/129) . 4 وقد نَصَّ أكثر من واحد من أئمة الشأن على قبول رواية بقية إذا رَوَى عن الثقات المعروفين، وترك روايته إذا روى عن الضعفاء والمجاهيل، منهم: أحمد بن حنبل، وابن معين، والعجلي، وأبو زرعة، وابن سعد وغيرهم. انظر حول ذلك: (تهذيب الكمال: 4/196-198) . 5 وقد ذكره ابن حجر في الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين، وهم الذين اتفق على عدم قبول شيء من حديثهم إلا ما صرحوا فيه بالسماع. (طبقات المدلسين ص121) . 6 لكن تبقى عنعنته في شيخ شيخه؛ فإنه كان معروفاً بتدليس التسوية، وقد رَوَى هذا الحديث بالعنعنة في شيخ شيخه "خالد بن معدان" فينظر في ذلك، وقد يَجْبرُ ذلك كون روايات بقية عن "بحير بن سعد" لها مزيَّة عن غيرها؛ رُبَّمَا لنوع اختصاص له به، ولذا كان شعبة يحضُّ بقية على التحديث عنه فيقول له: "بَحِّر لنا، بَحِّر لنا". ويقول له: "أهد إلى حديث بحير" وهذا الحديث من روايته عنه، والله أعلم. (الميزان 1/338) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 أحمد في (مسنده) 1: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بقية، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ... فذكر الحديث، وقال: فأمره أن يعيد الوضوء". كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، وسبقه إلى هذا الجواب ابن دقيق العيد، على ما نقله عنه ابن الملقن في (البدر المنير) 2، لكن وقع عنده: (في المستدرك) بدل (مسند أحمد) ، وحمله ابن الملقن - رحمه الله - على أنه خطأ من الناسخ، بدليل أنه جاء به في (الإلمام) على الصواب. وقد تابع ابن دقيق العيد على ذلك: ابنُ حجر رحمه الله، لكنه قال: "في المسند والمستدرك تصريح بقية بالتحديث"3! ونقل ذلك عنه الشيخ الألباني في (إرواء الغليل) 4! كذا قالوا، وليس هذا الحديث في (المستدرك) ألبتة، كما نَبَّهَ على ذلك ابن الملقن رحمه الله، وبحثت أنا عنه كثيراً فلم أقف له على أثر فيه. وأما قول ابن القَيِّم - ومن بعده ابن الملقن، ثم ابن حجر -: إنه في (المسند) "عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم". فلم أجده هكذا، وإنما هو عند الإمام أحمد بالإسناد الذي ساقه ابن القَيِّم: "عن بعض أصحاب النبي" فلينظر في ذلك؟   1 انظر: المسند: (3/424) . 2 جـ 1 (ق97/أ) . 3 التلخيص الحبير: (1/96) . (1/127) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 ثم قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأما العلة الثانية1: فباطلة أيضاً على أصل ابن حزم، وأصل سائر أهل الحديث، فإن عندهم جهالةُ الصَّحَابِي لا تَقْدَح في الحديث؛ لثبوت عدالة جميعهم. وأما أصل ابن حزم: فإنه قال في كتابه في أثناء مسئلة: كلُّ نساءِ النبي صلى الله عليه وسلم ثقات فواضل عند الله عز وجل، مقدسات بيقين". وما ذكره ابن القَيِّم في جوابه عن أصل ابن حزم: فإنه قاله بناءً على رواية أحمد التي ذكرها وفيها: "عن بعض أزواج النبي"، وقد قَدَّمْنَا أن رواية المسند التي أمامنا ليس فيها إلا ما يُوافِقُ رواية أبي داود المتقدمة وهو: "بعض أصحاب النبي". وقد شاركَ ابن حزم في القول بهذه العلة: البيهقيُّ، فقال في (سننه) 2: "وهو مرسل". وكذا قال ابن القطان، كما في (البدر المنير) 3، و (التلخيص الحبير) 4. قلت: وما أَعَلُّوهُ به من جهالة راويه قد يكون له وجهٌ؛ حيث إن عَنْعَنَة التابعي عن رجل - أو جماعة - من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يَقْبَلْهَا بعضهم، فقال أبو بكر الصيرفي - من الشافعية -: "وإذا قال في الحديث بعض التابعين: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لا يُقبل؛ لأني لا أعلم سمع التابعيُّ من ذلك الرجل؟ إذ قد يُحَدِّث التَّابِعِيُّ عن رجل وعن رجلين   1 وهي جهالة راويه. (1/83) . 3 جـ 1 (ق97/أ) . (1/96) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 عن الصحابي، ولا أدري: هل أَمْكَنَ لِقَاءَ ذلك الرجل أم لا، فلو علمت إمكانه منه لجعلته كَمُدْرِكِ العصر. وإذا قال: سمعت رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبِلَ؛ لأن الكل عدول". نقله عنه الحافظ العراقي في (التقييد والإيضاح) 1 ثم قال: "وهو حسنٌ مُتَّجِهٌ، وكلامُ من أَطْلَقَ قبوله محمول على هذا التفصيل، والله أعلم". لكن نَازَعَهَما الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال في (النكت على ابن الصلاح) 2: "وفيه نظرٌ؛ لأن التابعيَّ إذا كان سالماً من التدليس حُمِلَتْ عنعنته على السماع". ثم قال رحمه الله: "وإن قلت: هذا إنما يَتَأتَّى في حقِّ كبار التابعين الذين جُلُّ روايتهم عن الصحابة بلا واسطة، وأما صغارُ التابعين الذين جُلُّ روايتهم عن التابعين: فلابد من تحقيق إدراكه لذلك الصحابي، والفرض أنه لم يسمعه حتى يُعْلَم هل أدركه أم لا؟ فينقدحُ صِحَّة ما قال الصيرفي. قلت: سَلاَمَتُهُ من التدليس كافية في ذلك؛ إذ مدار ذلك على قوة الظَّنِّ به، وهي حاصلة في هذا المقام"3. وقد يُقال: خالد بن معدان كثيرُ الإرسال، وَوَصَفَهُ الحافظ الذهبي بالتدليس4، الأمر الذي قد يورث خشيةً من عنعنته هنا كما قرره الحافظ ابن حجر. لكن يُقال: قد جعله الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الطبقة   (ص 74) في نوع " المرسل ". (2/ 562) . 3 النكت على ابن الصلاح: (2/ 563) . 4 طبقات المدلسين: (ص 62) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 الثانية من طبقات المدلسين، وهم الذين احتمل الأئمةُ تدليسهم لإمامتهم، وَقِلَّةِ تدليسهم في جنبِ ما رووا1. وقد قال أبو عبد الله الحاكم في (مستدركه) 2- عقب حديث أخرجه من طريقه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -: "خالد بن معدان من خيار التابعين، صَحِبَ معاذ ابن جبل فمن بعده من الصحابة، فإذا أَسْنَدَ حديثاً إلى الصحابة فإنه صحيحُ الإسنادِ، وإن لم يُخْرِجَاهُ". وقد سَأَلَ الأثرمُ الإمام أحمد فقال: "هذا إسناد جيد؟ قال: جيد"3. وَقَوَّاه كذلك ابن التركماني4، وصححه الشيخ الألباني5. ومع ذلك، فللحديث شاهدٌ من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً تَوَضَّأَ فترك موضع ظُفْرٍ على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارْجِعْ فَأَحسِن وضُوءَكَ". فرجع ثم صلى6. فَظَهَرَ من ذلك أن حديث خالد بن معدان هذا ثابت، وأن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد وُفِّقَ في رَدِّ العلل التي رُمِيَ بها الحديث على ما بَيَّناهُ من كلامه، مع وجود شاهد له في (صحيح مسلم) . والله أعلم.   1 طبقات المدلسين: (ص 62) . (2/ 600) . 3 نقله ابن القَيِّم في تهذيب السنن: (1/129) . وانظر: البدر المنير: جـ1 (ق 97/أ) ، والتلخيص الحبير: (1/96) . 4 الجوهر النقي: (1/ 83 - 84) . 5 إرواء الغليل: (1/ 127) ح 86. 6 أخرجه مسلم في صحيحه: (1/ 215) ح 243. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 5- بابُ الوضوء من مس الذكر 6- (6) عن بسرة بنت صفوان - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ثم قال: "قال الدارقطني: قد صح سماع عروة من بسرة هذا الحديث"1. وهو يشير بذلك إلى الرد على من أعله بعدم سماع عروة منها. قلت: هذا الحديث مداره على عروة بن الزبير، ويرويه عنه: ابنه هشام بن عروة، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم. أما رواية هشام بن عروة عن أبيه: فأخرجها ابن ماجه في (سننه) 2 من طريق عبد الله بن إدريس. وابن الجارود في (المنتقى) 3، وابن خزيمة في (صحيحه) 4 كلاهما من طريق أبي أسامة. وابن حبان في (صحيحه) 5، والدارقطني في (سننه) 6 كلاهما من طريق سفيان الثوري، كلهم عن: هشام بن عروة، عن أبيه، عن مروان بن الحكم، عن بسرة - رضي الله عنها - به. وعند ابن حبان والدارقطني زيادة قوله: " ... فليتوضأ وضوءه للصلاة".   1 تهذيب السنن: (1/ 133) . (1/ 161) ح 479. ك الطهارة، باب الوضوء من مَسِّ الذَكَر. (ح رقم 17) . (1/ 22) ح 33 باب استحباب الوضوء من مس الذكر. 5 الإحسان: (2/221) ح 113. (1/ 146) ح2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وقد رواه جماعة آخرون عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة، بدون ذكر "مروان بن الحكم"، أخرج ذلك: الترمذي في (جامعه) 1، والنسائي في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3 ثلاثتهم من طريق: يحيى بن سعيد القَطَّان. وابن حبان في (صحيحه) 4 من طريق: علي بن المبارك. والدارقطني في (سننه) 5 من طريق: عبد الحميد بن جعفر، كلهم عن: هشام بن عروة، عن أبيه عروة، عن بسرة به. ولفظ ابن حبان: " ... فَلْيُعِدْ الوضوءَ". وعند الدارقطني زيادة وهي: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ أو أنثييه أو رفغيه6 فليتوضأ". قال الدارقطني: "كذا رواه عبد الحميد ابن جعفر عن هشام، وَوَهِمَ في ذكر الأنثيين والرفغ، وإدراجه ذلك في حديث بسرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمحفوظ: أن ذلك من قول عروة غير مرفوع، كذلك رواه الثقات عن هشام، منهم: أيوب السختياني، وَحَمَّاد بن زيد وغيرهما". وقد ظَنَّ بَعْضُهم أن هذا الخبر منقطعٌ، لإسقاط هؤلاء الجماعة "مروان بن الحكم" من الإسناد، وقالوا: إن عروة لم يسمعه من بسرة.   (1/ 126) ح 82. ك الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر. (1/ 216) ك الغسل والتيمم، باب الوضوء من مس الذكر. (6/ 406 - 407) . 4 الإحسان: (2/ 221) ح 1112. (1/ 148) ح 10. 6 الرَّفْغُ - بالضم والفتح -: واحد الأَرْفَاغ، وهي أصول المغابن كالآباط والحوالب، وغيرها من مَطَاوي الأعضاء وما يجتمع فيه من الوسَخِ والعَرَقِ. (النهاية 2/244) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وقد صَوَّرَ الدارقطني - رحمه الله - ما تَوَهَّمَهُ هؤلاء ثم أجاب عنه، فقال: "فلما وَرَدَ هذا الاختلاف عن هشام، أشكلَ أمر هذا الحديث، وظنَّ كثير من الناس - مِمَّن لم يمعن النظر في الاختلاف - أن هذا الحديث غيرُ ثابت ... فلما نظرنا في ذلك وبحثنا عنه: وجدنا جماعة من الثقات الحفاظ منهم: شعيب بن إسحاق، وربيعة بن عثمان، والمنذر بن عبد الله الحزامي، وعنبسة بن عبد الواحد الكوفي، وعلي بن مسهر القاضي ... وزهير بن معاوية الجعفي، رووا هذا الحديث عن: هشام، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة، وذكروا في روايتهم في آخر الحديث: أن عروة قال: ثم لقيت بسرة بعد فسألتها عن الحديث، فحدثتني به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني مروان عنها. فَدَلَّ ذلك من رواية هؤلاء النَّفَر على صحة الروايتين الأولتين جميعاً، وزال الاختلاف والحمد لله، وصحَّ الخبر، وثبتَ أن عروة سمعه من بسرة، وشَافَهَتْهُ به بعد أن أخبره مروان عنها". قال: "ومِمَّا يُقَوِّي ذلك ويَدُلُّ على صحته، وأن هشاماً كان يُحَدِّثُ به مرة عن أبيه، عن مروان عن بسرة عن السماع الأول، وكان يحدث به تارة أخرى عن أبيه عن بسرة على مشافهة عروة لبسرة وسماعه منها بعد أن سمعه من مروان عنها: ما قَدَّمْنَا ذكره من رواية ابن جريج، وحماد بن سلمة، وزمعة، وأبي علقمة الفروي ... فإنهم رووه عن هشام على الوجهين جميعاً، وكان هشامٌ ربما نَشِطَ فَحَدَّثَ به على الوجهين جميعاً ... "1. وقال الحاكم نحواً من كلام الدارقطني هذا ثم قال: " ... فَدَلَّنَا ذلك على صِحَّة الحديث وثبوته على شرط الشيخين، وزالَ عنه الخلاف والشبهة، وثبت سماع عروة من بسرة"2.   1 علل الدارقطني: جـ 5 (ق 194 - 196) . 2 المستدرك: (1/136) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وأنا أوردُ طرفاً من هذه الروايات التي صَرَّحَ فيها عروةُ بسماعه من بُسْرَة، والتي أشار الدارقطني إلى جملة منها آنفاً: فرواية "شعيب بن إسحاق": أخرجها ابن حبان في (صحيحه) 1، والدارقطني في (سننه) 2، والحاكم في (المستدرك) 3 عن هشام، عن أبيه، أن مروان حَدَّثَهُ عن بسرة، فأنكر ذلك عروة، فسأل بسرة، فَصَدَّقَتْهُ بما قال. قال الدارقطني: "صحيح". ورواية "ربيعة بن عثمان": أخرجها ابن الجارود في (المنتقى) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5، والحاكم في (المستدرك) 6 وفيه قول عروة: "فسألت بسرة، فَصَدَّقَتْهُ". واستوعَبَ الحاكم في (المستدرك) 7 بقية هذه الروايات، فلتنظر هناك. وَجَزَمَ ابن خزيمة في (صحيحه) 8 بسماع عروة من بسرة هذا الحديث، فقال - بعد أن نَقَلَ عن الشافعي وجوب الوضوء من ذلك -:   1 الإحسان: (2/220) ح 1110. (1/ 146) ح 1. (1/ 136- 137) . (ح رقم 18) . (ح رقم 1111) . (1/137) . (1/137) . (1/ 23) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 "وبقول الشافعي أقول؛ لأن عروة قد سمع خبر بسرة منها، لا كما تَوَّهَّمَ بعض علمائنا ... ". هذا ما يتعلق بالكلام على رواية هشام بن عروة، عن أبيه عروة. وأما رواية عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عروة: فأخرجها مالك في (الموطأ) 1 عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة به. وأخرجه الشافعي في (مسنده) 2 عن مالك، والبيهقي في (سننه) 3 من طريق الشافعي. وأخرجه أبو داود في (سننه) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5 من طريق مالك. وأحمد6، وابن الجارود7من طريق سفيان الثوري، وأحمد8 - أيضاً - والطبراني9 من طريق الزهري. والدارمي10 من طريق ابن إسحاق، كُلُّهُم عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال:   (1/42) ح 58، باب الوضوء من مس الفرج. (ص12) باب ما خرج من كتاب الوضوء. (1/128) . (1/125) ح181، باب الوضوء من مس الذكر. 5 الإحسان: (2/220) ح1109. 6 المسند: (6/406) . 7 المنتقى: (ح رقم 16) . 8 المسند: (6/407) . 9 المعجم الكبير: (24/194) ح 490. 10 في مسنده: (1/150) ح 731، باب الوضوء مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 سمعت عروة بن الزبير يقول: دخلتُ على مروان بن الحكم، فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: وَمَنْ مَسِّ الذَّكَرِ الوضوء. فقال عروة: ما علمتُ هذا. فقال مروان: أخبرتني بُسرة بنت صفوان، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ... فذكره، هذا لفظ مالك ومن رواه من طريقه، وعند الباقين - إلا الدرامي - أن عروة أَنْكَرَ ذلك، فأرسلَ مروان رسولاً - وفي رواية حَرَسِيًّا - إلى بُسْرة فجاء بذلك. وقد وقع خلافٌ في إسناد حديث عبد الله بن أبي بكر أيضاً: فرواه سائر أصحاب مالك عنه كما ذكرنا، وخالفهم عبد الوهاب بن عطاء، فرواه عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة عن بسرة، بإسقاط "مروان بن الحكم" من الإسناد، قال الدارقطني: "والأول أصحُّ"1. وأخرجه كذلك بإسقاط مروان: النسائي في (سننه) 2من طريق سفيان. والدارمي في (مسنده) 3، والطبراني في   1 علل الدارقطني: جـ 5 (ق 196) . (1/216) . (1/150) ح730. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 (الكبير) 1من طريق الزهري، كلهم عن عبد الله بن أبي بكر به. وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 2 من طريق شعبة، عن عبد الله بن أبي بكر - أو أخيه محمد بن أبي بكر - به. وأخرجه الطبراني في (الكبير) 3من طريق ابن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، وأسقط من الإسناد "عبد الله بن أبي بكر". وَرُوِيَ على وجوه أخرى غير هذه، وقد استوعبها الدارقطني كُلَّها في (علله) 4 فأفادَ وأجادَ رحمه الله. وقد حَكَمَ قومٌ بعدم سماع هشام هذا الحديث من أبيه، قال النسائي: "هشام بن عروة لم يسمع من أبيه هذا الحديث"5. وطعن - كذلك - الطحاويُّ في رواية هشام عن أبيه، وقال بأن هشاماً إِنَّمَا أَخَذَهُ عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم6. ولعله استندَ في ذلك إلى ما رواه الطبراني في (الكبير) 7 من طريق: حجاج، عن هَمَّام، عن هشام بن عروة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو، عن عروة، عن بُسرة به. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وهذه الرِّواية لا تَدُلُّ على أن هشاماً لم يسمعه من أبيه، بل فيها: أنه أَدْخَلَ بَينهُ وبينهُ واسطة، والدليل على أنه سمعه من أبيه - أيضاً - ما رواه الطبراني8 أيضاً: حَدَّثَنَا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن سعيد، قال: قال شعبة: لم يسمع هشام حديث أبيه في مَسِّ الذَّكَرِ. قال يحيى: فسألت هشاماً، فقال:   (24/193) ح487. (ح 1657) . (24/193) ح 486. 4 جـ5 (ق 196-209) . 5 السنن: (1/216) . 6 شرح معاني الآثار: (1/73) . (24/198) ح 504. 8 المعجم الكبير: (24/202) ح 519. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 أخبرني أبي"1. ثم أشار ابن حجر - رحمه الله - إلى الروايات التي فيها تصريح هشام بسماعه من أبيه وتحديثه إياه، وقد تَقَدَّمَتْ عند الكلام على رواية هشام بن عروة2. ثم قال رحمه الله: "ورواه الجمهور من أصحاب هشام، عنه، عن أبيه بلا واسطة، فهذا: إما أن يكون هشام سمعه من أبي بكر عن أبيه، ثم سمعه من أبيه، فكان يُحَدِّثُ به تارةً هكذا، وتارةً هكذا. أو يكون سمعه من أبيه وَثَبَّتَهُ فيه أبو بكر، فكان تارةً يذكر أبا بكر، وتارةً لا يذكره، وليست هذه العِلَّةُ بقادحة عند المحققين"3. وقد أُعِلَّ هذا الحديث أيضاً بمروان بن الحكم، فقال الذين ذهبوا إلى عدم سماع عروة من بسرة: الواسطةُ بين عروة وبسرة: إما مروان بن الحكم، وهو مطعونٌ في عدالته، أو حَرَسِيّه، وهو مجهول4. وقد تَقَدَّمَ كلام الأئمة في ثبوت سماع عروة هذا الحديث من بسرة، فمن لم يَقْبَل رواية مروان ولم يحتج به، فأمامه رواية عروة عن بسرة مباشرة، ويكون الاعتماد عليها. وهذا ما قَرَّرَهُ ابن حبان فقال: "عائذ بالله أن نَحْتَجَّ بخبر رواه مروان بن الحكم وذووه في شيء من كتبنا ... وأما خبر بسرة الذي ذكرناه: فإن عروة بن الزبير سمعه من مروان بن الحكم عن بسرة، فلم يُقْنِعْهُ ذلك حتى بعث مروان شُرطياً له إلى بسرة فسألها، ثم أتاهم فأخبرهم   1 التلخيص الحبير: (1/123) . 2 وانظر: رواية يحيى القطان عن هشام في مسند أحمد: (6/406-407) . 3 التلخيص الحبير: (1/123) . 4 التلخيص الحبير: (1/122) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 بمثل ما قالت بسرة، فسمعه عروة ثانياً عن الشرطي عن بسرة، ثم لم يقنعه ذلك حتى ذهب إلى بسرة فسمع منها، فالخبر عن عروة عن بسرة مُتَّصِلٌ ليس بمنقطع، وصار مروان والشرطي كأنهما عاريتان يسقطان من الإسناد"1. ومع ذلك فإنَّ عروة نفسه قال في حقِّ مروان: "كان مروان لا يُتَّهَمُ في الحديث"2. فإذا ظَهَرَ أن جميع ما أُعِلَّ به هذا الحديث مدفوع لا يثبت، فإنني أسوق طرفاً من أقوال الأئمة في تصحيح هذا الحديث: فقد صَحَّحَه يحيى بن معين واحتجَّ به ونَاظَرَ عليه علي بن المديني3. وقال أبو داود: "قلت لأحمد: حديث بسرة ليس بصحيح؟ قال: بل هو صحيح"4. وقال البخاري - وقد سأله عنه الترمذي -: "أصحُّ شيء عندي في مَسِّ الذَّكَرِ حديث بسرة ابنة صفوان"5. وقال الترمذي: "حسن صحيح". وقال الدارقطني في سننه: "صحيح"، وقد تَقَدَّمَ كلامه عليه وتصحيحه إياه في (علله) . وقال الإسماعيلي في (صحيحه) : "يلزم البخاري إخراجه؛ فقد أخرج نَظِيرَهُ"6 وَصَحَّحَهُ ابن خزيمة وابن حبان،   1 الإحسان: (2/220) . 2 تهذيب التهذيب: (10/92) . 3 سنن البيهقي: (1/136) . 4 التلخيص الحبير: (1/122) . 5 علل الترمذي: (1/156) . 6 التلخيص الحبير: (1/122) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وقد تقدم كلامهما. وصححه أبو عبد الله الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: " ... هو على شرط البخاري بكل حال"1 وقال الشيخ الألباني: "صحيح"2. فالحاصل: أن حديثَ بُسْرَة قد أُعِلَّ بعلل، منها: انقطاعه بين عروة وبسرة. ومنها: عدم سماع هشام من أبيه عروة. ومنها: الكلام في مروان بن الحكم. وقد أَشَارَ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى جواب العلة الأولى، فنقل عن الدارقطني صحة سماع عروة من بسرة، ولم يتعرض -رحمه الله- لباقي العلل، وقد ثبت صحة الحديث والحمد لله. ومن الأحاديث التي تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب: 7- (7) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُم بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ، ليس بَيْنَهُ وبينه شيءٌ، فَلْيَتَوَضَّأ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وعزاه إلى الشافعي، ثم نقل قول ابن السكن، وابن عبد البر، والحازمي في تصحيحه3. وسيأتي بيان ذلك. قلت: هذا الحديث أخرجه: الشافعي في (مسنده) 4 - ومن طريقه   1 التلخيص الحبير: (1/122) . 2 الإرواء: (1/150) ح 116. 3 تهذيب السنن: (1/134) . (ص 12-13) باب ما خرج من كتاب الوضوء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 الحازمي1 - وأحمد في (مسنده) 2، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 3، من طرق عن: يزيد بن عبد الملك4، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه به، واللفظ الذي ساقه ابن القَيِّم هو لفظ الشافعي، إلا أن فيه "ليس بينه وبينه شيء"، لكنه عند الحازمي - من طريق الشافعي - كما ساقه ابن القَيِّم. ولفظ الإمام أحمد: "من أَفْضَى بِيَدِهِ إلى ذَكَرِهِ، ليس دونه سِتْرٌ، فقد وَجَبَ عليه الوضوء". وهو عند البيهقي مختصر، ولفظه: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فعليهِ الوضوء"، لكن أخرجه من وجه آخر، ولفظه: "من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب، فقد وَجَبَ عليه وضوء الصلاة". والحديث من هذا الطريق ضعيف؛ لضعف يزيد بن عبد الملك النوفلي، لكن تابعه عليه نافع بن أبي نعيم5. فقد أخرجه ابن حبان في (صحيحه) 6، والطبراني في (الصغير)   1 الاعتبار: (ص43) . (2/333) . 3 قط: (1/147) ح6. هق: (1/130، 133) . 4 ابن المغيرة بن نوفل بن الحارث الهاشمي النوفلي، ضعيف، من السادسة /ق. (التقريب 603) . 5 نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القاريء، المدني، مولى بني ليث، وقد ينسب لجده، صدوقٌ ثَبْتٌ في القراءة، من كبار السابعة، مات سنة 169هـ/ فق. (التقريب558) . 6 الإحسان: (2/222) ح 1115. (1/42) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 من طريق: أصبغ بن الفرج، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك كليهما، عن سعيد المقبري به. وعند ابن حبان: " ... وليس بينهما سترٌ ولا حجابٌ فليتوضأ". قال أبو حاتم ابن حبان - رحمه الله - عقب إخراجه: "احتجاجنا في هذا الخبر بنافع بن أبي نعيم دون يزيد بن عبد الملك النوفلي؛ لأن يزيد بن عبد الملك تَبَرَّأْنَا من عهدته في كتاب الضعفاء"1. وصَحَّحَ رواية نافع بن أبي نعيم هذه أيضاً: ابن السكن، فقال: "هذا الحديث من أجودِ ما رُوِي في هذا الباب، لرواية ابن القاسم صاحب مالك، عن نافع بن أبي نعيم، وأما يزيد: فضعيف"2. وقال ابن عبد البر: "كان حديث أبي هريرة هذا لا يعرف إلا بيزيد بن عبد الملك النوفلي، عن سعيد، عن أبي هريرة، حتى رواه أصبغ ابن الفرج، عن ابن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك جميعاً، عن سعيد، عن أبي هريرة. فَصَحَّ الحديث بنقل العدل عن العدل على ما ذكر ابن السكن، إلا أن أحمد بن حنبل كان لا يرضى نافع بن أبي نعيم، وخالفه ابن معين فيه، فقال: هو ثقة، وقال أحمد بن حنبل: هو ضعيف، منكر الحديث"3. قلت: وهذه المقالة من الإمام أحمد لم أقف على مثلها عند غيره.   1 انظر كلامه عليه في المجروحين: (3/102) . 2 الاستذكار: (1/311) . 3 الاستذكار: (1/311-312) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 وَوَثَّقَهُ ابن معين كما تقدم، فقال: "ثقة"1. وقال ابن المديني: "كان عندنا لا بأس به"2. وقال ابن سعد: "كان ثبتاً"3. وقال الساجي: "صدوق"4. وقال أبو حاتم: "صدوق صالح الحديث"5 وقال النسائي: "ليس به بأس"6. وقال ابن عدي: " ... ولم أَرَ في حديثه شيئاً منكراً، وأرجو أنه لا بأس به"7. وذكره ابن حبان في (الثقات) 8. فأنَّى له - بعد أقوال هؤلاء الأئمة - أن يكون منكر الحديث؟! بل يحصل من مجموع كلامهم - رحمهم الله - أنه حسن الحديث على أقل أحواله، ولذلك صَحَّحَ الأئمة حديثه كما تَقَدَّمَ، وجعلوه شاهداً لحديث يزيد بن عبد الملك. وقد أخرجه الحاكم في (المستدرك) 9 من طريق نافع هذا وحده، غير مقرون بيزيد، وقال: "حديث صحيح، وشاهده الحديث المشهور عن يزيد بن عبد الملك، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة".   1 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/602) . 2 الميزان: (4/242) . 3 تهذيب التهذيب: (10/408) . 4 المصدر السابق. 5 الجرح والتعديل: (4/1/457) . 6 الميزان: (4/242) . 7 الكامل: (7/51) . (7/532) . (1/138) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وقال الحازمي: " ... وقد رُوِي عن نافع ... كما رواه يزيد بن عبد الملك، وإذا اجتمعت هذه الطرق دَلَّتْ على أن هذا الحديث له أصل من رواية أبي هريرة"1. وقال ابن حبان في كتاب (الصلاة) : "هذا حديث صحيح سنده، عدول نقلته"2. فَتَحَصَّل عندنا أن هذا الحديث وإن كان يُضَعَّف من طريق "يزيد ابن عبد الملك"، فإنه بانضمام طريق "نافع بن أبي نعيم" إليه يأخذ قوة ويصير حسناً، وقد حَكَمَ عليه الأئمة الحُفَّاظ بالصحة: ابن السكن، وابن حبان، والحاكم، وابن عبد البر، والحازمي. وقد نَقَلَ ابن القَيِّم - رحمه الله - قول ابن السكن، وابن عبد البر، والحازمي كما تَقَدَّم.   1 الاعتبار: (ص43-44) . 2 التلخيص الحبير: (1/126) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 6- باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر 8- (8) حديث طلق بن علي أنه سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يَمَسُّ ذَكَرَهُ بعد الوضوءِ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ هُوَ إلا مُضْعَةٌ مِنْكَ، أو بَضْعَةٌ مِنْكَ". تَكَلَّمَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الحديث، فَذَهَبَ إلى أنه مَرْجُوحٌ، وأن حديث بُسْرة - الماضي ذِكْره - وغيره من الأحاديث الواردة في انتقاض الوضوء بمس الذَّكَرِ راجحة على حديث طَلْقٍ هذا في عدم الانتقاض، وذكر جملةً من المرجحات1 سيأتي نقلها عنه إن شاء الله. قلت: حديث طلق هذا مداره على قيس بن طلق2، عن أبيه طلق بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً. وقد رواه عن قيس بن طلق جماعة، منهم:   1- عبد الله بن بدر3: أخرج ذلك أبو داود4، والترمذي5، 1 تهذيب السنن: (1/ 134 - 135) . 2 ابن علي الحنفي، اليَّمَامِي، صدوق، من الثالثة، وَهِمَ من عَدَّهُ من الصحابة/4. (التقريب 457) . 3 ابن عميرة الحنفي السحيمي، اليمامي، كان أحد الأشراف، ثِقةٌ، من الرابعة/ 4. (التقريب 296) . (1/127) ح 182 ك الطهارة، باب الرخصة في ذلك (يعني: مس الذكر) . (1/ 131) ح 85 ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 والنسائي1 في (سننهم) ، وابن الجارود في (المنتقى) 2 وابن حبان في (صحيحه) 3، والطبراني في (الكبير) 4، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 5 من طرق عن: مُلاَزِم بن عمرو6، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن طلق ابن علي قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل كأنه بَدَوِيٌّ فقال: يا نَبِيَّ الله، ما ترى في مَسَّ الرجل ذكره بعدما يتوضأ؟ فقال: "هل هو إلا مُضْغَةٌ7 منه. أو قال: بَضْعَةٌ8 منه". هذا لفظ أبي داود، والباقون نحوه، إلا أن عند النسائي، وابن الجارود، والدارقطني قول الرجل: " ... ما ترى في رجل مَسَّ ذكره في الصلاة؟ ". وعند ابن حبان: "أَحَدُنَا يكون في الصلاة، فيحتك، فتصيب يَدُهُ ذَكَرَه؟ ". وهو عند الترمذي مختصر، ليس فيه إلا ذكر اللفظ المرفوع، دون ذكر كلام طلق، ولا سؤال الرجل. وهذا إسناد لا ينزلُ عن درجة الحسن، وَكَأَنَّ البيهقي - رحمه الله - أراد أن يغمز هذا الإسناد، فنقل عقب روايته عن أحمد بن إسحاق   (1/ 101) ك الطهارة، باب ترك الوضوء من ذلك. (ح رقم 21) . 3 الإحسان: (2/ 223) ح 1116، 1117. (8/ 398) ح 8243. 5 قط: (1/ 149) ح 17. هق: (1/ 134) . 6 ابن عبد الله بن بدر، أبو عمرو اليَّمامي، صدوق، من الثامنة / 4. (التقريب 555) . 7 الْمُضْغَةُ: القطعة من اللحم، قدر ما يمضغ، وجمعها: مُضَغٌ. (النهاية 4 / 339) . 8 البَضْعَةُ: القطعة من اللحم، وقد تكسر. (النهاية 1/133) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الضبعي قوله: "ملازم فيه نَظَرٌ"! قلت: قد وَثَّقَهُ الإمام أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني1. وقولهم - لا شكَّ - مُقَدَّمٌ على قول الضبعي؛ فهم أئمة هذا الشأن وفرسانه، كيف وقد انفرد الضبعي بهذه المقالة؟! ولذلك فقد صَحَّحَ الترمذي حديث ملازم هذا، وَقَدَّمَهُ على غيره من طرق حديث طلق، فقال: "وقد روى هذا الحديث أيوب بن عتبة، ومحمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه ... وحديث ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر أصحُّ وأحسن"2. فَسَقَطَ بذلك الطعن في ملازم، وتبين أنه لا مجال لغمزه. 2- محمد بن جابر3: أخرجه أبو داود وابن ماجه في (سننيهما) 4، وأحمد في (مسنده) 5، وابن الجارود في (المنتقى) 6،   1 انظر أقوالهم على الترتيب في: بحر الدم: (رقم 1052) ، والتاريخ برواية الدوري (2/ 585 رقم 3249) ، والجرح والتعديل: (8/ 436) ، وتهذيب التهذيب: (10/384 - 385) . 2 جامع الترمذي: (1/ 132) . 3 ابن سَيَّار بن طارق الحنفي، اليمامي، أبو عبد الله، صدوقٌ، ذَهَبَتْ كُتبه فساء حفظه وَخَلَّطَ كثيراً، وعَمِيَ فصار يُلَقَّن، ورجحه أبو حاتم على ابن لهيعة، من السابعة، مات بعد السبعين/د ق. (التقريب 471) . 4 د: (1/128) ح 183. جه: (1/163) ح 483. (4/23) . (ح رقم 20) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وعبد الرزاق في (المصنف) 1، والطبراني في (الكبير) 2، والدارقطني في (سننه) 3، والحازمي في (الاعتبار) 4، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 5، من طرق، عن: محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم به. وعندهم أن السائل هو طلق بن علي، إلا في رواية الإمام أحمد والدارقطني فعندهما: أن رجلاً سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم. ومحمد بن جابر ضعيف، ضعفه غير واحد من أئمة الشأن، فقال ابن معين: "ليس بشيء"6. وقال عمرو بن علي: " ... كثيرٌ الوهم، متروكُ الحديثِ"7. وقال أبو زرعة: "ساقط الحديث"8. وقال البخاري: "ليس بالقوي عندهم"9. وقال النسائي: "ضعيف"10. ولذلك فقد ضَعَّفَ هذا الحديث جماعة من العلماء بمحمد بن جابر   (1/117) ح 426. (8/396) ح 8233، 8234. (1/149) ح 15. (ص42) باب ما جاء في مس الذكر. (1/362) ح 597، 599. 6 تاريخ الدوري عن ابن معين: (2/507) . 7 تهذيب التهذيب: (9/89) . 8 الجرح والتعديل: (3/2/220) . 9 الضعفاء الصغير: (ص 204) . 10 الضعفاء والمتروكين: (ص93) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 هذا، فسأل ابنُ أبي حاتم أَبَاه وأبا زرعة عنه "فلم يثبتاه"1. وقال الترمذي: "وقد تَكَلَّمَ بعض أهل العلم في محمد بن جابر ... وحديث ملازم - يعني الطريق السابق - أصحُّ وأحسن". وضعفه به: ابن الجوزي2، والبيهقي3، والزيلعي4. 3- أيوب بن عتبة5: أخرجه أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 6، والحازمي في (الاعتبار) 7، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 8. وهذا أَعَلَّهُ: الترمذيُّ، والبيهقيُّ، وابن الجوزي، والزيلعي، بأيوب بن عتبة9، فقد ضَعَّفَهُ غير واحدٍ من العلماء10. 4- أيوب بن محمد العِجْلي: أخرجه الدارقطني في (سننه) 11، وابن   1 علل ابن أبي حاتم: (1/48) ح 111. 2 العلل المتناهية: (1/363) . 3 السنن: (1/134-135) . 4 نصب الراية: (1/61) . 5 اليمامي، أبو يحيى القاضي، ضعيف، من السادسة، مات سنة160هـ/ق. (التقريب118) . 6 حم: (4/22) . طس (ح1096) . (ص42-43) . (1/362) ح 596. 9 انظر كلامهم على الطريق الذي قبله. 10 انظر أقوال الأئمة في أيوب هذا في (تهذيب التهذيب) : (1/408-409) . 11 (1/149) ح18. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 الجوزي في (علله) 1 من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن أيوب بن محمد، عن قيس بن طلق، عن أبيه به. قال الدارقطني عقب إخراجه: "أيوب مجهول". قلت: هو أيوب بن محمد، أبو سهل العجلي، اليمامي. ضَعَّفَهُ ابن معين2. وقال أبو زرعة: "منكر الحديث"3. وعبد الحميد بن جعفر - الراوي عنه - كان سفيان الثوري يُضَعِّفُه، وَوَثَّقَه غيره4. وقد أشار ابن الجوزي5، والزيلعي6 إلى ضعف هذا الإسناد بهذين الرجلين. 5- عكرمة بن عمار7: أخرجه من طريقه ابن حبان في (صحيحه) 8 فقال: "ذكر الخبر الْمُدْحِض قول من زعم أن هذا ما رواه ثقة عن قيس بن طلق خلا ملازم بن عمرو". ثم ساقه بإسناده إلى عكرمة،   (1/362) ح598. 2 تاريخ الدارمي عن ابن معين: (ص179) رقم 645. 3 الجرح والتعديل: (1/1/257) . 4 الجرح والتعديل: (3/1/10) ، والميزان: (2/539) . 5 العلل المتناهية: (1/363) . 6 نصب الراية: (1/61) . 7 العِجْلي، أبو عمار اليمامي، صدوقٌ يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب، من الخامسة، مات قبيل الستين / خت م 4. (التقريب 396) . 8 الإحسان: (2/223) ح1118. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعاً. وأشار البيهقي - رحمه الله - إلى رواية عكرمة هذه، ثم قال: "وعكرمة بن عمار أمثلُ مَنْ رواه عن قيس، وعكرمة بن عمار قد اختلفوا في تعديله: غمزه يحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، وضعفه البخاري جداً"1. قلت: لكن وَثَّقَهُ ابن معين، وابن المديني، والعجلي، وأبو داود، والدارقطني، ويعقوب بن شيبة، وابن شاهين، وابن حبان وغيرهم2. وإنما ضعفوه في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فإن فيها اضطراباً. قال ابن التركماني في (الجوهر النقي) 3 - متعقباً البيهقي -: "احتجَّ به مسلم، واستشهد به البخاري، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في المستدرك ... ". فالرجل بهذه المثابة حسن الحديث إن شاء الله. وبعد، فهذه هي طرق هذا الحديث، وهؤلاء هم رواته عن قيس بن طلق، وأمثلُ هذه الطرق: هو طريق "ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر" كما تقدم، وكذا طريق عكرمة بن عمار عن قيس، فإنه لا غبار عليه،   1 سنن البيهقي: (1/135) . 2 انظر أقوالهم على الترتيب في: تاريخ الدوري عن ابن معين (2/414) ، وسؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني: (رقم 169) ، وثقات العجلي: (ص339 رقم 1159) ، وسؤالات الآجري لأبي داود: (رقم 707) ، وسؤالات البرقاني للدارقطني (رقم 403) ، وثقات ابن شاهين: (رقم 1074) ، وثقات ابن حبان: (5/233) ، وتهذيب التهذيب: (7/262) . (1/134) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 فهو يلي طريق عبد الله بن بدر في الرتبة، وتكون الطرق الثلاثة الأخرى متابعات لهذين الطريقين ومؤيدة لهما، ومجموع هذه الطرق يجعل هذا الحديث يصل إلى درجة الصحيح لغيره، أو يكون حسناً على أقل تقدير. وقد صَحَّحَهُ جمع من الأئمة، منهم: الترمذي، فقال: "هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب"، وذهب - رحمه الله - إلى أن طريق ملازم بن عمرو هو أصح طرق هذا الحديث وأحسنها. وصححه كذلك الطحاوي، فقال: "هذا حديث مستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده ولا متنه"1. ثم ذكر بسنده إلى عليِّ بن المديني أنه قَدَّمَهُ على حديث بسرة من طريق ملازم بن عمرو. وَصَحَّحَه كذلك الطبراني2، وعبد الحق في (أحكامه) ، قال الزيلعي: "وذكر عبد الحق في أحكامه حديث طلق هذا، وسكت عنه، فهو صحيح عنده على عادته في مثل ذلك"3. وصححه كذلك: عمرو بن علي الفلاس، وقال: "هو عندنا أثبت من حديث بسرة"4. وقال ابن حزم: "هذا خبر صحيح"5. وظاهرُ صنيع ابن حبان تصحيحه إياه، حيث أخرجه في (صحيحه) وذكر له متابعة ما رأيت أحداً أخرجها سواه، تلك التي من طريق: عكرمة بن عمار، عن قيس بن طلق به، وتَقَدَّمَ كلامه في ذلك. وقال الزيلعي - عند كلامه على   1 شرح معاني الآثار: (1/ 76) . 2 المعجم الكبير: (8/ 402) . 3 نصب الراية: (1/ 62) . 4 التلخيص الحبير: (1/ 125) . 5 المحلى: (1/ 123) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 أحاديث عدم النقض -: " ... حديث طلق بن علي، وهو أمثلها"1. وذهب ابن القطان إلى حُسْنِهِ، مُتَعَقِّبَاً بذلك عبد الحق في سكوته عليه، فقال: "والحديث مختلف فيه، فينبغي أن يقال فيه: حسن، ولا يحكم بصحته"2. وصححه - أيضاً - الشيخ أحمد شاكر3 رحمه الله. فهذه أقوال المصححين لهذا الحديث، وقد ذهبت طائفة أخرى إلى القول بضعفه، وتنحصر العلل التي أعلوا بها هذا الحديث فيما يلي: أولاً: ضعفُ قيس بن طلق، فقد قال الشافعي - فيما روى عنه الزعفراني -: "سألنا عن قيس، فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا4 قبول خبره"5. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: "قيس بن طلق ليس ممن تقوم به الحجة"6 وَوَهَّمَاه. وروى البيهقي بسنده إلى ابن معين أنه قال: "قد أكثر الناس في قيس بن طلق، ولا يحتج بحديثه"7. ثانياً: ضعف محمد بن جابر، وأيوب بن عتبة وغيرهما من الذين رووه عن قيس بن طلق. والجواب عن ذلك:   1 نصب الراية: (1/ 60) . 2 نصب الراية: (1/ 62) . 3 التعليق على جامع الترمذي: (1/ 132) . 4 يعني: بما يُسَوِّغ لنا. 5 سنن البيهقي: (1/ 135) . 6 علل ابن أبي حاتم: (1/ 48) ح 111. 7 سنن البيهقي: (1/ 135) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 أولاً: أما قيس بن طلق، فإنه وإن لم يعرفه الشافعيُّ فقد عرفه غيره، وَوَثَّقَهُ جماعة من أهل الشأن: ابن معين1، والعِجلي2، وذكره ابن حبان في (الثقات) 3، هذا مع رواية جماعة كثيرين عنه4، ومثله لا يكون مجهولاً، فعدم معرفة الشافعي به لا يوجب تركه ما دام غيره قد عرفه ووثقه. وأما ما رواه البيهقي عن ابن معين من عدم الاحتجاج به، فقد رَدَّهُ ابن التركماني، فقال: "ذكر البيهقي ذلك بسند فيه محمد بن الحسن النَّقَّاشِ المفسر، وهو من المتهمين بالكذب، وقال البرقاني: كل حديثه مناكير ... "5. وقد تَقَدَّمَ من رواية الدارمي عن يحيى أنه وَثَّقَهُ، ولا شكَّ أن ذلك مُقَدَّم. ثانياً: وأما ضعف محمد بن جابر، وأيوب بن عتبة: فقد قَدَّمْنَا أن الاعتماد في ذلك على رواية عبد الله بن بدر عن قيس، فإنها أصحُّ هذه الطرق وأحسنها كما قال غير واحد. ثم إن رواية "عكرمة بن عمار" عن قيس متابعة قوية أيضاً، فعكرمة أمثل من رواه عن قيس كما قال غير واحد، وإذا كان الأمر كذلك، فإن روايتي محمد بن جابر وأيوب بن عتبة تكون كالمتابعات لرواية عبد الله بن بدر دون اعتماد عليهما. فإذا ثَبَتَ لدينا أن حديثَ طلق هذا ليس بضعيف، وأنه بمجموع   1 تاريخ الدارمي عن ابن معين: (ص 144) رقم 486. (الثقات) بترتيب الهيثمي: (ص 393) . (5/ 313) . 4 انظر: تهذيب التهذيب: (8/ 398) . 5 الجوهر النقي: (1/134-135) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 طرقه حسن على أقل أحواله - مع تصحيح جماعة له - وأن ما أُعِلَّ به لا يرد عليه، إذا تَقَرَّرَ ذلك: فإن حديث طلق هذا في عدم الانتقاض بالمسِّ يكون مخالفاً في ظاهره لحديث بُسرة وغيرها من الصحابة الذين رووا الانتقاض، ولقد سلك العلماء إزاء هذا التعارض1 مسالك، أبرزها: أولاً: الجمع بين الحديثين، وذلك من وجوه: 1- أنَّ خبر طلق يُحْمَلُ على الْمَسِّ بحائل، واستدلوا ببعض ألفاظه التي جاء فيها أنه سُئِلَ عن مَسِّهِ في الصلاة، قالوا: فالْمُصَلي لا يمسُّ فرجه من غير حائل في الصلاة. حكاه الخطابي2. وقَرَّرَ ابن حبان -رحمه الله- ذلك، فقال في (صحيحه) 3: "ذكر البيان بأن الأخبار التي ذكرناها مجملة بأن الوضوء إنما يجب من مَسِّ الذكر إذا كان ذلك بالإفضاء دون سائر المسِّ، أو كان بينهما حائل". ثم ساق حديث المقبري عن أبي هريرة، ولفظه: "إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُم بيده إلى فرجه، وليس بينهما سِتر ولا حجاب فليتوضأ". 2- أن المسَّ الذي لا ينقضُ هو ما لم يكن مُتَعَمَّدَاً، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال - وقد سئل عن ذلك -: "إن لم يتعمد ذلك لم ينتقض وضوءه"4. وقيل بغير ذلك من وجوه الجمع.   1 وقد قَرَّرَ شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة هذا التعارض، انظر: القواعد النورانية: (ص 33) . 2 معالم السنن: (1/ 133) . 3 الإحسان: (2/ 222) ح 1115. 4 مجموع الفتاوى: (21/ 231) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 ثانياً: النسخ. فقد ذهب جماعة إلى أن حديثَ طلق منسوخ، منهم: ابن حبان، والطبراني، والحازمي، وغيرهم. وأوضحَ ابن حبان ذلك، فَرَوى بإسناده إلى قيس بن طلق، عن أبيه في قصة بنائه مسجد المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "خبر طلق بن علي الذي ذكرناه خبر منسوخ؛ لأن طلقَ ابن علي كان قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم أول سنةٍ من سِنيِّ الهجرة، حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وقد روى أبو هريرة إيجاب الوضوء من مَسِّ الذكر على حسب ما ذكرناه قبل، وأبو هريرة أسلمَ سنة سبع من الهجرة، فدلَّ ذلك على أن خبر أبي هريرة كان بعد خبر طلق بن علي بسبع سنين"1. ثم روى ابن حبان بإسناده - أيضاً - إلى طلق حديث قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم ومبايعته إياه، ثم رجوعه إلى بلده، ثم قال: "في هذا الخبر بيانٌ واضحٌ أنَّ طلقَ بن عليٍّ رجع إلى بلده بعد القَدْمَةِ التي ذكرنا وقتها، ثم لا يُعْلَمُ له رجوعٌ إلى المدينة بعد ذلك. فمن ادَّعَى رجوعه بعد ذلك، فعليه أن يأتي بِسُنَّةٍ مُصَرِّحَةٍ، ولا سبيل له إلى ذلك"2. وقد ذكر الحازمي مثل ذلك، ثم قال: "ثم نظرنا: هل نجد أمراً يؤكد ما صرنا إليه، فوجدنا طلقاً روى حديثاً في المنع، فَدَلَّنَا ذلك على صِحَّةِ النقل في إثبات النسخ، وأن طلقاً قد شاهد الحالتين، وروى الناسخ والمنسوخ"3.   1 الإحسان: (2/ 224) . 2 الإحسان: (2/ 224 - 225) . 3 الاعتبار: (ص47) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 قلت: وحديث طلق في المنع هو الذي أخرجه الطبراني في (الكبير) 1 من طريق: حماد بن محمد، ثنا أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ". ثم قال الطبراني - عنه وعن حديث عدم النقض -: "وهما عندي صحيحان، ويشبه أن يكون سمع الحديث الأول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا، ثم سمع هذا فوافق حديث بسرة، وأم حبيبة، وأبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني وغيرهم ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من مس الذكر، فسمع المنسوخ والناسخ". ولكن "أيوب بن عتبة" ضعيف كما تقدم. وذهب ابن حزم - أيضاً - إلى نسخه مستدلاً على ذلك بأمور: أولها: أن خبر طلق موافق لما كان عليه الناس قبل ورود الأمر بخلافه، وإذا كان كذلك فإنه منسوخ يقيناً بورود الأمر بالوضوء من مس الذكر. الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "هل هو إلا بَضْعَةٌ منك" دليل بَيِّنٌ على أنه كان قبل الأمر بالوضوء منه، لأنه لو كان بعده لم يَقُلْ صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ، فقوله هذا يدل على أنه لم يكن سَلَفَ فيه حكم أصلاً، وأنه كسائر الأعضاء2. ثالثاً: الترجيح. وهذا هو المسلك الذي سَلَكَهُ ابن القَيِّم رحمه الله، وذكر في ذلك عدة مُرَجِّحَات:   (8/401) ح 2852. 2 انظر: المْحُلَّى: (1/323) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 - منها: قوله بضعف حديث طلق، وقد بَيَّنَّا أن الأمر على خلاف ذلك، وأنه حسن بمجموع طرقه، لكن الذي لا شك فيه أن حديث بسرة أقوى، وبخاصة إذا راعينا مشاركة جملة من الصحابة لها في رواية النقض. - ومنها: الاختلاف على طلق، فقد روى عنه النقض أيضاً، كما سبق بيان ذلك. - ومنها: أن حديث طلق مُبْقٍ على الأصل - وهو عدم النقض - وحديث بُسرة ناقل عن الأصل، والناقل مقدم؛ لأن أحكام الشارع ناقلة عما كانوا عليه. وهذا من أدلة النسخ كما تَقَدَّمَ في كلام ابن حزم، لكن جعله ابن القَيِّم من جملة المرجحات لحديث بسرة. - ومنها: أنه قد روى النقض: بسرة، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وأم حبيبة، وأبو أيوب، وزيد بن خالد، ولا شكَّ أن العدد الكثير من الصحابة مقدم على رواية الواحد. - ومنها: قولُ أكثر الصحابة بالنقض، منهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله ابنه، وأبو أيوب، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة، وعن كلٍّ من سعد بن أبي وقاص وابن عباس روايتان1. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث طلق في عدم نقض الوضوء بمس الذكر   1 انظر: تهذيب السنن: (1/134-135) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ما بين: مُؤَوَّل، ومرجوح، ومنسوخ، ولقد ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ضعف حديث طلق - على ما في ذلك من نظر - وأنه مرجوح بمرجحات أخرى غير ضعفه، وقال بأنه على تقدير صحته منسوخ. ولعلَّ القول بالجمع بين الخبرين - إعمالاً لجميع الأدلة - أولى، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 7 ـ باب الوضوء من لحم الإبل ... 7- باب الوضوء من لحوم الإبل 9- (9) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغَنَم؟ قال: "إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلا تَتَوَضَّأْ" قَالَ: أَتَوَضَّأُ من لحومِ الإبِلِ؟ قال: "نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِن لُحُومِ الإبِلِ". قال أُصَلِّي في مَرَابِضَ الغَنَمِ؟ قال: "نعم". قِال أُصَلِّي في مباركِ الإبل؟ قال: "لا". ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (تهذيب السنن) 1، وذكر أن عليَّ ابن المديني أعله بجهالة "جعفر بن أبي ثور" راويه عن جابر، ثم قال: "وهذا تعليل ضعيف". ثم نقل أقوال العلماء في جعفر. قلت: هذا الحديث يرويه عن جابر بن سمرة: جعفر بن أبي ثور2. ورواه عن جعفر ثلاثةُ نَفَرٍ: أولهم: عثمان بن عبد الله بن موهب. أخرجه مسلم في (صحيحه) 3، وأحمد في (مسنده) 4، وابن خزيمة وابن حبان في   (1/ 136 - 137) . 2 واسم أبيه: عكرمة، وقيل غير ذلك، يكنى: أبا ثور، مقبولٌ، من الثالثة / م ق. (التقريب 140) . (1/ 275) ح 97 (360) ك الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل. (5/ 98، 106) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 (صحيحيهما) 1، والبيهقي في (سننه) 2 كلهم من طريق: أبي عوانة، عن عثمان بن عبد الله3، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة به. واللفظ المسوق أول الباب لفظ مسلم، ولفظ الباقين بنحوه. ثانيهم: سِمَاك بن حرب4. أخرجه أحمد في (مسنده) 5 من طريق زائدة. وابن الجارود في (المنتقى) 6 من طريق سفيان الثوري، كلاهما عن: سِماك، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بنحو لفظ مسلم المتقدم. وأخرجه أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 7، وابن حبان في (صحيحه) 8، والخطيب في (موضح أوهام الجمع والتفريق) 9 من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، عن أبي ثور بن عكرمة، عن جابر به. كذا   1 خز: (1/ 21) ح 31. حب: الإحسان: (2/ 225) ح 1121. (1/ 158) . 3 ابن موهب التيمي مولاهم، المدني، الأعرج، وقد ينسب إلى جده، ثقة، من الرابعة، مات سنة 160 هـ/ خ م ت س ق. (التقريب 385) . 4 الكوفي، أبو المغيرة، صدوقٌ وروايته عن عِكْرِمة خاصة مضطربةٌ، وقد تَغَيَّرَ بِأخرة فكان رُبَّمَا تَلَقَّنَ، من الرابعة، مات سنة 123 هـ/ خت م 4. (التقريب 255) . (5/ 108) . (ح 25) . 7 حم: (5/ 93، 100) . طس: (ح 766) . 8 الإحسان: (2/ 225) ح 1123. (2/ 16) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 عند أحمد وابن حبان، وعند الطيالسي: سمعت أبا ثور يُحَدِّثُ عن جابر ابن سمرة، ومن طريق أبي داود ساقه الخطيب. وقد خَطَّأوا شُعبة في روايته تلك، فقال الترمذي في (علله) 1: "أخطأ شعبة في حديث سماك، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة ... فقال: عن سماك، عن أبي ثور". وقال الحاكم أبو أحمد: " ... وليس ذكر عكرمة في نسبه بمحفوظ"2. ونقل ابن القَيِّم إعلال الترمذي لهذه الرواية، وأنه قال: "حديث سفيان أصح من حديث شعبة، وشعبة أخطأ ... "3. ونسب ذلك إلى (العلل) ، والذي فيه ما نقلته بدون تقديم حديث سفيان. قلت: ولا أدري ما وجه تخطئة الترمذي شعبة في هذا الحديث، فإنه قد ذكره بكنيته، وقد نَصَّ على كنيته غير واحد، منهم ابن حبان، فقال: "فجعفر بن أبي ثور هو أبو ثور بن عكرمة"4. ونص على ذلك الخطيب5 أيضاً، فالرجل كنيته توافق كنية أبيه، فما أخطأ من ذكره بكنيته. وثالث الرواة له عن جعفر بن أبي ثور: أشعث بن أبي الشعثاء6.   (1/ 154) . 2 تهذيب التهذيب: (2/ 87) . 3 تهذيب السنن: (1/ 136 - 137) . 4 الإحسان: (2/ 226) . 5 موضح أوهام الجمع والتفريق: (2/ 16) . 6 المحاربي، الكوفي، ثقة، من السادسة، مات سنة 125 هـ / ع. (التقريب 113) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 أخرجه ابن ماجه في (سننه) 1، وابن حبان في (صحيحه) 2 عن أشعث، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَتَوَضَّأَ من لحومِ الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم". فهؤلاء هم رواة هذا الحديث عن جعفر بن أبي ثور، قال ابن خزيمة عقب إخراجه هذا الحديث: "فهؤلاء ثلاثة من أَجِلَّةِ رواة الحديث، قد رووا عن جعفر ابن أبي ثور هذا الخبر". وأما حكمُ عليِّ بن المديني عليه بالجهالة: فقد روى ذلك البيهقي في (سننه) 3 بسنده إلى محمد بن أحمد بن البراء عن علي. ولكن هذا غير مقبول منه رحمه الله؛ فإن جعفراً هذا وإن لم يوثقه غير ابن حبان، فإنه مشهورٌ شهرةً تغني عن البحث عن حاله، مع رواية هؤلاء الأجلة - المتقدم ذكرهم - عنه، قال الإمام الترمذي: "جعفر بن أبي ثور رجل مشهور"4. وقال أبو أحمد الحاكم: "هو من مشايخ الكوفيين الذين اشتهرت روايتهم عن جابر ... "5. وقال ابن حبان: "أبو ثور بن عكرمة ابن جابر بن سمرة اسمه: جعفر، وكنية أبيه: أبو ثور ... فمن لم يُحْكِمْ صناعة الحديث تَوَهَّمَ أنهما رجلان مجهولان، فتفهموا رحمكم الله كيلا تغلطوا فيه"6. وقال البيهقي: "وجعفر بن أبي ثور هو رجل مشهور،   (1/ 166) ح 495 ك الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل. 2 الإحسان: (2/ 225) ح 1122، و (2/ 226) ح 1124. (1/ 158) . 4 العلل: (1/ 154) . 5 تهذيب التهذيب: (2/ 87) . 6 الإحسان: (2/ 226) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 من ولد جابر بن سمرة" ثم ذكر الرواة عنه وقال: "ومن روى عنه مثل هؤلاء خَرَجَ من أن يكون مجهولاً، ولهذا أَوْدَعَهُ مسلم بن الحجاج في كتابه الصحيح"1. وهذا الحديث صَحَّحَهُ: أحمد بن حنبل2، وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: "صَحَّ في هذا الباب حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة"3. وقال ابن خزيمة: "لَمْ نر خِلافاً بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيحٌ من جهة النقل". وصححه ابن حبان بإخراجه في (صحيحه) ، وَمَالَ البيهقيُّ إلى تصحيحه، وقد مضى كلامه. وكفى بإخراج مسلم له في (صحيحه) . فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن ما أَعَلَّهُ به ابن المديني من تجهيل راويه لم يتحقق التعليل به، وقد رَدَّ ذلك ابن القَيِّم رحمه الله، واستشهد على صحة الحديث بكلام الأئمة الأعلام، فأصاب رحمه الله. وقد أَكَّدَ ابن القَيِّم - رحمه الله - صِحَّة هذا الخبر، فقال: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من أَكْلِهِ في حديثين صحيحين، لا معارضَ لهما، ولا يَصُحُّ تأويلهما بغسل اليد؛ لأنه خلافُ المعهودِ من الوضوءِ في كلامه صلى الله عليه وسلم"4.   1 سنن البيهقي: (1/ 159) . 2 مختصر سنن أبي داود للمنذري: (1/ 137) . 3 علل الترمذي: (1/ 153 - 154) . 4 زاد المعاد: (4/ 376) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 8 - باب التوقيت في المسح على الخفين 10- (10) عَنْ خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمَسْحُ على الخُفَّيْنِ: لِلمسافرِ ثَلاثةُ أَيَّامٍ، وللمقيم يومٌ وليلةٌ". وفي لفظ لأبي داود: "ولو استزدناه لزادنا". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد أَعَلَّ أبو محمد بن حزم حديث خزيمة هذا، بأن قال: رواه عنه أبو عبد الله الجَدَلِي صاحبُ رايةِ الكافر المختار، لا يُعْتَمَدُ على روايته1. وهذا تعليلٌ في غاية الفَسَادِ؛ فإن أبا عبد الله الجَدَلِي قد وَثَّقَهُ الأئمة: أحمد، ويحيى، وَصَحَّحَ الترمذي حديثه، ولا يُعلم أحدٌ من أئمةِ الحديث طَعَنَ فيه. وأما كونه صاحب راية المختار: فإنَّ المختار بن أبي عبيد الثَّقَفي إِنَّمَا أَظْهَرَ الخروج لأخذِهِ بثأر الحسين بن عليٍّ رضي الله عنهما، والانتصار له من قَتَلَتِهِ، وقد طَعَنَ أبو محمد بن حزم في أبي الطفيل، وَرَدَّ روايته بكونه كان صاحبَ راية المختار أيضاً، مع أن أبا الطفيل كان من الصحابة، ولكن لم يكونوا يعلمون ما في نفس المختار وما يسره، فَرَدُّ روايةِ الصاحب والتابع الثقة بهذا باطل"2. قلت: هذا ما ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - مما أُعِلَّ به هذا   1 انظر كلام ابن حزم في المحلى: (2/122) . 2 تهذيب السنن: (1/117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 الحديث، وله علتان غير ما ذكر، وهما: انقطاعه، والاختلاف في إسناده، فيكون مجموع ما أُعِلَّ به: ثلاث علل، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل. أما الاختلاف في إسناده: فإن هذا الحديث مداره على ثلاثة: إبراهيم بن يزيد1 التيمي، وإبراهيم بن يزيد2 النخعي، والشعبي. أما رواية إبراهيم التيمي: فإنه يُروى عنه، عن عمرو بن ميمون الأَوْدِي، عن أبي عبد الله الجدلي3، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً. ويرويه عن التيمي جماعة، أشهرهم: سعيد بن مسروق4، ومنصور ابن المعتمر، والحسن بن عبيد الله5. أما رواية سعيد بن مسروق، فقد أخرجها: الترمذي في (جامعه) 6، والطبراني في (الكبير) 7، وابن حبان في (صحيحه) 8، والبيهقي في   1 ابن شريك، يكنى أبا أسماء، الكوفي، العابد، ثِقَةٌ إلا أنه يُرْسل ويُدَلِّس، من الخامسة مات سنة 92هـ /ع. (التقريب 95) . 2 ابن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي، الفقيه، ثِقَةٌ إلا أَنَّه يُرْسِلُ كثيراً، من الخامسة، مات سنة 96 هـ /ع. (التقريب 95) . 3 اسمه عبد، أو عبد الرحمن بن عبد، ثِقَةٌ رُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ، من كبار الثالثة /د ت س. (التقريب 654) . 4 والد سفيان الثوري. 5 النخعي، أبو عروة الكوفي. (1/158) ح 95 ك الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم. (4/108) ح 3752. 8 الإحسان: (2/312) ح 1330. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 (سننه) 1، من طرق عن: أبي عوانة وَضَّاح اليَشْكُريّ، عن سعيد بن مسروق، عن إبراهيم التيمي، بالإسناد المذكور إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الْمَسْحُ على الْخُفَّين للمقيم ... " الحديث. هذا لفظ الطبراني، والبيهقي. وعند الترمذي: "أنه سُئِلَ عن المسح على الخفين، فقال: ... " وعند ابن حبان: "أن أعرابياً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن المسح ... ". قال أبو عيسى الترمذي: "حديث حسن صحيح". وأخرجه الطبراني في (المعجم الكبير) 2 من طريق زائدة بن قدامة، عن سعيد بن مسروق، بالإسناد الماضي إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه شريك، وسفيان الثوري، كلاهما: عن سعيد بن مسروق، وزادوا في آخره: "وَأَيْمُ الله لو مضى السَّائل في مسألته لجعلها خمساً" لفظ الثوري، ولفظ شريك: "ولو استزدناه لجعلها خمساً"، أخرج رواية شريك: الطبراني في (معجمه الكبير) 3. وأخرج رواية الثوري: ابن ماجه في (سننه) 4، وعبد الرزاق في (مصنفه) 5 - ومن طريقه البيهقي في (سننه) 6 -، والطبراني في (معجمه الكبير) 7. هذا ما يتعلق برواية سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي.   (1/276) . (4/108) ح 3753. (4/107) ح 3751. (1/184) ح553 ك الطهارة، باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر. (1/203) ح 790. (1/277) . (4/107) ح 3749. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وأما رواية منصور بن المعتمر عن إبراهيم التيمي به، فأخرجها: أحمد في (مسنده) 1، والطبراني في (معجمه) 2، من طريق سفيان الثوري، عن منصور به. قال عبد الله بن الإمام أحمد: "قال أبي: سمعته من سفيان مرتين يذكر للمقيم، ولو أطنب السائل في مسألته لزادهم". وعند الطبراني: "ولو استزدناه لزادنا". وأخرجه الطبراني أيضاً في (معجمه) 3 من طريق: عبد العزيز بن عبد الصمد العَمِّي، ثم من طريق: جرير، كلاهما عن منصور بن المعتمر به، وفيهما الزيادة المذكورة. وخالف أبو الأحوص سائرَ الرواة عن منصور، فرواه عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم التيمي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة به مرفوعاً، أخرجه الطبراني في (معجمه) 4 وفيه الزيادة المذكورة. قال أبو القاسم الطبراني: "أسقط أبو الأحوص من الإسناد عمرو بن ميمون". وأما رواية الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون به: فقد أخرجها الطبراني في (معجمه) 5، والبيهقي في (سننه) 6، وعند الطبراني: أن أعرابياً سأله ... فقال: "ثلاثٌ للمسافر ويوم   (5/213) . (4/108) ح 3754. (4/109) ح3755، 3757. (4/109) ح 3756. (4/109) ح 3758. (1/277) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 للحاضر"، وليس عند البيهقي ذكر المقيم، بل قال لما سأله الأعرابيُّ: "ثلاثَةُ أيامٍ ولياليهن"، وعندهما ذكر الزيادة وهي قوله: "ولو استزاده الأعرابي لزاده". ورواه سلمة بن كهيل، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، أخرجه ابن ماجه في (سننه) 1، والطبراني في (معجمه) 2 والبيهقي في (سننه) 3، وليس فيه حكم المقيم، بل قال: "يمسحُ المسافرُ ثلاثة أيامٍ". قال شعبة - راويه عن سلمة بن كهيل -: "أحسبه قال: ولياليهن". ففي هذه الرواية مخالفات: أولها: أنه أسقطَ من الإسناد "أبا عبد الله الجدلي" بين عمرو بن ميمون وخزيمة. ثانيها: أنه زاد في الإسناد "الحارث بن سويد" بين إبراهيم التيمي وعمرو بن ميمون. هذا ما يَتَعَلَّقُ برواية إبراهيم التيمي بطرقها، وقد وقع اختلاف في إسنادها وفي متنها، كما يَتَّضحُ ذلك من العرض السابق. وقد رَجَّحَ الأئمة رواية الأكثرين له: عن إبراهيم، عن عمرو بن   (1/184) ح554. 2 الكبير: (4/110) ح 3759، 3760. (1/278) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 ميمون، عن الجَدَلِي، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بالزيادة المذكورة، فقال أبو زرعة: "الصحيح من حديث إبراهيم التيمي: عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم"1. وقال ابن دقيق العيد: "فالروايات متضافرةٌ برواية التيمي له عن عمرو بن ميمون، عن الجدلي، عن خزيمة، وأما إسقاط أبي الأحوص لعمرو بن ميمون من الإسناد، فالحكمُ لمن زاد؛ فإنه زيادة عدل، لاسيما وقد انضم إليه الكثرة من الرواة، واتفاقهم على هذا دون أبي الأحوص"2. فَظَهَرَ بذلك رجحان رواية الأكثرين بذكر "عمرو بن ميمون" وعدم إسقاطه. وأما رواية إبراهيم النخعي: فقد رويت عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت مرفوعاً، وليس فيها ذكر الزيادة التي جاءت في رواية التيمي. وقد رواها عن إبراهيم جماعة: فأخرجها الإمام أحمد في (مسنده) 3، والطبراني في (معجمه) 4من طريق: هشام الدستوائي. والطبراني - أيضاً - من طريق: الثوري5، ثم من طريق: حماد بن سلمة6، ثم من طريق: أبي حنيفة7، جميعهم عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي به.   1 علل ابن أبي حاتم: (1/22) ح 31. 2 نصب الراية: (1/176) . (5/213) . (4/111) ح 3764. 5 ح رقم 3762. 6 ح رقم 3765. 7 ح رقم 3767، 3768. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 وأخرجه الطبراني1 من طريق الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم به. وأخرجه أبو داود في (سننه) 2، والطيالسي في (مسنده) 3، وأحمد - كذلك - في (مسنده) 4، والطبراني في (الكبير) 5، عن: الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان كليهما، عن إبراهيم النخعي، عن الجدلي به. وقد أُعِلَّتْ هذه الرواية بالانقطاع؛ فقد نَقَلَ الترمذي عن البخاري قوله: "كان شعبةُ يقول: لم يسمع إبراهيم النخعي من أبي عبد الله الجدلي حديث المسح"6. وروى ذلك ابن أبي حاتم في (المراسيل) 7 بإسناده إلى شعبة. قلت: فرجعتْ بذلك روايةُ إبراهيم النخعي إلى رواية إبراهيم التيمي الْمُتَّصِلة، كما يَدُلُّ عليه كلام هؤلاء الأئمة، وقد سَلَكَ هذا الطريق ابن دقيق العيد رحمه الله فقال: "ولكن الطريق فيه: أن تُعَلَّلَ طريق إبراهيم بالانقطاع ... وَيُرْجَعُ إلى طريق إبراهيم التيمي، فالروايات متضافرةٌ برواية   (4/117) ح 3790، 3791. (1/109) ح 157 ك الطهارة، باب التوقيت في المسح. 3 ح 1219. (5/ 213، 214) . (4/110) ح 3763. 6 علل الترمذي: (1/174) . (ص 8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 التيمي له عن عمرو بن ميمون، عن الجدلي، عن خزيمة"1. وأما رواية الشعبي: فقد أخرجها: الطبراني في (معجمه) 2، وعلقها البيهقي في (سننه) 3، والترمذي في (علله) 4، كلهم من طريق: ذَوَّاد بن عُلْبَة5، عن مُطَرِّف، عن الشَّعبي، عن الجدلي، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المسح على الخفين: "ثلاثةُ أيامٍ ولياليهن للمسافر، ويوم للمقيم" هذا لفظ الترمذي والطبراني، أما عند البيهقي ففيه ذكر المسافر فقط، وفيه قوله: "ولو استزدناه لزادنا". ولكن هذه الطريق ضعيفةٌ، ضَعَّفَهَا البيهقي6 بذواد بن علبة هذا، وأشارَ إلى ضعفها ابن دقيق العيد7، وسألَ التِّرْمذيُّ البخاري عنها فقال: " ... ولا أدري هذا الحديث محفوظاً". قال الترمذي: "ولم يعرفه - يعني البخاري - إلا من هذا الوجه"8. فلا اعتبار إذن لرواية الشعبيِّ هذه، ويرجعُ الأمر إلى رواية إبراهيم التيمي كما قَدَّمْنَا. هذا ما يَتَعَلَّق بالعِلَّة الأولى، وهي الاختلاف في إسناده، وقد   1 نصب الراية: (1/176) . (4/110) ح 3761. (1/278) . (1/174) . 5 الحارثي، أبو المنذر، الكوفي، ضعيفٌ عابد، من الثامنة /ت ق. (التقريب 203) . 6 السنن (1/278) . 7 نصب الراية: (1/176) . 8 علل الترمذي: (1/175) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 أجيبَ عنها بحمد الله، وتبين أن هذه الطرق المختلفة مرجعها إلى طريق واحد. وأما انقطاع إسناده - وهي العلة الثانية -: فقد قال البخاري - فيما نقله عنه الترمذي في (علله) 1 -: "لا يَصُحُّ عندي حديث خزيمة بن ثابت في المسح؛ لأنه لا يُعرف لأبي عبد الله الجدلي سماع من خزيمة بن ثابت". ولم أر من شارك البخاري في هذا القول، حتى إنَّ الترمذي الذي نقل كلام البخاريّ هذا قد صَحَّحَ الحديث كما مضى، ولعلَّ ذلك من البخاري - رحمه الله - بناء على مذهبه في اشتراطِ ثبوت اللقاء بين الراوي وشيخه، وأنه لا يكتفي في ذلك بإمكان اللقاء. قال ابن دقيق العيد - في معرض رده هذه العلة -: "وقد أطنبَ مسلمٌ في الردِّ لهذه المقالة، واكتفى بإمكان اللقاء، وذكر له شواهد"2. قلت: ولقاؤه لخزيمة بن ثابت غير بعيد، فقد روى الدولابي في (الكنى) 3 بسنده إلى محمد بن عمر أنه قال: "أبو عبد الله الجدلي أدرك أبا بكر ... ". وقد تأخرتْ وفاة الجدلي إلى فتنة ابن الزبير، فيكون قد أدرك خزيمة من باب أولى؛ إذ إن وفاة خزيمة كانت سنة 37هـ. فإذا تَقَرَّرَ إمكان لقائه له، وعلمنا أن الجدلي غير معروف بالتدليس،   (1/173) . 2 نصب الراية (1/177) . (2/57) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 فإنَّ عنعنته هنا تحمل على الاتصال على مذهب من اكتفى بإمكان اللقاء1. وأما العلة الثالثة، وهي الطَّعْنُ في أبي عبد الله الجدلي: فقد تَقَدَّمَ جواب ابن القَيِّم عنها بأن أحمد وابن معين وَثَّقَاهُ، وصَحَّحَ الترمذي حديثه. وقد وَثَّقَهُ كذلك العجلي، فقال: "تابعي ثقة"2، وذكره ابن حبان في (الثقات) 3. وقال ابن دقيق العيد: " ... فلم يقدح فيه أحد من المتقدمين، ولا قال فيه ما قال ابن حزم، وَوَثَّقَهُ أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين4، وهما هما"5. وغاية ما تَعَلَّقَ به ابن حزم في طعنه عليه: هو أنه كان في جيش المختار، وقد رد ذلك ابن القَيِّم رحمه الله بقوله: "فَرَدُّ رواية الصاحب والتابع الثقة بهذا باطل"6. وقال ابن حجر: " ... فَمِنْ هنا أخذوا على أبي عبد الله الجدلي وعلى أبي الطفيل أيضاً؛ لأنه كان في ذلك الجيش، ولا يقدح ذلك فيهما إن شاء الله"7.   1 وانظر تدريب الراوي: (1/214) . 2 تهذيب التهذيب: (12/148) . (5/102) . 4 انظر توثيق أحمد ويحيى له في تهذيب التهذيب: (12/148) . 5 نصب الراية: (1/177) . 6 تهذيب السنن: (1/117) . 7 تهذيب التهذيب: (12/149) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 فَتَبَيَّنَ من ذلك أن هذه العلة - أيضاً – مدفوعةٌ. وقد صحح الحديث - مع ذلك - جماعة: قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال ابن معين: "صحيح"1. وَصَحَّحَ أبو زرعة رواية إبراهيم التيمي الْمُتَّصِلَة كما تقدم. وَصَحَّحَه ابن حبان أيضاً، فقد أخرجه في (صحيحه) . وصححه ابن دقيق العيد في بحث له نافع، ونقله عنه صاحب (نصب الراية) 2. وقال الشيخ الألباني: "صحيح"3. وأما الزيادة الواردة في هذا الحديث فهي ثابتة - أيضاً - كما مضى، وصححها ابن دقيق العيد4. وكأن الخطابي - رحمه الله - مال إلى عدم ثبوتها فقال: " ... فإنَّ الحَكَمَ وَحَمَّادَاً قد روياه عن إبراهيم فلم يذكروا فيه هذا الكلام5 ولو ثَبَتَ لم يكن فيه حُجَّةٌ؛ لأنه ظَنٌّ منه وحسبان، والحجة إنما تقوم بقول صاحب الشريعة لا بِظَنِّ الراوي"6. فالحاصلُ: أن هذا الحديث أُعِلَّ بثلاث عِلَلٍ، وهي: الاختلاف في سنده، وانقطاعه، والطعن في أبي عبد الله الجدلي.   1 رواية الدقاق عن ابن معين في الرجال: (ص74) . (1/175- 177) . 3 صحيح ابن ماجه: (ح 448، 449) . 4 نصب الراية: (1/175) . 5 وقد تَقَدَّمَ أن رواية الحكم وحماد، عن إبراهيم النخعي معلولة بالانقطاع، وأن رواية التيمي- التي جاء فيها ذكر هذه الزيادة - أصحُّ منها. 6 معالم السنن: (1/110) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 ولم يتعرض ابن القَيِّم إلا لردِّ الطعن في الجدلي، فَبَيَّنَ أن ما طَعَنَ به ابن حزم فيه ليس بقادح، وَأَنَّ الأئمة على توثيقه. وأما بقية العلل فقد تَبَيَّنَ من هذه الدراسة أنها مردودة أيضاً، وأن الحديث صحيح ثابت ولله الحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 9- باب من قال بعدم التوقيت في المسح على الخفين 11- (11) حَديث أُبَيّ بن عمارة رضي الله عنه أنه قال: يَا رَسُول الله، أمسحُ على الخُفَّين؟ قال: "نَعَمْ". قَال: يوماً؟ قال: "يوماً". قال: ويومين؟ قال: "ويومين". قال: وثلاثة؟ قال: "نَعَمْ، وما شِئْتَ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافاً كثيراً. وعبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قَطَنَ: مجهولون كُلُّهم. وقد أخرجه الحاكم في (المستدرك) من طريق يحيى بن عثمان بن صالح ويحيى بن معين، كلاهما: عن عمرو بن الربيع بن طارق، أخبرنا محمد بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رَزِين، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن عبادة بن نسي الحديث. قال الحاكم: هذا إسنادٌ مصريٌّ، لم ينسب واحد منهم إلى جَرْح، وهذا مذهبُ مالك، ولم يخرجاه". قال: "والعجبُ من الحاكم، كيف يكونُ هذا مُسْتَدْرَكَاً على الصحيحين ورواته لا يُعْرَفُون بجَرح ولا تعديلٍ؟!! "1. فقد تَضَمَّنَ كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - أَنَّ هذا الحديث معلول من وجهين: أحدهما: الاضطرابُ في إسناده.   1 تهذيب السنن: (1/118) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 والثاني: جَهَالةُ بعض رواته. والأمر كما قال رحمه الله، وبهذا أَعَلَّه أكثرُ الأئمة، كما سيأتي بيان ذلك من أقوالهم رحمهم الله تعالى، فأقول: هذا الحديث مداره على يحيى بن أيوب1، واختلف عليه على أربعة أوجه: الأول: ما أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: يحيى بن معين، عن عمرو بن الربيع، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رَزِين3، عن محمد بن يزيد4، عن أيوب بن قَطَن5، عن أُبَيِّ بن عمارة6 - قال يحيى: وكان قد صَلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين - أنه قال ... فذكره، ولفظه هو الذي سقناه أول الباب.   1 الغافقي، أبو العباس المصري، صدوقٌ رُبَّمَا أخطأَ، من السابعة، مات سنة 168هـ/ع. (التقريب 588) . (1/109) ح 158 ك الطهارة، باب التوقيت في المسح. 3 ويقال: ابن يزيد، والأول هو الصواب، الغافقي، المصري، صدوقٌ، من الرابعة/ بخ د ق. (التقريب 340) . 4 ابن أبي زياد الثقفي، نزيل مصر، مجهول الحال، من السادسة / د ت ق. (التقريب513) . 5 الكندي، الفلسطيني، فيه لين، من الخامسة /د ق. (التقريب 118) . 6 بكسر العين على الأصح، مدني سكن مصر، له صحبة، وفي إسناد حديثه اضطراب/ د ق. (التقريب 96) . قلت: يعني حديثه هذا في المسح على الخفين، وليس له إلا هذا الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في (سننه) 1. الثاني: ما أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2 من طريق: عبد الله بن وهب المصري. والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3 من طريق: سعيد بن كثير بن عفير. كلاهما عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة بن نسيّ، عن أبي بن عمارة به، وفي آخره: حتى بلغ سبعاً قال له: "وما بَدَا لك". وليس عند البيهقي: "حتى بلغ سبعاً". فزيد في إسناده "عبادة بن نسي" بين أيوب بن قطن، وأُبَيّ بن عمارة. الثالث: ما أخرجه البيهقي في (سننه) 4 من طريق سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رَزِين، عن محمد بن يزيد، عن عبادة بن نسيّ، عن أبي بن عمارة. فأسقط من إسناده "أيوب بن قَطَن" ولفظه كلفظ ابن ماجه والدارقطني، وفيه زيادة قوله: "حتى عَدَّ سبعاً". وقد عَلَّقَهُ أبو داود في (سننه) 5 فقال: "رواه ابن أبي مريم المصري، عن يحيى بن أيوب ... " فذكره.   (1/279) . (1/185) ح557، ك الطهارة، باب ما جاء في المسح بغير توقيت. 3 قط: (1/198) ح 19. هق: (1/278) . (1/279) . (1/110) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وأخرجه الحاكم في (المستدرك) 1 من هذا الوجه - يعني بجعل "عبادة بن نسيّ" مكان "أيوب بن قَطَن" - لكنه من طريق أبي داود المتقدم وبلفظه، فالظاهرُ أنها رواية أبي داود نفسها ووقع فيها خطأ في المستدرك، وإلا فيكون قد روي عن عمرو بن الربيع على وجهين، فيزداد بذلك الحديث اضطراباً. الوجه الرابع: ما ذكره ابن القطان في (الوهم والإيهام) - ونقله عنه صاحب (نصب الراية) 2 - وهو أنه روي عن يحيى بن أيوب بالإسناد السابق، مرسلاً بدون ذكر أبيّ بن عمارة. فهذا ما يتعلق بوجوه الاختلاف في إسناد هذا الحديث، وقد أشار إلى ذلك غير واحد من أئمة هذا الشأن، فقال أبو داود عقب روايته: "وقد اخْتُلِفَ في إسناده، وليس هو بالقويّ ... ". وقال الدارقطني - عقب روايته إياه -: " ... وقد اختُلِفَ فيه على يحيى بن أيوب اختلافاً كثيراً". وذكر ابن القطان - أيضاً - وجوه الاختلاف على يحيى3. وأشار ابن عبد البر إلى اضطراب حديث أبي بن عمارة هذا عندما ترجمه في (الاستيعاب) 4. وأما جَهَالة رواته: فقد حَكَم بذلك الدارقطني، فقال في (السنن) : "وعبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قَطَن: مجهولون كُلُّهم".   (1/170) . (1/178) . 3 بيان الوهم والإيهام: (3/324-325) ح 1070. (1/52) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 والأمر على ما قال رحمه الله؛ أما أيوب بن قطن: فقال فيه أبو زرعة: "لا يُعرف"1. وقال الأزدي: "مجهول"2. وأما محمد بن يزيد: فقال فيه أبو حاتم: "مجهول"3. وَتَقَدَّمَ قول ابن حجر فيه: "مجهول الحال". وأما عبد الرحمن بن رَزِين: فإنه لم يُوَثِّقهُ غير ابن حبان4، فالظاهر أن أمره على ما حكم الدارقطني. وإلى جهالة إسناده أشارَ الإمام أحمد بقوله: "حديث أبي بن عمارة ليس بمعروف الإسناد" كما نَقَل ذلك عنه أبو زرعة الدمشقي5. وقال الحافظ الذهبي - مُتَعَقِّبَاً الحاكم في قوله: هذا إسناد مصري لم ينسب واحد منهم إلى جرح -: "بل مجهول"6. وأشار ابن حجر -رحمه الله- إلى العِلَّتَين معاً فقال: "في إسناده جهالةٌ واضطرابٌ"7. ولأجل هاتين العلتين ضَعَّفَهُ جماعة من العلماء؛ فقال ابن معين: "إسناده مظلم"8. وقال أبو داود عقب إخراجه: "وليس هو بالقوي". وقال أبو الفتح الأزدي: "حديث ليس بالقائم"9. وقال ابن حبان في   1 تهذيب التهذيب: (1/410) . 2 المصدر السابق. 3 الجرح والتعديل: (4/1/126) . 4 الثقات: (5/82) . 5 انظر: نصب الراية: (1/178) ، والتلخيص الحبير: (1/162) . 6 تلخيص المستدرك: (1/171) . 7 تهذيب التهذيب: (1/410) . 8 المصدر السابق: (1/410) وأشار إلى أن قول ابن معين هذا جاء في بعض نسخ (أبي داود) . 9 التلخيص الحبير: (1/162) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 (الثقات) 1 - في ترجمة أبيّ بن عمارة -: " ... لست أعتمد على إسناد خبره". وقال الدارقطني عقب إخراجه: "هذا الإسناد لا يثبت". وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصحُّ"2. وقال النوويّ: "ضعيف بالاتفاق"3. وقال الشيخ الألباني: "ضعيف"4. وَثَمَّة شيء آخر في إسناده أشار إليه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 5، فقال: "وهو عندي خطأ، إنما هو أبو أبيّ، واسمه عبد الله بن عمرو بن أم حرام، كذا رواه إبراهيم بن أبي عبلة، وذكر أنه رآه وسمع منه، سمعت أبي يقول ذلك". وذكر مثل ذلك ابن عبد البر في (الاستيعاب) 6. فالحاصلُ: أن هذا الحديث ضعيفٌ؛ لاضطرابِ إسنادِهِ، وَجَهَالَةِ رواتهِ، كما قال ابن القَيِّم رحمه الله تعالى، وتَعَقَّبَ الحاكمَ لاستدراكه إيَّاه على (الصحيحين) ، وقد وافق حُكْمُ ابن القَيِّم حكمَ الأئمة على هذا الحديث كما نقلناه عنهم آنفاً. فإذا ثبت عندنا ضعف هذا الحديث، فإنَّه لا حُجَّةَ فيه للقائلين بعدم التوقيت في المسح على الخفين، والله أعلم.   (3/6) . 2 العلل المتناهية: (1/360) . 3 المجموع: (1/509) . 4 ضعيف ابن ماجه: (ح122) . (1/1/290) . (1/52) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 10- باب ما جاء في مسح أعلى الخف وأسفله 12- (12) عَن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "وَضَّأْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تبوك، فَمَسَحَ أَعْلَى الخُفِّ وَأَسْفَلَهُ". ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث، وبين أنه قد أُعِلَّ بأربع علل وهي: 1- أن ثورَ بن يزيد لم يسمعه من رجاء بن حيوة، بل قال: حُدِّثْتُ عن رجاء. 2- أنه مرسلٌ. 3- أن الوليدَ بن مسلم عَنْعَنَهُ، وهو مُدَلِّسٌ. 4- أن كاتبَ المغيرة لم يُسَم فيه، فهو مجهول. ثم ذَكَرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - أن هذه العلل يُمْكِنُ الجواب عنها، وَأَخَذَ في سرد هذه الأجوبة، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك أثناء البحث. ثم عَادَ ابن القَيِّم - رحمه الله - فَرَجَّحَ أن هذا الحديث معلولٌ، وأن الأئمة الكبارَ قد ضَعَّفُوهُ، وأن الأحاديثَ الصحيحةَ على خلافه، وأنَّ هذه العلل وإنْ كان بَعْضُهَا غير مُؤَثِّرٍ، فإن بَعْضَهَا الآخر مؤثرٌ مانع من تصحيح الحديث1.   1 تهذيب السنن: (1/124-126) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 1، والترمذي في (جامعه) 2، وفي (العلل) 3 له، وابن ماجه في (سننه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، وابن الجارود في (المنتقى) 6، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 7، والخطيب في (تاريخ بغداد) 8 من طرق، عن: الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن كاتب9 المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به. واللفظُ الذي ذكرته هو لفظ أبي داود، والدارقطني، والبيهقي. وعند الترمذي، وابن ماجه، وابن الجارود: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَسَحَ أَعْلَى الخُفِّ وأسفله". وأما العلل التي أُعِلَّ بها الحديث، فَبَيَانُهَا كالتالي:   (1/116) ح 165 ك الطهارة، باب كيف المسح؟ (1/162) ح 97، باب ما جاء في المسح على الخفين: أعلاه وأسفله. (1/179) . (1/183) ح 550 باب في مسح أعلى الخف وأسفله. (1/251) . (ح 84) . 7 قط: (1/195) ح 6، 7. هق: (1/290) . (2/135) . 9 هو: وَرَّاد، الثَّقفي، أبو سعيد أو أبو الورد، الكوفي، كاتب المغيرة ومولاه، ثقة، من الثالثة /ع. (التقريب 580) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 أولاً: أن ثورَ بن يزيد لم يسمعه من رجاء بن حيوة، قال أبو داود - عقب إخراجه -: "وبلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء". وكذا قال موسى بن هارون1. وإنما قال ثور بن يزيد: "حُدِّثْتُ عن رجاء بن حيوة". فَأَعَلَّه بذلك الأئمة: أحمد2، والبخاري3، والترمذي4، وغيرهم. وقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن هذه العلة: بأن الدارقطني رواه وفيه تصريح ثور بن يزيد بتحديث رجاء له. ولكنه جوابٌ فيه نَظَرٌ؛ قال ابن حجر رحمه الله: "ووقع في سنن الدارقطني ما يوهم رفع العِلَّة وهي: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثنا داود بن رشيد، عن الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، ثنا رجاء بن حيوة فذكره. فهذا ظاهره أن ثوراً سَمِعَهُ من رجاء فتزول العلة. ولكن رواه أحمد بن عبيد الصفار في (مسنده) ، عن أحمد بن يحيى الحلواني، عن داود بن رشيد فقال: عن رجاء، ولم يقل: حدثنا رجاء، فهذا اختلاف على داود يمنع من القول بِصِحَّة وصله، مع ما تَقَدَّمَ في كلام الأئمة"5. فَتَبَيَّنَ من ذلك أن هذه العِلَّةَ ثابتة لا تندفع. ثانياً: أنه يُروى مرسلاً. وقد أشار إلى هذه الرواية الإمام أحمد،   1 التلخيص الحبير: (1/159) . 2 المصدر السابق. 3 علل الترمذي: (1/180) . 4 في جامعه: (1/163) . 5 التلخيص الحبير: (1/160) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 والدارقطني وغيرهما، قال الإمام أحمد: "ذكرته لعبد الرحمن بن مهدي فقال: عن ابن المبارك، عن ثور: حُدِّثْتُ عن رجاء، عن كاتب المغيرة، ولم يذكر المغيرة. قال أحمد: وقد كان نعيم بن حَمَّاد حدثني به عن ابن المبارك كما حدثني الوليد بن مسلم عن ثور، فقلت له: إنما يقول هذا الوليد، فأما ابن المبارك فيقول: حدثت عن رجاء، ولا يذكر المغيرة. فقال لي نعيم: هذا حديثي الذي أُسْأَلُ عنه، فأخرجَ إليَّ كتابه القديم بخط عتيق، فإذا فيه ملحق بين السطرين بخط ليس بالقديم: "عن المغيرة"، فأوقفته عليه، وأخبرته أن هذه الزيادة في الإسناد لا أصل لها، فجعلَ يقول للناس بعد وأنا أسمع: اضربوا على هذا الحديث"1. وقال البخاريُّ لما سأله عنه الترمذي: "لا يصح هذا، روي عن ابن المبارك، عن ثور ... عن كاتب المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً"2. وقال الدارقطني: " ... لا يثبتُ؛ لأن ابنَ المبارك رواه عن ثور بن يزيد مرسلاً"3. وقال ابن القَيِّم رحمه الله - وهو يُرَجِّحُ القولَ بضعفه مؤكداً إعلاله بالإرسال -:"وقد تَفَرَّدَ الوليد بن مسلم بإسناده ووصله، وخَالَفَهُ من هو أحفظُ منه وأجلُّ، وهو الإمام الثبت عبد الله بن المبارك، فرواه عن ثور، عن رجاء وإذا اختلفَ عبد الله بن المبارك والوليد بن المسلم،   1 التلخيص الحبير: (1/159) . 2 علل الترمذي: (1/180) . 3 علل الدارقطني: جـ 2 (ق 100) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 فالقول ما قال عبد الله"1. فَتَبَيَّنَ من ذلك أن الصَّوابَ في هذا الحديث: أنه مُرسل، وأنَّ من وصله قد أخطأ. ثالثاً: تدليس الوليد بن مسلم: وقد أجاب ابن القَيِّم عن هذه العلة بأن رواية أبي داود من طريق: "محمود بن خالد الدمشقي، حدثنا الوليد، أخبرنا ثور بن يزيد". فقد أُمْنَ بذلك تدليسُ الوليد. قلت: وكذلك في رواية الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا ثور. وعند ابن ماجه من طريق هشام بن عمار: عن الوليد، حدثنا ثور. رابعاً: جهالة كاتب المغيرة: وهذه العلَّة لم يقل بها أحدٌ سوى ابن حزم2 رحمه الله، وقد بَيَّنَ ابن القَيِّم أنه في رواية ابن ماجه التصريح باسمه، وأنه "وَرَّاد"، وقد خُرِّجَ له في (الصحيحين) ، وإنما تُرِكَ ذكر اسمه في هذه الرواية لشهرته وعدم التباسه بغيره. قال ابن القَيِّم: "ومن له خِبْرَةٌ بالحديثِ ورواته لا يَتَمَارَى في أنه وَرَّاد كاتبه"3. فظهرَ أنَّ العِلَّتين الثالثة والرابعة لا أثرَ لهما، وإنما التأثيرُ للعلتين الأولى والثانية، وهما: أن الصواب إرساله، وأنه منقطع بين ثور بن يزيد ورجاء بن حيوة، وهاتان العلتان هما اللتان ذكرهما الحفاظ وأعلوا بهما الحديث.   1 تهذيب السن: (1/126) . 2 المحلى: (2/156) . 3 تهذيب السنن: (1/125) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 فقد ضَعَّفَهُ الأئمة: أحمد، وأبو داود، والترمذي، والبخاري، وموسى بن هارون، والدارقطني، وقد مضىكلامهم. وَضَعَّفَهُ أيضاً: أبو زرعة1، وقال أبو حاتم: "ليس بمحفوظ، وسائر الأحاديث عن المغيرة أصحُّ"2 وَضَعَّفَهُ ابن حزم3وابن الجوزي4 مستشهداً بكلام الأئمة السابقين، وقال الشيخ الألباني: "ضعيف"5. فَتَلَخَّصَ: أن ابن القَيِّم قد أصاب حينما اختار ضَعْفَ هذا الحديث، واستندَ في ذلك إلى ما يلي: 1- مخالفةُ الأحاديث الصحيحة الكثيرة له. 2- أنَّ العِلَلَ التي أُعِلَّ بها منها ما هو مانعٌ من صحته؛ كالقول بانقطاعه وإرساله6. ويؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - ضعف هذا الحديث في مناسبة أخرى فيقول: "وكان يمسح ظاهرَ الْخُفَّين، ولم يصح عنه مَسْح أسفلهما إلا في حديث منقطع، والأحاديث الصحيحة على خلافه"7.   1 علل الترمذي: (1/180) . 2 علل ابن أبي حاتم: (1/54) ح 135. 3 المحلى: (2/155-156) . 4 العلل المتناهية: (1/360) ح 594. 5 ضعيف ابن ماجه: (ح 120) . 6 تهذيب السنن: (1/125-126) . 7 زاد المعاد: (1/199) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 2- من كتاب الحيض 1- باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة 13- (1) عَنْ فَاطِمَة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: أَنَّهَا كَانَت تُسْتَحَاضُ1، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ دَمُ الحَيْضِ، فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فإذا كان ذلك فَأَمْسِكي عن الصَّلاةِ، فَإِذَا كَانَ الآخرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي؛ فَإِنَّمَا هو عِرْقٌ". هذا اللفظ لأبي داود. تناول ابن القيم - رحمه الله - هذا الحديث في (تهذيب السنن) 2، وناقش ابن القطان في إعلاله إياه، وسيأتي كلامهما مفصلاً. قلت: هذا الحديث أخرجه: أبو داود، والنسائي، والدارقطني في (سننهم) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، والبيهقي في (السنن) 5، وابن عبد البر في (التمهيد) 6. كلهم من طريق:   1 الاسْتِحَاضَةُ: أن يستمرَّ بالمرأة خروج الدَّمِ بعد أيام حَيضِهَا المعتادة. يُقَال: اسْتُحِيضَت فهي مُسْتَحَاضَة، وهو استفعال من الحيض. (النهاية1/469) . (1/ 181 - 183) . 3 د: (1/ 197) ح 286 ك الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة. س: (1/ 123) ك الطهارة ، باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة. قط: (1/206، 207) ح (3- 6) . (1/ 174) . (1/ 325) . (16/ 64) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ1، عن محمد بن عمرو2، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش3 به. قال أبو داود عقبه: "قال ابن المثنى4 - راويه عن ابن أبي عديّ -: وحدثنا به ابن أبي عدي حفظاً، فقال: عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة". فالرواية الماضية حَدَّثَ بها ابن أبي عديّ من كتابه، وقد وَرَدَ ذلك في إسناد النسائي عن محمد بن المثنى أنه قال: "حدثنا ابن أبي عديّ هذا من كتابه". وكذا هو في إسناد الدارقطني، حيث قال: "هكذا حدثناه ابن أبي عديّ من أصل كتابه". وأما الرواية التي أشارَ إليها أبو داود - التي حَدَّثَ بها ابن أبي عديّ من حفظه - فأخرجها: النسائي5، والدارقطني6 من طريق ابن المثنى - أيضاً - قال: أخبرنا ابن أبي عديّ من حفظه، حدثنا محمد بن عمرو، عن   1 وقد ينسب لجده، أبو عمرو البصري، ثقة، من التاسعة، مات سنة 194هـ على الصحيح/ع. (التقريب 465) . 2 ابن علقمة بن وقاص الليثي، المدني، صدوقٌ له أَوْهام، من السادسة، مات سنة145هـ على الصحيح/ع. (التقريب 499) . 3 هي: فاطمة بنت قيس بن الطلب، الأسدية، صحابية /د س. (التقريب 751) . 4 محمد بن المثنى بن عبيد العنزي، أبو موسى البصري، المعروف بـ "الزَّمِن"، ثقةٌ ثَبْت، من العاشرة / ع. (التقريب 505) . (1/ 123) . (1/ 207) ح 4، 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - أن فاطمة ... فذكره. وأخرجه ابن حبان في (صحيحه) 1 من الطريق نفسه بدون قول ابن المثنى: "من حفظه". ولفظ الحاكم ورواية للدارقطني كلفظ أبي داود الماضي أول البحث، وعند النسائي وابن حبان، والبيهقي، ورواية لأبي داود2: "فَتَوَضِّئِي وَصَلِّي" فقط. وفي لفظ للنسائي: "فَتَوَضِّئِي، فَإِنَّمَا هو عِرق". ولم يذكر: "وَصَلِّي". وقد أُعِلَّ حديث الزهري هذا: بالانقطاع، والنكارة، والاضطراب. - أما الانقطاع: فقد أَعَلَّهُ بذلك ابن القطان، وناقشه في ذلك ابن القيم رحمه الله، ولم يوافقه على ذلك. فقد قال ابن القطان - ونقل خلاصته ابن القيم -: " ... وهو فيما أرى منقطع؛ وذلك أنه حديث انفرد بلفظه محمد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة. فرواه عن محمد بن عمرو: محمدُ بن أبي عديٍّ مرتين، إحداهما من كتابه فجعله: عن محمد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة، عن فاطمة: أَنَّهَا كانت تُسْتَحَاضُ، فهو على هذا منقطعٌ؛ لأنه قد حَدَّثَ به مرة أخرى من حفظه، فزادهم فيه: "عن عائشة" فيما بين عروة وفاطمة، فاتَّصَل. فلو كان بعكس هذا كان أبعد من الريبة - أعني: أن يُحَدِّث به من حفظه مرسلاً، ومن كتابه متصلاً - فأما هكذا فهو موضعُ نظر ... "3.   1 الإحسان: (2/ 318) ح 1345. (1/ 213) ح 304. 3 بيان الوهم والإيهام: (2/456-457) ح 457. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وقد رَدَّ ابن القيم ذلك فقال: "أما قوله: إنه منقطع. فليس كذلك، فإن محمد بن أبي عديّ مكانه من الحفظ والإتقان معروف لا يجهل، وقد حفظه وَحَدَّثَ به مرة: عن عروة، عن فاطمة. ومرة: عن عائشة1، عن فاطمة، وقد أدرك كلتيهما وسمع منهما بلا ريب، ففاطمة بنت عمته، وعائشة خالته. فالانقطاع الذي رُمِيَ به الحديث مقطوعٌ دَابره"2. قلت: وعند الترجيح تُقَدَّمُ الرواية التي من كتابه؛ لأن الغالب على من يُحَدِّثُ من كتابه أن يكونَ أكثر ضَبْطاً، بخلاف من يُحَدِّثُ من حفظه، فإن الحفظَ خَوَّان، فلعله حَدَّثَ به على الصواب من كتابه، ثم حَدَّثَ به من حفظه فَوَهِمَ. والدليل على صِحَّة الرواية التي من كتابه، وأنها هي الْمُقَدَّمة: أن ابن أبي عديّ قد رجع عن الرواية الأخرى وتركها، فقد روى البيهقي في (سننه) 3 هذا الحديث من طريق الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - بدون ذكر عائشة، ثم قال: "قال عبد الله: سمعت أبي يقول: كان ابن أبي عديّ حَدَّثَنَا به عن عائشة ثم تركه". وهذا ظاهرٌ في أن الرجل ضابط للرواية التي من كتابه، ولذلك فقد رجع عن الأخرى. - وَأَمَّا القول بنكارة هذا الحديث وغرابته: فذلك أنه جاء فيه قوله:   1 يعني: بزيادة "عائشة" بين عروة وفاطمة، كما تقدم في كلام ابن القطان. 2 تهذيب السنن: (1/182-183) . (1/325) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 "إِنَّ دَمَ الحيض دم أسود ... "، فإن هذه اللفظة مما عَدَّها بعضُ الأئمة من منكرات محمد بن عمرو وغرائبه، فقد سُئِلَ عنه أبو حاتم؟ فقال: "لم يتابع محمد بن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر"1. وقال النسائي عقب إخراجه: "قد رَوى هذا الحديث غيرُ واحد، لم يذكر أحد منهم ما ذكره ابن أبي عديّ". وقال الدارقطني: "وَرَوى محمد بن عمرو بن علقمة هذا الحديث ... وأتى فيه بلفظٍ أَغْرَبَ به، وهو قوله: إن دمَ الحيض دمٌ أسود يعرف"2. وقال الطحاوي: "لم يروه إلا ابن عمرو، وقد أنكروه عليه"3. وقد تَوَقَّفَ ابن القيم - أيضاً - في هذه اللَّفظة عند مناقشة ابن القَطَّان في ذلك، حيث قال ابن القطان: " ... والمعروف في قصة فاطمة: الإحالة على الدم والقروء"4. فقال ابن القيم: " فإنَّ المعروف الذي في الصحيح إحالتها على الأيام التي كانت تَحْتَسِبُهَا حيضها، وهي القروء بعينها، فأحدهما يُصَدِّقُ الآخر. وأما إحالتها على الدم، فهو الذي يُنْظر فيه، ولم يروه أصحاب الصحيح وَسَأَلَ عنه ابن أبي حاتم أباه فَضَعَّفَه، وقال: هذا منكر"5.   1 علل ابن أبي حاتم: (1/ 49 - 50) ح 117. 2 علل الدارقطني: جـ 5 (ق 23 / أ) . 3 نقل ذلك صاحب (البدر المنير) (1/ 418) ح 19 ك الحيض (رسالة ماجستير، بتحقيق/ إقبال أحمد محمد إسحاق) مطبوعة على الآلة الكاتبة. 4 بيان الوهم والإيهام: (2/ 459) . 5 تهذيب السنن: (1/183) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 - وأما القول باضطرابه: فقد أَعَلَّهُ بذلك ابن عبد البر رحمه الله، فقال في (التمهيد) 1: "اخْتُلِف عن الزهري في هذا الحديث اختلافاً كثيراً، فمرة يرويه: عن عمرة، عن عائشة. ومرة: عن عروة، عن عائشة. ومرة: عن عروة وعمرة، عن عائشة. ومرة: عن عروة، عن فاطمة بنت أبي حبيش ... وقال فيه سهيل بن أبي صالح: عن الزهري، عن عروة، حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش: أنها أمرت أسماء أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحيض. وأكثر أصحابِ ابنِ شهاب يقولون فيه: عن عروة وعمرة، عن عائشة: أن أم حبيبة بنت جحش - ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تحت عبد الرحمن بن عوف - اسْتُحِيضت. هكذا يقولون عن ابن شهاب في هذا الحديث: أم حبيبة، لا يذكرون فاطمة بنت أبي حبيش. وحديث ابن شهاب في هذا الباب مضطرب". وذكر الدارقطني الخلافَ على الزهري في (علله) 2، ثم نقل عن إبراهيم الحربي قوله: "الصحيح منه قول من قال: أم حبيب، بلاهاء، واسمها حبيبة بنت جحش3 ... وأن من قال فيه: أم حبيبة بنت جحش، أو زينب فقد وَهِمَ. والحديث يصحُّ من حديث الزهري، عن عروة وعمرة جميعاً، عن عائشة: أن أم حبيبة". وهذا يوافقُ ما سَبَقَ أن رَجَّحَهُ ابن عبد البر عن أكثر أصحاب الزهري4. قال الدارقطني عقب ذلك:   (16/65) . 2 جـ 5 (ق 23-24) . 3 وانظر ترجمتها في "الإصابة ": (4/269، 440) . 4 وهذه الرواية التي رَجَّحُوهَا أخرجها: البخاري في الحيض، باب عرق الاستحاضة، ح 327 (فتح الباري 1/426) ، ومسلم في الحيض (1/263) ، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، ح334. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 "وقول إبراهيم ... صحيحٌ، وكان من أعلمُ النَّاسِ بهذا الشأن". فالذي يَتَلَخَّص من ذلك: أن ما أُعِلَّ به هذا الحديثُ يمكنُ الجواب عن بعضه، لكن تبقى له عِلَّةٌ مؤثرةٌ، وهي النكارةُ الواقعةُ في سياقه، وذلك بإحالة الْمُسْتَحَاضة على الدم، وقد حكم الأئمة - كما قَدَّمْنَا - بنكارة هذا اللفظ وغرابته. وهذا ما قَرَّرَه ابن القيم - رحمه الله - في بحثه، فبينما رَدَّ على ابن القطان قوله بانقطاع الحديث، نجده يعتبر هذه اللفظة في الحديث تحتاج إلى نظر، وأنها تخالفُ ما في الصحيح، وأنَّ أبا حاتم قد حَكَمَ عليها بالنكارة، كما مضى نقل كلامه في ذلك. أما أبو عبد الله الحاكم: فقد صَحَّحَ الحديث فقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي، وكذا صَحَّحَه ابن حزم1. وقال ابن الصلاح: "حديث مُحْتَجٌّ به"2. وقال ابن دقيق العيد: "رجاله رجال مسلم"3. والصواب ما قَدَّمْنَاه من إعلاله، والله أعلم.   1 المحلى: (2/227) . 2 البدر المنير: ك الحيض، ح 19، (1/456) رسالة ماجستير، تحقيق /إقبال أحمد محمد إسحاق. 3 الإلمام: (ص 58) ح 124. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 2- باب في المستحاضة: أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد 14- (2) عَنْ حَمْنَة بنت جحش - رضي الله عنها - قَالَتْ: "كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حيضةً كثيرةً شديدةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَسْتَفْتِيهِ وَأخبره، فَوَجَدْتُهُ في بيت أُخْتِي زينب بنت جحش، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ حيضةً كثيرةً شديدةً، فَمَا تَرَى فِيها، قَد منعتني الصلاة والصوم؟ فقال: "أَنْعَتُ لكِ الكُرْسُف1؛ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدم". قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِن ذَلِكَ. قال: "فَاتَّخِذِي ثَوبَاً". فقالت: هو أكثرُ من ذلك، إِنَّمَا أَثُجُّ2 ثَجَّاً. قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سَآمركِ بأمرين، أَيُّهُمَا فَعلتِ أجزأَ عنكِ من الآخر، وإنْ قَوِيتِ عليهما فأنت أعلم". قال لها: "إِنَّمَا هذه رَكْضَةٌ من رَكَضَاتِ الشيطان3، فَتَحَيَّضِي4 سِتَّةَ أَيَّامٍ أو سبعة أيامٍ في علم الله، ثم اغتسلي، حَتَّى إِذَا رَأّيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ   1 الكُرْسُف: القطن. (النهاية: 4/163) . 2 قال أبو عبيد: "هو من الماء الثَجَّاج، وهو السائل. ومنه الحديث المرفوع: أنه سُئِل عن بِرِّ الحج؟ فقال: "هو العَجُّ والثَّجُّ" ... والثجَُّّ: سيلانُ دماء الهَدْي". (غريب الحديث1/279) . 3 قال ابن الأثير: "أصل الرَّكْضِ: الضربُ بالرِّجْلِ والإصابة بها، كما تركض الدابة وتصاب بالرجل ... المعنى: أن الشيطان قد وَجَدَ بذلك طريقاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها حتى أَنْسَاهَا ذلك عادتها، وصَارَ في التقدير كأنه ركضة بآلة من ركضاته". (النهاية 2/259) . 4 قال ابن الأثير: "تَحَيَّضَتْ المرأة: إذا قَعَدَتْ أيامَ حيضها تنتظر انقطاعه، أراد: عُدِّي نفسكِ حائضاً، وافعلي ما تفعل الحائض". (النهاية 1/469) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 فَصَلِّي ثلاثاً وعشرين ليلةً أو أربعاً وعشرين ليلةً وَأَيَّامهَا، وَصُومِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يجزيكِ، وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي فِي كُلِّ شهرٍ كما تَحِيضُ النِّسَاء وَكَمَا يَطْهُرْن، ميقاتُ حيضهن وطهرهن، وإن قِويتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي العَصْرَ، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين: الظهر والعصر، وَتُؤَخِّرين المغرب وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، فافْعَلِي، وتغتسلين مع الفجر فافعلي، وصومي، إنْ قدرتِ على ذلك". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَهَذَا أَعْجَبُ الأمْرَين إِلَيّ". أَورَدَ ابن القيم - رحمه الله - أَقْوَالَ الْمُعَلِّلِينَ لِهَذا الحديث، وَرَدَّ عليها، وَأَجَاب عنها، وَاخْتَارَ صحَّة الحديث، وَنَقَل أقوال الأئمة الْمُصَحِّحِين له1. قلت: هذا الحديث مداره علىعبد الله بن محمد بن عقيل2، ورواه عنه جماعة: فأخرجه أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، وأحمد في   1 انظر: تهذيب السنن: (1/183-187) . 2 ابن أبي طالب الهاشمي، أبو محمد المدني، أمه زينب بنت علي، صدوقٌ في حديثه لينٌ، وَيُقَال: تَغَيَّرَ بآخرة، من الرابعة، مات بعد الأربعين / بخ د ت ق. (التقريب 321) . (1/199) ح 287 ك الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة. (1/221) ح 128 ك الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة: أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 (مسنده) 1، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 2، وابن عبد البر في (التمهيد) 3، كلهم من طريق: زهير بن محمد4. وأخرجه أحمد في (مسنده) 5، وابن ماجه في (سننه) 6من طريق: شريك بن عبد الله7. وأخرجه الحاكم في (المستدرك) 8، والبيهقي في (سننه) 9 من طريق: عبيد الله بن عمرو الرَّقي10. وأخرجه ابن ماجه في (سننه) 11 من طريق: ابن جريج.   (6/439) . 2 قط: (1/214) ح 48. هق: (1/338) . (16/62، 63) . 4 التميمي، أبو المنذر الخراساني، رواية أهل الشَّام عنه غيرُ مستقيمة فَضُعِّفَ بسببها ... من السابعة، مات سنة 162هـ/ع. (التقريب 217) . (6/439-440) . (1/205) ح627، ك الطهارة، باب ما جاء في البكر إذا ابتدأت مستحاضة، أو كان لها أيام حيض فنسيتها. 7 النخعي الكوفي، القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوقٌ يخطئ كثيراً، تَغَيَّرَ حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع، توفي سنة 177أو 178 هـ / خت م 4. (التقريب ص266) . (1/172-173) . (1/338-339) . 10 أبو وهب الأسدي، ثِقَةٌ فَقَيه رُبَّمَا وَهِمَ، من الثامنة، مات سنة 180هـ/ع. (التقريب 373) . 11 (1/203) ح622، باب المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 كُلُّهم: عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة1 عن عمه: عمران بن طلحة2، عن أمه حَمْنَة بنت جحش3 به. وقد جاء في رواية ابن جريج: "عمر بن طلحة" بدل "عمران" وسيأتي الكلام عليها. واللفظ المتقدم هو لفظ أبي داود، ومثله لفظ البيهقي، والباقون ألفاظهم بنحوه، إلا أن الترمذي والدارقطني عندهما زيادة قوله: "فَتَلَجَّمِي" بعد قوله: "أنعت لك الكرسف". وعند أحمد هذه اللفظة أيضاً، لكن ليس عنده قوله: "فَاتخذي ثوباً". وجاء في رواية شريك عند أحمد وابن ماجه: "إني استحضت حيضةً منكرةً شديدةً" وعندهما: "احتشي كرسفاً". أما الحاكم فعنده: "أنعت لك الكرسف" فقط. وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعدة علل: أولها: الطَّعْنُ في "عبد الله بن محمد بن عقيل". قال ابن منده: "لا يصحُّ بوجه من الوجوه؛ لأنهم أجمعوا على ترك حديث ابن عقيل"4. وقال الخطابي: "وقد تَرَكَ بعض العلماء القول بهذا   1 التيمي، أبو إسحاق المدني، ثقة، من الثالثة، مات سنة110هـ/م4. (التقريب93) . 2 ابن عبيد الله التيمي، المدني، له رؤية، ذكره العجليُّ في ثقات التابعين/ بخ د ت ق. (التقريب 429) . 3 الأسدية، أخت زينب، كانت تحت مصعب بن عمير، ثم طلحة ... ولها صُحْبَة، وهي أم وَلَدَي طلحة: عمران ومحمد /بخ د ت ق. (التقريب 745) . 4 البدر المنير: (1/356) . رسالة ماجستير، تحقيق /إقبال أحمد محمد إسحاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 الخبر؛ لأن ابن عقيل راويه ليس بذاك"1. وقال البيهقي: "تَفَرَّدَ به عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو مختلف في الاحتجاج به"2. وقد أجاب ابن القيم - رحمه الله - عن ذلك بقوله: " عبد الله ابن محمد بن عقيل ثقة صدوق، لم يُتَكَلَّم فيه بجرح أصلاً. وكان الإمام أحمد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وإسحاق بن راهويه يَحْتَجُّونَ بحديثه، والترمذي يصحح له، وإنما يُخْشَى من حفظه إذا انفرد عن الثقات أو خالفهم، أَمَّا إذا لم يخالف الثقات، ولم ينفردْ بما يُنْكَر عليه: فهو حجة"3. قال: "ودعوى ابن منده الإجماع على تركِ حديثه غلط ظاهر منه"4. وعبد الله بن محمد هذا اختلفت فيه أقوال الأئمة، فَمَشَّاُه جماعة واحْتَجُّوا به، وَضَعَّفَهُ آخرون، والكلام إنما هو في حفظه؛ فإنَّ أكثرَ الذين تركوا الاحتجاج به إنما فعلوا ذلك لسوء حفظه5. وقد جعله ابن رجب الحنبلي مثالاً للرواة الذين اختُلِفَ فيهم: هل هم ممن غلب على حديثهم الوهم والغلط أم لا؟ 6. وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: "حَدِيثُهُ في مرتبة الحسن"7.   1 معالم السنن: (1/185) . 2 المعرفة: (2/159-160) . 3 تهذيب السنن: (1/183) . 4 المصدر السابق: (1/184) . 5 انظر: تهذيب التهذيب: (6/14-15) . 6 شرح علل الترمذي: (ص249) . 7 الميزان: (2/485) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 ولعلَّ هذا ما تطمئنُ إليه النفس في أمره؛ لأن جماعةً من الأئمة احتجوا به، ومنهم من صَحَّحَ حديثه، وحَسَّنَهُ آخرون، وإنما الخشية من انفراده بما لا يُتَابعُ عليه، أو مخالفته الثقات كما مضى في كلام ابن القيم رحمه الله. وأما ما قاله ابن القيم من أنه "لَم يُتَكَلَّم فيه بِجرحٍ أصلاً" ففيه نظر؛ فقد ضَعَّفَهُ جماعة كثيرون1. وكذلك قول ابن عبد البر رحمه الله: "هو أوثق من كل من تَكَلَّم فيه". لا يخلو من نظر، ولذلك رَدَّهُ ابن حجر بقوله: "وهذا إفراط"2. وقد رَدَّ الأئمة على ابن منده في دَعْوَاهُ الإجماعُ على تركه، فقال ابن دقيق العيد: "ليسَ الأمر على ما ذَكَرَهُ، وإن كان بَحْرَاً من بُحُورِ هذه الصناعة"3. وقال ابن الملقن: " ... قولة عجيبةٌ منه"4. وقال الحافظ ابن حجر: "ظَهَرَ لي أن مراد ابن منده بذلك: مَنْ خَرَّجَ الصحيح. وهو كذلك"5. وقد مضى كلام ابن القيم في تعقب ابن منده. العلة الثانية: أنه منقطع بين ابن جريج وابن عقيل.   1 انظر أقوالهم في تهذيب التهذيب: (6/14- 15) . 2 تهذيب التهذيب: (6/15) . 3 البدر المنير: (1/360) . رسالة ماجستير، تحقيق /إقبال أحمد. 4 المصدر السابق. 5 التلخيص الحبير: (1/163) ، أي أنَّ الكتب التي اشترطت الصِّحَّة أجمع مؤلفوها على تركه، بمعنى عدم الاحتجاج به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 قالوا: إنَّ ابنَ جريج لم يسمعه من ابن عقيل، بينهما فيه "النعمان بن راشد"1، والنعمان هذا ضعيف، وقد أَعَلَّه بذلك ابن حزم2 رحمه الله. وَأَجَابَ عن ذلك ابن القيم رحمه الله، فقال: "النعمان بن راشد ثقة، أَخْرَجَ له مسلم في (صحيحه) ، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، واستشهد به البخاري. وقال: في حديثه وهمٌ كثيرٌ، وهو صدوقٌ، وقال ابن أبي حاتم: أَدْخَلَهُ البخاريُّ في الضعفاء، فسمعتُ أبي يقول: يُحَوَّل اسمه منه"3. وقال ابن الملقن رحمه الله: "وأما رَدُّ ابنِ حزم بالانقطاع ... فجوابه: أن الترمذي، وأبا داود، وابن ماجه، والحاكم رووه من غير طريق ابن جريج، فليتصل طريق ابن جريج أو لينقطع، ولتكن الواسطة بينه وبين ابن عقيل ضعيفاً إن شاء أو قوياً. وعلى تقدير الواسطة وهو "النعمان بن راشد"، فقد أخرج له مسلم، واستشهد به البخاري ... "4. العلة الثالثة: ضعف شريك، وزهير بن محمد. وهما من رواته عن عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد أعله بذلك ابن حزم أيضاً5.   1 الجزري، أبو إسحاق الرقي، مولى بني أمية، صدوقٌ سَيِّئُ الحِفْظ، من السادسة/ خت م 4. (التقريب 564) . 2 المحلى: (2/263) . 3 تهذيب السنن: (1/184) . 4 البدر المنير: (1/361، 362) . رسالة الأخ/ إقبال. 5 المحلى: (2/263) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وقد أَجَابَ عنه ابن القيم بأن شريكاً قد وَثقَهُ الأئمة1، قال: "وأما زهير بن محمد: فاحتجَّ به الشَّيخان وباقي الستة، وعن الإمام أحمد فيه أربع روايات2: إحداها: أنه "ثقة". والثانية: "مستقيم الحديث". والثالثة: "مقارب الحديث". والرابعة: "ليس به بأس". وعن يحيى بن معين فيه ثلاث روايات: إحداها: "صالح لا بأس به"3. والثانية: "ثقة"4. والثالثة: "ضعيف"5. وقال عثمان الدرامي: "ثقة صدوق". وقال أبو حاتم: "محله الصدق"6. وقال يعقوب بن شيبة: "صدوق صالح الحديث". وقال البخاري: "ما رواه عنه أهل الشام فإنه منكر، وما رواه عنه أهل البصرة فإنه صحيح". وهذا الحدث قد رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي عامر العقدي - عبد الملك بن عمرو - عنه، وهو بصريٌّ فيكون على قول البخاريّ صحيحاً"7. وقال ابن الملقن في الجواب عن ابن حزم: "وأما تضعيفه لشريكٍ   1 لكن تَكَلَّمَ كثير منهم فيه من جهة سوء حفظه وكثرة خطئه وتخليطه. انظر: تهذيب الكمال (12/467 - 472) . 2 انظر هذه الروايات الأربع في تهذيب التهذيب: (3/349) . 3 المصدر السابق. 4 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص114) رقم 345. 5 تهذيب التهذيب: (3/349) . 6 الجرح والتعديل: (1/2/590) وتمام كلامه: " ... وفي حفظه سوء، وكان حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق لسوء حفظه". 7 تهذيب السنن: (1/186) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 فليس بجيد منه؛ لأنه مخرج له في الصحيح1، وقد انفرد بهذا الطريق ابن ماجه فأخرجها في سننه ... ". ثم ذكر في رَدِّ التهمة عن زهير بن محمد قريباً من كلام ابن القيم2. العلة الرابعة: أَعَلَّهُ بها ابن حزم - أيضاً - فقال: "وعمر بن طلحة غير مخلوقٍ، ولا يُعرف لطلحة ابنٌ اسمه عمر"3. وجواب ذلك: أن رواية "عمر بن طلحة" انفرد بها ابن جريج، وخَطَّأوه فيها، فقال الترمذي عقب إخراجه: "ورواه عبيد الله بن عمرو الرقي، وابن جريج، وشريك: عن عبد الله بن محمد بن عقيل ... إلا أن ابن جريج يقول: عمر بن طلحة. والصحيح: عمران بن طلحة"4. ونَقَلَ ابن القيم كلام الترمذي في الجواب على هذه العلة، ثم زاد: "وقد تَقَدَّمَ من كلام الدارقطني5 أن ابن جريج قال فيه: عمران ابن طلحة، وهو الصواب"6. قلت: فإنْ صحَّ ما نقله الدارقطني عن ابن جريج فتكون هذه رواية أخرى عن ابن جريج توافق رواية الجماعة.   1 إنما أخرج له الإمام مسلم في (صحيحه) متابعة، واستشهد به الإمام البخاري في الصحيح: (انظر: تهذيب الكمال 12/475) . 2 البدر المنير: (1/362) . رسالة الأخ/ إقبال الماضي ذكرها. 3 المحلى: (2/264) . 4 جامع الترمذي: (1/225 – 226) . 5 كلام الدارقطني هذا في علله: ج5 (ق211/أ) . 6 تهذيب السنن: (1/185) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 العلة الخامسة: أَعَلَّهُ ابن حزم - أيضاً - بأنه قد رُوي من طريق الحارث بن أبي أسامة، قال: "والحارث بن أبي أسامة قد تُرك حديثه، فسقط الخبر جملة"1. قال ابن القيم: "وهذا تَعَلُّقٌ باطلٌ فإنما اعتمدَ في ذلك على كلام أبي الفتح الأزدي فيه، ولم يُلتفت إلى ذلك2، وقد قال إبراهيم الحربي: هو ثقة. وقال البرقانيُّ: أمرني الدارقطني أن أُخْرِجَ عنه في الصحيح. وصَحَّحَ له الحاكم، وهو أحد الأئمة الحُفَّاظ"3. وَثَمَّة علل أخرى أُعِلَّ بها الحديث لم يَعْرِضْ لها ابن القيم رحمه الله، منها: العلة السادسة: أن بعضهم جَعَلَ قوله صلى الله عليه وسلم: "وهذا أعجب الأمرين إليَّ " من كلام حَمْنَة موقوفاً عليها، ذَكَر ذلك أبو داود عقب إخراجه. وأجاب عنه ابن الملقن رحمه الله4. العلة السابعة: قال البخاري رحمه الله: "إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم، ولا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا؟ "5.   1 المحلى: (2/264) . 2 قال الذهبي في الميزان: (1/442) : "وكان حافظاً عارفاً بالحديث عالي الإسناد بالمرة، تُكُلِّمَ فيه بلا حجة". 3 تهذيب السنن: (1/187) . 4 البدر المنير: (1/359) . رسالة الماجستير المتقدم ذكرها. 5 علل الترمذي: (1/188) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وأجاب عن ذلك ابن الملقن أيضاً1. فظهر من هذه الدراسة: أن ما أُعِلَّ به هذا الحديث غير قائم، ومع ذلك فقد صَحَّحَه عدد من أئمة هذا الشأن وحَسَّنَهُ آخرون، فقال الإمام أحمد: "حديث حسن صحيح"2. وقال البخاري: "حديث حسن" كذا نقله عنه الترمذي في (علله) 3، وفي بعض نسخ (جامعه) 4 عنه أنه قال: "حسن صحيح". وقال الترمذي: "حسن صحيح". وكأن الدارقطني - رحمه الله - قد مالَ إلى تصحيحه حيث ذَكَرَ اختلافاً فيه علي عبد الله بن محمد بن عقيل، ثم صَوَّبَ رواية الجماعة المتقدمين: عن ابن عقيل، عن إبراهيم، عن عمران بن طلحة، عن حَمْنَة، فقال: "وهو الصحيح"5. وكذا يَظْهَرُ من صنيع الحاكم الميل إلى تصحيحه؛ حيث أشار إلى شواهد له عقب إخراجه6. وصححه النووي في (الخلاصة) 7 (وشرح المهذب) 8. وضعفه - إلى جانب من تقدمت أقوالهم -: أبو حاتم الرازي،   1 البدر المنير: (1/359 – 360) الرسالة المتقدم ذكرها. 2 جامع الترمذي: (1/226) . (1/187) باب المستحاضة: أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد. (1/226) . 5 علل الدارقطني: ج5 (ق 211/أ) . 6 المستدرك: (1/173) . (ق 22) . 8 المجموع: (2/356) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 حيث سأله عنه ابنه؟ فَوَهَّنَهُ، ولم يقوّ إسناده1. وقد ردَّ ابن القيم كلام أبي حاتم: بأنه لم يُبَيِّنْ سَبَبَهُ حتى يُمْكُنَ البحث معه فيه. ولعله أراد بعض ما تقدم، وقد أجيب عنه2. ونقل أبو داود عن الإمام أحمد قوله: "حديث ابن عقيل في نفسي منه شيء"3. وَرَدَّهُ ابن الملقن: بأنه معارض بما نقله عنه الترمذي من أنه صححه4. وبعد: فإن هذا الحديث تميل النفس إلى تحسينه، كما حكم بذلك البخاري وغيره، وهذا أقل ما يُقال فيه من أجل ابن عقيل؛ فإنه قد تُكُلِّمَ في حفظه كما تقدم، وقد حسن الذهبي حديثه لأجل هذا، فقال: "حديثه في مرتبة الحسن"5. مع أن جماعة قد حكموا بصحته كما مضى. وقد دَفَعَ ابن القيم - رحمه الله - العلل التي رُمي بها هذا الحديث - أو أكثرها - عِلَّةً عِلَّةً، وأجاب عنها بما يُفهمُ منه ميله إلى تصحيح الحديث، والله أعلم.   1 علل ابن أبي حاتم: (1/51) ح 123. 2 البدر المنير: (1/361) . 3 السنن: (1/202) . 4 البدر المنير: (1/365) . 5 الميزان: (2/485) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 3- بابُ كفارة من أتى حائضا 15- (3) عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امْرَأَتَهُ وهي حائضٌ، قال: " يَتَصَدَّق بدينار، أو نصف دينار". تَعَرَّض ابن القيم - رحمه الله - لهذا الحديث في كلامه على سنن أبي داود1، وأشار إلى تصحيح أبي داود، والحاكم، وابن القطان له. ثم قال: "وأما أبو محمد ابن حزم: فإنه أعلَّ الحديث بمقسم وَضَعَّفَهُ، وهو تعليل فاسدٌ، وإنما عِلَّتُهُ الْمُؤَثِّرَة وَقْفُهُ". قلت: وهذا الحديث عند أبي داود2 من طريق: شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن3، عن مِقْسَم4، عن ابن عباس به. ومن هذا الطريق أخرجه: النسائي وابن ماجه في (سننيهما) 5،   (1/173 – 174) . 2 السنن: (1/181) ح 264، باب في إتيان الحائض. 3 ابن زيد بن الخطاب العدوي، أبو عمر المدني، ثقة، من الرابعة، توفي بِحَرَّان في خلافة هشام/ ع. (التقريب 334) . 4 ابن بجرة، ويقال: نجدة. أبو القاسم، مولى عبد الله بن الحارث، ويقال له: مولى ابن عباس للزومه له، صدوقٌ وكان يُرْسِل، من الرابعة، مات سنة 101هـ/ خ 4. (التقريب 545) . 5 س: (1/153) باب ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضتها ... جه: (1/210) ح 640 باب في كفارة من أتى حائضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وأحمد في (مسنده) 1، وابن الجارود في (المنتقى) 2، والطبراني في (الكبير) 3، والحاكم في (مستدركه) 4، والبيهقي في (سننه) 5. وأخرجه البيهقي في (سننه) 6 من طريق مطر الوراق، عن الحكم ابن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً. لم يذكر فيه "عبد الحميد بن عبد الرحمن". قال البيهقي: "هكذا رواه جماعة عن الحكم، عن مقسم، وفي رواية شعبة، عن الحكم دلالةٌ على أن الحكم لم يسمعه من مقسم، إنما سمعه من عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد ... ". وقال أبو حاتم رحمه الله: "لم يسمع الحكم من مقسم هذا الحديث"7. قلت: لكن أثبت الإمام أحمد، ويحيى القَطَّان سماع الحكم هذا الحديث من مقسم، فقال أحمد: "لم يسمع الحكم حديث مقسم، كتاب، إلا خمسة أحاديث" وعَدَّهَا يحيى القطان: حديث الوتر، والقنوت، وعزمة الطلاق، وجزاء الصيد، والرجل يأتي امرأته وهي حائض8. فلا مانع حينئذٍ أن يكون الحكم سمع الحديث من مقسم، وسمعه من عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم، فرواه عنه مرةً بواسطة ومرةً بدون واسطة.   (1/229 – 230) . (ح 108 – 110) . (11/382) ح 12066. (1/171 – 172) . (1/314) . (1/315) . 7 علل ابن أبي حاتم: (1/51) . 8 انظر: تهذيب التهذيب (2/434) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وقد رُوِيَ حديث مقسم هذا موقوفاً على ابن عباس، حتى أن شعبة نفسه قد تردد فيه، فرواه مرةً بالرفع ومرةً بالوقف، وأشار إلى ذلك أبو داود عقب إخراجه، فقال: "وَرُبَّمَا لم يرفعه شعبة". فممن رواه موقوفاً غير شعبة: الأعمش، أخرجَ ذلك الدارمي في (مسنده) 1 من طريق: الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفاً. ومنهم: ابن أبي ليلى، أخرجه الدارمي2 - أيضاً - عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن ابن أبي ليلى، عن مقسم، عن ابن عباس3. أما شعبة: فقد أخرج الدارمي عن أبي الوليد4، وعن سعيد بن عامر5، كلاهما: عن شعبة، عن الحكم بالإسناد السابق، لكنه موقوف على ابن عباس، وقال شعبة عقبه: "أما حفظي فهو مرفوع، وأما فلانٌ فقالا: غير مرفوع". قال بعض القوم: حَدِّثْنَا بحفظك، ودع ما قال فلانٌ وفلانٌ، فقال: "والله ما أحب أني عمرت في الدنيا عمر نوحٍ، وأني حَدَّثْتُ بهذا أو سَكَتُّ عن هذا".   (1/204) ح 1117. (1/204) ح 1118، 1123. 3 مسند الدارمي: (1/204) ح 1120. 4 مسند الدارمي: ح 1111. 5 المصدر السابق: ح 1112. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وقد مضت معنا روايات ابن الجارود من طريق شعبة مرفوعاً، وأحدها من طريق سعيد بن عامر عن شعبة، وذكر عقبه نحواً من قول شعبة الذي عند الدارمي، ثم روى ابن الجارود من طريق: بندار عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة موقوفاً، فقال رجل لشعبة: إنك كنت ترفعه؟! قال: "كنتُ مَجْنوناً فَصَحَّحْتُ"1. قال ابن القطان -رحمه الله- معلقاً على مقالة شعبة الأخيرة: "نَظُنُّ أنه رضي الله عنه لَمَّا أُكْثِرَ عليه في رفعه إياه تَوَقَّى رَفعه؛ لا لأنه موقوفٌ، لكن إبعاداً لِلظِنَّةِ عن نفسه. وأبعد من هذا الاحتمال: أن يكون شكَّ في رفعه في ثاني حالٍ فوقفه، فإن كان هذا فلا نُبالي بذلك أيضاً، بل لو نَسِيَ الحديث بعد أن حَدَّثَ به لم يضره. فإن أبيت إلا أن يكون شعبةُ رجعَ عنه رفعه فاعلم أن غيره من أهل الثِّقَةِ والأمانة أيضاً قد رواه عن الحكم مرفوعاً – كما رواه شعبة فيما تقدم – وهو عمرو بن قيس الملائي، وهو ثقة ... "2. وقد رُوي من طرقٍ أخرى عن مقسم مرفوعاً: منها: ما أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، والدارمي وأحمد في (مسنديهما) 5، والبيهقي في (سننه) 6 من طرق،   1 المنتقى: (ح110) . 2 بيان الوهم والإيهام: (5/279) . (1/183) ح 266. (1/244) ح 136. 5 مي: (1/202) ح 1110. حم: (1/272) . (1/316) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 عن: شريك، عن خُصَيف1، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً، ولفظه: "يَتَصَدَّقُ بِنِصفِ دينار". وأخرجه الدارمي في (مسنده) 2 من طريق: سفيان الثوري، عن خُصيف، عن ابن عباس مرفوعاً بمثله. وأخرجه أحمد في (مسنده) 3 من هذا الطريق، لكن جعله عن مقسم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ثم قال: "وقال شريك: عن ابن عباس". قلت: ورواية الدارمي له عن الثوري متصلاً توافق رواية شريك المتقدمة، فَتُقَدَّم على الرواية المرسلة. ونقل ابن القيم عن ابن حزم أنه أَعَلَّ هذه الرواية بشريك وخُصيف، وقال: "كلاهما ضعيفٌ، فَسَقَطَ الاحتجاج به"، ثم نقل ابن القيم أقوال العلماء في الاحتجاج بشريك وخُصيف. قلت: أما شريك: فقد تابعه الثوري عن خصيف كما تقدم، وأما خصيف: فإنه وإن تُكُلِّمَ فيه، فإن روايته تصلح للاعتبار، وليس الاعتماد عليها وحدها.   1 ابن عبد الرحمن، أبو عون، صدوق سيئ الحفظ، خَلَّطَ بآخرة، وَرُمي بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة 137هـ/4. (التقريب 193) . (1/203) ح 1114. (1/325) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 ومنها: ما أخرجه الترمذي في (جامعه) 1 من طريق: عبد الكريم2، عن مقسم عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَا كَانَ الدَّمُ أحمر فَدِينار، وإذا كان دَماً أصفر فنصف دينار". ومن هذا الطريق أخرجه كذلك: ابن ماجه في (سننه) 3، والدارمي في (مسنده) 4، وابن الجارود في (المنتقى) 5، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 6. ولفظ الدارمي والدارقطني والبيهقي: " ... فإن كان الدَّم عبيطاً فليتصدق بدينار، وإن كان صُفْرَةً فليتصدق بنصف دينار". وعند ابن ماجه: " أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بنصف دينار". ولفظ ابن الجارود كلفظ حديث الحكم عن مقسم المتقدم. وَرُوِي من طرق أخرى غير هذه عن مقسم، فهذه الروايات وغيرها تؤكد صحة رواية شعبة المرفوعة، على أنه لا مانع من كون ابن عباس رضي الله عنهما كان يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرةً - وعلى هذا تحمل رواية الرفع - ومرةً كان يُفتي به من قوله، وعليه تُحمل رواية الوقف. وَقَدَّمَ ابن سيد الناس رواية الرفع فقال: "من رَفَعَهُ عن شعبة أَجَلُّ وأكثر وأحفظ ممن وقفه"7.   (1/245) ح 137. 2 ابن مالك الجزري، أبو سعيد مولى بني أمية، ثقة متقن، من السادسة، مات سنة 127هـ/ ع. (التقريب 361) . وقيل فيه: عبد الكريم بن أبي المُخارق، وذكر ابن الملقن الخلاف في ذلك، ثم قال: "فلعل الحديث عنهما، والله أعلم بالصواب". (البدر المنير 1/397 – 400) . (1/213) ح 650. (1/203) ح 1116. (ح 111) . 6 قط: (1/287) ح 158. هق: (1/317) . 7 نيل الأوطار: (1/351) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وأما الاختلاف الذي وقع في متنه من قوله مرة: " دينار أو نصف دينار"، ومرةً " نصف دينار " ومرة التفرقة بين لون الدم وصفته: فإن أبا داود رَجَّحَ رواية الحكم ومن تابعه، والتي فيها: " دينار أو نصف دينار" فقال: "هكذا الرواية الصحيحة قال: دينار أو نصف دينار". وكأنَّ الإمام أحمد - رحمه الله - أخذ بهذه الرواية، فقال: "هو مُخَيَّرٌ بين الدينار والنصف دينار"1. وقال ابن القطان عن هذه الألفاظ المختلفة: "وهذا عند التدين والتحقيق لا يضره"2. وبعد: فإن هذا الحديث قد صَحَّحَهُ جماعة من الأئمة منهم: أبو داود – كما يفهم من كلامه السابق -، ومال الإمام أحمد إلى تصحيح رواية الحكم بن عبد الحميد المتقدمة، فقال – فيما روى الخلال -: "ما أحسن حديث عبد الحميد" فقيل له: تذهب إليه؟ قال: "نعم"3. ونقل ابن حجر عن الخطابي قوله: "الأصحُّ: أنه متصلٌ مرفوع"4. وقال الحاكم: "صحيح" ووافقه الذهبي، وصححه ابن القَطَّان، فقال – متعقباً عبد الحق-: "ضَعَّفَهُ، وليس بضعيف، بل إما صحيح وإما حسن، وله طريق حسن"5. وَصَحَّحَهُ ابن دقيق العيد، وَأَقَرَّ ابن القطان على تصحيحه6. وَصَوَّبَ ابن حجر تصحيحه - بعد أن نقل كلام ابن   1 معالم السنن: (1/173) . 2 نيل الأوطار: (1/351) . 3 التلخيص الحبير: (1/165) . 4 التلخيص الحبير: (1/166) . 5 بيان الوهم والإيهام: (5/669) . 6 التلخيص الحبير: (1/166) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 القطان وابن دقيق العيد-1. ثم قال: "فكم من حديث قد احتجوا به فيه من الاختلاف أكثر مما في هذا، كحديث "بئر بضاعة"،"وحديث القلتين"ونحوهما. وفي ذلك ما يَرَدُّ على النووي في دعواه في (شرح المهذب) ، (والتنقيح) ، (والخلاصة) : أن الأئمة كُلَّهُم خالفوا الحاكم في تصحيحه ... ". وصَحَّحَهُ كذلك العلامة أحمد شاكر وتوسع في الكلام عليه واستيفاء طرقه2. وكذا العلامة الألباني3 رحمه الله. فَثَبَتَ بذلك صحَّة الحديث، وأنه لا مجال لإعلالِهِ بروايةِ الوقف، وإن كان ابن القيم - رحمه الله - قد قال بأنَّ ذلك هو علته المؤثرة، إلا أن ظاهر صنيعه يدلُّ على اختيار تصحيحه، فقد نقل أقوال بعض العلماء في تصحيحه، ونقل بعضاً من طرقه، وردَّ قول ابن حزم في إعلاله، كما تقدم نقل كلامه في ذلك.   1 التلخيص الحبير: (1/166) . 2 التعليق على (جامع الترمذي) : (1/246 – 254) . 3 إرواء الغليل: (1/217) ح 197. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 تابع للباب الثاني / من كتاب الصلاة 1- باب ما جاء في رفع اليدين عند افتتاح الصلاة 16- (1) عَنِ البَرَاءِ بن عازب رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افْتَتَح الصلاة رفَعَ يديه إلى قريب من أُذُنَيْه، ثم لا يعود". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ولم يصح عنه حديث البراء:"ثم لا يعود"، بل هي من زيادة يزيد بن أبي زياد"1. وَبَيَّنَ - رحمه الله - في موضع آخر أن الأئمة طعنوا في هذه الزيادة: ابن عيينة، وأحمد، وابن معين، والحميدي، والدارمي، وغيرهم، وذكر أن يزيداً قد اضطرب فيه، ثم قال: "فلو قُدِّرَ أنه من الحفاظ الأثبات - وقد اخْتَلَفَ حديثه - لَوَجَبَ تركه والرجوع إلى الأحاديث الثابتة التي لم تختلف، مثل حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه ونحوها. فمعارضتها بمثل هذا الحديث الواهي المضطرب المختلف في غاية البطلان"2. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3 من طريق: شريك. وعبد الرزاق في (مصنفه) 4 - ومن طريقه الخطيب في (الفصل للوصل المدرج في النقل) 5 - من طريق: ابن عيينة. والدارقطني في   1 زاد المعاد (1/219) . 2 تهذيب السنن: (1/369) . (1/478) ح 749 ك الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع. (2/71) ح 2531. (1/394) ح 37 - 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 (سننه) 1 من طريق: إسماعيل بن زكريا2 - ومن طريقه - الخطيب3 أيضاً - كلهم عن: يزيد بن أبي زياد4، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى5، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به. واللفظ الماضي هو لفظ أبي داود. ولفظ الدارقطني، عن البراء: " أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حتى حاذى بهما أذنيه، ثم لم يَعُدْ إلى شيء من ذلك حتى فرغ من صلاته". أما لفظ عبد الرزاق فقال البراء: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كَبَّرَ رَفَعَ يديه حتى يُرى إبهامه قريباً من أذنيه، مرة واحدة، ثم لا تَعُدْ لرفعها في تلك الصلاة". وقد حَكَمَ الأئمة - رحمهم الله - ببطلان هذه الزيادة، وهي قوله: " ثم لم يَعُدْ ... ". ورأوا أن هذه اللفظة من قول يزيد بن أبي زياد، وقد اسْتُدِلَّ على ذلك بأمور: - منها: أن الأئمة الحفاظ الذين رووا عنه هذا الحديث أولاً لم يأتوا عنه بهذه الزيادة؛ قال أبو داود عقب الحديث: "وروى هذا   (1/293) ح 21، 22. 2 ابن مرة الخلقاني، أبو زياد الكوفي، لقبه: شقوصاً، صدوق يخطئ قليلاً، من الثامنة، مات سنة 194هـ، وقيل قبلها/ ع. (التقريب 107) . 3 الفصل: (1/394) ح 37 - 2. 4 الهاشمي مولاهم، الكوفي، ضعيف، كَبِرَ فَتَغَيَّرَ وصار يَتَلَقَّن، وكان شيعياً، من الخامسة، مات سنة 136هـ / خت م4. (التقريب 601) . 5 الأنصاري، المدني ثم الكوفي، ثقة، من الثانية، اخْتُلِفَ في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم سنة 83هـ قيل: غرق / ع. (التقريب 349) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 الحديث: هشيم، وخالد، وابن إدريس، عن يزيد، لم يذكروا: ثم لا يعود". وقال البخاري: "وكذلك روى الحفاظ، من سمع يزيد بن أبي زياد قديماً، منهم: الثوري، وشعبة، وزهير، ليس فيه: ثم لم يعد"1. وقال ابن عبد البر: " ... فرواه عنه الثقات الحفاظ، منهم: شعبة، والثوري، وابن عيينة، وهشيم، وخالد بن عبد الله الواسطي، لم يذكر واحد منهم عنه فيه قوله: "ثم لا يعود ". وإنما قاله فيه عنه من لا يحتج به على هؤلاء"2. ونصَّ على ذلك أيضاً الخطيب البغدادي3. أما رواية شعبة: فأخرجها الدارقطني في (سننه) 4، وأحمد في (العلل) 5، من طريق: شعبة، عن يزيد به، ولفظ أحمد: عن ابن أبي ليلى، أنه قال: "سمعت البراء يحدث قوماً فيهم كعب بن عجرة، قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه ". ومثله لفظ الدارقطني، ولكنه زاد: " في أول تكبيرة ". وأما رواية سفيان الثوري: فأخرجها البخاري في (رفع اليدين) 6، وعبد الرزاق في (مصنفه) 7، والدارقطني في (سننه) 8، من طرق، عن:   1 جزء القراءة خلف الإمام: (ص119) . 2 التمهيد: (9/220) . 3 الفصل: (1/395) . (1/293) ح 19. (1/142- 143) . (ص 122) ح 35. (2/70) ح 2530. (1/293) ح 18. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 الثوري، عن يزيد به. ولفظ البخاري: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفعُ يديه إذا كَبَّرَ حذاء أذنيه". وأما لفظ عبد الرزاق، والدارقطني: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبَّر رفع يديه حتى نرى إبهامه قريباً من أذنيه". وأما حديث هشيم: فأخرجه الإمام أحمد في (مسنده) 1، من طريق: هشيم عن يزيد، ولفظه عن البراء: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه". وأخرج الدارقطني في (سننه) 2 رواية خالد بن عبد الله3، عن يزيد ابن أبي زياد به، وفيه عن البراء: "أَنَّه رَأَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قَام إلى الصَّلاة كبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْه ". ويرويه كذلك مثل هؤلاء: أسباط بن محمد4، أخرجه من طريقة: أحمد في (مسنده) 5، والبيهقي في (سننه) 6، وفيه: " ... حتى يكون إِبْهَاماهُ حذاء أذنيه ". فهؤلاء الخمسة من الحفاظ الثبات، وغيرهم: رووه عن يزيد بن أبي   (4/282) . (1/294) ح 23. 3 ابن عبد الرحمن بن يزيد الطحَّان الواسطي، المزني مولاهم، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة 182هـ / ع. (التقريب 189) . 4 ابن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة القرشي مولاهم، أبو محمد، ثقة ضُعِّفَ في الثوري، من التاسعة، مات سنة 200 هـ / ع. (التقريب 98) . (4/301 - 302) . (2/25 - 26) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 زياد بدون هذه الزيادة، وكانوا سمعوه منه قديماً. وقد نصَّ الأئمة على أن يزيد قد لُقِّنَ هذه الزيادة بعدُ، فقد أخرجه الحميدي في (مسنده) 1 من طريق ابن عيينة بدون هذه الزيادة، قال سفيان: "وقدم الكوفة، فسمعه يُحَدِّثُ به، فزاد فيه: ثم لا يعود. فظننت أنهم لَقَّنُوه، وكان بمكة يومئذ أحفظ منه يوم رأيته بالكوفة، وقالوا لي: إنه قد تغيَّرَ حفظه، أو ساء حفظه". قال الإمام الشافعي: "وذهب سفيان إلى أن يُغَلِّطَ يزيد في هذا الحديث، ويقول: كأنه لُقِّنَ هذا الحرف الآخر فتلقنه، ولم يكن سفيان يرى يزيد بالحافظ"2. وأَعَلَّهُ الإمام أحمد بقول سفيان هذا3 وكذا ابن حبان4. وقال الدارقطني: "وإنما لُقِّنَ يزيد في آخر عمره: (ثم لم يعد) . وكان قد اختلط"5. ولما كان جمع من الأئمة الأثبات - الذين تقدم ذكرهم - قد رووه عن يزيد بدون هذه الزيادة، دل ذلك على صحة ما قاله ابن عيينة رحمه الله، وغيره من الأئمة. - وَمِمَّا يَدُلُّ على ضَعْفِ حديث البراء بهذه الزيادة أيضاً: أنه قد اضطُربَ في متنه وإسناده؛ فقد رُوِيَ عنه ما ينقض روايته الأولى،   (2/316) ح 724. 2 اختلاف الحديث: (ص128) . 3 علل أحمد: (1/143) . 4 المجروحين: (3/100) . 5 سنن الدارقطني: (1/294) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 فأخرج البيهقي في (سننه) 1، من طريق: إبراهيم بن بشار2، عن ابن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد بمكة، عن ابن أبي ليلى ... به، وفيه: " رَأَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا افْتَتَحَ الصَّلاة رَفَعَ يَدَيْهِ، وإذا أَرَادَ أَنْ يركع، وإذا رَفَعَ رَأْسَه من الركوع ". وذكر سفيان أنه لما قدم الكوفة وجده قد زاد فيه هذه الزيادة. فيكون حديث يزيد قد رُويَ بذلك على ثلاثة أوجه، ولاشك أن هذه اضطراب في حديثه، يدل على عدم ضبطه له، وعدم إتقانه إياه. وقد نصَّ الحازمي على اضطرابه، فقال: " ... هذا الحديث يُعْرَفُ بيزيد ابن أبي زياد، وقد اضطرب فيه"3. أما اضطراب سنده: فقد أشار إليه البيهقي رحمه الله، فقال: "قد روى هذا الحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء ... وقيل: عن محمد بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى. وقيل: عنه، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى ... "4.   (2/77) . 2 الرمادي، أبو إسحاق البصري، حافظ له أوهام، من العاشرة، مات في حدود سنة 230هـ /د ت. (التقريب 88) . 3 الاعتبار: (ص16) في المقدمة. 4 سنن البيهقي: (2/77) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 قلت: وقد أخرج رواية عيسى بن أبي ليلى: أبو داود في (سننه) 1، وعَلَّقَه البخاري في (رفع اليدين) 2 كلاهما: عن وكيع، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى3، عن أخيه عيسى4، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - كذا قال أبو داود، وعند البخاري: عن عيسى والحكم، عن ابن أبي ليلى - عن البراء قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين افتتح الصلاة ثم لم يرفعها حتى انصرف ". سياق أبي داود. قال أبو داود عقبة: "هذه الحديث لا يصح". وقال البيهقي - حينما أشار إلى هذه الرواية -: "ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى لا يحتج بحديثه، وهو أسوأ حالاً عند أهل المعرفة بالحديث من يزيد بن أبي زياد"5. - ومن الأدلة - أيضاً - على غَلَطِ يزيد فيه، وعدم ضبطه، وأنه أُدْخِلَ عليه فيه: أنه صَرَّحَ مرة بعدم حفظه لهذه الزيادة، ورجوعه عنها؛ فأخرجه الدارقطني في (سننه) 6 من طريق: علي بن عاصم، عن محمد بن أبي ليلى، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء ... فذكره وفيه الزيادة، قال علي: فلما قَدِمْتُ الكوفة، قيل لي: إن   (1/479) ح 752. (ص122) ح 36. 3 الأنصاري، الكوفي، القاضي، أبو عبد الرحمن، صدوقٌ سَيِّئ الحفظ جِداً، من السابعة، مات سنة 148هـ /4. (التقريب 493) . 4 ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثقة، من السادسة /4. (التقريب 439) . 5 سنن البيهقي: (2/77 - 78) . (1/294) ح 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 يزيد حيٌّ، فأتيته، فَحَدَّثَنِي بهذا الحديث - فساقه بإسناده بدون الزيادة - قال علي بن عاصم: فقلت له: أخبرني ابن أبي ليلى أنك قلت: (ثم لم يعد) . قال: لا أحفظ هذا. فعاودته، فقال: ما أحفظه. وهذا الإسناد وإن كان فيه ابن أبي ليلى، فإن سياقه بهذه القصة يدل على أنه إنما ضبطه وحفظه. والمقصود: أن الأئمة قد أجمعوا على ضَعْفِ حديث البراء بهذه الزيادة، وقد تَقَدَّمَ معنا قول ابن عيينة، والشافعي، والبخاري، وأبي داود. وقال الحميدي: "إنما روى هذه الزيادة يزيد، ويزيد يزيد"1. وقال عثمان الدارمي: "سألت أحمد بن حنبل رحمه الله؟ فقال: لا يصح عنه هذا الحديث"2. وساق الدارمي الحديث بدون الزيادة ثم قال: "فهذا الذي يسبق القلب إلى صحته عن يزيد"3. وقال ابن حبان: "هذا خبر عَوَّلَ عليه أهل العراق في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع، وعند رفع الرأس منه، وليس في الخبر: (ثم لم يَعُد) . وهذه الزيادة لَقَّنَها أهل الكوفة يزيد بن أبي زياد في آخر عمره، فَتَلَقَّنَ ... ومن لم يكن العلم صناعته لا يُذكر له الاحتجاج بما يشبه هذا من الأخبار الواهية"4. وقال الدارقطني - بعد أن أخرجه بدون الزيادة-:   1 التلخيص الحبير: (1/221) . 2 علوم الحديث للحاكم: (ص81) . 3 المصدر السابق. 4 المجروحين: (3/100) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 "وهذا هو الصواب"1. وضعَّفَهُ الحازمي باضطراب يزيد كما سبق نقل كلامه. وقال ابن عبد البر: "المحفوظ في حديث يزيد ... : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة، رفع يديه في أول مرة ... " وأما قول من قال فيه: ثم لا يعود. فخطأ عند أهل الحديث"2. وقال المنذري: "في إسناده: يزيد بن أبي زياد ... ولا يحتجُّ بحديثه"3. وقال أبو بكر الخطيب البغدادي: "ذِكْرُ ترك العَوْدِ إلى الرفع ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم"4. وقد أدخله - رحمه الله - في كتابه المصنف في المدرج، وحَكَمَ على هذه اللفظة بالإدراج. وقال ابن الملقن: "حديث ضعيف باتفاق الحفاظ: كسفيان بن عيينة، والشافعي، وعبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والدارمي، والبخاري، وغيرهم"5. وقال عثمان بن سعيد الدارمي- بعد أن ذَكَرَ ضَعف هذا الحديث-: "ولو صحَّ عن البراء أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه إلا أول مرة ". وقال غيره: إنه عاد لرفعهما، كان أولى الحديثين أو يُؤْخذ به حديث صاحب الرؤية؛ لأنه لم يَقْدِرْ على الحكاية إلا بالرؤية الصحيحة والحفظ، والذي قال: لم أر، يمكن أنه عاد ولم يره"6.   1 السنن: (1/294) . 2 التمهيد: (9/220) . 3 مختصر السنن: (1/369) . 4 الفصل: (1/394) . 5 البدر المنير: ج2 (ق205/أ) [نسخة المحمودية] . 6 علوم الحديث للحاكم: (ص81) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من عدم صِحَّةِ هذا الحديث بهذه الزيادة: هو الصحيح، وهو اختيار جمهور الأئمة ممن قَدَّمْنَا ذكرهم، ولذلك لا تُعَارض الأحاديث الصحيحة في إثبات الرفع بمثل هذا الحديث المعلول، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 2- باب ما يقال من الدعاء في افتتاح الصلاة 17- (2) "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، ولا إِلَهَ غَيْرُكَ". ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث مُصَدِّراً إيَّاه بصيغة التمريض "رُوِيَ"، ثم قال: "ذكر ذلك أهل السنن من حديث: علي بن علي الرفاعي، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد. على أنه رُبَّمَا أُرْسِلَ. وقد رُوِيَ مثله من حديث عائشة رضي الله عنها، والأحاديث التي قبله أثبت منه1، ولكن صحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به، ويُعَلِّمُهُ الناس"2. وقال مرةً: "اختار أحمد حديث عمر في الاستفتاح، وقد روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بصحيح؛ لأن رواية علي بن علي الرفاعي3، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد، وقد قال الإمام أحمد: وعلي بن علي لا يُعْبَأُ به ... "4.   1 يشير - رحمه الله - إلى الأحاديث التي ذكرها قبل هذا في استفتاح الصلاة. انظر: (زاد المعاد 1/202 - 204) . 2 زاد المعاد: (1/204 - 205) . 3 بدائع الفوائد: (4/91) . 4 كذا وقعت العبارة في (البدائع) وأراها غير سليمة؛ ولعل صوابها - والله أعلم -: "وقد روى أبو سعيد مثله ... وليس بصحيح؛ لأنه من رواية علي ... ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 قلت: حديث أبي سعيد هذا أخرجه: أصحاب السنن الأربعة1 وأحمد والدارمي في (مسنديهما) 2، وعبد الرزاق في (مصنفه) 3، وابن خزيمة في (صحيحه) 4، والدارقطني في (سننه) 5، والطبراني في (الدعاء) 6، كلهم من طريق: جعفر بن سليمان7، عن علي بن علي8 الرفاعي، عن أبي المتوكل الناجي9، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام   1 د: (1/490) ح 775، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، ت: (2/9) ح 242، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، س: (2/132) في الذكر بين الافتتاح وبين القراءة، جه: (1/264) ح 804، باب افتتاح الصلاة. وهو عند أبي داود والترمذي في ك الصلاة، وعند النسائي في ك الافتتاح، أما ابن ماجه ففي ك إقامة الصلاة. 2 حم: (3/50) ، مي: (1/226) ح 1242، ك الصلاة، باب ما يُقال بعد افتتاح الصلاة. (2/75) ح 2254. (2/238) ح 467. (1/298) ح 4. (2/1032) ح 501. 7 الضّبعي، أبو سليمان البصري، صَدُوق زَاهِد لكنه كان يَتَشَيَّع، من الثامنة، مات سنة 178هـ/ بخ م 4. (التقريب 140) . 8 ابن نجاد، اليشكري، أبو إسماعيل البصري، لا بأس به، رُمِيَ بالقدر وكان عابداً، من السابعة/ بخ 4. (التقريب 404) . 9 علي بن داود - ويقال: داؤد - البصري، مشهور بكنيته، ثقة، من الثامنة، مات سنة 108هـ وقيل قبل ذلك/ ع. (التقريب 401) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 من الليل كَبَّر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدُّكَ، ولا إله غيرك " ثم يقول: " لا إله إلا الله" ثلاثاً، ثم يقول: " الله أكبر كبيراً" ثلاثاً، "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من هَمْزِه وَنَفْخِهِ ونَفْثِهِ" ثم يقرأ. هذا سياق أبي داود، وهو كذلك عند أحمد، وابن خزيمة، وعبد الرزاق، إلا أن عند بعضهم اختلافاً يسيراً. ولفظ الترمذي، والدارمي مثلهم، ما عدا قوله: "ثم يقول: لا إله إلا الله" ثلاثاً. أما النسائي، وابن ماجه، والطبراني: فهو عندهم مختصر، ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك". وحاصل ما ذكره ابن القَيِّم في إعلال هذا الحديث ما يلي: أولاً: أنه رُبَّما رُوِيَ مرسلاً. وقد سبقه إلى ذلك أبو داود -رحمه الله- فقال عقب إخراجه: "وهذا الحديث يقولون: هو عن علي بن علي، عن الحسن مرسلاً الوهم من جعفر". ثانياً: أنه من رواية علي بن علي الرفاعي، وهو مُتَكَلَّمٌ فيه، قال الترمذي: "وقد تُكُلِّمَ في إسناد حديث أبي سعيد، كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي الرفاعي، وقال أحمد: لا يَصِحُّ هذا الحديث". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 والجواب عن ذلك: - أما القول بأنه يُروى مرسلاً: فلم أجد من ذكر هذه العلة إلا أبا داود، ومع ذلك فإنه لم يجزم بها، بل قال: "يقولون ... "، وكذا ابن القَيِّم، فإنه قال: "على أنه ربما أُرْسِلَ". - وأما كون "علي بن علي الرفاعي" متكلماً فيه: فقد قال الشيخ الألباني1:"وعليٌّ هذا وإن تَكَلَّمَ فيه يحيى بن سعيد، فقد وَثَّقَه يحيى بن معين، ووكيع، وأبو زرعة، وقال شعبة: اذهبوا بنا إلى سيدنا وابن سيدنا علي بن علي الرفاعي. وقال أحمد: لم يكن به بأس إلا أنه رَفَعَ أحاديث"2. قال الشيخ الألباني - معقباً على مقالة الإمام أحمد -: "وهذا لا يوجب إهدار حديثه، بل يُحتجُّ به حتى يظهر خطؤه، وهنا ما روى شيئاً منكراً، بل تُوبِع عليه كما سبق"3. يشير الشيخ إلى حديث عائشة، وسيأتي. قلت: فَتَبَيَّنَ من ذلك أن ما أُعِلَّ به هذا الحديث ليس بشيء، وأن الحديث بهذا الإسناد لا يقل عن رتبة الحسن؛ ولذلك جعله الإمام البغوي في قسم الحسن من (مصابيحه) 4 وبهذا حَكَمَ عليه الحافظ   1 إرواء الغليل: (2/51 - 52) . 2 انظر: أقوال العلماء فيه في (تهذيب التهريب: 7/366) . 3 إرواء الغليل: (2/52) . 4 كما في مشكاة المصابيح: (1/258) ح رقم 816. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 ابن حجر1رحمه الله. وكذا حسَّنَهُ الشيخ الألباني رحمه الله، فقال - عقب نقل الترمذي تضعيف على الرفاعي، وأن أحمد لم يصحح الحديث -: "ولعلَّ هذا لا ينفي أن يكون حسناً؛ فإن رجاله كلهم ثقات"2. وصححه الشيخ أحمد شاكر3. ولما ضَعَّفَ ابن خزيمة الأحاديث الواردة في ذلك قال: "وأحسن إسناد نعلمه رُوِيَ في هذا: خبر أبي المتوكل، عن أبي سعيد"4. قلت: ففيه أن هذا الحديث وإن تُكُلِّمَ فيه، فإن أمره مُحْتَمَلٌ، وأنه قابلٌ للتَّقَوِّي بغيره، وسيأتي له شواهد، منها ما أشار إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - بقوله: "وقد رُوِيَ مثله من حديث عائشة رضي الله عنها"5. وقد رُوِيَ حديث عائشة هذا من طرق لا تخلو جميعها من ضعف، لكن بانضمامها تصل إلى درجة الحسن كما حكم بذلك الشيخ الألباني.   1 نتائج الأفكار: (1/402) . 2 الإرواء: (2/51) . 3 حاشية جامع الترمذي: (2/11) . 4 صحيح ابن خزيمة: (1/238) . 5 زاد المعاد: (1/204) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 فإذا انضمَّ حديث عائشة هذا بطرقه إلى حديث أبي سعيد الْمُتَقَدِّم، ازداد الحديث قوةً وتماسك، وقد يصل بذلك إلى رتبة الصحيح، كما قال الشيخ الألباني رحمه الله1. فالحاصل: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - ذهب إلى تضعيف حديث أبي سعيد، فَصَدَّره بصيغة التمريض: "رُوِيَ"، ثم أَعَلَّهُ بأنه يُروى مرسلاً، ثم صَرَّح بضعفه فقال "ليس بصحيح؛ لأنه من رواية علي بن علي الرفاعي". ثم أشار - رحمه الله - إلى أنه قد رُوِيَ مثله من حديث عائشة رضي الله عنها، وكأنه يضعفه أيضاً؛ حيث صَدَّرَه بقوله: "وقد رُوي مثله ... " كذا بصيغة التمريض. وقد ظهر لي من هذه الدراسة: أن الحديث يصل بمجموع طرقه إلى درجة الحسن على أقل تقدير، وأنَّ من ضَعَّفَه لم يُقِمْ على ذلك دليلاً ظاهراً، ولا بينة قوية. غير أنني أعود فأقول: كأن ابن القَيِّم - رحمه الله - لا يريد أن الحديث ضعيف مطلقاً، وإنما هو أدنى رتبة من الأحاديث الأخرى   1 انظر الكلام حول هذا الحديث في: التلخيص الحبير (1/229) ، وإرواء الغليل: (2/51) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 الواردة في افتتاح الصلاة. يظهر ذلك من قوله: "والأحاديث التي قبله أثبت منه، ولكن صَحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به، ويعمله الناس"1، والله تعالى أعلم.   1 زاد المعاد: (1/204، 205) . قلت: أخرج مسلم في (صحيحه) - (1/299) ح 52 ك الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة - حديث عمر هذا، عن عبدة: "أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 3- باب من قال: لا يقرأ خلف الإمام فيما يجهر فيه إلا بفاتحة الكتاب 18- (3) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كُنَّا خَلْفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: " لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ "قلنا: نعم، هذّاً1 يا رسول الله، قال: " لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنَّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأُعِلَّ هذا الحديث بأن ابن إسحاق رواه عن مكحول وهو مدلس، ولم يُصَرِّحْ بسماعه من مكحول، وإنما عَنْعَنَه، والمدلس إذا عَنعن لم يحتج بحديثه، وكذلك رواه أبو داود. قال البيهقي: وقد رواه إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، فذكر سماعه فيه من مكحول، فصار الحديث بذلك موصولاً صحيحاً2. وقد رواه البخاري في كتاب (القراءة خلف الإمام) وقال: هو صحيح، ووثق ابن إسحاق وأثني عليه واحتج بحديثه فيه، ثم رواه من غير حديث ابن إسحاق أيضاً، وقال: هو صحيح"3.   1 قال في المصباح المنير: (2/636) : "الْهَذُّ: سرعة القطع، وهذَّّ قراءته هذَّاً - من باب قتل-: أسرع فيها" وقال الخطابي: "الهذُّ: سرد القراءة ومداركتها في سرعة واستعجال، وقيل: أراد بالهذِّ الجهر القراءة". (معالم السنن 1/390) . 2 انظر كلام البيهقي في المعرفة: (3/81) رقم 3778. 3 تهذيب السنن: (1/390) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 1، والترمذي في (جامعه) 2، وأحمد في (مسنده) 3، والبخاري في (جزء القراءة) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 6، والحاكم في (المستدرك) 7، من طرق عن: محمد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه به، واللفظ المذكور لفظ أبي داود، وألفاظ الباقين بنحوه. وقد أُعِلَّ هذا الحديث كما مضى في كلام ابن القَيِّم، وحاصل ما أُعِلَّ به: 1- عنعنة ابن إسحاق وهو مُدَلِّس. 2- الاضطراب في إسناده. وذكر ابن القَيِّم من ذلك: العلة الأولى فقط وأجاب عنها، وسأبين ذلك بعون الله وتوفيقه. أما العلة الأولى؛ وهي عنعنة ابن إسحاق: فقد أجاب عنها   (1/515) ح 823 ك الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب. (2/116) ح 311 ك الصلاة، باب ما جاء في القراءة خلف الإمام. (5/316، 322) . (ح 32، 169) . 5 الإحسان: (3/137) ح 1782، (3/141) ح 1789. 6 قط: (1/318) ح 5 - 8. هق: (2/164) . (1/238) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 الحافظ البيهقي - ونقله ابن القَيِّم - بأن إبراهيم بن سعد1 رواه عن ابن إسحاق فذكر فيه سماع ابن إسحاق من مكحول، فانتفت بذلك شبهة التدليس عن ابن إسحاق. وقد أخرج رواية إبراهيم بن سعد هذه: الدارقطني في (سننه) 2 من طريق: عبيد الله بن سعد، عن عمه، عن أبيه، عن ابن إسحاق، قال: حدثني مكحول ... فذكره، وفيه: " إِنِّي لأَرَاكُمْ تَقْرَأُون خَلْفَ إِمَامِكُم إِذَا جَهَرَ؟ ". وأخرجه البيهقي3 من طريق الدارقطني، ثم قال عقبه: "قال علي ابن عمر - يعني الدارقطني -: هذا إسناد حسن". ولم أجد هذه العبارة في (سنن الدارقطني) عقب هذا الحديث، وإنما قالها الدارقطني عقب الحديث الماضي الذي فيه عنعنة ابن إسحاق4، وقد تَعَقَّبَ ابن التركماني البيهقي بذلك5. ولكن هذا الإسناد إلى ابن إسحاق ثقات لا مطعن فيهم؛ فإن عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، أبا الفضل البغدادي قاضي أصبهان: "ثقة"6. وعمه: هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وأبو يوسف المدني:   1 ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق المدني، نزيل بغداد، ثقة حجة، تُكُلِّمَ فيه بلا قادح، من الثامنة، مات 185هـ / ع. (التقريب 89) . (1/319) ح 8. 3 السنن: (2/164) ، والقراءة خلف الإمام: (ح 114) . 4 سنن الدارقطني: (1/318) ح 5. 5 انظر: الجوهر النقي: (2/164) . 6 التقريب: (ص371) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 "ثقة فاضل"1، وإبراهيم بن سعد: "ثقة حجة" كما مضى معنا. فهو إسناد قوي ينجبر به الطريق الآخر الذي فيه عنعنة ابن إسحاق. وأما العلة الثانية؛ وهي القول بالاضطراب: فقد أعله بذلك ابن عبد البر فقال: "أما حديث ابن إسحاق: فرواه الأوزاعي، عن مكحول، عن رجاء بن حيوة، عن عبد الله بن عمرو قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف قال لنا: " تقرأون القرآن إذا كنتم معي في الصلاة؟ " قلنا: نعم. قال: " فلا تفعلوا إلا بأم القرآن". ورواه زيد بن خالد2، عن مكحول، عن نافع بن محمود، عن عبادة ... ومثل هذا الاضطراب لا يثبت فيه عند أهل العلم بالحديث شيء"3. وحكى صاحب (الجوهر النقي) 4 شيئاً من هذا الاضطراب مستشهداً بكلام ابن عبد البر. والجواب عن ذلك:   1- أن رواية زيد بن واقد5 - وليس بن خالد كما في (التمهيد) - عن مكحول، عن نافع بن محمود بن الربيع6، عن عبادة، قد أخرجها: أبو داود، والدارقطني والبيهقي في (سننهم) 7، ثلاثتهم بهذا 1 التقريب: (ص607) . 2 كذا في التمهيد والصواب أنه "زيد بن واقد" كما سيأتي بيانه. 3 التمهيد: (11/46) . (2/164) . 5 القرشي، الدمشقي، ثقة، من السادسة/ خ د س ق. (التقريب 225) . 6 الأنصاري، المدني، نزيل بيت المقدس، مستور، من الثالثة/ ر د س. (التقريب558) . 7 د: (1/515) ح 824، قط: (1/319) ح9، هق: (2/164) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 الإسناد، قال نافع بن محمود: أبطأً عبادة عن صلاة الصبح، فأقام أبو نعيم الْمُؤَذِّن الصلاة، فصلى أبو نعيم بالناس، وأقبل عبادة وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم ... فذكره، وفي آخره قوله صلى الله عليه وسلم: " ... فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن". وقد أعلَّ ابن عبد البر هذه الرواية بجهالة نافع بن محمود، مع عَدِّه ذلك من الاضطراب في الحديث1. وأقول: إن نافعاً روى عنه اثنان: مكحول الشامي - أحد أئمة أهل الشام - وحرام بن حكيم الأنصاري الدمشقي2، وَوَثقَه ابن حبان3، ولم يُعْرَفْ فيه جرحٌ لأحد، ولم يُطَّلَعْ فيه على ما يُترك حديثه لأجله، ومثله إذا لم يأت بما يُنكر عليه فإنه يُقْبل حديثه، وقد قال الدارقطني - عقب إخراجه -: "كلهم ثقات". ولم ينفرد زيد بن واقد - مع ذلك - برواية هذا الحديث عن مكحول، عن نافع بن محمود، بل تابعه عليه: يزيد بن يزيد بن جابر4، عن مكحول، عن نافع، عن عبادة به، أخرج ذلك البيهقي في (القراءة خلف الإمام) 5.   1 التمهيد: (11/46) . 2 وهو حرام بن معاوية، وَوَهِمَ من جعلهما اثنين، ثقة، من الثالثة/ ر 4. (التقريب155) . 3 الثقات: (5/470) . 4 الأزدي، الدمشقي، ثقة فقيه، من السادسة، مات سنة 134هـ / م د ت ق. (التقريب606) . (ح123) ، باب ذكر أخبار خاصة دالة على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وتُوبِعَ مكحول - أيضاً - على هذه الرواية، فقد تابعه حرام بن حكيم، عن نافع بن محمود، عن عبادة به، أخرجه: البخاري في (جزء القراءة) 1، والدارقطني في (سننه) 2، والبيهقي في (السنن) 3، وفي (القراءة خلف الإمام) 4، كلهم من طريق: زيد بن واقد، عن مكحول وحرام بن حكيم، كلاهما: عن نافع بن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت به. قال الدارقطني: "هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم". وقال البيهقي: "وهذا إسناد صحيح، ورواته ثقات". قاله في كتاب (القراءة خلف الإمام) . ثم وجدت متابعة أخرى لمكحول، فقد تابعه عثمان بن أبي سودة5، أخرج ذلك الدارقطني في (سننه) 6 من طريق: صدقة بن خالد، عن زيد بن واقد، عن عثمان بن أبي سودة، عن نافع بن محمود، عن عبادة به. وراويه عن صدقة هو: يحيى بن عبد الله بن الضحَّاك البابلتي، وهو "ضعيف"7، لكنه إذا انضم إلى الطريقين السابقين حصل بمجموع ذلك للحديث قوة. فَتَبَيَّنَ من ذلك ثبوت الحديث بهذا الإسناد، وأنه يَقْوَى بمتابعة:   (ح33) . (1/320) ح 12. (2/165) . 4 ح (121 - 122) . 5 المقدسي، ثقة، من الثالثة/ بخ د ت ق. (التقريب 384) . (1/320) ح 13. 7 كما في التقريب: (ص 593) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 يزيد بن جابر لزيد بن واقد، ثم بمتابعة: حرام بن حكيم وعثمان بن أبي سودة لمكحول. فإذا تقرر ذلك فيمكن القول بأنه: ليس في رواية "نافع بن محمود" هذه مخالفة لرواية "محمود بن الربيع" المتقدمة، وأن الاضطراب لا وجود له، بل الأمر على ما قال البيهقي رحمه الله: "مكحول سمع هذا الحديث من محمود بن الربيع ومن ابنه1 نافع بن محمود بن الربيع، ونافع ابن محمود وأبوه محمود بن الربيع سمعاه من عبادة بن الصامت رضي الله عنه"2. وقال ابن حزم رحمه الله: "وأما رواية مكحول هذا الخبر مرة عن محمود ابن الربيع ومرة عن نافع: فهذا قوة للخبر لا وهنٌ؛ لأن كليهما ثقة"3. وحينئذٍ نقول: إن رواية زيد بن واقد هذه بطرقها، وبمتابعة يزيد بن جابر له فيها تعدُّ متابعة قويةً لرواية محمد بن إسحاق المتقدمة، هذا مع تصحيح جماعة من الأئمة لحديث ابن إسحاق، قال الترمذي: "حديث حسن". وقال الدارقطني: "هذا إسناد حسن". وقال الخطابي: "إسناده جيد، لا مطعن فيه"4. وقال الحاكم عنه وعن غيره من الروايات: "أسانيدها مستقيمة". وقال البيهقي: "صحيح وله شواهد"5. وقال ابن حجر:   1 هكذا اعتبر البيهقي أن نافعاً ابنٌ لمحمود بن الربيع، ولم أجد في المصادر التي ترجمت لهما ما يشير إلى ذلك، فالله أعلم؟؟ 2 القراءة خلف الإمام: (ص65 - 66) . 3 المحلى: (3/241 - 242) . 4 معالم السنن: (1/390) . 5 السنن: (2/166) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 "أخرجه أبو داود بإسناد رجاله ثقات"1. وقال الشيخ أحمد شاكر: "حديث صحيح لا عِلَّة له"2. حتى إن أبا عمر بن عبد البر - رحمه الله - الذي أَعَلَّه في (تمهيده) بأنه مضطرب، وبأن نافع بن محمود مجهول، قال في (الاستذكار) 3: "وحديث عبادة من رواية مكحول وغيره متصل مسند من رواية الثقات"! فلم يبق بذلك قدح في هذا الحديث بالاضطراب ولله الحمد. 2- وأما الرواية التي ذكرها ابن عبد البر مُسْتَدِلاً بها على اضطراب الحديث، وهي: رواية الأوزاعي، عن مكحول، عن رجاء بن حيوة، عن عبد الله بن عمرو، فأقول: المشهور عن الأوزاعي في ذلك ما أخرجه البيهقي في (القراءة خلف الإمام) 4 من طريق الأوزاعي، حدثني عمرو بن سعد5، حدثني رجاء بن حيوة، وعن الأوزاعي، عن عمرو بن سعد، عن عمرو بن شعيب، كلاهما: عن عبادة بن الصامت مرفوعاً. قال البيهقي: "والروايتان صحيحتان، فقد رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عمرو بن سعد عنهما". ثم ساقه بإسناده إلى الوليد. ثم رواه البيهقي - رحمه الله - بالإسناد نفسه إلى عمرو بن شعيب متصلاً، فقال: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عبادة. ثم أشار البيهقي بعد ذلك إلى الرواية التي ذكرها ابن عبد البر، فقال: "وقيل: عن الأوزاعي، عن مكحول، عن   1 الدراية: (1/164) . 2 حاشية الترمذي: (2/117) . (2/190) . 4 الأحاديث: (129 - 132) . 5 الفَدَكِي أو اليمامي، ثقةٌ، من السادسة / ر س ق (التقريب 421) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 رجاء، عن عبد الله بن عمرو. والمحفوظ ما ذكرنا إسناده"1. فَعُلِمَ بذلك أن المحفوظ في هذا عن الأوزاعي ما تقدم: عنه، عن عمرو ابن سعد، عن رجاء، وهو إسناد لا غبار عليه، لاسيما إذا انضم إليه طريق عمرو بن شعيب، وحينئذ تكون هذه الطريق متابعة أخرى لمحمود بن الربيع، عن عبادة؛ مما يزيد في قوته، ولا يكون ذلك من قبيل الاضطراب أبداً. ثُمَّ إن حديث عبادة هذا أصله في صحيحي (البخاري) 2 (ومسلم) 3 مختصراً، وذلك من طريق: الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَة الْكِتَاب". قال الإمام البخاري: "والذي زاد مكحول، وحرام بن حكيم، ورجاء بن حيوة عن ابن الربيع، عن عبادة، فهو تبع لما روى الزهري قال: حدثني محمود بن الربيع، أن عبادة أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم ... "4. وقال البيهقي: "ورواية الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة ابن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وإن كانت مختصرة، فهي لرواية ابن إسحاق شاهدة"5.   1 القراءة خلف القراءة: (ص69) . 2 مع فتح الباري: (2/236) ح 756 ك الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت. (1/295) ح 394. باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... 4 القراءة خلف الإمام للبيهقي: (ص70) . 5 المعرفة: (3/81) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وقال الحافظ ابن حجر: "والظاهر أن حديث الباب - يعني حديث الزهري - مختصر من هذا - يعني من حديث ابن إسحاق الذي معنا - وكان هذا سببه والله أعلم"1. قلت: وسواء أكان مختصراً منه أم كان مغايراً له، فإنه يشهد له ويُقَوِّيه، ويثبتُ أن له أصلاً؛ فالحديثان اشتركا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". ولكن أحدهما جاء مُطَوَّلاً فَذُكِرَ فيه قصة كانت سبب هذا القول منه صلى الله عليه وسلم، ورواية الصحابي الحديث مرة مطولاً ومرة مختصراً مشهور. ولهذا الحديث شاهد أشار إليه ابن القَيِّم في (تهذيب السنن) 2 من رواية البيهقي من طريق: سفيان الثوري، عن خالد الْحَذَّاء، عن أبي قلابة، عن محمد بن أبي عائشة3، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تقرأون والإمام يقرأ؟ ". قالوا: إنا لنفعل. قال: "فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب". ثم نقل ابن القَيِّم عن البيهقي قوله: "وهذا إسناد صحيح، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم ثقة، فترك ذكر أسمائهم في الإسناد لا يَضُرُّ إذا لم يعارضه ما هو أصح منه، ولكن لهذا الحديث علة، وهي: أن أيوب خالف فيه خالداً ورواه عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ... "4.   1 فتح الباري: (2/242) . (1/393) . 3 قيل: اسم أبيه عبد الرحمن، حجازي، ليس به بأس، من الرابعة / ر م د س ق. (التقريب 486) . 4 انظر: كلام البيهقي هذا في المعرفة: (3/84) رقم 3792. والكلام إلى قوله: " ... ما هو أصحُّ منه" منقول بنصه، وباقي الكلام منقول بالمعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وقد ذكر الدارقطني في (علله) 1 روايات هذا الحديث، ووجوه الاختلاف فيه على خالد الحذاء، ثم قال: "والمرسل أصح". يعني: عن ابن أبي عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا المرسل يشهد لحديث عبادة بن الصامت المتقدم ويشد من أزره، وقد جعله البيهقي2، ثم ابن حجر3 من شواهده. فتَحَصَّل من ذلك: أن حديث عبادة بن الصامت صحيح بطرقه وشاهده، مع تصحيح من صححه من الأئمة الذين نقلتُ أقوالهم. وابن القَيِّم - رحمه الله - يميل إلى صحة الحديث، فقد ذكر كلام البيهقي في الرد على من زعم أن الحديث معلول بعنعنة ابن إسحاق. ولكنه لم يتعرض لكلام من أعله بالاضطراب، وقد بينت ذلك ولله الحمد. ثم ساق له ابن القَيِّم هذا الشاهد المرسل من حديث ابن أبي عائشة. وأما ما نقله ابن القَيِّم عن البيهقي من تصحيح البخاري هذا الحديث في (جزء القراءة) فلم أقف عليه فيه، وقد روى الحديث في مواضع منه - كما مضى - ولم يعقبه بشيء، نعم أثنى على ابن إسحاق هناك وعَدَّلَه ونقل كلام الأئمة في الثناء عليه.   1 ج 4 (ق 36) . 2 السنن: (2/166) . 3 التلخيص الحبير: (1/231) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 4- باب ترك القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه 19- (4) عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ من صلاة جَهَرَ فيها بالقراءة، فقال: " هَلْ قَرَأ مَعِي أَحَدٌ مِنكم آنفاً؟ فقال رجل: نَعَم يا رسول الله، قال: " إِِّني أَقُولُ: مَا لِي أَنَازَعُ1 القرآن؟ ". قَالَ: فانتهى الناس عن القراءة مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات حين سَمِعوا ذَلِكَ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد أَعَلَّ البيهقي2 هذا الحديث بابن أُكَيْمَةَ، وقال: تَفَرَّدَ به وهو مجهول، ولم يكن عند الزهري من معرفته أكثر من أن رآه يُحَدِّثُ سعيد بن المسيب. واختلفوا في اسمه، فقيل: عمارة. وقيل: عمار، قاله البخاري. وقوله: "فانتهى الناس عن القراءة" من قول الزهري، قاله محمد ابن يحيى الذُّهْليّ - صاحب (الزهريات) - والبخاري، وأبو داود. واستدلوا على ذلك برواية الأوزاعي، حين مَيَّزَه من الحديث، وجعله من قول الزهري. قال: وكيف يكون ذلك من قول أبي هريرة، وهو يأمر بالقراءة خلف القراءة فيما جهر فيه وما خَافَتَ؟ "3. ثم أخذ ابن القَيِّم رحمه الله في الجواب على ما ذكره   1 بفتح الزاي، وأصل النزع: الْجَذْبُ والقَلْعُ،، ومعنى: ما لي أُنَازَعُ القرآن: أي أُجَاذَبُ في قراءته. (النهاية 5/41) . 2 انظر: كلام البيهقي هذا في (السنن) : (2/159) . 3 تهذيب السنن: (1/391 - 393) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 البيهقي - رحمه الله - من عللٍ لهذا الحديث، وسيأتي بيان ذلك مفصلاً. قلت: هذا الحديث أخرجه: مالك في (الموطأ) 1 عن الزهري، عن ابن أكيمة2، عن أبي هريرة رضي الله عنه باللفظ الذي ذكرته. ومن طريق مالك أخرجه: أبو داود، والترمذي، والنسائي في (سننهم) 3، وأحمد في (مسنده) 4، والبخاري في (جزء القراءة) 5، والبيهقي في (السنن) 6، وألفاظهم جميعاً كلفظ مالك، إلا البخاري، فإنه عنده مختصر، ليس فيه قوله: "فانتهى الناس ... ". وقد روى هذا الحديث الأوزاعيُّ قال: حدثني الزهري، عن سعيد ابن المسيب، أنه سمع أبا هريرة يقول ... فذكره. فجعل الأوزاعي سعيد ابن المسيب مكان ابن أكيمة، أخرجه كذلك البيهقي في (السنن) 7، وأشار إليه أبو داود8.   (1/86) ح44 ك الصلاة، باب ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر فيه. 2 عمارة بن أكيمة، الليثي، أبو الوليد المدني. وقيل: اسمه عمار، أو عمرو، أو عامر، ويأتي غير مسمى، ثقة، من الثالثة، مات سنة 101هـ / ر4. (التقريب 408) . 3 د: (1/516) ح 826، ك الصلاة، باب من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر الإمام. ت: (2/118) ح 312 ك الصلاة، باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر ... س: (2/140) ك الافتتاح، باب ترك القراءة ... (2/301) . 5 ح رقم (61) . (2/157) . (2/158) . 8 في سننه: (1/518) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وقد نصَّ أبو حاتم الرازي على خطأ هذه الرواية1، ونَبَّهَ الخطيب البغدادي على وهم الأوزاعي في ذلك في كتابه (الفصل للوصل المدرج في النقل) 2 فقال: "خالف أصحاب الزهري فيه وَوَهِمَ؛ لإجماعهم على خلافه ... وإنما دَخَل الوهم فيه على الأوزاعي لأنه سمع الزهري يقول: سمعت ابن أكيمة يُحَدِّثُ سعيد بن المسيب. فسبق إلى حفظه ذكر سعيد ابن المسيب، واستقرت روايته على ذلك والصحيح: أنه عن الزهري، عن ابن أكيمة الليثي". وقال أبو عمر بن عبد البر في (التمهيد) 3: "ولا يختلف أهل العلم بالحديث أن هذا الحديث لابن شهاب، عن ابن أكيمة، عن أبي هريرة. وأن ذِكْرَ سعيد بن المسيب في إسناد هذا الحديث خطأ لا شكَّ عندهم فيه، وإنما ذلك عندهم لأنه كان في مجلس سعيد بن المسيب، فهذا وجهُ ذكر سعيد بن المسيب، لا أنه في الإسناد". وهذه الرواية التي أشار إليها الخطيب، والتي أوقعت الأوزاعي في هذا الوهم: أخرجها البخاري في (جزء القراءة) 4 من طريق يونس5، عن الزهري، قال: سمعت ابن أكيمة يُحَدِّثُ سعيد بن المسيب يقول: سمعت أبا هريرة. فذكره بمثل لفظ مالك المتقدم. وقد أخرجها أبو داود في (سننه) 6، والإمام أحمد في (مسنده)   1 علل ابن أبي حاتم: (1/172 - 173) . (1/184) . (11/24) . 4 ح (62) . 5 هو: ابن يزيد الأيلي. (1/517) ح 827. (2/240) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 من طريق: ابن عيينة، عن الزهري، أنه سمع ابن أكيمة يحدث عن سعيد ابن المسيب، يقول: سمعت أبا هريرة يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة يُظن أنها الصبح ... وظاهر هذه الرواية: أن الزهري سمعه من ابن أكيمة عن سعيد بن المسيب، ولكن الصواب ما جاء في رواية البخاريّ: أنَّ الزهري سمعه من ابن أكيمة، عن أبي هريرة. وحَدَّثَ به ابن أكيمة ابن المسيب في حضرة الزهري. ورواية أحمد هذه خطأ كما نبَّه على ذلك العلامة أحمد شاكر، وبَيَّنَ أن نسخة عتيقة من (مسند أحمد) جاء الإسناد فيها بدون "عن"1. وصوَّب البيهقي - رحمه الله - الرواية التي بدون "عن" فقال: "الصواب ما رواه ابن عيينة، عن الزهري قال: سمعت ابن أكيمة يحدث سعيد بن المسيب، وكذلك قاله يونس بن يزيد الأيلي"2. أَمَّا مَا ذُكِرَ من علل لهذا الحديث ففيما يلي مناقشتها، وذكر الأجوبة عنها: أولاً: قول البيهقي: إن ابن أكيمة مجهول، وقد تَفَرَّدَ به. ليس كذلك، بل إنه - كما قال ابن القَيِّم - "لا يُعْلَم أحدٌ قدح فيه، ولا جَرَحَهُ بما يوجب ترك حديثه". وقد ذكره ابن حبان في (الثقات) 3، وقال أبو حاتم: "صحيح الحديث، حديثه مقبول"4. وقال يحيى بن   1 مسند الإمام أحمد تحقيق/ أحمد شاكر: (12/260) ح 7268. 2 سنن البيهقي: (2/158) . وانظر: علل ابن أبي حاتم: (1/173) . (5/169) . 4 الجرح والتعديل: (3/1/362) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 سعيد: "ثقة"1. وقال ابن معين: "كفاك قول الزهري: سمعت ابن أكيمة يُحَدِّثُ سعيد بن المسيب"2. وقال ابن عبد البر: "إصغاء سعيد بن المسيب إلى حديثه دليل على جلالته عندهم"3. هذه أقوال الأئمة في ابن أكيمة، وهو وإن لم يرو عنه غير الزهري، فإن وصف الجهالة يزول عنه بتوثيق هؤلاء الأئمة له، وثنائهم عليه. وأما دعوى تفرده به: فليس كذلك أيضاً؛ فإنه حَدَّثَ به في حضرة ابن المسيب فأقره عليه ولم ينكره، فكان بذلك كالمتابع له، ولذلك قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد حَدَّثَ بهذا الحديث ولم ينكره عليه أعلم الناس بأبي هريرة، وهو: سعيد بن المسيب"4. ثانياً: القول بأن قوله: "فانتهى الناس عن القراءة" من قول الزهري مدرجٌ في الحديث، وليس من كلام أبي هريرة: قد صرَّحَ بذلك غير واحد من الأئمة، منهم: محمد بن يحيى الذهلي - كما نقل ذلك أبو داود عنه5 - والبخاري حيث قال: "وقوله: فانتهى الناس. من كلام الزهري، وقد بَيَّنَه لي الحسن بن صباح، قال: حدثنا مبشر، عن الأوزاعي،   1 تهذيب التهذيب: (7/411) . 2 المصدر السابق. 3 المصدر السابق. 4 تهذيب السنن: (1/392) . 5 السنن: (1/518) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 قال الزهري: فاتعظ المسلمون بذلك فلم يكونوا يقرأون فيما جهر"1. والخطابي في (معالم السنن) 2، وبَيَّنَه - كذلك - الخطيب البغدادي في كتابه: (الفصل للوصل المدرج في النقل) 3 فقال: "والصحيح: أنه كلام ابن شهاب الزهري". وكذا قال السيوطي في كتابه (المدرج) 4. قلت: ورواية الأوزاعي التي نسب فيها هذا الكلام للزهري: أخرجها البيهقي في (سننه) 5، وقال: "حفظ الأوزاعي كون هذا الكلام من قول الزهري، ففصله عن الحديث". وممن صرَّحَ بنسبة هذه الجملة للزهري أيضاً: سفيان بن عيينة، وذلك فيما رواه أبو داود من طريق عبد الله بن محمد6 الزهري، أنه قال: "قال سفيان: وتكلم الزهري بكلمة لم أسمعها. فقال معمر: إنه قال: فانتهى الناس ... "7. فهذا غاية ما يمكن أن يتعلق به القائلون بالإدراج، وبأن هذا كلام الزهري، والحق أنه ليس ثمة دليل ظاهر يُسْتَنَد إليه في كون هذه اللفظة من كلام الزهري؛ فإن الروايات لم تتفق كلها على نسبة هذا القول للزهري.   1 جزء القراءة: (ح 62) . (1/391) . (1/184) ح 24. 4 ص 21 (ح6) . (2/158) . 6 ابن عبد الرحمن بن المِسْوَر بن مخرمة الزهري، البصري، صدوق، من صغار العاشرة، مات سنة 256هـ / م 4. (التقريب 321) . 7 سنن أبي داود: (1/518) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 فقد جاء في رواية ابن السَّرْح1 عند أبي داود2:"قال معمر عن الزهري: قال أبو هريرة: فانتهى الناس ... ". وجاء عند أبي داود - أيضاً - أن مُسَدَّدَاً قال في روايته: "قال معمر: فانتهى الناس عن القراءة ... ". فهو مرويٌّ - كما نرى - من قول أبي هريرة، ومن قول معمر أيضاً. قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "وأيُّ تنافٍ بين الأمرين، بل كلاهما صوابٌ، قاله أبو هريرة كما قال معمر، وقاله الزهري كما قال هؤلاء، وقاله معمر - أيضاً - كما قال أبو داود. فلو كان قول الزهري له عِلّةً في قول أبي هريرة، لكان قول معمر له علة في قول الزهري، وأن نجعل ذلك كلام معمر"3. قلت: وهذا كلام نفيس منه رحمه الله؛ فإن هذه الروايات تتفق ولا تتناقض، فقد جاءت هذه الجملة متصلة بالحديث من كلام أبي هريرةرضي الله عنه. وقد ثبت ذلك من رواية معمر، عن الزهري، عن أبي هريرة كما مضى. ورواها كذلك مالك رحمه الله - وكفى به - عن الزهري فلم يفصلها، وقد تلقى عنه هذه الرواية أصحاب الدواوين المشهورة   1 أحمد بن عمرو بن عبد الله عمرو السرح، أبو الطاهر المصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة 250هـ / م د س ق. (التقريب 83) . 2 السنن: (1/518) . 3 تهذيب السنن: (1/392) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 فرواها من طريقه: أصحاب السنن الأربعة إلا ابن ماجه، وأحمد، والبخاري، والبيهقي رحمهم الله، وقد مضى ذكر ذلك. وقد رواها معمر نفسه عن الزهري متصلة، كما أخرج ذلك أحمد في (المسند) 1 من طريق: عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري. فقد جاءت هذه العبارة - كما نرى - عن الزهري، وجاءت عنه عن أبي هريرة، وجاءت عن معمر من قوله، فلماذا تجعل من كلام الزهري حسب؟. أما رواية الأوزاعي، وقوله فيها: "قال الزهري: فاتَّعَظَ المسلمون بذلك ... ": فإن الأوزاعي أخطأ في إسنادها كما مضى، وقد قال البيهقي بأنه وإن أخطأ في الإسناد إلا أنه حفظ المتن وضبطه فَمَيَّزَ كلام الزهري من كلام غيره. ولكن ألا يمكن أن يكون أخطأ في متنها كذلك؟؟ وهذا ما رَجَّحَهُ الشيخ أحمد شاكر، ثم قال: "ولكن البيهقي - سامحه الله - لم ير بأساً أن يجعلها خطأً في الإسناد، وصواباً فيما يريد أن يحتجَّ له من الإدراج! "2. وأما رواية ابن عيينة وقوله: "وتكلم الزهري بكلمة لم أسمعها. فقال معمر: إنه قال: فانتهى الناس ... ": فليس صريحاً في أن هذه اللفظة منفصلة من كلام الزهري، ولكن ابن عيينة سمع أول الحديث من شيخه الزهري ولم يسمع آخره أو لم يستوضحه، مع حضوره كلام   (2/284) . 2 حاشية المسند: (12/265) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 الزهري كله، فأخبره معمر بما غاب عنه، والزهري قالها متصلة بالحديث كما سمعها معمر منه، فلماذا لا تحمل هنا على الاتصال كما جاء في الروايات المتقدمة؟!. ثم لو قُدِّرَ التعارض بين هذه الروايات، فإن معمراً أثبت الناس في الزهري - بعد مالك - وقد خالفه ابن عيينة والأوزاعي وهما دونه في الزهري، فَتُرَجَّحُ رواية معمر المتصلة إلى أبي هريرة، وعليها تحمل الروايات المتصلة الأخرى عند مالك وغيره، والتي لم يذكر فيها أن الكلام للزهري. وهناك مسلك آخر، وهو: أن هذه الكلمة لو كانت من قول الزهري، فإن إسنادها يكون مرسلاً - مع روايته أول الحديث متصلاً - ثم رويت عنه من وجه آخر بإسناد متصل إلى أبي هريرة، فتعارض الوصلُ والإرسال، فلو قلنا: الوصلُ زيادة من ثقة فتقبل، لقبلنا الرواية المتصلة، ولو قلنا بالترجيح بين الروايات لترجحت رواية معمركما تقدم، مع مؤازرة رواية مالك لها. وهذا المسلك اختاره الشيخ أحمد شاكر رحمه الله1. ولعلَّ الذين ذهبوا إلى أن هذا من قول الزهري لم يقفوا على رواية معمر المتصلة إلى أبي هريرة. والحديث قد حَسَّنَه - مع ذلك - الترمذي رحمه الله، وذهب الشيخ أحمد شاكر إلى دفع القول بالإدراج في بحثٍ له نافع أطال فيه النفس2،   1 حاشية المسند: (12/265) . 2 انظره في حاشية المسند: (12/259 - 266) ح 7268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وكذا ردَّ هذا القول العلامة الألباني1. ثالثاً: قول البيهقي: "وكيف يكون ذلك من قول أبي هريرة، وهو يأمر بالقراءة خلف القراءة فيما جَهَرَ فيه وفيما خافت؟ ". وقد أجاب عنه ابن القَيِّم رحمه الله، فقال: " ... فالمحفوظ عن أبي هريرة أنه قال: اقرأ بها في نفسك، وهذا مطلق ليس فيه بيان أن يقرأ بها حال الجهر، ولعله قال له يقرأ بها في السرِّ والسكتاتِ، ولو كان عاماً فهذا رأي له، خَالَفَهُ فيه غيره من الصحابة، والأخذ بروايته أولى2"3. فابن القَيِّم - رحمه الله - لا يرى تعارضاً بين قول أبي هريرة - لمن سأله عن القراءة خلف الإمام -: "اقرأ بها في نفسك". وبين قوله في حديثنا هذا: "فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه ... "؛ فإن قوله: اقرأ بها في نفسك. محمول على القراءة في السِّريَّة، وفي سكتات الإمام في الجهرية. وقوله في هذا الحديث: فانتهى الناس ... أي: عن القراءة أثناء قراءة الإمام، إذ تحصل مع ذلك المنازعة والمخالجة للإمام. فحديث ابن أكيمة الذي معنا ليس فيه أن الناس تركوا القراءة بالكلية فيحتج به على القائلين بقراءة الفاتحة فيما جهر فيه الإمام، والحديث الآخر "اقرأ بها في نفسك" ليس فيه الأمر بالقراءة على كل حال حتى في أثناء قراءة الإمام. وبهذا تتفق الأدلة ولا يضرب بعضها بعضاً.   1 التعليق على المشكاة: (1/270) ح 855. 2 يعني: دون رأيه. 3 تهذيب السنن: (1/392 - 393) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وإلى مثل هذا أشار الإمام ابن حزم - رحمه الله - فقال عقب حديث ابن أكيمة هذا: " ... لو صحَّ لما كانت لهم فيه حجة - يعني القائلين بعدم القراءة في الجهرية -؛ لأن الأخبار واجبٌ أن يُضَمَّ بعضها إلى بعض، وحرامٌ أن يُضْربَ بعضها ببعض ... فالواجب أن يؤخذ كلامه - عليه السلام - كله بظاهره كما هو، كما قاله عليه السلام، لا يزاد فيه شيء، ولا يُنقص منه شيء: فلا صلاة لمن لم يقرأ بأمِّ القرآن، ولا يُنازع القرآن"1. فالحاصل: أن حديث ابن أكيمة عن أبي هريرة هذا قد أُعل بثلاث علل: 1- أن ابن أكيمة مجهول، وقد تفرد به. 2- أن فيه إدراجاً من الزهري. 3- وبأنه يتعارض مع حديث أبي هريرة الآخر في الأمر بالقراءة على كل حال. وقد قام ابن القَيِّم بالجواب عن هذه العلل فوفق إلى حد كبير.   1 الْمُحَلَّى: (3/239 - 240) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 5- باب من قال: لا يقرأُ المأمومُ خلف الإمام مطلقاً 20- (5) عَنْ جَابِر بن عبد الله، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَال: "مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإمام لَهُ قِرَاءَةٌ". ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث ثم قال: "له عِلَّتَان: إحداهما: أن شعبة، والثوري، وابن عيينة، وأبا عوانة، وجماعة من الحفاظ رووه عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد مرسلاً. والعلة الثانية: أنه لا يصحُّ رَفْعُهُ، وإنما المعروف وَقْفُهُ. قال الحاكم: سمعت سلمة بن محمد يقول: سألت أبا موسى الرازي الحافظ عن الحديث المرويِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من كان له إمامٌ ... "؟ فقال: لم يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، إنما اعتمد مشايخنا فيه على الرويات عن عليّ، وابن مسعود، والصحابة ... وقد رفعه جابر الجعفي، وليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير، عن جابر. وتَابَعَهُمَا مَنْ هُوَ أَضْعَف منهما أو مثلهما"1. قلت: هذا الحديث يروى عن غير جابر بألفاظ أخرى، لكنه بهذا اللفظ مشهور عن جابر رضي الله عنه. والحديث له عن جابر طرق عِدَّة، أشهرها طريقان، وهما اللذان أشار إليهما ابن القَيِّم هنا:   1 تهذيب السنن: (1/393) . وضَعَّفَ ابن القَيِّم الحديث - أيضاً - في (إعلام الموقعين) : (2/327) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 الطريق الأول: عن أبي الزبير1، عن جابر رضي الله عنه، ومدار هذا الطريق على: الحسن بن صالح2، وروي عنه على أوجه مختلفة: فأخرجه ابن ماجه، والدارقطني في (سننيهما) 3 من طرق عنه، عن جابر4 الجعفي، عن أبي الزبير، عن جابر به. وأخرجه الدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 5 عنه، عن جابر الجعفي وليث بن أبي سليم6، عن أبي الزبير، عن جابر به. وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) 7 عنه، عن أبي الزبير مباشرة، عن جابر به. وروي عن الحسن بن صالح على غير تلك الأوجه8.   1 محمد بن مسلم بن تَدْرُس، الأسدي مولاهم، المكيِّ، صدوق إلا أنه يُدَلِّسُ، من الرابعة، مات سنة 126هـ / ع. (التقريب 506) . 2 ابن حَيّ - وهو حَيَّان - بن شُفَيِّ، الهمداني، الثوري، ثقة فقيه عابد، رُمِيَ بالتشيع، من السابعة، مات سنة 169هـ / بخ م 4. (التقريب 161) . 3 جه: (1/277) ح 850، ك إقامة الصلاة، باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا. قط: (1/331) ح 21، باب ذكر قوله: "من كان له إمام ... ". 4 ابن يزيد بن الحارث، أبو عبد الله الكوفي، ضعيف رافضي، من الخامسة، مات سنة 127هـ/ د ت ق. (التقريب 137) . 5 قط: (1/331) ح 20. هق: (2/160) . 6 ابن زُنَيْم، صدوق اختلطَ جدَّاً ولم يَتَمَيَّزْ حديثه فَتُرِكَ، من السادسة، مات سنة 148 هـ / خت م 4. (التقريب 464) . (3/339) . 8 للوقوف على ذلك: ينظر إرواء الغليل: (2/270 - 271) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وهذا الطريق فيه عدة علل: الأولى: في إسناده جماعة مُتَكَلَّمٌ فيهم: فجابر الجُعْفي في الوجه الأول، وضعفه مشهور، وفي الوجه الثاني: ليثُ بن أبي سليم، وهو وإن كان أحسن حالاً من الجعفي، إلا أن الأكثرين على تضعيفه وترك الاحتجاج به، لاسيما وقد اختلط ولم يتميز حديثه1. وبهذين الرجلين ضَعَّفَ العلماء هذا الطريق، فقال الدارقطني:"جابر وليث ضعيفان". وقال البيهقي: "جابر الجعفي، وليث بن أبي سليم لا يُحْتَجُّ بهما، وكل من تابعهما على ذلك أضعف منهما ... ". وقال ابن عبد البر: "وجابر الجعفي لا حُجَّة فيما ينفرد به عند جماعة أهل العلم لسوء مذهبه ... "2. وقال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف؛ جابر: هو ابن يزيد الجعفي، مُتَّهَمٌ"3. العلة الثانية: اضطراب إسناده: فقد جاء - كما رأينا - عن الحسن بن صالح على أوجه مختلفة، ولا شكَّ أن هذا الاضطراب يضعف الحديث؛ لأنه يدل على عدم ضبط الرواة له، وإتقانهم إياه.   1 انظر أقوال العلماء فيه في تهذيب التهذيب: (8/465 - 468) . 2 الاستذكار: (2/191) . 3 مصباح الزجاجة: (1/106) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 العلة الثالثة: أن رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأٌ، وأن الصواب وقفه على جابر رضي الله عنه: وقد بَيَّنَ البيهقي - رحمه الله - ذلك في (سننه) 1 فقال: "والمحفوظ عن جابر في هذا الباب ما أخبرنا أبو أحمد المهرجاني ... فساقه بإسناده إلى مالك، عن وهب بن كيسان، أنه سمه جابراً يقول: " من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأن القرآن فلم يصل، إلا وراء الإمام"". قال البيهقي: "هذا هو الصحيح عن جابر من قوله غير مرفوع، وقد رفعه يحيى بن سلام وغيره من الضعفاء عن مالك، وذاك مما لا يَحِلُّ روايته على طريق الاحتجاج به". وقال ابن عبد البر - بعد أن ساقه بنحو لفظ البيهقي -: "وهو حديث لا يصحُّ إلا موقوفاً على جابر"2. العلة الرابعة: أن أبا الزبير قد عنعنه، فلم يُصَرِّحْ بالسماع في أيٍّ من هذه الوجوه المذكورة، وهو مُدَلِّسٌ، فلا يُقبل منه إلا ما صرح فيه بالسماع: وقد قبل الإمام ابن حزم ما عنعنه عن جابر فيما رواه عنه الليث بن سعد خاصة3، ولكن ليس هذا الحديث من رواية الليث عنه. هذا حاصل ما أُعِلَّ به هذا الطريق، وقد ذكر ابن القَيِّم -رحمه الله- من ذلك: عدم صحته مرفوعاً، وأشار إلى ضعف جابر وليث بن أبي سليم.   (2/160) . 2 الاستذكار: (2/192) . 3 انظر: ميزان الاعتدال: (4/37) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 الطريق الثاني: عن موسى بن أبي عائشة1، عن عبد الله بن شَدَّاد2، وعن جابر رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه الدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 3 من طرق: عن أبي حنيفة4، عن موسى بن أبي عائشة به. ورواه الدارقطني5 عن أبي حنيفة بالإسناد نفسه، وفيه قول جابر ابن عبد الله: صَلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه رجلٌ يقرأ، فنهاه رجلٌ من أصحاب رسول الله، فلما انصرف تنازعا، فقال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعا حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "من صَلَّى خلف إمام فإن قراءته له قراءة".   1 الْهَمَدَاني، مولاهم، أبو الحسن الكوفي، ثقة عابد، من الخامسة، وكان يُرْسل/ ع. (التقريب 552) . 2 ابن الهاد الليثي، أبو الوليد المدني، وُلِدَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذكره العجلي من كبار التابعين الثقات، وكان معدوداً في الفقهاء، مات بالكوفة مقتولاً سنة 81هـ، وقيل بعدها/ ع. (التقريب 307) . 3 قط: (1/323) ح 1. هق: (2/159) . 4 النعمان بن ثابت الكوفي الإمام، يقال: أصلهم من فارس، ويقال: مولى بني تميم، فقيه مشهور، من السادسة، مات سنة 150هـ على الصحيح/ ع. (التقريب563) . وقال الحافظ الذهبي: "ضَعَّفَهُ النسائي من قِبَلِ حفظه، وابن عدي، وآخرون". (الميزان: 4/265) . (1/324) ح 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 وأخرجه الدارقطني1 من طريق: أبي حنيفة والحسن بن عمارة2، عن موسى بن أبي عائشة به. وقد أَعَلَّ الأئمة هذا الطريق بأنَّ الصواب فيه الإرسال، ليس فيه ذِكْرُ جابر بن عبد الله. قال أبو حاتم: "ولا يختلف أهل العلم أن من قال: موسى بن أبي عائشة، عن جابر. أنه قد أخطأ. قال ابن أبي حاتم: قلت: الذي قال عن موسى بن أبي عائشة عن جابر فأخطأ هو النعمان بن ثابت؟ قال: نعم"3. وقال الدارقطني: "لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غيرُ أبي حنيفة والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان"4. وقال مرةً عن رواية أبي حنيفة: "ولم يذكر في هذا الإسناد جابراً غير أبي حنيفة"5. وقال مرةً: " ... وروى هذا الحديث: سفيان الثوري، وشعبة، وإسرائيل بن يونس، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وأبو الأحوص، وسفيان بن عيينة، وجرير ابن عبد الحميد وغيرهم، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد مرسلاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب"6. وفي (الكامل) 7 لابن عَدِيّ   (1/325) ح 5. 2 البَجَلِي مولاهم، أبو محمد الكوفي، قاضي بغداد، مَتْرُوكٌ، من السابعة، مات سنة 153هـ/ ت ق. (التقريب 162) . 3 علل ابن أبي حاتم: (1/104) ح 282. 4 سنن الدارقطني: (1/323) . 5 المصدر السابق: (1/325) . 6 المصدر السابق: (1/325) . (2/706) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 قريب من كلام الدارقطني هذا. وذكر البيهقي - رحمه الله - نحواً من ذلك1. وقد ذهب محقق كتاب (نصب الراية) 2 إلى أن أبا حنيفة تُوبِعَ على هذه الرواية المسندة، تابعه على ذلك سفيان الثوري، وشريك بن عبد الله القاضي فيما رواه أحمد بن منيع في (مسنده) : أخبرنا إسحاق الأزرق، حَدَّثَنَا سفيان وشريك، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شَدَّاد، عن جابر مرفوعاً به. قلت: ولعل هذه الرواية هي التي أشار إليها البُوصيري بقوله: " ... لكن رواه أحمد بن منيع، وعبد بن حميد بسندٍ صحيح بَيَّنْتُهُ في زوائد المسانيد العشرة"3. قال الشيخ الألباني: "وهذا سند ظاهره الصحة ... وهو عندي معلول؛ فقد ذَكَرَ ابن عدي، وكذا الدارقطني والبيهقي أن سفيان الثوري وشريكاً روياه مرسلاً دون ذكر جابر، فذكر جابر في إسناد ابن منيع وَهْمٌ، وأظنه من إسحاق الأزرق، فإنه وإن كان ثقة فقد قال فيه ابن سعد: "ربما غلط" ... وهذا هو الذي تسكن إليه النفس وينشرح له القلب: أن الصواب فيه أنه مُرْسَلٌ، ولكنه مرسلٌ صحيح الإسناد"4.   1 السنن: (2/160) . (2/7) حاشية رقم 5. 3 مصباح الزجاجة: (1/106) . 4 إرواء الغليل: (2/272) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 قلت: وقد رُوِيَ عن أبي حنيفة مرسلاً كرواية الأكثرين؛ فقد قال البيهقي رحمه الله - بعد أن أخرج الرواية المتصلة -: "هكذا رواه جماعة عن أبي حنيفة موصلاً، ورواه عبد الله بن المبارك عنه مرسلاً دون ذكر جابر، وهو المحفوظ". ثم أخرج بإسناده إلى عبد الله بن المبارك قال: أنبأنا سفيان وشعبة وأبو حنيفة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شَدَّاد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً1. فيكون قد اخْتُلِفَ على أبي حنيفة - رحمه الله - في إسناده، فيُخْتَار من روايتيه ما وافق رواية الجمهور، وما صَحَّحَه الأئمة أهل هذا الشأن، وهي رواية الإرسال، ويُحْكَمُ على الرواية المتصلة بالخطأ لتفرده بها دون سائر الرواة، ومتابعة الحسن بن عمارة - المتروك - له لا تنفعه. فالحاصل: أن حديث جابر هذا معلول بطريقيه المذكورين، وقد رُوي من طرق أخرى غير التي ذكرنا، وهي ضعيفة أيضاً. وقد رُوي هذا الحديث عن غير جابر، فَرُوِيَ عن ابن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي الدرداء، وأنس، وعلي، ولا تخلو من ضعف، قال الحافظ ابن حجر: "وله طرق عن جماعة من الصحابة، وكلها معلولة"2. وقد تقدم قول أبي موسى الرازي: "لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيءٌ، وقد استوفى الكلام على طرقه: الزيلعي في (نصب   1 سنن البيهقي: (2/159 - 160) . 2 التلخيص الحبير: (1/232) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 الراية) 1. والألباني في (إرواء الغليل) 2. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث جابر هذا لا يصحُّ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ما بين موقوف عليه أو مرسل، أرسله عبد الله بن شَدَّاد، وما رُوِيَ فيه عن غير جابر رضي الله عنه معلولٌ أيضاً لا يثبت فيه شيء. وقد أَعَلَّهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - بالوقف والإرسال كما تقدم كلامه في ذلك.   (2/7 - 12) . (2/268 - 277) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 6- باب في التأمين بعد الفاتحة، والجهر بها ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس، 21- (6) عن وائل بن حُجْرٍ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: ولا الضالين قال: آمين، ورفع بها صوته"وفي لفظ: " وطَوَّلَ بها ". ثم قال رحمه الله: "رواه الترمذي وغيره، وإسناده صحيح، وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث فقال: "وخَفَضَ صوته" وحَكَم أئمة الحديث وحُفَّاظُهُ في هذا لسفيان ... "1. قلت: ورواية سفيان هذه أخرجها أبو داود في (سننه) 2، والترمذي في (جامعه) 3، وأحمد في (مسنده) 4، ومسلم في (التمييز) 5، والدارقطني في (سننه) 6 من طرق، عن: سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل7، عن حجر بن عنبس8، عن وائل به.   1 إعلام الموقعين: (2/396) . (1/574) ح 932. ك الصلاة، باب التأمين وراء الإمام. (2/27) ح 248. ك الصلاة، باب ما جاء في التأمين. (4/315 - 316) . (ص 180) ح 37. (1/333 - 334) ح 1 - 3. 7 الْحَضْرَمي، أبو يحيى الكوفي، ثقة، من الرابعة/ ع. (التقريب 248) . 8 الحضرمي، الكوفي، صدوق مخضرم، من الثانية/ ر د ت. (التقريب 154) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 قال أبو عيسى الترمذي: "حديث حسن". وقال الدارقطني: "صحيح". وقال الحافظ ابن حجر: "وسنده صحيح"1. وأما رواية شعبة: فأخرجها: أحمد في (مسنده) 2، والدارقطني في (سننه) 3، والحاكم في (المستدرك) 4 وقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وقد أُعِلَّ هذا الحديث بأربعة أمور ذكرها ابن القطان5، ولخصها ابن القَيِّم في (تهذيب السنن) 6 وهي: - الأول: مخالفة شعبة سفيان حيث قال: "وخَفَضَ بها صَوْتَهُ". - الثاني: اختلافهما كذلك في اسم "حجر" فسفيان يقول: "حجر ابن عَنْبَس" وشعبة يقول: "حجر أبو العَنْبَس". وقال البخاري: "الصواب: أبو السَّكَن". - الثالث: زاد شعبة في إسناده "علقمة بن وائل" بين حجر بن عنبس، ووائل بن حجر. - الرابع: جهالة حال حجر بن عنبس.   1 التلخيص الحبير: (1/236) . (4/316) . (1/334) ح4. (2/232) . 5 بيان الوهم والإيهام: (3/374 - 375) . (1/ 438 - 439) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 وقد سبق ابن القطان إلى القول بذلك: البخاري1، والدارقطني2، حيث حكما بخطأ شعبة في هذه الأمور، وترجيح رواية سفيان، وقال الإمام مسلم: "أخطأ شعبة في هذه الرواية حين قال: وأخفى صوته"3. وقال الأثرم: "اضطرب فيه شعبة في إسناده ومتنه، ورواه سفيان فَضَبَطَهُ، ولم يضطرب في إسناده ولا في متنه"4. وقال أبو زرعة: "حديث سفيان أصح من حديث شعبة"5. وأما العلة الرابعة، وهي جهالة حجر بن عَنْبس، فهي مما تَفَرَّدَ به ابن القطان، ولم يشاركه في ذلك أحدٌ فيما أعلم. وقد سَلَكَ ابن القَيِّم - رحمه الله - طريق الترجيح، فاختار ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة من تقديم رواية سفيان الثوري، والحكم على رواية شعبة بالخطأ6. وقد ذكر - رحمه الله - وجوهاً لترجيح رواية سفيان7 تتَلَخَّصُ فيما يلي: 1 - أن سفيان أحفظ من شعبة فوجب تقديم روايته. ونقل عن   1 كما في علل الترمذي: (1/217 - 218) . 2 في سننه: (1/334) . 3 التمييز: (ص180) . 4 التلخيص الحبير: (1/237) . 5 علل الترمذي: (1/218) . 6 إعلام الموقعين: (2/396) . 7 إعلام الموقعين: (2/396 - 397) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 البيهقي قوله: "لا أعلم اختلافاً بين أهل العلم بالحديث: أن سفيان وشعبة إذا اختلفا فالقول قول سفيان ... وقال شعبة: سفيان أحفظ مني". 2 - أن العلاء بن صالح1، ومحمد بن سلمة بن كهيل2 تابعا سفيان على روايته عن سلمة. وهذا الوجه ذكره الدارقطني في (سننه) 3. قلت: أما رواية العلاء - ويقال عليّ - بن صالح: فأخرجها أبو داود في (سننه) 4، والترمذي في (جامعه) 5. وهذا الإسناد لا يَقِلُّ عن درجة الحسن إن لم يكن صحيحاً. وأما رواية محمد بن سلمة: فقد أشار إليها الدارقطني في (سننه) 6، ومحمد بن سلمة ضعيف جداً. 3 - أنه قد رُوِي عن شعبة كرواية سفيان تماماً. رواه عن شعبة: أبو الوليد الطيالسي، قال ابن القَيِّم: "وحسبك به".   1 التيمي، أو الأسدي، الكوفي، صدوق له أوهام، من السابعة / د ت س. (التقريب 435) . 2 قال الجوزجاني: "ذاهب الحديث". (أحوال الرجال ص62) ، وانظر الميزان: (3/568) . (1/334) . (1/574) ح 933. (2/29) ح 249. (1/334) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وهذه الرواية أخرجها البيهقي في (سننه) 1. قال ابن القَيِّم: "قال البيهقي: فيحتمل أن يكون تَنَبَّهَ لذلك فعاد إلى الصواب في متنه، وترك ذكر علقمة في إسناده". قلت: أما في المتن فيحتمل، وأما في السند فقد روي من طريق شعبة - أيضاً - وفيه تصريح حجر أبي العنبس بسماعه من علقمة، ومن أبيه وائل، وذلك فيما أخرجه أبو داود الطيالسي في (مسنده) 2: حدثنا شعبة، قال: أخبرني سلمة بن كهيل، قال: سمعت حجراً أبا العنبس، قال: سمعت علقمة بن وائل - وقد سمعت من وائل - أنه صلى الله عليه وسلم ... فذكره. وأفاد ابن حجر3 أنه رواه كذلك أبو مسلم الكجي في (سننه) . 4 - أن الحاكم روى من حديث أبي هريرة بإسنادٍ صحيح أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فَرَغَ من قراءة أُمِّ القرآن رَفَعَ صوته بآمين". قلت: والحديث في (المستدرك) 4 من طريق: الزبيدي، عن الزهري، عن أبي سلمة وسعيد، عن أبي هريرة به. قال أبو عبد الله: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وهذا شاهد قويٌّ لحديث وائل بن حجر في أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته بآمين، لا كما قال شعبة.   (2/58) . 2 ح رقم (1024) . 3 التلخيص الحبير: (1/237) . (1/223) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 قال الإمام مسلم: "قد تواترت الروايات كلها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جَهَرَ بآمين. وقد رُوي عن وائل ما يدل على ذلك"1. يشير - رحمه الله - إلى رواية وائل المتقدمة التي فيها: "ورَفَعَ بها صوته". هذا حاصل ما ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - من مُرَجِّحَاتٍ لرواية سفيان. وأما الحافظ ابن حجر - رحمه الله - فقد لجأ إلى التوفيق بين هذه الروايات، ولم ير وقوع التعارض إلا في (رَفَع) و (خَفَضَ) فقط: ففيما يتعلق بقول شعبة: (أبو العنبس) وتخطئة البخاري له، وأن الصواب في كنيته (أبو السكن) : فقد أفاد ابن حجر أن ابن حبان ذكر في (الثقات) أن كنيته (أبو العبنس) كاسم أبيه، ثم قال: "ولا مَانِعَ أن يكونَ له كنيتان". وفيما يتعلق بإدخال شعبة "علقمة بن وائل" بين حجر ووائل: فقد ذكر رواية الطيالسي، وأبي مسلم الكَجِّي، وفيهما تصريح حُجْر بسماعه منهما، قال ابن حجر: "فبهذا تنتفي وجوه الاضطراب عن هذا الحديث، وما بقي إلا التعارض الواقع بين شعبة وسفيان في (الرفع) ، (والخفض) ، وقد رُجِّحَتْ رواية سفيان بمتابعة اثنين له، بخلاف شعبة، فلذلك جَزَم النُّقَّادُ بأن روايته أصحُّ"2. هذا ما يتعلق بالاختلاف الواقع في سنده ومتنه.   1 التمييز: (ص181) . 2 التلخيص الحبير: (1/237) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وأما ما ذكره ابن القطان من جهالة حجر: فلم يتعرض له ابن القَيِّم بشيء، ولكن أجاب عنه ابن حجر، فقال: "وأَعَلَّهُ ابن القطان بحجر بن عنبس، وأنه لا يُعرف، وأخطأ في ذلك، بل هو ثقة معروف، قيل: له صحبة، ووثقه يحيى بن معين وغيره"1. فَتَلَخَّصَ: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد وُفِّقَ في حُكمه بصحة إسناد هذا الحديث، وترجيحه رواية سفيان على رواية شعبة، والله أعلم.   1 التلخيص الحبير: (1/236 - 237) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 7- باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع قال ابن القَيِّم - رحمه الله - عند كلامه على صِفَةِ رَفْعِهِ صلى الله عليه وسلم من الركوع، وما يقوله عند ذلك: " ... وربما قال: اللهم رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. صَحَّ ذلك عنه، وأما الجمع بين " اللهم "و" الواو ": فلم يصح"1. كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، ولكنَّ الأمر على خلاف ذلك؛ إذ ثبت الجمع بين "اللهم" و "الواو" في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة، وابن عمر، وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فقد أخرجه البخاري في (صحيحه) 2، من طريق: ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري. وعبد الرزاق في (مصنفه) 3- ومن طريقه: النسائي في (سننه) 4، وأحمد في (مسنده) 5 - من طريق: الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، كلاهما عن: 22- (7) أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا ولك الحمد". لفظ عبد الرزاق، وعند البخاري زيادة، وهي قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع وإذا رفع رأسه   1 زاد المعاد: (1/220) . 2 ك الأذان، باب ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع. ح 795. (فتح الباري 2/282) . (2/165) ح 2912. (2/195) ك الافتتاح، باب ما يقول الإمام إذا رفع رأسه من الركوع. (2/270) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 يُكَبِّرُ، وإذا قام من السجدتين قال: الله أكبر". وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "فقد أخرجه الدارمي في (مسنده) 1 من طريق: مالك، عن ابن شهاب الزهري، عن سالم، عن: 23- (8) ابن عمر رضي الله عنهما، في ذكر مواضع رفع اليدين في الصلاة، وفيه: " ... وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك، وقال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا ولك الحمد". وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم أئمة أثبات. فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن هذا الحديث - بالجمع بين (اللهم) و (الواو) صحيح ثابت في دواوين السنة المشهورة، ولذلك فإن نَفَي ابن القَيِّم - رحمه الله - لصحة ذلك فيه نظر، ولعله - رحمه الله - لم يَقِفْ على هذه الروايات الصحيحة، فالله أعلم. ولأجل مقالته هذه، فقد تَعَقَّبَه ابن حجر رحمه الله، فقال - عقب حديث البخاري السالف -: "وفيه ردٌّ على ابن القَيِّم، حيث جَزَمَ بأنه لم يَرِدْ الجمع بن (اللهم) و (الواو) في ذلك"2. ونبَّه على ذلك أيضاً: الشيخ الألباني رحمه الله، فقال: "وقد سَهَا ابن القَيِّم - رحمه الله - فأنكر في الزاد صحة هذه الرواية الجامعة بين (اللهم) و (الواو) ، مع أنها في صحيح البخاري ... "3.   (1/242) ح 1314 ك الصلاة، باب القول بعد رفع الرأس من الركوع. 2 فتح الباري: (2/283) . 3 صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: (ص80) حاشية 7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 8- باب أول ما يقع من الإنسان على الأرض عند السجود قال ابن القَيِّم رحمه الله - عند كلامه على صفة سجوده صلى الله عليه وسلم -: "وكان صلى الله عليه وسلم يضعُ ركبتيه قبل يديه، ثم يديه بعدهما، ثم جبهته وأنفه، هذا هو الصحيح ... " ثم ذكر ما يؤيد ذلك، ويدل عليه، وهو حديث: 24- (9) وائل بن حجر رضي الله عنه، أنه قال: "رأيتُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيهِ قَبْل يديه، وإذا نَهَضَ رفع يديه قبل رُكْبَتَيْهِ". ثم قال رحمه الله: "ولم يُرو في فعله ما يخالف ذلك"1. وقال في موضع آخر: "وقد صححه ابن خزيمة، وأبو حاتم بن حبان، والحاكم"2. قلت: هذا الحديث أخرجه أصحاب (السنن الأربعة) 3، والدارمي في (مسنده) 4، وابن خزيمة، وابن حبان في (صحيحهما) 5، والدارقطني،   1 زاد المعاد: (1/223) . 2 تهذيب السنن: (1/397) . 3 د: (1/524) ح 838، ك الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟. ت: (2/56) ك الصلاة، باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود. س: (2/206) ك الافتتاح، باب أول ما يصلُ إلى الأرض من الإنسان في سجوده، و (2/234) باب رفع اليدين عن الأرض قبل الركبتين. جه: (1/286) ح 882 ك إقامة الصلاة والسنة فيها، باب السجود. (1/245) ح 1326 ك الصلاة، باب أول ما يقع من الإنسان على الأرض ... 5 خز: (1/318) ح626، و (1/319) ح629. حب: الإحسان: (3/190) ح1909. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 والبيهقي في (سننيهما) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، والحازمي في (الاعتبار) 3 كلهم من طريق: يزيد بن هارون، عن شريك، عن عاصم بن كليب4، عن أبيه5، عن وائل بن حجر رضي الله عنه به. والحديث بهذا الإسناد ضعيف لأجل شريك بن عبد الله؛ فإنه سيئ الحفظ، كثير الخطأ، يغلط في حديثه، كما شهد عليه بذلك غير واحد من أئمة النقد: كيحيى القطان، وابن معين، وأبي حاتم، والجوزجاني، وغيرهم6. ولذلك قال يحيى بن معين: "إذا خالف فغيره أحبُّ إلينا منه"7. وسيأتي من كلام الدارقطني مثل ذلك، وقد خُولف شريك في هذا الحديث، فرواه غيره على غير هذا الوجه كما سيأتي بيانه. وقد أشار الأئمة إلى تفرد شريك به، فقال الترمذي: "حديث حسن غريب، لا نعرف أحداً رواه مثل هذا عن شريك". وفي بعض نسخ   1 قط: (1/345) ح 6. هق: (2/98) . (1/226) . (ص 80) باب ما ذكر في وضع اليدين قبل الركبتين. 4 ابن شهاب بن المجنون الجَرْمي، الكوفي، صدوقٌ رُمِيَ بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة بضع وثلاثين ومائة/ خت م 4. (التقريب 286) . 5 كليب بن شهاب الجرمي، صدوق، من الثانية، ووهم من ذكره من الصحابة/ي 4. (التقريب462) . 6 انظر: الميزان: (2/270 - 271) ، وتهذيب التهذيب: (4/333 - 337) . 7 الميزان: (2/270) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 الترمذي: " ... غير شريك". وهو الأنسب. وقال في (العلل) 1: "قال يزيد - يعني ابن هارون -: لم يرو شريك، عن عاصم بن كليب إلا هذا الحديث الواحد". قال الترمذي عقبه: " ... وشريك بن عبد الله كثير الغلط والوهم". وقال النسائي: "لم يقل هذا عن شريك غيرُ يزيد بن هارون"2. وقال الدارقطني: "تفرد به يزيد عن شريك، ولم يحدث به عاصم بن كليب غير شريك، وشريك ليس بالقوي فيما يتفرد به"3. وقال البيهقي: "هذا حديث يُعَدُّ في أفراد شريك القاضي"4. وقد حَكَمَ بتفرد شريك به أيضاً: البخاري، وابن أبي داود، كما في (التلخيص الحبير) 5. وقد خُولف شريك - مع ذلك - في إسناد حديثه هذا، فأخرجه أبو داود في (سننه) 6، والبيهقي7 كذلك، من طريق: هَمَّام، عن شقيق8، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ليس فيه ذكر "وائل بن حجر". وأشار الترمذي - رحمه الله - إلى هذا المرسل، فقال: "وَرُوِيَ   (1/220 - 221) . 2 السنن: (2/234 - 235) . 3 السنن: (2/345) . 4 السنن: (2/99) . (1/254) . (1/524 - 525) ح 839. (2/99) . 8 أبو ليث، مجهول، من السادسة /د. (التقريب 268) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 هَمَّام بن يحيى، عن شقيق ... " ثم قال: "وشريك بن عبد الله كثير الغلط والوهم"1. فكأنه يشير إلى تقديم المرسل. وقال البيهقي: " ... وإنما تابعه همام من هذا الوجه مرسلاً، هكذا ذكره البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين"2. وقال الحازمي - بعد أن حَسَّنَ حديث وائل المتصل-: "قال هَمَّام: وحدثنا شقيق ... مرسلاً، وهو المحفوظ"3. وحديث هَمَّامٍ هذا مع إرساله، فإن في إسناده رجلاً مجهولاً، وهو شقيق أبو ليث. وقد رُوِي الموصول من وجه آخر عن وائل بن حجر رضي الله عنه، فأخرجه أبو داود في (سننه) 4، وكذا البيهقي5 من طريق: همام، عن محمد بن جُحادة6، عن عبد الجبار بن وائل7، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: " ... فلما أراد أن يسجد، وقعت ركبتاه على الأرض قبل أن تقع كَفَّاه". ولكنَّ هذه الطريق معلولة؛ فإن عبد الجبار لم يسمع من أبيه، أعَلَّهُ   1 علل الترمذي: (1/221) . 2 سنن البيهقي: (2/99) . 3 الاعتبار: (ص80) . (1/524) ح 839. (2/98) . 6 ثقة، من الخامسة، مات سنة 131 هـ / ع. (التقريب 471) . 7 ابن حُجْر، ثقة لكنه أرسل عن أبيه، من الثالثة، مات سنة 112 هـ / م 4. (التقريب 332) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 بذلك ابن حجر1. وقد نصَّ الأئمة على عدم سماعه من أبيه، فقال ابن معين: "لم يسمع من أبيه شيئاً، إنما كان يُحَدِّثُ عن أهل بيته عن أبيه"2. وقال البخاري: "لم يسمع من أبيه، وُلِدَ بعد موت أبيه"3. وقال ابن حبان: "ومن زعم أنه سمع أباه فقد وَهِمَ؛ لأن وائل بن حجر مات وأمه حامل به، ووضعته بعد موت وائل بستة أشهر"4. وقال بذلك غير هؤلاء5. وأخرجه البيهقي6 أيضاً: عن محمد بن حجر، عن سعيد بن عبد الجبار7، عن عبد الجبار بن وائل، عن أمه، عن وائل بن حجر رضي الله عنه، أنه قال: "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سَجَدَ وكان أولُ ما وصلَ إلى الأرض ركبتاه". فهل يصير الإسناد بذلك متصلاً؟ قال ابن حجر في (تهذيبه) 8 - عند ذكره شيوخ عبد الجبار بن وائل-: " ... وعن أمه أم يحيى، وقيل: لم يسمع من أبويه". ولقائل أن يقول: لم يَجْزِمْ ابن حجر هنا بعدم سماع عبد الجبار من أمه، وإنما نقل   1 التلخيص الحبير: (1/254) . 2 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/340) . 3 علل الترمذي: (2/619) . 4 الثقات: (7/135) . 5 انظر: تهذيب التهذيب: (6/105) . 6 السنن: (2/99) . 7 ابن وائل بن حجر، الحضرمي، الكوفي، ضعيف، من السابعة، مات سنة 158هـ / تمييز. (التقريب 238) . (6/105) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 ذلك بصيغة تمريض، مما يجعل احتمال الضعف يتطرق إلى هذا القول؟ ويجاب عن ذلك: بأنه لو سُلِّمَ القول بالاتصال، فإنه يبقى الإسناد ضعيفاً من جهة أخرى؛ ذلك أن محمد بن حجر - ابن أخي سعيد بن عبد الجبار - ضعيف، قال أبو حاتم: "شيخ"1 وقال البخاري: "فيه نظر"2. وقال ابن حبان: "يروي3 عن عمه سعيد بن عبد الجبار، عن أبيه عبد الجبار، عن أبيه وائل بن حجر بنسخة منكرة ... لا يجوز الاحتجاج به"4. وقال الذهبي: "له مناكير"5. وعمه سعيد بن عبد الجبار - شيخه في هذا الإسناد - ضعيف أيضاً، قال النسائي: "ليس بالقويِّ"6. فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن هذا الإسناد دائر بين الانقطاع والضعف، لا ينفك عنه واحدٌ منهما. فالحاصل: أن حديث وائل بن حُجْر هذا ضعيف؛ لِتَفَرّدِ شريك به، ومخالفة غيره له، ولا حُجَّةَ فيما ينفرد به، وما وُجِدَ من طرق أخرى لحديثه: فهي تدور بين الضعف والانقطاع.   1 الجرح والتعديل: (3/2/239) . 2 التاريخ الكبير: (1/1/69) . 3 بمعنى: "يُحَدِّث"، ولذلك قال: "بنسخة" فعدَّاها بالباء. 4 المجروحين: (2/273) . 5 الميزان: (3/511) . 6 الضعفاء والمتروكين: (ص52) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وأما اعتماد ابن القَيِّم في ذلك على تصحيح الحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان: فإنه مُعَارضٌ بتضعيف من ضَعَّفَهُ من الأئمة المتقدم كلامهم، ولم يقل أحدٌ: إن كلَّ ما أخرجوه في كتبهم صحيح، بل وُجِدَت عندهم أحاديث ضعيفة، على تفاوت بينهم، ومع ذلك: فإن قول الحاكم عقب هذا الحديث: "قد احتج مسلم بشريك ... " غير مُسَلَّمٍ؛ لأن مسلماً لم يُخرج له إلا متابعة1. وسيأتي أن الحاكم - رحمه الله - لم يأخذ بحديث شريك هذا، مع تصحيحه إياه. وقد ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - شاهداً لحديث وائل بن حجر، وهو حديث: 25- (10) أنس رضي الله عنه، أنه قال: " رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم انْحَطَّ بالتكبير، حَتَّى سَبَقَت رُكْبَتَاه يَدَيه". عزا ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث للحاكم، ونقل عنه قوله: "على شرطهما، ولا أعلم له عِلَّة". ثم نقل عن أبي حاتم أنه أنكره، ثم قال: "وإنما أنكره - والله أعلم - لأنه من رواية العلاء بن إسماعيل العطَّار، عن حفص بن غياث، والعلاء هذا مجهول، لا ذكر له في الكتب السِّتة"2.   1 انظر: الميزان: (2/274) . 2 زاد المعاد: (1/228 - 229) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في (سننه) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، والبيهقي في (السنن) 3، والحازمي في (الاعتبار) 4 - من طريق الدارقطني - كلهم من طريق: العباس بن محمد الدوري، عن العلاء بن إسماعيل العطار، عن حفص بن غياث، عن عاصم الأحول، عن أنس رضي الله عنه، قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ فحاذى بإبهاميه أذنيه، ثم ركع حتى اسْتَقَرَّ كل مفصل منه في موضعه، ورفع رأسه حتى استقرَّ كل مفصل منه في موضعه، ثم انحطَّ بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه". هذا لفظ الدارقطني، والبيهقي. ولفظ الحاكم مثلهم إلا أنه ليس عنده قوله " ورفع رأسه ... ". ولفظ الحازمي مختصر، وهو الذي أورده ابن القَيِّم رحمه الله. قال أبو عبد الله الحاكم: "إسناد صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له عِلَّةً، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، كذا قالا رحمهما الله، وسكت عنه الحازمي مُؤَيِّدَاً! ولكن الأمر على خلاف ذلك؛ فقد سُئِلَ عنه أبو حاتم؟ فقال: "هذا حديث منكر"5. وقال الدارقطني: "تفرد به العلاء بن إسماعيل، عن حفص بهذا الإسناد". وكذا قال البيهقي، زاد ابن حجر: "وهو مجهول"6.   (1/345) ح 7. (1/226) . (2/99) . (ص 80) . 5 علل ابن أبي حاتم: (1/188) ح 539. 6 التلخيص الحبير: (1/254) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 والعلاء بن إسماعيل هذا لم أجد له ترجمةً فيما بين يديَّ من كتب الرجال، ولكن ذكره ابن حجر في (لسان الميزان) 1 فلم يزد على أن ذكر فيه قول ابن القَيِّم: "مجهول"، وكلمة أبي حاتم في نكارة هذا الحديث، ثم قال: "وخالفه عمر بن حفص بن غياث - وهو من أثبت الناس في أبيه - فرواه عن أبيه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة وغيره، عن عمر موقوفاً عليه، وهذا هو المحفوظ". فَلَتَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث منكر بإسناد فيه رجلٌ مجهول، وقد تَفَرَّدَ به، فأنى له أن يكون على شرط الشيخين؟! وإذا كان كذلك، فإنه لا قَيِّمة لهذا الشاهد في تقوية حديث وائل ابن حجر، بل إنه باقٍ على ضعفه. ثم انتقل ابن القَيِّم بعد ذلك إلى الأحاديث التي تعارض حديث وائل بن حجر المتقدم، فذكر منها: 26 - (11) حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا سَجَدَ أَحَدُكُم، فَلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فالحديث - والله أعلم - قد وَقَعَ فيه وَهْمٌ من بضع الرواة؛ فإن أَوَّلَهُ يُخالف آخره، فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه، فقد بَرَكَ كما يبرك البعير، فإن البعير إنما يضع يديه أولاً"2.   (4/182 - 183) . 2 زاد المعاد: (1/223 - 224) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 ثم أخذ في الرد على من يقولون: إن رُكْبَتَي البعير في يديه، وأنه إذا بَرَك وضع ركبتيه أولاً، ولهذا نُهِيَ عن التشبه به. وأخذ - رحمه الله - في بيان فساد هذا القول، وأن ذلك غير معروف في اللغة، ثم ذكر بعد ذلك: أن البخاري، والترمذي، والدارقطني ضَعَّفُوا حديث أبي هريرة هذا1. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي في (سننيهما) 2، وأحمد، والدارمي في (مسنديهما) 3، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 4، والبخاري في (التاريخ الكبير) 5، والحازمي في (الاعتبار) 6، كلهم من طريق: عبد العزيز بن محمد الدَّراوردي7، عن محمد بن عبد الله بن حسن8، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وعند الدارمي زيادة وهي: قيل لعبد الله - لعله الدارمي -: ما تقول؟ قال: "كله   1 زاد المعاد: (1/228) . 2 د: (1/525) ح 840. س: (2/207) . 3 حم: (2/381) . مي: (1/245) ؛ 1327. 4 قط: (1/344 - 345) ح 3، 4. هق: (2/99) . (1/1/139) . (ص 79) . 7 أبو محمد الجهني مولاهم، المدني، صدوق كان يُحَدِّثُ من كتب غيره فيخطئ، قال النسائي: حديثه عن عبيد الله العُمَري منكر، من الثامنة، مات سنة 186، أو 187 هـ / ع. (التقريب 358) . 8 ابن حسن بن علي الهاشمي، المدني، يلقب بـ "النفس الزكية"، ثقة، من السابعة، قتل سنة 145هـ، وكان خرج على المنصور، وغلب على المدينة، وتسمى بالخلافة، فقتل/ د ت س. (التقريب 487) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 طَيِّب"1. وقال: "أهل الكوفة يختارون الأول". وأخرجه أبو داود - ومن طريقه البيهقي2 - والترمذي، والنسائي في (سننهم) 3 من طريق: عبد الله بن نافع4، عن محمد بن عبد الله بن حسن، بالإسناد السابق إلى أبي هريرة رضي الله عنه، لكن بلفظ: "يعمد أَحَدَكُم في صلاته فيبرك كما يبرك الجمل؟! " هكذا بدون ذكر تقديم اليدين. وقد أَعَلَّ قومٌ حديث أبي هريرة هذا: فقال البخاري في ترجمة محمد بن عبد الله بن حسن: "ولا يتابع عليه، ولا أدري سمع من أبي الزناد أم لا؟ "5. وقال الترمذي عقبه: "حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه". وقال الدارقطني: "تَفَرَّد به الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن حسن ... "6. وقال الحازمي مثل قول الترمذي، وزاد: "وهو على شرط أبي داود، والترمذي، والنسائي، أخرجوه في كتبهم"7. وقدَّمَ عليه الخطابي حديث   1 لعل الدارمي - رحمه الله - يُنَبِّهُ بذلك إلى أن فِعْل ما هو خلاف الراجح لا ينبغي أن يكون موضع إنكار. 2 في سننه: (2/100) . 3 د: (1/525) ح 841. ت: (2/57) ح 269. س: (2/207) . 4 الصائغ المخزومي مولاهم، أبو محمد، المدني، ثقةٌ صحيح الكتاب، في حفظه لِيْنٌ، من كبار العاشرة، مات سنة 206هـ وقيل بعدها/ بخ م 4. (التقريب 326) . 5 التاريخ الكبير: (1/1/139) . 6 مختصر السنن للمنذري: (1/399) . 7 الاعتبار: (ص79) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 وائل بن حجر، فقال: "حديث وائل بن حجر أثبت من هذا"1. والجواب عن ذلك: - أما تفرد محمد بن عبد الله بن حسن به: فإن ذلك لا يَضُرُّه شيئاً؛ لأن محمداً ثقة، وثَّقَهُ النسائي2، وذكره ابن حبان في (الثقات) 3. صحيح أنه ليس في الدرجة العليا من التوثيق - فإنني لم أر أحداً وثقه غير النسائي، مع كلام البخاري في سماعه من أبي الزناد، وذكر ابن أبي حاتم له في (الجرح والتعديل) 4 ساكتاً عنه، وإدخال الذهبي له في كتابه (المغني في الضعفاء) 5 - لكنه مع ذلك أحسن حالاً من شريك، راوي حديث وائل بن حجر المتقدم، وقد اختار الحافظ ابن حجر - رحمه الله - توثيقه، فقال: "ثقة". وقال ابن التركماني: "وقول البخاري: "لا يُتابع على حديثه". ليس بصريح في الجرح، فلا يعارض توثيق النسائي"6. - وأما القول بعدم سماع محمد بن عبد الله هذا من أبي الزناد: فإن البخاري - رحمه الله - لم يجزم به كما مضى كلامه، وعلى فرض جزم البخاري بذلك، فإنما هو على مذهبه في اشتراط ثبوت اللقاء، قال   1 معالم السنن: (1/398) . 2 تهذيب التهذيب: (9/252) . (9/40) . (3 / 2 / 295) . (2/596) . 6 الجوهر النقي: (2/100) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 الشيخ الألباني في (إرواء الغليل) 1: "وليس ذلك بشرط عند جمهور المحدثين، بل يكفي عندهم مجرد إمكان اللقاء، مع أمن التدليس ... وهذا متوفر هنا، فإن محمد بن عبد الله لم يُعرف بتدليس، ثم هو قد عاصر أبا الزناد وأدركه زماناً طويلاً، فإنه مات سنة (145هـ) وله من العمر: (53) ، وشيخه أبو الزناد مات سنة (130) ، فالحديث صحيحٌ لا ريب فيه". كذا قال الشيخ الألباني، وقد تقدم رُجْحان مذهب البخاري في ذلك. وأما قول الدارقطني بتفرد الدراوردي به عن محمد بن عبد الله بن حسن: فليس كذلك، قال الحافظ المنذري: "وفيما قاله الدارقطني نظرٌ؛ فقد روى نحوه عبد الله بن نافع، عن محمد بن عبد الله بن حسن، وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي من حديثه"2. قلت: وقد مضى قبل قليل تخريج هذا الطريق، وهو وإن كان أخصر من لفظ الدراوردي، إلا أنه يشهد له في الجملة، وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: "يعمد أحدكم فيبرك في صلاته برك الجمل". يفسره حديث الدراوردي، وأن عدم التشبه بالبعير يقتضي تقديم اليدين في السجود. ومما يؤكد عدم ثبوت العلل التي رُمي بها إسناد هذا الحديث: أنه قد صححه جماعة من الأئمة: فصححه عبد الحق، وقال: "إنه أحسن إسناداً من حديث وائل بن حجر"3. وقال النووي: "إسناده جَيِّد"4. وكذا قال   (2/79) . 2 مختصر السنن: (1/399) . 3 إرواء الغليل: (2/78) . 4 المجموع: (3/362) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 الزرقاني1. وقال الحافظ ابن حجر: "وهو أقوى من حديث وائل بن حُجْر"2. ورمز له السيوطي بالصحة3. وقال العلامة أحمد شاكر: "والظاهر من أقوال العلماء في تعليل الحديثين: أن حديث أبي هريرة هذا حديث صحيح، وهو أصحُّ من حديث وائل، وهو حديث قَوْلِيٌّ يرجح على الحديث الفِعْلِي ... "4. وصححه كذلك الشيخ الألباني5. وأما ما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من القول بوقوع قلبٍ في حديث أبي هريرة هذا، وأنه وَقَعَ فيه وهمٌ من بعض الرواة، ولعله: "وليضعْ ركبتيه قبل يديه": فقد استدلَّ على ذلك بأمور، منها: أولاً: أن أول الحديث يخالف آخره؛ وقد تقدم نقل كلامه في ذلك أول البحث. ثانياً: أنه قد رُوي عن أبي هريرة - كما قال ابن القَيِّم -رحمه الله- بلفظ: " إذا سجد أحدكم، فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفَحْل". فيتأ يَّدُ بذلك ما ذهب إليه ابن القَيِّم من حدوث القلب في متنه6. ثالثاً: أنه قد رُوي عن أبي هريرة - أيضاً - من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما   1 شرح المواهب: (7/320) . 2 بلوغ المرام مع سبل السلام: (1/316) ح 292. 3 الجامع الصغير مع فيض القدير: (1/373) ح 673. 4 التعليق على الترمذي: (2/58) . 5 الإرواء: (2/78) ، وتمام المنة (ص 193 - 196) . 6 زاد المعاد: (1/223 - 225) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 يوافق ذلك، وهو قوله: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه". فهذا يوافق حديث وائل بن حجر المتقدم في حكاية فعله صلى الله عليه وسلم1. رابعاً: أن حديث وائل بن حجر لم يُخْتَلفْ فيه، بينما حديث أبي هريرة قد اختلف فيه كما تقدم، فروي عنه ما يوافق حديث وائل بن حجر2. فهذا أبرز ما استدل به ابن القَيِّم - رحمه الله - على تأكيد دعوى القلب في هذا الحديث، ورجحان البداءة بالركبتين. والجواب عن ذلك من وجوه: - أما قوله: إن أهل اللغة لا يعرفون أن ركبتي البعير في يديه: فغير صحيح، فقد قال ابن منظور: "وركبة البعير في يده ... وركبتا يدي البعير: المفصلان اللذان يليان البطن إذا برك، وأما المفصلان الناتئان من خلف: فهما العرقوبان. وكل ذي أربع ركبتاه في يديه، وعرقوباه في رجليه"3. فإذا ثبت ذلك لغةً، فإن أول الحديث يوافق آخره ولا يخالفه، فيكون الساجد مأموراً بالنزول على يديه، مخالفاً بذلك فعل البعير الذي ينزل على ركبتيه، وحينئذٍ لا يكون لابن القَيِّم - رحمه الله - متعلق في ذلك من ناحية اللغة. - وأما الحديث الذي ساقه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: " إذا   1 زاد المعاد: (1/223 - 225) . 2 تهذيب السنن: (1/400) . 3 لسان العرب: (ص 1714 - 1715) مادة: ركب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه ... ": فحديث ضعيف لا تقوم بمثله حجة، أخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) 1 - كما عزاه ابن القَيِّم، وعزاه أيضاً: إلى الأثرم في (سننه) - والبيهقي في (سننه) 2، من طريق: محمد بن فضيل، عن عبد الله بن سعيد3، عن جَدِّهِ، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. قال البيهقي عقبه: "إلا أن عبد الله بن سعيد المقبري ضعيف". وقال الحافظ ابن حجر: "ولكن إسناده ضعيف"4. قلت: بل إنَّ هذا الإسناد شديد الضَّعْفِ؛ فإن عبد الله المقبري قال فيه أحمد، والفلاس، والدارقطني: "متروك". وكَذَّبَه يحيى بن سعيد، وقال الفلاَّس أيضاً: "منكر الحديث". وقال البخاري: "تركوه"5. فلا أدري كيف أورده ابن القَيِّم - رحمه الله - مورد الاحتجاج، مع معارضة الحديث الصحيح له؟ 6. وقد قلبَ الشيخ الألباني هذه الدعوى - دعوى القلب - على ابن القَيِّم رحمه الله؛ فقال في حديث المقبري هذا: "وأحسنُ الظنِّ بهذا الْمُتَّهَم أنه أراد أن يقول: فليبدأ بيديه قبل ركبتيه - كما في الحديث   (1/263) . (2/100) . 3 ابن أبي سعيد المقبري، أبو عبَّاد الليثي، مولاهم، المدني، متروكٌ، من السابعة/ت ق. (التقريب 306) . 4 فتح الباري: (2/291) . 5 تنظر أقوالهم هذه في (الميزان) : (2/429) . 6 مع أن ابن القَيِّم نفسه لم يرض بقول البيهقي في هذا الرجل: "ضعيف". فَتَعَقَّبَهُ قائلاً: "قلت: قال أحمد والبخاري: متروك"! (تهذيب السنن: 1/400) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 الصحيح - فانقلب عليه، فقال: بركبتيه قبل يديه"1. - وأما ما استدل به ابن القَيِّم من رواية أبي هريرة أيضاً: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد بدأ بركبتيه": فيقال فيه ما قيل في الذي قبله، فقد ساقه ابن القَيِّم - رحمه الله - من رواية: ابن أبي داود، عن يوسف بن عدي، عن ابن فضيل ... بالإسناد السابق بعينه: ففيه هذا المتروك "عبد الله بن سعيد الْمَقْبُرِيّ". فكيف تُعارَضُ الأحاديث الصحيحة بمثله؟! فإذا ظهر ذلك، فإن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يكون قد سَلِمَ من الإعلال سنداً ومتناً، وأن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يكن مصيباً في إعلاله إياه. - وأما قوله بأن حديث أبي هريرة قد وقع فيه اختلاف واضطراب: فَيُجَاب عنه بأن ذلك ليس اضطراباً مؤثراً، وذلك لعدم تساوي وجوهه في القوة، فقد تقدم أن حديث أبي هريرة الذي يعارض حديث الباب ضعيف - بل شديد الضعف، لضعف عبد الله بن سعيد - فَيَتَرَجَّحُ عليه حديث أبي هريرة الذي فيه وضعُ اليدين قبل الركبتين، وإذا أمكن الترجيح زالت دعوى الاضطراب. ثم إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه له شاهد من رواية:   1 إرواء الغليل: (2/79) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 27- (12) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " أَنَّه كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ قبل ركبتيه، ويقول: كَانَ النَّبِيُّ يَفْعَل ذلك". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل فيه تصحيح الحاكم ولم يتعقبه بشيء1، ولكنه قال مرة: "وأما حديث ابن عمر: فالمرفوع منه ضعيف ... "2. وقال مرة أخرى: "حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة وابن عمر"3. قلت: هذا الحديث أخرجه ابن خزيمة في (صحيحه) 4، والدارقطني في (سننه) 5 من طريق: أصبغ بن الفرج6. وأخرجه الحاكم في (المستدرك) 7 - ومن طريقة البيهقي8 - من طريق: محرز بن سلمة9.   1 زاد المعاد: (1/228) . 2 تهذيب السنن: (1/400) . 3 الصلاة: (ص205) . (1/318) ح 627. (1/344) ح 2. 6 ابن سعيد الأموي مولاهم، الفقيه المصري، أبو عبد الله، ثقة، مات مستتراً أيام المحنة سنة 225هـ، من العاشرة/ خ د ت س. (التقريب 113) . (1/226) . 8 السنن: (2/100) . 9 العدني، ثم المكي، صدوق، من العاشرة، مات سنة 234 هـ/ق. (التقريب521) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 والحازمي في (الاعتبار) 1 من طريق: ابن وهب، كلهم عن: عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - به. قال الحاكم أبو عبد الله: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وقال المنذري: "أخرجه الدارقطني في سننه بإسناد حسن"2. وقال ابن حجر: "صَحَّحَهُ ابن خزيمة"3. وقد جَعَلَهُ ابن حجر شاهداً لحديث أبي هريرة الماضي، فقال: "وهو - يعني حديث أبي هريرة - أقوى من حديث وائل بن حجر ... ؛ فإن للأول شاهداً من حديث ابن عمر ... "4. ومع ذلك، فقد قال الدارقطني رحمه الله عن حديث ابن عمر هذا: "وهذا تَفَرَّدَ به الدراوردي، عن عبيد الله". وقال مرة: "تفرد به أصبغ بن الفرج، عن عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله". نقل ذلك عن الدارقطني المنذري - ولم أقف عليه - ثم قال: "وأصبغ بن الفرج حَدَّثَ عنه البخاري في صحيحه محتجاً به ... وعبد العزيز الدراوردي احتجَّ مسلم بحديثه في صحيحه، وأخرج البخاري حديثه في صحيحه مقروناً بعبد العزيز بن أبي حازم"5.   (ص79) . 2 مختصر السنن: (1/399) . 3 بلوغ المرام مع سبل السلام: (1/317) . 4 المصدر السابق. 5 مختصر السنن: (1/399) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 قلتُ: أما تَفَرُّد أصبغ بن الفرج به، فقد تقدم أنه تابعه عليه: محرز بن سلمة، وابن وهب، كلاهما عن الدراوردي به، ولذلك قال ابن حجر رحمه الله: "ولم يتفرد به أصبغ كما ترى"1. ونظير قول الدارقطني هذا، ما قاله الحازمي رحمه الله، إذ قال: "هذا الحديث يُعَدُّ في مفاريد عبد العزيز، عن عبيد الله"2. قال الحافظ ابن حجر عقب قول الحازمي هذا: "وهذا أشبه بالصواب"3. يعني من قول الدارقطني: "تفرد به أصبغ بن الفرج". وهذا من ابن حجر - رحمه الله - موافقة على القول بتفرد الدراوردي بهذا الحديث عن عبيد الله بن عمر، وقد تُكُلِّم في رواية الدراوردي عن عبيد الله4. ولكن، لما كان للحديث شاهدٌ من رواية أبي هريرة كما تقدم، فإن تفرد الدراوردي عن عبيد الله هنا لا يضرُّ؛ لأن أصل الحديث ثابتٌ من وجه آخر. وقد أعله البيهقي بعلة أخرى، فقال: "ولا أراه إلا وَهْماً - يعني رفعه - ... والمشهور عن عبد الله بن عمر في هذا: ما أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري ... " فساقه بإسناده إلى حماد بن زيد، عن أيوب،   1 تغليق التعليق: (2/328) . 2 الاعتبار: (ص79) . 3 تغليق التعليق: (2/328) . 4 تهذيب التهذيب: (6/354) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: " إذا سجد أحدكم فليضع يديه، فإذا رفع فليرفعهما، فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه"1. ورَدَّهُ ابن التركماني، فقال: "وما عَلَّلَه به البيهقي ... فيه نظر؛ لأن كلاًّ منهما معناه منفصل عن الآخر"2. وقال الحافظ ابن حجر: "ولقائلٍ أن يقول: هذا الموقوف غير المرفوع؛ فإن الأول في تقديم وضع اليدين على الركبتين، والثاني في إثبات وضع اليدين في الجملة"3. فثبت بذلك أن حديث ابن عمر هذا: وإن أُعِلَّ بتفرد الدراوردي به، إلا أنه بانضمام حديث أبي هريرة إليه يتقوَّى، ولا يقلُّ بذلك عن درجة الحسن إن شاء الله. فالحاصل: أن الراجح في ذلك هو ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من النزول باليدين في السجود، أمراً منه صلى الله عليه وسلم وفعلاً، وأن ما جاء على خلاف ذلك فإنه لا يقوى على معارضته، حتى إن أبا عبد الله الحاكم مع كلامه في تقوية حديث وائل بن حجر في تقديم الركبتين، إلا أنه قال: "فأما القَلْبُ في هذا فإنه إلى حديث ابن عمر أَمْيَل، لرواياتٍ في ذلك كثيرة عن الصحابة والتابعين"4.   1 سنن البيهقي: (2/100 - 101) . 2 الجوهر النقي: (2/100) . 3 فتح الباري: (2/291) . 4 المستدرك: (1/226) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 9- باب ما جاء في التشهد في الصلاة 28- (13) عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بيده فَعَلَّمَه التَّشَهُّدَ: "التَّحِيَّات لله والصَّلَوات والطَّيِّبَات، السَّلام عليك أيُّهَا النَّبيُّ ورحمةُ الله وبركاته، السَّلام علينَا وعلى عباد الله الصَّالِحِين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". فإذا قلتَ ذلك فقد تَمَّتْ صَلاتُكَ، فإن شئتَ فَقُمْ، وإن شئتَ فَاقْعُدْ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ثم قال: "قال الدارقطني، والخطيب، والبيهقي، وأكثر الحفاظ: الصحيح أن قوله: "إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك". من كلام ابن مسعود، فَصَلَه شبابة عن زهير، وجَعَلَه من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب ممن أَدْرَجَهُ، وقد اتفق من روى تشهد ابن مسعود رضي الله عنه على حذفه"1. قلت: هذا الحديث يرويه: الحسن بن الحُرِّ2، عن القاسم بن مخيمرة3، عن علقمة، عن ابن مسعود. ويرويه عن الحسن بن الحرِّ جماعة، منهم: محمد بن عجلان4،   1 تهذيب السنن: (1/51) . وانظر: جلاء الأفهام: (ص 186 - 187) . 2 ابن الحكم الجُعْفِي أو النخعي، الكوفي، أبو محمد، نزيل دمشق، ثقة فاضل، من الخامسة، مات سنة 163هـ / د س. (التقريب 159) . 3 أبو عروة الهَمْدَاني، الكوفي، نزيل الشام، ثقة فاضل، من الثالثة، مات سنة 100هـ/ خت م 4. (التقريب 452) . 4 المدني: صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، من الخامسة، مات سنة 148هـ / خت م 4. (التقريب 496) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 والحسين بن علي1، وزهير بن معاوية2، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان3. فأما محمد بن عجلان، والحسين بن علي: فقد روياه عن الحسن بن الحر بدون ذكر هذه الزيادة. أخرج رواية ابن عجلان: الطبراني في (الكبير) 4 والدارقطني في (سننه) 5، والخطيب في (الفصل) 6 من طرق عن: محمد بن عجلان، عن الحسين بن الحر ... به، إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " ... وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". وأخرج هؤلاء الثلاثة7 - ومعهم أحمد في (مسنده) 8 - حديث: الحسين بن علي، عن الحسن بن الحر بمثل حديث ابن عجلان.   1 ابن الوليد الجعفي، الكوفي المقرئ، ثقة عابد، من التاسعة، مات سنة 203 أو 204هـ / ع. (التقريب 167) . 2 ابن حديج، أبو خيثمة الجعفي الكوفي، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بآخرة، من السابعة، مات سنة 172هـ أو 173هـ أو 174هـ / ع. (التقريب 218) . 3 العنسي، الدمشقي، الزاهد، صدوق يخطئ، وَرُمِيَ بالقدر، وتَغَيَّرَ بآخرة، من السابعة، مات سنة 165هـ / بخ 4. (التقريب 337) . (10/61) ح 9923. (1/352 - 353) ح 11. (1/166) ح 1 - 18. 7 طب: (10/63) ح 9926. قط: (1/352) ح 10. خط: (1/164 - 165) ح 1 - 13، 14، 15. (1/450) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 فهكذا رواه: محمد بن عجلان، والحسين بن علي - وتابعهما محمد ابن أبان، كما أشار الدارقطني1 - رووه عن: الحسن بن الحر، فلم يذكروا هذه الزيادة. وأما زهير بن معاوية - فكما قال الدارقطني رحمه الله -: " ... زاد عليهما في آخره كلاماً أدرجه بعض الرواة عن زهير في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: إذا قضيت هذا ... "2. وقد أخرج حديثَ زهير بهذه الزيادة: أبو داود في (سننه) 3 من طريق: عبد الله بن محمد4 النفيلي، وأحمد في (مسنده) 5 من طريق: يحيى ابن آدم6، والطيالسي في (مسنده) 7، والدارمي فيه8 من طريق: أبي نعيم9، والدارقطني في (سننه) 10 من طريق: موسى بن داود11،   1 السنن: (1/352) . 2 علل الدارقطني: (5/128) . (1/593) ح 970 ك الصلاة، باب التشهد. 4 ابن علي بن نفيل، أبو جعفر، النُّفَيْلي الحراني، ثقة حافظٌ، من كبار العاشرة، مات سنة 234هـ / خ 4. (التقريب 321) . (1/422) . 6 ابن سليمان الكوفي، أبو زكريا، مولى بني أمية، ثقة حافظٌ فاضلٌ، من كبار التاسعة، مات سنة 203هـ / ع. (التقريب 587) . (ح 275) . (1/251) ح 1347. 9 هو: الفضل بن دكين. 10 (1/353) ح 13. 11 الضَّبِّي، أبو عبد الله الطرسوسي، الخُلْقَاني، صدوق فقيه زاهد له أوهام، من صغار التاسعة، مات سنة 217هـ / م د س ق. (التقريب 550) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 والحاكم في (علوم الحديث) 1 من طريق: عاصم بن علي2، كلهم عن: زهير بن معاوية، عن الحسن بن الحر، عن القاسم بن مخيمرة، قال: أخذ علقمة بيدي، فَحَدَّثَنِي أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الله فَعَلَّمَه التشهد ... الحديث، وفي آخره: "فإذا قلتَ ذلك فقد تَمَّتْ صلاتك، فإن شئتَ فقم، وإن شئتَ فاقْعُدْ". هذا سياق الطيالسي، وسياق الباقين نحو. وقد حَكَمَ الأئمة على هذه الزيادة في رواية زهير بأنها مُدْرَجَةٌ في الحديث وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الدارقطني: "ورواه زهير بن معاوية، عن الحسن بن الحر، فزاد في آخره كلاماً ... فأدرجه بعضهم عن زهير في الحديث، ووصله بكلام النبي صلى الله عليه وسلم"3. وقال الحاكم: "وقوله: "إذا قلت هذا". مدرج في الحديث من كلام عبد الله بن مسعود؛ فإن سَنَدَهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم ينقضي بانقضاء التشهد"4. وقال البيهقي: "هذا حديث قد رواه جماعة عن أبي خيثمة زهير بن معاوية، وأدرجوا آخر الحديث في أوله"5. وكذا قال الخطيب البغدادي6، وقال النووي:   (ص39) في "النوع الثالث عشر: معرفة المدرج". 2 ابن عاصم بن صهيب الواسطي، أبو الحسن التيمي مولاهم، صدوق رُبَما وَهِمَ، من التاسعة، مات سنة 221هـ / خ ت ق. (التقريب 286) . 3 سنن الدارقطني: (1/353) . 4 علوم الحديث: (ص39) . 5 سنن البيهقي: (2/174) . (الفصل: (1/154 - 155) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 "اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ على أنها مدرجة"1. ونقل اتفاق الحفاظ على ذلك أيضاً: الحافظ العراقي2. وقد استدلَّ الأئمة على وقوع الإدراج في هذه اللفظة بأمور: أولها: أن شَبَابَةَ بن سَوَّار3 رواه عن زهير بن معاوية ففصل قول ابن مسعود من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج رواية شبابة هذه: الدارقطني في (سننه) 4 - ومن طريقه: البيهقي5، والخطيب6 - من طريق: شبابة، عن زهير بن معاوية به، وفي آخره: "قال عبد الله: فإذا قلتَ ذلك .... قال الدارقطني عقبه: "شبابة ثقة، وقد فصل آخر الحديث، جعله من قول ابن مسعود، وهو أصح من رواية من أدرج آخره في كلام النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان - رابع الرواة عن الحسن بن الحرُّ ممن تقدم ذكرهم - قد رواه عن الحسن بن الحر، كما   1 خلاصة الأحكام: (ق 60/أ) . 2 شرح الألفية: (1/248) . 3 المدائني، أصله من خراسان، مولى بني فزارة، ثقة حافظ رُمِيَ بالإرجاء، مات سنة 204 هـ وقيل غير ذلك/ ع. (التقريب 263) . (1/353) ح 12. 5 في السنن: (2/174) . 6 الفصل: (1/161) ح 1 - 8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 جاء في رواية شبابة عن زهير، رواه عنه: غسان بن الربيع1، فَتَابَعَ بذلك شبابة في شيخ شيخه. أخرجه: ابن حبان في (صحيحه) 2، والطبراني في (الأوسط) 3 والدارقطني في (السنن) 4، والحاكم في (علوم الحديث) 5، والخطيب في (الفصل) 6، من طرق، عن: غسان بن الربيع، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن الحسن بن الحُرّ به، وفي آخره: "ثم قال ابن مسعود: إذا فَرَغْتَ من هذا، فقد فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف". هذا لفظه عندهم، ووقع عند الحاكم من بينهم: "فإن شئت فاقعد، وإن شئت فقم". وغسان بن الربيع ضَعَّفَهُ الدارقطني7، لكنه قال فيه مرة: "صالح"8 وَوَثَّقُهُ ابن حبان9. ومع ذلك فقد تابعه بقية بن الوليد، كما أخرجه   1 ابن منصور، أبو محمد الغَسَّاني الأزدي، الموصلي، كان صالحاً ورعاً، ضَعَّفَهُ الدارقطني، وَوَثَّقَهُ ابن حبان، توفي - رحمه الله - سنة 226هـ. له ترجمة في: تاريخ بغداد: (12/329) ، والميزان: (3/334) . 2 الإحسان: (3/209) ح 1959. 3 انظر: مجمع البحرين: ج 1 (ق44) . (1/354) ح 14. (ص40) . (1/162 - 163) ح 1 - 11. 7 كما في سننه: (1/330) . 8 تاريخ بغداد: (12/330) . 9 الثقات: (9/2) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 الخطيب بإسناده إلى بقية، قال: حدثنا ابن ثوبان1 فذكره. وقد صَرَّحَ بقية بالتحديث، فزالت تهمة تدليسه. وقد ترجم أبو حاتم بن حبان على هذا الخبر بقوله: "ذكر البيان بأن قوله: فإذا قلت هذا ... إنما هو قول ابن مسعود، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أَدْرَجَهُ زهير في الخبر". وقال أبو عبد الله الحاكم بعد إخراجه: "فقد ظَهَرَ لمن رُزِقَ الفهم: أن الذي مَيَّزَ كلام عبد الله بن مسعود من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتى بالزيادة الظاهرة، والزيادةُ من الثقة مقبولة". وقال الدارقطني: "وكذلك رواه ابن ثوبان، عن الحسن بن الحُرِّ، وبَيَّنَه، وفصل كلام النبي صلى الله عليه وسلم من كلام ابن مسعود، وهو الصواب"2. الثالث: من الأدلة - أيضاً - على كون هذه اللفظة مدرجة: اتفاق كلِّ من روى التشهد عن علقمة، وعن غيره، عن عبد الله بن مسعود على ذلك، يعني عدم ذكر هذه الزيادة. قاله الدارقطني3 رحمه الله. وقال أبو محمد بن حزم: "وقد روى هذا الحديث عن علقمة: إبراهيم النخعي - وهو أضبط من القاسم - فلم يذكر هذه الزيادة"4. قلت: وحديث إبراهيم النخعي أخرجه النسائي في (سننه) 5 من طريق: حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن   1 الفصل: (1/163) ح 1 - 12. 2 علل الدارقطني: (5/128) . 3 السنن: (1/353) . 4 المحلى: (3/362) ط حسن زيدان. (2/239 - 240) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 مسعود رضي الله عنه به، وفيه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم له التشهد إلى قوله: " ... وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". وأخرجه البخاري في (صحيحه) 1 من طريق: أبي وائل شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود، بمثله. ورواه غير هؤلاء كذلك بدون هذه الزيادة2. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون قوله: " فإذا قضيت ذلك ... ". فإن هذه الزيادة مدرجة من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، أدرجها زهير - أو من دونه - في هذا الحديث. وقد بين الأئمة: الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، والخطيب، والنووي، والعراقي وغيرهم ذلك، ونَبَّهُوا عليه، بل جعله الخطيب - رحمه الله - أول حديث في كتابه الذي صنفه في المدرج3. وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة، فأصابَ.   1 ك الأذان، باب التشهد في الآخرة. ح 831. 2 واستقصى النسائي - رحمه الله - هذه الروايات في (سننه) : (2/237 - 241) فلتراجع فيه. 3 راجع: الفصل للوصل المدرج في النقل: (1/154) ، باب: ذكر الأحاديث التي وُصلت ألفاظُ رواتها بمتونها وأدرجت فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 10- باب في ذكر نوع آخر من التشهد 29 - (14) عن جابر رضي الله عنه، أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التشهد كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورة من القرآن: "بِسْم الله، وبالله، التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ مُحَمَّداً عبده ورسوله، أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ولم تجئ التسمية في أول التشهد إلا في هذا الحديث، وله عِلَّةٌ غير عنعنة أبي الزبير"1. قلت: هذا الحديث أخرجه: النسائي، وابن ماجه في (سننيهما) 2، والترمذي في (العلل) 3، والطيالسي في (مسنده) 4 - ومن طريقه: البيهقي5 - ومسلم في كتاب (التمييز) 6، والدارقطني في (العلل) 7،   1 زاد المعاد: (1/244) . 2 س: (2/243) ك الافتتاح، باب: نوع آخر من التشهد، و (3/43) ك السهو، باب: نوع آخر من التشهد. جه: (1/292) ح 902 ك إقامة الصلاة ... ، باب ما جاء في التشهد. (1/227) باب ما جاء في التشهد. (ح 1741) . 5 السنن: (2/141، 142) . (ص 188) ح 58. 7 ج4 (ق 80/أ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 والحاكم في (المستدرك) 1، كلهم من طريق: أيمن بن نابل2، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه به. وقد أُعِلَّ هذا الحديث كما أشار ابن القَيِّم رحمه الله، وعلته: أن أيمن بن نابل قد وَهِمَ في إسناده ومتنه، وخالفه من هو أوثق منه، وأكثر اختصاصاً بأبي الزبير، وهو: الليث بن سعد، فرواه عن: أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعاً، ولم يذكروا فيه تلك الزيادة، وهي قوله: "بسم الله وبالله". وتابع الليثَ على ذلك جماعةٌ. وأيمن بن نابل: صدوق، وثقة الأكثرون3، ولكن أخذ عليه بعضهم أنه يخطئ ويُخالِف، فقال ابن حبان: "كان يخطئ وينفرد بما لا يُتَابع عليه ... والذي عندي: تَنَكُّبُ حديثه عند الاحتجاج - إلا ما وافق الثقات - أولى من الاحتجاج به"4. وقال الدارقطني: "ليس بالقويِّ، خالف الناس"5. وتقدم قول ابن حجر: "صدوق يهم". وقد كشف الأئمة - رحمهم الله - عن وجه إعلال هذا الحديث، وموضع الخطأ والوهم فيه، فقال الإمام الترمذي: " ... سألت محمداً عن هذا الحديث؟ فقال: هو غير محفوظ، هكذا يقول أيمن بن نابل: عن   (1/266) . 2 أبو عمران، ويقال: أبو عمرو، الحبشي، المكي، نزيل عسقلان، صَدُوقٌ يَهِم، من الخامسة/ خ ت س ق. (التقريب 117) . 3 انظر تفصيل ذلك في: تهذيب التهذيب: (1/393 - 394) . 4 المجروحين: (1/183) . 5 سؤالات الحاكم للدارقطني: (ص187) رقم 286. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 أبي الزبير، عن جابر. وهو خطأ، والصحيح: ما رواه الليث بن سعد: عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عباس. وهكذا رواه عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي، عن أبي الزبير، مثل رواية الليث بن سعد"1. وقال الإمام مسلم في كتاب (التمييز) 2: "هذه الرواية من التشهد، والتشهد (كذا) غير ثابت الإسناد والمتن جميعاً، والثابت: ما رواه الليث، وعبد الرحمن بن حميد ... " فساقه بإسناده من طريقهما، ثم قال: "فقد اتفق الليث، وعبد الرحمن بن حميد الرؤاسي: عن أبي الزبير، عن طاوس. وروى الليث، فقال: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وكلُّ واحدٍ من هذين عند أهل الحديث أثبت في الرواية من أيمن، ولم يذكر الليث في روايته حين وصف التشهد: "بسم الله وبالله". فلما بانَ الوهمُ في حفظ أيمن لإسناد الحديث، بخلاف الليث وعبد الرحمن إياه، دَخَلَ الوهم - أيضاً - في زيادته في المتن، فلا يثبت ما زاد فيه. وقد رُوي التشهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجه عدة صحاح فلم يذكر في شيء منه بما روى أيمن في روايته قوله: "بسم الله وبالله". ولا ما زاد في آخره من قوله: " أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار"، والزيادة في الأخبار لا يلزم إلا عن الحفاظ الذين لم يُعثر عليهم الوهم في حفظهم". وقال الترمذي: "وهو غير محفوظ"3. قال ذلك عقب إخراجه لحديث الليث بن سعد الماضي ذكره.   1 علل الترمذي: (1/228) . (ص 188 - 189) ح 58. 3 جامع الترمذي: (2/83) ح 290. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وقال النسائي: "لا نعلم أحداً تابع أيمنَ بن نابل على هذه الرواية، وأيمن عندنا لا بأس به، والحديث خطأ، وبالله التوفيق"1. وقال الدارقطني - بعد أن ذَكَرَ الخلاف فيه -: "وحديث ابن عباس أشبه بالصواب من حديث جابر"2. وقال مرةً - وقد سئل عن أيمن بن نابل-: "خالف الناس، ولو لم يكن إلا حديث التشهد، خالفه الليث، وعمرو بن الحارث، وزكريا بن خالد: عن أبي الزبير"3. وقال حمزة الكناني: "قوله: عن جابر. خطأ، ولا أعلم أحداً قال في التشهد: " بسم الله وبالله". إلا أيمن"4. وقال البيهقي: "تفرد به أيمن بن نابل، عن أبي الزبير، عن جابر"5. وقال الحافظ ابن حجر: "ورجاله ثقات، إلا أن أيمن بن نابل - راويه عن أبي الزبير - أخطأ في إسناده، وخالفه الليث - وهو من أوثق الناس في أبي الزبير - فقال: عن أبي الزبير، عن طاوس وسعيد بن جبير، عن ابن عباس"6. فهذا كلام هؤلاء الأئمة الأعلام في بيان علة هذا الحديث، ووجه   1 السنن: (3/43) . 2 العلل: ج4 (ق 80/أ) . 3 سؤالات الحاكم للدارقطني: (ص 187 - 188) . 4 التلخيص الحبير: (1/266) . 5 السنن: (2/142) . 6 التلخيص الحبير: (1/265 - 266) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 الخطأ فيه، وأما رواية الليث بن سعد ومن وافقه، التي صوبها الأئمة، فأشير إليها على سبيل الاختصار. فحديث الليث بن سعد: أخرجه الإمام مسلم في (صحيحه) 1، وفي (التمييز) 2 له، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 3، وابن خزيمة في (صحيحه) 4، والدارقطني في (سننه) 5، كلهم من طريق: الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير وطاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: "التحيات المباركات الصلوات لله، السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". هذا لفظ مسلم، ولفظ الباقين مثله، لكنهم قالوا: "كما يعلمنا القرآن". إلا ابن ماجه، فإنه وافق مسلماً، على أن لفظ الجماعة هو إحدى الروايات عند مسلم. قال الترمذي: "حديث حسن غريب صحيح". وقال الدارقطني: "هذا إسناد صحيح".   (1/302) ح 403 (60) ك الصلاة، باب التشهد في الصلاة. (ص 189) ح 59. 3 ت: (2/83) ح 290 ك الصلاة، باب ما جاء في التشهد. س: (2/242) . جه: (1/291) ح 900 ك إقامة الصلاة، باب ما جاء في التشهد. (1/349) ح 705. (1/350) ح 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وتابع الليث على هذه الرواية: عبد الرحمن بن حميد1، أخرجه من هذا الطريق: مسلم في (صحيحه) 2، وفي (التمييز) 3 أيضاً، وعَلَّقَهُ الترمذي في (جامعه) 4 كلهم من طريق: عبد الرحمن بن حميد، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن". وتابعهما: عمرو بن الحارث، أخرجه الدارقطني في (سننه) 5 من طريقه، عن: أبي الزبير، عن عطاء وطاوس وسعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما به بنحو ما تقدم من رواية الليث. وثَمَّةَ متابعة رابعة لهؤلاء، أشار إليها الدارقطني في (علله) 6 من طريق: زكريا بن خالد7 - قال الدارقطني: "شيخ لأهل الكوفة، يَروي عنه قيس بن الربيع وغيره" - عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس.   1 ابن عبد الرحمن الرُّؤَاسي، الكوفي، ثقة، من السابعة / م د س. (التقريب 339) . (1/303) ح 403 (61) . (ص 189) ح 59. (2/83) . (1/350) ح 3. 6 ج 4 (ق 80/أ) . 7 مقبول، من السابعة/ خت. (التقريب 216) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 فهذه رواية الليث بن سعد ومن تابعه، وهي الرواية التي حكم الأئمة بتقديمها على رواية جابر الماضية. ومع تُظَاهُرِ الأئمة واتفاقهم على الحكم على حديث جابر بالخطأ، فقد صَحَّحَهُ الحاكم رحمه الله، فقال: "فأما الزيادة في أول التشهد: "باسم الله وبالله" فإنه صحيح من شرط البخاري ... أيمن بن نابل ثقة، فقد احتجَّ به البخاري"1. ومما سبق يتبين لنا أن الأمر على خلاف ما ذهب إليه الحاكم رحمه الله، ولذلك تَعَقَّبَهُ النووي - رحمه الله - فقال: "وذكر الحاكم أبو عبد الله في المستدرك: أن حديث جابر صحيح، ولا يُقبل ذلك منه؛ فإن الذين ضَعَّفُوهُ أجلُّ من الحاكم وأتقن"2. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث بالزيادة المذكورة معلول؛ إذ خُولف أيمن بن نابل في إسناده ومتنه، وقد صحَّ التشهد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ليس فيها هذه الزيادة، وإعلال هذا الحديث هو اختيار ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم. وأما ما ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - من عنعنة أبي الزبير: فإنه قد صرَّح بالتحديث في رواية الترمذي في (العلل) .   1 المستدرك: (1/266 - 267) . 2 المجموع: (3/401) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 11- باب التسليم في الصلاة وما جاء في التسليمة الواحد ة ذكر ابن القَيِّم رحمه الله: أن هديه صلى الله عليه وسلم كان التسليم عن يمينه وعن يساره، وأن ذلك مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم عن خمسة عشر صحابياً، ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها في التسليمة الواحدة، فقال: "رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم: 30- (15) " أنه كان يُسَلِّمُ تسليمةً واحدةً تلقاءَ وجهه". ثم قال: "ولكنْ لم يثبت عنه ذلك من وجهٍ صحيح"1 وتعرَّض - رحمه الله - لهذه القضية في (إعلام الموقعين) 2 فَذَكَر ضَعْفَ أحاديث التسليمة الواحدة، ومنها هذا الحديث ثم قال: "أما حديث عائشة: فمعلولٌ باتفاق أهل العلم بالحديث". ثم بَيَّنَ أقوال العلماء فيه. ثم قال ابن القَيِّم: "وأجود ما فيه: 31- (16) حديث عائشة رضي الله عنها: " أنه صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ تسليمةً واحدةً: السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يُوقِظَنَا". قال: "وهو حديث معلول، وهو في السنن، لكنه كان في قيام الليل ... "3.   1 زاد المعاد: (1/258 - 259) . (2/377 - 380) . 3 زاد المعاد: (1/259) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 قلت: أما الحديث الأول: فإنه يُروى عن زهير بن محمد1، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها. ورواه عن زهير: عمرو بن أبي سلمة2، وتابعه عبد الملك بن محمد3. أما رواية عمرو بن أبي سلمة: فأخرجها الترمذي في (جامعه) 4، والدارقطني في (سننه) 5، وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحهما) 6، والحاكم في (المستدرك) 7، والبيهقي في (السنن) 8، والعقيلي في (الضعفاء) 9. كلهم بالإسناد المذكور، إلى عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ في الصلاة تسليمة واحدةً تلقاء وجهه، يميل إلى الشقِّ الأيمن شيئاً". هذا لفظ الترمذي. وهو لفظ ابن خزيمة،   1 التميمي، أبو المنذر الخراساني، سكن الشام ثم الحجاز، رواية أهل الشام عنه غيرُ مستقيمة فَضُعِّفَ بسببها، قال البخاري عن أحمد: "كأنَّ زهيراً الذي يروي عنه الشاميون آخر". وقال أبو حاتم: "حَدَّثَ بالشام من حفظه فكثر غلطه" من السابعة، مات سنة 162هـ / ع. (التقريب 217) . 2 التِّنِّيسي، أبو حفص الدمشقي، مولى بني هاشم، صدوق له أوهام، من كبار العاشرة، مات سنة 213هـ أو بعدها / ع. (التقريب 422) . 3 الحميري البرسمي، من أهل صنعاء دمشق، لَيِّنُ الحديث، من التاسعة / د س ق. (التقريب 365) . 4 ت: (2/90) ح 296 ك الصلاة، باب ما جاء في التسليم في الصلاة. (1/357) ح 7. 6 خز: (1/360) ح 729، حب: (الإحسان) : (3/224) ح 1992. (1/230) . (2/179) . (3/272) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، إلا أن عند الحاكم: "قليلاً شيئًا"بدل "شيئاً"، وعند الدارقطني: "قليلاً"وعند البيهقي "شيئاً أو قليلاً". أما لفظ ابن حبان فهو: " ... يميل بها وجهه إلى القبلة". وجاء عند العقيلي مختصراً، فقال: " كان يُسَلِّم تَسليمةً واحدةً". وأما رواية عبد الملك بن محمد، عن زهير: فأخرجها ابن ماجه في (سننه) 1، ولفظه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ تسليمة واحدةً تلقاء وجهه". كذا رواه عبد الملك، وعمرو بن أبي سلمة مرفوعاً، وخالفهما الوليد ابن مسلم2 فرواه عن زهير عن هشام، عن أبيه، عن عائشة موقوفاً: "أنها كانت تسلم تسليمة واحدة". أخرجه كذلك العقيلي في كتابه (الضعفاء) 3. وقد حَكَمَ الأئمة بصحةِ الرواية الموقوفة، وأنَّ رَفْعَهُ لا يصحُّ؛ فقال أبو عيسى الترمذي: "حديث عائشة لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، قال محمد بن إسماعيل: زهير بن محمد: أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه وأصحُّ". وقال أبو حاتم - حينما سئل عن الرواية المرفوعة -: "هذا حديث منكرٌ، وهو عن عائشة   (1/297) ح 919، ك إقامة الصلاة، باب من يسلم تسليمة واحدة. 2 القرشي مولاهم، أبو العابس الدمشقي، ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية. من الثامنة، مات سنة 194 هـ / ع. (التقريب 584) . (3/273) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 موقوف"1. وَرَجَّحَ الوقف أيضاً: البزار، كما نقله عنه الحافظ ابن حجر2. وقال العقيلي: "ورواية الوليد أولى" يعني الموقوفة. وقال الدارقطني - بعد أن ذكر أوجه الاختلاف فيه على زهير -: "وهو الصحيح - يعني الموقوف - ومن رَفَعَهُ فقد وَهِم"3. وقال ابن عبد البر: "وأما حديث عائشة ... فلم يرفعه أحدٌ إلا زهير بن محمد وحده، عن هشام بن عروة، عن أبيه ... وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع، كثير الخطأ لا يحتجُّ به"4. قلت: وفيما قال أبو عمر نظر؛ فإن زهير بن محمد وَثقَهُ جماعة، فقال أحمد: "ثقة". وقال قال مرة: "لا بأس به"، وقال ابن معين: "ثقة". وقال مرة: "لا بأس به". وقال عثمان الدارمي وصالح بن محمد: "ثقة صدوق". وقال يعقوب بن شيبة: "صدوق صالح الحديث"5. والوهم في هذا الحديث على الرواة عنه: عمرو بن أبي سلمة التنيسي أو غيره، فقد قال الإمام أحمد: " ... وأما أحاديث أبي حفص ذاك التنيسي عنه: فتلك بواطيل موضوعة ... "6. وقال النسائي: "ليس به بأس، وعند   1 علل ابن أبي حاتم: (1/148) ح 414. 2 التلخيص الحبير: (1/270) . 3 علل الدارقطني: ج4 (ق 40) . 4 الاستذكار: (2/214) . 5 انظر أقوالهم فيه على الترتيب في: بحر الدم (رقم 318) ، تاريخ الدوري عن ابن معين (2/176) رقم 4752، وسؤالات ابن الجنيد لابن معين (رقم 564) ، وتهذيب التهذيب: (3/349 - 350) . 6 تهذيب التهذيب: (3/349) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 عمرو بن أبي سلمة - يعني التنيسي - عنه مناكير"1. وقد نصَّ على مثل ذلك: الطحاوي - رحمه الله - فقال: "وزهير ابن محمد وإن كان رجلاً ثقة، فإن رواية عمرو بن أبي سلمة عنه تُضَعَّفُ جداً"2. وانفرد الحاكم أبو عبد الله بتصحيحه مرفوعاً، فقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". ولكن تَعَقَّبَهُ النووي، فقال: "ضَعَّفَهُ الجمهور، ولا يقبل تصحيح الحاكم له ونحوه ... "3. وكذا ضَعَّفَهُ أبو محمد بن حزم4. أما الوليد بن مسلم: فقد جاء به عن زهير موقوفاً، وقال في آخره: "فقلت لزهير بن محمد: فهل بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء؟ قال: نعم، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة"5. قال ابن حجر عقب هذا الكلام: "فَتَبَيَّنَ أن الرواية المرفوعة وهمٌ"6. قلت: وصَرَّحَ الوليد فيه بالتحديث عن زهير، فانتفت بذلك شبهة التدليس الذي عُرِفَ به. وقد صَحَّحَ الأئمة روايته، وقَدَّمُوها على رواية من رفعه.   1 تهذيب التهذيب: (3/349 - 350) . 2 شرح معاني الآثار: (1/270) . 3 خلاصة الأحكام: (ق60) . 4 المحلى: (3/279) . 5 ضعفاء العقيلي: (3/273) . 6 التلخيص الحبير: (1/270) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 فإذا تَبَيَّنَ ذلك علمنا أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب حين قال: "ولكن لم يثبت عنه ذلك - أي النبي صلى الله عليه وسلم - من وجه صحيح"1. ومما يؤيد صحة رواية الوقف: أنه قد رُوي عن عائشة - من غير وجه - عن عبيد الله بن عمر2، عن القاسم، عنها موقوفاً عليها: فأخرج ابن خزيمة في (صحيحه) 3 من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد4، ومن طريق وهيب بن خالد5، ومن طريق يحيى بن سعيد: ثلاثتهم عن: عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة: " أنها كانت تُسَلَّمُ تسليمة واحدة قُبالَةَ وجهها: السلام عليكم"هذا لفظ وهيب. وعَلَّقَهُ الحاكم عن وهيب6، وأخرجه البيهقي من طريق   1 زاد المعاد: (1/259) . 2 ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العُمَري، المدني، أبو عثمان، ثقة ثبت، قَدَّمَهُ أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقَدَّمَهُ ابن معين في القاسم عن عائشة، على الزهري عن عروة عنها، من الخامسة، مات سنة بضع وأربعين/ ع. (التقريب 373) . (1/360) ح 730 - 732. 4 ابن الصلت الثقفي، أبو محمد البصري، ثقةٌ تَغَيَّرَ قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة، مات سنة 194 هـ / ع. (التقريب 368) . 5 ابن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري، ثقة ثبت لكنه تَغَيَّرَ قليلاً بآخرة، من السابعة، مات سنة 165هـ / ع. (التقريب 586) . 6 المستدرك: (1/231) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 عبد الوهاب1. قال الحافظ ابن حجر عن طريق وهيب: "وهذا سند صحيح"2. هذا ما يتعلق بهذا الحديث في التسليمة الواحدة، أما الحديث الآخر الذي ساقه ابن القَيِّم - رحمه الله - عن عائشة أيضاً في صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، وقوله فيه: "وهو حديث معلول". فقد أخرجه ابن حبان في (صحيحه) 3 من طريق: قتادة، عن زرارة ابن أوفى، عن سعد بن هشام4، عن عائشة رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله ويذكره ويدعو، ثم ينهض ولا يُسَلِّم، ثم يصلي التاسعة، ويذكر الله ويدعو، ثم يسلم تسليمة يسمعناه، ثم يصلي ركعتين وهو جالس". وهو عند أبي داود في رواية5. قال الحافظ ابن حجر: "إسناده على شرط مسلم، ولم يستدركه الحاكم، مع أنه أخرج حديث زهير بن محمد عن هشام كما قدمناه"6. يعني الحديث الذي مضى معنا قبل قليل، والذي رَجَّحَ الحفاظ وقفه.   1 في سننه: (2/179) . 2 التلخيص الحبير: (1/270) . 3 الإحسان: (4/72) . ح 2433. 4 ابن عامر الأنصاري، المدني، ثقة، من الثالثة، استشهد بأرض الهند / ع. (التقريب232) . 5 السنن: (2/89) ح 1345. 6 التلخيص الحبير: (1/270) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وقد أخرجه أبو داود في (سننه) 1 من طريق: بهز بن حكيم، عن زرارة، عن عائشة رضي الله عنه بنحو حديث ابن حبان، وسياقه أطول، وفيه: "ويسلم تسليمة واحدةً شديدةً يكاد يوقظ أهل البيت من شدة تسليمه ... "وهذه هي الرواية التي أشار إليها ابن القَيِّم رحمه الله. قال المنذري عقب رواية أبي داود هذه: "ورواية زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة هي المحفوظة، وعندي في سماع زرارة من عائشة نظرٌ، فإن أبا حاتم الرازي قال: سمع زرارة من عمران بن حصين، ومن أبي هريرة، ومن ابن عباس ... قال: هذا ما صحَّ له2. وظاهر هذا أنه لم يسمعه عنده من عائشة"3. قلت: ولعلَّ هذا الذي ذكره المنذري هو ما عَنَاهُ ابن القَيِّم بقوله: "حديث معلول". وقد تقدم: أن رواية ابن حبان سالمة من هذه العلة، فإن فيها: "زرارة، عن سعد بن هشام، عن عائشة". وأنها هي الصواب. وقد ذهب ابن القَيِّم رحمه الله - كما تقدم - إلى أن هذا الحديث هو أجودُ ما رُوِيَ في التسليمة الواحدة، إلا أنه لا يُعارض حديث التسليمتين؛ لأن حديث عائشة هذا في قيام الليل خاصة، والآخر في الفرض والنفل. على أنه إن قُدِّرَ تعارضهما، فإن ابن القَيِّم يرى أنَّ حديث التسليمتين أرجح من الآخر لوجوه:   (2/89 - 91) ح 1346 - 1348. 2 انظر: علل ابن أبي حاتم: (ص 63) . 3 مختصر سنن أبي داود: (2/101) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 أولها: أن الذين رووا أحاديث التسليمتين أكثر عدداً، وأحاديثهم أصحَّ، فهي تدور ما بين الصحيح والحسن. ثانيها: أن عائشة - رضي الله عنها -لم تنف التسلمية الثانية، بل سَكَتَتْ عنها، فلا يُقَدَّمُ سكوتها على من ذكرها وضبطها وحفظها1. قلت: ولعلَّ سكوتها - رضي الله عنها عن التسلمية الثانية لأنها لم تسمعها فربما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالأولى بقصد الإيقاظ، ويخفض صوته بالثانية، فَحَكَتْ عائشة - رضي الله عنها - ما سمعته وحكى غيرها ما رأى وسمع. وقد ذهب الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - إلى الجمع بين الروايتين فقال: " ... إن التسليمة الواحدة كانت منه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان في صلاة الليل، والصحابة الذين رووا عنه التسليمتين إنما يحكون التسليم الذي رأوه في صلاته في المسجد وفي الجماعة، وبهذا نجمع بين الروايتين"2. فالحاصل: أنه لم يثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسليمة الواحدة في الصلاة المكتوبة، وأن الحديث المرويَّ في ذلك: الصحيح أنه موقوف على عائشة من فعلها. وقد قَرَّرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - عدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح. وأن ما صحَّ عن النبي في ذلك: إنما وقع   1 انظر: زاد المعاد: (1/259) . 2 حاشية جامع الترمذي: (2/92) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 في صلاة الليل فلا يعارض حديث التسليمتين، ولو قُدِّرَ التعارض فحديث التسليمتين أرجح من الآخر لأمور ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله. على أن قوماً ذهبوا إلى التسلمية الواحدة في المكتوبة، كما قال الترمذي1 رحمه الله. وقال الليث بن سعد: "أدركت الأئمة والناس يُسَلِّمُون تسليمة واحدة: السلام عليكم"2. وذهب ابن خزيمة - رحمه الله - إلى أن ذلك من اختلاف المباح، وأن المُصَلى في ذلك مُخَيَّرٌ كما هو مذهب الحجازيين3. وكذا قال ابن عبد البر في "الاستذكار"4: "وكلُّ ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح كالأذان، ولذلك لا يُرْوَى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة ولا إنكار التسليمتين، بل ذلك عندهم معروف ... ".   1 في جامعه: (2/93) . 2 الاستذكار: (2/212) . 3 صحيح ابن خزيمة: (1/360) . (2/214) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 12- باب في صلاة الرجل وحده خلف الصف 32- (17) عن وابصة بن معبد الأسدي رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُصَلي خلف الصَّفِّ وَحْدَهُ، فأمره أن يُعِيدَ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وحديث وابصة أخرجه أيضاً1: ابن حبان في (صحيحه) ، والإمام أحمد"2. ثم ذكر - رحمه الله - أن الحديث أُعِلَّ بعلتين: الأولى: أنه وقع اختلاف في إسناده واضطراب، وأن الشافعي أَعَلَّهُ بذلك، فقال: "قد سمعت من أهل العلم بالحديث من يذكر: أن بعض الْمُحَدِّثِينَ يُدخِلُ بين هلال بن يساف ووابصة رجلاً. ومنهم من يرويه عن هلال عن وابصة، سمعه منه. وسمعت بعض أهل العلم منهم كان يوهنه بما وصفت"3. العلة الثانية: أن هلال بن يساف تَفَرَّدَ به عن وابصة. ثم قال: "والعلتان جميعاً ضعيفتان". ثم أخذ في الجواب عنهما. قلت: هذا الحديث مداره على هلال بن يساف4 وقد رُوِيَ عنه على أوجه:   1 يعني مع أبي داود. 2 تهذيب السنن: (1/336 - 337) . 3 يُنظر كلام الشافعي هذا في اختلاف الحديث: (ص 130) باب صلاة المنفرد. 4 ويقال: ابن إساف، الأشجعي، مولاهم، الكوفي، ثقة، من الثالثة / خت م4. (التقريب 576) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 أولها: ما رواه عمرو بن مرة1، قال: سمعت هلال بن يساف، قال: سمعت عمرو بن راشد2، عن وابصة بن معبد به. أخرجه كذلك: أبو داود3، والترمذي4، والطيالسي، وأحمد في (مسنديهما) 5، وابن حبان في (صحيحه) 6، والبيهقي في (سننه) 7. وهذا إسناد رجاله ثقات، ليس فيهم إلا عمرو بن راشد، روى عنه جماعة، ولم يوثقه غير ابن حبان8، وقال ابن حجر: "مقبول" يعني حيث يُتابع، وقد تُوبِعَ كما سيأتي. ثانيها: ما رواه حُصين بن عبد الرحمن9، عن هلال بن يساف قال:   1 ابن عبد الله بن طارق الجملي، المرادي، أبو عبد الله الكوفي، الأعمى، ثقة عابدٌ، كان لا يُدَلِّسُ، ورُمي بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة 118هـ / ع. (التقريب 426) . 2 الأشجعي، أبو راشد الكوفي، مقبول، من الثالثة/ د ت. (التقريب 421) . 3 في سننه: (1/439) ح 682، باب الرجل يصلي وحده خلف الصف. 4 في جامعه: (1/448) ح 231، ك الصلاة، باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده. 5 طس: (ح 1201) ، حم: (4/228) . 6 الإحسان: (3/311) ح 2195، 2196. (3/104) . 8 الثقات: (5/175) . 9 السلمي، أبو الهذيل الكوفي، ثقة تَغَيَّر حفظه في الآخر، من الخامسة، مات سنة 136 هـ / ع. (التقريب 170) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 أخَذ زياد بن أبي الجعد1 بيدي ونحن بالرَّقة، فقام بي على شيخ يَقال له: وابصة بن معبد، من بني أسد، فقال زياد: حدثني هذا الشيخ: "أن رجلاً صلى خَلْفَ الصَّفَ وحده - والشيخ يسمع - فَأَمَرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعيد الصلاة". أخرجه من هذا الوجه: الترمذي في (جامعه) 2، وابن ماجه في (سننه) 3، وأحمد والدارمي في (مسنديهما) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5، والبيهقي في (السنن) 6. واللفظ المذكور للترمذي. قال الترمذي: "حديث حسن". وقال الشيخ الألباني: "وهذا سَنَدٌ جَيِّد، رجاله كلهم ثقات، غير زياد بن أبي الجعد، فإن القول فيه كالقول في عمرو بن راشد، وأنه مجهول كما تقدم". قلت: وقال فيه الحافظ أيضاً: "مقبول". قال الشيخ الألباني: "لكن لم يتفرد به زياد، بل تابعه هلال بن يساف في المعنى7 ... فصارت   1 واسم أبي الجعد: رافع، الكوفي، مقبول، من الرابعة/ ت. (التقريب 218) . (1/445) ح 230. (1/321) ح 1004، ك إقامة الصلاة والسنة فيها، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده. 4 حم: (3/228) ، مي: (1/237) ح 1289. 5 الإحسان: (3/311) ح 2197. (3/104 - 105) . 7 يعني قوله: أخذ زياد بيدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 الرواية من قبيل القراءة على الشيخ وهلال يسمع"1. الوجه الثالث: ما رواه شمر بن عطية2 عن هلال بن يساف عن وابصة بن معبد، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ صلَّى خَلْفَ الصفوف وحده؟ فقال: "يعيد الصلاة". أخرجه الإمام أحمد في (مسنده) 3. قال الشيخ الألباني في (الإرواء) 4: " ... فرواية شمر بن عطية عن هلال بن يساف عن وابصة له ليست منقطعة كما ظنَّ البعض، لما عرفت من تحديث زياد بالحديث أمام وابصة مُقِرًّا له، وهلال يسمع". قلت: فَتَبَيَّنَ مما سبق أن هلالاً يرويه على ثلاثة أوجه: أحدها: عن عمرو بن راشد عن وابصة. ثانيها: عن زياد بن أبي الجعد عن وابصة. ثالها: عن وابصة مباشرة. ولذلك فقد أُعِلَّ الحديث - كما تقدم عن الشافعي - لروايته على هذه الأوجه المختلفة، وهي العلة الأولى من العلل التي تقدم ذكرها. وقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن هذه العلة: بأن هلال بن يساف يرويه عن عمرو بن رشاد، عن وابصة. وعن زياد بن أبي الجعد   1 إرواء الغليل: (2/324 - 325) . 2 الأسدي الكاهلي، الكوفي، صدوق، من السادسة/ مد ت س. (التقريب 268) . (3/228) . (2/325) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 عن وابصة، نقل ذلك عن ابن حبان، وأنه قال: "هما جميعاً طريقان محفوظان"1. قال ابن القَيِّم: "فإدخال زياد وعمرو بن راشد بين هلال ووابصة لا يُوهِنُ الحديث شيئاً"2. وقد سبق إلى ذلك ابن حزم، فقال: "ورواية هلال بن يساف حديث وابصة: مرة عن زياد بن أبي الجعد، ومرة عن عمرو بن راشد قوةٌ للخبر ... "3. وقال الشيخ الألباني: "ومما سبق يَتَبَيَّنَ َأن الحديث صحيح، وليس من قبيل المضطرب في شيء كما تَوَهَّمَ البعض ... فهو - يعني هلال بن يساف - قد سمعه من عمرو بن راشد عنه - أي وابصة -، ومن زياد عنه ووابصة يسمع، فجاز له أن يرويه عنه مباشرة كما في الرواية الثالثة، وبذلك تتفق الروايات الثلاث ولا تتعارض"4. وقد لجأ بعض العلماء إلى الترجيح بين هذه الروايات، فرجح أبوحاتم رواية: عمرو بن مرة، عن هلال، عن عمرو بن راشد5. ورجح الترمذي رواية: حصين بن عبد الرحمن، عن هلال، عن زياد بن أبي الجعد6.   1 انظر كلام ابن حبان هذا في الإحسان: (3/312) . 2 تهذيب السنن: (1/337) . 3 المحلى: (4/74) . ط / حسن زيدان. 4 الإرواء: (2/325) . 5 علل ابن أبي حاتم: (1/100) ح 271. 6 جامع الترمذي: (1/448) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 قلت: والذي يترجح أن هذه الروايات يوافق بعضها بعضاً، وليس بينها اختلاف، وهو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله، وقال به غير واحد كما تَقَدَّمَ. وأما العلة الثانية: وهي دعوى تفرد هلال بن يساف بالخبر، فقد نقل ابن القَيِّم1 عن ابن حبان - أيضاً - أنه ردَّ هذه العلة فقال: "ذكر الخبر الْمُدْحِضِ قول من زعم أن هلال بن يساف تَفَرَّدَ بهذا الخبر" ثم ساقه من حديث يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن عمه عبيد بن أبي الجعد، عن أبيه زياد بن أبي الجعد، عن وابصة به2. فَتَبَيَّنَ من ذلك أن الحديث صحيح لا مطعن فيه، وأن العلتين اللتين أُعِلَّ بهما ضعيفتان، كما قال ابن القَيِّم رحمه الله. ومن الشواهد لهذا الحديث مما تَكَلَّمَ عليه ابن القَيِّم رحمه الله: 33- (18) حديث على بن شيبان3رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُصَلِّي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل، فقال له: "اسْتَقْبِلْ صَلاتَكَ، فَلا صَلاة لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ ".   1 تهذيب السنن: (1/337) . 2 انظر: الإحسان (3/312) ح 2198. وقد أخرجه من هذا الوجه أيضاً: أحمد في مسنده: (4/228) ، والدارمي (1/237) ح 1290، والبيهقي في سننه: (3/105) . وإسناده صحيح، كما قال الشيخ أحمد شاكر في حاشية الترمذي: (1/449) . 3 ابن محرز اليمامي، الحنفي، صحابي مُقِلٌّ، تفرد عنه ابنه عبد الرحمن / بخ د ق. (التقريب 402) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، فقال: " ... كما في الْمُسْنِد بإسناد صحيح، وصحيحي ابن حبان وابن خزيمة، عن علي بن شيبان ... " فذكره1. قلت: حديث على بن شيبان هذا أخرجه: أحمد في (مسنده) 2، وابن ماجه في (سننه) 3، وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحهما) 4، والبيهقي في (سننه) 5 كلهم من طريق: ملازم بن عمرو6، عن عبد الله بن بدر7، عن عبد الرحمن بن علي ابن شيبان8، عن أبيه - وكان من الوفد9 - قال: قَدِمْنَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، وصَلَّيْنَا خلفه، ثم صلينا وراءه صلاةً أخرى، فقضى الصلاة فرأى رجلاً فَرْدَاً يُصلِّي خلف الصف ... الحديث. هذا لفظ ابن ماجه، ولفظ الآخرين قريب.   1 إعلام الموقعين: (2/ 358 - 359) . (4/23) . (1/320) ح 1003 ك إقامة الصلاة والسنة فيها، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده. 4 خز: (3/30) ح 1569، حب: الإحسان (3/312) ح 2199. (3/105) . 6 هو: أبو عمرو اليَّمَامِي. 7 ابن عميرة الحنفي السُّحَيْمِي. 8 الحنفي اليمامي، ثقة، من الثالثة/ بخ د ق. (التقريب 347) . 9 في سنن البيهقي: "وكان أحد الوفد الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني سُحَيم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وعند أحمد والبيهقي زيادة ليست عند الباقين، فقد جاء لفظه عندهما هكذا: " ... فصلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فَلَمَحَ بمؤخر عينيه إلى رجلٍ لا يقَيِّم صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر المسلمين، إنه لا صلاة لمن لا يقَيِّم صُلْبَهُ في الركوع والسجود ... " ثم ذكر قصة المنفرد خلف الصف. وهذا الحديث إسناده صحيح، قال الحافظ البوصيري: "هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات"1. وصَحَّحَهُ الشيخ الألباني في مواضع2، وقال في (الإرواء) 3: "وجملة القول: أن أمره صلى الله عليه وسلم الرجل بإعادة الصلاة، وأنه لا صلاة لمن يصلي خلف الصف وحده: صحيح ثابت عنه من طرق"4. وقد تقدم تصحيح ابن القَيِّم - رحمه الله - لإسناده، مع إشارته إلى تصحيح ابن خزيمة وابن حبان له، وبذلك يكون شاهداً قوياً لحديث وابصة الماضي قبله.   1 مصباح الزجاجة: (1/122) . 2 انظر: إرواء الغليل: (2/328 - 329) ، والتعليق على ابن خزيمة: (3/30) ، وصحيح ابن ماجه (ح822) . (2/329) . 4 وتنظر هذه الطرق والكلام عليها في "الإرواء" له (2/323 - 329) ح 541. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 13- باب ما جاء في صلاة الإمام جالسا قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... عمل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في اقتدائهم به وهو جالس، وهذا كأنه رأى العين، سواء كانت صلاتهم خلفه قعوداً أو قياماً، فهذا عملٌ في غايةِ الظهورِ والصحةِ، فَمِنَ العجب أن يُقَدَّمَ عليه رواية: 34- (19) جابر الجُعْفِي عن الشعبي - وهما كوفيان - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بعدي جالساً". قال: "وهذا من أسقط روايات أهل الكوفة"1. قلت: هذا الحديث أخرحه الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 2، كلاهما من طريق: سفيان بن عيينة، عن جابر الجعفي، عن الشعبي به. قال الدارقطني عقب إخراجه: "لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي، وهو متروك، والحديث مرسلٌ لا تقوم به حجة". وقال الإمام الشافعي: "وقد أَوْهَمَ بعض الناس فقال: لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعد النبي جالساً، واحتجَّ بحديث رواه منقطعٌ عن رجل مرغوب عن الرواية عنه، لا يثبت بمثله حجة على أحد ... "3. وقال البيهقي في (المعرفة) 4: "قد علم الذي احتج بهذا: أن ليست فيه حجة، وأنه لا يثبت؛ لأنه مرسل، ولأنه عن   1 إعلام الموقعين: (2/384) . 2 قط: (1/398) ح 6. هق: (3/80) . 3 الرسالة: (ص 255 - 256) . (4/146) رقم 5711. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 رجل يَرْغَبُ الناس عن الرواية عنه". وقال ابن حبان: " ... وأعلى شيء احتجوا به: شيء رواه جابر الجعفي، عن الشعبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالساً". وهذا لو صحَّ إسناده لكان مرسلاً، والْمَرْسَلُ من الخبر وما لم يُرو سِيَّانِ في الحكم ... والعجب ممن يحتج بمثل هذا المرسل وقد قَدَحَ في راويه زعيمهم"! ثمَّ روى بإسناده إلى أبي حنيفة أنه كَذَّبَ جابراً الجعفي، ثم قال: "فهذا أبو حنيفة يَجْرَحُ جابراً الجعفي ويكذبه، ضد قول من انتحل من أصحابه مذهبه"1. وقال عبد الحق في (أحكامه) - ونقله عنه الزيلعي2 -: "ورواه عن الجعفي مجالد، وهو أيضاً ضعيف". وقال الشيخ أحمد شاكر: "هذا الحديث غاية في الضَّعْفِ"3. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث ضعيف جداً، لا تقوم بمثله حجة، كما اختار ابن القَيِّم رحمه الله.   1 الإحسان: (3/273) . 2 نصب الراية: (2/50) . 3 حاشية "الرسالة" للشافعي: (ص256) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 14- باب من ترك القصر في السفر 35- (20) عن عائشة رضي الله عنها قالت: خَرَجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عُمْرَة رمضان، فَأَفْطَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت، وقَصرَ وأتممت، فقلت: يا رسول الله بأمي وأمي، أفطرتَ وصمتُ، وقصرتَ وأتممتُ، فقال: "أَحْسَنْتِ يا عائشة". أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (زاد المعاد) 1 في موضعين منه، وقال في الموضع الأول منهما: "وأما ما رواه الدارقطني وغيره عن عائشة ... فَغَلَطٌ، إما عليها - وهو الأظهر - أو منها، وأَصَابَهَا فيه ما أَصَابَ ابن عمر في قوله: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب. فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط". وحَكَمَ في الموضع الثاني بغلطه كذلك، ثم قال: " ... فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَعْتَمِر في رمضان قَطُّ، وعُمَرُهُ مضبوطة العدد والزمان، ونحن نقول: يرحم الله أم المؤمنين، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان قَطُّ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة".   (2/55، 93) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 1، من طريق: محمد بن يوسف2 الفريابي، عن العلاء بن زهير3، عن عبد الرحمن بن الأسود4، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها به. وهذا الحديث حَسَّنَ الدارقطني إسناده، فقال: "متصل، وهو إسناد حسن"5. وصَحَّحَ البيهقي إسناده6. ولكنَّ هذا الحديث أُعِلَّ بعلتين: 1- أنه اخْتُلِفَ على العلاء في إسناده، فرواه الفريابي متصلاً كما مضى، ورواه غَيْرُهُ: عن العلاء، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن عائشة مرسلاً، بدون ذكر "الأسود". 2- أنَّ ذِكْرَ "رمضان" فيه منكر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر قطُّ في رمضان، وقد جاءت الرواية المرسلة بدون ذكر"رمضان".   1 قط: (2/188) ح 39. هق: (3/142) باب ترك القصر في السفر غير رغبة عن السنة. 2 ابن واقد بن عثمان الضَّبِّي مولاهم، نزيل قيسارية من ساحل الشام، ثقة فاضل، يقال: أخطأ في شيء من حديث سفيان، وهو مُقَدَّم فيه - مع ذلك - عندهم على عبد الرزاق، من التاسعة، مات سنة 212هـ / ع. (التقريب 515) . 3 ابن عبد الله الأزدي، أبو زهير الكوفي، ثقة، من السادسة/ س. (التقريب 435) . 4 ابن يزيد بن قيس النخعي، ثقة، من الثالثة، مات سنة 99هـ / ع. (التقريب 336) . 5 السنن: (2/188) . 6 السنن: (3/142) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 أما العلة الأولى، وهي الاختلاف فيه: فقد أخرجه النسائي في (سننه) 1، وكذا البيهقي2 من طريق: أبي نعيم3. وأخرجه الدارقطني في (سننه) 4، من طريق: القاسم بن الحكم5. كلاهما عن: العلاء بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، حتى إذا قَدِمَتْ مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قَصَرتَ وأتممتُ، وأفطرتَ وصمتُ؟ قال: " أَحْسَنْتِ يا عائشة ". وما عاب عليَّ. هذا لفظ النسائي والبيهقي. وأما الدارقطني فلفظه: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه، فقصر وأتممت الصلاة، وأفطر وصمت، فلما دنوت إلى مكة قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قصرت وأتممت، وأفطرت وصمت، فقال: " أَحْسَنْتِ يا عائشة " وما عابهُ عليَّ. قال الدارقطني عقب روايته: "وعبد الرحمن قد أَدْرَكَ عائشة، ودخل عليها وهو مراهق، وهو مع أبيه، وقد سمع منها". قال ابن حجر: "وهو كما قال، ففي تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك ... وفي ابن أبي شيبة   (3/122) ك تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة. 2 السنن: (3/142) . 3 هو الفضل بن دكين، التيمي مولاهم، الأحول، مشهور بكنيته، ثقة ثبت، من التاسعة، مات سنة 218هـ وقيل 219هـ / ع. (التقريب 446) . (2/188) ح 40. 5 ابن كثير، العرني، أبو أحمد الكوفي، قاضي همذان، صدوقٌ فيه لِين، من التاسعة، مات سنة 208هـ / بخ ت. (التقريب 449) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 والطحاوي ثبوت سماعه منها"1. وقال أبو حاتم: "أُدْخِلَ على عائشة وهو صغير، ولم يسمع منها"2. وَتَعَقَّبَهُ العلائيُّ، فقال: "روى حماد بن زيد وغيره، عن الصعب بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود قال: كنت أدخل على عائشة بغير إذن، حتى إذا كان عام احتلمتُ سَلَّمْتُ واستأذنتُ، فَعَرَفَتْ صوتي ... الحديث. وهذا يقتضي خلاف ما قاله أبو حاتم"3. وعلى هذا يكون هذا الإسناد مُتَّصلاً لا انقطاع فيه. وقد حكم الأئمة لهذه الرواية التي ليس فيها ذكر "الأسود"، فقال أبو بكر النيسابوري: "من قال فيه: عن أبيه. فقد أخطأ"4. وذكر الدارقطني الخلاف فيه على العلاء بن زهير، ثم قال: "والمرسل أشبه بالصواب"5. وقد اعتبر الحافظ ابن حجر هذا من الدارقطني تناقضاً حيث قال: "واختلف قول الدارقطني فيه، فقال في السنن: إسناده حسن. وقال في العلل: المرسل أشبه"6.   1 التلخيص الحبير: (2/44) . 2 المراسيل لابن أبي حاتم: (ص129) . 3 جامع التحصيل: (ص269) . 4 سنن البيهقي: (3/142) . 5 علل الدارقطني: ج5 (ق 60/أ) . 6 التلخيص الحبير: (2/44) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 قلت: ولعل الدارقطني - رحمه الله - قصد بتحسين إسناده: ثقة رواته دون أن يقصد نفي العلَّة عنه. وأما بالنسبة للعلة الثانية، وهي النَّكارة في متنه: فقد حكم غير واحد بأن لفظة "رمضان" منكرة، فقال النوويُّ: "وهذه اللفظة مُشْكِلَةٌ؛ فإن المعروف أنه - عليه السلام - لم يعتمر إلا أربع عمر، كلهن في ذي القعدة"1. وحَكَمَ الأئمة: ابن عبد الهادي2، وابن الملقن3، وابن حجر4 بنكارة الحديث - أيضاً - من أجل ذكر الاعتمار في رمضان فيه. وقد سبق أن رواية أبي نعيم ومن معه - التي ليس فيها ذكر "الأسود" - لم ترد فيها هذه اللفظة، وقد حَكَمَ الأئمة بأنها مُقَدَّمَةٌ على الأخرى: النيسابوري والدارقطني. فلعل راويها أخطأ في متنها كما أخطأ في إسنادها، فتكون رواية أبي نعيم هي الصواب إسناداً ومتناً. وقد لجأ البعض إلى محاولة دفع هذا التعارض، فقال الحافظ ابن حجر: "ويمكن حمله على أن قولها: في رمضان متعلق بقولها: خَرَجْتُ. ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان في رمضان، واعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة من الجعرانة، لكن في ذي القعدة"5.   1 خلاصة الأحكام: (ق 96/أ) . 2 تنقيح التحقيق: (ق149) . 3 البدر المنير: ج 3 (ق 153/ب) نسخة أحمد الثالث. 4 التلخيص الحبير: (2/44) . 5 فتح الباري: (3/603) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وقد نقل ابن الملقن مثل هذا الجواب عن بعض شيوخه، ثم رَدَّهُ بقوله: "وتَمَحَّلَ بعض شيوخنا الحفاظ في الجواب عن هذا الإشكال ... "1. وقد أَعَلَّ بعضهم هذا الحديث بـ"العلاء بن زهير"، فقال ابن التركماني2:"قال فيه ابن حبان: يروى عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، فَبَطَلَ الاحتجاج به"3. ولكنَّ ذلك مردودٌ؛ فإن يحيى بن معين قال فيه: "ثقة"4. وقال عبد الحق: "ثقة مشهور"5. حتى إنَّ ابن حبان نفسه ذكره في (الثقات) 6 فتناقض بذلك. قال الذهبي رحمه الله: "قلت: العبرة بتوثيق يحيى"7. وأَعَلَّهُ ابن حزم بجهالة العلاء بن زهير هذا، فقال: "لم يروه غيره، وهو مجهول" وقال قبل ذلك عن هذا الحديث: "لا خير فيه"8. كذا قال ابن حزم! وردَّ عليه ابن الملقن رحمه الله، وأثبت معرفة عينه وحاله، ثم نقل ردَّ عبد الحق عليه، إذ قال: "وقول ابن حزم: لا خير فيه. جهل منه بالآثار". قال: "ودعواه جهالة العلاء غلطٌ، بل هو ثقة مشهور، روى عنه   1 البدر المنير: ج 3 (ق 153/ب) . 2 في الجوهر النقي: (3/142) . 3 انظر: المجروحين: (2/183) . 4 الجرح والتعديل: (3/1/355) . 5 تهذيب التهذيب: (8/181) . (7/265) . 7 الميزان: (3/101) . 8 المحلى: (4/269) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 الأعلام، ووثقه ابن معين"1. بَقَيَ أمرٌ آخر يمكن إيراده على هذا الحديث، وهو كيفَ تخالفُ عائشة رضي الله عنها ما شَاهَدَتْهُ من فِعْلِ النبي صلى الله عليه وسلم وسائرِ أصحابهِ؟ وقد صَوَّرَ ابن الملقن - رحمه الله - هذه الشبهة، فقال: "وبلغني عن بعض الأكابر ممن عَاصَرْتُ أنه أَنْكَرَ هذا الحديث من وجهٍ آخر، وقال: كيف تُتِمُّ مع مشاهدتها الشَّارِعَ والصحابة، وهي تقول: فُرِضَتْ الصلاة ركعتين ... الحديث، وإنما صحَّ إتمامها بعده عليه السلام متأولة ما تأوله عثمان؟ ". قال: "وهذا إنكار عجيب ... ومعنى أُقِرَّتْ صلاة المسافر: في جواز الاقتصار عليها، بخلاف صلاة الحضر، فإن الزيادة فيها متحتمة"2. ويمكن أن يُقال: إن موافقته صلى الله عليه وسلم لها لبيان الجواز، ولذلك بوَّبَ عليه البيهقي بقوله: "باب من ترك القصر في السفر غير رغبة عن السُّنَّةِ". فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث صحيح من رواية أبي نعيم والقاسم بن الحكم، عن العلاء بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن عائشة، بدون ذِكْرِ "الأسود بن يزيد" في إسناده، ولا "رمضان" في متنه. وقد حكم بصحته من تقدم ذكرهم، وصححه كذلك ابن الملقن- رحمه الله - من هذه الطريق، وكذا عبد الحق3. وأما ابن القَيِّم: فقد أَعَلَّهُ بهذه اللفظة، ولم يتعرض للرواية الأخرى التي لم ترد فيها تلك اللفظة، فلعله لم يقف عليها؟ فالله أعلم.   1 انظر: البدر المنير: ج 3 (ق 153/ب) . 2 انظر: البدر المنير: ج 3 (ق 154/أ) . 3 البدر المنير: ج 3: (ق153/أ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 15- باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين في السفر 36- (21) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيْغَ الشَّمسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعُهَا إلى العصرِ، فيصليهما جميعاً، وإِذَا ارْتَحَلَ بعدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظهرَ والعصرَ جَمِيعَاً ثم سَارَ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أَخَّرَ المغربَ حتَّى يصليها مع العشاءِ، وإذا ارتحلَ بعد المغرب عَجَّلَ العِشَاء، فصلاَّهَا مع المغرب". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث عند الكلام على هديه صلى الله عليه وسلم في الجمع بين الصلاتين في السفر، ثم قال: "لكن اخْتُلِفَ في هذا الحديث، فمن مُصَحِّح له، ومن مُحَسِّنٍ، ومن قادح فيه وجعله موضوعاً: كالحاكم، وإسناده على شرط الصحيح، لكن رُمِيَ بعِلَّةٍ عجيبةٍ". ثم نقل عن الحاكم كلامه في إعلاله ووصفه بالوضع1، ونقل في موضع آخر تضعيف الترمذي، وأبي داود، وابن حزم له2، ثم قامَ - رحمه الله - بالجواب عن تلك العلل بما سيأتي نقله عنه خلال هذا البحث إن شاء الله. قلتُ: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في   1 زاد المعاد: (1/477 - 480) . 2 زاد المعاد: (3/544) . (2/18) ح 1220، ك الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 (جامعه) 1، وأحمد في (مسنده) 2، وابن حبان في (صحيحه) 3، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 4 من طرق، عن: قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب5، عن أبي الطفيل6، عن معاذ بن جبل به. وقد أُعِلَّ حديث قتيبة هذا بعللٍ: أولها: أن قتيبة تَفَرَّدَ به، ولم يتابعه أحدٌ على ذكر جمع التقديم. ثانيها: أن غلِطَ في إسناده، وأن صوابه "أبو الزبير" بدل "يزيد بن أبي حبيب". ثالثها: أن يزيد بن أبي حبيب عنعنه، ولا تُعْرَفُ له رواية عن أبي الطفيل، قاله ابن حزم. وإلى مناقشة هذه العلل: أولاً: أمَّا تفرد قتيبة به: فقاله غير واحد: قال أبو داود عقب   (2/438) ح 553، ك الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين. (5/241) . 3 الإحسان: (3/61) ح 1591. 4 قط: (1/392) ح 15. هق: (3/162) . 5 المصري، أو رجاء، ثقة فقيه، وكان يرسل، من الخامسة، مات سنة 128هـ / ع. (التقريب 600) . 6 عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي، ولد عام أحد، ورأى النبيصلى الله عليه وسلم، وعُمِّرَ إلى أن مات سنة110هـ على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة/ع. (التقريب 288) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 إخراجه: "ولم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده" كذا في (السنن) ، ونقل عنه ابن القَيِّم في (الزاد) 1 قوله: "هذا حديث منكر، وليس في تقديم الوقت حديث قائم". وكذا نقله ابن حجر في (التلخيص) 2. وقال أبو عيسى الترمذي: "تَفَرَّدَ به قتيبة، لا نعرف أحداً رواه عن الليث غيره". وقال أبو سعيد بن يونس: "لم يُحَدِّثْ بهذا الحديث إلا قتيبة"3. وقال الحاكم أبو عبد الله: "هذا حديث رواته أئمة ثقات، وهو شاذُّ الإسناد والمتن، لا نَعْرِفُ له علة نُعَلِّلُهُ بها ... فنظرنا فإذا الحديث موضوع"4. وقال الذهبي: "أتى بلفظ منكر جداً"5 يعني قتيبة. ويرى البخاري - رحمه الله - أنَّ هذا الحديث أُدْخِلَ على قتيبة، فروى الحاكم في (علوم الحديث) 6 بسنده إلى البخاري، أنه قال: "قلتُ لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني. قال البخاري: وكان خالدٌ المدائني يُدخِلُ الحديث على الشيوخ". وقال الذهبي: "يَرَوْنَ أن خالداً المدائني أدخله على الليث، وسمعه قتيبة معه، فالله أعلم". ثم قال: "هذا التقرير يؤدي إلى أن الليث كان يقبل التلقين، ويروي مالم يسمع، وماكان كذلك. بل كان حُجَّةً متثبتاً،   (3/544) . (2/49) . 3 التلخيص الحبير: (2/49) . 4 معرفة علوم الحديث: (ص120) في نوع الشاذ. 5 سير أعلام النبلاء: (11/23) . (ص 120 - 121) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 وإنما الغفلة وقعت فيه من قتيبة، وكان شيخ صدقٍ، قد روى نحواً من مائة ألف، فَيُغْتَفَرُ له الخطأ في حديث واحد"1. ولقد حاول ابن القَيِّم - رحمه الله - الجواب عن هذه العلة، فذكر أن أبا داود أخرجه من حديث: يزيد بن خالد2، عن المفضل بن فضالة3، عن الليث بن سعد، عن هشام بن سعد4، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ به. قال ابن القَيِّم: "فهذا الْمُفَضَّلُ قد تَابَعَ قتيبة، وإن كان قتيبة أجلَّ من المفضل وأحفظ، لكن زال تفرد قتيبة به"5. كذا ساق ابن القَيِّم إسناده، والذي في (سنن أبي داود) 6: "المفضل ابن فضالة والليث بن سعد" لا "عن الليث بن سعد". وعلى هذا فيكون الذي تابع قتيبة: هو "يزيد بن خالد"، وليس "المفضل بن فضالة". مع ملاحظة اختلاف الإسنادين وعدم اتحادهما، فإن يزيد بن خالد جعله: "عن الليث ومفضل، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير" بخلاف إسناد   1 سير أعلام النبلاء: (11/23 - 24) . 2 ابن عبد الله بن موهب الرَّمْلي، أبو خالد، ثقة عابد، من العاشرة، مات سنة 232هـ أو بعدها/ د س ق. (التقريب 600) . 3 ابن عبيد بن ثمامة القتباني، المصري، أبو معاوية القاضي، ثقة فاضل عابد، أخطأ ابن سعد في تضعيفه، من الثامنة، مات سنة 181 هـ/ع. (التقريب 544) . 4 المدني، أبو عباد، أو أبو سعيد، صدوق له أوهام، ورمي بالتشيع، من كبار السابعة، مات سنة 160 هـ أو قبلها / خت م 4. (التقريب 572) . 5 زاد المعاد: (1/478 - 479) . (2/12) ح 1208. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 قتيبة الذي هو: "عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب". وسيأتي الكلام على ذلك عند مناقشة العلة الثانية. ولكن، هل تصلحُ هذه المتابعة للوقوف إلى جانب رواية قتيبة، ودَفع شبهة التَّفَرُّدِ عنه؟؟ الجواب: لا. وذلك لأن الأئمة الحفاظ قد خالفوا هشام بن سعد في هذه الرواية، فرووه عن: أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ، بدون ذكر جمع التقديم، منهم: الليث بن سعد، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وقُرَّةُ بن خالد. وقد أشار بعض الأئمة إلى ذلك، فقال الترمذي - عقب روايته حديث قتيبة -: "والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ، من حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء ". رواه قرة بن خالد، وسفيان الثوري، ومالك، وغير واحد عن أبي الزبير المكي"1. وقال الحافظ ابن حجر: "وهشام لَيِّنُ الحديث، وقد خالف أوثق الناس في أبي الزبير، وهو الليث بن سعد"2. وقال مرةً: "وهشام مختلف فيه، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير ... "3. قلت: أخرج رواية قرة بن خالد: مسلم في (صحيحه) 4. ورواية   1 جامع الترمذي: (2/440) . 2 التلخيص الحبير: (2/49) . 3 فتح الباري: (2/583) . (1/490) ح 53 باب الجمع بين الصلاتين في الحضر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 مالك: في (الموطأ) 1 مطولة. ورواية سفيان: في (مسند أحمد) 2. فظهر من ذلك أن رواية هشام بن سعد لا تصلح لمتابعة رواية قتيبة؛ إذ هي الأخرى معلولة. ثانياً: وأما غَلَطُ قتيبة في إسناده: فقد مضى أن هشام بن سعد قال فيه: "عن أبي الزبير" بدل "يزيد بن أبي حبيب"، وَرَجَّحَ غير واحد رواية هشام، فقال أبو حاتم: "لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث. حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، عن هشام، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل ... "3 فذكره. وقال أبو سعيد بن يونس: "يقال: إنه غلط، وأنَّ موضع يزيد بن أبي حبيب: أبو الزبير"4. فرجعَ بذلك حديث قتيبة إلى حديث هشام، وتقدم أن حديث هشام معلول بمخالفة الثقات من أصحاب أبي الزبير، فيرجع الكل إلى رواية هؤلاء الثقات عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ، بدون ذكر جمع التقديم فيه. ثالثاً: ما أَعَلَّهُ به ابن حزم - رحمه الله - من عنعنة يزيد بن أبي حبيب، وأنه لا تُعْرَفُ له رواية عن أبي الطفيل: فقد أجاب عن ذلك   (1/143) ح 2، ك قصر الصلاة في السفر، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر. (5/230، 236) . 3 علل ابن أبي حاتم: (1/91) ح 245. 4 سير أعلام النبلاء: (11/23) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 الشيخ الألباني، فقال: "يزيد بن أبي حبيب غير معروف بالتدليس، وقد أدرك أبا الطفيل حتماً؛ فإنه وُلِدَ سنة (53) ومات سنة (128) . وتوفي أبو الطفيل سنة (100) أو بعدها، وعمر يزيد حينئذ 47 سنة"1. قلت: لكن وافق ابن حزم في هذا القول: الحاكمُ أبو عبد الله، فقال: " ... ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية"2. وقال الْمِزِّيُّ رحمه الله - عندما ذكر أبا الطفيل في شيوخ يزيد -: "إن كان محفوظاً"3. وهذه العلة تؤكد ما تَقَدَّمَ من أن: ذكر يزيد بن أبي حبيب في إسناده خطأ، وأن الصواب: أبو الزبير. فَظَهَرَ بذلك أن ذكر جمع التقديم في حديث معاذٍ لا يصحُّ، وأن الصَّواب عدمُ ذكره كما أخرج ذلك مسلم، ومالك وغيرهما. لكن ابن القَيِّم - رحمه الله - متمسك بصحة ذلك عن معاذ، وقد دَافَعَ عنه بما تقدم ذكره من كلامه، وقال في (إعلام الموقعين) 4: "إسناده صحيح، وعلته واهية". ثم شرع في ذكر بعض الشواهد له فمن ذلك: 37- (22) ما رواه إسحاق بن راهويه: حدثنا شبابة، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس رضي الله عنه: "أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا كان في سفر، فَزَالَتِ الشمسُ، صَلَّى الظهرَ والعصرَ ثم ارْتَحَلَ".   1 إرواء الغليل: (3/30) . 2 علوم الحديث: (ص120) . 3 تهذيب الكمال: (32/104) . (2/422) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 قال ابن القَيِّم: "وهذا إسناد كما ترى، وشبابة: هو شبابة بن سَوَّار، الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه، وقد روى له مسلم في صحيحه عن الليث بن سعد بهذا الإسناد، على شرط الشيخين، وأقلُّ درجاته: أن يكون مُقَوِّيَاً لحديث معاذ"1. قلت: هذا الحديث أخرجه البيهقي في (سننه) 2 من طريق ابن راهويه، ونقل الحافظ ابن حجر عن النوويِّ قوله: "إسناده صحيح"، ثم قال: "وفي ذهني أن أبا دود أنكره على إسحاق"3. وقال مرة: "أخرجه الإسماعيلي، وأُعِلَّ بتفرد إسحاق بذلك عن شبابة، ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحاق، وليس ذلك بقادحٍ؛ فإنهما إمامان حافظان"4. قال: "ولكن له متابع رواه الحاكم في (الأربعين) له، عن أبي العباس محمد بن يعقوب، عن محمد بن إسحاق الصغاني، عن حسان بن عبد الله، عن المفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس ... " فذكره. قال: "وهو في الصحيحين من هذا الوجه بهذا السياق، وليس فيهما: "والعصر"، وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي، وتَعَجَّبَ من الحاكم كونه لم يورده في المستدرك"5. ثم عاد فقال: "وهي متابعة قوية لرواية إسحاق بن راهويه   1 زاد المعاد: (1/479) . (3/162) . 3 التلخيص الحبير: (2/49) . 4 فتح الباري: (2/583) . 5 التلخيص الحبير: (2/49 - 50) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 إن كانت ثابتة، لكن في ثبوتها نظر ... "1. ولحديث أنس هذا طريق أخرى أشار إليها الحافظ ابن حجر في (التلخيص) 2 فقال: "رواها الطبراني في (الأوسط) : حدثنا محمد بن إبراهيم بن نصر بن شبيب الأصبهاني، ثنا هارون الحمال، ثنا يعقوب بن محمد الزهري، ثنا محمد بن سعدان، ثنا ابن عجلان، عن عبد الله بن الفضل، عن أنس رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفرٍ فزاغتِ الشمسُ قبل أن يرتحل، صلَّى الظهر والعصر جميعاً ... " الحديث، قال الطبراني: تفرد به يعقوب بن محمد". وقال الهيثمي: "رجاله موثقون"3. قلت: يعقوب بن محمد: ضَعَّفَهُ بعضهم، ووثقه آخرون، وروايته عن الثقات مقبولة4. وشيخه محمد بن سعدان: قال فيه أبو حاتم: "شيخ"5. وهذه العبارة تشعر بنوع تعديل، ولا تدلُّ على مطلق الضعف، فيكون هذا الإسناد صالحاً للاستشهاد به، فإذا ضُمَّ إلى طريق ابن راهويه السابق أَخَذ حديث أنس قوةً، فإذا ضُمَّ حديث أنس هذا - بطريقيه - إلى حديث معاذ السابق، كان كما قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "أقلُّ درجاته أن يكون مُقَوِّيَاً لحديث معاذ"6.   1 فتح الباري: (2/583) . (2/50) . 3 مجمع الزوائد: (3/160) . 4 انظر: تهذيب التهذيب: (11/396) . 5 الجرح والتعديل: (3/2/282) . 6 زاد المعاد: (1/479) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - شاهداً آخر لحديث معاذ، وهو: 38- (23) حديث هشام بن عروة، عن حسين بن عبد الله1، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " أَلا أُخْبِرُكُم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر؟ كان إذا زالت الشمس وهو في مَنْزِلَهِ جَمَعَ بين الظهرِ والعصرِ في الزَّوال ... "فذكر نحو حديث معاذ وأنس المتقدمين. ثم نقل ابن القَيِّم عن البيهقي خلافاً وقع في إسناده2. وقد ذكر الدارقطني - رحمه الله - وجوه الاختلاف في إسناد هذا الحديث، ثم جمع بينها، فقال: "رَوَى هذا الحديث حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني حسين، عن كريب وحده، عن ابن عباس3. ورواه عثمان بن عمر، عن ابن جريج، عن حسين، عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه عبد المجيد، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن حسين، عن كريب، عن ابن عباس. وكلهم ثقات، فاحتمل أن يكون ابن جريج سمعه أولاً من هشام عن حسين، كقول عبد المجيد عنه، ثم لقي ابن جريج حسيناً فسمعه منه: كقول عبد الرزاق4 وحجاج عن ابن جريج:   1 ابن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، المدني، ضعيف، من الخامسة، مات سنة 140هـ أو بعدها بسنة / ت ق. (التقريب 167) . 2 زاد المعاد: (1/ 479 - 480) . 3 أخرجه من هذا الطريق البيهقي: (3/163) . 4 ورواية عبد الرزاق: أخرجها الدارقطني: (1/388) ح 1، والبيهقي (3/163) من طريق: عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن حسين، عن عكرمة وكريب كليهما، عن ابن عباس به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 حدثني حسين. واحتمل أن يكون حسين سمعه من عكرمة، ومن كريب جميعاً، عن ابن عباس، وكان يُحَدِّثُ به مرة عنهما جميعاً: كرواية عبد الرزاق عنه. ومرة عن كريب وحده: كقول حجاج وابن أبي رواد. ومرة عن عكرمة وحده، عن ابن عباس: كقول عثمان بن عمر، وتصحُّ الأقاويل كُلَّهَا"1. وأشار ابن حجر - رحمه الله - في (التلخيص الحبير) 2 إلى كلام الدارقطني هذا، ثم قال: "إلا أنَّ عِلَّتَهُ ضعفُ حسين، ويقال: إن الترمذي حَسَّنَهُ، وكأنه باعتبار المتابعة، وغَفَلَ ابن العربي فصحح إسناده. لكن له طريق أخرى، أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني في (مسنده) : عن أبي خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. وروى إسماعيل القاضي في (الأحكام) عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن كريب، عن ابن عباس نحوه". وقال في (فتح الباري) 3: "في إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي، وهو ضعيف، لكن له شواهد من طريق: حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن ابن عباس - ولا أعلمه إلا مرفوعاً4 -: " أَنَّه كَانَ إِذَا نَزَل مَنْزلاً في السَّفر فأعجبه أقام فيه حتى يجمعَ بين الظهر والعصر، ثم يرتحلُ،   1 سنن الدارقطني: (1/388) . (2/48) . (2/583) . 4 هذا من كلام البيهقي، وتمامه: "وإلا فهو عن ابن عباس" (السنن 3/164) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 فإذا لم يتهيأ له المنزل مَدَّ فِي السَّير، فسار حتى ينزل، فيجمع بين الظهر والعصر" أخرجه البيهقي1، ورجاله ثقات، إلا أنه مشكوك في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف". وعلى كلِّ حالٍ فالحديث يَتَقَوَّى بهذه الطرق، وبما مضى من شواهد، وقد قال البيهقي رحمه الله: "هو بما تَقَدَّمَ من شواهده يقوى"2. وقال الشيخ الألباني: "فالحديث صحيح عن ابن عباس بهذه المتابعات والطرق"3. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن الحديث وإن كان ضعيفاً من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه، فإنه يتقوى بهذه الشواهد التي أَوْرَدَهَا ابن القَيِّم - رحمه الله - من حديث أنس، وابن عباس رضي الله عنهما. أما أن يكون حديث معاذ صحيحاً بنفسه - كما ذهب إليه ابن القَيِّم - فلا، لما تقدم بيانه من أنه معلول. على أن تصرف ابن القَيِّم قد يَدَلُّ على أن حديث معاذ قاصر عن درجة الصحة عنده، فإنه قد صَدَّرَه بقوله: "وقد رُوِيَ عنه في غزوة تبوك ... ". وهذه الصيغة غالباً ما يستعملها فيما يذهب إلى ضعفه أو ما هو مترَدِّدٌ فيه، والله أعلم.   1 سنن البيهقي: (3/164) . 2 المصدر السابق. 3 إرواء الغليل: (3/32) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 من كتاب الزكاة 1- باب في عقوبة مانع الزكاة 39- (1) عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في كُلِّ إبل سَائِمَةٍ1، في كل أربعين: ابنة لَبُون2، لا يُفَرَّقُ إبلٌ عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً3 فله أجرها، ومن أبى فإنا آخذوها وشطر إبله، عَزْمَةٌ4 من عَزَمَات ربنا، لا يَحِلُّ لآل محمد صلى الله عليه وسلم منها شيء". تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث بالمناقشة، فذكر أن جماعة ذهبوا إلى أنه منسوخ، وأن ذلك كان في أول الإسلام، وأن آخرين رَدُّوهُ بضعف بهز بن حكيم. ثم أخذ - رحمه الله - في الرد على هؤلاء وهؤلاء، فقال: "وليس لمن رَدَّ هذا الحديث حجة، ودعوى نسخه دعوى باطلة؛ إذ هي دعوى ما لا دليل عليه، وفي ثبوت شَرْعِيَّة العقوبات المالية عِدَّةُ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يثبت نسخها بحجة، وعَمِل بها الخلفاء بعده"5.   1 السَّائِمَةُ: الراعية، يقال: سَامَتٍ الماشية، سَوْماً: رعتْ بنفسها، وأَسَامَهَا راعيها، فهي سَائِمَة، والجمع: سَوائِم. (المصباح المنير 1/297) . 2 هي من الإبل ما أتى عليها سنتان ودخلت في الثالثة، فصارت أمها لبوناً، أي ذات لبن؛ لأنها تكون حملت حملاً آخر ووضعته. (النهاية 4/228) . 3 أي طالباً للأجر. 4 عَزْمَةٌ من عزمات ربنا: أي حق من حقوقه، وواجب من واجباته. (النهاية 3/232) . 5 تهذيب السنن: (2/193 - 194) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 ثم أخذ يَرُدُّ على من ضَعَّفَ الحديث ببهز، فنقل جملة من أقوال الأئمة الذي وثقوه وصححوا حديثه، وَرَدَّ على ابن حبان في قوله: "لولا حديثه هذا لأدخلناه في الثقات": بأنه إن لم يكن لضعفه سبب إلا روايته هذا الحديث، وهذا الحديث إنما رُدَّ لضعفه، كان هذا دَورَاً باطلاً، قال: "وليس في روايته لهذا ما يوجب ضعفه؛ فإنه لم يخالف فيه الثقات ... "1 قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي في (سننيهما) 2، وأحمد والدارمي في (مسنديهما) 3، وعبد الرزاق في (مصنفه) 4 - ومن طريقه البيهقي5 - وابن الجارود في (المنتقى) 6، والحاكم في (المستدرك) 7 من طرق، عن:   1 تهذيب السنن: (2/194) . 2 د: (2/233) ح 1575 ك الزكاة، باب في زكاة السائمة. س: (5/15) باب عقوبة مانع الزكاة. و (5/25) باب سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلاً … ك الزكاة. 3 حم: (5/2، 4) . مي: (1/333) ح 1684 ك الزكاة، باب ليس في عوامل الإبل صدقة. (4/18) ح 6824. (4/105) . (ح 341) . (1/398) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 بهز بن حكيم1، عن أبيه2، عن جده3، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، واللفظ المذكور هو لفظ النسائي، ولفظ الباقين نحوه، إلا أنه وقع عند أبي داود: " ... وشطر ماله" بدل: "وشطر إبله". وأما عبد الرزاق، فقد جاء عنده: " ... عزيمة من عزائم ربك، لا تحل لمحمد ولا لآل محمد". قال أبو عبد الله الحاكم: "حديث صحيح الإسناد - على ما قدمنا ذكره في تصحيح هذه الصحيفة - ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وقال الإمام الشافعي: "وهذا الحديث لا يُثْبِتُهُ أهل العلم بالحديث، ولو ثَبَتَ لقلنا به"4. وضَعَّفَ ابن حبان الحديث ببهز، فقال: "ولولا حديث: إنا آخذوه وشطر إبله ... لأدخلناه في الثقات"5. وقال البيهقي: "هذا حديث قد أخرجه أبو داود في كتاب السنن، فأما البخاري ومسلم - رحمهما الله - فإنهما لم يُخَرِّجَاه، جرياً على عادتهما في أن الصحابي أو التابعي إذا لم يكن له إلا راوٍ واحدٍ لم يخرجا حديثه في الصحيحين، ومعاوية بن حيدة القشيري لم يثبت عندهما رواية ثقة عنه غير ابنه، فلم يخرجا حديثه في الصحيح"6.   1 ابن معاوية القشيري، أبو عبد الملك، صدوق، من السادسة، مات قبل 160 هـ- / خت 4. (التقريب 128) . 2 هو: حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، صدوق، من الثالثة/ خت 4. (التقريب 177) . 3 هو: معاوية بن حيدة بن معاوية بن كعب القشيري، صحابي، نزل البصرة ومات بخراسان/ خت 4. (التقريب 537) . 4 التلخيص الحبير: (2/161) . 5 المجروحين: (1/194) . 6 سنن البيهقي: (4/105) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 والواقع أن الْحُكْمَ على هذا الحديث متوقف على الحكم على "بهز بن حكيم"، ومعرفة درجته من الجرح والتعديل؛ فَإِنَّ الرَّجُل مختلف فيه بين الأئمة: قال يحيى بن معين: "ثقة"1. وقال في هذا الإسناد: "صحيح إذا كان دون بهز ثقة"2 وقال على بن المديني: "ثقة"3. وقال النسائي: "ثقة"4. وقال أبو زرعة: "صالح، ولكنه ليس بالمشهور"5. وقال أبو داود: "هو عندي حُجَّةٌ"6. وقال الترمذي: "ثقة عند أهل الحديث"7. وقال أبو جعفر السبتي: "بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده صحيح"8. وقال ابن عدي: "أرجو أنه لا بأس به، ولم أر له حديثاً منكراً، وإذا حَدَّثَ عنه ثقة فلا بأس به"9. وقال الذهبي: "صدوق فيه لين"10. وتَقَدَّمَ قول ابن حجر فيه: "صدوق". وقد احتجَّ به أحمد، وإسحاق11.   1 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/64) ، وتاريخ الدارمي: (ص82) رقم 199. 2 تهذيب التهذيب: (1/498) . 3 الجرح والتعديل: (1/1/430) . 4 تهذيب التهذيب: (1/498) . 5 الجرح والتعديل: (1/1/431) . 6 تهذيب التهذيب: (1/499) . 7 المصدر السابق. 8 المصدر السابق. 9 الكامل: (2/68) بتصرف. 10 المغني: (1/116) . 11 المجروحين: (1/194) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 ولم يحتج به الشافعي، ولم يحدث عنه شعبة1، وقال ابن حبان: "كان يخطئ كثيراً ... وتركه جماعة من أئمتنا، ولولا حديث: إنا آخذوه وشطر إبله ... لأدخلناه في الثقات، وهو ممن أستخير الله فيه"2. وقال ابن الطلاع: "مجهول". وقال ابن حزم: "غير مشهور بالعدالة". ونقل ذلك عنهما الحافظ ابن حجر، ثم قال: "وهو خطأ منهما، فقد وَثَّقَهُ خلقٌ من الأئمة ... "3. فَتَبَيَّنَ من ذلك أن بهزاً قد وَثقَهُ الأكثرون وقبلوه، ولعل حديثه لا ينزل عن مرتبة الحسن إن شاء الله، وهذا ما اختاره الذهبي رحمه الله، فقال: "حديثه حسن"4. والترمذي كثيراً ما يُحَسِّنُ حديثه، وهو مقتضى كلام الأئمة - رحمهم الله - فيه. وأما ما ذكره البيهقي - رحمه الله - من أن أصحاب الصحيحين إذا لم يكن للصحابي أو التابعي إلا راوٍ واحد لم يخرجا حديثه: فإن هذه الدعوى منتقضة، وقد رَدَّهَا الأئمة، وليس هذا مكان بسط ذلك5. وعلى فرض صحة هذه الدعوى، فإنها منتفية في حق معاوية؛ إذ روى عنه اثنان غير ابنه حكيم، وهما: عروة بن رويم اللخمي، وحميد اليزني6.   1 تهذيب التهذيب: (1/498) . 2 المجروحين: (1/194) . 3 التلخيص الحبير: (2/161) . 4 المغني: (1/116) . 5 وقد رَدَّ عليه صاحب (الجوهر النقي) : (4/105) فليراجع. 6 انظر: تهذيب التهذيب: (10/205 - 206) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 فَتَلَخَّصَ من ذلك، أن هذا الحديث حسن، وأن من ضَعَّفَهُ ببهز ابن حكيم لم يصب في ذلك، وأن الصواب مع ابن القَيِّم رحمه الله في القول بثبوت هذا الخبر، وقد قال عنه الإمام أحمد: "صالح الإسناد"1. وتقدم تصحيح الحاكم له، وموافقة الذهبي إياه.   1 التلخيص الحبير: (2/161) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 من كتاب الصوم 1 ـ باب السواك للصائم ... 1- باب السواك للصائم قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وصحَّ عنه أنه كان يستاك وهو صائم"1. ولعله - رحمه الله - يشير بذلك إلى حديث: 40 - (1) عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: "رَأَيْت النبي صلى الله عليه وسلم مَا لا أُحْصِي يَتَسَوَّكُ وهو صائم". وقد سَكَتَ - رحمه الله - عن حديث عامر هذا في (تهذيب السنن) 2. قلت: وهذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، وابن خزيمة في (صحيحه) 6، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 7، والعقيلي في (الضعفاء) 8، كلهم من طريق:   1 زاد المعاد: (2/61) . (3/240) . (2/768) ح 2364 ك الصوم، باب السواك للصائم. (3/95) ح 725، ما جاء في السواك للصائم. (3/445) . (3/247) ح 2007، باب الرخصة في السواك للصائم. 7 قط: (2/202) ح 2 - 4. هق: (4/272) . (3/334) . في ترجمة "عاصم بن عبيد الله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 سفيان الثوري، عن عاصم بن عبيد الله1، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة2، عن أبيه عامر به. ولفظ مسدد عند أبي داود: "ما لا أَعُدُّ ولا أحصي". وكذا قال جعفر بن محمد الثعلبي عند ابن خزيمة. وهذا الحديث ضعيف، في إسناده "عاصم بن عبيد الله العُمَرِي" وقد ضَعَّفَهُ غير واحد من الأئمة، فقال كلُّ من: البخاري3، وأبي حاتم4، وأبي زرعة5: "منكر الحديث". وقال ابن معين: "ضعيف"6. وقال النسائي: "لا نعلم مالكاً روى عن إنسان ضعيف مشهور بالضعف إلا عاصم بن عبيد الله ... "7 وقال الدارقطني: "مدني يترك، وهو مغفل"8. وقال ابن حبان: "كان سيئ الحفظ، كثير الوهم، فاحش الخطأ، فَتُرِكَ من أجل كثرة خطئه"9. وَضَعَّفَهُ غير هؤلاء10.   1 ابن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي، المدني، ضعيف، من الرابعة، مات في أول دولة بني العباس، سنة 132/ عخ4. (التقريب 285) . 2 العَنَزِي، أبو محمد المدني، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأبيه صحبة مشهورة، وَثَّقَهُ العجلي، مات سنة بضع وثمانين/ ع. (التقريب 309) . 3 الضعفاء الصغير: (ص180) . 4 الجرح والتعديل: (3/1/348) . 5 المصدر السابق. 6 تاريخ الدوري: (2/283) . 7 تهذيب التهذيب: (5/48) . 8 سؤالات البرقاني للدارقطني: (ص49) . 9 المجروحين: (2/127) . 10 انظر: تهذيب التهذيب: (5/47 - 48) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 وخالف العِجْلِيُّ، فقال: "لا بأس به"1. وقد ضَعَّفَ الحديث جماعة لأجل عاصم هذا: فقال ابن خزيمة عقب إخراجه إياه: "وأنا بريء من عهدة عاصم"2. ثم نقل بعض أقوال مُضَعِّفِيه، واعتذر عن إخراجه في كتابه بأن شعبة والثوري قد رويا عنه. وقال العقيلي: "ولا يُروى بغير هذا الإسناد إلا بإسناد لَيِّنٍ". وقال الدارقطني عقب إخراجه: "عاصم بن عبيد الله غيره أثبت منه". وقال البيهقي: "عاصم بن عبيد الله ليس بالقويِّ"3. وقال المنذري: "في إسناده عاصم بن عبيد الله، وقد تَكَلَّمَ فيه غير واحد"4. وقال ابن حجر: "وفيه عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف"5. وعَلَّقَهُ البخاري في (صحيحه) 6 بصيغة تمريض، فقال: "ويذكر عن عامر بن ربيعة ... ". وقد انفرد الترمذي - رحمه الله - بتحسينه، فقال: "حديث حسن". ويبدو أن ابن القطان يوافقه على ذلك؛ حيث قال: "وهو حديث يرويه الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، وعاصم مختلف فيه، فبحق قيل فيه: حسن"7. وقال ابن الملقن: "إنما لم يصححه - يعني الترمذي -؛ لأن   1 الثقات: (بترتيب الهيثمي) : (ص241) . 2 صحيح ابن خزيمة: (3/248) . 3 السنن: (1/272) . 4 مختصر السنن: (3/241) . 5 التلخيص الحبير: (1/68) . 6 انظر: فتح الباري مع البخاري: (4/158) ك الصوم، باب سواك الرطب واليابس للصائم. 7 بيان الوهم والإيهام: (3/441) ح 1196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 في إسناده عاصم بن عبيد الله ... "1. قلت: فظاهر كلامهما - يعني: ابن القطان وابن الملقن - أن الترمذي حَسَّنَهُ لأجل وجود عاصم بن عبيد الله في إسناده، ولولا ذلك لَصَحَّحَهُ! والأمر على خلاف ذلك؛ فإن الجمهور على ضعف هذا الرجل كما سلف من كلامهم رحمهم الله، فَيَتَرَجَّحُ بذلك ضعف الحديث لا حُسْنُهُ. أما ابن القَيِّم رحمه الله: فإنه يرى صحة الحديث كما مضى من كلامه في (زاد المعاد) ، وكما يُفهم من سكوته عليه في (تهذيب السنن) . ولكن مع ضَعْفِ هذا الحديث، فإن العمل عليه، قال الترمذي رحمه الله: "والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون بالسواك للصائم بأساً ... ". فيكون الاحتجاج في ذلك بعموم النصوص الواردة في الترغيب في السواك لا بهذا الخبر، وقد عَبَّرَ عن ذلك ابن القَيِّم بقوله: "ولو احْتُجَّ عليه بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". لكانت حُجَّةً، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب" وسائر الأحاديث المُرَغِّبَة في السواك من غير تفصيل ... "2. فهذا أولى من الاحتجاج بحديث عاصم هذا، والله أعلم.   1 البدر المنير: (3/175) . 2 تهذيب السنن: (3/241) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 ومن الأحاديث التي تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب: 41- (2) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مِنْ خَيْرِ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكِ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (زاد المعاد) 1 وَضَعَّفَهُ، فإنه صَدَّرَهُ بصيغة تمريض، فقال: "ويذكر عنه ... "، ثم قال: "رواه ابن ماجه من حديث مُجَالِد، وفيه ضعف". وأورده - رحمه الله - مستشهداً به ساكتاً عنه في (تهذيب السنن) 2؛ فإنه قال عند حديث عامر بن ربيعة - الماضي ذكره قبل هذا-: "وقد روى ابن ماجه من حديث عائشة ... " فذكره. قلت: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في (سننه) 3، والدارقطني والبيهقي كذلك في (سننيهما) 4، ثلاثتهم من طريق: أبي إسماعيل الْمُؤَدِّب5، عن مجالد بن سعيد6، عن الشعبي، عن   (2/63) . (3/240 - 241) . (1/536) ح 1677 ك الصوم، باب ما جاء في السواك والكحل للصائم. 4 قط: (2/203) ح 6. هق: (4/272) باب السواك للصائم. 5 هو: إبراهيم بن سليمان بن رزين الأردني، نزيل بغداد، مشهور بكنيته، صدوق يُغْرِب/ ق. (التقريب 90) . 6 ابن عمير الهمداني، أبو عمرو الكوفي، لَيْسَ بِالقَوِيّ وقد تَغَيَّر في آخر عمره، من صغار السادسة، مات سنة 144هـ/ م4. (التقريب 520) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 مسروق، عن عائشة رضي الله عنها به، واللفظ المتقدم هو لفظ ابن ماجه، وعند الدارقطني والبيهقي: "خير خصال ... " بدون "من". إلا أن الدارقطني في رواية ابن منيع جاء به مثل لفظ ابن ماجه. وقد أشار إليه الترمذي في (جامعه) 1، فإنه قال - عقب إخراجه حديث عامر بن ربيعة المتقدم -: "وفي الباب عن عائشة". وإسناد هذا الحديث ضعيف لضعف مجالد بن سعيد، فقد تكلم فيه الأئمة: قال البخاري: "كان يحيى القطان يضعفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه عن الشعبي ... "2. وقال الإمام أحمد: "ليس بشيء، يرفع حديثاً كثيراً لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس"3. وقال ابن معين: "لا يحتجُّ بحديثه"4. وقال مرة: "ضعيف واهي الحديث"5. وقال النسائي: "ضعيف"6. وقال ابن أبي حاتم: "سُئل أبي عن مجالد بن سعيد، يحتجُّ بحديثه؟ قال: لا. وهو أحبُّ إليَّ من بشر بن حرب وأبي هارون العبدي ... وليس مجالدٌ بقويٍّ في الحديث"7. وقال ابن حبان: "كان رديء الحفظ يَقْلِبُ الأسانيدَ ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به"8.   (3/95) . 2 الضعفاء الصغير: (ص232) . 3 تهذيب التهذيب: (10/40) . 4 تاريخ الدوري: (2/549) . 5 تهذيب التهذيب: (10/40) . 6 الضعفاء والمتروكين: (ص96) . 7 الجرح والتعديل: (4/1/362) . 8 المجروحين: (3/10) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 ومع ذلك فقد ذهب جماعة إلى أن أمره مُحْتَمَل، فقال العِجْلي: "جائز الحديث، حسن الحديث، إلا أن عبد الرحمن بن مهدي كان يقول: أشعث بن سَوَّار أَقْوَى منه. والنَّاس لا يتابعونه على هذا، كان مجالد أرفع من أشعث بن سوار"1. وقال يعقوب بن سفيان: "تَكَلَّمَ الناس فيه، وهو صدوق"2. وقال الإمام أحمد: "وقد احتمله الناس"3. وَوَثَّقَه النسائي مرة4. وقال السَّاجي: "قال محمد بن الْمُثَنَّى: يُحْتَمَل حديثه لصدقه"5. وقال البخاري: "صدوق"6. وقال الذهبي: "مشهور، صالح الحديث"7. وقال مرة: "مشهور صاحب حديث، على لِينٍ فيه"8. فَتَلَخَّصَ من ذلك أنَّ مجالداً هذا ليس شديد الضَّعْفِ بحيثُ يُطْرَحُ حديثه بالْكُلِّية، وإنما أمره محتملٌ، فَيُعْتَبَرُ بحديثه إذا وافق الثقات وروى ما روى الناس، وأما إذا انفرد فلا يُحْتَجُّ به، لما تَقَدَّمَ من كلام الأئمة في شأنه. وقد أخرج له مسلم - رحمه الله - في (صحيحه) مقروناً9، ولعلَّ مقالة ابن القَيِّم: "فيه ضعف" تشعر بهذا الذي قدمنا، فإنها لا شكَّ لا تفيد مطلق الضعف، وسيأتي من كلام غيره ما يُشْعِرُ بذلك أيضاً.   1 الثقات "ترتيب الهيثمي": (ص 420) . 2 تهذيب التهذيب: (10/41) . 3 تهذيب التهذيب: (10/40) . 4 المصدر السابق. 5 المصدر السابق: (10/41) . 6 المصدر السابق. 7 المغني: (2/542) . 8 الميزان: (3/438) . 9 تهذيب التهذيب: (10/41) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 والذي يظهر أنه قد انفرد برواية هذا الأمر، نعم رُوِيَ هذا الحديث من طريق مسروق عن عائشة عن غير مجالد، لكن في إسناده: السري بن إسماعيل1، وهو متروك الحديث منكره، كما قال غير واحد2. ولم أقف على من أخرج هذه الطريق، وإنما ذكرها ابن الملقن - رحمه الله - في (البدر المنير) 3، وذكر أيضاً4: أن أبا نعيم رواه، ولم أقف عليه في (الحلية) ولا في (معرفة الصحابة) له، وقال ابن حجر: "ورواه أبو نعيم من طريقين آخرين عنها"5. ولم يبينهما. وقد ضَعَّفَ حديث مجالد هذا جماعة، فقال الدارقطني عقب إخراجه: "مجالد غيره أثبت منه ". وكذا قال البيهقي. وقال البوصيري: "إسناد ضعيف لضعف مجالد"6. وقال ابن الملقن: "في إسناده مجالد، وفيه مقال"7. وقال الحافظ ابن حجر: "ضعيف"8. قلت: فقد تَبَيَّنَ من ذلك أن هذا الحديث ضعيف وإن وَثقَ بعضهم مجالداً، وبذلك لا يثبتُ الترغيب في السواك للصائم بهذا   1 الهمداني، الكوفي، ابن عم الشعبي، متروك الحديث، من السادسة/ ق. (التقريب230) . 2 انظر: تهذيب التهذيب: (3/459 - 460) . (3/179) . 4 البدر المنير (3/180) . 5 التلخيص الحبير: (1/68) . 6 مصباح الزجاجة: (2/66) . 7 البدر المنير: (3/179) . 8 التلخيص الحبير: (1/68) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 الحديث، ولكن يثبت ذلك بعموم الأحاديث الواردة في الترغيب فيه كما قَدَّمْنَا. وكما أنه لا يثبت في الترغيب في السواك للصائم شيء، كذلك لا يثبت في المنع منه والنهي عنه شيء، قال ابن القيم: "ولم يجئ في منع الصائم منه حديث صحيح"1. وعلى هذا فقد وُفِّقَ ابن القَيِّم لَمَّا ضَعَّفَهُ في (زاد المعاد) ، فوافق بذلك جملة من رَدَّهُ من العلماء، وأما إيراده في (تهذيب السنن) مستشهداً به ساكتاً عليه، فالمعتبر كلامه الأول إن شاء الله، والله أعلم.   1 تهذيب السنن: (3/241) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 2- باب القبلة للصائم 42- (3) حديث عَائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَيَمُصُّ لِسَانَهَا". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (زاد المعاد) 1، وذكر أنه قد اخْتُلِفَ فيه، فَضَعَّفَهُ جماعة، وَحَسَّنَهُ آخرون. وتَكَلمَ عليه في (تهذيب السنن) 2 فلم يذكر إلا تضعيفه، فنقل عن أبي داود وعبد الحقِّ أنهما ضَعَّفَا إسناد هذا الحديث. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، وأحمد في (مسنده) 4 وابن خزيمة في (صحيحه) 5، والبيهقي في (سننه) 6، من طرق، عن: محمد بن دينار7، عن سعد بن أوس8، عن مِصْدَع9، عن   (2/58) . (3/263 - 264) . (2/780) ح 2386 ك الصوم، باب الصائم يبلع الريق. (6/123، 234) . (3/246) ح 2003 ك الصوم، باب الرخصة في مصِّ الصائم لسان المرأة خلاف من كره القبلة للصائم على الفم. (4/234) باب إباحة القبلة لمن لم تحرك شهوته، أو كان يملك إِرْبَهُ. 7 الأزدي، ثم الطَّاحي، أبو بكر بن أبي الفرات البصري، صدوق سيء الحفظ، ورُمِيَ بالقدر، وتغير قبل موته، من الثامنة / د ت. (التقريب 477) . 8 العدوي، أو العبدي، البصري، صدوق له أغاليط، من الخامسة / د ت س. (التقريب 230) . 9 أبو يحيى الأعرج المعرقب، مقبول، من الثالثة/ م 4. (التقريب 533) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 عائشة رضي الله عنها به. وفي إسناد هذا الحديث جماعة مُتَكَلَّمٌ فيهم: أولهم: محمد بن دينار الطاحي، وقد ذكر ابن القيم –رحمه الله– أنَّ عبد الحق ضَعَّفَ الحديث به، وأنَّ ابن عديّ ذهب إلى تفرده بلفظة "ويمص لسانها". ومحمد هذا قد اختلفت فيه أقوال الأئمة، فقال ابن معين1، والنسائي2، وأبو حاتم3، والعجلي4: "لا بأس به". وقال أبو زرعة: "صدوق"5. وقال ابن معين في رواية معاوية بن صالح: "ضعيف"6. وفي سؤالات ابن الجنيد لابن معين7: سأله ابن الغلابي عنه؟ فقال: "ليس به بأس". فعاوده، فقال: "ليس بالقويِّ". وفيها - أيضاً - قول ابن معين: "ليس بذاك القويِّ"8. وقال النسائي مرة: "ضعيف"9. وقال أبو داود: "تَغَيَّرَ قبل أن يموت"10. وقال الدارقطني: "ضعيف". ومرة قال:   1 تهذيب التهذيب: (9/155) . 2 المصدر السابق. 3 الجرح والتعديل: (3/2/250) . 4 الثقات: ترتيب الهيثمي: (ص403) . 5 الجحر والتعديل: (3/2/250) . 6 الضعفاء للعقيلي: (4/63) . (ص 409) . 8 المصدر السابق: (427) . 9 تهذيب التهذيب: (9/155) . 10 المصدر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 "متروك"1. وقال العقيلي: "في حديثه وَهْمٌ"2. وقال ابن عدي: "حسن الحديث، وعامة حديثه يتفرد به"3. وقال الذهبي: "حَسَّنُوا أمره"4. وأما ابن حبان - رحمه الله - فإنه ذكره في (المجروحين) 5 وقال فيه: "كان يخطئ، لم يفحش خطؤه حتى استحق الترك، ولا سَلَكَ سنن الثقات مما لا ينفكُّ منه البشر فَيُسْلَك به مسلك العدول، فالإنصاف في أمره: تركُ الاحتجاج بما انفرد، والاعتبار بما لم يخالف الثقات، والاحتجاج بما وافق الأثبات" ولأجل ذلك فقد ذكره - رحمه الله - في (الثقات) 6. قلت: والأمر فيه على ما قال ابن حبان رحمه الله، ومن تَأَمَّلَ أقوال الأئمة فيه توثيقاً وتضعيفاً علم أن حاله لا يخرج عمَّا وصف ابن حبان؛ فإن الرجل صدوقٌ ليس في المرتبة العليا من التوثيق، كما يشعر به قول أكثرهم: "ليس به بأس"، وهو - مع ذلك - في حفظه خللٌ لا ينزل به إلى درجة ترك حديثه، فيكون حديثه في منزلة الحسن كما وصفه ابن عديّ، وَأَقَرَّهُ الذهبي، وذلك حيث يوافق غيره من أهل الضبط والعدالة، فإن خالف وانفرد بما لا يُتَابَعُ عليه طُرِحَت روايته، وهذا ما قَرَّرَهُ ابن حبان.   1 وكلا القولين في (سؤالات البرقاني للدارقطني) : (ص59) . 2 الضعفاء: (4/63) . 3 الكامل: (6/199) . 4 الكاشف: (3/36) . (2/272) . (7/419) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 ولما كانت هذه الزيادة وهي قوله: " ويمص لسانها" قد انفرد بها محمد بن دينار هذا - كما قرره ابن عدي، حيث قال: "قوله: ويمص لسانها. لا يقوله إلا محمد بن دينار"1. وقال الذهبي: "هذه اللفظة لا توجد إلا في هذا الخبر"2 - لما كان كذلك، فإن هذه اللفظة تكون ضعيفة بسبب ضعف محمد هذا. وقد ضَعَّفَهَا به غير واحدٍ كما سيأتي من كلامهم. ثانيهم: مِصْدَع أبو يحيى، راويه عن عائشة رضي الله عنها، وقد اخْتُلِفَ فيه أيضاً، فقد وَثَّقَهُ العجلي3، وقال الجوزجاني: "كان زائغاً حائداً عن الطريق"4. لكن تَعَقَّبَه ابن حجر فقال: "والجوزجاني مشهور بالنصب والانحراف، فلا يقدح فيه قوله"5. وقال ابن حبان: "كان ممن يخالف الأثبات في الروايات، وينفرد عن الثقات بألفاظ الزيادات، مما يوجب ترك ما انفرد منها، والاعتبار بما وافقهم فيها"6. وقال الذهبي: "صدوق، قد تكلم فيه"7. وذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 8 ولم يذكر فيه جرحاً   1 الكامل: (6/198) . 2 الميزان: (3/541) . 3 الثقات: ترتيب الهيثمي: (ص429) . 4 أحوال الرجال: (ص144) . 5 تهذيب التهذيب: (10/158) . 6 المجروحين: (3/39) . 7 الميزان: (4/118) . (4/1/429) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 ولا تعديلاً. وقال ابن خزيمة: "لا أعرفه بعدالة ولا جرح"1. فالرجل وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وَتَوَقَّفَ في أمره بعضهم، وخَلص الحافظ ابن حجر - رحمه الله - إلى أنه "مقبول"، يعني حيث يُتابع، وإلا فهو لَيِّنُ الحديث. وهو هنا لم يتابع على زيادته تلك، فيكون إلى الضعف أقرب. وقد ذهب ابن حبان - أيضاً - إلى ترك ما انفرد به. وثالثهم: سعد بن أوس، فإنه - أيضاً - وَثَّقَهُ جماعة وضعفه آخرون، فقال ابن معين: "بصريٌّ ضعيف"2. قال عبد الحق: "لا يحتجُّ به"3. وقال السَّاجي: "صدوق"4. وذكره ابن حبان في (الثقات) 5. وقال الذهبي: "يُضَعَّفُ"6.وقال الحافظ ابن حجر: "صدوق له أغاليط"7. فَتَلَخَّصَ: أن هذا الحديث ضعيف السَّنَدِ، وأن زيادة كلمة "يمص لسانها" في متنه لا تصحُّ؛ لتفرد مِصْدَع بها عن عائشة، وأن غيره من الثقات رووا هذا الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - فلم يذكروا فيه هذه الزيادة، من ذلك: حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:   1 صحيح ابن خزيمة: (3/246) . 2 الجرح والتعديل: (2/1/80) . 3 نصب الراية: (4/253) . 4 تهذيب التهذيب: (3/467) . (6/377) . 6 الميزان: (3/542) . 7 التقريب: (ص230) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُقَبِّلُ بعضَ نسائه وهو صائم"، أخرجه البخاريُّ في (صحيحه) 1. وقد حكم عليه بالضعف جماعة من العلماء، فقال أبو داود - كما نقل عنه ابن الأعرابي -: "هذا الإسناد ليس بصحيح". وقال ابن خزيمة: "باب الرخصة في مصِّ الصائم لسان المرأة ... إن صحَّ الاحتجاج بمصدع أبي يحيى". وقال ابن عدي: "قوله: ويمص لسانها. لا يقوله إلا محمد بن دينار، وهو الذي رواه"2. وقال عبد الحق: "هذا حديث لا يصحُّ ... "3. وذكره ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 4 وَضَعَّفُهُ بالثلاثة الماضي ذكرهم. وضعفه ابن القطان بمصدع فقط5. وأشار الذهبي إلى أن هذه اللفظة لم تَرِدْ إلا في هذا الخبر6. وقال الزيلعي: "هذا حديث لا يصحُّ"7. وقال ابن حجر: "إسناده ضعيف، ولو صحَّ فهو محمول على من لم يبتلع ريقه الذي خالط ريقها"8. وبعد، فهذه أقوال الأئمة - رحمهم الله - في هذا الحديث. وأما ابن القَيِّم: فقد ذكر في كتابه (زاد المعاد) أن الحديث مختلف   1 ك الصلاة، باب القبلة للصائم، ح 1928. (فتح الباري 4/152) . 2 الكامل: (6/198) . 3 نصب الراية: (4/253) . (2/53 - 54) . 5 نصب الراية: (4/253) . 6 الميزان: (3/541) . 7 بيان الوهم والإيهام: (3/111) ح 803. 8 فتح الباري: (4/153) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 فيه ما بين مُضَعِّفٍ له ومُحَسِّنٍ، ولم أقف على قول من حَسَّنَه. وأما في كتابه (تهذيب السنن) فيبدو أنه يُرَجِّحُ ضَعْفَ هذه الزيادة في الحديث، حيث نقل عن أبي داود، وعبد الحق القول بضعفه، وهو الصواب، كما تقدم في أقوال الأئمة الماضي ذكرهم، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 3- باب ما جاء في الإفطار في السفر 43- (4) عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصَّائِمُ في السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ في الْحَضَرِ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (تهذيب السنن) 1 وعزاه إلى النسائي، ثم قال: "ولا يَصِحُّ رَفْعُهُ، وإنما هو موقوف". قلت: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2 من طريق: عبد الله بن موسى3 التيمي، عن أسامة بن زيد4، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن عوف أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَائِمُ رمضانَ في السَّفَرِ كالمفطرِ في الْحَضَرِ". وأخرجه البزار في (مسنده) 5 من الطريق نفسه، لكن قال فيه: "عبد الله بن عيسى المدني" بدل "عبد الله بن موسى". وقد ذكره ابن القطان من جهة البزار، ثم قال: "هكذا قال: عبد الله بن عيسى المدني، وقال   (3/285) . (1/532) ح 1666، باب ما جاء في الإفطار في السفر. 3 ابن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، أبو محمد المدني، صدوق كثير الخطأ، من الثامنة/ق. (التقريب 325) . 4 الليثي مولاهم، أبو زيد المدني، صدوق يَهِم، من السابعة، مات سنة 153هـ- / خت م 4. (التقريب 98) . (3/236) ح 1025. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 غيره: عبد الله بن موسى التيمي، وهو أشبه بالصواب"1. ولفظ البزار كلفظ ابن ماجه إلا أن عنده "كمفطره". وأخرجه ابن عدي في (الكامل) 2 من طريق: يزيد بن هارون، ثنا يزيد بن عياض3، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه عبد الرحمن بن عوف مرفوعاً. وسيأتي كلام ابن عديّ عليه بعد قليل. وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلتين: أولاهما: أنه لا يصحُّ رفعه، بل الصواب فيه موقوف على عبد الرحمن بن عوف، كما تقدم من كلام ابن القَيِّم. الثانية: أنه منقطع بين أبي سلمة وأبيه عبد الرحمن بن عوف. أما العلة الأولى: وهي أنه لا يصح مرفوعاً، وأن الصواب وقفه: فإنه قد أخرجه النسائي في (سننه) 4 من طريق: معن بن عيسى5، عن ابن أبي ذئب6، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه   1 انظر: نصب الراية: (2/462) . (7/2720) . 3 ابن جعدبة الليثي، أبو الحكم المدني، نزيل البصرة، وقد يُنْسَبُ لجده، كَذَّبَهُ مالك وغيره، من السادسة/ ت ق. (التقريب 604) . (4/183) ك الصوم، باب ذكر قوله: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. 5 أبو يحيى المدني القزاز، ثقة ثبت، من كبار العاشرة، مات سنة 198 هـ- / ع. (التقريب 542) . 6 هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي، العامري، أبو الحارث المدني، ثقة فقيه فاضل، من السابعة، مات سنة 158 هـ- / ع. (التقريب493) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 عبد الرحمن بن عوف أنه قال: "يقال: الصيام في السفر كالإفطار في الحضر". هكذا موقوفاً على عبد الرحمن بن عوف، وبدون ذكر "رمضان". ثم أخرجه1 من طريق حماد بن خالد الخَيَّاط2 وأبي عامر3، قالا: حدثنا ابن أبي ذئب بالإسناد السابق، وليس فيه قوله: "يقال". وهذا إسناد صحيح، وقد رَجَّحَ جماعة من العلماء الرواية الموقوفة، منهم: أبو حاتم، فقد سأله عنه ابنه، فذكر الاختلاف فيه، ثم قال: "الصحيح: عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه موقوفاً"4. كذا نقل الزيلعي5، وابن حجر6 عن ابن أبي حاتم، والذي في (العلل) أن الكلام لأبي زرعة! وأظنه خطأ، لما نقله هذان الإمامان عن ابن أبي حاتم، وأيضاً السؤال وَجَّهَهُ ابن أبي حاتم لأبيه، فالله أعلم. وقال البزار: "هذا الحديث أسنده أسامة بن زيد، وتابعه على إسناده يونس. وقد رواه ابن أبي ذئب وغيره: عن الزهري، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبيه موقوفاً من قول عبد الرحمن، ولو ثبت مرفوعاً   1 سنن النسائي: (4/183) . 2 القرشي، أبو عبد الله البصري، نزيل بغداد، ثقة أُمِّيٌّ، من التاسعة/ م 4. (التقريب 178) . 3 هو: عبد الملك بن عمرو القيسي، العقدي، ثقة، من التاسعة، مات سنة 204هـ- أو 205/ع. (التقريب 364) . 4 علل ابن أبي حاتم: (1/238 - 239) ح 694. 5 نصب الراية: (2/462) . 6 التلخيص الحبير: (2/205) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 لكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم حين خَرَجَ فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر وأمر الناس بالفطرِ دليلاً على نسخ هذا الحديث؛ لأنه يؤخذ بالآخر ... "1. وجَزَمَ ابن عدي بوقفه، فقال - بعد أن أخرجه -: "وهذا الحديث لا يرفعه عن الزهري غير يزيد بن عياض ... من رواية سلام بن روح عنه، ويونس بن يزيد من رواية القاسم بن مبرور عنه، وأسامة بن زيد، من رواية عبد الله بن موسى التيمي. والباقون من أصحاب الزهري: رووه عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه من قوله"2. ورَجَّحَ الدارقطني - كذلك - رواية الوقف كما نقله عنه ابن حجر3. وكذا البيهقي، فقال: "هو موقوف ... ورُوِيَ مرفوعاً، وإسناده ضعيف"4. ونقل ابن حجر عن النسائي أنه صَوَّبَ وقفه أيضاً5، ولم أقف على قولة النسائي في ذلك. وقد تابع أبا سلمة بن عبد الرحمن على وقفه: أخوه حميد بن عبد الرحمن بن عوف، فأخرجه النسائي - أيضاً - في (سننه) 6 من طريق: أبي معاوية، حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حميد، عن أبيه عبد الرحمن به.   1 مسند البزار: (3/237 - 238) . 2 الكامل: (7/2720) . 3 التلخيص الحبير: (2/205) . 4 سنن البيهقي: (4/244) . 5 التلخيص الحبير: (2/205) . (4/183) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وهذا إسناد صحيح أيضاً، بل قال ابن حزم رحمه الله: "وهذا سندٌ في غاية الصحة"1. وصححه كذلك الشيخ الألباني2. فهذه الرواية تؤيد رواية أبي سلمة المتقدمة عن أبيه موقوفاً، وأنها هي الصواب، وأن الرواية المرفوعة خطأ. قلت: وإسناد الرواية المرفوعة فيه "أسامة بن زيد الليثي"، وفيه ضَعْفٌ من قبل حفظه3، وقد ضَعَّفَ ابنُ حزم الرواية المرفوعة به، فقال: "وأما نحن فلا نحتجُّ بأسامة بن زيد الليثي، ولا نراه حجةً لنا ولا علينا"4. وكذا ضَعَّفَ إسناده البيهقي5، والبوصيري6. فلعلَّ الوهمَ في هذا الحديث جاء من قِبَلِهِ بجعله هذا الحديث مرفوعاً، وخالفه من هو أوثق منه وأتقن: ابن أبي ذئب، فوقفه على عبد الرحمن بن عوف، وحكم الأئمة له، وقدموا روايته. وأما العلة الثانية، وهي انقطاعه: فإن أبا سلمة لم يسمع من أبيه شيئاً، كما قال البخاري وابن معين7. ولذلك فقد أعله غير واحد بأنه منقطع، فقال البيهقي: "في إسناده انقطاع"8. وأَقَرَّهُ على ذلك   1 الْمُحَلَّى: (6/257) . 2 السلسلة الضعيفة: (ح498) . 3 تنظر ترجمته في (تهذيب التهذيب) : (1/208 - 210) . 4 المحلى: (6/258) . 5 السنن: (4/244) . 6 مصباح الزجاجة: (2/64) . 7 انظر: المراسيل لابن أبي حاتم: (ص255) ، وجامع التحصيل: (ص260) . 8 السنن: (4/244) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 النووي1 رحمه الله. وقال الزيلعي: "وفي سماع أبي سلمة من أبيه نظر"2. وقال البوصيري: "منقطع ... أبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئاً، قاله ابن معين والبخاري"3. وقال ابن حجر: "ومع وقفه فهو منقطع؛ لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه"4. ولكن لم يرض ابن حزم - رحمه الله - بذلك، فقال في (المحلى) 5: "إسناد صحيح، وقد صحَّ سماع أبي سلمة من أبيه". قلت: وقوله مُعَارَضٌ بقول من نقلنا أقوالهم قبل قليل. وبعدُ، فقد ظهر أن الصواب في هذا الحديث: أنه موقوف، ومع وقفه فإنه منقطع الإسناد، وقد ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - من ذلك: عدم صحة رفعه فقط، ولم يتعرض لانقطاعه، وقد نقلتُ أقوال الأئمة في تقرير ذلك. والله أعلم.   1 انظر: المجموع: (6/219) . 2 نصب الراية: (2/462) . 3 مصباح الزجاجة: (2/64) . 4 فتح الباري: (4/184) . (6/257) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 4- باب في صيام يوم عرفة 44- (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَومِ عَرَفَةَ بِعَرَفَة". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وفي إسناده نظر؛ فإن مَهْدِي بن حرب العَبْدِي ليس بمعروف، ومداره عليه"1. وقال مرة: "ورُوِي عنه أنه نهى ... "2. فَصَدَّرَهُ بصيغة تمريض. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه في (سننيهما) 3، والنسائي في (الكبرى) 4، وأحمد في (مسنده) 5، والبخاري في (تاريخه) 6، وابن خزيمة في (صحيحه) 7، والحاكم في (المستدرك) 8، والبيهقي في (السنن) 9، والعقيلي في (الضعفاء) 10، كلهم من طريق:   1 زاد المعاد: (1/61) . 2 المصدر السابق: (2/77) . 3 د: (2/816) ح 2440 ك الصوم، باب في صوم يوم عرفة بعرفة، جه: (1/551) ح 1732 ك الصوم، باب صيام يوم عرفة. (3/229) ح 2844. (2/304، 446) . 6 الكبير: (4/1/424) . (3/292) ح 2101 ك الصوم. (1/434) . (4/284) ، (5/117) . 10 (1/298) ترجمة "حوشب بن عقيل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 حوشب بن عقيل1، عن مهدي بن حرب2، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ساقه ابن القَيِّم هنا، وهو لفظ: البخاري في (تاريخه) ، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي. وعند أبي داود قول عكرمة: "كنا عند أبي هريرة في بيته، فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ... " الحديث. وعند أحمد والنسائي: قال عكرمة: "دخلت على أبي هريرة فسألته ... ". والحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ فإن مهدي بن حرب لم يوثقه غير ابن حبان3، وقال ابن معين: "لا أعرفه"4. وقال ابن حزم: "فإنه من رواية حوشب بن عقيل، وليس بالقويِّ، عن مهدي الهجري، وهو مجهول، ومثل هذا لا يُحْتَجُّ به"5. قلت: وفي تضعيف ابن حزم لحوشب بن عقيل نظرٌ، فإنه ثقة، وَثَّقَهُ الأئمة: يحيى القطان، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان. وانفرد الأزدي بتضعيفه6.   1 أبو دِحْيَة البصري، ثقة، من السابعة/ د س ق. (التقريب 184) . 2 العبدي، وهو: ابن أبي مهدي الهجري، مقبول، من السادسة/ د س ق. (التقريب 548) . 3 الثقات: (7/501) . 4 الجرح والتعديل: (4/1/337) . 5 المحلى: (6/440) . 6 انظر: تهذيب الكمال: (7/461 - 463) ، وتهذيب التهذيب: (3/65 - 66) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وأخرجه العُقَيْلِي في ترجمة حوشب بن عقيل، عن الهجري، ثم قال: "لا يتابع عليه ... "1. وقال الإمام النووي: "رواه أبو داود، والنسائي بإسناد فيه مجهول". ثم قال: "ضعيف"2. وقال الشيخ الألباني: "فأنى للحديث الصحة وفيه هذا الرجل المجهول؟! "3. وأورده في (ضعيف ابن ماجه) 4، وقال في (تمام المنة) 5: "إسناده ضعيف". أما الحاكم أبو عبد الله فقد قال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاريّ، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي! فَتَعَقَّبَهُمَا الشيخ الألباني قائلاً: "وهذا من أو هَامِهِمَا الفاحشة؛ فإن حوشب بن عقيل، وشيخه مهدي الهجري لم يُخْرِجْ لهما البخاري، بل إن الهجري مجهولٌ كما قال ابن حزم ... "6. والحديث مع ضعفه اخْتُلِفَ في إسناده؛ فقد أخرجه البيهقي من طريق: الحارث بن عبيد7، عن حوشب بن عقيل، عن مهدي الهجري، عن عكرمة، عن ابن عباس به. قال البيهقي: "كذا قال الحارث بن   1 الضعفاء: (1/298) . 2 المجموع: (6/349) . 3 السلسلة الضعيفة: (1/397) ح 404. (ح 378) . (ص 410) . 6 السلسلة الضعيفة: (1/397) . 7 الإيادي، أبو قدامة البصري، صدوق يخطئ، من الثامنة/ خت م د ت. (التقريب 147) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 عبيد، والمحفوظ: عن عكرمة، عن أبي هريرة"1. وللحديث شاهدٌ من رواية عائشة رضي الله عنها، أخرجه الطبراني في (معجمه الأوسط) 2 من طريق: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى3، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله عن صيام يوم عرفة بعرفات". قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن صفوان إلا إبراهيم". قال الشيخ الألباني: "فإن قيل: قد رَوَى الطبراني عن عائشة مثل هذا الحديث، فهل يَتَقَوَّى به؟ قلت: لا؛ لأن في إسناده إبراهيم بن محمد الأسلمي، وهو ضعيف جداً، فمثله لا يُتَقَوَّى به"4. فالحاصل: أن النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن صحَّ من فعله أنه أفطر في ذلك اليوم، وذلك من حديث أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها: "أن ناساً تَمَارَوا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فَأَرْسَلَتْ إليه بَقَدَحِ لبنٍ وهو واقف على بعيرِه فَشَرِبَه". أخرجه البخاري في (صحيحه) 5. قال العقيلي: "وقد رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد أنه لم يَصُم   1 سنن البيهقي: (5/117) . (3/173) ح 2349. 3 الأسلمي، أبو إسحاق المدني، متروك، من السابعة، مات سنة 184هـ/ ق. (التقريب 93) . 4 السلسلة الضعيفة: (1/398) . 5 ك الصوم، باب صوم يوم عرفة ح 1988 (فتح الباري 4/236) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 يوم عرفة، ولا يصح عنه أنه نهى عن صومه"1. وقال البيهقي - بعد أن أخرج حديث أبي هريرة المتقدم -: "وفي حديث أمِّ الفَضْلِ كفاية"2. وبذلك يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قَدْ أَصَابَ في تضعيفه حديث أبي هريرة هذا، والله أعلم.   1 الضعفاء: (1/298) . 2 سنن البيهقي: (5/117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 5- باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال 45- (6) عن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثم أَتْبَعَهُ بِسِتّ من شوال، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ". تَكَلَّم ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الحديث في (تهذيب السنن) 1، وذكر أنه مُخْتَلَفٌ فيه بين التصحيح والتضعيف، ثُمَّ ذَكَرَ شُبَهَ مُضَعِّفِيهِ وأجابَ عنها، ويتلخص كلامه عن هذا الحديث في الأوجه التالية: 1- أنه بينما أخرج هذا الحديث مسلم في (صحيحه) ، فقد أَعَلَّهُ آخرون وَضَعَّفُوه. 2- وأنَّ حَاصِل ما أُعِلَّ به هذا الحديث ما يلي: أ-أن مداره على "سعد بن سعيد الأنصاري"، وهو ضعيف. ب- أنه وإن وُجِدَت له متابعات، فإنها أيضاً تُضَعَّف. ج- أنه حديث مضطرب، اخْتُلِفَ في سنده على "عمر بن ثابت" شيخ سعد بن سعيد. د- أَنَّهُ شاذٌّ، تَفَرَّدَ به عمر بن ثابت. 3- وأن هذا الحديث ترك العمل به أهل العلم. ثم شرع - رحمه الله - في الجواب عن تلك العلل بما سيأتي من كلامه أثناء هذا البحث.   (3/308 - 315) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 قلت: هذا الحديث مداره على عمر بن ثابت1، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. ويرويه عن عمر بن ثابت جماعةٌ، أشهرهم: سعد بن سعيد2. ورواه عن سعد بن سعيد جماعة كثيرون: فأخرجه مسلم في (صحيحه) 3 من طريق: إسماعيل بن جعفر، وابن نمير، وعبد الله بن المبارك، وفيه: " ... كان كصيام الدَّهْرِ". وأخرجه الترمذي في (جامعه) 4، وأحمد في (مسنده) 5 من طريق: أبي معاوية6، ولفظه: " ... فذلك صيام الدَّهْرِ". وأخرجه النسائي في (الكبرى) 7 من طريق: شعبة، ومن طريق: محمد بن عمرو الليثي.   1 الأنصاري الخزرجي، المدني، ثقة، من الثالثة، أخطأ من عَدَّه في الصحابة / م4. (التقريب410) . 2 ابن قيس بن عمرو الأنصاري، أخو يحيى، صدوق سيئ الحفظ، من الرابعة، مات سنة 141هـ- / خت م 4. (التقريب 231) . (2/822) ح 1164، ك الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان. (3/123) ح 759، ك الصوم، باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال. (5/417) . 6 هو: محمد بن خازم الضرير. (3/239 - 240) ح 2875، 2877. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 وأخرجه ابن ماجه في (سننه) 1 من طريق: عبد الله بن نمير. وأخرجه الطيالسي وأحمد في (مسنديهما) 2 من طريق: ورقاء بن عمر3. ولفظ أحمد: " ... فقد صام الدهر". أما الطيالسي فلفظه: " ... فذلك صيامُ السَّنَةِ". وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 4 من طريق: داود بن قيس5، وأبي بكر بن محمد بن أبي سبرة. ولفظ داود: " ... كُتب له صيامُ السنة" يقول: لِكُلِّ يوم عشرة أيام. قال: وبه نأخذ. وأخرجه البيهقي في (سننه) 6، والبغوي في (شرح السنة) 7 من طريق: محاضر بن المورّع8. كلُّ هؤلاء عن: سعد بن سعيد الأنصاري، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب مرفوعاً به.   (1/547) ح 1716، ك الصوم، باب صيام ستة أيام من شوال. 2 طس: (ح594) . حم: (5/419) . 3 اليَشْكُري، أبو بشر الكوفي، نزيل المدائن، صدوق في حديثه عن منصور لِينٌ، من السابعة / ع. (التقريب 580) . (4/315) ح 7918، 7919. باب صوم الستة التي بعد رمضان. 5 الفرَّاء الدباغ، أبو سليمان القرشي مولاهم، المدني، ثقة فاضل، من الخامسة، مات في خلافة أبي جعفر / خت م 4. (التقريب 199) . (4/292) . (6/331) ح 1780. 8 الكوفي، صدوق له أوهام، من التاسعة، مات سنة 206هـ- / خت م د س. (التقريب 521) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 ورواه غير هؤلاء جماعة من الأئمة الثقات، منهم: ابن جريج، والثوري، ويحيى بن سعيد - أخو سعد بن سعيد - وغيرهم، كلهم: عن سعد بن سعيد بالإسناد السابق1. فهؤلاء ثلاثة عشر رجلاً - جُلُّهم حُفَّاظٌ أثبات - رووه عن "سعد بن سعيد". وقد ضُعِّفَ هذا الإسناد بسعد بن سعيد، كما نقل ذلك ابن القَيِّم رحمه الله، إذا قال: "وقد اعترض بعض الناس على هذه الأحاديث ... قالوا: وأشهرها حديث أبي أيوب، ومداره على سعد بن سعيد، وهو ضعيف جداً، تركه مالك، وأنكر عليه هذا الحديث"2. ثم نقل تضعيف أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن حبان له. وقال العلامة المناوي: "وطعنَ فيه من لا عِلْمَ عنده، وغَرَّهُ قولُ الترمذي: حَسَنٌ. والكلام في راويه، وهو سعد بن سعيد"3. أما الكلام في سعد بن سعيد: فقد ضَعَّفَهُ بعضهم، فقال الإمام أحمد: "ضعيف"4 وقال النسائي: "ليس بالقويِّ"5. وقال الترمذيّ: "وقد تَكَلَّم بعضُ أهل الحديث في سعد بن سعيد من قِبَل حفظه"6. ومع ذلك فقد وَثقُهُ جماعة، فقال ابن سعد: "ثقةٌ، قليل   1 انظر: علل الدارقطني: ج2 (ق 52 /أ) . 2 تهذيب السنن: (3/310) . 3 فيض القدير: (6/161) . 4 الجرح والتعديل: (2/1/84) . 5 الضعفاء والمتروكين: (ص54) . 6 جامع الترمذي: (3/124) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 الحديث"1. وقال العجلي: "مدني ثقة"2. وذكره ابن شاهين في "ثقاته"3 وقال: "قال ابن عمار: سعد بن سعيد ... ثقة". وقال ابن معين: "صالح"4. وقال أبو حاتم: "سعد بن سعيد الأنصاري مُؤَدِّي" قال ابن أبي حاتم: "يعني أنه كان لا يحفظ، يؤدي ما سمع"5. وذكره ابن حبان في (ثقاته) 6 في التابعين وقال: "كان يخطئ"، ثم ذكره مرةً أخرى في أتباع التابعين وقال: "وكان يخطئ، لم يَفْحُشْ خطؤه، فلذلك سلكناه مسلك العدول"7. وقال الذهبي: "صدوق"8 وقال مرة: "حسن الحديث، تابعي"9. فهذا - كما نرى - قد وَثقَهُ جماعة كثيرون، وأن فيه ضعفاً يسيراً من قبل حفظه لا يمنع قبول ما وافق فيه غَيْرَهُ، ولهذا فقد دفع ابن القَيِّم - رحمه الله - القول بضعفه، ونقل قول أبي حاتم، وابن معين، وابن سعد في توثيقه، ثم نقل قول ابن عدي: "له أحاديث صالحة تقرب من   1 تهذيب التهذيب: (3/470) . 2 الثقات: (ترتيب الهيثمي) : (ص179) . (ص96) . 4 الجرح والتعديل: (2/1/84) . 5 المصدر السابق. (4/298) . 7 الثقات: (6/379) . 8 الكاشف: (1/277) . 9 المغني في الضعفاء: (1/254) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 الاستقامة، ولا أرى بحديثه بأساً بمقدار ما يرويه"1. ثم قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ومثل هذا إنما يُنفى ما ينفرد به، أو يخالفُ به الثقات، فأما إذا لم ينفرد، وروى ما رواه الناس فلا يُطْرَحُ حديثه". قال: "سَلَّمْنَا ضَعْفَه، لكنَّ مسلماً إنما احتجَّ بحديثه لأنه ظهر له أنه لم يخطئ فيه بقرائنَ ومتابعات، ولشواهد دَلتُهُ على ذلك، وإن كان قد عُرِفَ خطؤه في غيره، فكون الرجل يخطئ في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه ... "2. وقال في موضع آخر: " ... لكنه ثقة صدوق، روى له مسلم، وروى عنه شعبة، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن جريج، وسليمان بن بلال، وهؤلاء أئمة هذا الشأن"3. هذا فيما يتعلق بالكلام على سعد بن سعيد، والرد على من ضَعَّفَ الحديث لأجله. وأما دعوى انفراد سعد بن سعيد بهذا الحديث: فليس كذلك، وإنما تابعه عليه جماعةٌ، منهم: يحيى بن سعيد4 أخوه، وصفوان بن   1 وكلامه هذا في الكامل: (3/1189) . 2 تهذيب السنن: (3/311 - 312) . 3 المصدر السابق: (3/311) . 4 ابن قيس الأنصاري المدني، أبو سعيد القاضي، ثقة ثبت، من الخامسة، مات سنة 144هـ- أو بعدها / ع. (التقريب 591) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 سليم1، وغيرهم. أما رواية يحيى بن سعيد: فأخرجها النسائي في (الكبرى) 2 من طريق: صدقة بن خالد، عن عتبة بن أبي حكيم3، عن عبد الملك بن أبي بكر4، عن عمر بن ثابت به، وفيه قصة. وذكر الدارقطني - رحمه الله - في (العلل) 5 أن إسماعيل بن إبراهيم الصائغ تابع عبد الملك بن أبي بكر في روايته عن يحيى بن سعيد به. وذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - لهما متابعاً ثالثاً، وهو: عبد الملك بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم6، ولكنه - رحمه الله - جعل هؤلاء الثلاثة في إسناد النسائي، فقال: "وأما حديث يحيى بن سعيد: فرواه النسائي عن هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد ... عن عتبة بن حكيم ... عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، وعبد الملك بن محمد ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم وإسماعيل بن إبراهيم الصائغ، ثلاثتهم: عن   1 المدني، أبو عبد الله الزهري مولاهم، ثقة مُفْتٍ عابدٌ رُمي بالقدر، من الرابعة، مات سنة 132هـ- / ع. (التقريب 276) . (3/240) ح 2879. 3 الهمداني، أبو العباس الأردني، صدوق يخطئ كثيراً، من السادسة، مات بصور بعد الأربعين / عخ4. (التقريب 380) . 4 ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، المدني، ثقة، من الخامسة، مات في أول خلافة هشام/ ع. (التقريب 362) . 5 ج2 (ق 52/ أ) . 6 ثقة، من السابعة، لم يثبت أنَّ مسلماً أخرج له. (التقريب 362) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 يحيى بن سعيد، عن عمر به"1 كذا قال رحمه الله، والذي في السنن الكبرى من رواية: عبد الملك بن أبي بكر وحده، عن يحيى. ثم نقل ابن القَيِّم - رحمه الله - عن النسائي أنه ضَعَّفَ هذه المتابعة بقوله: "فيه عتبة، ليس بالقويِّ"2. قلت: هو عتبة بن أبي حكيم الهَمْدَاني، ضَعَّفَهُ جماعةٌ، ووثقه آخرون. فَمِمَّنْ ضَعَّفَهُ: النسائي كما مرَّ، وقال مرة: "ضعيف"3. وقال ابن معين: "ضعيف الحديث"4. وقال أبو حاتم: "كَأَّنَّ أَحمد يُوَهِّنُهُ قليلاً"5. وقال محمد بن عوف الطائي: "ضعيف"6. وقال الجوزجاني: "غير محمود في الحديث"7. وممن وَثقَهُ: ابن معين في رواية الدوري، فقال: "ثقة"8. وقال أبو حاتم: "صالح، لا بأس به"9. وقال دحيم: "لا أعلمه إلا مستقَيِّم الحديث"10. وذكره أبو زرعة الدمشقي في نفر ثقات11. وقال مروان   1 تهذيب السنن: (3/311) . 2 تهذيب السنن: (3/309) . 3 انظر: تهذيب التهذيب: (7/95) . 4 المصدر السابق: (7/94) . 5 الجرح والتعديل: (3/1/370) . 6 تهذيب التهذيب: (7/94) . 7 أحوال الرجال: (ص 172) . 8 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/389) . 9 الجرح والتعديل: (3/1/371) . 10 تهذيب التهذيب: (7/94) . 11 المصدر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 الطاطري: "ثقة"1. وقال أبو القاسم الطبراني: "من ثقات المسلمين"2. وذكره ابن حبان في (الثقات) 3 وقال: "يُعْتَبَرُ حديثه من غير رواية بقية ابن الوليد عنه". وقال ابن عديّ: "أرجو أنه لا بأس به"4. وقال الذهبي: "وهو متوسط، حسن الحديث"5. فهذه أقوال موثقيه ومضعفيه بين أيدينا، والذي يظهر - والله أعلم - أن الرجل فيه ضعف يسير يجعل حديثه مقبولاً في المتابعات، ولذلك قال الذهبي رحمه الله: "متوسط، حسن الحديث". فحديثه بذلك يصلح للاعتبار به، فتكون هذه الطريق متابعةً صالحةً من يحيى بن سعيد لأخيه سعد بن سعيد. وأما متابعة صفوان بن سليم لسعد بن سعيد: فقد أخرجها أبو داود في (سننه) 6، والحميدي في (مسنده) 7، وكذا الدارمي في (مسنده) 8، وابن حبان في (صحيحه) 9، كلهم من طريق: عبد العزيز بن محمد، عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد   1 تهذيب التهذيب: (7/94) . 2 المصدر السابق: (7/95) . (7/271) . 4 الكامل: (5/357) . 5 الميزان: (3/28) . (2/812) ح 2433. ك الصوم، باب في صوم ستة أيام من شوال. (1/188) ح 381. (1/353) ح 1761، باب صيام الستة من شوال. 9 الإحسان: (5/257) ح 3626. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 كليهما، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب به، وعند أبي داود والحميدي: "فَكَأَنَّمَا صَام الدَّهْرَ". وعند ابن ابن حبان والدارمي: "فذلك صيام الدَّهْرِ". فهذه متابعة أخرى من صفوان بن سليم - وهو ثقة ثبت - لسعد ابن سعيد. والراوي عنه: هو الدراوردي، وَثَّقَهُ جماعة وَضَعَّفُهُ آخرون من قبل حفظه، وحديثه من كتابه أضبط من حديثه من حفظه، وأنكروا روايته عن عبد الله العمري1. وقال عنه الذهبي: "صدوق، من علماء المدينة، غيره أقوى منه"2. وقال مرة: "حديثه في دواوين الإسلام السِّتَّة، لكنَّ البُخَارِيَّ روى له مقروناً بشيخ آخر، وبكل حالٍ فحديثه وحديث ابن أبي حازم لا ينحط من مرتبة الحسن"3. قلت: فمثله لا بأس به في المتابعات، فإن روايته لما يرويه الناس دليلُ حفظه وضبطه لهذا الْمَرْوِيِّ، فيكون هذا الإسناد حسناً على أقل تقدير. وثمَّةَ متابعة ثالثة لسعد بن سعيد؛ إذ تابعه أخوه عبد ربه بن سعيد4، ذكر ذلك ابن القَيِّم رحمه الله، فقال: "رواه أحمد بن يوسف السُّلَمِي شيخ مسلم، وعقيل بن يحيى جميعاً عنه - يعني عبد الله بن يزيد   1 انظر أقوال الأئمة فيه في: الميزان: (2/633) ، وتهذيب التهذيب: (6/354) . 2 الميزان: (2/633) . 3 سير أعلام النبلاء: (8/368) . 4 ابن قيس الأنصاري، أخو يحيى، المدني، ثقة، من الخامسة، مات سنة 139هـ/، وقيل: بعد ذلك/ ع. (التقريب 335) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 المقرئ - عن شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب مرفوعاً. وذكره ابن منده، وهو إسناد صحيح موافق لرواية الجماعة، ومقوّ لحديث صفوان بن سليم وسعد بن سعيد"1. وقد رُوِيَ عن شعبة، عن عبد ربه بن سعيد موقوفاً على أبي أيوب، وسيأتي الكلام على ذلك عند مناقشة إعلاله بالاضطراب. فهؤلاء الأربعة: سعد، ويحيى، وعبد ربه بنو سعد، وصفوان بن سليم، رووه كلهم: عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب، مما ينفي القول بتفرد "سَعْدٍ" به. وقد ظهر مما تقدم أن هذه المتابعات صالحة لتقوية رواية سعد بن سعيد، وأن ما رُمِيَتْ به من الضَّعْفِ قد أجيب عنه، وقد أورد هذه المتابعات ابن القَيِّم رحمه الله، وناقشها وبين صلاحيتها لتعضيد رواية سعد، وقد نقلنا طرفاً من كلامه فيما سلف. وأما قولهم بأنه حديث مضطرب الإسناد مُخْتَلِفٌ: فقد رواه أبو عبد الرحمن المقرئ، عن شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب موقوفاً. أخرجه النسائي في (الكبرى) 2. وقد رُوِيَ من طريق: عثمان بن عمرو بن ساج، عن عمر بن ثابت، عن محمد بن المنكدر، عن أبي أيوب3. قالوا: فهذا يدلُّ على أن طريق سعد بن سعيد غير متصلة؛   1 تهذيب السنن: (3/312) . (3/240) ح 2878. 3 انظر: علل الدارقطني: ج2 (ق 52/ب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 حيث أسقط منها "محمد بن المنكدر". وقد رواه إسماعيل بن عَيَّاش، عن محمد بن أبي حميد، عن محمد بن المنكدر، عن أبي أيوب. قالوا: فدل ذلك على أن لرواية محمد بن المنكدر له عن أبي أيوب أصلاً. وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن ورقاء، عن سعد بن سعيد، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب. قالوا: وهذا اختلاف يوجب ضعف الحديث. وقد نقل ابن القَيِّم كلامهم هذا، وأجاب عنه بما يلي: أما عن كونه يُروَى موقوفاً، فقال: "فإما أن يقال: الرفع زيادة. وإما أن يقال: هو مخالفة، وعلى التقديرين: فالترجيح حاصلٌ بالكثرة والحفظ؛ فإن صفوان بن سليم ويحيى بن سعيد - وهما إمامان جليلان - وسعد بن سعيد - وهو ثقة محتجٌّ به في الصحيح - اتفقوا على رفعه، وهم أكثر وأحفظ". قال: "على أن المقرئ - يعني راويه عن شعبة - لم يُتَّفَقْ عنه على وقفه، بل قد رواه أحمد بن يوسف السُّلمي شيخ مسلم، وعقيل بن يحيى جميعاً عنه، عن شعبة، عن عبدربه بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب مرفوعاً، وذكره ابن منده، وهو إسناد صحيح". قال: "وأيضاً فقد رواه محمد بن جعفر غندر، عن شعبة، عن ورقاء، عن سعد بن سعيد مرفوعاً كرواية الجماعة، وغندر أصحُّ الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 حديثاً في شعبة"1. وأما رواية عثمان بن عمرو بن ساج2، وإدخاله "محمد بن المنكدر" بين عمر بن ثابت، وأبي أيوب، فأجاب عن ذلك ابن القَيِّم بقوله: "وأما حديث عثمان بن عمرو بن ساج: فقال أبو القاسم بن عساكر في (أطرافه) عقب روايتها: هذا خطأ، والصواب: عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب. من غير ذكر محمد بن المنكدر. وقد قال أبو حاتم الرازي: عثمان والوليد ابنا عمرو بن ساج يُكتبْ حديثهما ولا يحتجُّ بهما3. وقال النسائي: رأيت عنده كتباً في غير هذا، فإذا أحاديث شبه أحاديث محمد بن أبي حميد، فلا أدري: أكان سماعه من محمد أم من أولئك المشيخة؟ فإن كانت تلك الأحاديث أحاديثه عن أولئك المشيخة، ولم يكن سمعه من محمد، فهو ضعيف". قال: "وأما رواية إسماعيل بن عياش له عن محمد بن أبي حميد4: فإسماعيل بن عياش ضعيف في الحجازيين، ومحمد بن أبي حميد: متفق على ضعفه ونكارة حديثه، وكأن ابن ساج سرق هذه الرواية من محمد بن أبي حميد، والغلط في زيادة محمد بن المنكدر منه".   1 تهذيب السنن: (3/312) . 2 الجَزَرِي، مولى بني أمية، وقد يُنسبُ لجده، فيه ضعف، من التاسعة/ س. (التقريب 386) . 3 الجرح والتعديل: (3/1/162) . 4 واسم أبي حميد: إبراهيم، الزُّرَقِي، الأنصاري، أبو إبراهيم المدني، لقبه حماد، ضعيف، من السابعة/ ت ق. (التقريب 475) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 ثم قال رحمه الله: "وأما رواية أبي داود الطيالسي: فمن رواية عبد الله بن عمران الأصبهاني1 عنه. قال ابن حبان: كان يُغْرِب2 وخالفه يونس بن حبيب3 فرواه عن أبي داود4، عن ورقاء بن عمر، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، موافقة لرواية الجماعة"5. فظهر بذلك أن هذا الاختلاف غير مُؤَثِّر، وأن هذه الروايات لا تُقَاوِمُ رواية سعد بن سعيد - ومن تابعه - حتى تُعِلَّهَا. وقد رَجَّحَ الدارقطني - أيضاً - رواية سعد بن سعيد، فإنه ساق الاختلاف في هذا الحديث، ثم قال: "والصواب حديث أبي أيوب" فساقه بإسناده إلى سفيان الثوري، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب مرفوعاً. وأشار قبل ذلك إلى ترجيح هذه الرواية بقوله: "يرويه جماعة من الثقات الحفاظ عن سعد بن سعيد ... " فذكر من هؤلاء الحفاظ جملة6. وأما قولهم بأنه حديث شاذ تَفَرَّدَ به عمر بن ثابت، لم يروه عن   1 نزيل الريِّ، صدوق، من كبار الحادية عشرة/ ق. (التقريب 316) . 2 ترجمه في الثقات: (8/359) . وهناك كلام محله بياض، فلعل هذه العبارة مما سقط منه. 3 راوي المسند عن الطيالسي. 4 في مسنده: (وتقدمت) . 5 تهذيب السنن: (3/313) . 6 انظر العلل: ج2 (ق52) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 أبي أيوب غيره: فقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك فقال: "ليس هذا من الشاذ الذي لا يُحْتجُّ به، وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه المثابة، كحديث "الأعمال بالنيات"، تَفَرَّدَ علقمة بن وقاص به، وتفرد محمد بن إبراهيم التيمي به عنه، وتفرد يحيى بن سعيد به عن التيمي. وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: ليس الشاذ أن يَرْوِي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ: أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس. وأيضاً: فليس هذا الأصل مما تَفَرَّدَ به عمر بن ثابت، لرواية ثوبان وغيره له عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تَرْجَمَ ابن حبان على ذلك في (صحيحه) فقال - بعد إخراجه حديث عمر بن ثابت -: ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تَفَرَّدَ به عمر بن ثابت، عن أبي أيوب. وذكر حديث ثوبان من رواية هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم، عن يحيى بن الحارث الذَّمَارِي، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان"1. وبعد، فقد ثبت أن هذا الحديث صحيح ثابت، معمول به عند جمهور الأمة، وكَفَى به صحَّةً أنَّ مُسْلِمَاً أودعه في (صحيحه) ، وقد صَحَّحَهُ - مع ذلك - جَمْعٌ من العلماءِ؛ فقال الترمذي: "حسن صحيح". وصَحَّحَهُ الدارقطني من طريق سعد بن سعيد كما مضى من كلامه. وقال   1 تهذيب السنن: (3/313) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 البغوي: "حديث صحيح"1. وقال النووي: "رواه أبو داود بإسناد صحيح"2. وقال ابن الملقن: "وقد روى هذا الحديث عن سعد بن سعيد ... عشرون رجلاً، أكثرهم ثقات حفاظ أثبات، وقد ذكرتُ كل ذلك عنهم موضحاً في: تخريجي لأحاديث الْمُهَذَّب، مع الجواب عَمَّنَ طَعَنَ في سعد بن سعيد، وأنه لم يتفرد به، وتُوبِعَ عليه، وذكرت له ثماني شواهد، وأجبتُ عن كلام ابن دحية الحافظ، فإنه طَعَنَ فيه، فَرَاجِعْهُ فإنه من الْمُهْمَّاتِ التي يُرْحَلُ إليها"3. وقال المناوي: "وَطَعَنَ فيه من لا علم عنده، وغره قول الترمذي: حسن، والكلام في راويه، وهو: سعد بن سعيد، واعتنى العراقيُّ بجمع طرقه، فأسنده عن بضعة وعشرين رجلاً رووه عن سعد بن سعيد، كلهم حفاظ أثبات"4. قال صاحب (تحفة الأحوذي) 5: "فإن قلتَ: كيف صَحَّحَ الترمذي حديث سعد بن سعيد المذكور، مع تصريحه بأنه قد تَكَلَّمَ فيه بعض أهل الحديث من قِبَل حفظه؟؟ قلتُ: الظاهر أنَّ تصحيحه لتعدد الطرق، وقد تَقَدَّمَ في المقدمة: أنَّه قد يصححُ الحديث لتعدد طرقه". أما ابن القَيِّم رحمه الله: فإنه أَجَادَ وَأَفَاد في ردِّ العلل التي رُمِيَ بها هذا الحديث، كما تَقَدَّمَ كلامه في ذلك، ثم ساق جملة من الشواهد لهذا الحديث وتَكَلَّمَ عليها، فذكر منها حديث: ثوبان، وجابر، وأبي هريرة، وشداد بن أوس رضي الله عنهم6.   1 شرح السُّنَّة: (6/331) . 2 المجموع: (6/347) . 3 البدر المنير: ج4 (ق336/أ) . 4 فيض القدير: (6/161) . (3/468) . 6 انظر: تهذيب السنن: (3/309 - 310) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 6- من كتاب الحج 1- باب الإهلال بعمرة من بيت المقدس 46- (1) عَنْ أُمِّ سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مَنْ أَحْرَمَ بعمرةٍ من بيتِ الْمَقْدِسِ، غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ". وفي لفظ: "كَانَت كفارةً لما قَبْلَهَا من الذُّنُوبِ". قال ابن القَيِّم: " ... حديث لا يثبت، وقد اضطُرِبَ فيه إسناداً ومتناً اضطراباً شديداً"1. وقال مرة: "قال غير واحد من الْحُفَّاظ: إسناده ليس بالقويِّ"2. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3 - ومن طريقه البيهقي4 - والدارقطني في (سننه) 5، والبخاري في (تاريخه) 6 من طرق عن: ابن أبي فُدَيْك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يُحَنِّس7، عن   1 زاد المعاد: (3/300 - 301) . 2 تهذيب السنن: (2/284) . (2/355) ح 1741 ك المناسك، باب في المواقيت. 4 في سننه: (5/30) . (2/283) ح 210 ك الحج، باب المواقيت. (1/1/161) . 7 حجازي، مقبول، من السادسة/ م د. (التقريب 311) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 يحيى بن أبي سفيان الأخنسي1، عن حكيمة بنت أمية2، عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها سمعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أَهَلَّ بعمرة أو حَجَّةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبه وما تَأَخَّرَ - أو وَجَبَتْ له الجنة -". وشكَّ عبد الله أيتهما قال. هذا لفظ أبي داود، وعند الدارقطني بدون شكٍّ "ووجبت"، وعند البخاريِّ "غُفِرَ ما تَقَدَّمَ من ذنبه" فقط. قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... هذا هو الصواب بـ "أو"، وفي كثير من النسخ: "وَوَجبتْ" بالواو، وهو غلط"3. ووقَعَ في رواية البخاريّ: "محمد بن عبد الرحمن بن يحنس" بدل "عبد الله بن عبد الرحمن" عند الباقين. قال الحافظ ابن حجر: "وكأن الذي في رواية البخاري أصحُّ"4. وأخرجه الدارقطني في (سننه) 5، وابن حبان في (صحيحه) 6 من طريق: محمد بن إسحاق، عن سليمان بن سُحَيْم7 عن يحيى الأخنسي،   1 مستور، من السادسة، قد أرسل عن أبي هريرة وغيره/ د ق. (التقريب 591) . 2 ابن الأخنس، مقبولة، من الرابعة/ د ق. (التقريب 745) . 3 تهذيب السنن: (2/284) . 4 التلخيص الحبير: (2/230) . (2/284) ح 212. 6 الإحسان: (6/5) ح 3693. 7 أبو أيوب المدني، صدوق، من الثالثة/ م د س ق. (التقريب 251) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 عن حكيمة، عن أم سلمة مرفوعاً، ولفظه: "مَنْ أَهَلَّ بعمرةٍ من المسجد الأقصى، غُفِرَ له مَا تَقَدَّمَ من ذنبه" زاد ابن حبان: "فَرَكِبَتْ أُمُّ حكيم إلى بيت المقدس حَتَّى أَهَلَّتْ منه بعمرة". ومن الطريق نفسه أخرجه ابن ماجه في (سننه) 1 فجعله: عن "سليمان بن سُحَيم، عن حكيمة بنت أمية"، بإسقاط "يحيى الأخنسي". وأخرجه ابن ماجه أيضاً، من طريق ابن إسحاق، عن يحيى الأخنسي، عن حكيمة، عن أم سلمة، مرفوعاً، ولفظه: "مَنْ أَهَلَّ بعمرة من بيت المقدس، كانت كفارة لِمَا قبلها من الذنوب" 2. وأخرجه أحمد في مسنده3 من طريق: ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة4، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة5، عن حكيمة، عن أم سلمة به. وأخرجه الدارقطني في (سننه) 6 من طريق: الواقدي7، عن   (2/999) ح 3001 ك المناسك، باب من أهل بعمرة من بيت المقدس. 2 سنن ابن ماجه: (2/999) ح 3002. (6/299) . 4 ابن شرحبيل بن حسنة الكندي، أبو شرحبيل، المصري، ثقة، من الخامسة، مات سنة 136 هـ / ع. (التقريب 140) . 5 الأنصاري، المدني، ثقة، من الثالثة/ خ د س ق. (التقريب 311) . (2/283) ح 211. 7 هو: محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، المدني، القاضي، نزيل بغداد، متروك مع سعة علمه، من التاسعة، مات سنة 207هـ/ ق. (التقريب 498) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس، عن يحيى الأخنسي، عن أم حكيم، عن أم سلمة به. وهذا الحديث ضعيف، مضطرب المتن والسند. أما ضعفه: فقال الإمام البخاري: "لا يثبت" كذا نقل الذهبي1 وابن حجر2 أنه قال ذلك في (التاريخ) ، ولم أقف على هذه اللفظة فيه، والذي فيه قوله - بعد أن روى الحديث في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن يحنس -: "ولا يُتَابع في هذا الحديث؛ لأنه وَقَّتَ ذا الحُلَيْفَةَ والجُحْفَةَ، وأهَلَّ عليه الصلاة والسلام - من ذي الحليفة"3. وقال الحافظ المنذري في كلامه على أحاديث المهذب: "حديث غريب"4. وأَعَلَّهُ ابن القَطَّان بجهالة أم حكيم، فقال: "لا يُعْرَفُ حالها"5. وقال الإمام النووي: "إسناده ليس بالقويِّ"6. وَرَمَزَ له السيوطي بالضعف في (الجامع الصغير) 7. وقال الشيخ الألباني: "إسناده ضعيف"8.   1 في الميزان: (3/622) . 2 في التلخيص الحبير: (2/230) . 3 التاريخ الكبير: (1/1/161) . 4 البدر المنير: ج 4 (ق365) . 5 بيان الوهم والإيهام: (5/731) . 6 المجموع: (7/179) . 7 مع فيض القدير: (6/91) ح 8544. 8 التعليق على المشكاة: (2/777) ح 2532.ذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وأما اضطرابه: فقد تَقَدَّمَ الاختلافُ في إسناده، وكذا اختلاف ألفاظه وتباينها، ولذلك قال الحافظ المنذري: "وقد اخْتَلَفَ الرواة في متنه وإسناده اختلافاً كثيراً"1. وقال الحافظ ابن كثير: "وفي حديث أمِّ سلمة هذا اضطراب". كذا نقله عنه الشوكاني في (نيل الأوطار) 2. ونقل ابن الملقن عن الدارقطني أنه أَعَلَّهُ بالاختلاف في إسناده، ثم قال: "وهو كما قال"3. وقد تَقَدَّمَ قول ابن الملقن رحمه الله: "وقد اضطرب فيه إسناداً ومتناً اضطراباً شديداً". وقد أَوْرَدَهُ الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة) 4 وبَيَّنَ ضَعْفَ سَنَدِهِ وأشار إلى اضطرابه، ثم تَعَقَّبَ المنذري في تصحيحه إياه فقال: "ثم إن المنذري كأنه نسي هذا - يعني إعلاله إياه بالاضطراب كما مضى - فقال في الترغيب والترهيب5: رواه ابن ماجه بإسناد صحيح! ". وذكره في (ضعيف الجامع) 6 (وضعيف سنن ابن ماجه) 7. فَلَتَخَّصَ من ذلك: أنَّ هذا الحديثَ ضعيفٌ ومضطربٌ كما قال ابن القَيِّم رحمه الله.   1 مختصر سنن أبي داود: (2/285) . (5/25) . 3 البدر المنير: ج4 (ق365) . (ح 211) . (2/190) . (ح 5358) . (ح 646، 647) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 2- باب لا تنتقب المرأة المحرمة 47- (2) حَدِيث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: "إِحْرَامُ الرَّجُلِ في رَأْسِهِ، وإحرامُ المرأةِ في وجهها". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (تهذيب السنن) 1 - في معرض ردِّه ‍ على القائلين بوجوب كشف المرأة المحرمة وجهها - ثم قال: "هذا الحديث لا أصل له، ولم يَرْوِهِ أحدٌ من أصحاب الكُتُبِ المعتمد عليها، ولا يُعرَفُ له إسناد، ولا تقوم به حُجَّةٌ، ولا يُترَكُ له الحديث الصحيح الدَّال على أن وجهها كبدنها، وأنه يَحْرُمُ عليها فيه ما أُعْدَّ للعضو؛ كالنِّقَابِ والبُرْقَع ونحوه، لا مُطْلَقُ السِّتْرِ كاليدين". قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في (سننه) 2، والطبراني في (الأوسط) 3، والبيهقي في (سننه) 4، والعقيلي في (الضعفاء) 5، وابن عديّ في (الكامل) 6، كلهم من طريق:   (2/350) . (2/294) ح 259. 3 انظر: مجمع البحرين: (ق74/ب) ك الحج، باب ما يلبس المحرم. (5/47) . (1/116) في ترجمة "أيوب بن محمد". (1/349) في ترجمة "أيوب" أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 عبد الله بن رجاء1، عن أيوب بن محمد2، عبد عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، ولفظه: "ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها". وعند الطبراني وابن عدي: "حرم" بدل "إحرام". وقد أخرجه الطبراني في (الكبير) 3 بالإسناد نفسه، لكن جعله موقوفاً، والظاهر أنه خطأ؛ لأن الإسناد هو نفسه إسناده في (الأوسط) ، من شيخ الطبراني إلى آخره، بالإضافة إلى اتفاق هؤلاء الجماعة على روايته بهذا الإسناد مرفوعاً. وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلتين: 1- الكلام في أيوب بن محمد اليمامي. 2- وأن الصواب فيه الوقف على ابن عمر. أما العلة الأولى، وهي الكلام في أيوب بن محمد: فقال فيه ابن معين: "لا شيء"4. وسأله عند الدارمي؟ فقال: "شيخ يماميٌّ ضعيف"5.   1 ابن عمر الغداني، بصري، صدوقٌ يَهِمُ قليلاً، من التاسعة، مات سنة 220هـ / خ خد س ق. (التقريب 302) . 2 أبو سهل العجلي، اليَّمَامي، لقبه: أبو الجمل. ضَعَّفَهُ جماعةٌ، وَوَثَّقَهُ بعضهم، وسيأتي كلام العلماء فيه مُفَصَّلاً. ترجمته في: الجرح والتعديل: (1/1/257) ، والضعفاء للعقيلي: (1/116) ، والميزان: (1/292) . (12/370) ح 13375. 4 الجرح والتعديل: (1/1/257) . 5 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص179) رقم 645. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 وقال أبو زرعة: "منكر الحديث"1. وقال العقيلي: "يَهِمُ في بعض حديثه"2. وقال ابن حبان: "كان قليلَ الحديث، ولكنه خالفَ النَّاس في كلِّ ما روى، فلا أدري: أكان يَتَعَمَّدُ، أو يقلبُ وهو لا يَعْلَم"3. وقال الدارقطني: "مجهول"4. وقال أبو حاتم: "لا بأس به"5. وَوَثَّقَهُ يعقوبُ الفَسَويّ6. والذي يظهر: رُجْحَان جانب الجرح على جانب التعديل في هذا الرجل، ولاسيما أن بعضهم قد بَيَّنَ سبب الجرح. ولذلك فقد أَعَلَّ جماعة من أهل العلم هذا الحديث بأيوب هذا: فقال البيهقي: "وأيوب بن محمد أبو الجمل ضعيفٌ عند أهل العلم بالحديث، فقد ضَعَّفَهُ يحيى بن معين وغيره"7. وقال ابن القطان: "لا يصحّ"8، وقال الذهبي في (تهذيب سنن البيهقي) : "وفيه أيوب بن   1 الجرح والتعديل: (1/1/257) . 2 الضعفاء: (1/116) . 3 المجروحين: (1/166) . 4 السنن: (1/149) . 5 الجرح والتعديل: (1/1/257) . 6 الميزان: (1/292) . 7 السنن: (5/47) . 8 بيان الوهم والإيهام: (5/730) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 محمد أبو الجمل، ضَعَّفَهُ ابن معين، وغيره"1. وقال الهيثمي: "وفيه أيوب بن محمد اليمامي، وهو ضعيف"2،. وقال الحافظ ابن حجر: "وفي إسناده أيوب بن محمد أبو الجمل، وهو ضعيف"3. وأما العلّة الثانية، وهي أنه يُروى موقوفاً، وأنه الصواب: فإن أيوب بن محمد هذا - مع ضعفه - قد خُولِفَ فيه: فأخرجه الدارقطني في (سننه) 4 - ومن طريقه البيهقي5 - من طريق: هشام بن حَسَّان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه". وأخرجه العقيلي في (الضعفاء) 6، وابن حزم في (المحلى) 7 من طريق: سعيد بن منصور، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن عمر بالإسناد نفسه إلى ابن عمر قال: "الذِّقْنُ مِنَ الرأسِ فلا تُغَطِّهِ" وقال: "إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرَّجُلِ في رأسه". فقد خالف سفيان بن عيينة، وهشام بن حسان أيوب بن محمد في رواية هذا الحديث، فروياه موقوفاً على ابن عمر من قوله. وقد حَكَمَ الأئمة لرواية الوقف وحكموا على الرواية المرفوعة   1 انظر: فيض القدير: (5/369) . 2 مجمع الزوائد: (3/219) . 3 التلخيص الحبير: (2/272) . (2/294) ح 260. 5 في سننه: (5/47) . (1/116) . (7/92) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 بالوهم، فقال العقيلي: "لا يُتَابع على رفعه، إنما هو موقوف"1. وقال الطبراني: "لم يرفعه عن عبيد الله بن عمر إلا أيوب، تَفَرَّدَ به عبد الله بن رجاء"2. وقال ابن عدي: "هذا الحديث لا أعلم يرفعه عن عبيد الله غير أبي الجمل هذا، وأبو الجمل لا أعرف له كثير شيء"3. وقال الدارقطني: "تَفَرَّدَ برفعه أيوب هذا، والصواب وقفه"4. وقال البيهقي: "المحفوظ موقوف"5. وقال الذهبي: "المحفوظ موقوف"6. فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن هذا الحديث لا يصحُّ رَفْعُهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الصواب أنه من كلام ابن عمر رضي الله عنهما. فإذا تقرر ذلك، فإننا لا نوافق ابن القَيِّم - رحمه الله - على قوله: - إن الحديث لا أصل له، إلا أن يقصد: لا أصل له مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. - وأنه لم يروه أحدٌ من أصحاب الكتب الْمُعْتَمَدِ عليها. - وأنه لا يُعرف له إسناد. فإنه قد ثَبَتَ من خلال هذه الدراسة خلاف ذلك، والله أعلم.   1 الضعفاء: (1/116) . 2 مجمع البحرين: (ق 74/ب) . 3 الكامل: (1/349) . 4 التلخيص الحبير: (2/272) ، وفيض القدير: (5/369) . 5 السنن: (5/47) . 6 الميزان: (1/292) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 3- باب لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين 48- (3) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّه سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى النَّساء في إِحْرَامِهِنَّ عن القُفَّازَينِ والنقابِ ... ". وفي رواية: "المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين". أورد ابن القَيِّم هذا الحديث مستدلاً به على القول بتحريم لبس القفازين للمحرمة، وَرَدَّ على من قَالَ بأنه معلولٌ بالوقفِ على ابن عمر1. وسيأتي. هذا الحديث مداره على نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، واخْتُلِفَ فيه على نافع. فأخرجه البخاري في (صحيحه) 2، والترمذي في (جامعه) 3، والنسائي في (سننه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، والبيهقي في (السنن) 6، كلهم من طريق: الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجلٌ فقال: يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟   1 تهذيب السنن: (2/351 - 352) . 2 ك جزاء الصيد، باب ما يُنْهَى من الطيب للمحرم ... ح 1838. (فتح الباري: 4/52) . (3/185) ح 833، باب فيما لا يجوز للمحرم لبسه. (5/133) باب النهي أن تنتقب المرأة الحرام. (2/119) . (5/46) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، إلا أن يكون أحدٌ ليست له نعلان فليلبس الخفين، وليقطع أسفل من الكعبين. ولا تلبسوا شيئاً مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ1 ولا الوَرْسُ2. ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين". هذا لفظ البخاري، ولفظ الباقين بنحوه، إلا أن عندهم زيادة قوله: "ولا الخِفَاف ". وأخرجه النسائي، والبيهقي في (سننيهما) 3 من طريق: موسى بن عقبة4، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً بنحو حديث الليث المتقدم، إلا أن البيهقي عنده زيادة أشار إليها، وهي: "وكان عبد الله بن عمر يأمر المرأة بِزَرِّ الجلباب إلى جبهتها". وهذا الإسناد صحيح، كما سيأتي من كلام العراقي رحمه الله. وأخرجه أبو داود في (سننه) 5، وأحمد في (مسنده) 6، والحاكم في (المستدرك) 7 من طريق: محمد بن إسحاق، حدثني نافع - كذا أبو داود والحاكم، وعند أحمد: عن نافع - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أنه سمع   1 الزَّعْفَرَان: لَونٌ مَنَ الطِّيبِ تُصْبَغُ به الثِّيَابِ. (لسان العرب: ص1833) . 2 الوَرْسُ: نبت أصفر يصبغ به. (النهاية: 5/173) . 3 س: (5/135) باب النهي عن أن تلبس المحرمة القفازين، هق: (5/46) . 4 ابن أبي عيَّاش، الأسدي، مولى آل الزبير، ثقة فقيه، إمام في المغازي، من الخامسة، لم يصح أن ابن معين لَيَّنَهُ، مات سنة 141هـ / ع. (التقريب 552) . (2/412) ح 1827، باب ما يلبس المحرم. (2/32) . (1/486) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهنَّ عن: القفازين، والنقاب، وما مسَّ الورس والزعفران من الثياب، ولتلبسْ بعد ذلك ما أَحَبَّتْ من ألوان الثياب: معصفراً، أو خَزَّاً، أو حُلِّياً، أو سراويل، أو قميصاً، أو خُفَّاً". لفظ أبي داود، ولفظ الحاكم نحوه، لكن لفظ أحمد: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ينهى الناس إذا أحرموا عما يُكرَهُ لهم من الثياب ... وسمعته ينهى النساء عن القُفَّازِ، والنقاب، وما مسَّ الورس والزعفران من الثياب". قال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وقال النووي: "رواه أبو داود بإسناد حسن، وهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي، إلا أنه قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، وأكثر ما أُنْكِرَ على ابن إسحاق التدليس، وإذا قال المدلس: حَدَّثَنِي، احْتُجَّ به على المذهب الصحيح المشهور"1. وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح"2. وأخرجه أبو داود في (سننه) 3 من طريق: إبراهيم بن سعيد4، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُحْرِمَةُ لا تنتقب ولا تلبس القفازين". قال أبو داود: "إبراهيم بن سعيد المديني شيخ من أهل المدينة ليس   1 المجموع: (7/232) . 2 مسند أحمد بتعليق أحمد شاكر: (6/332) ح 4740. (2/412) ح 1826. 4 المدني، أبو إسحاق، مجهول الحال، من السابعة/ د. (التقريب 89) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 له كبير حديث". وقال ابن عدي: "وهذا الحديث لا يُتَابَعُ إبراهيمُ هذا على رفعه، ورواه جماعة عن نافع، عن ابن عمر"1. قال الحافظ العراقي: " ... لكن رواه البيهقي من رواية فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن نافع - وقد تَقَدَّمَتْ هذه الرواية - ومن وراية جويرية عن نافع -وستأتي- وإسنادهما صحيح، ففيه ترجيحٌ لرواية إبراهيم بن سعيد، وَرَدٌّ لقول ابن عديٍّ: أنه تَفَرَّدَ برفعه"2. وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من رواية: جويرية4، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث الليث عن نافع المتقدم، ورواه من طريق آخر عن جويرية مختصراً. وقد تقدم قبل قليل تصحيح الحافظ العراقي لإسناد جويرية هذا. فهؤلاء جميعاً: الليث بن سعد، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، وإبراهيم بن سعيد، وجويرية بن أسماء، رووه عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشار البخاري - رحمه الله - إلى كلَِّ هذه الروايات عقب إخراجه من طريق الليث بن سعد الماضي. ورواه مالك - رحمه الله - عن نافع، عن ابن عمر رضي الله   1 الكامل: (1/257) . 2 طرح التثريب: (5/43) . (5/47) . 4 ابن أسماء بن عبيد الضُّبَعي، البصري، صدوق، من السابعة، مات سنة 173هـ/ خ م د س ق. (التقريب 143) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 عنهما - أنه كان يقول: "لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلتبس القفازين"1. هكذا موقوفاً على ابن عمر. وتابعه على وقفه: ليث بن أبي سليم، كما أشار إليه البخاري رحمه الله. ورواه عبيد الله بن عمر العُمَري، عن نافع، فَفَصَلَ المرفوع عن الموقوف، أخرج ذلك ابن خزيمة في (صحيحه) 2، من حديث: بشر بن المفضل، عن عبد الله عن نافع، عن ابن عمر: أن رجلاً قال: يا رسول الله ماذا نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ فقال: "لا تلبسوا القُمُصَ ولا السراويلات، ولا البرانسَ، ولا العمائمَ، والا القلانسَ، ولا الخفافَ ... ". قال: وكان عبد الله يقول: "ولا تنقب المرأة، ولا تلبس القفازين". فهذه أوجه رواية هذا الحديث عن نافع، رفعه بعضهم وهم الأكثر، ووقفه آخرون، وفصل عبيد الله العُمَرِي بين المرفوع والموقوف. وقد أَعَلَّ قومٌ الرواية المرفوعة، وقالوا: إن قوله: "لا تنتقب المرأة ... " من قول ابن عمر، وقد أُدْرجَ في الحديث. قال ذلك: أبو علي الحافظ، كما نقله عنه الحاكم3. ووافق على دعوى الإدراج: الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: " ... والغرض أن مالكاً اقتصر على الموقوف فقط، وفي ذلك تقوية لرواية عبيد الله، وظهر الإدراج في رواية غيره"4.   1 الموطأ: (1/328) ح 15 ك الحج، باب تخمير المحرم وجهه. (4/162) ح 2597، باب ذكر الثياب الذي زجر المحرم عن لبسها في الإحرام. 3 انظر: سنن البيهقي: (5/47) . 4 فتح الباري: (4/53) ، وانظر: (شرح الموطأ) للزرقاني: (2/233) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 ولم يوافق ابن دقيق العيد على دعوى الإدراج، فقال معقباً على كلام أبي علي السالف: "وهذا يحتاج إلى دليل؛ فإنه خلاف الظاهر، وكأنه نَظَرَ إلى الاختلاف في رفعه ووقفه ... وهذا غير قادحٍ؛ فإنه يمكن أن يُفْتي الراوي بما يرويه". ثم استدلَّ - رحمه الله - على بطلان دعوى الإدراج بوجهين: أحدهما: أنه ورد النهي عن لبس المحرمة النقاب والقفازين مفرداً، كما في رواية أبي داود المتقدمة من طريق "إبراهيم بن سعيد". الثاني: أنه جاء النهي عن النقاب والقفازين مبدوءاً به الحديث - يعني رواية أبي داود من طريق محمد بن إسحاق - قال: "وهذا أيضاً يمنع الإدراج"1. وقد أجاب الحافظ العراقي عن كلام ابن دقيق العيد هذا من وجهيه: أما الوجه الأول: فإن حديث إبراهيم بن سعيد ضعيف، لجهالة إبراهيم. ولكنه يَتَقَوَّى ويزول تفرده بمتابعة من تابعه: كموسى بن عقبة، وجويرية. وأما الوجه الثاني: فإن عبيد الله بن عمر أحفظ من ابن إسحاق، وقد فَصَلَ المرفوع عن الموقوف، فروايته أولى2.   1 انظر كلام ابن دقيق العيد في: نصب الراية: (3/26 - 27) . 2 انظر: طرح التثريب: (5/43) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 وقد ردَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - القولَ بإعلال هذا الحديث، وقال بأن إعلاله بالوقف باطلٌ؛ فإن البخاري وغيره قد رووه حديثاً واحداً متصلاً؛ والبخاري - رحمه الله - حَكَى الخلاف فيه، ومع ذلك لم يره مؤثراً في صحة الحديث، أو معللاً له1. قلت: والجمع - في نظري - بين هذه الروايات أولى من إعلال بعضها؛ فإن إعلال الرواية المرفوعة يلزم منه تخطئة الثقات بدون دليل ظاهر. فقد رواه جمعٌ من الثقات - وعلى رأسهم الليث بن سعد - عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً متصلاً بنهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن لبس البرانس والخفاف وغير ذلك، وأخرج البخاري - رحمه الله - هذه الرواية، وحكى وجوه الاختلاف الواقعة فيها، فلو كانت هذه الرواية المرفوعة معلولةً عنده لما أخرجها في الباب معتمداً عليها، ولَقَدَّمَ عليها الرواية الموقوفة. وكذا صنع الإمام الترمذي رحمه الله، فإنه أخرجها كما أخرجها البخاري، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم". ولا أظن أنه قد خفي عليه ما علمه غيره، من كون هذه الجملة الأخيرة قد رُويت موقوفة. وقال ابن عبد البر: "رَفْعُهُ صحيح عن ابن عمر"2.   1 انظر: تهذيب السنن: (2/351 - 352) . 2 حكاه عنه أبو زرعة العراقي في (طرح التثريب) : (5/42) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 وصححه الحاكم - كما تقدم - وحَسَّنَهُ النوويُّ، وقَوَّاهُ العراقي. فلا مانع حينئذ من أن يكون ابن عمر - رضي الله عنهما - قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً بكامله، ثم أفتى مرةً بجزء منه، وهو ما يتعلق بالقفازين والنقاب للمرأة، فجاء بعضهم فظن أن هذا الذي أفتى به ابن عمر ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ففصله عن الشطر الأول من الحديث، وكلام ابن دقيق العيد يُشْعِرُ بشيء من هذا، ومع ذلك فلم يدخله الخطيب - رحمه الله - في كتابه في الْمُدْرَج. فيترجح بذلك القول بصحة الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله، وأن إعلاله غير مقبول، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 4- باب في إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي 49- (4) عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "هَذِهِ عُمْرَةُ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا، فَمَنْ لم يَكُنْ عِنْدَهُ هَدْيٌ فَلَيُحِلَّ الحِلَّ كُلَّهُ، وقد دَخَلَتْ العمرةُ في الحَجِّ إلى يومِ القِيَامَةِ ". قال أبو داود: "هذا منكر، إنما هو قول ابن عباس". 50- (5) وعن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إِذَا أَهَلَّ الرَّجُلُ بِالْحَجِّ، ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمروة، فقد حَلَّ، وهي عُمْرَةٌ ". تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذين الحديثين بالكلام، فقال: "وقوله: "دخلتِ العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامةِ". لا ريب في أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحدٌ إنه من قول ابن عباس، وكذلك قوله: "هَذِه عمرةٌ تَمَتَّعْنَا بهَا ". وهذا لا يشكُّ فيه من له أدنى خبرة بالحديث". ثم قال معلقاً على الحديث الثاني منهما: "والتعليل الذي تَقَدَّمَ لأبي داود في قوله: "هذا حديث منكر". إنما هو لحديث عطاء هذا، عن ابن عباس يرفعه ... ؛ فإن هذا قول ابن عباس الثابت عنه بلا ريبٍ، رواه عنه أبو الشعثاء، وعطاء، وأنس بن سليم وغيرهم من كلامه، فانقلبَ على النَّاسخ، فَنَقَلَهُ إلى حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 مجاهد عن ابن عباس، وهو إلى جانبه، وهو حديثٌ صحيحٌ لا مَطْعَنَ فيه ولا عِلَّةَ، ولا يُعَلِّلُ أبو داود مِثْلَهُ، ولا مَنْ هو دون أبي داود، وقد اتَّفَقَ الأئمةُ الأثبات على رفعه"1. قلت: أما حديث مجاهد، عن ابن عباس: فقد أخرجه مسلم في (صحيحه) 2، وأبو داود، والنسائي في (سننيهما) 3، وأحمد، والطيالسي، والدارمي في (مسانيدهم) 4، والطبراني في الكبير5، والبيهقي في (سننه) 6، من طرق: عن: شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس به. وأخرجه الطبراني في (الكبير) 7 من طريق: أبي مريم، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "إنما جَعَلَهَا النبي صلى الله عليه وسلم عمرةً؛ فإنهم قدموا مكة قبل عرفة بأربع ليالٍ، فَكَرِهَ أن يمكث المسلمون أربع ليالِ لا يطوفون بالبيت، وعلم أنهم إذا طافوا بالبيت حلُّوا، إلا من كان ساق هدايا، فقال: "عمرةٌ استمتعنا بها - ثلاث مرات - ثم دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".   1 تهذيب السنن: (2/314 - 316) . (2/911) ح203 (1241) بابُ جواز العمرة في أشهر الحجِّ. 3 د: (2/387) ح1790 باب إفراد الحجِّ. س: (5/181) باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي. 4 حم: (1/236، 341) . طس: (ح2642) . مي: (1/379) ح1863، باب من اعتمر في أشهر الحج. (11/60) ح11045. (5/18) . (11/61) ح11046. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 وأخرجه الترمذي في (جامعه) 1 من طريق: يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مختصراً، ولفظه: "دخلت العمرة في الحجِّ إلى يوم القيامة ". وأما طَعْنُ أبي داود في هذا الحديث، وقوله: "إنه منكرٌ، وأن الصحيح: موقوف على ابن عباس" فقد رده المنذري رحمه الله، فقال: "وفيما قاله أبو داود نظرٌ؛ وذلك أنه قد رواه: الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن المثني، ومحمد بن بشار، وعثمان بن أبي شيبة، عن محمد جعفر، عن شعبة مرفوعاً. ورواه أيضاً: يزيد بن هارون، ومعاذ بن معاذ العَنْبَريِّ، وأبو داود الطيالسي، وعمرو بن مرزوق، عن شعبة مرفوعاً، وتقصير من يُقَصِّرُ به من الرواةِ لا يُؤَثِّرُ فيما أَثْبَتَهُ الحُفَّاظ"2. وقد ذهب ابن القَيِّم - كما مضى من كلامه - إلى أن تعليل أبي داود هذا إنما هو لحديث عطاء الذي بعده، وأن الناسخ نقله إلى هذا الحديث، ثم قال رحمه الله: "والمنذري - رحمه الله - رأى ذلك في السنن، فنقله كما وجده"3. قلت: ويُقَوِّي ما ذهب إليه ابن القَيِّم: أنني لم أر - بعد البحث - أحداً نقل كلمة أبي داود هذه، مؤيداً لها أو منتقداً: كالمزي في (تحفة الأشراف) 4، وابن الأثير في (جامع الأصول) 5، ولا انتقده الدارقطنيُّ   (3/262) ح932. 2 مختصر السنن: (2/314 - 315) . 3 تهذيب السنن: (2/316) . (5/216) . (3/136) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 فيما تتبعه من أحاديث مسلم، ومثله لا يَسْكُتُ النسائيُّ عن ذكر عِلَّتَهُ وقد أخرجه، وكذا البيهقي فإنه عادةً ما يُنَاقِشُ مثل هذا، فالظاهر - والله أعلم - صِحَّة ما ذهب إليه ابن القَيِّم، وأن الحديث صحيح رفعه، ولا وجه لإعلاله. ثم رأيت الحافظ ابن حجر - رحمه الله - يقول في (الدراية) 1: "رواته ثقات، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه"! ولَعَلَّهُ بَنَى حكمه هذا على مقالة أبي داود المتقدمة، فإن كان الأمر كذلك فقد عُرِفَ ما فيها. وأما الحديث الآخر الذي رواه عطاء، عن ابن عباس: فقد أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن النَّهَّاس3، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم من كلام ابن القَيِّم أن إعلال أبي داود الماضي: إنما المقصود به حديث عطاء هذا. وقد أَعَلَّ المنذري حديث عطاء هذا "بالنهاس"، فقال: "في إسناده النهاس بن قهم ... ولا يحتجُّ بحديث"4. قلت: ولا يبعد أن يكون الخطأ في هذا الحديث منه، فقد قال عنه   (2/34) ح 489. (2/388) ح 1791. 3 ابن قهم، القيسي، أبو الخطاب، البصري، ضعيف، من السادسة/ بخ د ت ق. (التقريب 566) . 4 مختصر السنن: (2/315) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 يحيى بن سعيد: " ... وكان يروي عن عطاء، عن ابن عباس أشياء منكرة"1. فَتَلَخَّص من ذلك: صِحَّةَ حديث مجاهد، عن ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا وجه للطَّعْنِ فيه، وأن حديث عطاء، عن ابن عباس ضعيف، والله أعلم.   1 تهذيب التهذيب: (10/478) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 5- باب من قال: كان الفسخ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة 51- (6) عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله، أَرَأَيْتَ فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى العُمْرَة، لنا خَاصَّةً أَمْ للنَّاسِ عَامَّةً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَلْ لَنَا خَاصَّة". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث ضمن أدلة القائلين بعدم جواز الفسخ، وأنه خَاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "هذا حديث لا يُكْتَب، ولا يُعارَضُ بمثله تلك الأساطين الثابتة". ثم ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: "لا أقول به، لا يُعْرَف هذا الرجل، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف، ليس حديث بلال بن الحارث عندي يثبت"1. ثم استدل على بطلان هذا الحديث: بأنه قد رُوِيَ عن النبي أنه قال: "دَخَلَتْ العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة ". فكيف يصحُّ عنه بعد ذلك أن يجعل الفسخ مختصاً بالصحابة؟ ‍‍!. قال: "فنحن نشهد بالله: أنَّ حديث بلال بن الحارث هذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غلطٌ عليه، وكيف تُقَدَّمُ رواية بلال بن الحارث على روايات الثقات الأثبات، حَمَلَةِ العلم، الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف روايته؟! "2.   1 زاد المعاد: (2/192) . 2 المصدر السابق: (2/193) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 1، وأحمد، والدارمي في (مسنديهما) 2، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3، والحاكم في (المستدرك) 4 من طرق، عن: عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن5، عن الحارث بن بلال6، عن أبيه7، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وألفاظهم متقاربة بنحو ما سقناه أول الباب. وقد أُعِلَّ هذا الحديث بجهالة الحارث بن بلال؛ فإنه لم يرو عنه إلا ربيعة بن أبي عبد الرحمن وحده، ولم يُوَثَّقْ، ولذلك قال الإمام أحمد: "لا نعرف هذا الرجل، ولم يروه إلا الدراوردي، هذه الأحاديث أحب إليَّ"8. وقال الدارقطني - كما نقله عنه المنذري -: "تَفَرَّدَ به ربيعة بن   1 د: (2/399) ح 1808 باب الرجل يهلُّ بالحجِّ ثم يجعلها عمرة. س: (5/179) باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي. جه: (2/994) ح 2984 باب من قال: كان فسخ الحجِّ لهم خاصة. كلهم في ك الحج. 2 حم: (3/469) . مي: (1/378) ح 1862 باب في فسخ الحج. 3 قط: (2/241) ح 24. هق: (5/41) . (3/517) . 5 التيمي مولاهم، أبو عثمان المدني، المعروف بـ "ربيعة الرأي"، واسم أبيه: فرُّوخ، ثقة فقيه مشهور، من الخامسة، مات سنة 136هـ على الصحيح/ ع. (التقريب207) . 6 ابن الحارث المزني، مدني، مقبول، من الثالثة/ د س ق. (التقريب 145) . 7 هو: بلال بن الحارث المزني، أبو عبد الرحمن المدني، صحابيُّ، مات سنة 60هـ/4. (التقريب 129) . 8 مسائل الإمام أحمد - لعبد الله: (ص204) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 أبي عبد الرحمن، عن الحارث، عن أبيه. وتَفَرَّدَ به عبد العزيز الدراوردي عنه"1. وقال ابن حزم: "الحارث بن بلال مجهول، ولم يخرج أحدٌ هذا الخبر في صحيح الحديث ... "2. وقال المنذري: "والحارث: هو ابن بلال ابن الحارث، وهو شبه المجهول"3. وقال ابن القطان: "والحارث بن بلال لا يُعرف حاله"4. وقال الشيخ الألباني: "ضعيف"5. وقد مَالَ النووي إلى تصحيحه، فقال: "إسناده صحيح إلا الحارث بن بلال، ولم أَرَ في الحارث جرحاً ولا تعديلاً، وقد رواه أبو داود ولم يُضَعِّفْهُ، وقد ذكرنا مَرَّاتٍ: أنه ما لم يضعفه أبو داود فهو حديث حسن عنده، إلا أن يوجد فيه ما يقتضي ضعفه"6. قلت: وقد وُجدَ هنا ما يقتضي ضَعْفَهُ، وهو جهالة الحارث بن بلال كما تقدم. ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر استدلَّ به القائلون بخصوصية الفسخ بالصحابة وهو: 52- (7) حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: "كان فَسْخُ الحَجِّ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَنَا خَاصَّةً".   1 مختصر السنن: (2/331) . 2 المحلى: (4/108) . 3 مختصر السنن: (2/331) . 4 بيان الوهم والإيهام: (3/468) . 5 ضعيف سنن ابن ماجه: (ح644) . 6 المجموع: (7/146) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث من طريق الحُميدِي، قال: حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن المُرَقِّع1، عن أبي ذر به، ثم قال: "المرقع ليس ممن تقوم بروايته حُجَّةٌ، فضلاً عن أن يُقَدَّم على النصوص الصحيحة غير المدفوعة، وقد قال أحمد بن حنبل - وقد عُورِضَ بحديثه -: ومن المرقع الأسدي؟! "2. قلت: هذا الحديث أخرجه الحميدي في (مسنده) 3 بالإسناد واللفظ اللذين ساقهما ابن القَيِّم رحمه الله، والمرقع الأسدي - راويه عن أبي ذرٍّ - لم أجد من ترجمه سوى ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 4، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ونقل عن أبيه قوله: "روى عن أبي ذر، روى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري، وليث بن أبي سليم". لكن وَثَّقَهُ يحيى ابن سعيد الأنصاري. فقد أخرجه البيهقي في (سننه) 5 من طريق الليث، عن يحيى بن سعيد، قال: حدثنا المرقع الأسدي - وكان رَجُلاً مَرْضيًّا- أن أبا ذر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت رخصة لنا، ليست لأحدٍ بعدنا" يعني: فسخ الحج بالعمرة. قال يحيى: "وحقق ذلك عندنا: أن أبا بكر،   1 انظر: ترجمته في الجرح والتعديل: (4/1/418) . 2 زاد المعاد: (2/191) . (1/73) ح 132. (4/1/418) . (5/41) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وعمر، وعثمان رضي الله عنهم لم ينقضوا الحج بعمرة، ولم يُرَخِّصُوا فيه لأحدٍ، وكانوا هم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما فعل في حجه ذلك ممن شهد بعضه". ففي هذا الإسناد: شهادة يحيى بن سعيد الأنصاري للمرقع بأنه كان مرضياً، وفي هذه الشهادة ما يدفع قول ابن حزم عن المرقع: " ... وهو مجهول"1. فقد أَعَلَّ الحديث به، فلا شكَّ أنَّ من عَرَفَهُ حجة على من لم يعرفه. ثم إن حديث أبي ذر هذا: أخرجه مسلم في (صحيحه) 2، ولكن بلفظ: "كانت المتعة في الحجِّ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ". وفي رواية: " لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة ". يعني: متعة النساء ومتعة الحج، والمراد بالمتعة في قوله هذا: متعة الفسخ، كما سيأتي من كلام النووي رحمه الله، فتكون هذه الرواية مؤيدة لرواية المرقع المتقدمة. فهل تكون رواية أبي ذَرٍّ هذه حجة لمن ذهب إلى عدم جواز الفسخ، وأنه خاصٌّ بالصحابة؟؟ أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن حديث أبي ذرٍّ هذا: بأنه - بعد تسليم صحته - رأي له رضي الله عنه، وقد عارضه قوله صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم، حين سأله سُرَاقَة بن مالك عن الفسخ بقوله:   1 المحلى: (4/108) . (2/897) ح 160 - 163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 أَلِعَامِنَا هذا أم لأبدٍ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل لأبد أبد" 1. فتكون بذلك دعوى الاختصاص باطلة. قال ابن القَيِّم: "وهذا أصحُّ سنداً من المرويِّ عن أبي ذر، وأولى أن يُؤْخَذَ به منه لو صحَّ عنه"2. ثم ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أن حديث أبي ذر هذا - الذي فيه "أن المتعة كانت لهم خاصة " - إن أُرِيدَ به متعةُ الفسخ3 فإنه يحتمل وجوهاً ثلاثة: أحدها: اختصاص جواز ذلك بالصحابة، وهذا الذي فَهِمَه من حرَّم الفسخ. الثاني: اختصاص وجوب ذلك بالصحابة، فيكون واجباً في حقِّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجائزاً مُسْتَحَبَّاً في حقِّ باقي الأمة، وذهب إليه ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، ولم يرضه ابن القَيِّم رحمه الله. الثالث: أنه ليس لأحدٍ بعض الصحابة أن يبتدأ حجاً قارناً أو مفرداً بلا هدي، لأنه يحتاج معه إلى الفسخ، بل فرضٌ أن يفعل من بعد الصحابة ما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم من القِرَان لمن ساق الهدي، والتمتع لمن لم يسقه.   1 صحيح مسلم: (2/888) ح 147. 2 زاد المعاد: (2/191) . 3 قال النووي رحمه الله: " ... ليس مراد أبي ذر إبطال التمتع مطلقاً، بل مراده: فسخ الحج" (شرح مسلم: 8/203) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 قال ابن القَيِّم: "وإذا تأملت هذين الاحتمالين الأخيرين: رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأَوَّلِ، أو مساويين له، وتسقط معارضة الأحاديث الثابتة الصريحة به جملة"1. ثم أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - على دعوى النَّسْخ: بأن الفسخ قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر من الصحابة عَدَّهم، ثم عدَّ جملة من التابعين رووا ذلك عن هؤلاء الصحابة، ثم قال: "فصار نقل كافة عن كافة، يوجبُ العِلْمَ، ومثل هذا لا يجوزُ نسخه إلا بما يَتَرَجَّحُ عليه أو يقاومه، فكيف يجوز دعوى نسخه بأحاديث لا تقاومه ولا تدانيه ولا تقاربه؟ وإنما هي بين مجهول رواتها، أو ضعفاء لا تقوم بهم حجة. وما صحَّ فيه: فهو رأي صاحب، قاله بِظَنِّهِ واجتهاده - وهو أصحُّ ما فيها - وهو قول أبي ذر: كانت المتعة لنا خاصة ... فلو كان ما قاله أبو ذر رواية صحيحة ثابتة مرفوعة، لكان نسخ هذه الأحاديث المتواترة به ممتنعاً، فكيف وإنما هو قوله؟؟ "2. قلت: لعلَّ النفس تطمئن إلى حَمْلِ كلام أبي ذَرٍّ على خصوصية الوجوب، فمراده: أن وجوب الفسخ وتحتُّمه إِنَّمَا هو خاصُّ بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأما سائر الأمة: فالأمر في حقها على الجواز، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة كما مرَّ قبل قليل. ولم يرضه ابن القَيِّم رحمه الله، بل قال: بوجوب الفسخ في   1 زاد المعاد: (2/193 - 194) . 2 تهذيب السنن: (2/312) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 حقِّ الأمة، فقال: "ونحن نُشْهِدُ الله علينا: أَنَّا لو أَحْرَمْنَا بحَج، لرأينا فرضاً علينا فسخه إلى عمرة تفادياً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لأمره"1. وخلاصة البحث مع ابن القَيِّم في أحاديث الباب: أنه أورد في خصوصية الفسخ بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثين، وهما: حديث بلال بن الحارث، وحديث أبي ذر من رواية المرقع، ثم حكم على كلا الحديثين بالضعف. والذي ظهر لي: أن ابن القَيِّم يُوَافَقُ على تضعيفه حديث بلال؛ لجهالة "الحارث بن بلال"، وأما حديث أبي ذر فلا نوافقه على ذلك؛ لانتفاء جهالة المرقع، ومتابعة إبراهيم التيمي، عن أبيه له في روايته عن أبي ذر عند مسلم. ثم إنه لا تعارض بين رواية أبي ذرٍّ وبين سائر الروايات؛ وذلك بحمل رواية أبي ذرٍّ على خصوصية الوجوب كما مضى، وإلا فإن تقديم رواية جمهور الصحابة الذين رووا الفسخ عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى، والله أعلم.   1 زاد المعاد: (2/182) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 6- باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس 53- (8) "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَدِّمَ ضَعَفَةَ أَهلِهِ ليلة العيد، وَأَمَرَهُم أن لا يَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ". ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث هكذا، ثم قال: "حديث صحيح، صَحَّحَهُ الترمذي وغيره"1. قلت: هذا الحديث مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويرويه عن ابن عباس جماعة، أشهرهم ثلاثة: أولهم: الحسن2 العُرَنِيُّ عن ابن عباس. أخرجه أبو داود والنسائي في (سننيهما) 3، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5، خمستهم من طريق: سفيان الثوري.   1 زاد المعاد: (2/248) . 2 ابن عبد الله العُرَني، الكوفي، ثقة، أرسل عن ابن عباس، من الرابعة/ خ م د س ق. (التقريب 161) . 3 د: (2/480) ح 1940 ك المناسك، باب التعجيل من جمع. س: (5/270) ، ك الحج، باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس. 4 حم: (1/311، 343) . طس: (ح 2767) . 5 الإحسان: (6/67) ح 3858، باب الزجر عن رمي الجمار للحاج قبل طلوع الشمس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وأخرجه ابن ماجه في (سننه) 1، وأحمد في (مسنده) 2 كلاهما من طريق: مسعر وسفيان. وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من طريق منصور. كلهم عن: سلمة بن كهيل، عن الحسن العرنيّ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قَدَّمَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أُغَيلِمة بني عبد المطلب على حمرات، فجعل يَلْطَحُ4 أفخاذنا ويقول: "أَبَيْنِيَّ! لا ترموا الجَمْرَةَ حتى تطلع الشمس". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الباقين قريب منه، إلا أن عند النسائي: "بَعَثنا" بدل "قَدَّمنا". وعند أحمد وابن ماجه زيادة، وهي قول ابن عباس رضي الله عنهما: "ولا إخَالُ يرميها حتى تطلع الشمس" زادها سفيان. وقد وقع عند الإمام أحمد في رواية سفيان ومسعر أن ذلك كان "بليل". وهذا الإسناد رجاله ثقات، إلا أن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس، كما قال الإمام أحمد5، وقال يحيى بن معين: "صدوق ليس   (2/1007) ح 3025 ك المناسك، باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار؟. (1/234) . (5/132) باب الوقت المختار لرمي جمرة العقبة. 4 قال ابن الأثير: "اللَّطْحُ: الضربُ بالكفِّ، وليس بالشديد". (النهاية 4/250) . وقد فَسَّرَه أبو داود عقب الحديث، فقال: "اللَّطْحُ: الضرب اللَّينُ". 5 المراسيل لابن أبي حاتم: (ص46) . وتهذيب التهذيب: (2/291) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 به بأس، إنما يقال: إنه لم يسمع من ابن عباس"1. وقد أشار المنذريُّ إلى هذه العلة في (مختصر السنن) 2، وقال الحافظ ابن حجر: "وفيه انقطاع"3. وسيأتي أن الحديث صحيح بطرقه. الثاني: مقسم، عن ابن عباس. أخرجه الترمذي في (جامعه) 4، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 5 من طريق: المسعودي6. والمسعوديُّ وإن كان قد اختلط، إلا أن الحديث عند الترمذي وأحمد من رواية وكيع عنه، وقد سمع منه قبل الاختلاط، كما نصَّ عليه الإمام أحمد7. وأخرجه أحمد في (مسنده) 8 من طريق: الأعمش، وأبي   1 تهذيب التهذيب: (2/291) . (2/404) . 3 بلوغ المرام مع سبل السلام: (2/744) . (3/231) ح 893، باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل. 5 حم: (1/344) . طس: (ح2703) . 6 هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي، المسعودي، صدوقٌ اخْتلطَ قبل موته، وضَابِطُه: أَنَّ مَنْ سِمِعِ منه بِبَغداد فبعد الاختلاط، من السابعة، مات سنة 160 هـ / خت 4. (التقريب 344) . 7 تهذيب التهذيب: (6/210) . (1/326) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 الأحوص، كلهم عن: الحكم بن عتيبة1، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما به مختصراً، وعند الطيالسي: " ... فأتى على غُلَيْمٍ منهم فَحَرَّكَهُ برجله، وقال: لا تَرْمِ جمرة العقبة حتى تطلع الشمس". قال أبو عيسى: "حديث حسن صحيح". الثالث: عطاء2، عن ابن عباس. أخرجه أبو داود والنسائي في (سننيهما) 3 من طريق: حبيب بن أبي ثابت4، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَدِّمُ ضعفاء أهله بِغَلَسٍ، ويأمرهم: لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس". لفظ أبي داود، ولفظ النسائي بنحوه. وفي هذا الإسناد عنعنة حبيب، وهو مُدَلِّس يُكثِرُ من التدليس5، فتكون هذه عِلَّة تمنع من صحة هذا السند.   1 أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه إلا أنه رُبَّمَا دَلَّسَ، من الخامسة، مات سنة 113 هـ أو بعدها/ ع. (التقريب 175) . 2 ابن أبي رباح، القرشي مولاهم، المكي، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال، من الثالثة، مات سنة 114 هـ وقيل: تَغَيَّرَ بآخره، ولم يكثر ذلك منه/ ع. (التقريب391) . 3 د: (2/481) ح 1941. س: (6/272) . 4 ابن دينار الأسدي مولاهم، أبو يحيى الكوفي، ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس، من الثالثة، مات سنة 119 هـ / ع. (التقريب 150) . 5 وقد جعله ابن حجر في الطبقة الثالثة منهم، انظر: طبقات المدلسين: (ص84) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وبالنظر إلى هذه الطرق عن ابن عباس: نجد أن طريق المسعودي - ومن تابعه - عن الحكم، عن مقسم هو أحسنها، ولذلك فقد صححه الترمذي - كما مرَّ - والطريقان الآخران يشهدان له ويُقَوِّيَانه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وهو حديث حسن". ثم ساق هذه الطرق الثلاثة، ثم قال: "وهذه الطرق يُقَوِّي بعضها بعضاً، ومن ثمَّ صححه الترمذي وابن حبان"1. وقد صححه كذلك: الشيخ الألباني في (الإرواء) 2 وفي (صحيح ابن ماجه) 3. ولذا فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في تصحيحه إياه، والله أعلم.   1 فتح الباري: (3/528) . (4/274 - 276) . (ح 2451) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 7- باب من قال بجواز رمي الجمرة قبل طلوعِ الشمس للعذر 54 - (9) عن عائشة رضي الله عنها: "أنه صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ بأمِّ سلمة ليلة النحر، فَرَمَتْ الجمرةَ قبل الفجر، ثُمَّ مَضَت فَأَفَاضَتْ ... " الحديث. ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وقال: "حديث منكرٌ، أنكره الإمام أحمد وغيره". ثم ساق كلام الإمام أحمد في ذلك. قال: "وما يدل على إنكاره: أن فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي صلاة الصُّبْح يوم النَّحْر بمكة، وفي رواية: "توافيه بمكة " وكان يَومَها، فأحبَّ أن توافيه. وهذا من المحال قطعاً". ثم استدلَّ على بطلانه أيضاً: بحديث عائشة في (الصحيحين) : "أن سودة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تَدْفَعَ قبله، فَأَذِنَ لها. قالت عائشة: "ولأن أكون استأذنتُ كما استأذنته سودة أحبَّ إليَّ من مفروح به". قال: "فهذا الحديث الصحيح يبين أن نساءَهُ - غير سودة - إنما دَفَعْنَ معه"1. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2، والحاكم في (المستدرك) 3، والبيهقي في (سننه) 4 من طريق:   1 زاد المعاد: (2/248 - 252) . وانظر: تهذيب السنن: (2/404 - 405) . (2/481) ح 1942، ك الحج، باب التعجيل من جمع. (1/469) . (5/133) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 ابن أبي فُديك، عن الضحاك بن عثمان1، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أَرْسَلَ النبي صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة ليلة النحر، فرمتْ الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ". تعني عندها. هذا لفظ أبي داود، ولفظ الباقيين مثله، إلا أن عند الحاكم: "وكان ذلك يوم الثاني الذي يكون عندها ... ". كذا رواه الضحاك عن هشام. قال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرطهما ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. ورواه أبو معاوية2، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها. أخرجه من هذا الطريق: الإمام مسلم في كتاب (التمييز) 3، من طريق: يحيى بن يحيى، وأبي كريب، ومحمد بن حاتم، ثلاثتهم: عن أبي معاوية، بالإسناد إلى أم سلمة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة". قال الإمام مسلم عقبه: "وهذا الخبر وَهْمٌ من أبي معاوية، لا من غيره، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصُّبْحَ في حجته يوم النحر بالمزدلفة،   1 ابن عبد الله بن خالد بن حزام الأسدي الحزامي، أبو عثمان المدني، صدوقٌ يَهِمُ، من السابعة/ م 4. (التقريب 279) . 2 هو: محمد بن خازم الضرير الكوفي، عَمِيَ وهو صغير، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار التاسعة، مات سنة 195هـ، وقد رُمِيَ بالإرجاء / ع. (التقريب 475) . (ص 186) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 وتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يأمر أم سلمة أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة، وهو حينئذ يصلي بالمزدلفة؟ " قال: "هذا خبر محال، ولكن الصحيح من روى هذا الخبر عن أبي معاوية، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة ... وإنما أفسد أبو معاوية معنى الحديث حين قال: توافي معه"1. قلت: وهذه الرواية التي أشار مسلم إلى صحتها عن أبي معاوية: أخرجها البيهقي في (سننه) 2 من طريق: يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة به. بدون قوله "معه". ورواه أسد بن موسى3، عن أبي معاوية بالإسناد نفسه، ولكن لفظه: "أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر أن توافي معه صلاة الصبح بمكة". هكذا بتقديم قوله: "يوم النحر". أخرجه هكذا الطحاوي في (شرح معاني الآثار) 4، ثم قال: "ففي هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم أمرها بما أمرها به من هذا يوم النحر، فذلك على صلاة الصبح في اليوم الذي بعد يوم النحر". ولكن تعقبه البيهقي بقوله: "فتعلق به بعض من يدَّعي تصحيح الآثار على مذهبه، وزعم أنه إنما أمرها بذلك يوم النحر؛ لتوافي معه   1 التمييز: (ص186) . (5/133) . 3 ابن إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي، أسد السنة، صدوق يُغْرِبُ، وفيه نصبٌ، من التاسعة، مات سنة 212هـ / خت د س. (التقريب 104) . (2/218) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 صلاة الصبح من غد يوم النحر بمكة ... وليس من الإنصاف أن تُتْرَكَ رواية الجمهور، ويُؤْخَذ برواية واحدٍ لم يكن عندهم بمصر بالحافظ جداً"1. يعني: أسد بن موسى. وخالف هؤلاء جميعاً جماعة من أصحاب هشام، فرووه عنه، عن أبيه، عن أم سلمة مرسلاً. أخرجه الطحاويُّ في (شرح المعاني) 2 من طريق: حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه: "أَنَّ يومَ أُمِّ سلمة دَارَ إلى يوم النحر، فأمرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلة جمع أن تُفيضَ، فَرَمَتْ جمرة العقبة، وصلت الفجر بمكة". وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من طريق: داود بن عبد الرحمن العطَّار، والدراوردي، كلاهما عن هشام به، ولفظه: "دار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُمِّ سَلَمَة يوم النَّحْرِ، فأمرها أن تُعَجِّلَ الإفاضة من جمع، حتى تأتي مكة فتصلي بها الصبح، وكان يومها فأحبَّ أن توافقه". وأخرجه الإمام مسلم في كتاب (التمييز) 4 من طريق: الثوري، عن هشام به بنحو لفظ البيهقي، مختصراً. وقد رواه وكيع، عن هشام، عن أبيه مرسلاً أيضاً، ولفظه: "أن   1 معرفة السنن والآثار: (7/313) رقم 10170. (2/218) . (5/133) . (ص 186) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ أُمَّ سلمة أن توافيه الصبح بمنىً". أخرجه مسلم في (التمييز) 1، وقال: "وَهِمَ فيه كنحو ما وَهِمَ فيه أبو معاوية ... وسبيل وكيع كسبيل أبي معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصبح يوم النحر بالمزدلفة، دون غيرها من الأماكن لا محالة". فَتَلَخَّص من ذلك: أن هذا الحديث يُروى مرسلاً، ويروى متصلاً. ويُروى بلفظ: "توافي صلاة الصبح"، وبلفظ: "توافي معه صلاة الصبح"، وبلفظ: "توافيه صلاة الصبح". أما من ناحية إسناده: فقد رَجَّحَ بعض الأئمة الرواية الْمُرْسَلَة، فقال الدارقطني - بعد أن أذكر الروايات المتصلة -: "وخالفهم أصحاب هشام الحفاظ عنه، رووه عن هشام، عن أبيه مرسلاً، وهو الصحيح"2. وَقَوَّى البيهقي - رحمه الله - الراوية المتصلة بقوله: "وَصَلَ أبو معاوية هذا الحديث عن هشام، وأبو معاوية حجة قد أجمع الحفاظ على قبول ما ينفرد به، ثم قد وَصَلَهُ الضَّحَاكُ بن عثمان، وهو من الثقات الأثبات"3. ثم ساق - رحمه الله - رواية الضحاك بن عثمان بإسناده، ثم قال: "إسنادٌ صحيح لا عار فيه".   (ص 187) . 2 علل الدارقطني: ج5 (ق122/أ) . 3 معرفة السنن والآثار: (7/316) رقم 10181. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 ثم قال - مُوَفِّقَاً بين الرواية المتصلة والمرسلة -: "وكأنَّ عروة حمله من الوجهين جميعاً، فكان هشام يرسله مرةً ويُسْنِده أخرى، وهذه عادتهم في الرواية"1. وصَحَّحَ النووي رواية أبي داود المتصلة أيضاً، فقال: "إسناد صحيح على شرط مسلم"2. قلت: فعلى كلام البيهقي هذا لا تكون الرواية المتصلة معلولة، وهو ظاهر صنيع الإمام مسلم رحمه الله، فإنه لما رواه على الوجهين لم ير الرواية المتصلة معلولة من جهة إسنادها، وإنما تَكَلَّمَ في متنها فقط. وأما من ناحية المتن: فقد أنكروا رواية أبي معاوية وقوله: "أمرها أن توافيه" وكذلك: "توافي معه"، وقد تقدم كلام الإمام مسلم - رحمه الله - في ذلك، وأنه رَجَّحَ رواية أبي معاوية التي فيها "توافي " فقط. وقد نقل ابن القَيِّم - رحمه الله - عن الأثرم أَنَّ الإمام أحمد أَنْكَرَ هذه الرواية وقال: " ... النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقت الصبح ما يصنع بمكة؟! " ينكر ذلك. قال: فجئت إلى يحيى بن سعيد، فسألته، فقال: عن هشام، عن أبيه: أمرها أن توافي، وليس: توافيه. قال: وبين ذين فرق. قال: "وقال لي يحيى: سل عبد الرحمن عنه - يعني ابن مهدي - فسألته، فقال: هكذا سفيان عن هشام، عن أبيه"3.   1 المعرفة: (7/317) رقم 10183. 2 المجموع: (8/132) . 3 زاد المعاد: (2/249 - 250) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 فإذا علمنا هذا، فَإِنَّ حكم ابن القَيِّم - رحمه الله - على الحديث كُلِّهِ بالنَّكَارَةِ غير مُسَلَّم، واستدلاله لذلك بكلام الإمام أحمد لا يساعده؛ لأنَّ الإمام أحمد - كما مضى - قد أنكر هذه اللفظة فقط، وهو الذي قاله الإمام مسلم أيضاً، وأوضح البيهقي - رحمه الله - ذلك يقوله: "وأما ما ذُكِرَ من حكاية أحمد: فإنما أُنكرَ قوله: "توافي معه صلاة الصبح"؛ إذ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقت صلاة الصبح"1. وأما استدلاله على بطلانه بحديث عائشة في (الصحيحين) : أن سودة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تدفع قبله، فأَذِنَ لها، وحَبَسَ باقي نسائه حتى دفعن بدفعه: أقول: ليس في هذا دليل على عدم خروج أم سلمة رضي الله عنها بليلٍ، بل ذكرت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث من استأذن النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه، وهي سودة، ولم تذكر التي أمرها بالخروج، وهي أم سلمة رضي الله عنها، ولذلك قالت عائشة: "ولأن أكون استأذنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة ... ". وما يقال في أم سلمة، يقال في أم حبيبة رضي الله عنهن؛ فإنه قد ثبت في (صحيح مسلم) 2 "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمعٍ بليلٍ" فهذا   1 معرفة السنن والآثار: (7/316) رقم 10180. (2/940) ح 1292. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 يردُّ على قول ابن القَيِّم رحمه الله: " ... أن نساءه - غير سودة - دَفَعْنَ معه". فعندي - والله أعلم - أن قول عائشة رضي الله عنها: "وحبسنا حتى أصبحنا، فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ" يعني: ما عدا من بَعَثَ بهنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وما عدا من استأذنته. ولذلك فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - اضطر إلى أن يقول في حديث أم حبيبة: "انفرد به مسلم، فإن كان محفوظاً، فهي إذن من الضَّعَفَةِ التي قَدَّمَها"1. فَتَلَخَّص من هذا: أن حديث إرسال أمِّ سلمة - رضي الله عنها - ورميها الجمرة بليل، حديث صحيح، صححه الأئمة: مسلم، والحاكم، والبيهقي، والنووي. وأن الذي أنكره الإمام أحمد هو لفظة واحدة فقط، وهي قوله: "توافي معه" أو "توافيه". وأما حكم ابن التركماني2 عليه بالاضطراب، ومتابعة الشيخ الألباني له3، فإنه لا دليل عليه، وأن ما ذُكر فيه من اختلاف ليس مما يوجب سقوطه. ثم إنَّ ابن القَيِّم نفسه عاد بعد ذلك فقال: "ثُمَّ تَأَمَّلْنَا، فإذا لا تعارض بين هذه الأحاديث؛ فإنه أمر الصبيان ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، أما من قَدَّمَهُ من النساء: فَرَمَيْنَ قبل طلوع الشمس للعذر، والخوف عليهنَّ من مزاحمة   1 زاد المعاد: (2/251) . 2 في الجوهر النقي: (5/132) . 3 في إرواء الغليل: (4/279) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 الناس وحَطْمِهِم. وهذا الذي دَلَّت عليه السنة: جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر: بمرض، أو كِبَرٍ يشقُّ عليه مزاحمة الناس لأجله، وأما القادر الصحيح، فلا يجوز له ذلك"1. قلت: وعلى هذا فإنه يُقال في أم سلمة - رضي الله عنها - ما قاله ابن القَيِّم نفسه في أم حبيبة: من أنها من الضَّعَفَةِ الذين قَدَّمَهُم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة النحر، فرموا بليل، وبهذا تتفق الأحاديث ولا يضرب بعضها بعضاً، ويكون هذا التوفيق والجمع من ابن القَيِّم بين هذه النصوص هو المعتمد، ويُحْمَل إنكاره لحديث تقديم أم سلمة - رضي الله عنها - على ما جاء فيه من قوله: "أن توافي معه صلاة الصبح"، لما تقدم بيانه. ومن الأحاديث الواردة في الرمي قبل طلوع الشمس، حديث: 55- (10) عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَمَر نِسَاءَهُ أن يَخْرُجْنَ من جَمْعٍ ليلة جمع، فيرمينَ الجَمْرَةَ، ثم تُصْبِحُ في مَنْزِلِهَا". وكانت تصنع ذلك حتى ماتت. ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث عند كلامه على دفع النبي صلى الله عليه وسلم من مزدلفة، ورميه جمرة العقبة، وأن نساءه دفعن معه، ما عدا سودة رضي الله عنها، فإنها استأذنت أن تدفع قبله. وقد أورد - رحمه الله - حديث عائشة هذا حُجَّةً للمخالفين، ثم قال: "يَرُدُّهُ محمد بن حميد أحد رواته، كَذ َّبَهُ غير واحد. ويَرُدُّهُ أيضاً:   1 زاد المعاد: (2/252) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 حَدِيثُهَا الذي في (الصحيحين) وقولها: وَدِدت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما استأذنته سودة"1. قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في (سننه) 2 من طريق: محمد بن حميد3، عن هارون بن المغيرة، عن عبد الله بن يعلى الطائفي، عن عطاء، عن عائشة بنت طلحة، عن خالتها عائشة - رضي الله عنهما - به، وفي آخره قول عطاء: "ولم أزلْ أفعله". ومحمد بن حُمَيْد ضَعَّفَهُ الجمهور، وكذبه: أبو زرعة، وابن خراش، والنسائي4. وكان الإمام أحمد حسن الرأي فيه، وكذا ابن معين، لكن قال أبو علي النيسابوري: "قلتُ لابن خزيمة: لو حَدَّثَ الأستاذ عن محمد بن حميد؛ فإن أحمد قد أحسن الثناء عليه؟ فقال: إنه لم يعرفه، ولو عرفه كما عرفناه ما أثنى عليه أصلاً". كذا في (تهذيب التهذيب) 5، وأما في (الميزان) 6: "لو أخذت الإسناد ... " بدل "لو حَدَّثَ الأستاذ"! ولعله تصحيف. ومما يدلُّ على أن هذا الحديث قد يكون من مناكيره: ما رواه ابن   1 زاد المعاد: (2/250 - 251) . (2/273) ح 175. 3 ابن حيَّان الرازي، حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، من العاشرة، مات سنة 248 هـ / د ت ق. (التقريب 475) . 4 انظر: الميزان: (3/530) ، وتهذيب التهذيب: (9/130 - 131) . (9/131) . (3/530) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 1 بسنده إلى محمد بن عيسى بن الدامغاني، أنه قال: "لما مات هارون بن المغيرة، سألت محمد بن حميد أن يُخْرِجَ إليَّ جميع ما سمع منه، فأخرج إليَّ جُزَازَات، فأحصيت جميع ما فيه: ثلثمائة ونيفاً وستين حديثاً". قال جعفر بن محمد بن حماد - راوي هذه الحكاية عن ابن الدامغاني -: "وأخرج ابن حميد عن هارون بعد: بضعة عشر ألف حديث". وهذا الحديث من رواية محمد بن حميد، عن هارون بن المغيرة هذا، وقد كان ابن حميد يسرق الحديث، ويأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضها على بعض2، فلا يبعد أن يكون هذا الحديث وَقَعَ فيه شيء من ذلك. ومما يدل على نكارته أيضاً: ما أشار إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من أنها - رضي الله عنها - كانت تقول: " ... فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة، أحب إليَّ من مفروح به"3. فهذا ظاهر في أنها دفعت بدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فَتَلَخَّص: أنَّ هذا الحديث لا يصحُّ؛ لضعف إسناده، ونكارة متنه، فَيَتَرَجَّحُ اختيارُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في ردِّهِ، والله أعلم.   (3/2/233) . 2 انظر: الميزان: (3/530) . 3 أخرجه البخاري في (صحيحه) : ك الحج، باب من قَدَّمَ ضعفةَ أهله بليلٍ ح 1681 (فتح الباري 3/527) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 8 ـ باب من قال بجواز التضحية ثلاثة أيام بعد النحر ... 8 - باب من قال بجواز التضحية ثلاثة أيام بعد يوم النحر 56- (11) حديث: "كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ ". أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث مستدلاً به للمذهب القائل بأن أيام النحر: يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده، وَرَجَّحَ هذا المذهب، لكنه قال عن هذا الحديث: "لكنَّ الحديث منقطع لا يثبت وصله". ثم عاد فقال - في معرض ترجيحه هذا المذهب -: "وَرُوِيَ من وجهين مختلفين - يَشَدُّ أحدهما الآخر - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مني منحر، وكلُّ أيام التشريق ذبحٌ ". وَرُوِىَ من حديث جبير بن مطعم - يعني الماضي - وفيه انقطاع، ومن حديث أسامة بن زيد، عن عطاء، عن جابر. قال يعقوب بن سفيان: أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون"1. قلت: هذا الحديث الذي أورده ابن القَيِّم - رحمه الله - حاكماً بانقطاعه: أخرجه أحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طريق: أبي المغيرة4، عن سعيد بن عبد العزيز5، عن سليمان بن   1 زاد المعاد: (2/318 - 319) . (4/82) . (9/295) . 4 هو: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني، الحمصي، ثقة، من التاسعة، مات سنة212هـ/ ع. (التقريب 360) . 5 التنوخي، الدمشقي، ثقة إمام، سَوَّاهُ أحمد بالأوزاعي، وقَدَّمَهُ أبو مسهر، لكنه اختلط في آخر أمره، من السابعة، مات سنة 167هـ/ بخ م 4. (التقريب238) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 موسى1، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلُّ عرفات موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنَة. وكل مزدلفة موقفٌ، وارفعوا عن مُحَسِّر. وكل فِجَاجِ مني منحر، وكلُّ أيام التشريق ذبحٌ". ثم ساقه الإمام أحمد من طريق: أبي اليمان، عن سعيد بن عبد العزيز، بإسناده مثله. وهذا الإسناد منقطع كما قال ابن القَيِّم رحمه الله؛ فإنَّ سليمان ابن موسى لم يدرك جبير بن مُطْعِم، قال البخاري: "سليمان لم يدرك أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "2. وقال ابن كثير - وعنه نقل صاحب (نصب الراية) 3 -: "هكذا رواه أحمد، وهو منقطع؛ فإن سليمان بن موسى الأشدق لم يدرك جبير بن مطعم". وقال البيهقي عقب روايته: "وهو مرسل". ونقل النووي في (شرح المهذب) 4 إعلال البيهقي له، وأَقَرَّهُ. وقال الحافظ ابن حجر: "في سنده انقطاع"5. قلت: وقد رُوي عن سليمان من وجه آخر ظاهره الاتصال، فقد أخرجه البزار في (مسنده) 6، وابن حبان في (صحيحه) 7، وابن   1 الأموي مولاهم، الدمشقي، الأَشْدَق، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل، من الخامسة/ م 4. (التقريب 255) . 2 علل الترمذي: (1/313) ، باب زكاة العسل. (3/61) . (8/287) . 5 فتح الباري: (10/8) . 6 انظر: كشف الأستار: (2/27) ح رقم 1126. باب: عرفة كلها موقف. 7 الإحسان: (6/62) ح 3843. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 عديّ في (الكامل) 1 كلهم من طريق: عبد الملك بن عبد العزيز2، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، عن عبد الرحمن بن أبي الحسين، عن جبير رضي الله عنه به مرفوعاً. ولكنَّ هذا الإسناد منقطع أيضاً، حكم عليه بذلك البزار رحمه الله، فقال: " ... ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم، وإنما ذكرنا هذا الحديث لأنَّا لا نحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في: "كل أيام التشريق ذبح". إلا في هذا الحديث، فكذلك ذكرناه، وبَيَّنَا العلة فيه"3. وقد أخرجه الطبراني في (معجمه الكبير) 4، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 5 من طرق، عن: سويد بن عبد العزيز6، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، عن نافع بن جبير7، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ولفظه عند الدارقطني والبيهقي مختصر، كما أورده ابن القَيِّم أول الباب.   (3/1119) في ترجمة "سليمان بن موسى". 2 القشيري، النسائي، أبو نصر التمَّار، ثقة عابد، من صغار التاسعة، مات سنة 228هـ / م س. (التقريب 363) . 3 انظر: نصب الراية: (3/61) . (2/144) ح 1583. 5 قط: (4/284) ح 47. هق: (9/296) . 6 ابن نمير، السُّلَمِي مولاهم، الدمشقي، وقيل أصله حمصي، وقيل غير ذلك، ضعيف، من كبار التاسعة، مات سنة 194هـ، ت ق. (التقريب 260) . 7 ابن مطعم النوفلي، أبو محمد وأبو عبد الله، المدني، ثقة فاضل، من الثالثة، مات سنة 99هـ / ع. (التقريب 558) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وقد أشار البزار - رحمه الله - إلى رواية سويد هذه عقب إخراجه رواية عبد الرحمن بن أبي حسين المتقدمة، فقال: "ورواه سويد بن عبد العزيز، فقال فيه: عن نافع بن جبير، عن أبيه، وهو رجلٌ ليس بالحافظ، ولا يُحْتَجُّ به إذا انفرد بحديث، وحديث ابن أبي حسين هو الصواب ... "1. وأَعَلَّهُ البيهقي بسويد أيضاً، فقال: "ورواه سويد بن عبد العزيز، وهو ضعيف عند بعض أهل النقل ... "2. وتَعَقَّبَهُ ابن التركماني، فقال: "هو ضعيف عند كلهم أو أكثرهم"3. وبذلك يكون حديث سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى دائراً بين الضعف والانقطاع، ولكن أشار الحافظ ابن حجر إلى أنه ورد موصولاً من وجه آخر، فقال: "ووصله الدارقطني، ورجاله ثقات"4. قلت: لعله يشير بذلك إلى ما أخرجه الدارقطني في (سننه) 5- ومن طريقه البيهقي6 - من طريق: أبي معيد7، عن سليمان ابن موسى، عن عمرو بن دينار، عن جبير بن مطعم به.   1 نصب الراية: (3/61) ، وانظر كشف الأستار: (2/27) فقد أورده مختصراً. 2 السنن: (9/296) . 3 الجوهر النقي: (9/296) . 4 فتح الباري: (10/8) . (4/284) ح 49. 6 السنن: (9/296) . 7 حفص بن غيلان، وهو بكنيته أشهر، شامي، صدوقٌ فقيهٌ، رُميَ بالقَدَرِ، من الثامنة/ س ق. (التقريب 174) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وهذا إسنادٌ رجاله ثقات، إلا أبا معيد، فإنه تَكَلَّمَ فيه بعضهم، ولكنه صدوقٌ، وقد وثقه الأكثرون1، فحديثه لا ينزل عن درجة الحسن، وقد وَثَّقَ ابن حجر - رحمه الله - رجال هذا الإسناد2 كما مضى. وقد أشار الزيلعي في (نصب الراية) 3 إلى أن الطبراني أخرجه في (مسند الشاميين) ، من طريق أبي معيد، عن سليمان بن موسى، عن محمد ابن المنكدر، عن جبير به، فيكون هذا طريقاً آخر لهذا الحديث، فيثبتُ بذلك اتِّصَالُهُ من طريق سليمان بن موسى إلى جبير بن مطعم رضي الله عنه، وتنتفي عنه بذلك عِلَّةُ الانقطاع التي أشار إليها ابن القَيِّم رحمه الله. وأما قول ابن القَيِّم رحمه الله: " روي من وجهين مختلفين يشدُّ أحدهما الآخر ... " ثم ذِكْرُهُ رواية جبير بن مطعم، ورواية جابر رضي الله عنهما: فإن كان يقصد أن حديث جابر يشدُّ حديث جبير، فإنه لا يتم له الاستشهاد به؛ لأن حديث جابر رضي الله عنه ليس فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل أيام التشريق ذبح ". وإنما لفظه - كما أخرجه أبو داود4 وغيره - أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر". أما إن كان قصده: مجيء حديث جبير بن مطعم نفسه من وجه   1 انظر: تهذيب التهذيب: (2/418 - 419) . 2 إن كان هذا هو الإسناد الذي أراده بقوله: "وصله الدارقطني ... ". (3/61) ، ولم أقف عليه في (مسند الشاميين) بعد البحث. (2/478) ح 1937. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 آخر- كما تقدم في كلام ابن حجر - فقد حصل المقصود وهو: تقوية رواية جبير المنقطعة. هذا، وقد صحح الهيثمي إسناد حديث جبير، فقال: "رجاله موثوقون"1. - يريد رجال أحمد والطبراني - ورَمَزَ له السيوطي بالصحة2. وَأَقَرَّهُ الشيخ الألباني في (صحيح الجامع الصغير) 3. فَتَلَخَّص من ذلك: ثبوت حديث جبير بن مطعم هذا، وانتفاءُ ما أَعَلَّهُ به ابن القَيِّم من الانقطاع، وذلك بوروده من وجه آخر متصلاً، وتصحيح الأئمة له. على أنَّ كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - الظاهر منه مَيْلُهُ إلى تقوية الحديث بمجيئه من وجه آخر، كما تقدم من كلامه.   1 مجمع الزوائد: (3/251) . 2 الجامع الصغير مع فيض القدير: (5/27) ح 6331. (ح 4537) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 9- باب ما يستحب من ذبح صاحب النسيكة نسيكته بيده، وجواز الاستنابة فيه 57- (12) عن علي صلى الله عليه وسلم قال: "لمَّا نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدْنَهُ، فَنَحَرَ ثلاثين بيده، وَأَمَرَنِي فنحرت سَائِرَهَا ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وعزاه لأحمد وأبي داود، ثُمَّ قال: "هَذَا غلط، انقلب على الراوي؛ فإن الذي نَحَرَ ثلاثين: هو عليٌّ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نحر سبعاً بيده لم يشاهده عليٌّ ولا جابر، ثم نَحَرَ ثلاثاً وستين أخرى، فَبَقِيَ من المائة ثلاثون، فَنَحَرَهَا عليٌّ، فانقلب على الراوي عدد ما نَحَرَهُ عليٌّ بما نحره النبي صلى الله عليه وسلم "1. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3 - وأخرجه البيهقي في (سننه) 4 من طريق أبي داود - كلهم من طريق: محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نَجِيحٍ5، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي رضي الله عنه به. وعند الإمام أحمد زيادة، وهي قوله: " ... وقال: اقسم   1 زاد المعاد: (2/260) . (2/369) ح 1764 ك الحج، باب في الهدي إذا عطب قبل أن يبْلُغَ. (1/159) . (5/238) . 5 هو: عبد الله بن أبي نجيح - واسم أبي نجيح: يسار - المَكِّي،، أبو يسار، الثقفي، ثقة رُمِيَ بالقدر، وَرُبَّمَا دَلَّسَ، من السادسة، مات سنة 131 هـ / ع. (التقريب326) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 لُحُومَهَا بين الناس وجُلُودَهَا وجِلالها، ولا تُعْطِيَّنَّ جَازِرَاً منها شيئاً". وهذا الحديث معلول بأمور، وهي: أولاً: عنعنة ابن إسحاق وهو مُدَلِّس، فإنه لا يُقْبَلُ منه إلا ما صرح فيه بالسماع1. ثانياً: أن سفيان الثوري رواه عن ابن أبي نجيح بالإسناد السابق، فلم يذكر فيه ما جاء في رواية ابن إسحاق، ولكن فيه قول علي رضي الله عنه: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم فَقَمْتُ على البُدْنِ، فأمرني فقسمت لحومها، ثم أمرني فقسمت جلالها وجلودها ". أخرجه البخاري في (صحيحه) 2. وقد سبق أن رواية أحمد عن ابن إسحاق فيها زيادة، وهي: أمْرُهُ له بقسمة لحومها وجلالها، فَيُخْشَى أن يكون دخل لابن إسحاق حديث في حديث، فالله أعلم. ثالثاً: وهو ما ذكره ابن القَيِّم رحمه الله، فإن حديث جابر في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم فيه قوله: " ... ثم انصرف إلى الْمَنْحَر، فَنَحَر ثلاثاً وستين بيده، ثم أَعْطَى عَلِيَّاً فَنَحَرَ مَا غَبَر" 3. أخرجه مسلم في (صحيحه) 4. وقد قَدَّم البيهقي - رحمه الله - رواية مسلم؛ فإنه أخرجها في   1 انظر: طبقات المدلسين: (ص132) . 2 ك الحج، باب لا يعطى الجزار من الهَدْي شيئاً. ح 1716. (فتح الباري 3/555) . 3 غَبَر: بَقِيَ. (المصباح المنير 2/442) . (2/886) . ح 147، ك الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 (السنن) 1، ثم أخرج رواية ابن إسحاق بعدها، ثم قال: "كذا رواه محمد ابن إسحاق، ورواية جعفر أصحُّ" يعني التي في (مسلم) عن جابر. وكذا قَدَّمَها الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ فإنه قال - بعد أن ساق رواية ابن إسحاق -: "وأصحُّ منه ما وقع عند مسلم". فساق حديث جابر، ثم حاول الجمع بين هذه الرواية ورواية ابن إسحاق، فقال: "والجمع بينه وبين رواية ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثين، ثم أمر علياً أن ينحر سبعاً وثلاثين مثلاً، ثم نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وثلاثين". قال: "فإنْ سَاغَ هذا الجمعُ، وإلا فما في الصحيح أصحُّ"2. أما ابن القَيِّم رحمه الله، فقد ذهب إلى وقوع القلب في حديث ابن إسحاق كما تقدم كلامه في ذلك، وأن الصواب رواية مسلم التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بيده، مع نحره صلى الله عليه وسلم سبع بُدْنٍ قياماً، كما في حديث أنس3 رضي الله عنه فيصير مجموع ما نحره صلى الله عليه وسلم سبعين بدنة. لا أن علياً هو الذي نحر هذا العدد. وهذا المسلك من ابن القَيِّم - رحمه الله - قويٌّ في تقديم ما في الصحيح وردِّ ما عداه. وعلى كل حال، فإن رواية ابن إسحاق شاذَّةٌ لمخالفتها رواية   (5/238) . 2 فتح الباري: (3/555 - 556) . 3 وهو جزء من حديث يَصِفُ فيه أنس رضي الله عنه حَجَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه البخاري في (صحيحه) ك الحج، باب نحر البدن قائمة. ح1714 (فتح الباري 3/554) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 جابر في (صحيح مسلم) ، مع ضَعْفِ إسنادها كما تقدم، وقد رَجَّحَ رواية الصحيح: البيهقي، ثم ابن حجر رحمهما الله، كما تقدم، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 10- باب ما جاء في طواف الإفاضة 58- (13) عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: "أَنَّ النَّبِي أَخَّرَ طَوافَهُ يوم النَّحْرِ إلى اللَّيل". وفي لفظ: "طَوافَ الزِّيَارَة". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وتحسين الترمذي له، ثم قال: "وهذا الحديث غَلَطٌ بَيِّنٌ، خلاف المعلوم من فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم الذي لا يَشُكُّ فيه أهل العلم بحَجَّتِه"1. ثم ذكر - رحمه الله - كلام البخاري في إعلاله بعدم سماع أبي الزبير من عائشة، وكلام ابن القطان في إعلاله بتدليس أبي الزبير وقد عنعنه، ثم قال: "ويدل على غلط أبي الزبير عن عائشة: أن أبا سلمة بن عبد الرحمن روى عن عائشة، أنها قالت: حَجَجْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَفَضْنَا يومَ النحر"2. وقال مرة: "هذا الحديث وَهْمٌ؛ فإن المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم: أنه إنما طاف طواف الإفاضة نهاراً بعد الزوال، كما قاله جابر، وعبد الله بن عمر، وعائشة. وهذا أمرٌ لا يرتاب فيه أهل العلم بالحديث"3. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن   1 زاد المعاد: (2 / 275 - 276) . 2 زاد المعاد: (2/277) . 3 تهذيب السنن: (2/428) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 ماجه في (سننهم) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طرق، عن: سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن عائشة وابن عباس - رضي الله عنها - به. وعَلَّقَهُ البخاري في (صحيحه) 4، فقال: "وقال أبو الزبير، عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: أَخَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة إلى الليل". قال أبو عيسى الترمذي: "حديث حسن صحيح". وفي بعض نسخه: "حسن"5. ولكن هذا الحديث أُعِلَّ بعلل - كما تقدم في كلام ابن القَيِّم رحمه الله - منها: أولاً: انقطاعه بين أبي الزبير وعائشة، وقيل: ابن عباس أيضاً: فقد سأل الترمذي البخاريَّ عنه، فقال له: أبو الزبير سمع عائشة   1 د: (2/509) ح2000 باب الإفاضة في الحج. ت: (3/253) ح920 باب ما جاء في طواف الزيارة بالليل. س: في (الكبرى) (4/218) ح4155. جه: (2/1017) ح3059 باب زيارة البيت. كلهم في ك الحج. (1/288، 309) ، (6/215) . (5/144) . 4 ك الحج، باب الزيارة يوم النحر. (فتح الباري 3/567) . 5 تحفة الأشراف: (5/237) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 وابن عباس؟ قال: "أما ابن عباس فنعم، وإن في سماعه من عائشة نظراً"1. وقال أبو حاتم: "أبو الزبير رأي ابن عباس رؤية، ولم يسمع من عائشة"2. وقال ابن عيينة: "يقولون: أبو الزبير المكي لم يسمع من ابن عباس"3 قال العلائي - عقب نقله كلام هؤلاء الأئمة -: "حديثه عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة في صحيح مسلم"4. قلت: ولكنَّ هذا على قاعدة مسلم المعروفة، وهي: اكتفاؤه في السند المعنعن بإمكان اللقاء دون ثبوته، وهذا - على فرض قبوله - يكون في غير المدلسين، أما إذا كان المُعَنْعِنُ مُدَلِّسَاً، فإنهم لم يختلفوا في عدم قبول ما عنعنه، وإنما الخلاف في قبول عنعنة المدلس إذا كان ممن عُلِمَ لقاؤه بمن عنعن عنه. وأبو الزبير من المدلسين المشهورين بذلك، فتكون هذه علة أخرى في الحديث، وهي: ثانياً: عنعنة أبي الزبير وهو مُدَلِّسٌ: وقد أَعَلَّهُ بذلك جماعة، فقال ابن حزم - رحمه الله - بعد أن ذكر تدليس أبي الزبير-: "ولسنا نحتجُّ من حديثه إلا بما فيه بيان أنه سمعه، وليس في هذا بيان سماعه منهما"5. وقال ابن القطان: "عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح، إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ نهاراً، وإنما اختلفوا: هل صلى الظهر بمكة أو   1 علل الترمذي: (1/388) . 2 المراسيل لابن أبي حاتم: (ص193) . 3 المصدر السابق. 4 جامع التحصيل: (ص 330) . 5 حجة الوداع: (ص211 - 212) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 رجع إلى منىً فصلى الظهر بها بعد أن فرغ من طوافه؟ ... وجابر يقول: إنه صلى الظهر بمكة، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه ... وهو شيء لم يرو إلا من هذا الطريق، وأبو الزبير مُدَلِّسٌ، ولم يذكر هاهنا سماعاً من عائشة"1. وتعقب الحافظ العراقي الترمذي في تحسينه إياه: بأنه معلول بعنعنة أبي الزبير2. وأعله الشيخ الألباني - أيضاً - بعنعنة أبي الزبير وهو مدلس3. ثالثاً: أن هذا الحديث قد عارضه ما هو أصح منه وأثبت: وذلك من حديث جابر، وابن عمر، ومن حديث عائشة نفسها، كما تقدم ذكر ذلك عن ابن القَيِّم رحمه الله. قال النووي رحمه الله: " ... إن روايات جابر، وابن عمر، وأم سلمة عن عائشة: أصحُّ وأشهرُ وأكثر رواة، فوجب تقديمها، ولهذا رواها مسلم في صحيحه دون حديث أبي الزبير وغيره"4. وحديث ابن عمر المشار إليه: أخرجه مسلم في (صحيحه) 5 من طريق: نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يوم النَّحْرِ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى".   1 بيان الوهم والإيهام: (5/64) ح 2305. 2 شرح الترمذي: ج3 (ق 156/ أ) . 3 إرواء الغليل: (4/265) . 4 المجموع: (8/160) . (2/950) ح 335 (1308) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 وأما حديث جابر: فهو ضمن حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قوله: " ... ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر ... ". وهو في (صحيح مسلم) 1 أيضاً. وأما حديث عائشة: فقد أخرجه البخاري في (صحيحه) 2 من طريق: أبي سلمة بن عبد الرحمن عنها رضي الله عنها، أنها قالت: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأفضنا يوم النحر ... ". فهذه الأحاديث الصحيحة عارضت حديث أبي الزبير المتقدم، وفي جميعها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض نهاراً. وقد ذهب البعض إلى الجمع بين هذه الأحاديث، فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ... فَيُحْمَلُ حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول، وحديث ابن عباس هذا على بقية الأيام"3. وتعقبه الشيخ الألباني، فقال: "وهذا التأويل ممكن بناءً على اللفظ الذي عند البخاري: "أَخَّرَ الزيارة إلى الليل". وأما الألفاظ الأخرى فهي تأبى ذلك؛ لأنها صريحة في أنه طواف الإفاضة في اليوم الأول، يوم النحر"4. وسبق ابن حجر إلى محاولة الجمع أيضاً: النوويُّ رحمه الله، فقال في جوابه عن هذه الأحاديث: " ... أن يُتَأَوَّلَ قوله: "أَخَّرَ طواف يوم   (2/892) . 2 ك الحج، باب الزيارة يوم النحر ح 1733. 3 فتح الباري: (3/567) . 4 إرواء الغليل: (4/264) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 النحر إلى الليل". أي: طواف نسائه، ولابدَّ من التأويل للجمع بين الأحاديث"1. قلت: بل الجمع غير لازم هنا، ويَتَعَيَّنُ الترجيح؛ لأن المعارض لهذه الأحاديث الصحيحة ضعيف لا يقاومها، قال الشيخ الألباني رحمه الله: "ولذلك فلا بد من الترجيح، ومما لا شكَّ فيه أن حديث ابن عمر أصحُّ من هذا، مع ما له من الشاهدين من حديث جابر، وعائشة نفسها"2. فَتَلَخَّص من ذلك: أن حديث أبي الزبير، عن عائشة وابن عباس: حديث ضعيف، ومع ضعفه فقد عارضته الأحاديث الصحيحة الصريحة في طوافه صلى الله عليه وسلم طواف الزيارة نهاراً، فوجب تقديم هذه الأحاديث على هذا الضعيف، وهذا ما اختاره ابن القَيِّم رحمه الله، وهو الصواب، والله أعلم.   1 المجموع: (8/160) . 2 إرواء الغليل: (4/264) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 11- باب الشرب من ماء زمزم 59 - (14) عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَه ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد ضَعَّفَ هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المُؤَمَّل راويه عن محمد بن المنكدر، وقد روينا عن عبد الله بن المبارك: أنه لَمَّا حجَّ أتى زمزم، فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، عن نَبَيِّكَ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شُرِبَ له " وإني أشربه لظمأ يوم القيامة، وابن أبي الموالي ثقة، فالحديث إذن حسن، وقد صححه بعضهم، وجعله بعضهم موضوعاً، وكلا القولين فيه مجازفة"1. قلت: هذا الحديث يُروى عن جابر رضي الله عنه من طريقين: الطريق الأول: أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3 والطبراني في (الأوسط) 4، والبيهقي في (سننه) 5، والعقيلي   1 زاد المعاد: (4/392 - 393) . (2/1018) ح 3062، ك المناسك، باب الشرب من زمزم. (3/357، 372) . (1/469) ح 853. (5/148) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 في (الضعفاء) 1، والخطيب في (تاريخ بغداد) 2 من طرق، عن: عبد الله بن المُؤَمَّل3، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه به. وهذا الإسناد ضعيف؛ لضعف عبد الله بن المُؤَمَّل، وبه ضعفه ابن القطان4، وضعفه - أيضاً - النووي في (المجموع) 5. وقال العقيلي: "لا يُتابع عليه". وكذا قال ابن حبان في (المجروحين) 6. وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا عبد الله بن المُؤَمَّل". وقال البيهقي عقب إخراجه: "تَفَرَّدَ به عبد الله بن المُؤَمَّل". قلت: أما تضعيفه بابن المُؤَمَّل: فنعم، وأما القول بأنه تَفَرَّدَ به: فلا؛ فقد تابعه إبراهيم بن طهمان7، كما نَبَّهَ على ذلك صاحب (الجوهر النقي) 8 فقال - متعقباً البيهقي -: "قلت: لم ينفرد به، بل   (2/303) . (3/179) في ترجمة محمد بن القاسم المدائني. 3 ابن وهب الله، المخزومي، المكي، ضعيف الحديث، من السابعة، مات سنة 160هـ / بخ ت ق. (التقريب 325) . 4 بيان الوهم والإيهام: (3/478) ح 1243. (8/198) . (2/28) . 7 الخراساني، أبو سعيد، سكن نيسابور، ثم مكة، ثقةٌ يُغْرِبُ، وتُكِلِّمَ فيه للإِرْجَاءِ، ويقال: رجع عنه، من السابعة، مات سنة 168هـ / ع. (التقريب90) . (5/148) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 تابعه إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، كذا أورده البيهقي نفسه فيما بعد، في باب الرخصة في الخروج بماء زمزم". والحديث في (سنن البيهقي) 1 من طريق: أحمد بن إسحاق البغدادي، عن معاذ بن نجدة، عن خَلاَّد بن يحيى، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، وفيه قصة. وأعلَّ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - هذه المتابعة لابن المُؤَمَّل، فقال: "ولا يصحُّ عن إبراهيم ... إنما سمعه إبراهيم من ابن المُؤَمَّل"2. وتعقبه الشيخ الألباني فقال: "ولا أدري من أين أخذ الحافظ هذا التعليل، فلو اقتصر على قوله: لا يصح عن إبراهيم. لكان مما لا غُبَارَ عليه"3. وأَعَلَّهَا الشيخ الألباني - رحمه الله - بجهالة أحمد بن إسحاق البغدادي4. لكنه قال مرةً: "إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات"5‍! وأعلَّ ابن القطان هذا الحديث بعنعنة أبي الزبير، فقال: "تدليس أبي الزبير معلوم"6. فَتَعَقَّبَهُ ابن الملقن في (البدر المنير) 7 بقوله: "قلت: قد   (5/202) . 2 التلخيص الحبير: (2/268) . 3 إرواء الغليل: (4/321) . 4 المصدر السابق. 5 السلسلة الصحيحة: (2/573) ح 883. 6 بيان الوهم والإيهام: (3/478) ح 1243. 7 ج 4 (ق 412) نسخة أحمد الثالث. وانظر: التلخيص الحبير (2/268) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 صَرَّحَ بالتحديث في رواية ابن ماجه، وكذا البيهقي في باب الرخصة في الخروج بماء زمزم". لكن تَعَقَّبَ ذلك الشيخ الألباني، فقال عن طريق ابن ماجه هذه: "لكنها رواية شاذة غير محفوظة، تَفَرَّدَ بها هشام بن عَمَّار ... وهشام فيه ضَعْفٌ ... والوليد بن مسلم مُدَلِّسٌ ولم يُصَرِّحْ بسماعه من ابن المُؤَمَّل1. وقد خالفه رواة الطرق الأخرى، وهم ستة، فقالوا: عن أبي الزبير، عن جابر. فروايتهم هي الصواب"2. قلت: فإن سُلِّمَ تَعَقُّبُ الشيخ الألباني هذا، فتبقى عنعنة أبي الزبير علة أخرى في هذا الطريق كما قال ابن القطان. هذا ما يتعلق بالكلام عن الطريق الأول عن جابر، وقد ظهر ما فيه. الطريق الثاني: أخرجه الخطيب في (تاريخ بغداد) 3 في ترجمة عبد الله بن المبارك بسنده إلى سويد بن سعيد4 قال: رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى منه شَرْبَةً، ثم استقبل الكعبة، ثم قال:   1 وإنما قال: "قال عبد الله بن المُؤَمَّل" (سنن ابن ماجه 2/1018) . 2 إرواء الغليل: (4/322) . (10/166) . 4 ابن سهل الهروي الأصل، ثم الحدثاني، ويقال له: الأنباري، أبو محمد، صَدُوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِيَ فَصَارَ يَتَلَقَّن ما ليس من حديثه فَأَفْحَشَ فيه ابن معين القول، من قدماء العاشرة، مات سنة 240هـ / م ق. (التقريب ص 260) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 اللهم إن ابن أبي الموالي1 حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شُرِبَ له". وهذا أَشْرَبُهُ لعطش القيامة. ثم شَرِبَه. وأخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) 2 وقال: "غريب، تَفَرَّدَ به سويد" ونقل ذلك عنه ابن حجر في (التلخيص الحبير) 3 ثم قال عن سويد: "وهو ضعيف جداً، وإن كان مسلمٌ قد أخرج له في المتابعات ... " إلى أن قال: "وقد خَلَّطَ في هذا الإسناد، وأخطأ فيه عن ابن المبارك، وإنما رواه ابن المبارك، عن ابن المُؤَمَّل، عن أبي الزبير، كذلك رويناه في (فوائد أبي بكر ابن المقري) من طريق صحيحة، فَجَعَلَه سويد: عن ابن أبي الموالي، عن ابن المنكدر. واغْتَرَّ الحافظ شرف الدين الدمياطي بظاهر هذا الإسناد، فحكم بأنه على رسم الصحيح؛ لأن ابن أبي الموالي انفرد به البخاريّ، وسويداً انفرد به مسلمٌ، وغفل عن أن مسلماً إنما أخرج لسويد ما توبع عليه، لا ما انفرد به، فضلاً عما خُولف فيه". وقد رُوِيَ هذا الحديث عن ابن عباس، لكنه شديد الضَّعْفِ، بل باطل، كما سيأتي بيانه، فقد أخرجه: الدارقطني في (سننه) 4 عن:   1 عبد الرحمن بن أبي الموالي - واسمه: زيد، وقيل: أبو الموالي جده- أبو محمد، مولى آل عليّ، صدوق رُبَّمَا أخطأ، من السابعة، مات سنة 173هـ / خ 4. (التقريب ص351) . (8/67) ح 3833. (2/268) وانظر أيضاً: فتح الباري (3/493) . (2/289) ح238. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 عمر بن الحسن بن علي. والحاكم في (المستدرك) 1 عن: علي بن حمشاد العدل، كلاهما عن: محمد بن هشام بن عيسى المروزي، ثنا محمد بن الحبيب الجارودي، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: "مَاءُ زَمْزَم لما شُرِبَ له، إن شَرِبْتَهُ تَسْتَشْفِي به شفاكَ الله، وإن شربته لِشِبَعِكَ أشبعك الله به، وإن شربته ليقطع ظمأك قطعه الله. وهي هَزْمَة2 جبريل، وسُقْيَا الله إسماعيل". هذا لفظ الدارقطني. وعند الحاكم: "وإن شربته مستعيذاً عاذك الله" بدل: "وإن شربته لشبعك ... ". وليس عنده: "وهي هزمة جبريل ... ". قال أبو عبد الله الحاكم - عقب إخراجه -: "هذا حديث صحيح الإسناد إن سَلِم من الجارودي، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وهذا الحديث له ثلاث علل - كما قال الشيخ الألباني3رحمه الله -: العلة الأولى: أن محمد بن حبيب الجارودي أخطأ فيه عن ابن عيينة فجعله موصولاً مسنداً، وغيره جعله عن ابن عيينة عن مجاهد قوله،   (1/473) . 2 الهَزْمَةُ: النقرة في الصدر، وفي التفاحة إذا غمزتها بيدك، وهزمت البئر: حفرتها. والمراد بهزمة جبريل: أنه ضربها برجله فنبع الماء. (النهاية 5/263) . 3 في إرواء الغليل: (4/329 - 333) ح 1126. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 قال ابن حجر: "والجارودي صدوق، إلا أن روايته شاذة، فقد رواه حُفَّاظُ أصحاب ابن عيينة: الحميدي، وابن أبي عمر، وغيرهما عن أبن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله"1. وقال الحافظ الذهبي في ترجمة الجارودي هذا: "أتى بخبر باطلٍ اتُّهِمَ بسنده"2. العلة الثانية: جهالة محمد بن هشام المروزي راويه عن الجارودي، قال ابن القطان: "لا يُعرف حاله"3. العلة الثالثة: ضعف عمر بن الحسن الأشناني، شيخ الدارقطني في هذا الخبر. قال الذهبي في ترجمته في (الميزان) 4: "صاحب بلايا" ثم ساق هذا الحديث من طريق الدارقطني، ثم قال: "وابن حبيب - يعني الجارودي - صدوقٌ، فآفة هذا هو عمر، فلقد أَثِمَ الدارقطني بسكوته عنه، فإنه بهذا الإسناد باطلٌ، ما رواه ابن عيينة قطُّ، بل المعروف حديث عبد الله بن المُؤَمَّل، عن أبي الزبير، عن جابر مختصراً". قال الشيخ الألباني رحمه الله: "وجملة القول: أن الحديث بالزيادة التي عند الدارقطني موضوعٌ؛ لتفرد هذا الأشناني به، وهو بدونها باطلٌ؛ لخطأ الجارودي في رفعه، والصواب: وقفه على مجاهد. ولئن قيل: إنه لا   1 التلخيص الحبير: (2/268) . 2 الميزان: (3/508) . 3 البدر المنير: ج 4 (ق 412) . (3/185) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 يُقَالُ من قِبَلِ الرأي فهو في حكم المرفوع؟ فإن سُلِّمَ هذا، فهو في حكم المرسل، وهو ضعيف"1. وقد جعله السخاوي شاهداً لحديث جابر المتقدم2، فتعقبه الشيخ الألباني بقوله: "ولكنه عندي ضعيف جداً فلا يصلح شاهداً، بل قال فيه الذهبي: خبر باطل"3. ولحديث جابر شاهدٌ آخر عن معاوية رضي الله عنه موقوفٌ عليه، أشار إليه السخاوي في (المقاصد الحسنة) 4 فقال - بعد أن ساق حديث جابر وابن عباس الماضيين -: "وأحسن من هذا كله عند شيخنا: ما أخرجه الفاكهي، من رواية ابن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: لما حجَّ معاوية فحججنا معه، فلما طافَ بالبيت ... " فذكره، وفيه أن معاوية أمر بدلوٍ من زمزم، فشربه، ثم قال: "زمزم شفاء، وهي لما شُرِبَ له". قال السخاوي: "بل قال شيخنا: إنه حسن مع كونه موقوفاً. وأفرد فيه جزءاً". قلت: ومما يشهد لمعناه: حديث أبي ذر رضي الله عنه يرفعه: "إنها مباركة وهي طعام طُعْمٍ، وشفاء سُقْمٍ". واستشهد به ابن حجر للحديث المتقدم5، وهو في (مسند الطيالسي) 6.   1 إرواء الغليل: (4/332) . 2 المقاصد الحسنة: (ح 928) . 3 إرواء الغليل: (4/324) . (ص 568) . 5 كما في المقاصد الحسنة (ص 568) . (ح 457) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 فالحاصل: أن هذا الحديث يَتَقَوَّى بمجموع هذه الطرق، فيكون حسناً لغيره، لا لذاته كما يفهم من كلام ابن القَيِّم رحمه الله1؛ إذ إنَّ طُرُقَهُ كلها لم تَسْلَم من الضَّعْفِ. وحَسَّنَه الحافظ المنذري في (كلامه على أحاديث المهذب) 2. وقال الحافظ ابن حجر: "ومرتبة هذا الحديث: أنه باجتماع هذه الطرق يصلح للاحتجاج به"3. وقال مرة: "غريب، حسنٌ بشواهده"4. بقي التنبيه على أمرٍ وقع لابن القَيِّم رحمه الله، وهو قوله في هذا الحديث: "وقد ضَعَّفَ هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المُؤَمَّل راويه عن محمد بن المنكدر". كذا قال، وقد عُلِمَ مما سبق أنَّ ابن المُؤَمَّل إنما يرويه عن أبي الزبير، وأن الذي رواه عن ابن المنكدر هو ابن أبي الموالي.   1 وانظر: إرواء الغليل: (4/324) . 2 أفاد ذلك ابن الملقن - رحمه الله - في (البدر المنير) : ج4 (ق 412) . 3 المقاصد الحسنة: (ص 568) . 4 فيض القدير: (5/404) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 12- باب فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - فضلَ مكة، والبيت الحرام، وأنه أَفْضَلُ بقاع الأرض على الإطلاق، فقال: "وَثَبَتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، ففي (سنن النسائي) ، و (المسند) بإسناد صحيح، عن: 60 - (15) عبد الله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "صلاة في مَسْجِدي هذا أفضل من أَلف صلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلا المسجدَ الحرامَ، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مَسْجِدي هذا بمائة صلاةٍ ". ورواه ابن حبان في صحيحه1. قلت: هذا الحديث أخرجه: أحمد في (مسنده) 2، وابن حبان في (صحيحه) 3، والبيهقي في (سننه) 4، وابن عبد البر في (التمهيد) 5، كلهم من طريق: حَمَّاد بن زيد، عن حبيب الْمُعَلَّم6.   1 زاد المعاد: (1/48) . (4/5) . 3 الإحسان: (3/71) ح 1618. (5/246) . (6/25) . 6 أبو محمد البصري، مولى معقل بن يسار، اختلف في اسم أبيه، فقيل: زائدة، وقيل: زيد، صدوق، من السادسة، مات سنة 130 هـ / ع. (التقريب 152) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 1 عن: الربيع بن صبيح2. كلاهما - حبيب والربيع - عن: عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، ووقع عند الطيالسي قول عطاء: "بينما ابن الزبير يخطبنا إذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " الحديث، قال عطاء في آخره: "فكأنه مائة ألف". وعند ابن حبان: "وَصَلاةٌ في ذاكَ أَفْضَل من مائةِ صلاةٍ في هذا ". وعزاه الهيثمي في (مجمع الزوائد) 3 لأحمد، والطبراني، والبزار، وأما ما قاله ابن القَيِّم - رحمه الله - من أن هذا الحديث في (سنن النسائي) فإنني لم أقف عليه فيه بعد البحث، ولا هو في (السنن الكبرى) له فيما بحثت، ولم يذكره المزيُّ في (تحفة الأشراف) في مسند ابن الزبير، فلعله سبق قلم من ابن القَيِّم رحمه الله. وإسناد هؤلاء الجماعة - ما عدا الطيالسي - صحيح على شرط الشيخين، وإلى ذلك أشار الهيثمي رحمه الله، فقال: "ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح"4. ولكن رُوِيَ هذا الحديث عن عطاء من وجهٍ آخر موقوفاً على   1 ح (1367) . 2 السَّعْدِي، البصري، صدوق سيء الحفظ، وكان عابداً مجاهداً، من السابعة، مات سنة 160هـ / خت ت ق. (التقريب 206) . (4/4 - 5) . 4 مجمع الزوائد: (4/4-5) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 ابن الزبير، أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 1 عن: ابن جريج. وابن عبد البر في (التمهيد) 2 من طريق: حجاج بن أرطاة3، كلاهما عن: عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير موقوفاً عليه. ولفظ عبد الرزاق: عن عطاء، أنه سمع ابن الزبير يقول على المنبر: "صلاة في المسجد الحرام خيرٌ من مائة صلاة فيما سواه من المساجد". قال: ولم يُسَمِّ مسجد المدينة، فَيُخَيَّلُ إليَّ أَنَّمَا يريد مسجد المدينة. ولفظ ابن عبد البر: "الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بمائة ضِعْفٍ". قال عطاء: فنظرنا في ذلك، فإذا هي تفضل على سائر المساجد بمائة ألف ضِعْفٍ. قال ابن عبد البر: "هكذا رواه عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير، واخْتُلِفَ في رفعه عن عطاء ... وَمَنْ رَفَعَهُ عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أحفظ وأثبت من جهة النقل. وهو أيضاً صحيح في النظر؛ لأنَّ مثله لا يُدْرَكُ بالرأي، ولا بد فيه من التوقيف، فلهذا قلنا: إن مَنْ رَفَعَهُ أولى، مع شهادة أئمة الحديث لِلَّذي رفعه بالحفظ والثقة"4. وقال أيضاً: "ولكن الحديث لم يُقِمْهُ ولا جَوَّدَهُ إلا حبيب المعلم، عن عطاء، أقام إسناده، وجود لفظه"5. وقال: "فأسند حبيب المعلم هذا الحديث وَجَوَّدَهُ،   (5/121) ح 9133. (6/23) . 3 ابن ثور بن هبيرة، النخعي، أبو أرطاة الكوفي، القاضي، أحد الفقهاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس، من السابعة، مات 145هـ/ بخ م4. (التقريب 152) . 4 التمهيد: (6/23) . 5 المصدر السابق: (6/ 24) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 ولم يُخَلِّطْ في لفظه ولا معناه، وكان ثقة"1. ثم أخذ في نقل أقوال الأئمة في توثيق حبيب. ثم قال: "ولم يُرو عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهٍ قَوىٍّ ولا ضعيف، ما يعارض هذا الحديث، ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم. وهو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحدٍ، إلا لِمُتَعَسِّفٍ لا يُعَرَّجُ على قوله في حبيب المعلم ... وقد رواه الحجاح بن أرطاة، عن عطاء، مثل رواية حبيب المعلم سواء"2. قلت: وقد تابعَ حبيباً على رفعه الربيع بن صبيح، كما تقدم عند الطيالسي، ومع ذلك، فإنه لا يمتنع أن يكون رُوِيَ عن ابن الزبير على الوجهين، فمع أنه كان عنده مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان ربما لا يرفعه، وبخاصة أنه قاله في خطبة له على المنبر، وإلا فإنه مما لا مجال فيه للرأي، ولابدَّ فيه من توقيف كما تقدم في كلام ابن عبد البر رحمه الله. ويؤكده: أن حجاج بن أرطاة قد روى المرفوع أيضاً، فدلَّ ذلك على أن الحديث عن ابن الزبير على الوجهين. فَتَلَخَّص من ذلك: أن الحديث صحيح الإسناد، كما قال ابن القَيِّم رحمه الله، ولا مطعن لأحدٍ فيه، وما رُوي من ذلك موقوفاً على ابن الزبير لا يُعَلُّ به المرفوع، فإما الجمع بينهما، أو ترجيح المرفوع، وهو ظاهرٌ، والله تعالى أعلم.   1 التمهيد: (6/25) . 2 المصدر السابق: (6/26) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 من كتاب الجهاد 1 ـ باب ما جاء في حلية السيف ... 1 - باب ما جاء فِي حلية السيف 61- (1) عن أنس رضي الله عنه، أنه قال: "كانت قَبِيعَةُ1 سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة". حَكَمَ جماعة من الحفاظ بعدم صحة هذا الحديث مسنداً، وأن الصواب فيه: عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن البصري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وقد استعرض ابن القَيِّم - رحمه الله - بعض أقوالهم، ثم قال: "والصواب أن حديث قتادة، عن أنس محفوظ من رواية الثقات الضابطين المتثبتين: جرير بن حازم وهمام، عن قتادة، عن أنس. والذي رواه عن: قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً: هو هشام الدستوائي، وهشام وإن كان مقدماً في أصحاب قتادة، فليس هَمَّام وجرير إذا اتَّفَقَا بدونه"2. قلت: هذا الحديث أخرجه: أبو داود في (سننه) 3 من طريق: مسلم بن إبراهيم. والترمذي في: (جامعه) 4، وفي (الشمائل) 5 من   1 القَبِيعَةُ: بفتح القاف، وكسر الباء: هي التي تكون على رأس قائم السيف. وقيل: ما تحت شاربي السيف. (النهاية: 4/7) . 2 تهذيب السنن: (3/404) . (3/68) ح 2583 ك الجهاد، باب في السيف يُحَلَّى. (4/201) ح 1691. (ص 101) ح 99 باب ما جاء في صفة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 طريق: وهب بن جرير. والدارمي في (مسنده) 1 من طريق: أبي النعمان. والبيهقي في (سننه) 2 من طريق: سهل بن بَكَّار، كُلُّهم عن: جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه به. قال أبو عيسى الترمذي: "حديث حسن غريب". وقد تابع جريراً على روايته هذه: هَمَّام بن يحيى، فأخرجه النسائي في (سننه) 3 من طريق: عمرو بن عاصم4، عن: همام وجرير، كلاهما عن: قتادة به، ولفظه: " كان نَعْلُ5 سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة، وقبيعة سيفه فضة، وما بين ذلك حِلَقُ فضة". هكذا رواه جرير وهمام، عن قتادة، عن أنس مرفوعاً. ورواه هشام الدستوائي عن قتادة على خلاف ذلك: فأخرجه: أبو داود في (سننه) 6 - ومن طريقه: البيهقي7 - والترمذي في (الشمائل) 8 من طريق: معاذ بن هشام. وأخرجه النسائي   (2/140) ح 2461. ك السير، باب في قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. (4/143) . (8/219) ك الزينة، باب حلية السيف. 4 ابن عبيد الله الكلابي القيسي، أبو عثمان البصري، صدوقٌ في حفظهِ شَيء، من صغار التاسعة، مات سنة 213 هـ / ع. (التقريب 423) . 5 نَعْل السيف: الحديدة التي تكون في أسفل القِرَابِ. (النهاية 5/82) . (3/69) ح 2584. 7 السنن: (4/143) . (ص 101) ح 100. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 في (سننه) 1 من طريق: يزيد بن زريع2، كلاهما عن: هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن3، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وقد حَكَمَ الأئمة للرواية الُمُرْسَلة على الأخرى، فقال أبو داود: "أقوى هذه الأحاديث: حديث سعيد بن أبي الحسن، والباقية ضعاف"4. وقال النسائي: "هذا حديث منكر - يعني المتصل- والصواب: قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن"5. وفي (علل أحمد) 6: قال عبد الله: "حدثني أبي، عن عفان، قال: جاء أبو جُزَيّ7 إلى جرير بن حازم يشفع لإنسان يُحَدِّثُه، فقال جرير: حدثنا قتادة، عن أنس قال: "كانت قبيعة ... "، قال أبو جُزَيّ: كَذَبَ والله، ما حدثناه قتادة إلا عن سعيد بن أبي الحسن. قال أبي: وهو قول أبي جُزَيّ". يعني أصاب، وأخطأ جرير. فهذه متابعة من أبي جُزَيّ لهشام الدستوائي، وأشار إلى روايته   (8/219) . 2 البصري، أبو معاوية، ثقةٌ ثبت، من الثامنة، مات سنة 182هـ /ع. (التقريب601) . 3 البصري، أخو الحسن، ثقةٌ، من الثالثة، مات سنة 100 هـ/ ع. (التقريب234) . 4 السنن: (3/69) . 5 تحفة الأشراف: (1/301) . (1/86) . 7 هو: نصر بن طريف، الباهلي، البصري، القَصَّاب، ضَعَّفَهُ غيرُ واحدٍ، واتَّهَمه آخرون بالكذب. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (4/1/466) ، والميزان: (4/251) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 هذه: الدارقطني في (علله) 1، وأيد الإمام أحمد - رحمه الله - رواية الإرسال، وصَدَّقَ أبا جُزَيّ في قوله. وقال الدارمي - عقب روايته -: "هشام الدستوائي خالفه ... وزعم الناس أنه هو المحفوظ". وقال أبو بكر البزار: "إنما يُرْوَى عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً، وهو الصواب"2. وقال الدارقطني: "اخْتُلِفَ فيه على قتادة ... ورواه هشام الدستوائي، ونصر بن طريف: عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً، وهو الصواب"3. وقال البيهقي: "تَفَرَّدَ به جرير بن حازم، عن قتادة ... والحديث معلول". ثم ذكر المرسل وقال: "وهو المحفوظ"4. وقد تَقَدَّمَ أن جريراً لم ينفرد بذلك، وإنما تابعه: هَمَّامُ بن يحيى، كما عند النسائي رحمه الله، وَقَدَّمَ المرسل أيضاً: الحافظ المنذري، وقال: "إنه الصواب". كما نقله عنه صاحب (البدر المنير) 5. وعند النظر، نجدُ أن الراجح ما رَجَّحَهُ هؤلاء الأئمة رحمهم الله؛ فإن جريراً في حديثه عن قتادة ضعف، قال عبد الله بن الإمام أحمد: "سألت ابن معين عنه؟ فقال: ليس به بأس. فقلت: إنه يحدث عن قتادة، عن أنس أحاديث مناكير. فقال: ليس بشيء، هو عن   1 ج 4 (ق30/أ) . 2 البدر المنير: (2/464) . 3 علل الدارقطني: ج4 (ق 30/أ) . 4 سنن البيهقي: (4/143) . (2/465) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 قتادة ضعيف"1. وقال الميموني عن أحمد: "كان حديثه عن قتادة غير حديث الناس، يوقف أشياء، ويسند أشياء"2. وقال الأثرم عن أحمد: "كان يُحَدِّثُ بالتوهم أشياء عن قتادة يُسْنِدُها، بواطيل"3. وقال ابن عدي: " ... هو مستقيم الحديث صالحٌ فيه، إلا روايته عن قتادة، فإنه يروي عنه أشياء لا يرويها غيره"4. وقال الذهبي: "وفي الجملة: لجرير، عن قتادة أحاديث منكرة"5. فالغالب - والله أعلم - أن الخطأ في ذلك من جرير، وأنه أخطأ فيه عن قتادة، وقد تقدم أن أبا جُزَيّ كَذَّبَه لما حَدَّثَ به أمامه عن: قتادة، عن أنس، وَصَوَّبَ الإمام أحمد أبا جُزَيّ في ذلك كما مضى. فإن قِيْلَ: قد تَابَعَهُ همام بن يحيى، عن قتادة؟ قيل: همامٌ وإن كان ثقة، فإنه ربما وَهِمَ، وَتَكَلَّمَ بعضهم في حفظه. وهو وإن كان ثبتاً في قتادة، فليس هو مثل هشام الدستوائي فيه6، حتى إن شعبة - على جلالته، وفضله، وحفظه لحديث قتادة - يقول: "هشام الدستوائي أعلم بقتادة، وأكثر مجالسة له مني"7. ولما ذكر عليُّ بن المديني أصحاب قتادة، قال: "كان هشام أرواهم عنه ... "8.   1 تهذيب التهذيب: (2/70) . 2 المصدر السابق: (2/72) . 3 شرح علل الترمذي: (ص365) . 4 الكامل: (2/130) . 5 الميزان: (1/393) . 6 انظر: تهذيب التهذيب: (11/68 - 70) . 7 شرح علل الترمذي: (ص364) . 8 تهذيب التهذيب: (11/69) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 ومع ذلك، فقد تَفَرَّدَ عن همام: عمرو بن عاصم القيسي، وفي حفظه شيء1، وسأل الآجريُّ أبا داود عنه؟ فقال: "لا أنشط لحديثه". ثم سأله عنه وعن الحوضي في هَمَّام؟ فقدم الحوضي2. وما دام الرَّجل - أعني عمرو بن عاصم - بهذه المثابة، فلا يبعد أن يكون وَهِمَ فيه على همام بن يحيى، ولذلك قال الإمام النسائي: "وما رواه عن همام غير عمرو بن عاصم"3. فالحاصل: أن هذا الحديث وَصَلَهُ عن قتادة، عن أنس: جرير ابن حازم، وتابعه عليه همام بن يحيى. وخالفهم في ذلك: هشام الدستوائي، فرواه عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً، وهو الراجح. فإذا تقرر ذلك، فإن ما قاله ابن القَيِّم - رحمه الله - من تقوية الرواية الموصولة، غير مُسَلَّمٍ، لما تَقَدَّمَ. ومع ذلك، فقد روي هذا الحديث من طريق أبي أمامة بن سهل، ومزيدة العصري وغيرهما4، مما يقوى حديث أنس المتصل، ويثبت أن له أصلاً، والله أعلم.   1 كما تقدم في ترجمة ابن حجر له، وانظر: تهذيب التهذيب: (8/58) . 2 سؤالات الآجري لأبي داود: (ص236 - 237) . 3 انظر: تحفة الأشراف: (1/301) . 4 انظر تفصيل ذلك في: التلخيص الحبير: (1/52) ح 50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 8 - من كتاب الجنائز 1- باب في الغسل من غسل الميت 62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ غَسَّلَ الْمَيْتَ فَلَيَغْتَسلْ، ومن حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل عن الشافعي التوقف عن تصحيحه، وعن أبي داود إعلاله، ثم ذكر للحديث أَحَدَ عَشَرَ طَرِيقَاً، ثم قال: "وهذه الطُّرُقُ تدلُّ على أن الحديث محفوظ"1. قلت: هذا الحديث يُروى عن أبي هريرة من طرق: الطريق الأول: عن أبي صالح السَّمَّان، عن أبي هريرة. أخرجه البيهقي في (سننه) 2 من طريق: القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح به. وأخرجه الترمذي في (جامعه) 3، وابن ماجه في (سننه) 4، والبيهقي5 من طريق: سهيل بن أبي صالح6، عن أبيه7، عن أبي هريرة   1 تهذيب السنن: (4/305-306) . (1/300) . (3/309) ح 993 ك الجنائز، باب الغسل من غسل الميت. (1/470) ح 1463، ك الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت. (1/300) . 6 أبو يزيد المدني، صدوقٌ تَغَيَّر حِفْظُهُ بآخره، روى له البخاري مقروناً وتعليقاً، من السادسة، مات في خلافة المنصور/ ع. (التقريب 259) . 7 أبو صالح، ذكوان السَّمان الزيَّات، ثقة ثبت ... من الثالثة، مات سنة 101هـ/ ع. (التقريب 203) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 به، ولفظ الترمذي والبيهقي: "مِنْ غُسْلِهِ الغُسْلُ. ومن حَمْلِهِ الوضوءُ" يعني الميت، أما ابن ماجه فلفظه: "مَنْ غَسَّلَ مَيِتاً فليغتسل". رواه عن سهيل هكذا جماعة، منهم: حماد بن سلمة، ووهيب، وزهير بن محمد، وعبد العزيز بن المختار وغيرهم1، وخالفهم سفيان بن عيينة، فرواه عن: سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن إسحاق2 مولى زائدة، عن أبي هريرة به. أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والبيهقي4 كذلك. "وخالفهم إسماعيل بن جعفر فرواه عن سهيل عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً"5، كما قال الدارقطني رحمه الله. وهذه الطريق أعلت بالانقطاع، والوقف، والاضطراب. أما الانقطاع: فقد أشار أبو داود إليه فقال: "أدخل أبو صالح بينه وبين أبي هريرة في هذا الحديث - يعني إسحاق مولى زائدة -". وقال الشافعي: "وإنما لم يقو عندي: أنه يروى عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. ويدخل بعض الحفاظ بين أبي صالح وبين أبي هريرة:   1 انظر: علل الدارقطني: ج 3 (ق 180) ، وسنن البيهقي: (1/301) . 2 والد عمر، قال العِجْلِي: هو إسحاق بن عبد الله، ثقة، من الثالثة / ر م د س. (التقريب 104) . (3/512) ح 3162 ك الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت. (1/301) . 5 العلل: (ج3 ق180) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 إسحاق مولى زائدة، فيدل على أن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة"1. وأعله ابن دقيق العيد بذلك أيضاً2. وقال ابن حجر: "وهو معلول، لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة"3. وأما الوقف: فقد مضى أنه يُروى عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق، عن أبي هريرة موقوفاً عليه4. وكأن البخاري - رحمه الله - أعله بذلك، فقال لما سأله عنه الترمذي: "روى بعضهم عن سهيل بن أبي صالح، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً"5. ورجح البيهقي وقفه كما سيأتي من كلامه. وأما اضطرابه: فقد قال به الدارقطني، فبعد أن حكى أوجه الاختلاف فيه قال: "ويشبه أن يكون سهيل كان يضطرب فيه"6. وقد يُجاب عن هذه العلل، فيقال: أما انقطاعه: فإنه لا مانع أن يكون أبو صالح سمعه من أبي هريرة، ومن إسحاق عن أبي هريرة، فرواه على الوجهين جميعاً، وقد علق الشافعي - رحمه الله - الحكم بصحته على معرفة حال إسحاق، فقال: "وإنما منعني عن إيجاب الغسل من غسل الميت: أن في إسناده رجلاً لم أقع   1 الجوهر النقي: (1/301) . 2 التلخيص الحبير: (1/137) . 3 فتح الباري: (3/127) . 4 وانظر سنن البيهقي: (1/301) . 5 علل الترمذي: (1/402) . 6 علل الدارقطني: ج 3 (ق180) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 من معرفة من ثَبَّتَ حديثه - إلى يومي - على ما يقنعني، فإن وجدت من يقنعني، فإن وجدت من يقنعني أوجبته ... "1. قال ابن حجر: "إسحاق مولى زائدة: أخرج له مسلم، فينبغي أن يصحح الحديث"2. وأما الوقف: فيمكن أن يقال: إن الرفع زيادة من ثقة وهي مقبولة، ولا سيما أن الذين رفعوه أكثر عدداً. ولكن مع ذلك كله يخشى من احتمال كونه مضطرباً كما حكم به الدارقطني رحمه الله، فالله أعلم. الطريق الثاني: رواه بن أبي ذئب، عن صالح3 مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. أخرجه: أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 4، والخطيب في (موضح أوهام الجمع والتفريق) 5. والبيهقي في (سننه) 6 من طريق الطيالسي. وقد أَعَلَّ البيهقي7، ثم ابن الجوزي8 هذا الطريق بـ"صالح   1 سنن البيهقي: (1/302) . 2 التلخيص الحبير: (1/137) . 3 ابن نبهان المدني، صدوق اختلط، قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه: كابن أبي ذئب وابن جريج، من الرابعة ... / د ت ق. (التقريب 274) . 4 حم: (2/433، 454، 472) . طس: (ح2314) . (2/172) . (1/303) . 7 السنن: (1/303) . 8 العلل المتناهية: (1/378) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 مولى التوأمة"، فقال البيهقي: "صالح مولى التوأمة ليس بالقوي". قلت: وصالح هذا فيه ضعف، واختلاط، فقد ضعفه: يحيى القطان1، ومالك2، وابن معين3 في رواية، وأبو زرعة، وأبو حاتم4، والنسائي5. ووثقه أحمد6، وابن معين7 في رواية، والعجلي8. فالرجل بهذه المثابة "صدوق" كما حكم به الذهبي9 وابن حجر. وأما اختلاطه: فقد مَيَّزَ جماعة من الحفاظ حديثه القديم، وحكموا بصحة رواية من روى عنه قبل الاختلاط، منهم: علي بن المديني، وابن معين، والجوزجاني، وابن عدي10. وابن أبي ذئب ممن سمع منه قديماً، فيكون حديثه عنه صحيحاً، ولذلك ردَّ ابن التركماني على البيهقي تضعيفه11.   1 انظر: تهذيب التهذيب (4/405) . 2 الجرح والتعديل: (2/1/417) . 3 المصدر السابق: (2/1/418) . 4 المصدر السابق. 5 الضعفاء: (ص57) . 6 تهذيب التهذيب: (4/405) . 7 تاريخ الدوري: (2/266) . 8 الثقات بترتيب الهيثمي: (ص227) . 9 المغني: (1/305) . 10 انظر: الكواكب النيرات: (ص261) . 11 الجوهر النقي: (1/302) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 الطريق الثالث: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة به. أخرجه البيهقي في (سننه) 1 من طريق: ابن لهيعة، عن حنين بن أبي حكيم، عن صفوان بن أبي سليم، عن أبي سلمة به. ثم قال: "ابن لهيعة وحنين لا يحتج بهما". قلت: وهذا قد صَحَّحَ الأئِمَّةُ وَقْفَهُ، فقال أبو حاتم - وقد سئل عنه -: "هو موقوف عن أبي هريرة، لا يرفعه الثقات"2. وقال ابن دقيق العيد: "وأما رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: فإسناد حسن، إلا أن الحفاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفاً"3. وأخرج البيهقي الرواية الموقوفة من طريق: عبد الوهاب بن عطاء، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة به، ثم قال: "هذا هو الصحيح: موقوفاً على أبي هريرة، كما أشار إليه البخاري"4. الطريق الرابع: عن عمرو بن عمير5، عن أبي هريرة. أخرجه أبو داود في (سننه) 6 – ومن طريقه البيهقي في (سننه) 7 - من طريق: القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير به. وهذا الطريق ضعيف؛ فإن عمرو بن عمير "مجهول" كما حكم   (1/302) . 2 علل ابن أبي حاتم: (1/351) . 3 التلخيص الحبير: (1/137) . 4 سنن البيهقي: (1/302) . 5 الحجازي، مجهول، من الثالثة/ د. (التقريب 425) . (3/511) ح 3161. (1/303) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 بذلك ابن القطان وابن حجر1 رحمهما الله. وبهذا أعله البيهقي، فقال: "عمرو بن عمير إنما يعرف بهذا الحديث، وليس بالمشهور". قال ذلك في (سننه) . الطريق الخامس: عن أبي إسحاق، عن أبي هريرة به. أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 2 - ومن طريقه أحمد3 - من طريق: يحيى بن أبي كثير، عن رجل يقال له: أبو إسحاق، عن أبي هريرة به، وليس فيه الوضوء من حمله. وأخرجه أحمد في (مسنده) 4 من طريق: يحيى، عن رجل من بني ليث، عن أبي إسحاق به. ويروى هذا عن: أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، أخرجه البيهقي في (سننه) 5، وذكر اختلافاً فيه، ثم قال: "والمشهور: عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب الأسدي، عن علي رضي الله عنه". وقد روى هذا الحديث من طرق أخرى غير ما ذكرنا، واستوعبها البيهقي في (سننه) 6، ثم قال: "الروايات المرفوعة في هذا الباب عن أبي هريرة غير قوية، لجهالة بعض رواتها وضعف بعضهم، والصحيح: عن أبي هريرة من قوله، موقوفاً غير مرفوع". وقد تقدم معنا ترجيح البخاري   1 انظر: تهذيب التهذيب: (8/84) . (3/407) ح 6110. 3 المسند: (2/280) . (2/280) . (1/304) . (1/300 - 304) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 وأبي حاتم الوقف في بعض طرقه. وأكثر العلماء على ضَعْفِ هذا الحديث كما قال الزيلعي1، والمناوي2 وغيرهما، وقال الإمام أحمد، وعلي بن المديني، ومحمد بن يحيى الذُّهَلي، وابن المنذر وغيرهم: إنه لا يثبت في هذا الباب شيء3. وقد تقدم طرف من أقوال العلماء في تضعيف هذا الحديث، وضعفه أيضاً: ابن الجوزي4، والنووي5. لكن ذهب جماعةٌ إلى صِحَّتِهِ، وآخرون إلى حُسْنِهِ: فَحَسَّنَه الترمذي، وصححه ابن حبان، وابن حزم6، وقال ابن دقيق العيد: "وفي الجملة: هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً"7. وقال الذهبي في (مختصر البيهقي) 8: "طرقُ هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء، ولم يُعِلُّوها بالوقف، بل قَدَّمُوا رواية الرفع". وجعله البغوي من قسم الحسن في (مصابيحه) وتبعه التبريزي في (المشكاة) 9 ورجح ابن   1 نصب الراية: (2/282) . 2 فيض القدير: (6/185) . 3 انظر: علل الترمذي: (1/402) ، وسنن البيهقي: (1/301) ، والتلخيص الحبير: (1/137) . 4 العلل المتناهية: (1/378 - 379) . 5 المجموع: (5/138) . 6 المحلى: (2/35) . 7 التلخيص الحبير: (1/137) . 8 التلخيص الحبير: (1/137) . (1/169) ح 541. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 حجر تصحيح بعض طرقه1. وَحَسَّنَهُ الحافظ السيوطي2. وصححه الشيخ الألباني3. وقد ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى القول بأن الحديث بمجموع طرقه محفوظٌ، ولعلَّ هذا هو ما تطمئن إليه النفس، ولا سيما أن طرق هذا الحديث قد تعدَّدت، مما يجعل الحديث لا يقل عن درجة الحسن. وقد ذهب أبو داود - رحمه الله - إلى أن هذا الحديث منسوخ، لكنه لم يذكر لنا ناسخه، ولا رأيت من قال بقوله. وقد ذهب الأكثرون - كما نقل ابن القَيِّم4 - إلى عدم وجوب الغسل من غسل الميت، ونقل الإمام أبو داود عن الإمام أحمد أنه يجزئه الوضوء5. وقال الخطابي: "ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب"6. وقال: "وقد يحتمل أن يكون المعني فيه: أن غاسل الميت لا يكاد يأمن أن يصيبه نَضْحٌ من رشاش الغسول، وربما كان على بدن الميت نجاسة. فإذا أصابه نَضْحُهُ - وهو لا يعلم مكانه - كان عليه غسل جميع البدن، ليكون الماء قد أتى على الموضع الذي أصابه النجس من بدنه"7.   1 التلخيص الحبير: (1/137) . 2 كما في فيض القدير مع الجامع الصغير: (6/185) . 3 انظر: إرواء الغليل: (1/173) ، وصحيح ابن ماجه: (ح 1195) ، وصحيح الجامع: (ح6402) ، والتعليق على المشكاة: (1/169) ح 541. 4 تهذيب السنن: (4/306) . 5 سنن أبي داود: (3/512) . 6 معالم السنن: (4/305) . 7 المصدر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 2- باب ما جاء في المشي خلف الجنازة 63- (2) حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "الجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ، لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا". ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث، وقال: "ضعيف"1. وقد أورده - رحمه الله - دليلاً للقائلين بالمشي خلف الجنازة. قلتُ: الحديث بهذا اللفظ المختصر أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2 ولفظه: "الجنازةُ متبوعة وليست بتابعة، ليس معها من تقدمها ". ولكن أخرجه بأطول من هذا: أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، والبيهقي في (سننه) 6، كلهم من طريق: يحيى بن عبد الله7 التيمي، عن أبي ماجد8، عن عبد الله بن مسعودرضي الله عنه، أنه قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة؟ فقال: "ما دُوْنَ   1 تهذيب السنن: (4/316) . (1/476) ح 1484 ك الجنائز، باب المشي أمام الجنازة. (3/525) ح 3184 ك الجنائز، باب الإسراع بالجنازة. (3/323) ح 1011، ك الجنائز، باب ما جاء في المشي خلف الجنازة. (1/394، 415، 419، 432) . (4/25) . 7 ابن الحارث، الجَابِر - قيل: كان يُجَبِّرُ الأعضاء - أبو الحارث الكوفي، لَيِّنُ الحديث، من السادسة، وروايته عن المقدام مرسلة / د ت ق (التقريب 592) . 8 ويقال: أبو ماجدة، قيل: اسمه عائذ بن نضلة، مجهولٌ، لم يرو عنه غير يحيى الجابر، من الثانية/ د ت ق. (التقريب 670) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 الخبب1، إن يكن خيراً تعجل إليه، وإن يكن غير ذلك فَبُعْدَاً لأهل النار، والجنازة متبوعة ولا تُتْبَعُ، ليس معها من تَقَدَّمَهَا". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الباقين نحو، إلا أن الترمذي عنده: "سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن السير خلف الجنازة" وفيه: "وليس منا من تقدمها". والعبارة الأخيرة كذا هي عند أحمد في موضعين2. وأخرجه عبد الرزاق في (المصنف) 3 مختصراً كلفظ ابن ماجه المتقدم، لكن فيه سؤال ابن مسعود النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث ضعيفٌ، ضَعَّفَهُ جماعة من العلماء، فقال الترمذي: "هذا حديث لا يُعْرَف من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه. سمعت محمد بن إسماعيل يُضَعِّفُ حديث أبي ماجد لهذا. وقال محمد: قال الحميدي: قال ابن عيينة: قيل ليحيى: من أبو ماجد هذا؟ قال: طائر طار فحدثنا"4. وفي (علله) 5 أنه سأل البخاريَّ عنه؟ فقال: "أبو ماجد منكر الحديث" وضَعَّفَهُ جداً. وقال أبو داود: "وهو ضعيف، هو يحيى بن عبد الله، وهو يحيى الجابر ... أبو ماجدة هذا لا يُعْرف". وقال البيهقي: "أبو ماجد مجهولٌ، ويحيى الجابر: ضَعَّفَهُ جماعة من أهل النقل"6. وَضَعَّفَهُ المنذري - أيضاً - في (مختصر السنن) 7. وقال ابن   1 الخَبَبَ: ضَرْبٌ من العَدْو، وقيل: هو مثل الرَّمَل، وقيل: الخبب السرعة. (لسان العرب ص 1085) . 2 المسند: (1/394، 415) . (3/446) ح 6265. 4 جامع الترمذي: (3/323) . (1/407) . 6 السنن: (5/25) . (4/318 - 319) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 الملقن: "هو حديث واهٍ لأجل يحيى الجابر، وأبي ماجدة"1 ثم نقل كلام أئمة الجرح والتعديل فيهما. وَضَعَّفَهُ الشيخ الألباني2 أيضاً. فيتلخص: أن هذا الحديث ضعيفٌ كما قال ابن القَيِّم رحمه الله؛ لاتفاقهم على جهالة أبي ماجد، وضَعْفِ يحيى الجابر، والله أعلم.   1 البدر المنير: ج 4 (ق 27/أ) نسخة أحمد الثالث. 2 ضعيف سنن ابن ماجه: (ح 324) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 3- باب ما جاء في القيام للجنازة 64- (3) حديث البراء بن عازب: "خَرَجْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازةِ رجل من الأَنْصَارِ، فانتهينا إلى القبر، وَلَمَّا يُلْحَد بعدُ، فجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَجَلَسْنَا مَعَهُ". قال ابن القَيِّم: "وهو حديث صحيح"1. ثم تَعَرَّضَ له بعد ذلك، ودفع عنه بعض ما رُمِيَ به من علل2. وقال مرة: "وهو صحيح، صححه جماعة من الحفاظ"3. وقد استَدَلَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذا الحديث على أن السُّنَّة لِمُتَّبِع الجنازة ألاَّ يجلس حتى توضع، وأن المراد: وضعها على الأرض، فقال: "ويدلُّ على أنَّ المراد بالوضع الوضع بالأرض عن الأعناق: حديث البراء ... " فساقه. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 4، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 5، والحاكم في (المستدرك) 6، أربعتهم من طريق: الأعمش.   1 تهذيب السنن: (4/311) . 2 المصدر السابق: (4/337) . 3 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص58) . (3/546) ح 3212 باب الجلوس عند القبر. 5 حم: (4/287) . طس: (ح 753) . (1/37 - 38) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 وأخرجه النسائي وابن ماجه في (سننيهما) 1، والحاكم - أيضاً - في (مستدركه) 2، ثلاثتهم من طريق: عمرو بن قيس3. وأخرجه ابن ماجه والحاكم4، من طريق: يونس بن خباب5 كُلُّهم عن: المنهال بن عمرو6، عن زاذان7، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به. وألفاظهم متفاوتة، وعند بعضهم ما ليس عند الآخر. قال أبو عبد الله الحاكم عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعاً بالمنهال بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي"8.   1 س: (4/78) باب الوقوف للجنائز. جه: (1/494) ح 1549، باب ما جاء في الجلوس في المقابر. (1/40) . 3 الملائي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة متقن عابد، من السادسة، مات سنة بضع وأربعين/ بخ م 4. (التقريب 426) . 4 جه: (1/494) ح 1548. كم: (1/39) . 5 الأُسَيِّدي مولاهم، الكوفي، صدوقٌ يخطئ وَرُمِيَ بالرفض، من السادسة/بخ4. (التقريب 613) . 6 الأسدي، مولاهم، الكوفي، صدوق رُبَّما وَهِمَ، من الخامسة/خ4. (التقريب547) . 7 أبو عمر، الكندي، البزاز، ويكنى أبا عبد الله أيضاً، صدوق يرسل، وفيه شيعية، من الثانية، مات سنة 82هـ / بخ م 4. (التقريب 213) . 8 المستدرك: (1/39) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 وليس كما قال رحمه الله؛ فإن المنهال احتجَّ به البخاري وحده، وزاذان احتجَّ به مسلم وحده، فكيف يكون على شرطهما؟! وقد أَعَلَّهُ ابن حبان - رحمه الله - في (صحيحه) 1 فقال: " ... وزاذان لم يسمعه من البراء، فلذلك لم أخرجه". وقد نقل ابن القَيِّم ذلك عن ابن حبان، ثم قال: "وهذه العلة فاسدة؛ فإن زاذان قال: سمعت البراء بن عازب ... ذكره أبو عوانة في صحيحه". قلتُ: ورواية الحاكم - أيضاً - فيها التصريح بسماعه منه. وقد أَعَلَّهُ ابن حزم بعلة أخرى، وهي ضعف المنهال بن عمرو2. ونقل ابن القَيِّم ذلك عنه، ثم قال: "وهي علة فاسدة؛ فإن المنهال ثقة صدوق"3. قلتُ: قد وثقه جماعة، وغاية ما قيل فيه: أنهم سمعوا صوت طنبور من بيته، ولم يقبل العلماء جَرْحَهُ بذلك، واحتجَّ به البخاري في (صحيحه) 4.   1 انظر: الإحسان: (5/48) . 2 تهذيب التهذيب: (10/320) . 3 تهذيب السنن: (4/337) . 4 تنظر ترجمته في: الميزان: (4/192) ، وتهذيب التهذيب: (10/319) ، وهدي الساري: (ص446) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 وَدَفَعَ ابن القطان القول بتضعيف الحديث بالمنهال بن عمرو، ونقل عن بعض الأئمة توثيقه، ثم قال - رداً على من ضَعَّفَ المنهال بن عمرو بسماع صوت طنبور من بيته -: "فهذا - كما ترى - التعسف فيه ظاهرٌ، ولا أعلم لهذا الحديث عِلَّةً غير ما ذكرت، فاعلمه"1. وألزم عبد الحق بقبول هذا الحديث، فقال رحمه الله: "وسكت عنه، ولم يبين أنه من رواية المنهال، فكان هذا منه قبولاً له"2. فثبت بذلك صحَّةُ هذا الحديث - كما حكم ابن القَيِّم رحمه الله - أو حُسْنُهُ على أقل تقدير، وأن ما ضُعِّفَ به لا ينهض، وحينئذ يَسْلَمُ لابن القَيِّم - رحمه الله - الاستدلال به على جلوس مُتَّبَعِ الجنازة بمجرد وضعها على الأرض، واستدل به ابن حجر على ذلك أيضاً، بعد أن نقل عن أبي عوانة أنه صححه3. ثم أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - بعد ذلك حديثاً للقائلين بأن المراد: الوضع في اللَّحْدِ، وهو: 65- (4) حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: "كَانَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُومُ فِي الْجنازة حتى تُوضعَ في اللَّحْدِ ". قال ابن القَيِّم: "لكن في إسناده بشر بن رافع". ثم نقل أقوال الأئمة: الترمذي، والبخاري، وأحمد، وابن معين، والنسائي، وابن   1 بيان الوهم والإيهام: (3/362 - 363) ح 1107. 2 بيان الوهم والإيهام: (3/362) . 3 التلخيص الحبير: (2/112) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 حبان في تضعيف بشر هذا1. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سننهم) 2، والبيهقي في (سننه) 3، والحازمي في (الاعتبار) 4، كلهم من طريق: بشر بن رافع5، عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية6، عن أبيه7، عن جده8، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمرَّ به حبر من اليهود، فقال: هكذا نفعل. فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "اجلسوا، خالفوهم". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي وابن ماجه مثله، إلا أنه ليس عندهما قوله: "اجلسوا"، ولفظ البيهقي كأبي داود.   1 زاد المعاد: (1/518 - 519) . 2 د: (3/520) ح 3176. ت: (3/331) ح1020. جه: (1/493) ح 1545. كلهم في ك الجنائز، وعند د، جه: باب القيام للجنازة، وعند ت: باب الجلوس قبل أن توضع. (4/28) . (ص 131) باب النهي عن الجلوس حتى توضع الجنازة ... 5 الحارثي، أبو الأسباط النجراني، فقيه ضعيف الحديث، من السابعة/ بخ د ت ق. (التقريب 123) . 6 الأزدي، ضعيف، من السادسة/ د ت ق. (التقريب 306) . 7 هو: سليمان بن جنادة، منكر الحديث، من السادسة/ د ت ق. (التقريب 250) . 8 جنادة بن أبي أمية، يقال: اسم أبيه كبير، مختلف في صحبته، فقال العجلي: "تابعي ثقة"، والحق أنهما اثنان، صحابيُّ وتابعيُّ، متفقان في الاسم وكنية الأب / ع. (التقريب142) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 قلتُ: وهذا الحديث ضعيف، ضَعَّفَهُ غير واحدٍ من العلماء، فقال البخاري: "منكر"1. ونقل عنه العقيلي قوله - في ترجمة سليمان ابن جنادة -: "لم يُتَابَعْ في هذا"2. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وبشر بن رافع ليس بالقويِّ في الحديث". وقال الحازمي: " ... ولو صحَّ لكان صريحاً في النسخ"3. وقال ابن الملقن: "وإسناد هذا ضعيف، فيه: بشر بن رافع، وليس بحجة، عن: ابن جنادة، وفيه نظر، كما قال البخاري ... "4. وقال ابن حجر: "إسناده ضعيف"5. والحديث ليس ضعيفاً بسبب بشر بن رافع وحده، كما هو ظاهر كلام ابن القَيِّم السالف، بل شَيْخُهُ، وشيخُ شيخِهِ - أيضاً - ضعيفان. أما شيخه عبد الله بن سليمان بن جنادة: فقال عنه البخاري: "فيه نظر"6. وسكت ابن أبي حاتم عنه7. أما ابن حبان فقد ذكره في (الثقات) 8 وقال: "يعتبر حديثه من غير رواية بشر عنه". قلت: والرجلُ في عداد المجهولين؛ فإنه لم يرو عنه أحد غيرُ   1 الضعفاء الصغير: (ص108) ، والتاريخ الكبير: (2/2/6) . 2 ضعفاء العقيلي: (2/122) . 3 الاعتبار: (ص131) . 4 البدر المنير: ج4 (ق 26/ب) . نسخة أحمد الثالث. 5 التلخيص الحبير: (2/112) . 6 التاريخ الكبير: (3/1/108) . 7 الجرح والتعديل: (2/2/75) . (8/337) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 بشر بن رافع، ولم يوثقه أحد غير ابن حبان، ولذلك فقد قال عنه الذهبي: "لا يُدْرَى من هو"1. وسبق قول ابن حجر فيه: "ضعيف". وأما شيخ شيخه سليمان بن جنادة، أبو عبد الله الماضي ذكره: فقال أبو حاتم: "منكر الحديث"2. وَضَعَّفَهُ البخاري3، والعقيلي4. وقال ابن حبان: "منكر الحديث، فلست أدري البلية في روايته منه أو من بشر بن رافع؛ لأن بشر بن رافع ليس بشيء في الحديث ... على أنه يجب التَّنَكُّبُ عن روايته على الأحوال"5. قلت: فإذا كان هذا هو حال هذا الإسناد، فإن الاقتصار على تضعيفه بـ"بشر بن رافع" وحده فيه نظر. ومع ضعف هذا الحديث الظاهر، فإن الشيخ الألباني -رحمه الله- قد حَسَّنَهُ6، ولا أدري ما وجه تحسينه له؟ فتلخص من ذلك: أنَّ الصَّواب فِي قوله صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى تُوضَعَ " أي: بالأرض. وأنَّ مَا جَاء من أن المراد: الوضع في اللَّحد: ضَعِيف لا يثبت، وهذا ما قرره ابن القَيِّم - رحمه الله - في دراسته هذه، فأصاب.   1 الميزان: (2/432) . 2 الجرح والتعديل: (2/1/105) . 3 الضعفاء الصغير: (ص108) . 4 الضعفاء: (2/122) . 5 المجروحين: (1/329) . 6 صحيح سنن ابن ماجه: (ح 1256) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 4- باب الصلاة على الجنازة في المسجد 66- (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلا شَيْءَ لَهُ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل أن الإمام أحمد ضَعَّفَهُ: بأنه مما تفرد به صالح مولى التوأمة، وكذا البيهقي، وأنه قَدَّمَ عليه حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد، حيث إنها احتجت عليهم بذلك لما أنكروا عليها إدخالها جنازة سعد بن أبي وقاص إلى المسجد للصلاة عليها. ثم قرَّرَ ابن القَيِّم أن صالحاً ثقة في نفسه، إلا أنه اختلطَ أخيراً، فمن سَمِعَ منه قبل الاختلاط فهو حُجَّةٌ، وابن أبي ذئب - راوي الحديث عنه - ممن سَمِعَ منه قبل اختلاطه، ولذلك فإن هذا الحديث حسن، ولا معنى لتضعيفه ما دام من رواية ابن أبي ذئب1. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: يحيى وابن ماجه في (سننه) 3، وأحمد في (المسند) 4، والبيهقي في (السنن) 5 من طريق: وكيع. وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 6 من طريق: معمر،   1 زاد المعاد: (1/500 - 501) . وانظر: تهذيب السنن: (4/325) . (3/531) ح 3191 ك الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد. (1/486) ح 1517. (2/444) . (4/52) . (3/527) ح 6579. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 والثوري كليهما، ومن طريقه أخرجه البيهقي1. وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 2. وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) 3 من طريق: الثوري وحده، وأخرجه ابن حبان في (المجروحين) 4، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 5 من طريق: علي بن الجعد، كلهم عن: ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وقد اختلفت ألفاظهم في هذا الحديث: ففي رواية أبي داود التي بين أيدينا: "فلا شيء عليه". ونقل ابن القَيِّم عن الخطيب أنه قال في روايته لكتاب السنن: "في الأصل: فلا شيء عليه، وغيره يرويه: فلا شيء له". ولفظ ابن ماجه وأحمد: "فليس له شيء" وأما رواية الباقين فلفظها: "فلا شيء له ". وعند الطيالسي زيادة وهي: "قال صالح: وأدركتُ رجالاً ممن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر إذا جاءوا فلم يجدوا إلا أن يُصَلُّوا في المسجد، رجعوا فلم يصلوا". وهي عند البيهقي لكن لفظها: "فرأيت الجنازة توضع في المسجد، فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعاً إلا في المسجد، انصرف ولم يصل عليها". وقد ضَعَّفَ جماعة هذا الحديث: فقال ابن ماجه عقب إخراجه:   1 السنن: (4/52) . (ح 2310) . (7/93) . (1/366) . (1/414) ح 696. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 "حديث عائشة أقوى" يعني: في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد. وقال ابن حبان: "هذا خبرٌ باطلٌ، كيف يخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُصَلِّي في المسجد على الجنازة لا شيء له من الأجر، ثم يُصَلِّي هو على سهيل بن بيضاء في المسجد؟ "1. وقال البيهقي: "وهو مِمَّا يُعَدُّ في أَفراد صالح، وحديث عائشة رضي الله عنها أصحُّ منه، وصالح مولى التوأمة مختلف في عدالته، كان مالك بن أنس يجرحه"2. وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصحُّ، وصالح قد كَذَّبَه مالك ... "3. وقال النووي: "ضعيف باتفاق الحُفَّاظِ، وممن نصَّ على ضعفه: الإمام أحمد، وأبو بكر بن المنذر، والبيهقي وآخرون ... "4. قلت: وبالنظر إلى كلام الْمُضَعِّفِينَ لهذا الحديث نجدُ أنهم اعتمدوا في تضعيفه على أمرين: الأول: ضعفُ صالح مولى التوأمة، وقد تَفَرَّدَ بذلك. الثاني: مخالفةُ هذه الرواية لما ثبت في (صحيح مسلم) من حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على ابن بيضاء في المسجد".   1 المجروحين: (1/366) . 2 السنن: (4/52) . 3 العلل المتناهية: (1/414) . 4 المجموع: (5/162) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 فأما صالح: فإنه قد وثقه جماعة، وضَعَّفَهُ آخرون1. وغاية ما رَمَوهُ به: أنه اختلط قبل موته، لكن مَيَّزَ الأئمة النُّقَّادُ بين سماع من سمع منه قبل الاختلاط وبعده، فقال علي بن المديني: "صالح ثقة، إلا أنه خَرِفَ وكَبِرَ، فَسَمِعَ منه قومٌ وهو خرف كبير، فكان سَمَاعهم ليس بصحيح، سفيان الثوري ممن سمع منه بعد ما خرف، وكان ابن أبي ذئب قد سمع منه قبل أن يخرف"2. وقال أحمد بن أبي مريم عن يحيى بن معين: "ثقة حجة. فقلت له: إن مالكاً تركه. فقال: إن مالكاً إنما أدركه بعد أن خرف ... لكنَّ ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف"3. وقال الجوزجاني: "تَغَيَّرَ أخيراً، فحديث ابن أبي ذئب عنه مقبول لِسِنِّه وسماعه القديم، وأما الثوري فَجَالَسَهُ بعد التغير"4. فهذا كلام هؤلاء الأئمة في أنَّ ابن أبي ذئب ممن سمع منه قديماً قبل الاختلاط، وقال ابن عديّ - بعد أن ذكر قدم سماع ابن أبي ذئب منه -: "ولا أعرف له حديثاً منكراً إذا روى عنه ثقة، وإنما البلاء ممن دون ابن أبي ذئب ... وصالح مولى التوأمة: لا بأس برواياته وحديثه"5. قلت: وهذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عن صالح، فلا مجال حينئذ للطعن فيه باختلاط صالح، ولذلك فقد ساق الذهبي هذا   1 انظر: تهذيب التهذيب: (4/405 - 407) . 2 سؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني: (ص86) . 3 الميزان: (2/303) . 4 أحوال الرجال: (ص 144) . 5 الكامل: (4/1375 - 1376) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 الحديث وغيره في ترجمة صالح من طريق ابن أبي ذئب عنه، ثم قال: "فهذه الأحاديث صحاح عند ابن معين على ما قال"1. وأما معارضة هذا الحديث لحديث عائشة السابق: فيمكن الجواب عن ذلك بأجوبة: - منها: أن نُسَخَ أبي داود المعتمدة فيها: "فلا شيء عليه"، وبعضهم: "فليس له شيء "، وبعضهم: " فليس به شيء "، وعلى هذا: لا دلالة فيه على كراهية ذلك. أجاب بذلك النووي2. قلت: لكن كيف برواية الجماعة الباقين، وهي: "فلا شيء له"، وفي رواية: "فليس له شيء "، فهذا يعكر على هذا الجواب. ويعكر عليه أيضاً: قول صالح عقب روايته هذا الحديث: "فرأيت الجنازة توضع في المسجد، فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعاً إلا في المسجد، انصرف ولم يصل عليها". وقد سبق ذلك في رواية البيهقي، وأبي داود الطيالسي، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه راوي هذا الحديث يفعل ذلك، فلا بدَّ أنه قد ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة ذلك، وحينئذ فلا وجه لردِّ رواية: "فلا شيء له". - ومن هذه الأجوبة: أن لفظة: "لا شيء له" يجب حملها على: "فلا شيء عليه" جمعاً بين الروايات، وقد جاء مثل ذلك في القرآن، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] أي: فعليها. قاله النووي3.   1 الميزان: (2/304) . 2 المجموع: (5/162) . 3 المجموع: (5/162) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 - وأجاب الخطابي بجواب آخر، فقال: "وقد يكون معناه - إن ثبت الحديث - متأولاً على نقصان الأجر؛ وذلك أن من صلى عليها في المسجد، فإن الغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه، وأن من سعى إلى الجَبَّان فَصَلَّى عليها بحضرة المقابر شهد دفنه، فأحرز أجر القيراطين ... فصار الذي يصلي عليها في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من صَلَّى عليها براً"1. وقال مثله النووي رحمه الله، وزاد: "فيكون التقدير: فلا أجر كامل له"2. قلتُ: ولعلَّ هذا الجواب الأخير هو أَقْرَبُهَا، فيكون الأصل في الصلاة على الجنازة أن تكون خارج المسجد، وأنه الأفضل، وأن الصلاة عليها في المسجد جائزة، وإن كانت دون الأولى، وقد أشار إلى شيء من ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، فإنه عند شرحه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد" قال رحمه الله: "دلَّ حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان مُعَدٌّ للصلاة عليها، فقد يستفاد منه: أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمرٍ عارض، أو لبيان الجواز"3. وفي إنكار الصحابة - رضوان الله عليهم - على عائشة إدخالها جنازة سعد بن أبي وقاص إلى المسجد للصلاة عليها، دليل على عدم وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وإلا لما خفي عليهم.   1 معالم السنن: (4/325) . 2 المجموع: (5/162) . 3 فتح الباري: (3/199) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث أبي هريرة هذا - من رواية صالح مولى التوأمة - حديث حسن على أقل أحواله، كما حكم عليه بذلك ابن القَيِّم رحمه الله، وأن القول بضعفه مَبْنِيٌّ على الطعنِ في صالح، وقد عُلِمَ ما فيه. على أنه لا تنافي بينه وبين جواز الصلاة على الجنازة في المسجد على الوجه المتقدم، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 5 - باب ما جاء في الصلاة على الطفل قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الصلاة على الطفل، فصحَّ عنه أنه قال: 67- (6) "الطِّفْلُ يُصَلَّى عليه" 1. قلت: هذا جزء من حديثٍ يُروى عن: زياد بن جبير بن حَيَّة2، عن أبيه3، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، واختلف فيه على زياد بن جبير: فأخرجه: الترمذي والنسائي وابن ماجه في (سننهم) 4، وأحمد في (مسنده) 5 والطبراني في (الكبير) 6، وابن حبان في (صحيحه) 7، والحاكم في (المستدرك) 8، كلهم من طريق:   1 زاد المعاد: (1/513) . 2 ابن مسعود بن مُعَتِّب الثفي، البصري، ثقةٌ وكان يُرْسِل، من الثالثة/ ع. (التقريب 218) . 3 جبير بن حية بن مسعود الثقفي، ابن أخي عروة بن مسعود، ثقةٌ جليل، من الثالثة، مات في خلافة عبد الملك بن مروان/ خ 4. (التقريب 138) . 4 ت: (3/340) ح 1031، باب الصلاة على الأطفال. س: (4/56) ، باب مكان الماشي من الجنازة. جه: (1/483) ح 1507، باب الصلاة على الطفل. ثلاثتهم في كتاب الجنائز. (4/247، 252) . (20/430) ح 1045. 7 الإحسان: (5/22) ح 3038. (1/355، 363) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 سعيد بن عبيد الله1، عن عمه زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب خَلْفَ الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفلُ يُصَلَّى عليه". هذا لفظ الترمذي، ومثله: أحمد والنسائي، والطبراني، وابن حبان، وأما لفظ ابن ماجه فمختصر، وهو الذي ساقه ابن القَيِّم رحمه الله، وأما لفظ الحاكم: "الماشي أمام الجنازة، والراكب خلفها، والطفل يصلى عليه". وأخرجه النسائي2 مرة عن: سعيد بن عبيد الله وأخيه المغيرة بن عبيد الله3، كلاهما عن: زياد بن جبير به، ولفظه كلفظه الماضي. هكذا رواه هؤلاء من طريق سعيد بن عبيد الله - وأخيه في رواية النسائي - عن زياد بن جبير مجزوماً برفعه. وأخرجه: أبو داود في (سننه) 4، والطبراني في (الكبير) 5، والحاكم في (المستدرك) 6، والبيهقي في (سننه) 7 كلهم من طريق:   1 ابن جبير بن حَيَّة، الثقفي، الجبيري، بصري، صدوق رُبَّمَا وهم، من السادسة/ خ ت س ق. (التقريب 239) . 2 السنن: (4/55) . 3 ابن جبير بن حية/ الثقفي، مقبولٌ، من السابعة/ س. (التقريب 543) . (3/522) ح 3180، باب المشي أمام الجنازة. (20/430) ح 1042. (1/363) . (4/8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 يونس بن عبيد1، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة- قال يونس: وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها، والسِّقْط2 يُصَلَّى عليه، ويُدْعَى لوالديه بالمغفرة والرحمة". هذا سياق أبي داود ومثله سياق الطبراني إسناداً ومتناً. وأما الحاكم فلفظه مثل أبي داود لكن فيه: " ... ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة". وأما إسناده، ففيه قول يونس: "وحدثني بعض أهله أنه رفعه" هكذا بدون شك. قال إبراهيم بن أبي طالب - شيخ شيخ الحاكم في هذا الإسناد -: "قول يونس بن عبيد: حدثني بعض أهله أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: رواية ليونس بن عبيد، عن سعيد بن عبيد الله بن جبير ... ". ورواية يونس بن عبيد هذه: أخرجها الطبراني في (الكبير) 3 من غير شك في رفعها، وذلك من طريق: عبد الله بن بكر4، ثنا يونس بن عبيد، عن زياد، عن أبيه، عن المغيرة مرفوعاً: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء، والطفل يُصَلَّى عليه". ورواه الثوري عن يونس بن عبيد فلم يرفعه، أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 5.   1 ابن دينار العبدي، أبو عبيد البصري، ثقة ثبت فاضل ورع، من الخامسة، مات سنة 139 هـ / ع. (التقريب 613) . 2 بالكسر والفتح والضم - والكسر أكثرها -: الولد الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه. (النهاية 2/378) . (20/430) ح 1044. 4 ابن عبد الله، الْمُزَنِي، البصري، صدوقٌ، من السابعة/ د س ق. (التقريب297) . (3/531) ح 6602. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 وأخرجه: أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 1 من طريق: المبارك بن فضالة2، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة مرفوعاً، ووقع عند الطيالسي قول المبارك: "ولا أراه إلا مرفوعاً" أما عند أحمد فقد جزم برفعه. وقد صحح هذا الحديث جماعة؛ فقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال الإمام أحمد بن حنبل - فيما رواه أحمد بن أبي عبدة عنه -: "صحيح مرفوع"3. وقال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرط البخاريِّ، ولم يُخَرِّجَاهُ". ووافقه الذهبي رحمه الله. وصححه ابن دقيق العيد؛ فإنه أورده في كتابه (الاقتراح) 4 في القسم الخاص بالأحاديث التي رواها قومٌ خَرَّجَ عنهم البخاري دون مسلم. هذا مع تصحيح ابن حبان له؛ إذ أخرجه في (صحيحه) كما مرَّ، وصححه - أيضاً - الشيخ الألباني5 رحمه الله. وأما ما وقع في بعض طرقه من الشكِّ في رفعه: فإن ذلك لا يَضُرُّهُ؛ إذ إن ذلك وقع في رواية يونس بن عبيد وحده، ومع هذا فقد اخْتُلِفَ عليه في ذلك، فقد رواه عنه عبد الله بن بكر بدون شك، كما مضى عند الطبراني.   1 حم: (4/248) . طس: (ح702) . 2 أبو فضالة البصري، صدوق يُدَلِّسُ ويُسَوِّي، من السادسة، مت سنة 136هـ على الصحيح/ خت د ت ق. (التقريب 519) . 3 زاد المعاد: (1/513) . (ص 479) ح 27 من القسم المذكور. 5 صحيح ابن ماجه: (ح 1224) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 وأما رواية الثوري له موقوفاً: فقد خالفه جماعة عن يونس بن عبيد، منهم: عبد الله بن بكر المزني الماضي ذكره، وذكر الدارقطني: أن ابن عُلَيَّةَ، وعنبسة بن عبد الواحد روياه عن يونس مرفوعاً1. هذا مع اتفاق سعيد بن عبيد الله الثقفي، وأخيه المغيرة، والمبارك بن فضالة على رفعه كما مرَّ في تخريج الحديث، فهذا العدد الكثير أولى أن تكون روايتهم محفوظة، هذا إذا لم نقل: إن الرفع زيادة، وقد أتى بها ثقات، فهي مقبولة. وبهذا يتبين أن ترجيح الإمام الدارقطني في (علله) 2 رواية الوقف، الراجح خلافه. ويَتَلَخَّصَ من ذلك: أن الحديث صحيح ثابت، وأنه لا مَطْعَنَ فيه، وبذلك يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في تصحيحه إياه، والاستدلال به على مشروعية الصلاة على الطفل. 68- (7) عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنه قال: صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابن ستة عشر شهراً، وقال: "إِنَّ في الجَنَّة مُرْضِعَاً تُتِمُّ رِضَاعَهُ، وهو صِدِّيقٌ ". قال ابن القَيِّم: "هذا حديث لا يثبت؛ لأنه من رواية جابر الجُعْفِي، ولا يحتجُّ بحديثه، ولكن هذا الحديث مع مرسل البَهيّ،   1 علل الدارقطني: ج2 (ق 104) . 2 ج2 (ق 104) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 وعطاء، والشعبي، يُقَوِّي بعضها بعضاً"1. قلت: هذا الحديث أخرجه أحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3 من طريق: إسرائيل، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به. وهذا الإسناد ضعيف بجابر الجعفي كما قال ابن القَيِّم رحمه الله، وضَعَّفَهُ به المنذري4 أيضاً، ثم نقل كلام البيهقي في اعتضاد هذا الحديث بالمراسيل السابقة، قال: "وفيه نظر". قلت: وقد رُوي مسنداً من غير طريق البراء، فَرُوِيَ عن: ابن عباس، وأنس، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، ذكر ذلك الزيلعي في (نصب الراية) 5. أما حديث ابن عباس: فأخرجه ابن ماجه في (سننه) 6 من   1 تحفة المودود: (ص 108) . وقد ذكر - رحمه الله - هذه المراسيل، ونقل عن البيهقي قوله: "هذه الآثار وإن كانت مراسيل، فهي تشبه الموصول، ويشد بعضها بعضاً". وانظر كلام البيهقي هذا في (سننه) (4/9) . (4/283) . (4/9) . 4 مختصر السنن: (4/323-324) . (2/279-280) . (1/484) ح1511 ك الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 طريق: إبراهيم بن عثمان1، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "إن له مرضعاً في الجنة، ولو عاش لكان صِدِّيقَاً نَبِيَّاً، ولو عاش لَعُتِقَتْ أخواله القبط، وما اسْتُرِقَّ قبطيُّ". قال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف لضعف إبراهيم بن عثمان، أبو شيبة"2. وقال الحافظ ابن حجر: "أخرجه ابن ماجه ... بسند ضعيف"3. وأما حديث أنس: فرواه أبو يعلى في (مسنده) 4 من طريق: يونس بن بكير، عن محمد بن عبيد الله5، عن عطاء، عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على إبراهيم، فَكَبَّرَ عليه أربعاً". وَضَعَّفَهُ الهيثمي بمحمد بن عبيد الله العَرْزَمي6. وأما حديث أبي سعيد: فأخرجه البزار في (مسنده) 7 من طريق:   1 العبسي، أبو شيبة الكوفي، قاضي واسط، متروكُ الحديث، من السابعة، مات سنة 169 هـ / ت ق. (التقريب 92) . 2 مصباح الزجاجة: (2/33) . 3 الدراية: (1/235) ، وانظر الإصابة: (1/94) . (6/335) ح 3660. 5 ابن أبي سليمان العرزمي، الفَزَاري، أبو عبد الرحمن الكوفي، متروك، من السادسة، مات سنة بضع وخمسين/ ت ق. (التقريب 494) . 6 مجمع الزوائد: (3/35) . 7 المصدر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 عبد الرحمن بن مالك بن مغول1، عن الجُرَيرِي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ حديث أنس الماضي. وَضَعَّفَهُ الهيثمي2 بعبد الرحمن بن مالك، فإنه متروك الحديث. وَضَعَّفَهُ به ابن حجر أيضاً3. قلتُ: فهذه المسانيد الثلاثة شديدة الضَّعْفِ؛ فإن إسناد كلِّ واحد منها لا يخلو من متروك، فيكون الاعتماد في ذلك على تلك المراسيل التي مضى ذكرها، فإنها - كما قال البيهقي وابن القَيِّم - إذا انضمت إلى مسند البراء بن عازب رضي الله عنه، قَوَّى كل منهما الآخر. ومما يقوي ذلك أيضاً: أن الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى على ابنه إبراهيم، قال ابن عبد البر: "وصَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكَبَّرَ أربعاً. هذا قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح" 4. وقال النووي: "الذي ذهب إليه الجمهور: أنه صَلَّى عليه، وكبر عليه أربع تكبيرات" 5. وقال الخطابي - عقب ذكره مرسل عطاء -: "وهذا أولى الأمرين"6. وقال البيهقي: "وقد أثبتوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه   1 قال أحمد والدارقطني: "متروك". وكَذَّبَه أبو داود. وقال النسائي: ليس بثقة. (الميزان 2/584) . 2 مجمع الزوائد: (3/35) . 3 الإصابة: (1/94) . 4 الاستيعاب: (1/45) . 5 الإصابة: (1/94) . 6 معالم السنن: (4/323) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 إبراهيم، وذلك أولى من رواية من روى: أنه لم يُصَلِّ عليه"1. فَتَلَخَّصَ من ذلك: ثبوت صلاته صلى الله عليه وسلم على الأطفال، وأن ذلك كان هديه، وكذلك ثبوت صلاته على ابنه إبراهيم عليه السلام، وهذا هو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم.   1 سنن البيهقي: (4/9) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 6- باب ما جاء في الصلاة على الشهداء تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - قضية الصلاة على الشهيد، وقَرَّرَ أَنَّ أَصحَّ الأقوال في ذلك: التخيير بين الصلاة على الشهداء وتركها، وذلك لمجيء الأخبار بكل واحد من الأمرين. ومن هذه الأحاديث التي بحثها في هذا الموضوع: 69 - (8) حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى حَمْزَة، فَكَبَّرَ سَبعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَلَم يُؤت بقتيل إلا صَلَّى عليه معه، حتى صَلَّى عليه اثنتين وسبعين صلاةً". ساق ابن القَيِّم هذا الحديث من رواية: ابن إسحاق، عن رجل من أصحابه، عن مقسم، عن ابن عباس به، ثم قال: "ولكنَّ هذا الحديث له ثلاث عللٍ: - إحداها: أن ابن إسحاق عنعنه، ولم يذكر فيه سماعاً. - الثانية: أنه رواه عمن لم يُسَمِّه. - الثالثة: أن هذا قد رُوِيَ من حديث الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، والحسن لا يحتجُّ به ... "1. قلت: حديثُ ابن إسحاق هذا أورده ابن هشام في (السيرة   1 تهذيب السنن: (4/295) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 النبوية) 1 فقال: "وقال ابن إسحاق: وَحَدَّثَنِي من لا أَتَّهِمُ، عن مِقْسم مولى عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: " أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزةَ فَسُجِّي2 ببردةٍ، ثم صلى عليه ... " الحديث. وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من طريق ابن إسحاق قال: حدثني رجلٌ من أصحابي ... الحديث. وإلى مناقشة العلل التي ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله: أما قوله:"إن ابن إسحاق عنعنه ... " فليس كذلك، بل صَرَّحَ فيه ابن إسحاق بالتحديث كما في (السيرة) ، وكذا الرواية عند البيهقي مُصَرَّحٌ فيها بالتحديث، وروايته هي التي ساقها ابن القَيِّم، وحينئذ تنتفي عنه شبهة التدليس. وأما قوله:"إنه رواه عمن لم يسمعه": فنعم، قال البيهقي عقب إخراجه: "وهذا ضعيف، ومحمد بن إسحاق بن يسار إذا لم يذكر اسم من حَدَّثَ عنه لم يُفْرَحْ به"4. وأما العلة الثالثة، وهي قوله: "إن هذا رُوِيَ من حديث الحسن ابن عمارة ... " إلخ: فقد أشار البيهقي إلى هذه العلة أيضاً5.   (2/97) . 2 أي: غُطِّي. (4/13) . 4 السنن: (4/13) . 5 المصدر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 ولعلَّ هناك وجهاً للربط بين رواية ابن إسحاق، وبين رواية الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، وهو ما ذكره السهيلي في (الروض الأنف) 1 - مُعَقِّبَاً على رواية ابن إسحاق - فقال: "قول ابن إسحاق في هذا الحديث: حَدَّثَنِي من لا أَتَّهِم. إن كان هو الحسن بن عمارة - كما قاله بعضهم - فهو ضعيف بإجماع أهل الحديث، وإن كان غيره، فهو مجهول ... ". وقال الحافظ ابن حجر: "والحامل للسهيلي على ذلك: ما وقع في مقدمة مسلم2، عن شعبة: أن الحسن بن عمارة حَدَّثَهُ عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على قتلى أحد. فسألت الحكم؟ فقال: لم يصلِّ عليهم"3. ولكن على كلام السهيلي هذا يكون ابن إسحاق قد أَبْهَمَ الحسن ابن عمارة، وأسقط من الإسناد "الحكم بن عتيبة". ولكن لحديث ابن عباس هذا طرقاً أخرى قد يَتَقَوَّى بها، من هذه الطرق: 1- ما أخرجه ابن ماجه في (سننه) 4، والحاكم في (المستدرك) 5، والبيهقي في (سننه) 6 من طريق: أبي بكر بن عياش7،   (6/43) . 2 صحيح مسلم: (1/23 - 24) والقصة فيه بأطول من هذا. 3 التلخيص الحبير: (2/117) . (1/485) ح 1513 ك الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم. (3/197 - 198) . (4/12) . 7 ابن سالم الأسدي، الكوفي، المقري، الحنَّاط، مشهور بكنيته، والأصحُّ: أنها اسمه، ثقة عابد إلا أنه لما كَبِرَ ساءَ حفظه، وكِتَابُهُ صحيحٌ، من السابعة، مات سنة194هـ/ع. (التقريب624) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أُتِيَ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فَجَعَلَ يُصَلِّي على عشرة عشرة، وحمزة هو كما هو، يُرفَعُونَ وهو كما هو موضوع". هذا لفظ ابن ماجه، وهو عند الحاكم والبيهقي بأطول من هذا، وفيه قصة صفية وبحثها يوم أحد عن حمزة رضي الله عنه. وأورد ابن القَيِّم هذا الطريق قبل طريق ابن إسحاق السابق، وعزاه إلى البيهقي، ثم نقل قوله في أبي بكر ويزيد، فقال: "لا يحفظ إلا من حديثهما، وكانا غير حافظين". وسكت عنه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: "ليسا بمعتمدين" وقال ابن حجر في (التلخيص) 1: "ويزيد فيه ضعف يسير". وقال الحافظ البوصيري: "هذا إسناد صحيح"2. كذا قال! والذي يظهر عند النظر في هذا الإسناد: أن رَدَّهُ بأبي بكر بن عياش غير سائغ؛ فإن الرجل ثقة، إلا أنه قد ساء حفظه لما كَبِرَ، ولعلَّ القول فيه ما قاله ابن حبان رحمه الله: "والصواب في أمره: مُجَانَبةُ ما عُلِمَ أنه أخطأ فيه، والاحتجاج بما يرويه سواء وافق الثقات أو خالفهم؛ لأنه داخل في جملة أهل العدالة ... "3. قلت: وأما القول بالاحتجاج بما خالف فيه الثقات: فغير مقبول؛ لأنه حينئذٍ يكون من قبيل الشاذ.   (2/117) . 2 مصباح الزجاجة: (2/34) . 3 الثقات: (7/670) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 وأما يزيد بن أبي زياد: فإنه ضعيف، ولكن لا يصلُ به الضعف إلى مرتبة من يُطْرَحُ حديثه بالكلية؛ لأن ضَعْفَهُ يسير كما قال ابن حجر1. ولذلك قال ابن عبد الهادي - في معرض رده على ابن الجوزي في تضعيفه هذا الحديث -: "وهو ممن يُكْتَبُ حديثه على لينه، وقد روى له مسلم مقروناً بغيره ... وقال أبو داود: لا أعلم أحداً ترك حديثه"2. فإذا تَبَيَّنَ ذلك، فإن هذا الإسناد مما يَصْلُحُ في المتابعات، ويعتضد بانضمام غيره إليه، وأما قول البوصيري: "صحيح" فإنه لا يخفى ما فيه. 2- ما أخرجه الدارقطني في (سننه) 3 من طريق: إسماعيل بن عياش، عن عبد الملك بن أبي عتيبة أو غيره، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما به، وفيه: "أَنَّه صَلَّى عليه سبعين صلاة، وأَنه كَبَّرَ عليه عشراً". قال الدارقطني عقبه: "لم يروه غير إسماعيل بن عياش، وهو مضطرب الحديث عن غير الشاميين". وقد روي من وجه آخر عن: الحكم، عن مجاهد. أشار إلى ذلك الزيلعي في (نصب الراية) 4 فقال: "رواه الإمام أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي في (سننه) عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس به، ولفظه كلفظ رواية الدارقطني الماضية.   1 التلخيص الحبير: (2/117) . 2 نصب الراية: (2/311) . (4/118) ح 47. (2/311) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وفي إسناده "الحسن بن عمارة" وهو ضعيف بالاتفاق. 3- ما أخرجه الدارقطني - أيضاً - في (سننه) 1 من حديث: عبد العزيز بن عمران2، عن أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس به. قال الدارقطني عقبة: "عبد العزيز بن عمران ضعيف". فهذه الطرق الثلاث: أحسنها الطريق الأول، من رواية أبي بكر ابن عَيَّاش، فيكون مقوياً لطريق ابن إسحاق المتقدم. وهناك شاهدٌ مرسل لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو: 70- (9) حديث أبي مالك الغفاري، أنه قال: "كَانَ قَتْلَى أُحُد يؤتى منهم بتسعةٍ وعاشرهم حمزة، فَيُصَلِّي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُحْمَلُون، ثم يُؤْتَى بتسعةٍ فَيُصَلِّي عليهم وحمزة مكانه، حتى صَلَّى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ثم قال: " هذا مرسل صحيح"3. ثم نقل عن البيهقي قوله: "هو أصحُ ما في الباب".   (4/116) ح 42. 2 المدني، الأعرج، يُعرف: بابن أبي ثابت، متروكٌ، احْتَرَقَتْ كُتبه فَحَدَّثَ من حِفِظهِ فاشتَدَّ غَلَطُهُ، من الثامنة، مات سنة 197 هـ / ت. (التقريب 358) . 3 تهذيب السنن: (4/295) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (المراسيل) 1 من طريق: سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن2، عن أبي مالك3، وفيه: "فَصَلَّى عليهم سبع صلوات، حتى صَلَّى على سبعين رجلاً، منهم حمزة في كل صلاة صَلاّها". وأخرجه الدارقطني في (سننه) 4 من طريق: شعبة، عن حصين به. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "رجاله ثقات"5. وتقدم قول البيهقي6 فيه، وتصحيح ابن القَيِّم - رحمه الله - إياه. وفي مقابلة هذه الأحاديث يأتي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ عليهم7. وظاهر صنيع ابن القَيِّم أنه يذهب إلى هذا الحديث ويقول به، وأما الأحاديث التي مَرَّتْ في الصلاة على حمزة وسائر شهداء أحد: فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - لا يثبتها، بل يختار ضعفها، وذلك أنه قال: "والذي يظهر من أمر شهداء أحد: أنه لم يصلِّ عليهم عند الدَّفْن، وقد قُتِلَ معه بأحدٍ سبعون نفساً، فلا يجوز أن تَخْفَى الصلاة عليهم،   (ص 306) ح 427، (ص 310) ح 435. 2 السُّلَمي، أبو الهذيل الكوفي. 3 واسمه: غزوان، مشهور بكنيته، ثقةٌ، من الثالثة/ خت د ت س. (التقريب 442) . (2/78) ح9. 5 التلخيص الحبير: (2/117) . 6 انظر: السنن: (4/12) . 7 أخرجه البخاري في صحيحه: ك الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، ح 1343. (فتح الباري 3/209) ، وانظر بعده: ح 1347. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 وحديث جابر في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح، وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ، فله من الخبرة ما ليس لغيره"1. وقال مرة: " ... شهيد المعركة لا يُصَلَّى عليه؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ على شهداء أُحُد ... فإن قيل: فقد ثبت في (الصحيحين) 2 من حديث عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يوماً، فَصَلَّى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر ... قيل: أما صلاته عليهم، فكانت بعد ثمان سنين من قتلهم قرب موته، كَالْمُوَدِّعِ لهم ... فهذه كانت توديعاً منه لهم، لا أنها سُنَّة الصلاة على الميت، ولو كان ذلك كذلك لم يؤخرها ثمان سنين"3. لكن كيف يستقيم هذا مع اختياره الذي صَدَّرَنَا به هذا البحث إذ يقول: "فأصح الأقوال: أنهم لا يُغَسَّلُون، ويُخَيَّرُ في الصلاة عليهم، وبهذا تتفق جميع الأحاديث"4. فلعله - رحمه الله - يرى الصلاة عليهم بعد دفنهم كما هو ظاهر حديث عقبة بن عامر الماضي قبل قليل؟ وحيث اختلفت الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ فوردت   1 تهذيب السنن: (4/296) . 2 خ: ك المغازي، باب أحد جبل يحبنا ونحبه (فتح الباري 7/377) ح 4085. م: (4/1795) ح 2296، ك الفضائل، باب إثبات حوض نبينا عليه الصلاة والسلام. 3 زاد المعاد: (3/217) . 4 تهذيب السنن: (4/296) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 أحاديث تثبت الصلاة على الشهداء، وأخرى تنفي ذلك، فإن الروايات المثبتة تقدم على الروايات النافية؛ لأن الحجة للمثبت على النافي، حيث إن معه زيادة علم، فالذي تطمئن إليه النفس بعد هذا: جواز الصلاة على الشهداء لورود النصوص بذلك، فإذا لم يُصَلّ عليهم فلا حرج، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 7- باب ما جاء في تلقين الميت بعد دفنه 71- (10) عن أبي أمامة مرفوعاً: "إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِكُم فَسَوَّيْتُم التَّرَابَ عَلَى قَبْرِهِ، فَلَيْقُم أحدُكُم عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ ثم لْيَقُلْ: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّه يَسْمَعُهُ ولا يُجِيبُ، ثُمَّ يقول: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّهُ يَسْتَوي قَاعِدَاً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّه يقول: أَرْشِدْنَا رَحِمَكَ الله. وَلَكِن لا تَشْعُرُون، فَلْيَقُل: اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيه من الدنيا: شَهادةَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِالله رَبَّاً، وبِالإسْلام دِيْنَاً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالقرآن إِمَامَاً، فَإِن مُنْكَرَاً وَنَكِيراً يَأْخُذُ كلُّ واحدٍ منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا، ما نَقْعُدُ عند من قد لُقِّنَ حُجَّته، فيكونُ الله حجيجه دونهما". فقال رجل: يا رسول الله! فإن لم يعرف أُمَّهُ؟ قال: "ينسبه إلى حواءَ: يا فلان بن حواء ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فهذا حديث لا يصحُّ رفعه، ولكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت ... ؟ فقال: ما رأيت أحداً فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك، وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم، عن أشياخهم، أنهم كانوا يفعلونه، وكان ابن عياش يروي فيه. قلت: يريد حديث إسماعيل بن عياش هذا الذي رواه الطبراني عن أي أمامة"1.   1 زاد المعاد: (1/522 - 523) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وقال مرةً: "حديث ضعيف"1. وقال مرةً: "ضعيف باتِّفَاقِ أهل العلم بالحديث"2. وقال مَرةً: " ... لا تقوم به حُجَّة"3. قلت: هذا الحديث أخرجه الطبراني في (أكبر معاجمه) 4، وفي (الدعاء) 5 له من طريق: محمد بن إبراهيم بن العلاء، عن إسماعيل بن عيَّاش6، عن عبد الله ابن محمد القرشي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سعيد بن عبد الله الأودي، أنه قال: شهدت أبا أمامة رضي الله عنه وهو في النَّزْع قال: إذا أنا متٌُّ فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله: "إذا مات أحدٌ ... " الحديث. وهذا الإسناد ضعيف، وفيه مجاهيل؛ فإنَّ محمد بن إبراهيم بن العلاء: هو الحمصي الزبيدي، ذكره الذهبي في (الميزان) 7 وقال: "قال محمد بن عوف: كان يَسْرِقُ الحديث". وعبد الله بن محمد القرشي لم أقف له على ترجمة.   1 الروح: (ص 16) . 2 تحفة المودود: (ص149) . 3 تهذيب السنن: (7/250) . (8/298) ح 7979. (3/1367) ح 1214. 6 أبو عتبة الحمصي، صدوق في روايته عن أهل بلده، مُخَلِّطٌ في غيرهم، من الثامنة، مات سنة 181هـ أو 182هـ/ ي 4. (التقريب 109) . (3/447) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 وأما سعيد بن عبد الله الأودي: فهكذا وقع عند الطبراني في كتابيه، وقال بعضهم: سعيد الأزدي1، وأشار المنذري إلى الخلاف في اسمه، فقال في الجزء الذي صَنَّفَهُ في التلقين - ونقل عنه ابن الملقن في (البدر المنير) 2-: "قال أبو نعيم الحدَّاد: هذا حديث غريب من حديث حماد بن زيد، ولم أكتبه إلا من حديث سعيد الأزدي، وقال ابن أبي حاتم3: سعيد الأزدي، عن أبي أمامة الباهلي ... ". وقال المنذري: "هكذا قال: الأزدي، ووقع في روايتنا: الأودي، وهو في معنى المجهول". فإن كان هو الأزدي: فقد بَيَّضَ له ابن أبي حاتم، وإن كان الأودي: فإنه أيضاً لا يُعْرَف، ولذلك قال الهيثمي رحمه الله - ووقع عنده: الأودي -: "رواه الطبراني في الكبير، وف إسناده جماعة لم أعرفهم"4. وأورده الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة) 5 من طريق آخر، فقال: "أخرجه القاضي الخُلعي في الفوائد (55/2) عن: أبي الدرداء هاشم بن محمد الأنصاري، ثنا عتبة بن السكن، عن أبي زكريا، عن جابر بن سعيد الأزدي، قال: دخلت على أبي أمامة وهو في النَّزْع ... " الحديث. فهذا قولٌ ثالت في اسم الراوي عن أبي أمامة، وأخشى أن يكون   1 انظر: التلخيص الحبير: (2/136) . 2 ج 4 (ق 50/ب) . 3 انظر: الجرح والتعديل: (2/1/76) . 4 مجمع الزوائد: (3/45) . 5 ح (599) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 حصل تصحيف في إسناد الخُلعي هذا، ويكون صوابه: جابر عن سعيد الأزدي، فيكون هو نفسه "سعيد الأزدي" المذكور سابقاً؟ فالله أعلم. قال الشيخ الألباني عقب سياقه هذا الإسناد: "وهذا إسناد ضعيف جداً، لم أعرف أحداً منهم غير عتبة بن السكن، قال الدارقطني: متروكُ الحديث. وقال البيهقي: واهٍ، منسوب إلى الوضع. ثم أورد كلام الهيثمي السالف وقال: فاختلف في اسم الراوي عن أبي أمامة ... ". وقد ضَعَّفَ هذا الحديث جماعة من الأئمة: فتقدم قول أبي نعيم الحداد أنه حديث غريب. وقال ابن الصلاح وقد سئل عنه: "ليس إسناده بالقائم"1. وقال النووي: "إسناده ضعيف"2. وقال الحافظ العراقيُّ في تخريج الإحياء3:" ... الطبراني هكذا بإسناد ضعيف". ونقل ابن علان في شرح الأذكار4 عن ابن حجر أنه قال: "حديث غريب، وسند الحديث من الطريقين ضعيف جداً". وقال رحمه الله في فتح الباري5:"سنده ضعيفٌ جداً". وقال الصَنْعَانِي: "ويَتَحَصَّل من كلام أئمة التحقيق: أنه حديث ضعيفٌ، والعملُ به بدعةٌ، ولا يُغْتَرُّ بكثرة من يفعله"6. وقال الشيخ الألباني: "وجملة القول: أن الحديث منكرٌ عندي، إن لم يكن موضوعاً"7.   1 الأذكار للنووي: (ص138) . 2 المجموع: (5/257) . (4/420) . (4/196) . (10/563) . 6 سبل السلام: (2/157) . 7 السلسلة الضعيفة: (2/65) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 ومع ذلك فقد حاول جماعة تقوية هذا الحديث، فقال ابن الملقن: "إسناده لا أعلم به بأساً"1. ثم ذكر له جملة من الشواهد "يعتضد بها" - ولم أر في واحدٍ منها ما يصلح شاهداً لهذا الحديث، وسأشير إلى شيء منها- وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده صالح، وقد قَوَّاهُ الضياء في أحكامه ... "2 ولا أدري ما هذا من الحافظ رحمه الله؟ فقد نقلنا قبل قليل تضعيفه إياه في تخريجه لأذكار النووي، فلعله هنا تبع صاحب الأصل (البدر المنير) فنقل تصحيحه إسناده دون أن يتعقبه؟ فالله أعلم. وأما ابن الصلاح رحمه الله، فإنه مع تضعيفه إياه قال: "ولكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام به قديماً"3. وقال النووي: "فهذا وإن كان ضعيفاً فيستأنس به، وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، وقد اعتضد بشواهد من الأحاديث ... "4. فذكر بعضها. أما عن الشواهد التي ذكروها لهذا الحديث: - فمنها: حديث " ... واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل". - ومنها: حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه قال: "إذا دفنتموني أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم،   1 البدر المنير: ج 4 (ق50/ب) . 2 التلخيص الحبير: (2/135 - 136) . 3 الأذكار للنووي: (ص138) . 4 المجموع: (5/257 - 258) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 وأعلم ماذا أراجع رسل ربي". أخرجه مسلم في (صحيحه) 1. - ومنها: ما رواه سعيد بن منصور من طريق: راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب وغيرهما، قالوا: "إذا سُوِّي على الميت قبره وانصرف الناس عنه، كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان قل: لا إله إلا الله، قل: أشهد أن لا إله إلا الله. ثلاث مرات، قل: ربي الله، وديني الإسلام، ونَبِيِّ محمد، ثُمَّ يَنْصَرِف"2. إلى غير ذلك من الشواهد التي ساقوها. وهذه الشواهد كما نرى كلها موقوفات، والمرفوع منها ليس فيه سوى الدعاء للميت بالتثبيت والمغفرة، وهذا لا علاقة له بالتلقين المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة، قال الشيخ الألباني: "واعلم أنه ليس للحديث ما يَشْهَدُ له، وكلُّ ما ذكره البعض إنما هو أثرٌ موقوفٌ على بعض التابعين الشاميين، لا يصلح شاهداً للمرفوع، بل هو يُعِلُّه، وينزل به من الرفع إلى الوقف ... على أنه شاهد قاصر"3. يشير إلى أثر سعيد بن منصور السابق. قلت: فإذا كان هذا هو حال هذا الأثر، الذي هو أقرب ما يكون إلى حديث أبي أمامة، فكيف ببقية هذه الشواهد التي لا صلة لها بلفظ الحديث؟   (1/112) ح 192 (121) وهو جزء من حديث طويل. 2 التلخيص الحبير: (2/136) . 3 السلسلة الضعيفة: (2/65) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 وأما قول النوويِّ: إن ذلك من فضائل الأعمال التي يُتَسَامَحُ فيها: فإنه مردود، قال الشيخ الألباني: "ولا يرد هنا ما اشتهر من القول بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؛ فإن هذا محله فيما ثبت مشروعيته بالكتاب أو السنة الصحيحة، وأما ما ليس كذلك فلا يجوز العمل فيه بالحديث الضعيف؛ لأنه تشريع، ولا يجوز ذلك بالحديث الضعيف، لأنه لا يفيد إلا الظن المرجوح اتفاقاً، فكيف يجوز العمل بمثله"1. وأما الذين قَوَّوه بعمل الناس إلى يومنا هذا، كقول ابن الصلاح: "ولكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام قديماً": فلا شكَّ أن العمل الذي يُعَوَّلَ عليه، ويُجعل الحديث بمقتضاه مقبولاً، هو عمل العلماء، وليس عمل كل أحد. ثم إنَّ أهل الشام وحدهم لا يمثلون الأمة كلها - أو علماء الأمة - حَتَّى يُجعل عملهم حجةً على الأمة. هذا بالإضافة إلى شِدَّة ضعفِ هذا الحديث، وجهالة رواته، وإنكار أكثر العلماء له، حتى قال الشيخ الألباني: "منكر ... إن لم يكن موضوعاً". وكم من حديث ضعيف لا يثبت قد عمل به عاملون، فهل يلزم من هذا أن تُتَّخَذَ البدع ديناً بحجة أن الناس يعملونها؟؟ كلاَّ، ففيما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم كفايةٌ. ثم إن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد قال نحواً من ذلك!! فإنه وإن ضَعَّفَ الحديث كما مضى، إلا أنه قال في كتابه (الروح) 2: "فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار: كافٍ في العمل به ... "!   1 السلسلة الضعيفة: (2/65) . (ص 16) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، مع أنه يَنْفِي أن يكون ذلك من هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول في (زاد المعاد) 1: "ولم يكن - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - يجلس عند القبر، ولا يُلَقِّنُ الميت كما يفعله الناس اليوم". مع ما تقدم من تضعيفه لهذا الحديث، فلعله كان يقول به أولاً ثم رجع عنه، فالله أعلم. فالخير كل الخير في اتِّبَاع هَدْيِه صلى الله عليه وسلم في الفِعْلِ والتَّرْكِ، وما أحسن ما قال الصنعاني رحمه الله: "ويَتَحَصَّل من كلام أئمة التحقيق: أنه حديث ضعيف، والعملُ به بدعة، ولا يُغْتَرُّ بكثرة من يفعله"2. والله أعلم.   (1/522) . 2 سبل السلام: (2/157) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 9- من كتاب النكاح 1- باب في البكر لا تزوج إلا برضاها 72- (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ جَاريةً بِكْرَاً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وِهِي كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النبي صلى الله عليه وسلم". أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث مستدلاً به على أن البكر البالغ لا تجبر على النكاح، ولا تُزَوَّج إلا برضاها. وقد ردَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - على من أَعَلَّ هذا الحديث بالإرسال، فقال: "وليس رواية هذا الحديث مرسلة بعِلَّةٍ فيه؛ فإنه قد رُوِيَ مسنداً ومرسلاً، فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادة، ومن وصله مُقَدَّمٌ على من أرسله: فظاهر، وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث، فما بال هذا خرج عن حكم أمثاله؟ وإِنْ حَكَمْنَا بالإرسال - كقول كثير من الْمُحَدِّثِين - فهذا مرسل قويٌّ قد عَضَّدَتْهُ الآثار الصحيحة الصريحة، والقياس، وقواعد الشرع ... فَيَتَعَيَّنُ القول به"1. وفد فَصَّلَ القول فيه بأكثر من ذلك في (تهذيب السنن) 2، وسيأتي ذكر كلامه في ذلك إن شاء الله.   1 زاد المعاد: (5/96 - 97) . (3/40 - 42) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 والحديث المذكور أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3، كُلُّهم من طريق: حسين بن محمد4، عن جرير بن حازم، عن أيوب5، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما به، باللفظ الذي تَقَدَّمَ. وفي رواية للدارقطني: "أَنَّ جَارِيَةً بِكْرَاً أَنْكَحَهَا أبوهَا وهي كارهة، فَخَيَّرَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد خُولِفَ جرير بن حازم في إسناد هذا الحديث، خالفه: حماد ابن زيد، وابن علية، فروياه عن: أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. أخرج حديث حماد: أبو داود في (سننه) 6 - ومن طريقه البيهقي7-:   1 د: (2/576) ك النكاح، باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها. س: في الكبرى: (5/176) ح 5366 ك النكاح. جه: (1/603) ح 1875 ك النكاح، باب من زَوَّجَ ابنته وهي كارهة. (1/273) . 3 قط: (3/234) ح 56. هق: (7/117) . 4 ابن بهرام، التميمي، أبو أحمد - أو أبو عليُّ - المَرُّوذي، نزيل بغداد، ثقةٌ، من التاسعة، مات سنة 213هـ / ع. (التقريب 168) . 5 هو السختياني. (2/577) ح 2097. (7/117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 حدثنا محمد بن عبيد1، حدثنا حماد بن زيد به. وأما رواية ابن علية: فقد أشار إليها أبو حاتم2 رحمه الله. وقد رَجَّحَ الأئمة رواية الإرسال، وحكموا على الرواية المتصلة بالخطأ، فسأل ابن أبي حاتم أباه عنه؟ فقال: "هذا خطأ، إنما هو كما رواه الثقات: عن أيوب، عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلٌ - منهم: ابن عُلَيَّة، وحماد بن زيد - أن رجلاً تزوج، وهو الصحيح. قلت: الوَهْمُ ممن هو؟ قال: من حسين ينبغي أن يكون، فإنه لم يرو عن جرير غيره"3. وقال أبو زرعة: "حديث أيوب ليس هو بصحيح"4. وكأنَّ أبا داود - رحمه الله - يُرَجِّحُ إرساله أيضاً؛ فإنه بعد أن أخرج الموصول، أعقبه الرواية المرسلة من طريق حماد، ثم قال: "وكذلك رواه الناس: مرسلاً، معروف". وقال البيهقي: "أخطأ فيه جرير بن حازم على أيوب السختياني، والمحفوظ: عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً". لكن هل يُسَلَّمُ الحكم للمرسل، وتكون بذلك الرواية الْمُتَّصِلَةُ معلولة؟ نَازَعَ في ذلك جماعة - منهم ابن القَيِّم رحمه الله، كما تقدم - فحكموا بصحة رواية من وصله، وسيأتي كلامهم.   1 ابن حَسَّاب، الغبري، البصري، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة 238هـ / م د س. (التقريب 495) . 2 علل ابن أبي حاتم: (1/417) . 3 المصدر السابق. 4 المصدر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 وكان من جواب ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا القول - وبخاصة مقالة البيهقي - أن قال: "وعلى طريقة البيهقي، وأكثر الفقهاء، وجميع أهل الأصول: هذا حديث صحيح؛ لأن جرير بن حازم ثقة ثبت، وقد وَصَلَهُ، وهم يقولون: زيادة الثقة مقبولة. فما بالها تُقْبَلُ في موضع - بل في أكثر المواضع التي توافقُ مذهب المقلد - وَتُرَدُّ في موضع يخالفه؟! وقد قَبلُوا زيادة الثقة في أكثر من مائتين من الأحاديث: رفعاً ووصلاً، وزيادة لفظ ونحوه". قال: "هذا لو انفرد به جرير، فكيف وقد تابعه على رفعه عن أيوب: زيد بن حبان، ذكره ابن ماجه في سننه"1. قلت: أما متابعة زيد بن حبان2 هذه: فقد أخرجها النسائي، وابن ماجه في (سننيهما) 3، كلاهما من طريق: مُعَمَّر بن سليمان الرَّقِي4، عن زيد بن حبان به، وقد أشار إلى هذه الرواية: الدارقطني - رحمه الله - في (سننه) 5.   1 تهذيب السنن: (3/40) . 2 الرَّقِي، كوفي الأصل، مولى ربيعة، صدوق كثير الخطأ، وتَغَيَّر بآخره، من السابعة، مات سنة 158 هـ / س ق. (التقريب 222) . 3 س: في الكبرى: (5/177) ح 5367. جه: (1/603) ح 1875 مكرر. 4 أبو عبد الله، ثقة فاضل، أخطأ الأزدي في تليينه، وأخطأ من زعم أن البخاري أخرج له، من التاسعة، مات سنة 191هـ / ت س ق. (التقريب 541) . (3/235) ح 57. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 وزيد بن حبان هذا: قد اختلف الأئمة فيه، فقال الإمام أحمد: "تركنا حديثه"1. وقال ابن معين: "لا شيء"2. ومرة قال: "ثقة"3. وقال أبو حاتم: "تركنا حديثه"4. وضعفه الدارقطني5. وقال ابن عدي: "لا أرى برواياته بأساً، يحمل بعضها بعضهاً"6. وقال ابن حبان: "كان ممن يخطئ كثيراً، حتى خرج عن حدِّ الاحتجاج به إذا انفرد"7. ومع ذلك فقد ذكره في (الثقات) ! 8. وإضافة إلى ذلك، فإنه قد تَغَيَّرَ بآخره، لكنَّ معمراً الرقي - راوي هذا الحديث عنه - قال: "حدثنا زيد بن حبان قبل أن يفسد"9. وعلى كل حال، فإن الذي يظهر: ترجيح جانب الجرح في حقه، وقد أورد ابن حبان هذا الحديث في ترجمته من (المجروحين) ، بعد أن حكم بعدم قبول ما انفرد به. وقد رُوِيَ هذا الحديث عن زيد بن حبان، عن أيوب على وجه آخر، فأخرجه الدارقطني في (سننه) 10 من طريق: معمر بن سليمان   1 تهذيب التهذيب: (3/405) . 2 الجرح والتعديل: (1/2/561) . 3 عزاه في الميزان: (2/101) ، والتهذيب: (3/405) لرواية الدارمي عن، يحيى، ولم أجده فيه. 4 الجرح والتعديل: (1/2/561) . 5 تهذيب التهذيب: (3/405) . 6 الكامل: (3/205) . 7 المجروحين: (1/311) . (6/317) . 9 الجرح والتعديل: (1/2/561) . 10 (3/235) ح 57. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 الرقي، عن زيد بن حبان، عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة قال: "أَنْكَحَ رَجُلٌ من بني المنذر ابنته وهي كارهة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فردَّ نكاحها". فجعل فيه "يحيى بن أبي كثير" مكان "عكرمة"، و"وأبا سلمة" مكان "ابن عباس". وليس فيه أن المرأة كانت بكراً. فَيُخْشَى أن يكون هذا من الاضطراب في حديث حبان، وإذا كان كذلك، فإنه لا يصلح متابعاً لجرير بن حازم في هذا الحديث؛ لأنه - مع كونه كثير الخطأ - قد يكون اضطرب فيه، فالله أعلم. وثمة متابعة أخرى لجرير بن حازم، إذ تابعه الثوري عن أيوب، أخرج ذلك الدارقطني في (سننه) 1، من طريق: أيوب بن سويد2، عن سفيان الثوري، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رجلاً زَوَّجَ ابنته وهي كارهة، ففرق بينهما". وأيوب بن سويد: ضَعَّفَه الجمهور3، وتكلموا في حفظه، ومع ضعفه: فقد خولف - أيضاً - في هذا الحديث، قال الدارقطني: "وغيره يرسله عن الثوري، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح مرسل"4. وقد رُوِيَ عن الثوري من وجه آخر موصولاً، ولا يصحُّ أيضاً؛   (3/235) ح 58. 2 الرملي، أبو مسعود الحِمْيَرِي، السَّيباني، صدوق يخطئ، من التاسعة، مات سنة 293هـ / د ت ق. (التقريب 118) . 3 انظر: تهذيب التهذيب: (1/405 - 406) . 4 سنن الدارقطني: (3/235) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 فأخرجه الدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 1 من طريق: عبد الملك بن عبد الرحمن2 الذماري، عن الثوري، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ نكاح بكرٍ وثيبٍ، أنكحهما أبوهما وهما كارهتان، فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم نكاحهما". قال الدارقطني عقبه: "هذا وهمٌ من الذماري، وتَفَرَّدَ بهذا الإسناد، والصواب: عن يحيى بن أبي كثير، عن المهاجر، عن عكرمة مرسلٌ، وَهِمَ فيه الذماري عن الثوري، وليس بقويٍّ". ثم ساقه بإسناده إلى محمد بن كثير3، عن سفيان، عن هشام الدستوائي، عن يحيى، عن المهاجر، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء4. قال البيهقي في (سننه) 5 - بعد نقله كلام الدارقطني -: "هو في جامع الثوري: عن الثوري - كما ذكره أبو الحسن الدارقطني رحمه الله - مرسلاً، وكذلك رواه عامة أصحابه عنه، وكذلك رواه غير الثوري عن هشام".   1 قط: (3/234) ح 53. هق: (7/117) . 2 ابن هشام، أبو هشام الذَّماري، الأبْنَاوي، صدوقٌ كان يُصَحِّفُ، من التاسعة/د س. (التقريب 363) . 3 العبدي، البصري، ثقة لم يُصِبْ من ضَعَّفَهُ، من كبار العاشرة، مات سنة 223هـ/ع. (التقريب 504) . 4 سنن الدارقطني: (3/234) ح 55. (7/117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 قلت: فهذا محمد بن كثير العبدي - وهو ثقة - قد خالف الذماري عن سفيان، فجاء به مرسلاً، وهكذا يرويه أصحاب الثوري عنه، كما قال البيهقي رحمه الله - والدارقطني قبله - وإذا كان كذلك: فإن رواية الثوري هذه لا تَصْلُحُ لمتابعة رواية جرير بن حازم أيضاً؛ إذ إن الصواب عن الثوري فيها: مرسلٌ، فتوافق رواية الجماعة الذين جاءوا به عن أيوب، عن عكرمة مرسلاً. وأما ما تقدم في كلام أبي حاتم - رحمه الله - من أن الوهم فيه من حسين بن محمد: فقد رَدَّهُ الخطيب البغدادي رحمه الله، فنقل عنه ابن عبد الهادي قوله:"قد رواه سليمان بن حرب، عن جرير بن حازم -أيضاً- كما رواه حسين، فبرئت عهدته، وزالت تبعته"1. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يمتنع أن يكون الوهم فيه من جرير بن حازم، وأن يكون قد أخطأ فيه، كما تقدم في كلام البيهقي رحمه الله. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث لا يصحُّ متصلاً، وأن إرساله هو الصواب، كما قال: أبو داود، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني، والبيهقي رحمهم الله تعالى. وقد ذهب بعض الأئمة إلى صحة الحديث، فقال ابن القطان: "حديث صحيح"2. وذهب ابن التركماني إلى أن وصله زيادة من ثقة، فلا يضرُّ إرسال من أرسله، هذا مع المتابعات التي وُجِدَتْ له3. وقال   1 نصب الراية: (3/190) . 2 المصدر السابق. 3 الجوهر النقي: (7/117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 الحافظ ابن حجر: "رجاله ثقات ... وأما الطَّعْنُ في الحديث فلا معنى له؛ فإن طرقه يُقَوِّي بعضها بعضاً"1. وقال في (عون المعبود) 2: "الحديث قويٌّ حسنٌ". وقد ذهب البيهقي رحمه الله - على فرض صحة الحديث - إلى تأويله، فقال: "وإن صحَّ ذلك، فكأنه كان وَضَعَهَا في غير كفوٍ، فَخَيَّرَهَ النبي صلى الله عليه وسلم"3. وأَيَّدَه ابن حجر، فقال: "وهذا الجواب هو المعتمد، فإنها واقعة عين، فلا يثبت الحكم فيها تعميماً"4. لكن ردَّ الصنعاني هذا التأويل، فقال: "كلام هذين الإمامين محاماة عن كلام الشافعي ومذهبهم، وإلا فتأويل البيهقي لا دليل عليه، فلو كان كما قال لذكرته المرأة ... وقول المصنف - يعني ابن حجر - إنها واقعة عين: كلام غير صحيح، بل حُكْمٌ عامٌ لعموم عِلَّتِه، فأينما وُجِدت الكراهية ثبت الحكم"5. وقال صاحب (عون المعبود) 6: "ما قاله البيهقي هو تأويل فاسد". وإذ قد آل الأمر إلى ثبوت المرسل في ذلك دون سواه، فإنه كما قال ابن القَيِّم رحمه الله:" ... مرسلٌ قويٌّ، قد عضدته الآثار   1 فتح الباري: (9/196) ، وانظر: التلخيص الحبير: (3/161) . (6/223) . 3 سنن البيهقي: (7/118) . 4 فتح الباري: (9/196) . 5 سبل السلام: (3/160) . (6/223) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 الصحيحة الصريحة، والقياس، وقواعد الشَّرْع ... فيتعين القول به"1. ثم أخذ - رحمه الله - في تقرير ذلك وبيانه، وأن هذا الحُكْمَ2 موافق لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في قول: " ... والبكر تُسْتَأَذَنُ في نفسها" 3. قال رحمه الله: "وهذا أمرٌ مُؤَكَّدٌ؛ لأنه وَرَدَ بصيغة الخبر الدال على تحقق المُخْبَرِ به، وثبوته ولزومه". قلت: وعلى هذا يُحْمَل كلام من صححه من الأئمة. ثم بَيَّنَ أن هذا الحكم موافق - أيضاً - لنهيه صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "لا تنكحُ البكْرُ حَتَّى تُستأذن" 4. قال رحمه الله: "فأمرٌ، ونَهْيٌ، وحكمٌ بالتخيير، وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطُّرقِ"5. ثم أخذ في تقرير كون هذا الحكم موافق لقواعد الشريعة، فأجاد وأفاد رحمه الله. ومع هذا فإنَّ المسلك الذي سلكه ابن القَيِّم - رحمه الله - من القول بصِحَّةِ هذا الحديث متصلاً، فيه نظر؛ لضعف طرقه، ورجحان   1 زاد المعاد: (5/97) . 2 وهو: تخييرُ البِكْرِ التي زَوَّجَهَا وليها وهي كارهة. 3 أخرجه مسلم في الصحيح: (2/1037) ح 1421 ك النكاح، باب استئذان الثيب ... والبكر بالسكوت. 4 أخرجه البخاري في الصحيح: ك النكاح، باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما، ح 5136، (فتح الباري: 9/191) ، ومسلم: (ح1419) . 5 زاد المعاد: (5/97) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 المرسل عليه، ولذا فإنَّ المصير إلى اختياره الآخر هو المتعين، وهو: الأخذُ بالمرسل بعد اعتضاده بنصوص أخرى صحيحة، وبقواعد الشريعة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 2- باب ما جاء في العزل 73- (2) عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إِنَّ لِيَ جَارِيَة وَأَنَا أَعْزِلُ1 عَنْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أن تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرْيدُ ما يريد الرِّجَال، وإِنَّ اليهودَ تُحَدِّثُ أنَّ العَزْلَ الْمُوْؤُدَةُ الصَّغْرَى؟ قال: "كَذَبَتِ يهودُ، لو أراد اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ". أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (زاد المعاد) 2 محتجاً به على جواز العزل، وقد ساقه بإسناد أبي داود إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ثم قال:"وَحَسْبُكَ بهذا الإسناد صحَّةً، فَكُلُّهم ثقات حُفَّاظٌ". ثم ذكر - رحمه الله - أن بعضهم أَعَلَّهُ بالاضطراب، وأخذ في الجواب عن ذلك بما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. قلت: هذا الحديث مداره على يحيى بن أبي كثير، واخْتُلِفَ عليه على أوجه: الوجه الأول: أخرجه أبو داود في (سننه) 3 من طريق: أبان بن   1 عَزَلَ الْمُجَاِمُع: إذا قَارَبَ من الإنزال، فَنَزَعَ وأَمْنَى خارج الفَرْجِ. (المصباح المنير 2/408) . (5/144) . (2/623) ح 2171. ك النكاح، باب ما جاء في العزل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 يزيد1. وأحمد في (مسنده) 2، والنسائي في (عشرة النساء) 3 كلاهما من طريق: هشام الدستوائي. وأخرجاه أيضاً - أعني أحمد4 والنسائي5 - في الكتابين المذكورين: من طريق: علي بن المبارك6. وأخرجه النسائي - وحده – في (عشرة النساء) 7 - أيضاً - من طريق: أبي إسماعيل القَنَّاد8، كلهم عن: يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان9، عن رفاعة10 - وقيل: عن أبي رفاعة، وقيل: عن أبي مُطيع بن رفاعة، وقيل: عن أبي مُطيع بن عوف أحد بني رفاعة بن الحارث، وقيل: عن أبي مُطيع   1 العطار البصري، أبو يزيد، ثقة له أفراد، من السابعة، مات في حدود سنة160هـ/ خ م د ت س. (التقريب 87) . (3/51، 53) . (ص 171) ح 194 باب العزل. 4 المسند: (3/33) . 5 عشرة النساء: (ح 195، 196) . 6 الهُنائي، ثقة، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار السابعة/ ع. (التقريب 404) . (ح197) . 8 هو: إبراهيم بن عبد الملك البصري، صدوق في حفظه شيء، من السابعة/ ت س. (التقريب 91) . 9 العَامِرِي - عامر قريش - المدني، ثقة، من الثالثة/ ع. (التقريب 492) . 10 مقبول، من الثالثة/ د. (التقريب 210) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 فقط - عن أبي سعيد - رضي الله عنه به. واللفظ المثبت هو لفظ أبي داود، وألفاظ الباقين نحوه، وعند بعضهم: "لو أراد الله خَلْقَهُ، لم تستطعْ رَدَّهُ". وهذا الإسناد صَحَّحَّه ابن القَيِّم كما تقدَّم، وقال عن رواته: "كلهم ثقات حفاظ". وقال الحافظ ابن حجر: "رجاله ثقات"! 1 وصَحَّحَّه الشيخ الألباني أيضاً!! 2. وفي تصحيحهم له نظر؛ لأن رفاعة - أو أبا رفاعة - المذكور في إسناده مجهول؛ فإنه لم يرو عنه أحدٌ إلا محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، ولم أجدْ فيه توثيقاً لأحدٍ بعد البحث، وقد ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 3، فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وكذا البخاري في (التاريخ الكبير) 4، فلم يزيدوا على أن ذكروا الاختلاف الواقع في اسمه، ولذلك قال الذهبي رحمه الله: "لا يُعْرَفْ"5. وتقدم فيه قول ابن حجر: "مقبول". يعني حيث يُتابع، ولم يتابعه أحدٌ هنا، فيكون لَيِّن الحديث على هذا. هذا فيما يتعلق بحال رفاعة، وأما ما وقع من الاختلاف في اسمه، فقال ابن القَيِّم: "ويبقى الاختلاف في اسم أبي رفاعة ... وهذا لا يَضُرُّ مع العلم بحال رفاعة"6 ولكن رَجَّحَ البخاري - رحمه الله - أنه   1 بلوغ المرام مع شرحه سبل السلام: (3/191) ح 12. 2 آداب الزفاف: (ص 131) . 3 كتاب الكنى: (4/2/31) . (4/2/31) . 5 الميزان: (4/574) ، والمغني: (2/808) . 6 زاد المعاد: (5/144) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 "أبو مطيع"، قال: "وهذا أصحُّ"1. فقد تَبَيَّنَ لنا مما سبق أن جهالة رفاعة هذا تمنع من تصحيح هذا الإسناد. وأما الوجه الثاني من وجوه اختلاف على يحيى بن أبي كثير: فأخرجه الترمذي في (جامعه) 2، والنسائي في (عشرة النساء) 3، وعبد الرزاق في (المصنف) 4، كلهم عن: معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر رضي الله عنه بنحو حديث أبي سعيد المتقدم. قال أبو عيسى الترمذي: "حديث جابر حديث حسن صحيح، وقد رُوِيَ عنه من غير وجه". وسُئِلَ أبو حاتم - رحمه الله - عن حديث جابر هذا من رواية معمر، وعن حديث أبي سعيد المتقدم من رواية هشام الدستوائي وغيره؟ فقال: "حديث هشام الدستوائي أشبه من حديث معمر"5. وهناك وجهٌ ثالث عن يحيى بن أبي كثير أيضاً: أخرجه النسائي في (عشرة النساء) 6 من طريق: المعتمر بن سليمان، عن أبي عامر7، عن   1 التاريخ الكبير (كتاب الكنى) : (4/2/31) . (3/433) ح 1136. ك النكاح، باب ما جاء في العزل. (ح193) . (7/140) ح 12550. 5 علل ابن أبي حاتم: (1/437) ح 1314. (ح 198) . 7 هو: صالح بن رستم المُزَني مولاهم، الخَزَّاز، البصري، صدوقٌ كثيرُ الخطأِ، من السادسة، مات سنة 152هـ / خت م 4. (التقريب 272) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن اليهود تقول: إن العزل هو الموؤدة الصغرى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبتْ يهود، لو أردَ الله خَلْقَهَا، لَمْ تستطعْ عزلها". وأبو عامر المذكور في إسناد هذا الحديث تَكَلَّمَ فيه جماعةٌ، وَوَثقَهُ آخرون1، لكن تابعه في شيخ شيخه: أبو بدر شجاع بن الوليد2، فرواه عن: محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مختصراً، أخرجه البيهقي في (سننه) 3. وهذا الإسناد لا بأس به في المتابعات، وقد حَسَّنَهُ الشيخ الألباني4 رحمه الله. وقد أعلَّ بعضهم هذا الحديث بالاضطراب، كما أشار إلى ذلك ابن القَيِّم رحمه الله، ولعل المقصود هو المنذري رحمه الله، فإنه قال: "اختلف على يحيى بن أبي كثير فيه: فقيل فيه: عنه، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله ... ، وقيل فيه: عن رفاعة ... ، وقيل: عن أبي مطيع به رفاعة، وقيل فيه: عن أبي رفاعة"5. قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وهذا لا يَقْدَحُ في الحديث؛ فإنه   1 انظر: تهذيب التهذيب: (4/391) . 2 ابن قيس السَّكُوني، الكوفي، صدوق وَرِعٌ له أوهامٌ، من التاسعة، مات سنة 204هـ/ ع. (التقريب 264) . (7/230) . 4 آداب الزفاف: (ص131) . 5 مختصر السنن: (3/86) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 يكون عند يحيى: عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر. وعنده: عن ابن ثوبان، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - كذا قال ابن القَيِّم - وعنده: عن ابن ثوبان عن رفاعة، عن أبي سعيد، ويبقى الاختلاف في اسم أبي رفاعة ... "1. والذي يظهر - والله أعلم - رجحان ما ذهب إليه أبو حاتم من تقديم رواية هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير بسنده إلى أبي سعيد؛ فقد تابع هشاماً على هذه الرواية ثلاثة، وخالفهم جميعاً معمر فجعله عن جابر. ولكن يبقى هذا الإسناد معلولاً بجهالة رفاعة كما تقدم. وكأنَّ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - مال إلى اختيار أبي حاتم، فإنه أجاب عن القائلين باضطرابه قائلاً: "وَرُدَّ بأن الاختلاف إنما يقدح حيث لا يقوى بعض الوجوه، فمتى قَوِيَ بعضها عُمِلَ به، وهو هنا كذلك"2. فيكون الاعتماد إذن على حديث أبي سعيد هذا، وما فيه من ضَعْفٍ في إسناده: فإنه يَتَقَوَّى بحديث أبي هريرة السالف - وهو الوجه الثالث من وجوه رواية الحديث عن يحيى بن أبي كثير -، فهو شاهدٌ قويٌّ له، وقد تقدم أن إسناده حسنٌ. ويتقوى كذلك بسائر الأحاديث الواردة في جواز العزل، وعدم النهي عنه.   1 زاد المعاد: (5/144) . 2 فتح الباري: (9/309) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 فَيَتَلَخَّصُ من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يُصبْ في تصحيحه إسناد حديث أبي سعيد، لِمَا تََقَدَّمَ، وما ذهب إليه من التوفيق والجمع بين الروايات المختلفة عن يحيى بن أبي كثير فيه نظرٌ؛ إذ تبين رُجْحَانُ رواية أبي سعيد على غيرها، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 المجلد الثالث الباب الثالث: دراسة جملة من الأحاديث المختارة مما تكلم عليه ابن القيم من كتاب الطلاق 1 ـ باب ما جاء في المحلل والمحلل له ... 10- من كتاب الطلاق 1 - باب ما جاء في المحلّل والمحلّل له ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله – حديث لعن الْمُحَلِّلَ والْمُحَلَّلَ لَهُ عن جماعة من الصحابة، منهم: 74 - (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَعَنَ الله الْمُحَلِّلَ والْمُحَلَّلَ لَهُ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "رواه الإمام أحمد بإسناد رجاله كلهم ثقات"1. وقال مرة: "إسناده حسن"2. ومرة قال: "إسناد جيد"3ونقل عن البخاري أنه حكم بحُسْنِهِ. قلت: هذا الحديث أخرجه أحمد في (مسنده) 4، وابن أبي شيبة في (مصنفه) 5، وابن الجارود في (المنتقى) 6، والبيهقي في (سننه) 7، والترمذي في (العلل) 8، كلهم من طريق:   1 إغاثة اللهفان: (1/270) . 2 زاد المعاد: (5/109) . 3 إعلاء الموقعين: (3/44) . (2/323) . (4/296) ك النكاح، باب الرجل يطلق امرأته، فيتزوجها رجل ليحلها له. (ح 684) . (7/208) . (1/437) ، باب ما جاء في الْمُحَلِّلَ والْمُحَلَّلَ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 عبد الله بن جعفر1، عن عثمان بن محمد2، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وقد وقع عند أحمد والترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لَعَنَ"، أما ابن الجارود والبيهقي فعندهما: "لعن الله ... ". قال الترمذي: "سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث حسنٌ، وعبد الله بن جعفر المخرمي صدوق ثقةٌ، وعثمان بن محمد الأخنس ثقة"3. وقال الزيلعي: "عبد الله بن جعفر: وَثَّقَهُ أحمد، وابن المديني، وابن معين، وغيرهم، وأخرج له مسلم في صحيحه. وعثمان بن محمد الأخنس: وثقه ابن معين، وسعيد المقبري: متفق عليه، فالحديث صحيح"4. وقال الحافظ ابن حجر: "رجاله مُوَثَّقُون"5. وقد نقل ابن القَيِّم عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: "إسناد جيد"6. قلت: وعثمان بن الأخنس هذا وثقه أيضاً: ابن حبان7، لكن قال   1 ابن عبد الرحمن بن المِسْوَر بن مخرمة، أبو محمد المدني، الْمَخْرَمِي، ليس به بأسٌ، من الثامنة، مات سنة 170هـ/ خت م 4. (التقريب 298) . 2 هو: الثقفي الأخنسي. 3 علل الترمذي: (1/437) . 4 نصب الراية: (3/240) . 5 الدراية: (2/73) ح 577. 6 إعلام الموقعين: (3/45) . 7 الثقات: (7/203) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 عليُّ بن المديني: "روى عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أحاديث مناكير"1. وليس هذا من روايته عن ابن المسيب، وقد تَقَدَّمَ توثيق ابن معين، والبخاري له، فحديثه صالح إن شاء الله. وأما قول ابن حبان: "يُعتبر حديثه من غير رواية المخرمي عنه؛ لأنًَّ المخرمي ليس بشيء في الحديث"2: فإنه قول عجيب، فإن عبد الله ابن جعفر المخرمي وَثَّقَهُ جماعةٌ وأثنوا عليه، منهم: أحمد، والنسائي، وأبو حاتم، وابن معين، وابن المديني، والعجلي، وابن خراش، والترمذي، والبرقي، والحاكم، مع ما تقدم من توثيق البخاري - رحمه الله - له. وانفرد ابن حبان بمقالته هذه، وزاد فقال: "كان كثير الوَهْمِ في الأخبار، حتى يروي عن الثقات ما لا يُشْبِه حديث الأثبات ... "3. كذا قال رحمه الله! ولذلك قال ابن حجر مُعَقِّباً على مقالته هذه: "وكأنه أراد غيره فالتبس عليه"4. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث حسنٌ على أقل أحواله، وأن إسناده جَيِّدٌ لا غبار عليه، كما حكم بذلك ابن القَيِّم رحمه الله. وقد رُوِيَ هذا الحديث على وجه آخر، ذكره ابن أبي حاتم في   1 تهذيب التهذيب: (7/152) . 2 الثقات: (7/203) . 3 المجروحين: (2/27) . 4 تهذيب التهذيب: (5/173) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 (علله) 1من طريق: مروان الطَّاطري، عن عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن سعيد المقبري به، قال أبو حاتم: "إنما هو: عبد الله بن جعفر، عن عثمان الأخنسي". يعني الإسناد الماضي. ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر: 75 - (2) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا أُخْبِرُكُم بالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "هُو الْمُحَلِّلَ. لعن الله الْمُحَلِّلَ والْمُحَلَّلَ لَهُ". ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - أن هذا الحديث أُعِلَّ بثلاث عللٍ، وهي: 1- ضَعْفُ مِشْرَح بن هاعان، ضَعَّفَهُ ابن حبان. 2- عدمُ سماع اللَّيْثِ بن سعد هذا الحديث من مِشْرَح بن هاعان. 3- إنكارهم هذا الحديث على عثمان بن صالح، راويه عن الليث بن سعد. ثم أخذ ابن القَيِّم - رحمه الله - في الجواب عن هذه العلل واحدةً واحدةً، حتى أتى عليها2. وقال مرة: "رواه ابن ماجه بإسناد رجاله كُلُّهم موثوقون، لم يُجْرَح واحدٌ منهم"3.   (1/413) ح 1237. 2 إعلام الموقعين: (3/45 - 46) . 3 إغاثة اللهفان: (1/270) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 وهناك علة رابعة أُعِلَّ بها حديث عقبة هذا، ولم يذكرها ابن القَيِّم رحمه الله، وسيأتي التنبيه عليها إن شاء الله. قلت: هذا الحديث أخرجه: ابن ماجه في (سننه) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طريق: عثمان بن صالح4. وأخرجه: الطبراني في (معجمه الكبير) 5، والدارقطني في (سننه) 6، والحاكم في (المستدرك) 7 - وعنه البيهقي8- من طريق: أبي صالح9كاتب الليث، كلاهما عن: الليث بن سعد، عن مشرح بن هاعان10، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعاً باللفظ المتقدم.   (1/623) ح 1936 ك النكاح، باب المحلل والمحلل له. (2/198) . (7/208) . 4 ابن صفوان السَّهْمي مولاهم، أبو يحيى المصري، صدوق، من كبار العاشرة، وقد ثَبَتَ عنه أنه قال: رأيت صحابياً من الجِنِّ، مات سنة 219هـ/ خ س ق. (التقريب 384) . (17/299) ح 825. (3/251) ح 28. (2/199) . 8 السنن: (7/208) . 9 هو: عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني، أبو صالح المصري، صدوقٌ كثيرُ الغلط، ثَبْتٌ في كتابه، وكانت فيه غَفْلَةٌ، من العاشرة، مات سنة 222هـ / خت د ت ق. (التقريب 308) . 10 المعافري، المصري، أبو مصعب، مقبولٌ، من الرابعة، مات سنة 128هـ / عخ د ت ق. (التقريب 532) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وإلى مناقشة العلل التي أُعلَّ بها هذا الحديث: أما ضَعْفُ مِشْرَح بن هاعان: فقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك بقوله: "قال محمد بن عبد الواحد المقدسي: مشرح قد وَثَّقَهُ يحيى بن معين ... وابن معين أعلم بالرِّجَال من ابن حبان". ثم قال: "وهو صدوق عند الحفاظ، لم يتهمه أحدٌ ألبتة، ولا أَطْلَقَ عليه أحدٌ من أهل الحديث - قطُّ - أنه ضعيفٌ، ولا ضَعَّفَهُ ابن حبان، وإنما قال: يَروي عن عقبة بن عامر مناكير لا يتابعُ عليها، فالصَّواب ترك ما انفردَ به1. وانفرد ابن حبان من بين أهل الحديث بهذا القول فيه"2. قلت: وإضافة إلى توثيق ابن معين3له: فقد وَثَّقَهُ العجلي، فقال: "مصري تابعي ثقة"4. وقال الإمام أحمد: "معروف"5ولم يزد. وقال ابن عديّ: "لا بأس به"6. وقال عثمان الدارمي: "صدوق"7. وَوَثَّقَهُ ابن القطان8. وقال الذهبي: "ثقة"9. ومرة قال: "صدوق"10. وَوَثَّقَهُ   1 المجروحين: (3/28) . 2 إعلام الموقعين: (3/45) . 3 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص204) رقم 755. 4 تاريخ الثقات: (ص429) . 5 الجرح والتعديل: (4/1/431 - 432) . 6 الكامل: (6/470) . 7 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص 204) رقم 755. 8 بيان الوهم والإيهام: (3/504) . 9 الكاشف: (3/129) . 10 الميزان: (4/117) .، والمغني: (2/659) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 الحافظ ابن حجر1رحمه الله. وقال الشيخ الألباني: "والمتقرر فيه: أنه حسن الحديث"2. وقد تَكَلَّمَ فيه: عثمان الدارمي، فقال - عقب نقله توثيق ابن معين له -: "ومشرح ليس بذاك"3. وقد سبق قوله فيه: "صدوق". فظهر بذلك أنَّ مِشْرحاً هذا لم يضعفه أحدٌ من أهل الشأن، بل الأمر على خلاف ذلك، وانفراد ابن حبان بالكلام فيه لا يوهنه، بل هو صدوق عند الأكثرين، نعم: ليس هو في الدرجة العليا من التوثيق، ومع ذلك فإن حديثه لا يقلُّ عن درجة الحسن، كما قَرَّرَهُ الشيخ الألباني. وأما العلة الثانية: وهي عدم سماع الليث هذا الحديث من مشرح: فقد أعله بذلك البخاري، ويحيى بن عبد الله بن بكير. أما كلام البخاري فقد نقله ابن القَيِّم، وهو في (علل الترمذي) 4، إذا سأله عنه الترمذي؟، فقال: "عبد الله بن صالح - أحدُ رواته عن الليث - لم يكن أخرجه في أيامنا، ما أرى الليث سمعه من مشرح بن هاعان؛ لأن حيوة روى عن: بكر بن عمرو، عن مشرح". وأما ابن بكير، فإنه لَمَّا ذكره له أبو زرعة قال: "لم يسمعْ الليث من مشرح شيئاً، ولا روى عنه شيئاً"5.   1 فإنه قال عنه: "رواته موثوقون". (الدراية 2/73) . 2 إرواء الغليل: (6/310) . 3 تاريخ الدارمي: (ص 204) رقم 755. (1/438) . 5 علل ابن أبي حاتم: (1/411) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن كلام البخاري، فقال: "فعبد الله بن صالح قد صَرَّحَ بأنه سمعه من الليث، وكونه لم يخرجه وقتَ اجتماع البخاري به لا يَضُرُّهُ شَيئاً"1. وأما قول البخاري: إن حيوة بروي عن بكر بن عمرو، عن مشرح: فقال ابن القَيِّم: "يريد به أن حيوة من أقران الليث أو أكبر منه، وإنما روى عن بكر بن عمرو عن مشرح، وهذا تعليل قوي، ويؤكده أن الليث قال: قال مشرح، ولم يقل: حدثنا". قال: "وليس بلازم؛ فإن الليث كان معاصراً لمشرح، وهو في بلده، وطلبُ الليثِ العلمَ وجمعهُ لم يمنعه ألا يسمع من مشرح حديثه عن عقبة بن عامر، وهو معه في البلد"2. كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، وفاته أن الليث صَرَّحَ بسماعه من مشرح، وبتحديث مشرح له، ففي رواية ابن ماجه قوله: "قال لي مشرح". وفي رواية الحاكم: "سمعت مشرح بن هاعان"، وقول الراوي: (قال لي) في منزلة قوله: (حدثنا) . وقد أجاب الأئمة بذلك، وأولهم الحاكم: فإنه بعد أن أخرج رواية عثمان بن صالح، عن الليث، قال: "وقد ذكر أبو صالح - كاتب الليث - عن ليث سماعه من مشرح بن هاعان". فساقه بإسناده. وقال   1 إعلام الموقعين: (3/45 - 46) . 2 المصدر السابق: (3/46) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 الزيلعي - رداً على ما نقله أبو زرعة عن ابن بكير -: "قوله في الإسناد: قال لي أبو مصعب: يردُّ ذلك"1. وقال ابن حجر: "ووقع التصريح بسماعه في رواية الحاكم، وفي رواية ابن ماجه عن الليث: قال لي مشرح"2. وأما العلة الثالثة، وهي إنكارهم هذا الحديث على عثمان بن صالح: فقد أجاب عنه ابن القَيِّم بما نقله عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله، حيث قال: "وإنكار من أنكر هذا الحديث على عثمان غير جيد، وإنما هو لِتَوَهُّمِ انفراده به عن الليث، وظنهم أنه لعله أخطأ فيه، حيث لم يبلغهم عن غيره من أصحاب الليث، كما قد يتوهم بعض من يكتب الحديث: أن الحديث إذا انفرد به عن الرجل من ليس بالمشهور من أصحابه، كان ذلك شذوذاً فيه وعلة قادحة، وهذا لا يَتَوَجَّهُ هاهنا لوجهين: أحدهما: أنه قد تَابَعَهُ عليه أبو صالح - كاتب الليث - عنه ... الثاني: أن عثمان بن صالح هذا المصري نفسه روى عنه البخاري في (صحيحه) ، وروى عنه ابن معين، وأبو حاتم الرازي، وقال: هو شيخ صالحٌ سليمٌ التَأْدِيَةِ. قيل له: كان يُلَقَّن؟ قال: لا. ومن كان بهذه   1 نصب الراية: (3/239) . 2 التلخيص الحبير: (3/ 171) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 المثابة، كان ما ينفرد به حُجَّةً، وإنما الشاذ ما خالف به الثقات، لا ما انفرد به عنهم، فكيف إذا تابعه مثل أبي صالح، وهو كاتب الليث، وأكثر الناس حديثاً عنه؟ وهو ثقة أيضاً، وإن كان قد وقع في بعض حديثه غلط"1. فهذا فيما يتعلق بجواب ابن القَيِّم وغيره من الأئمة على هذه العلل. وأما العلة التي لم يتعرض لها ابن القَيِّم: فهي ما نقله أبو زرعة الرازي، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، أنه قال: " ... لم يسمع الليث من مشرح شيئاً ... وإنما حدثني الليث بن سعد بهذا الحديث: عن سليمان بن عبد الرحمن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم". يعني مرسلاً، قال أبو زرعة: "والصواب عندي: حديث يحيى"2. يعني ابن بكير. قلت: أما القول بعدم سماع الليث من مشرح شيئاً، فقد تقدم ما فيه، وأن الليث صَرَّحَ بتحديث مشرح له، وسماعه منه. وأما هذه الرواية المرسلة: فابن بكير أثبت من غيره في الليث، بل قال ابن عدي: "أثبت الناس فيه"3. ومع ذلك فإن رواية عثمان بن صالح له عن: الليث، عن مشرح، عن عقبة. ومتابعة أبي صالح له على هذه الرواية، يجعل من الصعب الحكم على روايتهما - وقد تتابعا - بالخطأ،   1 إعلام الموقعين: (3/46) . 2 علل ابن أبي حاتم: (1/411) . 3 كما في تهذيب التهذيب: (11/238) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وعلى ذلك: فيحتمل أنه يُروى عن الليث على الوجهين: وقد يُقال أيضاً: لعل عثمان بن صالح، وأبا صالح كاتب الليث قد وقع لهما خطأ في هذا الحديث. فإن صحَّ هذا الاحتمال الأخير، وقيل: إن الصواب في هذا الحديث الإرسال، فإن ذلك لا يضرُّ، ويعتضد - حينئذ - بما تقدم من مسند أبي هريرة وغيره من الأحاديث الواردة في هذا المعني. ولذلك فقد صححه بعض الأئمة، وحَسَّنَهُ آخرون، قال الحاكم: "حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وصححه الزيلعي من طريق ابن ماجه1. وقال عبد الحق: "إسناده حسن"2. ووافقه ابن القطان، لكن قال: "ولم يبينْ المانع من صِحَّتِهِ"3. وقال ابن تيمية رحمه الله: "حديث جيد، وإسناده حسن"4. وحَسَّنَهُ ابن الملقن5. فالذي يطمئن إليه القلب: أن هذا الحديث حسنٌ إن سَلِمَ من علة الإرسال، فإن التصقت به هذه العلة، فإنه يعتضد بشواهد عديدة في هذا الباب، وبذلك يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في تقوية هذا الحديث ودفع العلل عنه، والله أعلم.   1 نصب الراية: (3/239) . 2 المصدر السابق. 3 بيان الوهم والإيهام: (3/504) . 4 إعلام الموقعين: (3/46) . 5 البدر المنير: ج 5 (ق 220/أ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 2- باب المبتوتة: هل تجب لها السكنى والنفقة؟ 76 - (3) قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "إِنَّمَا النَّفَقَةُ والسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ". ذهب ابن القَيِّم إلى أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سُكْنى، مُسْتَدِلاً بهذا الحديث، فقال: "وروى النسائي في سننه هذا الحديثَ بطرقه وألفاظه، وفي بعضها - بإسناد صحيح لا مَطْعَنَ فيه -: فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما النفقة والسُّكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة". ورواه الدارقطني، وقال: فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وقال: "إنما السُّكنى والنفقة لمن يملك الرجعة". وروى النسائي - أيضاً - هذا اللفظ، وإسنادهما صحيح"1. قلت: هذا الحديث الذي ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - مداره على الشعبي، عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها. ويرويه عن الشعبي جماعةٌ: فأخرجه الدارقطني في (سننه) 2، والخطيب في (الفصل للوصل   1 زاد المعاد: (5/525 - 526) . (4/23) ح 67. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 المدرج في النقل) 1، كلاهما من طريق: يعقوب بن إبراهيم2. وأخرجه الطبراني في (الكبير) 3من طريق: أبي عبيد القاسم بن سلاَّم4. كلاهما عن: هشيم بن بشير5، عن: سَيَّار6، وحصين7، ومغيرة8، وأشعث9، وداود10، ومجالد، وإسماعيل بن أبي خالد11، كُلُّهم عن:   (2/860) ح 110. 2 ابن كثير بن زيد بن أفلح العَبْدِي مولاهم، أبو سيف الدَّوْرَقي، ثقة، من العاشرة، مات سنة 252هـ، وكان من الحفاظ/ ع. (التقريب 607) . (24/379) ح 938. 4 البغدادي، ثقةٌ فاضلٌ، مُصَنِّفٌ، من العاشرة، مات سنة 224هـ / خت د ت. (التقريب 450) . 5 ابن القاسم بن دينار السُّلَمِي، أبو معاوية، الواسطي، ثِقَةٌ ثَبْتٌ كثير التدليس والإرسال الخفيِّ، من السابعة، مات سنة 183هـ/ ع. (التقريب 574) . 6 ابن أبي سَيَّار العنزي، ثقةٌ، وليس هو الذي يروي عن طارق بن شهاب، من السادسة، مات سنة 122هـ/ ع. (التقريب 262) . 7 ابن عبد الرحمن السلمي، أبو الهذيل الكوفي. 8 ابن مقسم الضَّبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفي، الأعمى، ثقةٌ متقن، إلا أنه كان يُدَلِّس، ولاسيما عن إبراهيم، من السادسة، مات سنة 136هـ/ع. (التقريب 543) . 9 ابن سوَّار الكندي، النجار، الأفرق، الأثرم، صاحب التوابيت، قاضي الأهواز، ضعيف، من السادسة، مات سنة 136هـ/ بخ م ت س ق. (التقريب 113) . 10 هو: ابن أبي هند القشيري. 11 الأحمسي مولاهم، البجلي، ثقةٌ ثبت، من الرابعة، مات سنة 146هـ/ ع. (التقريب 107) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 الشعبيِّ قال: دخلت على فاطمة بنت قيس، فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: طَلَّقَهَا زوجها ألبتة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وقال: "إِنَّمَا السّكْنَى والنَّفَقَة لِمَن يَمْلِكُ الرَّجعة". هذا سياق الدارقطني، ولفظ الباقين بنحوه. وقد ضَعَّفَ الأئمة هذه الزيادة، وَوَهَّمُوا فيها مجالد بن سعيد، وأنه انفرد بها دون هؤلاء الجماعة الذين رووه عن الشعبي، وإن شاركوا مجالداً في روايته للحديث كما مضى. قال الخطيب البغدادي: "أدرج يعقوب بن إبراهيم الدورقي رواية هذا الحديث، أو أدرجه هشيم له لما حَدَّثَ به، وذلك أن قوله: "إِنَّمَا السُّكْنَى والنَّفَقة لِمَن يَمْلِكُ الرَّجعة" لم يَذْكُرْهُ واحد من الجماعة الْمُسَمَّين عن الشعبي، إلا مجالد بن سعيد وحده"1 ومما استدلوا به على انفراد مجالد بذلك: أولاً: أنَّ هذا الحديث يُروى عن هشيم بالإسناد السابق بعينه، وليس فيه هذه الزيادة. أخرج ذلك: مسلم في (صحيحه) 2: حدثني زهير ابن حرب، وأحمد في (مسنده) 3، كلاهما عن: هشيم، عن الجماعة الْمُسَمَّين قبل، عن الشعبي، عن فاطمة بالحديث السابق.   1 الفصل للوصل المدرج في النقل: (2/860) ح 110 - 1. (2/1117) ح 1480 (42) . ك الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها. (6/416) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 ثانياً: أنَّ الحسن بن عرفة1رواه عن هشيم، عن هؤلاء النفر، عن الشعبي، عن فاطمة به، فَمَيَّزَ هذه الكلمات، وبَيَّنَ أنها عن مجالد وحده دون باقي الجماعة، أخرج ذلك ونبه عليه: الدارقطني في (سننه) 2، والخطيب في (الفصل) 3. فقال الدارقطني - عقب إخراجه رواية يعقوب بن إبراهيم المتقدم ذكرها -: "خالفه الحسن بن عرفة، جَعَل آخر الحديث عن مجالد وحده، عن الشعبي". ثم ساقه بإسناده إلى الحسن بن عرفة، بالإسناد السابق، وفي آخره: "قال هشيم: قال مجالد في حديثه: إنما السكنى والنفقة لمن كان لها على زوجها الرجعة". ثالثاً: وُجدت هذه الرواية بهذه الزيادة عن مجالد وحده، غير مقرون مع الجماعة الماضي ذكرهم، وذلك من رواية جماعة عنه، منهم: شعبة، ويحيى القطان، وحماد بن زيد، وابن عيينة، وعبدة بن سليمان، وسعيد بن يزيد البجلي، ثم هشيم نفسه. أخرج الحميدي في (مسنده) 4 رواية ابن عيينة، وأخرج الإمام أحمد في (مسنده) 5 رواية هشيم، وأخرج هو6والخطيب في (الفصل)   1 ابن يزيد العبدي، أبو علي البغدادي، صدوق، من العاشرة، مات سنة 257هـ/ ت س ق. (التقريب 162) . (4/24) ح 68. (ص 816) . (1/176) ح 363. (6/415) . 6 مسند أحمد: (6/416) . (ص 815) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 رواية عبدة بن سليمان، وأخرج الطبراني في (الكبير) 1 رواية حماد بن زيد، ورواية شعبة، وأخرج كذلك رواية سعيد البجلي2، وأخرج الإمام أحمد رواية يحيى القطان3، كلهم عن: مجالد بن سعيد، عن الشعبي، فذكر الحديث بطوله، وفي بعض ألفاظه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "انظري يا ابنة آل قيس: إنما النفقة السكنى ... " 4. قال ابن القطان رحمه الله - بعد أن ساق روايتي سفيان بن عيينة، وعبدة بن سليمان -: "فهذه رواية مجالد، وإذا قُرِنَ بالجماعة تَوَّهم من يراه أن الزيادة المذكورة من رواية جميعهم، وقد تَبَيَّنَ أنهم لم يرووها، ولهشيم في التدليس صنعة محذورة في مثل هذا ... "5. ثم قال رحمه الله: "وإذا قد تَبَيَّنَتْ رواية الجماعة دون الزيادة، ورواية مجالد دونهم بالزيادة: تَحَقَّقَ فيها الرَّيْب، ووجب لها الضَّعْفُ بضعفِ مجالد المنفرد بها"6. ومع ذلك فقد وُجدت لمجالد متابعات على روايته الحديث بهذه الزيادة، فمن هذه المتابعات:   (24/379) ح 936، 937. 2 المعجم الكبير: (24/382) ح 948. 3 المسند: (6/373، 416 - 417) . 4 لفظ رواية يحيى عند أحمد. 5 بيان الوهم والإيهام: (4/476) . 6 بيان الوهم والإيهام: (4/477) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 1- ما أخرجه النسائي في (سننه) 1من طريق: سعيد بن يزيد2الأحمسي، حدثنا الشعبي، حدثتني فاطمة بنت قيس به. وهذه الرواية هي التي أشار إليها ابن القَيِّم رحمه الله، وصحح إسنادها، وسبق نقل كلامه أول البحث. ورواه قاسم بن أصبغ بالإسناد نفسه، كما نقل ذلك عنه ابن القطان3. وسعيد بن يزيد هذا: قال فيه أبو حاتم: "شيخ، يروى عنه"4. وقال ابن معين: "ثقة"5. وذكره ابن حبان في (الثقات) 6. وَضَعَّفَهُ ابن القطان، فقال: "لم تثبت عدالته"7. وَأَقَرَّهُ الذهبي8على ذلك، ولم ينقل فيه توثيق ابن معين، ونقل عن أبي حاتم كلمة "شيخ"فقط، فكأنه يختار ضعفه؟ وقال الحافظ ابن حجر: "وقد تابع بعض الرواة ... مجالداً، لكنه أضعف منه"9. فلا أدري: هل يقصد سعيد بن يزيد هذا، أم غيره؟   (6/144) ك الطلاق، باب الرخصة في التطليق بثلاث مجتمعة. 2 البَّجَلي، ثم الأحمسي، الكوفي، صدوق، من السابعة/ س. (التقريب 242) . 3 بيان الوهم والإيهام: (4/477) . 4 الجرح والتعديل: (2/1/74) . 5 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/209) . (6/373) . 7 بيان الوهم والإيهام: (4/477) . 8 الميزان: (2/163) . 9 فتح الباري: (9/480) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وعلى كل حال، فالذي يظهر من حال الرجل أنه إلى التوثيق أقرب منه إلى التضعيف، نعم ليس هو الدرجة العليا من التوثيق، كما يُشعر به كلام أبي حاتم، ولكنه - مع ذلك - لا يخرج عن كونه صدوقاً يُعتبر بحديثه ويستشهد به. لكن أشار الحافظ الذهبي إلى إعلال هذه المتابعة، فقال في ترجمته: " ... عن الشعبي بحديث فاطمة في المبتوتة ... أتى في الحديث بألفاظ قد اختلف في ثبوتها"1. وتقدم كلام ابن حجر قبل قليل في غَمْزِ هذه المتابعة - إن كان يعنيها -. 2- ما أخرجه الطبراني في (الكبير) 2من طريق: أبي نعيم، عن زكريا ابن أبي زائدة3، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس بنحو ما تقدم. وزكريا هذا وإن كان ثقة، فإنه مدلس، وقد أكثر منه عن الشعبي خاصةً، كما قال أبو زرعة: "صويلح، يُدَلِّس كثيراً عن الشعبي"4. وقال أبو حاتم: "لين الحديث، كان يُدَلِّس ... ويقال: إن المسائل التي يرويها زكريا لم يسمعها من عامر - يعني الشعبي - إنما أخذها من أبي حريز"5.   1 الميزان: (2/163) . (24/378) ح 935. 3 ابن ميمون بن فيروز الهمداني الوادعي، أبو يحيى الكوفي، ثقة، وكان يُدَلِّس، وسماعه من أبي إسحاق بآخرة، من السادسة، مات سنة 147هـ أو غيرها/ ع. (التقريب 216) . 4 الجرح والتعديل: (1/2/594) . 5 المصدر السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 ورماه بالتدليس غير هؤلاء1. قلت: وقد عَنْعَنَ زكريا في هذا الإسناد، فاحتمال تدليسه قويٌّ، وبخاصة أن روايته هنا عن الشعبي. فهذا هو حال هذه المتابعة، ولكنها إذا ضُمَّتْ إلى طرق هذا الحديث، فإنها تصلح لتقويته. 3- وثمة متابعة ثالثة، وهي من رواية: جابر الجعفي، عن الشعبي به، أخرجه الدارقطني في (سننه) 2. وجابر مكشوف الحال، لا يحتجُّ بمثله. فيبقى من هذه المتابعات: رواية سعيد الأحمسي، ورواية زكريا ابن أبي زائدة، وهما وإن كانتا لا تخلوان من ضعف، فإنهما قد تصلحان لتقوية حديث مجالد في إثبات هذه الزيادة، فينتفي بذلك القول بتفرد مجالد برفع هذه الزيادة. ولعلَّ ذلك ما يوضح وجه تصحيح ابن القَيِّم - رحمه الله - للحديث بهذه الزيادة، ولو جُعل من قبيل الحسنِ لكان أنسب، والله أعلم.   1 انظر: طبقات المدلسين: (ص62) ، وتهذيب التهذيب: (3/330) . (4/22) ح 62. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 3- باب من قال: إن لها السكنى والنفقة ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديث عمر رضي الله عنه في الإنكار على فاطمة بنت قيس، وهو: 77- (4) عن عمر رضي الله عنه، أنه قال - لما ذُكِرَ له قول فاطمة -: "لا نترك كتاب الله، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عزوجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] . قال ابن القَيِّم: "قد أعَاذَ الله أمير المؤمنين من هذا الكلام الباطل، الذي لا يصحُّ عنه أبداً. قال الإمام أحمد: لا يصحُّ ذلك عن عمر"1. وقال مرة: "ولم يصح عن عمر أنه قال: لا ندعُ كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة؛ فإن أحمد أنكره، وقال: أما هذا فلا، ولكن قال: لا نقبل في ديننا قول امرأة"2. قلت: هذا الحديث يُروى من حديث: الأسود بن يزيد3، عن   1 زاد المعاد: (5/539) . 2 تهذيب السنن: (3/191) . 3 ابن قيس النخعي، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن، ومخضرم، ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ، من الثانية، مات سنة 74 أو 75هـ / ع. (التقريب 111) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 عمر رضي الله عنه، ورواه عن الأسود جماعة: فأخرجه مسلم في (صحيحه) 1، وأبو داود في (سننه) 2، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3 من طريق: أبي أحمد الزبيري4عن عَمَّار بن رُزَيق5، عن أبي إسحاق6، عن الأسود بن يزيد به. وفيه قول أبي إسحاق: كنت مع الأسود بن يزيد جالساً في المسجد الأعظم، فَحَدَّثَ الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة. ثم أخذ الأسود كَفّاً من حصى فحصبه به، فقال: ويلك! تُحَدِّثُ بمثل هذا؟! قال عمر ... فذكره. هذا سياق مسلم. وخالف أبا أحمد الزبيري: يحيى بن آدم، فرواه عن عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن الأسود به، فلم يذكر فيه: "وَسُنَّةَ نَبيِّنَا". أخرجه   (2/1118) ح 1480 (46) . ك الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها. (2/717) ح 2291. ك الطلاق، باب من أنكر ذلك على فاطمة. 3 قط: (4/25) ح 70. هق: (7/475) . 4 هو: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأسدي، الكوفي، ثقة ثبت إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري، من التاسعة، مات سنة 203هـ/ ع. (التقريب 487) . 5 الضَّبّي، أو التميمي، أبو الأحوص الكوفي، لا بأس به، من الثامنة، مات سنة 159هـ/ م د س ق. (التقريب 407) . 6 هو السَّبِيعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 الدارقطني في (سننه) 1من طريق يحيى، وقال عقبه: " ... وهذا أصحُّ من الذي قبله؛ لأنَّ هذا الكلام لا يثبت، ويحيى بن آدم أحفظ من أبي أحمد الزبيري وأثبت منه، والله أعلم". وقال - رحمه الله - في (العلل) 2: "وكذلك رواه يحيى بن آدم - وهو أحفظ من أبي أحمد الزبيري وأثبت منه - عن عمار بن رزيق ... لم يقل فيه: "وَسُنَّةَ نَبيِّنَا". وهو الصواب". وذكر الدارقطني أيضاً: أَنَّ قبيصة3 قد تابع يحيى بن آدم على روايته، ثم ساقه بإسناده إلى قبيصة بمثل قول يحيى بن آدم سواء. هذا ما يتعلق برواية أبي إسحاق السبيعي عن الأسود. وقد روى من حديث: الأعمش، عن إبراهيم4، عن الأسود به. رواه عن الأعمش جماعة، منهم: أسباط بن محمد، ومحمد بن فضيل5، وحفص بن غياث6.   (4/25) ح 71. (2/141) . 3 ابن عقبة بن محمد بن سفيان السوائي. 4 هو: النخعي. 5 ابن غزوان، الضبي مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق عارف، رُمي بالتشيع، مات سنة 195هـ/ ع. (التقريب 502) . 6 ابن طلق بن معاوية النخعي، أبو عمر الكوفي، ثقةٌ فقيه تَغَيَّرَ حفظه قليلاً في الآخر، مات سنة 194 أو 195هـ/ ع. التقريب (173) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 فأخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) 1من طريق: حفص بن غياث، ومحمد بن فضيل، كلاهما عن: الأعمش به، ولفظه عن عمر: "لا نُجِيز قول المرأة في دين الله، المطلقة ثلاثاً لها السكنى والنفقة". وأخرجه الدارقطني في (سننه) 2 - ومن طريقه البيهقي3- من طريق: محمد بن فضيل، عن الأعمش به، ولفظه عن عمر رضي الله عنه: "لا نَدَعُ كتاب الله لقول امرأة لعلها نَسِيَتْ". وأخرجه الدارقطني - أيضاً - في (سننه) 4من طريق: أسباط بن محمد ومحمد بن فضيل، كلاهما عن الأعمش به، ولفظه كالذي قبله. هكذا رواه هؤلاء عن الأعمش، عن إبراهيم بدون زيادة قوله: "وَسُنَّةَ نَبيِّنَا". وذكر الدارقطني - رحمه الله - أنه اخْتُلِفَ فيه على حفص بن غياث عن الأعمش، فرواه طلق بن غنام عن حفص، عن الأعمش، فقال فيه: "وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا". فَوَهِمَ على حفص في ذلك؛ لأن الذين رووه عن حفص بدون هذه الزيادة أثبت منه وأحفظ5.   (5/146) . (4/24) ح 69. (7/475) . (4/27) ح 75. 5 علل الدارقطني: (2/141) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 وقد رُوِيَ عن إبراهيم، عن الأسود من غير طريق الأعمش، فأخرجه الدارقطني في (سننه) 1 من طريق: أشعث بن سَوَّار، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر رضي الله عنه به، وفيه الزيادة المذكورة. قال الدارقطني - رحمه الله - عقبه: "أشعث بن سَوَّار ضعيف الحديث، ورواه الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، ولم يقل: "وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا" ... والأعمش أثبت من أشعث وأحفظ منه". وقال في (علله) 2: "وليست هذه اللفظة التي ذكرت فيه محفوظة، وهي قوله: "وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا"؛ لأن جماعة من الثقات رووه عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، أن عمر قال: لا نجيز في ديننا قول امرأة. ولم يقولوا فيه: وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا". فهذه طرق هذا الحديث إلى الأسود بن يزيد، وقد بَيَّنَ الدارقطني - رحمه الله - أن الصواب فيها عدم ذكر قوله "وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا"، وكذا لم يصححه الإمام أحمد رحمه الله، فقد سأله عنه أبو داود فقال: "قلت: يصحُّ هذا عن عمر رضي الله عنه؟ قال: لا"3. وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى كلام الإمام أحمد هذا، كما تقدم نقله عنه أول البحث. فتلخص من ذلك: أن الصواب ما اختاره ابن القَيِّم - رحمه الله -   (4/27) ح 74. (2/141) . 3 مسائل أبي داود للإمام أحمد: (ص 184) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 من عدم صحَّة ذلك عن عمر رضي الله عنه، وأن الصواب في ذلك عن عمر قوله: "لا نجيز قول المرأة في دين الله". وعلى فرض ثبوت اللفظ الأول عن عمر رضي الله عنه، فإن الصواب فيه: "لا ندع كتاب ربنا" وأما قوله: "وسنة نَبيِّنَا" فلم يثبت ذلك عنه، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 4- باب في عدة أم الولد 78- (5) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه قال: "لا تَلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّة نَبِيِّنَا، عِدَّةُ المتوفى عنها: أَرْبَعَة أَشْهُرٍ وَعَشْرَاً" يعني أم الولد. استدل بهذا الحديث من ذهب إلى أن عدة أم الولد هي عدة الحُرَّة، وقد استعرض ابن القَيِّم - رحمه الله - الأقوال في المسألة، ثم بَيَّنَ أن الصواب من ذلك: أنها تعتد بحيضة واحدةٍ؛ فإن هذا إنما هو لمجرد الاستبراء لزوال الملك عن الرقبة، فلذلك كان كسائر استبراءات المعتقات، والمسبيات، والمملوكات، ثُمَّ أَخَذَ في بيان ضَعْفِ حديث عمرو بن العاص، فَذَكَرَ أن فيه عللاً: أحدها: انقطاعه بين قبيصة بن ذؤيب وعمرو بن العاص؛ فإنه لم يسمع منه. ثانيها: أن الصواب فيه الوقف على عمرو بن العاص. ثالثها: اضطرابه، فقد رُوِيَ عن عمرو بن العاص على ثلاثة أوجه1. قلت: هذا الحديث أخرجه: أبو داود، وابن ماجه في (سننيهما) 2، وابن أبي شيبة في (مصنفه) 3- ومن طريقه: ابن حبان في   1 زاد المعاد: (5/721 - 723) ، وانظر تهذيب السنن: (3/203 - 204) . 2 د: (2/730) ح 2308. جه: (1/673) ح 2083، كلاهما في: ك الطلاق، باب عدة أم الولد. (5/162) ك الطلاق، باب ما قالوا في عدة أم الولد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 (صحيحه) 1، وابن الجارود في (المنتقى) 2 - والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، كلهم من طريق: سعيد بن أبي عروبة، عن مطر بن طهمان5، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب6، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه به. واللفظ المتقدم لفظ أبي داود، ولفظ ابن أبي شيبة، وابن حبان، وابن الجارود: "لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد عدة المتوفى عنها زوجها". وليس عند ابن الجارود كلمة: "زوجها". ووقع عند ابن ماجه: "لا تُفْسِدُوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد أربعة أشهر وعشراً". وقد ضُعِّفَ هذا الإسناد من أجل مطر بن طهمان، فقال المنذري: "وفي إسناده مطر بن طهمان أو رجاء الورَّاق، وقد ضعفه غير واحد"7.   1 الإحسان: (6/250) ح 4286. 2 ح (769) . 3 قط: (3/309) ح 246. هق: (7/447 - 448) . (2/209) . 5 الوَرَّاق، أبو رجاء السُّلَمِي مولاهم، الخراساني، سكن البصرة، صدوقٌ كثيرُ الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف، من السادسة، مات سنة 125هـ، ويقال: 129هـ/ خت م 4. (التقريب 534) . 6 ابن حلحلة الخُزَاعي، أبو سعيد أو أبو إسحاق، المدني، نزيل دمشق، من أولاد الصحابة، وله رؤية، مات سنة بضع وثمانين/ ع. (التقريب 453) . 7 مختصر السنن: (3/205) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ولم يوافق ابن القَيِّم - رحمه الله - على تضعيف الحديث به، فإنه نقل أقوال بعض العلماء في تضعيفه، ثم قال: "وبعد، فهو ثقة، قال أبو حاتم الرازي: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في كتاب (الثقات) ، واحتجَّ به مسلم، فلا وجه لِضَعْفِ الحديثِ به"1. والحقُّ: أن مطراً هذا قد ضَعَّفَهُ الأكثرون، واحتمله بعضهم، ولا يصل بحالٍ إلى رتبة الثقة، كما قال ابن القَيِّم، فقد شَبَّهَهُ يحيى القطان بابن أبي ليلى في سوء الحفظ، ووافقه على ذلك الإمام أحمد2. وضَعَّفَهُ غير واحد من الأئمة في عطاء خاصة3. وقال ابن سعد: "كان فيه ضَعفٌ في الحديث"4. وقال النسائي: "ليس بالقويّ"5. وقال أبو داود: "ليس هو عندي بحجة، ولا يُقْطَعُ به في حديث إذا اختلف"6. وسئل عنه أبو زرعة، فقال: "صالح". قال ابن أبي حاتم: "كأنه لَيَّنَ أمره"7. وقال ابن حبان: "ربما أخطأ"8.   1 زاد المعاد: (5/722) . 2 تهذيب التهذيب: (10/168) . 3 تهذيب التهذيب: (10/168) . 4 تهذيب التهذيب: (10/169) . 5 الضعفاء والمتروكين: (ص98) . 6 تهذيب التهذيب: (10/169) . 7 الجرح والتعديل: (4/1/288) . 8 الثقات: (5/435) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 فهذه أقوال مُضَعِّفِيهِ، وقد وَثَّقَهُ آخرون: فقال ابن معين1، وأبو زرعة2: "صالح". وقال أبو حاتم: "صالح الحديث"3. وقال العجلي: "صدوق"4. وقال مرة: "لا بأس به"5. وقال البزار: "ليس به بأس ... ولا نعلم أحداً ترك حديثه"6. وقال السَّاجي: "صدوق يهم"7. وقال الذهبي: "ثقة تابعيّ"8. وقال مرة: " ... من رجال مسلم، حسن الحديث"9. فَتَبَيَّنَ من هذه الأقوال: أن الرَّجُل وإن ضَعَّفَهُ جماعة، إلا أن مثله تُحْتَمَلُ روايته، وبخاصة إذا تابعه غيره، ممن هو مثله أو أعلى رتبة، أما إذا خالف وانفرد: فالتوقف فيه أولى، كما ذهب أبو داود - رحمه الله - إلى ذلك؛ فإنه كان كثير الخطأ والوهم، سيئ الحفظ، يَتَّضِحُ ذلك من وضع يحيى القطان، والإمام أحمد له في مرتبة ابن أبي ليلى، وهو سيئ الحفظ جداً. وأما كونه من رجال مسلم: فقد جعله الحاكم ممن أخرج لهم مسلم   1 تهذيب التهذيب: (10/168) . 2 الجرح والتعديل: (4/1/288) . 3 المصدر السابق. 4 تاريخ الثقات - ترتيب الهيثمي: (ص430) . 5 تاريخ الثقات - ترتيب الهيثمي: (ص430) . 6 تهذيب التهذيب: (10/168 - 169) . 7 المصدر السابق: (10/169) . 8 المغني: (2/662) . 9 الميزان: (4/127) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 في المتابعات دون الأصول1. ولم ينفرد به مطرٌ هذا، وإنما تابعه قتادة، فأخرجه الإمام أحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3 من طريق: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن رجاء بن حيوة بالإسناد الماضي، ولفظه بنحو ما تقدم. وأخرجه الدارقطني في (سننه) 4 من طريق: سعيد، عن قتادة ومطر بن طهمان، كلاهما عن رجاء به. قال ابن حبان: "سمع هذا الخبر ابن أبي عروبة، عن قتادة ومطر الوراق، عن رجاء بن حيوة، فمرةً يُحَدِّثُ عن هذا، وأخرى عن ذلك"5. وهذه المتابعة - لاشك - تُقَوِّي روايته وتشدها؛ ولذلك فإن إعلال الحديث بمطر غير مقبول، من جهة عدم انفراده به، لا أنه ثقة كما ذهب ابن القَيِّم رحمه الله. لكن ماذا عن العلل الأخرى التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - لهذا الحديث، ورأى أنها المؤثرة دون الكلام في مطر؟ أما انقطاعه بين قبيصة بن ذؤيب، وعمرو بن العاص: فقد أَعَلَّهُ   1 تهذيب التهذيب: (10/168) . (4/203) . (7/447 - 448) . (3/309) ح 244. 5 الإحسان: (6/250) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 بذلك الدارقطني رحمه الله، فإنه قال: "وهو مرسل؛ لأنَّ قبيصة لم يسمع من عمرو"1 يعني أنه منقطع. ولم أر أحداً قال ذلك غير الدارقطني، - وتابعه ابن القَيِّم - بل روايته عن عمرو بن العاص مذكورة في (التهذيب) وغيره، وإنما تكلموا في روايته عن عمر بن الخطاب، ومع ذلك لم يجزموا بعدم سماعه منه، ففي (تهذيب الكمال) 2: "روى عن عمر بن الخطاب، ويقال: مرسل". فإذا كان سماعه من عمر بن الخطاب محتملاً - وقد تأخرت وفاته عن عمرو بن العاص بنحو عشرين سنة - فإمكان سماعه من عمرو من باب أولى. ولكن على القول باشتراط ثبوت اللقاء - وهو الأحوط - فإنه قد يتوجه الحكم بالانقطاع. وأما القول بأن الصواب فيه الوقف: فقد قال به الدارقطني أيضاً، فإنه أخرجه في (سننه) 3 من طريق: حفص بن غيلان4، عن سليمان بن موسى، أن رجاء بن حيوة حَدّثه، أن قبيصة حدثه، أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "عِدَّة أُمِّ الولد إذا تُوفي عنها سيدها: أربعة أشهر وعشراً، وإذا أُعْتِقَت: فعدتها ثلاثُ حِيَض". قال الدارقطني: "موقوف، وهو الصواب". وأخرجه مرة أخرى من طريق: الوليد بن مسلم، عن سعيد بن   1 سنن الدارقطني: (3/310) . وانظر: (ص 309) . (23/477) . (3/310) ح 248. 4 أبو معيد - مُصَغَّر - وهو بها أشهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 ساقطة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث لا يصحُّ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وغايته أن يكون من كلام عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - إعلاله فأصاب، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 11- من كتاب البيوع 1 - باب ما جاء في أداء الأمانة واجتناب الخيانة 79- (1) قوله صلى الله عليه وسلم: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ". أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث عند كلامه على مسألة الظَّفْر1، واستدل به على أنَّ من جُحِدَ له مالٌ، فَتَمَكَّنَ من مال الجاحد، فإنه لا يأخذ منه حقه إذا كان سبب الحق خفياً، بحيث يُتَّهَمُ بالأخذ، وينسب إلى الخيانة ظاهراً، وإن كان في الباطن آخذاً حَقَّه. وقد أورد هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وخلص إلى القول بأنه صحيح بشواهده2. قلت: هذا الحديث يُروى عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة، وأنس، ورجل سَمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم. وأذكرها فيما يلي حسب ترتيب ابن القَيِّم لها: عن يوسف بن ماهك قال: "كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم، فَأَدَّاهَا إليهم، فأدركت له من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك، قال: لا. حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ".   1 وهو: الفوز بالمطلوب. لسان العرب: (ص2750) . والمراد هنا: الظفر بِحَقِّهِ الذَّي سُلِبَ منه. 2 إغاثة اللهفان: (2/75 - 78) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 أخرجه أبو داود في (سننه) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والدولابي في (الكنى) 3، والبيهقي في (سننه) 4، كلهم من طريق: حميد الطويل، عن يوسف بن ماهك5 به، كذا هو عند أبي داود والدولابي باللفظ السابق، وأما أحمد فعنده: "كنت أنا ورجل من قريش نلي مال أيتام، ... " الحديث. وقد أخرج الدارقطني6 هذا الحديث، فقال فيه: عن حميد الطويل، عن يوسف بن يعقوب، عن رجل من قريش، عن أبي بن كعب ... بالمرفوع منه، دون ذكر القصة. فهل أبيُّ بن كعب رضي الله عنه هو الصحابيُّ الذي سَقَطَ في الطريق السابق؟؟ قد يكون ذلك محتملاً، ولكن يبقى الراوي عنه مجهولاً. ولذلك فقد أُعِلَّ هذا الحديث، فقال البيهقي - رحمه الله -: " ... في حكم المنقطع؛ حيث لم يذكر يوسف بن ماهك اسم من حَدَّثَهُ،   (3/804) ح 3534 ك البيوع والإجارات، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده. (3/414) . (1/63) . (10/270) . 5 ابن بهزاد، الفارسي، المكيِّ، ثقةٌ، من الثالثة، مات سنة 106هـ/ع. (التقريب611) . 6 في سننه: (3/35) ح 141. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 ولا اسم من حَدَّثَ عنه من حدثه"1. ولكن يقال: إن الجهل بحال الصحابي لا يضرُّ، فيبقى معلولاً بشيخ يوسف بن ماهك فقط. وأعلَّ ابن حجر طريق أبي بن كعب السالف، فقال: "وفي إسناده من لا يُعرف"2. ومع هذا فقد صححه ابن السكن، كما نقل ذلك عنه ابن حجر3، ولا يخفى ما فيه. وأشار ابن القَيِّم إلى عِلَّتِه هذه فقال: "وهذا وإن كان في حكم المنقطع، فإنه له شاهداً من وجه آخر"4. ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو: 80- (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَدِّ الأَمَانَةَ لِمَن ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ". وهذا أخرجه: أبو داود والترمذي في (سننيهما) 5، والدارمي في (مسنده) 6، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 7، والحاكم في   1 سنن البيهقي: (10/271) . 2 التلخيص الحبير: (3/97) . 3 المصدر السابق. 4 إغاثة اللهفان: (2/77) . 5 د: (3/805) ح 3535. ت: (3/555) ح 1264، ك البيوع، باب 38. (2/178) ح 2600، ك البيوع، باب في أداء الأمانة واجتناب الخيانة. 7 قط: (3/35) ح 142. هق: (10/271) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 (المستدرك) 1، والأصبهاني في (الترغيب والترهيب) 2، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 3، كلهم من طريق: طلق بن غَنَّام، عن شريك وقيس بن الربيع4، عن أبي حصين5، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وقد أَعَلَّ جماعةٌ هذا الحديث، فقال أبو حاتم في طلق بن غَنَّام: "روى حديثاً منكراً عن شريك وقيس، عن أبي حصين، عن أبي صالح ... ولم يرو هذا الحديث غيره"6. وقال البيهقي: "وحديث أبي حصين: تَفَرَّدَ به عنه شريك القاضي وقيس بن الربيع، وقيس ضعيف، وشريك لم يحتج به أكثر أهل العلم بالحديث، وإنما ذكره مسلم بن الحجاج في الشواهد"7. وقال ابن حزم: "هو من رواية: طلق بن غَنَّام، عن شريك وقيس بن الربيع، وكلهم ضعيف"8. وقد انفرد ابن حزم وحده بتضعيف   (2/46) . (1/120) ح 223، باب الترغيب في أداء الأمانة. (2/102) ح 973. 4 الأَسَدِي، أبو محمد الكوفي، صدوق تَغَيَّرَ لَمَّا كبر وأَدْخَلَ عليه ابنه ما ليس من حديثه فَحَدَّثَ به، من السابعة، مات سنة بضع وستين ومائة/ د ت ق. (التقريب 457) . 5 هو: عثمان بن عاصم بن حصين الأَسَدِي، الكوفي، ثقة ثبتٌ سُنِّيٌّ، وَرُبَّمَا دَلَّسَ، من الرابعة، مات سنة 127هـ ويقال بعدها/ ع. (التقريب 384) . 6 علل ابن أبي حاتم: (1/375) ح 1114. 7 سنن البيهقي: (10/271) . 8 الْمُحَلَّى: (8/647) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 طلق بن غَنَّام، ولم يشاركه في ذلك أحد1. وقال الترمذي: "حسن غريب". قال ابن القطان: "والمانع من تصحيحه: أن شريكاً، وقيس بن الربيع مختلفٌ فيهما"2. وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. قال الشيخ الألباني: "فيه نظرٌ؛ فإن شريكاً ... إنما أَخْرَجَ له مسلم في المتابعات"3. قلت: أما شريك وقيس بن الربيع، فقد تَكَلَّمَ الأئمة فيهما من جهة سوء حفظهما، ووجود الخطأ في حديثهما، ولكنَّ اقترانهما في هذا الإسناد يجعل كلَّ واحدٍ منهما يَتَقَوَّى بصاحبه، ولذلك قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وشريك ثقة، وقد قَوِيَ بمتابعة قيسٍ له، وإن كان فيه ضعفٌ"4. وقال ابن التركماني في قيس بن الربيع: "والقول فيه ما قال شعبة، وأنه لا بأس به، وأقلُّ أحواله: أن تكون روايته شاهدةً لرواية شريك"5. وقال الشيخ الألباني: "فأحدهما يُقَوِّي الآخر"6. وأما ما حكم به أبو حاتم من نكارة هذا الحديث، وأنَّ طلق بن غنام انفرد به، ولم يروه غيره: فلم يتبين لي ما وجه ذلك؛ فإن طلق   1 انظر: تهذيب التهذيب: (5/34) . 2 نصب الراية: (4/119) . 3 إرواء الغليل: (5/381) . 4 إغاثة اللهفان: (2/77) . 5 الجوهر النقي: (10/271) . 6 إرواء الغليل: (5/381) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 ابن غنام ثقة، فلو سلمنا انفراده، برواية ذلك، لم يكن من قبيل الشاذِّ ولا المنكر، فكيف وقد رُوِيَ الحديث من أوجه أخرى كثيرة؟ وقال الشيخ الألباني معقباً على كلام أبي حاتم هذا: "لعلَّ وجهه: أن طلقاً لم يثبت عند أبي حاتم عدالته، فقد أورده ابنه في الجرح والتعديل ... ثم لم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذلك مما لا يضرهُ، فقد ثبتت عدالته بتوثيق من وثقه، لاسيما وقد احتجَّ به الإمام البخاري في صحيحه"1. فالذي يترجح في حديث أبي هريرة هذا: ما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله من أنه وإن كان في إسناده ضعيفان، إلا أنه باقترانهما يُقَوِّي كلُّ منهما صاحبه، وينجبر الضعف الموسوم به كلٌّ منهما إذا انفرد. ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - شاهداً آخر لهذا الحديث، وهو: حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما تقدم، ثمَّ أشار إلي ضَعْفٍ في إسناده، إلا أنه - مع ذلك - يَصْلُحُ للاستشهاد به2. قلت: هذا الحديث أخرجه الطبراني في (المعجم الصغير) 3، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 4، والحاكم في (المستدرك) 5 كلهم من طريق:   1 إرواء الغليل: (5/382) . 2 إغاثة اللهفان: (2/77) . (1/171) . 4 قط: (3/35) ح 143. هق: (10/271) . (2/46) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 أيوب بن سويد، عن ابن شوذب1، عن أبي التيَّاح2، عن أنس رضي الله عنه به. قال الطبراني عقبه: " ... تَفَرَّدَ به أيوب، ولا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد". وقد ضَعَّفَهُ جماعة لأجل أيوب هذا، فقال البيهقي: "رواه أيوب بن سويد، وهو ضعيف"3. وقال ابن الجوزي: "فيه أيوب ابن سويد، قال ابن المبارك: ارم به. وقال يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة"4. وقال الحافظ ابن حجر: "وفيه أيوب بن سويد، مختلف فيه"5. قلت: لم أر فيه اختلافاً كثيراً، بل إنَّ الأئمة كالمجمعين على ضَعْفِهِ6، ولعلَّ أحسن ما قيل فيه هو قول ابن عديِّ رحمه الله، إذ قال: "له حديث صالح عن شيوخ معروفين، منهم: يونس بن يزيد بنسخة الزهري، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وابن جريج، والأوزاعي، والثوري، وغيرهم. ويقع في حديثه ما يوافقه الثقات عليه، ويقع فيه ما لا   1 هو: عبد الله بن شَوْذَبَ الخراساني، أبو عبد الرحمن، سكن البصرة ثم الشام، صدوق عابدٌ، من السابعة، مات سنة 156هـ أو 157هـ / بخ4. (التقريب 308) . 2 هو: يزيد بن حميد الضُّبَعي، بصريٌّ، مشهورٌ بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، من الخامسة، مات سنة 128هـ/ع. (التقريب 600) . 3 سنن البيهقي: (10/271) . 4 العلل المتناهية: (2/103) . 5 التلخيص الحبير: (3/97) . 6 انظر: تهذيب الكمال: (3/474 - 477) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 يوافقونه عليه، ويُكتب حديثه في جملة الضعفاء"1. وقال ابن حجر: "صدوق يخطئ". فمثله يُكْتَبُ حديثه للاعتبار، ويُسْتَشْهَدُ به إن وافقتْ روايته رواية غيره، كما قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "وأيوب بن سويد وإن كان فيه ضعف، فحديثه يَصْلُحُ للاستشهادِ به"2. ثم وقفت على متابعة جيدة لأيوب بن سويد هذا، وذلك فيما أخرجه الطبراني في (الكبير) 3 من طريق: ضمرة بن ربيعة4، عن ابن شوذب، عن أبي التياح، عن أنس رضي الله عنه به. فهذا "ضمرة بن ربيعة" - راوية ابن شوذب والمختص به5 - قد رواه عن ابن شوذب، متابعاً بذلك أيوب بن سويد في روايته السالفة. وَضَمُرَةُ هذا وَثقَهُ غير واحد من الأئمة6، وله أوهام قليلة - كما قال الحافظ ابن حجر: "يهم قليلاً" - لا تؤثر في ثقته وإتقانه،   1 الكامل: (1/363) . 2 إغاثة اللهفان: (2/77) . (1/234) ح 760. 4 الفلسطيني، أبو عبد الله، أصله دمشقي، صدوق يَهِمُ قليلاً، من التاسعة، مات سنة 202هـ/ بخ4. (التقريب 280) . 5 انظر: تهذيب التهذيب: (5/255) ترجمة عبد الله بن شوذب. 6 تهذيب التهذيب: (4/461) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 ومثله حديثه لا ينزل عن درجة الحسن، وانضمام رواية أيوب بن سويد السابقة إليه تزيده قوة، وقد صَحَّحَ الحافظ الهيثمي - رحمه الله - إسناد رواية ضمرة هذه، فقال: "رواه الطبراني في الكبير، والصغير، ورجال الكبير ثقات"1. فيصحُّ بهذه المتابعات حديث أنس، أو يكون حسناً على أقل أحواله، ولم أر أحداً أشار إلى هذه المتابعة أو نَبَّهَ عليها، ممن وقفت على كلامهم على هذا الحديث. ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - شاهداً آخر لهذا الحديث، وهو: حديث أبي أمامة رضي الله عنه. بنحو ما تقدم. وهو حديث ضعيفٌ، وممن نصَّ على ضعفه: الإمام البيهقي رحمه الله، فقال: "وهذا ضعيف، لأن مكحولاً لم يسمع من أبي أمامة شيئاً، وأبو حفص الدمشقي هذا: مجهول"2. وقال الحافظ ابن حجر: "رواه البيهقي ... بسند ضعيف"3. وبعد، فهذه طرق هذا الحديث - أو أشهرها - وهي لا تخلو من ضَعْفٍ، وبعضها أحسن من بعض، وبخاصة حديث أنس وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما، ولاشكَّ أن اجتماع هذه الطرق يُقَوَِّي هذا   1 مجمع الزوائد: (4/144 - 145) . 2 السنن: (10/271) . 3 التلخيص الحبير: (3/97) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 الحديث، وهذا ما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا البحث؛ إذ ساق هذه الشواهد كلها تَقْوِيةً لهذا الحديث. وقد أَيَّدَ ابنَ القَيِّم - رحمه الله - في ذلك جماعةٌ، فقال السخاوي عن طرق هذا الحديث: "لكن بانضمامها يقوى الحديث"1. وقال الشوكاني: "ولا يخفى أن وروده بهذه الطرق المتعددة، مع تصحيح إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها، وتحسين إمام ثالثٍ منهم، مما يصير به الحديث منتهضاً للاحتجاج"2. وقال الشيخ الألباني: "وجملة القول: أن الحديث بمجموع هذه الطرق ثابت"3. وقال مرة أخرى: "فالحديث من الطريق الأول - يعني طريق أبي هريرة - حسنٌ، وهذه الشواهد والطرق تُرَقِّيهِ إلى درجة الصحة،، لاختلاف مخارجها، ولخلوها عن متهم"4. وقد رمز له الحافظ السيوطي بالصحة في (الجامع الصغير) 5. هذا مع ما تقدم من تحسين الترمذي، وتصحيح الحاكم وغيره له. وأما ما ذهب إليه بعض الأئمة من تضعيف هذا الحديث، كقول الشافعي: "ليس بثابت عند أهل الحديث"6. وقول الإمام أحمد: "باطل،   1 المقاصد الحسنة: (ص76) . 2 نيل الأوطار: (5/335) . 3 إرواء الغليل: (5/383) . 4 السلسلة الصحيحة: (ح 424) . 5 مع فيض القدير: (1/223) ح 308. 6 سنن البيهقي: (10/271) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 لا أعرفه من وجه يصح"1. وقول ابن ماجه: "وله طرقٌ ستة كلها ضعيفة"2: فقد ظهر من هذه الدراسة أنَّ الأمر على خلاف ذلك، وأن هذا الحديث لا ينزل بحال من الأحوال عن درجة الحسن، إن لم يكن صحيحاً، ولذلك ردَّ الحافظ السَّخَاويُّ القول بضعف طرقه كلها قائلاً: "لكن بانضمامها يَقْوى الحديث". وقال الشيخ الألباني ردًّا على ذلك: "فما نُقِلَ عن بعض المتقدمين: أنه ليس بثابت، فذلك باعتبار ما وقع له من طرق، لا بمجموع ما وصل منها إلينا"3. وهذا كلامٌ جيد منه رحمه الله، ومثله قوله: "وهذه الشواهد والطرق ترقيه إلى درجة الصحة، لاختلاف مخارجها، ولخلوها عن متهم". وهذا هو الصواب، والله أعلم.   1 التلخيص الحبير: (3/97) . 2 المقاصد الحسنة: (ص 76) . 3 إرواء الغليل: (5/383) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 2- باب ما جاء من الرخصة في ثمن الكلب ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم بيع الكلب، وأن ذلك يشمل كلَّ كلب: صغيراً كان أو كبيراً، للصيد أو للماشية أو لغير ذلك. ثم تناول أدلة القائلين باستثناء كلب الصيد من هذا النهي، وناقش هذه الأدلة مبيناً ضعفها، فمن أدلة هذا الفريق: 81- (3) حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، إلاّ كَلْبَ صَيْدٍ". أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث من طريقين عن أبي هريرة، ونقل عن الإمام أحمدَ تضعيف الأول منهما. وضَعَّفَ الثاني: بالمثنى بن الصباح، ويحيى بن أيوب1. أما الطريق الأول: فقد أخرجه الترمذي في (جامعه) 2 من طريق: حَمَّاد بن سلمة، عن أبي الْمُهَزِّم، عن أبي هريرة به. وقد أَعَلَّهُ غير واحد بأبي الْمُهَزِّم، فقال الترمذي عقب إخراجه: "هذا الحديث لا يصحُّ من هذا الوجه، وأبو الْمُهَزِّم: اسمه يزيد بن سفيان3، وتكلم فيه شعبة بن الحجاج وضعفه". وقال ابن حجر:   1 زاد المعاد: (5/770 - 771) . (3/569) ح 1281 ك البيوع، باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور. 3 التميمي، البصري، اسمه يزيد - وقيل: عبد الرحمن - بن سفيان، متروك، من الثالثة/ د ت ق. (التقريب 676) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 " ... لكنه من رواية أبي المهزم عنه، وهو ضعيف"1. قلت: وأبو الْمُهَزِّم هذا ضعيفٌ بإجماعهم2، بل قال فيه النسائي: "متروك الحديث"3. وقال البخاريّ: "تركه شعبة"4. وأما الطريق الثاني: فقد ساقه ابن القَيِّم5 من حديث قاسم بن أصبغ بإسناده إلى يحيى بن أيوب، ثنا المثنى بن الصباح6، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثمن الكلب سُحْتٌ7، إلا كلب صيد". وقد ضَعَّفَ ابن القَيِّم هذا الطريق، فقال: "وأما حديث الْمُثَنَّى ... فباطلٌ؛ لأنَّ فيه يحيى بن أيوب، وقد شَهِدَ مالكٌ عليه بالكذب، وجرحه الإمام أحمد. وفيه المثنى بن الصباح، وضَعْفُهُ عندهم مشهور"8.   1 التلخيص الحبير: (3/4) . 2 انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب: (12/249) . 3 الضعفاء والمتروكين: (ص 111) . 4 الضعفاء الصغير: (ص 254) . 5 زاد المعاد: (5/769) . 6 اليماني الأبناوي، أبو عبد الله أو أبو يحيى، نزيل مكة، ضعيفٌ، اختلط بآخرة، وكان عابداً، من كبار السابعة، مات سنة 149 هـ / د ت ق. (التقريب 519) . 7 السُّحْتُ: الحرام الذي لا يحلُّ كسبه؛ لأنه يَسْحَتُ البركةَ: أي يُذْهِبُهَا. (النهاية2/345) . 8 زاد المعاد: (5/771) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 قلت: أما المثنى بن الصباح: فهو ضعيف باتفاق، وأما يحيى بن أيوب فإنه مختلف فيه، فقد ضَعَّفَهُ جماعة وَوَثَّقَهُ آخرون، ولذلك قال ابن حجر: "صدوق ربما أخطأ". وأما اتهام مالك له بالكذب فلم أقف على قولته تلك، والظاهر أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد تابع ابن حزم في ذلك؛ فقد ضعف الحدث بهذين الرجلين، ونقل مقالة مالك هذه في يحيى1. وقد أخرجه الدارقطني في (سننه) 2 من طريق: محمد بن سلمة3، عن المثنى بن الصباح، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث كلهنَّ سحت: كسب الحجام سُحْتٌ، ومهر الزانية سحتٌ، وثمن الكلب- إلا كلباً ضارياً- سحت". فهذه متابعة من محمد بن سلمة - وهو ثقة - ليحيى بن أيوب الماضي ذكره، ولكن يبقى الإسناد ضعيفاً بالمثنى بن الصباح، ولذلك قال الدارقطني - عقب إخراجه من هذا الطريق-: "المثنى ضعيف". وَثَمَّةَ متابعة أخرى للمثنى بن الصباح، أخرجها الدارقطني في (سننه) أيضاً4 من طريق: الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، عن عمه   (9/619 - 620) . (3/73) ح 275. 3 ابن عبد الله الباهلي مولاهم، الحَرَّاني، ثقة، من التاسعة، مات سنة 191هـ على الصحيح / ر م 4. (التقريب 481) . (3/72) ح 273. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة مرفوعاً، بمثل حديث محمد بن سلمة السابق. قال الدارقطني: "الوليد بن عبيد الله ضعيف". وإذا كانت هذه المتابعة ضعيفة أيضاً، فإن حديث أبي هريرة هذا يبقى على حاله من الضعف. وقد استدل ابن القَيِّم - رحمه الله - على عدم صحة هذا المرفوع بما رُوِيَ عن أبي هريرة موقوفاً بدون هذا الاستثناء، فقال: "ويدل على بطلان الحديث: ما رواه النسائي1: حدثنا الحسن بن أحمد بن حبيب، حدثنا محمد بن عبيد الله بن نمير، حدثنا أسباط، حدثنا الأعمش، عن عطاء ابن أبي رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "أربعٌ من السُّحْتِ: ضِرَابُ الفحل، وثمنُ الكلب، ومهر البغيِّ، وكسبُ الحجَّام"2. فتلخص من ذلك: أن استثناء ثمن كلب الصيد من النهي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصحُّ، قال البيهقي رحمه الله: "والأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ثمن الكلب خالية عن هذا الاستثناء، وإنما الاستثناء في الأحاديث الصِحَّاحِ في النهي عن الاقتناء"3. وقال النووي رحمه الله: "وأما الجواب عمَّا احتجوا به من الأحاديث والآثار: فكلها ضعيفة باتِّفَاق   1 السنن الكبرى: (4/427) ح 4677. 2 زاد المعاد: (5/771) . 3 سنن البيهقي: (6/7) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 الْمُحَدِّثِين"1. وقال السيوطي: "والجمهور على الْمَنْعِ، وأجابوا عن هذا: بأن الحديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث"2. وبذلك يَتَرَجَّحُ ما ذهبَ إليه ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم.   1 المجموع: (9/216) . 2 زهر الرُّبى: (7/191) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 3- باب ما جاء في بيع الْمُغنيات 82- (4) عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَبِيعُوا القَيْنَاتِ1، ولا تَشْتَرُوهُنَّ، ولا تُعَلِّمُوهُنَّ، ولا خَيْرَ فِي تِجَارةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حرامٌ. في مثل هذا نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] ". تَكَلَّمَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الحديث عند تفسيره لهو الحديث بأنه: الغناء، فقال: "وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعاً إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ففي مسند أحمد، ومسند عبد الله بن الزبير الحميدي، وجامع الترمذي من حديث أبي أمامة ... " فساق الحديث، ثم قال: "وهذا الحديث وإن كان مداره على: عبيد الله بن زَحْرٍ، عن علي بن يزيد الأَلْهَانِي، عن القاسم - فعبيد الله بن زَحْر: ثقةٌ، والقاسمُ: ثقة، وعليٌّ: ضعيفٌ - إلا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها إن شاء الله، ويَكْفِي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء"2. قلت: هذا الحديث أخرجه الترمذي في (جامعه) 3، وأحمد في   1 قال ابن الأثير: "القَيْنَةُ: الأَمَةُ غَنَّتَ أو لم تُغَن ... وكثيرا ما تُطلق على المغنية من الإماء ... وتجمعُ على: قِيان أيضاً". (النهاية 4/135) . 2 إغاثة اللهفان: (1/239 - 240) . (3/570) ح 1282 ك البيوع، باب كراهية بيع المغنيات. و (5/345) ح 3195 ك التفسير، باب تفسير سورة لقمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 (مسنده) 1 كلاهما من طريق: بكر بن مُضَر2. وأخرجه: الحميدي في (مسنده) 3، والطبراني في (معجمه الكبير) 4، والطبري في (تفسيره) 5، ثلاثتهم من طريق: مُطَّرِح بن يزيد6. وأخرجه: أحمد في (مسنده) 7، والطبراني في (الكبير) 8، والطبري في (تفسيره) 9، كلهم من طريق: خَلاّد10 الصفَّار - ووقع عند أحمد: خالد، وهو خطأ-. وأخرجه الطبراني في (الكبير) 11 من طريق: يحيى بن أيوب.   (5/264) . 2 ابن محمد بن حكيم المصري، أبو محمد، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة 173 أو 174هـ / خ م د ت س. (التقريب 127) . (2/405) ح 910. (8/233) ح 7805. 5 جامع البيان: (21/60) . 6 أبو المهلّب الكوفي، نَزَلَ الشّام، يقال: هو الأسدِي، ومنهم من غاير بينهما، ضعيف، من السادسة/ ق. (التقريب 534) . (5/252) . (8/254) ح 7862. 9 جامع البيان: (21/60) . 10 ابن أسلم الصفَّار، أبو بكر البغدادي، أصْلُهُ من مرو، ثقة، من العاشرة، مات سنة 249هـ / ت س. (التقريب 196) . 11 (8/251) ح 7855. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وأخرجه الطبراني - أيضاً - في (الكبير) 1 من طريق: ليث بن أبي سليم2. كلهم عن: عبيد الله بن زَحْر3، عن عليِّ بن يزيد4، عن القاسم بن عبد الرحمن5، عن أبي أمامة رضي الله عنه به، وألفاظهم متقاربة. وقد أخرجه ابن ماجه في (سننه) 6 من طريق: مُطَّرِح أبي المهلب، عن عبيد الله بن زحر، عن أبي أمامة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث. هكذا بإسقاط علي بن يزيد، والقاسم بن عبد الرحمن من الإسناد، فيكون هذا الإسناد معضلاً، وقد صَرَّحَ الحافظ ابن حجر بأن عبيد الله بن زحر يُرْسِلُ عن أبي أمامة7، فيكون هذا من مراسليه عنه. وهذا الحديث ضَعَّفَهُ بعض الأئمة، وَطَعَنُوا في إسناده، فقال الترمذي: "هذا حديث غريب، إنما يُروى من حديث القاسم، عن أبي أمامة.   (8/253) ح 7861. 2 ابن زنيم. 3 الضَّمْري مولاهم، الأفريقي، صدوق يخطئ، من السادسة / بخ 4. (التقريب 371) . 4 ابن أبي زياد الألهاني، أبو عبد الملك الدمشقي، ضعيف، من السادسة، مات سنة بضع عشرة ومائة/ ت ق. (التقريب 406) . 5 الدمشقي، أبو عبد الرحمن، صاحب أبي أمامة، صدوقٌ يغرُب كثيراً، من الثالثة، مات سنة 112هـ / بخ 4. (التقريب 450) . (2/733) ح 2168 ك التجارات، باب ما لا يحلُّ بيعه. 7 تهذيب التهذيب: (7/12) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 والقاسم ثقةٌ، وعلى بن يزيد يُضَعَّفُ في الحديث"1. وسأل البخاريَّ عن إسناده؟ فقال: "عبيد الله بن زحر ثقة، وعليُّ بن يزيد ذاهب الحديث، والقاسم بن عبد الرحمن مولى ثقة"2. وأورده ابن حزم في (المحلى) 3 من طريق: مُطَّرِح أبي المهلب، عن عبيد الله بن زحر ... ثم قال: "مطرح مجهولٌ، وعبيد الله بن زحر ضعيف، والقاسم ضعيف، وعليُّ بن يزيد دمشقي مطرح، متروك الحديث". كذا قال أبو محمد رحمه الله. قلت: وإسناد هذا الحديث مداره - كما قال ابن القَيِّم - على هؤلاء الثلاثة: عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم. أما عبيد الله بن زَحْر: فقد اختلفت فيه أقوال الأئمة، فجرحه جماعةٌ، واحتمله آخرون، فَضَعَّفَهُ الإمام أحمد في رواية حرب4. وقال عليُّ بن المديني: "منكر الحديث"5. وقال ابن معين: "ليس بشيء"6. وقال مرة: "كلٌّ حديثه عندي ضعيف"7. وقال مرة: "ضعيف"8. وقال   1 جامع الترمذي: (5/346) . 2 علل الترمذي: (1/512) . (2/705 - 706) . 4 تهذيب التهذيب: (7/12) . 5 العلل: (ص 90) . 6 تاريخ يحيى - رواية الدوري: (2/382) . 7 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص 174) رقم 626. 8 سؤالات ابن الجنيد لابن معين: (ص 396) رقم 513. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 أبو حاتم: "لَيِّنُ الحديث"1. وقال الدارقطني: "ضعيف"2. وقال ابن حبان: "منكر الحديث جدًّا، يَروي الموضوعات عن الأثبات ... "3. وضعفه غير هؤلاء4. وَضَعَّفَ ابن حبان والدارقطني روايته عن عليِّ بن يزيد خاصة، قال ابن حبان: "وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبرٍ: عبيد الله بن زحر، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن، لا يكون متن ذلك الخبر إلاّ مما عملته أيديهم، فلا يَحِلُّ الاحتجاج بهذه الصحيفة، بل التَّنَكُّبُ عن رواية عبيد الله بن زحر - على الأحوال - أولى"5. وقال الدارقطني: "عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد: نسخة باطلة"6. ومع ذلك فقد وَثقَهُ جماعةٌ، قال النسائي: "ليس به بأس"7. وقال البخاريُّ: "ثقة"8. وقال أبو زرعة: "لا بأس به، صدوق"9. وقال   1 الجرح والتعديل: (2/2/315) . 2 تهذيب التهذيب: (7/13) . 3 المجروحين: (2/62) . 4 انظر: تهذيب التهذيب: (7/13) . 5 المجروحين: (2/62 - 63) . 6 الضعفاء والمتروكين: (ص 268) . 7 تهذيب التهذيب: (7/13) . 8 علل الترمذي: (1/512) . 9 الجرح والتعديل: (2/2/315) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 أحمدُ بن صالح: "ثقة"1. وذكره العِجْلِي في (الثقات) 2 وقال: "يُكْتَبُ حديثه، وليس بالقويِّ". والذي يظهر - والله أعلم - أنه "إلى الضَّعْفِ أقرب"3 كما قال الذهبي رحمه الله. وأما عليُّ بن يزيد الألهاني، شيخ عبيد الله السابق: فقد "اتفق أهل العلم على ضعفه". كما قال السَّاجي4 رحمه الله. وأما القاسم بن عبد الرحمن: فقد اختلفت فيه أقوال الأئمة أيضاً5، وقال أبو حاتم: "حديث الثقات عنه مستقيم لا بأس به، وإِنَّمَا يُنْكَرُ عنه الضعفاء"6. قلت: وهذا الحديث من رواية ضعيف عنه، وهو: علي بن يزيد. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الإسناد ضعيفٌ لا تقوم بمثله حُجَّةٌ، ولكن وُجدَت متابعات لعبيد الله بن زحر، وعلى بن يزيد، وربما تَصْلُحُ لتقوية هذا الحديث.   1 تهذيب التهذيب: (7/13) . 2 بترتيب الهيثمي: (ص 316) . 3 المغني: (2/415) . 4 تهذيب التهذيب: (7/397) . 5 انظر: ترجمته في الميزان: (3/373) ، والتهذيب: (8/322) . 6 تهذيب التهذيب: (8/324) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 فقد تابع عبيد الله بن زحر: الفرجُ بنُ فَضَالَة، فساقه ابن حزم في (المحلى) 1 من طريق: سعيد بن منصور، نا الفرج بن فضالة، عن علي بن يزيد به، ثم ضَعَّفَهُ بالقاسم. وأشار البيهقي في (سننه) 2 إلى هذه الرواية. قلت: وتضعيفه بالفرج بن فضالة أولى من تضعيفه بالقاسم. وأما عليُّ بن يزيد الألهاني: فقد تابعه يحيى بن الحارث3، أخرجه الطبراني في (معجمه الكبير) 4 من طريق: الوليد بن الوليد5، ثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان6، عن يحيى بن الحارث، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه عنه، وزاد في آخره: حتى فَرَغَ من الآية ثم أتبعها: "والذي بعثني بالحقِّ، ما رفَعَ رجلٌ عَقِيرَتَهُ7 بالغناء، إلا بَعَثَ الله عز وجل عند ذلك شيطانين يرتقدان على عاتقيه، ثم لا يزالان يضربان بأرجلهما على صدره - وأشار إلى صدر نفسه - حتى يكون هو الذي يسكت".   (9/707) . (6/14) . 3 الذِّماري، أبو عمرو الشامي، القاري، ثقة، من الخامسة، مات سنة 145هـ/ 4. (التقريب 589) . (8/212) ح 7749. 5 ابن زيد العنسي، الدمشقي، أبو العباس، قال أبو حاتم: صدوقٌ. وقال الدارقطني وغيره: متروك. انظر: الميزان: (4/350) . 6 العنسي، الدمشقي. 7 أي: صوته. وقيل: أصله أن رجلاً قُطِعت رِجله، فكان يرفعُ المقطوعة على الصحيحة ويصيح من شدة وجعها بأعلى صوته، فقيل لكلِّ رافعٍ صوته: رَفَعَ عَقِيرَتَهُ. (النهاية 3/275) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 والوليد بن الوليد: قال فيه أبو حاتم: "صدوقٌ، ما بحديثه بأس، حديثه صحيح"1: وضعفه غيره. وعبد الرحمن بن ثوبان وإن ضَعَّفَهُ جماعة، فقد وثقه آخرون، وهو ممن يكتب حديثه على ضعفه، كما قال ابن معين، وابن عدي2. فهاتان المتابعتان - لعبيد الله بن زَحْر، ثم لعليِّ بن يزيد - تصلحان لتقوية هذا الحديث، وإخراجه من حيز الضعف إلى حيز القبول، ويكون - إن شاء الله - حَسَناً لغيره. ثم إنه قد وُجدَ لهذا الحديث شاهدٌ من حديث عائشة رضي الله عنها، ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (الكلام على مسألة السماع) 3 فقال: "وَرُوِيَ في ذلك حديث مرفوع من حديث عائشة رضي الله عنها" فذكره. وأشار البيهقي - رحمه الله - إلى هذا الحديث، فقال: "وروي عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عائشة، وليس بمحفوظ. وروي عن ليث راجعاً إلى الإسناد الأول - يعني: رواية ليث عن عبيد الله ابن زحر - خَلَّطَ فيه ليث"4. وعزاه الهيثمي إلى الطبراني، فقال: "ورواه الطبراني في الأوسط،   1 الجرح والتعديل: (4/2/19) . 2 انظر: تهذيب التهذيب: (6/151) . (ص112) . 4 سنن البيهقي: (6/14) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 وفيه اثنان لم أجد من ذكرهما، وليث بن أبي سليم: وهو مُدَلِّسٌ"1. وهذا مع ضعفه، فإنه يُستأنس به، ويصلح لتقوية حديث أبي أمامة السابق، هذا مع ما ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - من تفسير كثير من الصحابة للهو الحديث بأنه الغناء، قال: "فقد صحَّ ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود ... وصحَّ عن ابن عمر رضي الله عنهما - أيضاً -: أنه الغناء"2. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث أبي أمامة رضي الله عنه يَتَقَوَّى بمتابعات، وشاهد من حديث عائشة رضي الله عنها، مع ما جاء من أقوال الصحابة المؤيدة لهذا المرفوع، كما قَرَّرَهُ ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم.   1 مجمع الزوائد: (4/91) . 2 إغاثة اللهفان: (1/240) . وينظر: جامع البيان للطبري: (21/60 - 62) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 4- باب ما جاء في النهي عن العينة 83- (5) عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بالدِّينَارِ والدِّرْهَمِ، وتَبَايَعُوا بِالعِيْنَةِ1، واتَّبَعُوا أَذْنَابَ البَقَرِ، وتركوا الجهادَ في سبيل الله: أنزلَ الله بهم بلاءً، فلا يَرْفَعُهُ عنهم حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُم ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في عدد من كتبه2، مستدلاً به على تحريم العينة. وقد ساقه من طريقين، وَبَيَّنَ أن كلاً منهما يَشُدُّ الآخرَ، ويُثْبتُ أن للحديث أصلاً محفوظاً، هذا مع قوله بأن في الإسنادين كلاماً يسيرًا3. وقد حَكَمَ بحسن هذين الإسنادين، فقال: "وهذان إسنادان حَسَنَان يشدُّ أحدهما الآخر"4. قلت: هذا الحديث يُروى عن ابن عمر - رضي الله عنهما - من طريقين:   1 العِيْنَةُ: السَّلَفُ، واعْتَانَ الرجل: اشترى الشيء بالشيء نسيئةً .... وفسرها الفقهاء: "بأن يبيع الرجل متاعه إلى أجلٍ، ثم يشتريه في المجلس بثمنٍ حالٍ لِيَسْلَمَ به من الرِّبَا، وقيل لهذا البيع عينة؛ لأنَّ مشتري السِّلْعَةَ إلى أجلٍ يأخذ بدلها عَيْناً، أي نقداً حاضراً". (المصباح المنير 2/441) . 2 ينظر: تهذيب السنن: (5/103 - 104) ، وإعلام الموقعين: (3/165 - 166) ، والداء والدواء: (ص63) . 3 تهذيب السنن: (5/104) . 4 تهذيب السنن: (5/104) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 الطريق الأول: أخرجه أبو داود في (سننه) 1، والبيهقي كذلك في (سننه) 2، وأبو بشر الدولابي في (الكنى) 3، ثلاثتهم من طريق: حيوة بن شريح4، عن إسحاق5 أبي عبد الرحمن الخراساني، أن عطاء الخراساني حَدَّثَهُ، أن نافعاً حَدَّثَهُ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعاً بنحو ما تَقَدَّمَ، إلا أن فيه: "سلط الله عليكم ذلاً ... ". وقد ضَعَّفَ جماعةٌ إسناد هذا الحديث بأبي عبد الرحمن الخُراساني، فقال ابن القطان: "الحديث من أجله - يعني إسحاق بن أَسِيد - لا يصحُّ"6. وقال المنذريُّ: "في إسناده إسحاق بن أسيد، أبو عبد الرحمن الخراساني،.. لا يُحْتَجُّ بحديثه"7. وجعل الذهبي هذا الحديث من مناكير إسحاق هذا، فقال: "ومن مناكيره في سنن أبي داود: حدثنا عطاء الخراساني ... "8. وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده   (3/740) ح 3462 ك البيوع، باب النهي عن العينة. (5/316) . (2/65) . 4 ابن صفوان التجيبي، أبو زرعة المصري، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ، من السابعة، مات سنة 158هـ وقيل 159هـ/ ع. (التقريب 185) . 5 ابن أَسيد، الأنصاري، أبو عبد الرحمن الخراساني، ويقال: أبو محمد المروزي، نزيل مصر، فيه ضعف، من الثامنة. (التقريب ص 100) . 6 بيان الوهم والإيهام: (5/294 – 295) ح 2484. 7 مختصر سنن أبي داود: (5/102 - 103) . 8 الميزان: (4/547) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 ضعيف"1. وقال أيضاً: "في إسناده مقال"2. فقال الصنعاني مُبَيِّنَاً ذلك: "لأن في إسناده أبا عبد الرحمن الخراساني"3. وأَعَلَّهُ المنذريُّ - فوق ذلك - بعطاء الخراساني، فقال: "وفيه أيضاً: عطاء الخراساني، وفيه مقال"4. وخالف هؤلاء جميعاً: ابن تيمية رحمه الله، فقال: "إسنادٌ جيدٌ"5. وابن القَيِّم رحمه الله، فقال: "إسنادٌ حسن"6! قلت: أما إسحاق بن أسيد هذا: فقد ضَعَّفَهُ غير واحدٍ، فقال أبو حاتم: "ليس بالمشهور، ولا يُشتغل بحديثه"7. وقال أبو أحمد الحاكم: "مجهول"8. وقال الأزديُّ: "منكر الحديث، تركوه"9. وقال ابن بكير: "لا أدري حاله"10. وذكره ابن حبان في (الثقات) 11 لكن قال:   1 الدراية: (2/151) . 2 بلوغ المرام: (ح860) . 3 سبل السلام: (3/80) . 4 مختصر سنن أبي داود: (5/103) . 5 القواعد النورانية: (ص142) . 6 تهذيب السنن: (5/104) . 7 الجرح والتعديل: (1/1/213) . 8 تهذيب التهذيب: (1/227) . 9 المصدر السابق. 10 المصدر السابق. 11 (6/50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 "يخطئ". وقال المنذري: "لا يحتجُّ بحديثه"1. وَضَعَّفَهُ ابن القطان كما مرَّ. وقال الذهبي: "ضُعِّفَ"2. وقال ابن حجر: "فيه ضعف"3. والذي يظهر من أمرِ هذا الرَّجُل: أنه ضعيفٌ، لكنه ليس شديد الضَّعْفِ، ولذلك لم يجزم فيه الذهبي ولا ابن حجر بالضعف - وقد تقدم قولهما - بل قال الذهبي مرة: "وهو جائز الحديث"4. وهذا يدلُّ على أن ضعفه محتمل عندهما. وقد وُجدَتْ متابعةٌ لإسحاق هذا في شيخ شيخه، أشار إليها أبو نعيم في (الحلية) 5، فقال: "ورواه فضالة بن حصين، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر". وذكر الشيخ الألباني أنَّ هذه المتابعة أخرجها ابن شاهين في (الأفراد) ، وقال: "تفرد به فضالة"6. ولكن فضالة هذا متكلم فيه أيضاً، قال عنه أبو حاتم: "مضطرب الحديث"7. وقال ابن حبان: "شيخ يَروي عن محمد بن عمر الذي لم يتابع عليه، وعن غيره من الثقات ما ليس من أحاديثهم"8.   1 مختصر السنن: (5/102) . 2 الكاشف: (1/60) . 3 التقريب: (ص100) . 4 الميزان: (1/184) . (3/319) . 6 السلسلة الصحيحة: (1/16) ح 11. 7 الجرح والتعديل: (3/2/78) . 8 المجروحين: (2/205) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن هذا الإسناد ضعيفٌ بأبي عبد الرحمن الخراساني، وأنَّ المتابعة التي وُجدتْ له - مع كونها قاصرة - لا تُسْعِفُه، لضعف إسنادها بفضالة بن حصين، وقد يكون اختلط عليه إسناد هذا الحديث فجعله عن أيوب، فإنه مضطرب الحديث. ومن هذا يتبين أنَّ تحسين ابن القَيِّم إسناده غير جيد، إلا أن يريد بذلك: بمجموع طرقه، فقد يحتمل ذلك. الطريق الثاني: عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر. ويروى عن عطاء من وجهين: الوجه الأول: ما أخرجه أحمد في (مسنده) 1، والطبرانيُّ في (الكبير) 2، من طريق: أبي بكر بن عَيَّاش، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعاً بنحو اللفظ المتقدم أول البحث. وقد صَحَّحَ هذا الإسناد جماعةٌ: فقال ابن القطان: "هذا حديث صحيحٌ، ورجاله ثقات"3. وقال ابن تيمية: "إسناد جيد"4. وقال ابن القَيِّم: "إسناد حسن"5. وقال الحافظ ابن حجر: "رجاله ثقات،   (2/28) . (12/432) ح 13583. 3 بيان الوهم والإيهام: (5/295 - 296) . 4 القواعد النورانية: (ص 142) . 5 تهذيب السنن: (5/104) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وصححه ابن القطان"1. ووصفَ إسنادَهُ بأنه أجودُ وأمثلُ من إسناد إسحاق بن أسيد، عن عطاء الخراساني الماضي2. وقال مرة: "أصحُّ ما ورد في ذَمِّ بيع العِيْنَة: ما رواه أحمد والطبراني، من طريق أبي بكر بن عياش ... "3. وحسَّنَ السيوطيُّ إسناده4. وقال أحمد شاكر: "إسناده صحيح"5. وَضَعَّفَهُ البيهقيُّ، فقال: "ورُوِيَ من وجهين ضعيفين: عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عمر"6. وقال المناويُّ: "أبو بكر بن عياش مختلفٌ فيه"7. وَأَعَلَّهُ الحافظ ابن حجر بعنعنة الأعمش وهو مُدَلِّسُ، فقال: "وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلولٌ؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً؛ لأن الأعمش مُدَلِّس، ولم يذكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني، فيكون فيه تدليس التسوية: بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر، فرجع الحديث إلى   1 بلوغ المرام: (ح 860) . 2 الدراية: (2/151) . 3 التلخيص الحبير: (3/19) . 4 الجامع الصغير مع فيض القدير: (1/397) ح 740. 5 التعليق على مسند أحمد: (7/27) ح 4825. 6 السنن: (5/316) . 7 فيض القدير: (1/397) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 الإسناد الأول، وهو المشهور"1. يعني حديث إسحاق الخراساني. وقد أَبْدَى ابن القَيِّم - رحمه الله - تَخَوُّفَهُ من احتمال وقوع ذلك، فقال: " ... وإِنَّمَا يُخَافُ ألا يكون الأعمش سمعه من عطاء، أو أنَّ عطاء لم يسمعه من ابن عمر"2. فأضاف بذلك علة أخرى، وهي: احتمال إرسال عطاء له. وكلام ابن القَيِّم هذا كأنه أخذه من شيخه ابن تيمية رحمهما الله، فإنه نسبه إليه في موضع آخر3. قلتُ: أما غَمْزُ هذا الإسناد بأبي بكر بن عَيَّاش فلا ينبغي؛ فإن الرجل ثقةٌ، فقد وثقه غير واحد من الأئمة، إلا أنه كان يخطئ، قال الذهبي رحمه الله: "أحدُ الأعلام، ثقة يغلط"4. وقال ابن عديّ: "لم أجد له حديثاً منكراً إذا روى عنه ثقة، إلا أن يروي عنه ضعيف"5. وقال ابن حبان: "والصواب في أمره: مجانبة ما عُلِمَ أنه أخطأ فيه، والاحتجاج بما يرويه، سواء وافق الثقات أو خالفهم؛ لأنه داخلٌ في جملة أهل العدالة، ومن صَحَّتْ عدالته لم يستحق القدح ولا الجرح إلا بعد زوال العدالة عنه بأحد أسباب الجرح، وهكذا حُكْمُ كلِّ مُحَدِّثٍ ثقةِ صَحَّت عدالته وتَبَيَّنَ خطؤه"6. ومع ذلك: فقد روى هذا الحديث عنه ثقة، وهو الأسود بن   1 التلخيص الحبير: (3/19) . 2 تهذيب السنن: (5/104) . 3 انظر: إعلام الموقعين: (3/166) . 4 المغني: (2/774) . 5 الكامل: (4/30) . 6 الثقات: (7/670) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 عامر الشامي1، وذلك في إسناد الإمام أحمد. وأما ما قاله ابن حجر من تدليس الأعمش، فإنَّ كلامه قد تَضَمَّنَ أموراً: 1- أن الأعمش قد عنعنه، وهو مدلس. 2- أن عطاء الذي عنعن عنه الأعمش، قد يكون عطاء الخراساني، فيكون قد حصل تدليس تسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر. 3- وإذا كان كذلك، فإنَّ هذا الإسناد يرجع إلى الإسناد الأول، الذي رواه: أبو عبد الرحمن الخراساني، عن عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر. وأقول: أما عنعنة الأعمش، فإنها عِلَّةٌ ولا شكَّ في هذا الإسناد، ولكنه ممن احْتُمِلَ تدليسهم: لإمامتهم، وقلة تدليسهم في جنب ما رووه، ولذلك جعله الحافظ ابن حجر في "الطبقة الثانية" من طبقات المدلسين2 الذين هذه صفتهم. ومع ذلك فإنه قد تُوبِعَ على هذه الرواية، كما سيأتي بيانه. وأما القول بأنَّ عطاءً يحتمل أن يكون ابن أبي مسلم الخراساني: فلا أَدْرِي ما الذي دعا الحافظ ابن حجر إلى إيراد هذا الاحتمال؟ فإنه قد جاء منسوباً في روايتي الطبرانيِّ وأحمد، إذ جاء عندهما: "عطاء بن أبي   1 انظر: التقريب: (ص 111) . 2 طبقات المدلسين: (ص 49) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 رباح". وإذا كان كذلك فإنه لا يلتبس بعطاء الخراساني، فلعلَّ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - لم يقف عليه منسوباًَ، فقال ما قال! وأما ما ذهب إليه من تدليس التسوية: فإنه بناه على الاحتمال السابق وقد عُرِفَ ما فيه، ومع ذلك فلو سُلِّمَ للحافظ القول به، فإنه لا يكونُ كما قال؛ فإنَّ المعروف في تدليس التسوية أنه يُلجأ إليه لإسقاط ضعيفٍ من الإسناد بين ثقتين، فهل نافع مولى ابن عمر الإمام الثبت ضعيفٌ حتى يسقطه الأعمش من الإسناد؟ هذا لازم قول الحافظ ابن حجر، ولكنه لا يلتزمه ولا يقول بضعف نافع أبداً. بَقِيَ الكلام في سماع عطاء من ابن عمر رضي الله عنهما - وهو ما تَخَوَّفَ منه ابن القَيِّم رحمه الله -: فقد قال الإمام أحمد وعليُّ بن المديني: إنه رأى ابن عمر ولم يسمع منه1. وقد ضَعَّفَ الأئمة مرسلات عطاء ولم يحمدوها، فقال علي بن المديني: "مرسلات مجاهد أحبُّ إليَّ من مرسلات عطاء بكثير؛ كان عطاء يأخذ عن كلِّ ضربٍ"2. وقال الإمام أحمد: "ليس في المرسلات أضعفُ من مرسلات الحسن وعطاء؛ فإنَّهما كانا يأخذان عن كلِّ أحدٍ"3.   1 المراسيل - ابن أبي حاتم: (154 - 155) ، وجامع التحصيل: (ص 290) . 2 تهذيب التهذيب: (7/202) . 3 المصدر السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 فإذا كان كذلك، فإنَّ هذه عِلَّةُ أخرى في هذا الإسناد تضاف إلى ما سبق، وهي: انقطاعه بين عطاء وابن عمر. الوجه الثاني1: ما أخرجه أبو يعلى في (مسنده) 2، والطبراني في (الكبير) 3، من طريق: ليث بن أبي سليم، عن عبد الملك بن أبي سليمان4، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بنحو حديث الأعمش الماضي. وهذا الإسناد ضعيفٌ؛ لضعف ليث بن أبي سليم. وعبد الملك بن أبي سليمان فيه كلامٌ يسيرٌ لا يضره، وقد ضَعَّفَ البيهقي - رحمه الله - هذا الإسناد. فقال عنه وعن طريق الأعمش السابق: "ورُوي ذلك من وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر"5. ولكن، مع ما في هذا الإسناد من ضعفٍ، فإنه إذا ضُمَّ إلى إسناد الأعمش الماضي تَقَوَّى كلٌّ منهما بالآخر، وإذا ضُمَّ الاثنان إلى حديث عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر، فإنهما - كما قال ابن القيم رحمه الله -: "يَشُدُّ أحدهما الآخر"6، مع ما تَقَدَّمَ من تصحيح   1 من وجوه الرواية عن عطاء، عن ابن عمر. (10/29) ح 5659. (12/433) ح 13585. 4 العَرْزَمِي، صدوقٌ له أوهامٌ، من الخامسة، مات سنة 145هـ/ خت م 4. (التقريب 363) . 5 سنن البيهقي: (5/316) . 6 تهذيب السنن: (5/104) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 بعض الأئمة لبعض طرق حديث عطاء، وتحسين آخرين له، وبذلك يَتَبَيَّنُ: "أن للحديث أصلاً محفوظاً عن ابن عمر"1. فيكون هذا الحديث بمجموع طرقه حسناً، وقد صَحَّحَهُ الشيخ الألباني بمجموع طرقه2، ولعل الأليق به أن يكون حسناً، والله أعلم.   1 تهذيب السنن: (5/104) . 2 السلسلة الصحيحة: (ح11) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 5- باب في بيع أمهات الأولاد 84- (6) عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "مَنْ وَطِئَ أَمَتَهُ، فَوَلَدَتْ له، فهي مُعْتَقَةٌ عن دُبُرٍ1 منه". تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - قضية بيع أمهات الأولاد، فكان مما قال: "وقد احْتُجَّ على منع البيع بحجج كلها ضعيفة". ثمَّ ذكر منها حديث ابن عباس هذا، قال: "وفي لفظ: أيما امرأةٍ عَلِقَتْ2 من سَيِّدِهَا، فهي معتقة عن دُبُرٍ منه - أو قال - من بعده". قال رحمه الله: "وهذا الحديث مداره على حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، وهو ضعيف الحديث، ضَعَّفَهُ الأئمة"3. قلت: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في (سننه) 4، وأحمد، والدارمي في (مسنديهما) 5، والطبراني في (الكبير) 6، والحاكم في   1 أي: بعد موته. يقال: دَبَّرْتَ العبدَ، إذا عَلَّقْتَ عِتْقَهُ بموتك، وهو التدبير: أي أنه يُعْتق بعدما يُدَبِّره سَيِّدُهُ ويموت. (النهاية 2/98) . 2 عَلِقَتِ المرأة بالولد - وكل أنثى - تَعْلَقُ: حَبِلَتْ. (المصباح المنير ص 425) . 3 تهذيب السنن: (5/411) . (2/841) ح 2515 ك العتق، باب أمهات الأولاد. 5 حم: (1/303، 317، 320) . مي: (2/172) ح 2577. ك البيوع، باب في بيع أمهات الأولاد. (11/209) ح 11519. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 (المستدرك) 1، والبيهقي في (سننه) 2، كلهم من طريق: شريك. وأخرجه الدارقطني في (سننه) 3 من طريق: أبي أُوَيْس. كلاهما عن: حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحو اللفظ المتقدم. وهذا الإسناد ضَعِيفٌ جدَّاً؛ فإنَّ مداره على حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وقد أجمعوا على ضَعْفِهِ، بل قال النسائي: "متروك"4. وقد ضُعِّفَ هذا الحديث لأجله، فقال البيهقي عقبه: "حسين ضَعَّفَهُ أكثر أصحاب الحديث". وقال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف، حسين بن عبد الله ... تركه ابن المديني ... ، وَضَعَّفَهُ أبو حاتم وأبو زرعة، وقال البخاريُّ: يُقال إنه كان يُتَّهَمُ بالزندقة"5. وقال الحافظ ابن حجر: "في إسناده الحسين بن عبد الله الهاشمي، وهو ضعيف جداً"6. وخالف الحاكم رحمه الله، فقال: "حديث صحيح الإسناد، ولم   (2/19) . (10/346) . (4/132) ح 24، (4/133) ح 27. 4 تهذيب التهذيب: (2/342) . 5 مصباح الزجاجة: (2/65 - 66) . 6 التلخيص الحبير: (4/217) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 يخرجاه". فَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بقوله: "قلت: حسين متروك"1، وابن الملقن بقوله: "وفيه نظرٌ قويٌّ، سيما رواية الدارقطني"2. وقد روي حديث ابن عباس هذا على وجهٍ آخر عنه رضي الله عنه أنه قال: ذُكِرَتْ أُمُّ إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أَعْتَقَهَا وَلَدهَا". وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه في (سننه) 3 من طريق: أبي بكر النَّهْشَلِي، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس به. وهو ضعيفٌ كالذي قبله؛ لأن "حسين بن عبد الله" في هذا الإسناد أيضاً، وقد تَقَدَّمَ بيان حاله، وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تضعيفه بذلك، فقال: "وهو أيضاً من رواية حسين"4. ولكن قد رُوِيَ بهذا اللفظ من غير طريق حسين هذا، وذلك فيما أورده ابن القَطَّان من طريق: قاسم بن أصبغ، عن محمد بن وَضَّاح، عن مصعب بن سعيد، ثنا عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لما ولدت ماريةُ إبراهيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقها ولدها" 5.   1 تلخيص المستدرك: (2/19) . 2 خلاصة البدر المنير: (2/464) ح 2989. (2/841) ح 2516. 4 تهذيب السنن: (5/411 - 412) . 5 بيان الوهم والإيهام: (2/85) ح 58. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 وهذا الإسناد فيه مصعب بن سعيد، وهو المصيصي، أبو خيثمة، قال فيه صالح جزرة: "شيخ ضريرٌ لا يَدْرِي ما يقول"1. وقال ابن عديّ: "يُحَدِّثُ عن الثقات بالمناكير، ويُصَحِّفُ عليهم"2 وقال ابن القطان: "يُضَعَّفُ"3. ولكن سُئل عنه أبو حاتم؟ فَقَطَّبَ وجهه، وقال: "عبد الله بن جعفر أحبُّ إليَّ منه، وكان صدوقاً"4. وذكره ابن حبان في (الثقات) 5، وقال: "ربما أخطأ، يُعْتَبَرُ حديثه إذا روى عن الثقات، وَبَيَّنَ السماع في خبره؛ لأنه كان مدلساً". وقال الذهبي: "صدوق"6. وذكره ابن حجر في الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين7. وعل ما قاله ابن حبان رحمه الله: فإنَّ هذا الإسناد لا بأس به؛ لأنَّ شيخ مصعب في هذا الإسناد ثقةٌ، وقد صَرَّحَ مصعبٌ بالتحديث، فانتفت شبهة تدليسه. وقد صَحَّحَ رواية قاسم بن أصبغ هذه جماعة من الأئمة، فنقل   1 لسان الميزان: (6/44) . 2 الكامل: (6/364) . 3 بيان الوهم والإيهام: (2/86) . 4 الجرح والتعديل: (4/1/309) . (9/175) . 6 المغني: (2/660) . 7 طبقات المدلسين: (ص 111) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 الزيلعي عن ابن القطان أنه قال: "إسناد جيد"1. - ولم أقف عليه في كتاب ابن القطان2 عند كلامه على هذا الحديث -، وقال ابن الملقن: "رواه ... ابن حزم بإسناد صحيح، وصححه"3. وقال الحافظ ابن حجر: "له طريق عند قاسم بن أصبغ إسنادها جيد"4. فتلخص من ذلك: أن الحديث ضعيف بالإسناد الذي أورده ابن القَيِّم رحمه الله - وهو ما حكم به عليه -، لكن الحديث وردَ من طريق أخرى صَحَّحَ جمعٌ من الأئمة إسنادها، مما يفيد أن لهذا الحديث أصلاً، والله أعلم.   1 نصب الراية: (3/287) . 2 انظر: (بيان الوهم والإيهام 2/85) . 3 خلاصة البدر المنير: (2/464) ح 2991. 4 الدراية: (2/87) ح 621. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 12- من كتاب الأطعمة والصيد والذبائح 1- باب في الطافي من صيد البحر 85- (1) عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أو جَزَرَ1 عنه فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فيه وَطَفَا فلا تَأْكُلُوهُ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - تضعيف عبد الحق لرفع هذا الحديث، وأن الصواب وَقْفُهُ على جابر رضي الله عنه، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أُسْنِدَ من وجه ضعيفٍ: عن يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر. ومن حديث: عبد العزيز بن عبد الله بن حمزة بن صهيب، وهو ضعيفٌ. ثم نَقَلَ ابن القَيِّم اعتراض ابن القطَّان على عبد الحق، إذ قال: "فإنْ كان عبد الحق ضَعَّفَ المرفوع لكونه من رواية أبي الزبير: فقد تناقض، لتصحيحه الموقوف، وهو عنه. وإن عَنَى به ضعف يحيى بن سليم: تناقض أيضاً، فكم من حديث صححه من روايته، ولم يخالف يحيى بن سليم في رفعه عن إسماعيل بن أمية إلاّ من هو دونه، وهو إسماعيل بن عَيَّاش، وأما إسماعيل بن أميَّة: فلا يُسْأَلُ عن مثله". ثم تَعَقَّبَ ابن القَيِّم ابن القطان، فقال: "وهذا تَعَنُّتٌ من ابن القطان، والحديثُ إنما ضُعِّفَ لأن الناس رووه موقوفاً على جابر، وانفرد برفعه يحيى بن سليم، وهو مع سوء حفظه قد خَالَفَ الثقات، وانفرد عنهم، ومثل هذا لا يحتجُّ به أهل الحديث، فهذا هو الذي أراده   1 أي: ما انكشف عنه الماءُ من حيوان البحر، يُقال: جَزَرَ الماءُ، يجزر جَزْرًا: إذا ذهب ونقص. ومنه الجزر والمدُّ، وهو رجوع الماءِ إلى خلفٍ. (النهاية 1/268) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 أبو داود وغيره من تضعيف الحديث"1. ثم أَخَذَ في توجيه صنيع عبد الحق في كَوْنِهِ صَحَّحَ حديث يحيى بن سليم في غير هذا الموضع وَضَعَّفَهُ هنا، فَبَيَّنَ أن هذه هي "طريقةُ أئمةِ الحديث العارفين بعلله: يُصَحِّحُونَ حديثَ الرَّجُلِ في موضع، ويضعفون حديثه في موضع آخر إذا انفرد أو خالف الثقات ... "2. قلت: هذا الحديث مداره على: أبي الزبير، ووهب بن كيسان3، كلاهما عن جابر رضي الله عنه. أما حديث أبي الزبير: فقد رُوِيَ عنه من عِدَّة طرق: الطريق الأول: أخرجه أبو داود، وابن ماجه في (سننيهما) 4، والطبراني في (الأوسط) 5، ثلاثتهم من طريق: أحمد بن عبدة، عن يحيى بن سليم6، عن إسماعيل بن أمية7، عن   1 تهذيب السنن: (5/324 - 325) . 2 المصدر السابق: (5/ 325 - 326) . 3 القُرشي مولاهم، أبو نعيم، المدني الْمُعَلِّم، ثقةٌ، من كبار الرابعة، مات سنة 127هـ/ع. (التقريب 585) . 4 د: (4/165) ح 3815 ك الأطعمة، باب في أكل الطافي من السمك. جه: (2/1081) ح 3247 ك الصيد، باب الطافي من صيد البحر. (3/410) ح 2880. 6 الطائفي، نزيل مكة، صدوقٌ سيء الحفظ، من التاسعة، مات سنة 193هـ أو بعدها/ ع. (التقريب 591) . 7 ابن عمرو بن سعيد بن العاص، الأموي، ثقةٌ ثبتٌ، من السادسة، مات سنة 144هـ / ع. (التقريب 106) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 أبي الزبير، عن جابر به، ولفظه هو المذكور أول البحث. ومن طريق أبي داود أخرجه: الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 1، وابن عبد البر في (التمهيد) 2. الطريق الثاني: أخرجه الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3 من طريق: أبي أحمد الزبيري4، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير به. الطريق الثالث: أخرجه الترمذي في (علله) 5 من طريق: الحسين ابن يزيد6، عن حفص بن غياث، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير به، ولفظه: "ما اصطدتموه وهو حيٌّ فكلوه، وما وجدتموه ميتاً طافياً فلا تأكلوه". الطريق الرابع: من رواية يحيى بن أبي أنيسة7، عن أبي الزبير به، أشار إليه البيهقي في (سننه) 8.   1 قط: (4/268) ح 8. هق: (9/255) . (16/225) . 3 قط: (4/268) ح 7. هق: (9/255) . 4 هو: محمد بن عبد الله بن الزبير. (2/636) . 6 ابن يحيى الطَحَّان الأنصاري، الكوفي، لَيِّنُ الحديثِ، من العاشرة، مات سنة 244هـ / د ت. (التقريب 169) . 7 أبو زيد الجزري، ضعيفٌ، من السادسة، مات سنة 146هـ/ ت. (التقريب 588) . (9/256) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 الطريق الخامس: من رواية الأوزاعي عن أبي الزبير به، أشار إليه البيهقي - أيضاً - في (سننه) 1. فهذه طرقُ حديث أبي الزبير، عن جابر، ولا يخلو واحدٍ منها من عِلَّةٍ، وقد بين الأئمة ما فيها: أما رواية يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية: فقال أبو داود عقب إخراجها: "روى هذا الحديث: سفيان الثوري، وأيوب، وحماد، عن أبي الزبير، أوقفوه على جابر". وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل إلا يحيى". وقال الدارقطني: "لا يصحُّ رفعه، رَفَعَهُ يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، وَوَقَفَهُ غيره"2. وقال البيهقي: "يحيى بن سليم كثير الوهم، سيئ الحفظ، وقد رواه غيره عن إسماعيل بن أمية موقوفاً"3. والرواية التي أشار إليها البيهقي رحمه الله، أَخْرَجَهَا الدارقطني في (سننه) 4 من طريق: إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه موقوفاً من قوله، قال الدارقطني: " ... موقوف، هو الصحيح". فقد خالف إسماعيل بن عياش يحيى بن سليم، فجاء به عن   (9/256) . 2 سنن الدارقطني: (4/268) . 3 السنن: (9/256) . (4/269) ح 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 إسماعيل بن أمية موقوفاً، ورواية ابن عياش هذه عن غير الشاميين، فهي ضعيفةٌ عند العلماء، وقد قال ابن القطان - في رَدِّهِ على عبد الحق -: "ولم يخالف يحيى بن سليم في رفعه عن إسماعيل بن أمية إلا من هو دونه، وهو إسماعيل بن عياش"1. وَأَعَلَّه كذلك صاحب (الجوهر النقي) 2 بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين. قلت: فلذلك لا تُعَلُّ رواية يحيى بن سليم بمخالفة إسماعيل بن عياش له عن إسماعيل بن أمية، ولكن تعلُّ رواية إسماعيل بن أمية بمخالفة الأئمة الجهابذة له: الثوري، وأيوب السختياني، وحماد بن سلمة، وعبيد الله بن عمر وغيرهم؛ إذ جاءوا به عن أبي الزبير، عن جابر موقوفاً، وهذا الذي سَلَكَه أبو داود - رحمه الله - في إعلال رواية يحيى بن سليم الطائفي. وحينئذٍ يمكن لنا أن نقول: إن رواية هؤلاء الأثبات لهذا الحديث عن أبي الزبير موقوفاً، تُقَوِّي رواية ابن عياش له عن إسماعيل بن أمية موقوفاً، لموافقتها رواية هؤلاء الحفاظ، وعند ذلك ينسب الوهم ليحيى ابن سليم في رفعه عن إسماعيل بن أمية؛ فإنه كان سيئ الحفظ، كما قال غيرُ واحدٍ من أهل العلم3. وأما رواية أبي أحمد الزبيري، عن الثوري، عن أبي الزبير: فقد   1 بيان الوهم والإيهام: (3/577) ح 1366. (9/256) . 3 انظر: تهذيب التهذيب: (11/226 - 227) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 ضَعَّفَهَا العلماءُ أيضاً، فقال الدارقطني: "لم يُسْنِده عن الثوري غير أبي أحمد، وخالفه وكيعٌ، والعَدَنِيَّان1، وعبد الرزاق، ومؤمل، وأبو عاصم وغيرهم: عن الثوري رووه موقوفاً، وهو الصواب"2. ونقل البيهقي عن سليمان بن أحمد اللَّخْمي- شيخ شيخ البيهقيِّ في هذا الحديث - قوله: "لم يرفع هذا الحديث عن سفيان إلا أبو أحمد"3. وقد كان أبو أحمد الزبيري هذا يخطئ في حديث الثوري4، وقد خالف - مع ذلك - الأثبات من أصحاب الثوري - وعلى رأسهم وكيع - لذا وجب تقديم رواية الجماعة، والحكم على روايته بالخطأ، وهذا ما سَلَكَهُ الدارقطني رحمه الله. وأما روايةُ ابن أبي ذئب عن أبي الزبير: فقد ضَعَّفَهُا الإمام البخاري، فقال: "ليس هو بمحفوظ، ويروي عن جابر خلاف هذا، ولا أعرفُ لابن أبي ذئب عن أبي الزبير شيئاً"5. قلت: وفي الإسناد "الحسين بن يزيد الطحان" لَيَّنَهُ أبو حاتم6، وتبعه الحافظ ابن حجر7.   1 هما: عبد الله بن الوليد العدني، ويزيد بن أبي حكيم العدني. (تهذيب الكمال11/163– 164) . 2 سنن الدارقطني: (4/268) . 3 سنن البيهقي: (9/255) . 4 تهذيب التهذيب: (9/255) . 5 علل الترمذي: (2/636) . 6 الجرح والتعديل: (1/2/67) . 7 التقريب: (ص 169) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 وأما رواية ابن أبي أنيسة، عن أبي الزبير: فقد ضَعَّفَها البيهقي قائلاً: "ويحيى ابن أبي أنيسة متروكٌ لا يحتجُّ به"1. وضعف أيضاً رواية الأوزاعي، فقال: "رواه بقية بن الوليد، عن الأوزاعي، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، ولا يحتجُّ بما ينفرد به بقية، فكيف بما يخالف فيه"2. فهذا مجملُ القولِ في طرق هذا الحديث عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، وقد تَبَيَّنَ عدمُ انتهاض أيٍّ منها للحجة، وبخاصة إذا عورضت برواية الثقات الأثبات - الذين تقدم ذكرهم - له عن جابر موقوفاً. وأما الطريق الثاني: من طرق هذا الحديث عن جابر رضي الله عنه، وهي رواية وهب بن كيسان: فقد أخرجها الدارقطني في (سننه) 3، والطحاويُّ في (أحكام القرآن) 4، وابن عدي في (الكامل) 5، من طريق: إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبيد الله بن حمزة6، عن وهب، عن جابر مرفوعاً. وهو عند ابن عديّ: عن وهب، ونعيم بن عبد الله.   1 السنن: (9/256) . 2 المصدر السابق. (4/267) ح 6. 4 كما في نصب الراية: (4/203) . (5/1923) . 6 ابن صهيب بن سنان الحمصي، ضعيفٌ، ولم يرو عنه غير إسماعيل بن عياش، من السابعة/ ق. (التقريب 358) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وقد ضُعِّفَ هذا الطريق أيضاً، قال ابن أبي حاتم: "سألت أبا زرعة عن حديث رواه إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب بن كيسان ونعيم بن عبد الله ... ؟ قال أبو زرعة: هذا خطأٌ، إنما هو موقوفٌ عن جابر فقط، وعبد العزيز بن عبيد الله: واهي الحديث"1. وقال ابن عدي: "هذا إنما يرفعه عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب بن كيسان ونعيم بن عبد الله"2. ثم قال - بعد أن سرد له أحاديث -: "وهذه الأحاديث التي ذكرتها لعبد العزيز: مناكير كلها، وما رأيت أحداً يحدث عنه غير إسماعيل بن عياش"3. وقال الدارقطني: "تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب، وعبد العزيز ضعيفٌ، لا يحتجُّ به"4. وضعفه كذلك البيهقي5 بعبد العزيز هذا، وكذا ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 6. فهذا كلام الأئمة رحمهم الله: أبو داود، والبخاريُّ، وأبو زرعة، وابن عدي، والدارقطني، والبيهقي في تضعيف هذا الحديث مرفوعاً، وتصحيح رواية الوقف، مع ما تقدم من كلام عبد الحق رحمه الله، وكأن البغوي مال إليه ترجيح الوقف أيضاً، فقال: "ورواه سفيان   1 علل ابن أبي حاتم: (2/46) ح 1620. وانظر: (2/49) ح 1630. 2 الكامل: (5/1923) . 3 الكامل: (5/1924) . 4 سنن الدارقطني: (4/268) . 5 السنن: (9/256) . (2/175- 176) ح1105. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 الثوري، وأيوب، وحماد: عن أبي الزبير، وأوقفوه على جابر"1. وضعفه مرفوعاً أيضاً: الشيخ الألباني2 رحمه الله. قال البيهقي رحمه الله - بعد أن رَجَّحَ وقفه -: "وقول الجماعة من الصحابة على خلاف قول جابر، مع ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" 3. وقال الحافظ ابن حجر: "وإذا لم يصحّ إلا موقوفاً، فقد عارضه قول أبي بكر وغيره، والقياس يقتضي حله؛ لأنه سمك، لو مات في البر لأكل بغير تذكية، ولو نضب عنه الماء، أو قتلته سمكة أخرى فمات لأكل، فكذلك إذا مات وهو في البحر"4. فتحصَّلَ من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في إعلاله الرواية المرفوعة، وتقديم الموقوفة عليها، وأن ابن القطان لم يُصب حين ذهب إلى تقوية المرفوع، وبالله التوفيق.   1 شرح السنة: (11/245) . 2 ضعيف ابن ماجه: (ح 699) ، وضعيف الجامع: (ح 5021) . 3 السنن: (9/256) . وانظر: التمهيد: (16/226 - 228) . 4 فتح الباري: (9/619) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 2- باب الفأرة تقع في السمن فتموت فيه 86- (2) عن ميمونة رضي الله عنها: "أن فأرةً وقعت في سَمْنٍ فماتت، فَسُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "أَلْقُوهَا وَمَا حَولَهَا، وَكُلُوهُ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "اخْتُلِفَ فيه إسناداً ومتناً، والحديث من حديث: الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع ابن عباس يُحَدِّثُ عن ميمونة، ولفظه: "أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه". رواه الناسُ عن الزهري بهذا المتن والإسناد، ومتنه خرجه البخاريُّ في (صحيحه) ، والترمذي، والنسائي. وأصحاب الزهري كالمجمعين على ذلك. وخالفهم معمرٌ في إسناده ومتنه، فرواه عن: الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيه: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". ولما كان ظاهر هذا الإسناد في غاية الصحة، صَحَّحَ الحديث جماعةٌ، وقالوا: هو على شرط الشيخين، وحكي عن محمد بن يحيى الذُّهَلِي تصحيحه. ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه، ولم يروه صحيحاً، بل رأوه خطأ محضاً"1. ثم نقل كلام الأئمة: البخاري، والترمذي في إعلاله، وردَّ على ابن حبان في تصحيحه إياه.   1 تهذيب السنن: (5/ 336 - 340) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وقال مرة: "ولم يصح فيه التفصيل بين الجامد والمائع"1. قلت: هذا الحديث مداره على الزهري، ويُروى عنه على أوجه مختلفة: الوجه الأول: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود2، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه عن الزهري هكذا: مالكٌ، وابن عيينة، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن إسحاق، ومعمر في رواية، وغيرهم. أما مالك، فقد اختلف عنه: فرُوي عنه: عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة مرفوعاً. وروي عنه: عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر "ميمونة". وروي عنه: عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مقطوعاً، أسقطوا منه ابن عباس، وميمونة. ورواه يحيى القطان، وجويرية: عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس: أن ميمونة استفتت النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه أوجه الاختلاف على مالك في رواية هذا الحديث، ذكرها   1 إعلام الموقعين: (4/279) . 2 الهُذَلي، أبو عبد الله المدني، ثقةٌ فقيهٌ ثبتٌ، من الثالثة، مات سنة 94هـ، وقيل غير ذلك/ ع. (التقريب 372) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 الدارقطني في (علله) 1، ثم قال: "والصحيحُ: عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة". وقال ابن عبد البر: "وهذا اضطرب شديد عن مالك في إسناد هذا الحديث .... والصواب فيه: ما قاله يحيى ومن تابعه"2. وأما رواية ابن عيينة، عن الزهري: فأخرجها الحميدي في (مسنده) 3 - ومن طريقه: البخاريّ في (صحيحه) 4، والطبراني في (الكبير) 5 - قال: ثنا سفيان، ثنا الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنها به. وأخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) 6 - ومن طريقه الطبراني في (الكبير) 7 - قال: حدثنا سفيان به، بنحو ما تقدم. وسقط من الطبراني لفظة "فماتت"، وهي في المصنف. وأخرجه أحمد في (المسند) 8: حدثني سفيان به.   1 ج5 (ق 180/ب) . 2 التمهيد: (9/34) . (1/149 - 150) ح 312. 4 ك الذبائح والصيد: ح 5538. (23/429) ح 1043. (8/280) ح 4444. (24/15) ح 25. (6/329) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وأخرجه أبو داود في (سننه) 1: حدثنا مسدد، والترمذي في (جامعه) 2: حدثنا سعيد المخزومي وأبو عمار، والنسائي في (سننه) 3: أخبرنا قتيبة، كلهم عن: سفيان، عن الزهري به، بنحو ما تقدم، غير أن أبا داود سقطت من عنده لفظة: "فماتت". وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 4: حدثنا سفيان ... فذكره، لكنه قال فيه: "أن فأرة وقعت في سمن جامد لآل ميمونة". فزاد فيه كلمة "جامد"، لكن قال الحافظ ابن حجر: "ورواه الحميدي والحفاظ أصحاب ابن عيينة بدونها"5. وسيأتي أن حجاج بن منهال تابع الطيالسي على هذه اللفظة عن سفيان. وأخرجه ابن حبان في (صحيحه) 6 من طريق إسحاق بن راهويه، قال: أخبرنا سفيان ... عن ميمونة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تموت في السمن؟ فقال: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائباً فلا تقربوه". قال ابن حجر عن رواية إسحاق، عن سفيان هذه: "تفرد بالتفصيل عن سفيان دون حفاظ أصحابه، مثل أحمد والحميدي ومسدد   (4/180) ح 3841 ك الأطعمة، باب الفأرة تقع في السمن. (4/256) ح 1798 ك الأطعمة، باب الفأرة تموت في السمن. (7/178) . (ح 2716) . 5 فتح الباري: (1/344) . 6 الإحسان: (2/335) ح 1389. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وغيرهم"1. وقال مرة: "هذه الزيادة في رواية ابن عيينة غريبة"2. هذا ما يتعلق برواية ابن عيينة. وأما رواية الأوزاعي، عن الزهري: فأخرجها الإمام أحمد في (مسنده) 3 عن محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، عن الزهري ... بالإسناد السابق إلى ميمونة: أنها استفتتْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في فأرة سقطت في سمن لهم جامد ... الحديث. فهؤلاء أشهر الرواة عن الزهري: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنها به. وخالف هؤلاء جميعاً - من بين أصحاب الزهري -: معمرُ بن راشد، فقال فيه: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وهو: الوجه الثاني عن الزهري: أخرجه من هذا الطريق: عبد الرزاق في (مصنفه) 4 عنه، ولفظه: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن، قال: "إذا كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه".   1 فتح الباري: (9/669) . 2 المصدر السابق: (9/668) . (6/330) . (1/84) ح 278. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 ومن طريق عبد الرزاق أخرجه: أبو داود في (سننه) 1، وابن حبان في (صحيحه) 2 والبيهقي في (سننه) 3. وأخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) 4: حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري بإسناد عبد الرزاق، لكن بدون تفصيل، ففيه: أنه سئل عن فأرة ماتت في السمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه". فيكون هذا اختلافاً على معمر في متن هذا الحديث5، وستأتي الإشارة إلى أنه اختلف عليه في إسناده أيضاً. وأهل العلم إزاء هذا الاختلاف في هذا الحديث فريقان: فطائفة منهم رجحوا رواية الجماعة من أصحاب الزهري: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ميمونة. وحكموا على رواية معمر بالوهم والغلط، قال الترمذي: "حديث غير محفوظ"6. وسأل عنه البخاريَّ، فقال: "حديث معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: وَهِمَ فيه معمر، ليس له أصل"7. وقال   (4/181) ح 3842. 2 الإحسان: (2/335) ح 1390، 1391. (9/353) . (8/280) ح 4445. 5 وقد نَبَّهَ على هذا الاختلاف الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : (6/669) . 6 جامع الترمذي: (4/257) . 7 علل الترمذي: (2/758 - 759) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 أبو حاتم: "وهمٌ، والصحيح: الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم"1. وذهب إلى هذا: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال باضطراب معمر وخطئه في هذا الحديث2. وذكر الحافظُ ابن حجر أن أبا زرعة الرازي، والدارقطني قالا بذلك أيضاً، ولم أجد قول واحد منهما، إلا أن الدارقطني قد صحح هذا الطريق بالنسبة للخلاف الحاصل فيه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتيبة، لكنه لم يتعرض - فيما وقفت عليه من نسخة (العلل) - لرواية الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة3. وطائفةٌ أخرى ذهبت إلى أن الطريقين محفوظان عن معمر، منهم: محمد بن يحيى الذهلي، فقال: "والطريقان عندنا محفوظان إن شاء الله، لكن المشهور: حديث ابن شهاب، عن عبيد الله"4. وصححه أيضاً: الإمام أحمد5، وابن حبان رحمهما الله، فإنه ترجم له بقوله: "ذكر الخبر الدال على أن الطريقين اللذين ذكرناهما لهذه السنة جميعاً محفوظان". ثم أخرج تحت هذه الترجمة رواية معمر للطريقين كليهما6. واختار   1 علل ابن أبي حاتم: (2/12) ح 1507. 2 انظر: مجموع الفتاوى: (21/490، 516، 526) . 3 انظر: علل الدارقطني: ج 5 (ق 180/ب - 181/أ) . 4 التمهيد: (9/35) ، وانظر: فتح الباري: (1/344) وفيه قوله: "لكن طريق ... ميمونة أشهر". 5 مسائل الإمام أحمد - رواية عبد الله: (1/17) رقم 20. 6 الإحسان: (2/335) ح 1391. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 تصحيح الطريقين أيضاً: ابن رجب الحنبلي1 رحمه الله. وقد اختار ابن القَيِّم توهيمَ معمر، وتصويب رواية غيره عن الزهري، وقد مضى كلامه أول هذا البحث، وسيأتي مزيد كلام له في هذا. واستدلَّ الفريق الأول على ترجيح رواية من رواه: عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة بأدلة، منها: الأول: ما جاء في رواية الحميدي لهذا الحديث، عن سفيان - ومن طريقه البخاريُّ والطبراني - من أنه قيل لسفيان: فإن معمراً يحدِّثه2: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؟ قال: ما سمعت الزهري يقول إلا: عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد سمعته منه مراراً. فهذا سفيان بن عيينة - رحمه الله - يجزم بأنه لم يسمعه من الزهري إلا من حديث ميمونة. الثاني: ما أخرجه البخاري في (صحيحه) 3: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن يونس، عن الزهري: عن الدابة4 تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها؟ قال: "بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل" عن حديث عبيد الله بن عبد الله.   1 شرح علل الترمذي: (ص 485 - 486) . 2 أي: يحدِّث به. 3 ك الصيد والذبائح، ح 5539. 4 أي: في حكم الدابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 قال ابن القَيِّم رحمه الله: "واحتجاجه - أي الزهري - بالحديث من غير تفصيل: دليلٌ على أن المحفوظ من رواية الزهري إنما هو الحديث المطلق الذي لا تفصيل فيه، وأنه مذهبه، فهو رأيه وروايته، ولو كان عنده حديث التفصيل بين الجامد والمائع لأفتى به واحتجَّ به، فحيثُ أفتى بحديث الإطلاق، واحتجَّ به: دلَّ على أن معمراً غلط عليه في الحديث إسناداً ومتناً"1. وقال الحافظ ابن حجر: "وهذا يقدح في صحة من زاد في هذا الحديث عن الزهري التفرقة بين الجامد والذائب ... لأنه لو كان عنده مرفوعاً، ما سوَّى في فتواه بين الجامد وغير الجامد"2. الثالث: من أدلة هذا الفريق: أن معمراً قد اضطرب في هذا الحديث في الإسناد والمتن، فقد قال عبد الرزاق: "وقد كان معمر- أيضاً- يذكره عن الزهري، عن عبيد الله ... عن ابن عباس، عن ميمونة. وكذلك أخبرناه ابن عيينة"3. فهذا اضطراب سنده. وأما اضطراب متنه: فقال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... قد اضطرب حديث معمر، فقال عبد الرزاق عنه: فلا تقربوه. وقال عبد الواحد بن زياد عنه: وإن كان ذائباً أو مائعاً لم يؤكل. وقال البيهقي: وعبد الواحد بن زياد أحفظ منه. يعني: من عبد الرزاق. وفي بعض طرقه: فاستصبحوا به. وكل هذا غير محفوظ في حديث الزهري"4.   1 تهذيب السنن: (5/337) . 2 فتح الباري: (9/669) . 3 المصنف: (1/84) ح 279. 4 تهذيب السنن: (5/337) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 ثم ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر في معنى حديث أبي هريرة الْمُفَصَّل فقال: "وأما الحديث الذي رواه ابن وهب، عن عبد الجبار بن عمر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن: 87- (3) ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن فَأْرَةٍ وَقَعَتْ في سَمْنٍ؟ فقال: "أَلْقُوها وما حَولَهَا، وكُلُوا ما بَقِيَ" فقيل: يَا نبيَّ الله، أَرَأَيْتَ إن كان السَّمْنُ مَائِعَاً؟ قال: "انْتَفِعُوا به، ولا تَأْكُلُوهُ". قال ابن القَيِّم: "فعبد الجبار بن عمر: ضعيفٌ، لا يحتجُّ به. وَرُوِيَ من وجهٍ آخرَ ضعيف: عن ابن جريج، عن ابن شهاب. قال البيهقي: والصحيح عن ابن عمر من قوله في فأرة وقعت في زيت، قال: "استصبحوا به، وادهنوا به أدمكم""1. قلت: هذا هو: الوجه الثالث: من أوجه رواية هذا الحديث عن الزهري: وقد أخرجه: ابن وهب في (موطئه) كما ذكر ذلك ابن عبد البر في (التمهيد) 2، ومن طريقه: أخرجه البيهقي في (سننه) 3، من طريق: عبد الجبار بن عمر4 به.   1 تهذيب السنن: (5/340) . (9/36) . (9/354) . 4 الأيلي، الأموي مولاهم ضعيفٌ، من السابعة، مات بعد الستين/ ت ق. (التقريب332) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 وقد ضَعَّفَهُ جماعة من العلماء: قال أبو حاتم: " ... وَهْمٌ، والصحيح: الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة"1. وقال محمد بن يحيى الذهلي: "وهذا الإسناد عندنا غير محفوظ، وهو خطأ، ولا يُعرف هذا الحديث من حديث سالم، وعبد الجبار ضعيفٌ جداً"2. وقال الدارقطني: "ورواه عبد الجبار بن عمر، عن الزهري ... ووهم فيه"3. وقال البيهقي: "عبد الجبار بن عمر غير محتج به"4. وأما الطريق الآخر الذي أشار إليه ابن القَيِّم: فأخرجه الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 5، من طريق: يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن ابن شهاب ... بمثل إسناد عبد الجبار المتقدم. قال البيهقي: "والطريق إليه - يعني إلى ابن جريج - غيرُ قويٍّ، والصحيح عن ابن عمر: من قوله، موقوفاً عليه غير مرفوع". واختار الحافظ ابن حجر تصحيح الوقف6. فتلخص من ذلك: أن الصحيح في هذا الحديث: عن الزهري،   1 علل ابن أبي حاتم: (2/12) ح 1507. 2 التمهيد: (9/36) . 3 العلل: ج 5 (ق180/ب) . 4 السنن: (9/354) . 5 قط: (4/291) ح 80. هق: (9/354) . 6 فتح الباري: (9/669) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنهم. بدون ذكر التفصيل بين الجامد والمائع. وهو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله. ومع ذلك، فإن الجمهور على العمل برواية التفصيل والأخذ بمقتضاها1؛ قال ابن عبد البر رحمه الله: "في هذا الحديث معانٍ من الفقه، منها ما اجْتُمِعَ عليه، ومنها ما اخْتُلِفَ فيه، فأما ما اجتمع عليه العلماء من ذلك: أن الفأرة، ومثلها من الحيوان كله يموت في سمنٍ جامدٍ، أو ما كان مثله من الجامدات، أنها تُطْرَحُ وما حولها من ذلك الجامد، ويؤكل سائره إذا استيقن أنه لم تصل الميتة إليه، وكذا أجمعوا: أن السَّمْنَ - وما كان مثله - إذا كان مائعاً ذائباً، فماتتْ فيه فأرةٌ - أو وقعت وهي ميتة - أنه قد نجس كله، وسواء وقعت فيه ميتة، أو حية فماتت، يتنجس بذلك، قليلاً كان أو كثيراً. هذا قول جمهور الفقهاء، وجماعة العلماء"2. والله أعلم.   1 انظر: فتح الباري: (1/344) . 2 التمهيد: (9/40) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 3- باب في الأكل مع المجذوم 88- (4) عن جابر رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ، فَأَدْخَلَهَا مَعه في القَصْعَةِ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... حديثٌ لا يثبتُ ولا يصحُّ، وغايةُ ما قال فيه الترمذيُّ: إنه غريب، لم يصححه ولم يحسنه، وقد قال شعبة: اتَّقُوا هذه الغرائب. قال الترمذيُّ: ويُروى هذا من فِعْلِ عمر، وهو أثبتُ"1. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سننهم) 2، وابن حبان في (صحيحه) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، والعقيلي في (الضعفاء) 5، وابن عدي في (الكامل) 6، والبيهقي في (شعب الإيمان) 7، كلهم من طريق:   1 زاد المعاد: (4/153) . 2 د: (4/239) ح 3925 ك الطب، باب في الطيرة. ت: (4/266) ح 1817 ك الأطعمة، باب ما جاء في الأكل مع المجذوم. جه: (2/1172) ح 3542، ك الطب، باب الجذام. 3 الإحسان: (7/641) ح 6087. (4/136 - 137) . (4/242) . (6/2404) . (3/513) ح 1294. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 الْمُفَضَّل بن فضالة، عن حبيب بن الشَّهيد1، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ2 فَوَضَعَهَا مَعَه في القَصْعَةِ، وقال: كُلْ ثقةً بالله، وتَوَكُّلاً عليه". هذا لفظ أبي داود، وابن ماجه. وعند الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والعقيلي، والبيهقي: "كُلْ بسم الله، ثقة بالله ... ". قال أبو عيسى الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد3، عن المفضل بن فضالة، والمفضل بن فضالة هذا شيخٌ بصريٌّ. والمفضل بن فضالة شيخ آخر مصري أوثقُ من هذا وأشهر. وقد روى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن ابن بريدة: أن عمر4 أخذ بيد مجذوم. وحديث شعبة أثبت عندي وأصحّ". وهذا الكلام بحروفه - مع تقديم وتأخير - هو كلام الإمام البخاريِّ رحمه الله؛ فإنَّ الترمذي أخرجَ هذا الحديث في (علله) 5 وقال: "سألتُ محمداً عن هذا الحديث ... " فذكره.   1 الأزدي، أبو محمد البصري، ثقةٌ ثبت، من الخامسة، مات سنة 145هـ / ع. (التقريب151) . 2 يقال: رجلٌ أَجْذَمٌ وَمَجْذُومٌ وَمُجَذَّمٌ إذا تَهَافَتَتْ أَطْرَافُهُ من داءِ الجُذَامِ. (لسان العرب: ص 578، مادة: جذم) . 3 ابن مسلم البغدادي، أبو محمد المؤدب، ثقة ٌثبتٌ، من صغار التاسعة، مات سنة 207هـ / ع. (التقريب 614) . 4 في بعض نسخ الترمذي: "ابن عمر". والمثبت هو الصواب؛ فإنه هكذا في رواية الترمذي في (العلل) ، وكذا في (تحفة الأشراف) : (2/358) ، وهو الذي نقله ابن القَيِّم عن الترمذي. (2/770) ك الأطعمة، باب ما جاء في الأكل مع المجذوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 وقال ابن عدي: "هذا لا أعلم يرويه غير حبيب، ولمفضل بن فضالة عن هشام، عن عروة نسخة ... غير أني لم أر في حديثه أنكر من هذا الحديث، والذي أمليته - يعني حديث الأكل مع المجذوم - وباقي حديثه مستقيم". وأخرجه ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 1 بإسناده إلى الحاكم، ثم قال: "قال الدارقطني: تفرد بن المفضل، قال يحيى: ليس المفضل بذاك". قلت: وقد تُوبع المفضل بن فضالة على روايته هذه، فأخرجه ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 2 من حديث: عبيد الله بن تمام، عن إسماعيل المكي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر به، ولفظه: "كُلْ بسم الله، إيماناً بالله، وتوكلاً عليه". ولكن هذا الإسناد ضعيفٌ جداً؛ فإن عبيد الله بن تمام، أبا عاصم الواسطي: ضعفه الدارقطني، وأبو حاتم، وأبو زرعة3. وإسماعيل المكي: هو ابن مسلم، قال ابن الجوزي عقب إخراجه: "قال أحمد: إسماعيل المكي منكر الحديث. قال يحيى: لم يزل مختلطاً، وليس بشيء ... وقال النسائي: متروك الحديث"4. فلا تفيد هذه المتابعة الحديث شيئاً. وأما رواية شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن ابن بريدة، عن   (2/386) ح 1456، ك المرض، حديث في الأكل مع المجذوم. (2/387) . 3 الميزان: (3/4) . 4 انظر أقوال العلماء فيه في: تهذيب التهذيب: (1/331 - 333) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 عمر رضي الله عنه في أكله مع المجذوم - التي صَوَّبَهَا البخاريُّ والترمذي -: فلم أقف على من أخرجها، لكن أخرج العقيليُّ من طريق: عبد الرحمن بن زياد، عن شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن عبد الله بن بريدة قال: "كان سلمان يعملُ بيديه، ثم يشتري طعاماً، ثم يبعث إلى الْمُجَذَّمين فيأكلون معه"1 فجعل "سلمان" مكان "عمر" ثم قال العقيلي عقبه: "هذا أصلُ الحديث، وهذه الرواية أولى". قال الشيخ الألباني: "ولعله الصواب؛ فإن إسناده صحيحٌ، وعبد الرحمن بن زياد هذا: هو الرصاصي، قال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو زرعة: لا بأس به"2. وأما قصة أكل عمر مع المجذوم: فقد أخرج عبد الرزاق في (المصنف) 3 عن معمر، عن أبي الزناد: أن عمر قال لمعيقيب4 الدَّوسي: "ادن مني، فلو كان غيرك ما قعد مني إلا كقيد رمح". وكان أجذم. وهذا مرسلٌ؛ فإنَّ أبا الزناد لم يدرك ابن عمر ولم يره كما قال أبو حاتم5، فكيف بروايته عن عمر؟!   1 الضعفاء: (4/242 - 243) . 2 السلسلة الضعيفة: (3/282) ح 1144. (10/405) ح 19510. 4 ابن أبي فاطمة الدوسي، حليف بني عبد شمس، من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد، وولي بيت المال لعمر، ومات في خلافة عثمان أو علي/ع. (التقريب 542) . 5 المراسيل: (ص 111) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 فإذا تَقَرَّرَ عندنا ضعفُ حديث جابر هذا، علمنا أن قول الحاكم: "صحيح الإسناد". وموافقة الذهبي له، وقول ابن حجر: "حسن"1، وقول السيوطي: "صحيح"2: ليس بصواب، وأنَّ الصواب: ما ذهب إليه ابن القَيِّم من ضَعْفِ هذا الحديث، والله أعلم.   1 كما نقله صاحب فيض القدير: (5/41) . 2 في الجامع الصغير مع فيض القدير: (5/41) . وقد ضعفه الشيخ الألباني. (ضعيف الجامع الصغير رقم 4200) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 13- من كتاب الأيمان والنذور 1 - باب النذر في المعصية، ومن رأى أن عليه الكفارة 89 - (1) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نَذْرَ في مَعْصِيَةٍ، وكَفَّاَرُتُه كَفَّاَرُة يَمَيٍن" 1. استدل ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذا الحديث للقائلين بوجوب الكفارة في نذر المعصية، وذهب إلى صِحَّةِ الحديثِ بطرقهِ وشواهِدِهِ كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وذكر - رحمه الله - عند كلامه على حكم طلاق الغضبان حديث: 90- (2) عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نَذْرَ في غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ". قال ابن القَيِّم: "وهو حديث صحيحٌ، وله طرقٌ"2. وقد أورده - رحمه الله - للاستدلال به على أنَّ طلاق الغضبان لا يقع، وذلك بطريق الأولى، فقال: "فإذا كان النذر – الذي أثنى الله على من أوفى به، وأمر رسوله بالوفاء بما كان منه طاعة – قد أَثَرَّ الغضب في انعقاده، لكون الغضبان لم يقصده ... فالطلاق بطريق الأولى والأحرى"3.   1 تهذيب السنن: (4/373 – 376) . 2 الإغاثة الصغرى: (ص 39 – 40) . 3 الإغاثة الصغرى: (ص 41) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 قلت: أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طرق: عن يونس بن يزيد4، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة به. وهذا الإسناد رجاله ثقاتٌ، إلا أنه معلولٌ، كما قال الحافظ ابن حجر5 رحمه الله. وقد بَيَّنَ الأئمة عِلَّتَهُ، فقال الترمذي عقبه: "هذا حديث لا يصحُّ؛ لأنَّ الزهريَّ لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة". وقال النسائيُّ: "وقد قيل: إنَّ الزهريَّ لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة" وقال البيهقي مثل ذلك. قلت: فيكون هذا الإسناد منقطعاً. ودليلهم على عدم سماع الزهري هذا الحديث من أبي سلمة: أنه قد روى عن الزهري على غير هذا الوجه.   1 د: (3/594) ح 3290، 3291، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. ت: (4/103) ح 1524، باب ما جاء عن رسول الله أن لا نذر في معصية. س: (7/26- 27) ، باب كفارة النذر. جه: (1/686) ح 2125، باب النذر في المعصية. كلهم في كتاب الأيمان والنذور، إلا ابن ماجه، فهو عنده في (الكفارات) . (6/247) . (10/69) . 4 ابن النَّجَّاد الأيلي، أبو يزيد، مولى آل أبي سفيان، ثقةٌ، إلا أنَّ في روايته عن الزهري وهماً قليلاً، وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة، مات سنة 159هـ على الصحيح/ ع. (التقريب 614) . 5 انظر: فتح الباري: (11/587) ، والتلخيص الحبير: (4/175) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 فرواه عبد الله بن أبي عتيق1، وموسى بن عقبة، كلاهما عن الزهري، عن سليمان بن أرقم2، عن يحيى بن أبي كثير3، عن أبي سلمة، عن عائشة به. أخرجه بهذا الإسناد: أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبيهقي في (سننهم) 4. قال البخاريُّ – بعد أن ساقه من طريق سليمان بن أرقم هذه-: "والحديث هو هذا"5. وكذا صححه الدارقطني فقال – بعد أن ساق وجوه الاختلاف فيه -: "والصحيح: حديث ابن أبي عتيق، وموسى بن عقبة، عن الزهري"6. فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن الزهريَّ – رحمه الله – إنما سمع الحديث من سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، "فَدَلَّسَهُ بإسقاط اثنين" - كما قال ابن حجر7- ورواه عن أبي سلمة مباشرة. ونازع الشيخ الألباني في القول بتدليس الزهريِّ هنا، وأنه يحتمل   1 عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أبو بكر، صدوقٌ فيه مزاحٌ، من الثالثة/ خ م س ق. (التقريب 321) . 2 البصري، أبو معاذ، ضعيفٌ، من السابعة/ د ت س. (التقريب 250) . 3 أبو نصر اليمامي. 4 د: (3/595) ح 3292، ت: (4/103) ح 1525، س: (7/27) ، هق: (10/69) . 5 جامع الترمذي: (4/103) ، وانظر العلل له: (2/651 – 652) . 6 علل الدارقطني: ج5 (ق 72) . 7 فتح الباري: (11/587) . وانظر: جامع التحصيل: (ص 331) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 أن يكون له فيه إسنادان، أحدهما: عن سليمان بن أرقم، عن يحيى، عن أبي سلمة، والآخر: عن أبي سلمة مباشرة قال: "ويؤيد هذا أنه قد صَرَّحَ بالتحديث في رواية له" فذكر رواية عند النسائي1 وفيها قول الزهري: "حدثنا أبو سلمة"2. قلت: وما ذكره الشيخ الألباني – رحمه الله – لو صحَّ لكانَ دليلاً على سماع الزهريَّ الحديث من أبي سلمة، لكن يبدو أنَ كلمة "حَدَّثَنا" مُصَحَّفَةٌ، وصوابها: "حَدَّثَ"، كذا نقله المزِّي في (تحفة الأشراف) 3، ونقله الدارقطني في (علله) 4 فقال: " ... وقال أبو ضمرة: عن يونس، عن ابن شهاب قال: حدث أبو سلمة". وحينئذٍ تكونُ هذه اللفظة من الزهري دليلاً على عدم سماعه منه لا العكس. وَيُؤَكِّدُ ذلك: أنَّ أبا داود قال عقب رواية الزهري عن أبي سلمة هذه: "وسمعت أحمد بن شبويه يقول: قال ابن المبارك - يعني في هذا الحديث -: حَدَّثَ أبو سلمة. فدلَّ على أن الزهريَّ لم يسمعه من أبي سلمة"5. والله أعلم. على أن طريق سليمان بن أرقم المتصلة هذه معلولة - أيضاً - بأمور:   1 سنن النسائي: (7/27) . 2 إرواء الغليل: (8/216) . (12/367) . 4 ج 5 (ق 72) . 5 سنن أبي داود: (3/595) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 أولها: اتِّفَاقُهم على ضعف "سليمان بن أرقم": قال البخاريُّ - عقب حكايته هذه الطريق -: "وسليمان بن أرقم متروكٌ، ذاهب الحديث"1. وكذا قال النسائي - عقب روايته الحديث -: "سليمان ابن أرقم متروك الحديث"، وقال ابن حجر: "ضعيف باتفاقهم"2. ثانيها: أنَّ سليمان بن أرقم - مع ضعفه - قد وَهِمَ في هذا الحديث؛ فإنَّ غير واحدٍ من أصحاب يحيى بن أبي كثير خالفوه في إسناده، فرووه عن: محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو داود – عقب إخراج حديث سليمان بن أرقم -: "قال أحمد بن محمد المروزي: إنما الحديث حديث على بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين" قال أبو داود: "أراد: أن سليمان بن أرقم وَهِمَ فيه، وحمله عنه الزهري، وأرسله عن أبي سلمة، عن عائشة"3. ثم قال أبو داود: "روى بقية، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن محمد بن الزبير، بإسناد علي بن المبارك مثله". قلت: والحديث من طريق علي بن المبارك، ومن طريق الأوزاعي   1 علل الترمذي: (2/652) . 2 فتح الباري: (11/587) . وينظر كلام العلماء عليه مُفَصَّلاً في تهذيب التهذيب: (4/168 – 169) . 3 سنن أبي داود: (3/596) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 أخرجه: النسائي في (سننه) 1، وأخرجه البيهقي من طريق الأوزاعي2 فقط. وحديث يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير هذا: هو الذي ساقه ابن القَيِّم - رحمه الله - بلفظ "لا نَذْرَ في غضبٍ ... ". وسيأتي بيان هذا اللفظ. فَرَجَعَ بذلك حديث أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، إلى حديث: محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين. إلا أنَّ حديث عمران هذا معلوٌلٌ - أيضاً - بثلاث علل، وهي: 1- ضعف إسناده. 2- انقطاعه. 3- اضطرابه سنداً ومتناً. وبيان ذلك: أولاً: ضعف إسناده: فإنَّ "محمدَ بن الزبير الحَنْظَلِيّ" ضَعَّفَهُ غيرُ واحدٍ من العلماء، حتى قال البخاريُّ: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم: "في حديثه إنكار"3. وقال الحافظ ابن حجر: "متروك"4. وكذلك أبوه الزبير: لم يرو عنه إلا ابنه محمد، وذكره أبو العرب   (7/27 – 28) . 2 سنن البيهقي: (10/70) . 3 تنظر أقوال العلماء فيه في (تهذيب التهذيب) : (9/167) . 4 التقريب: (ص 478) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 في كتابه (الضعفاء) 1. وقال ابن حجر: "لَيِّنُ الحديث"2. ثانياً: انقطاعه: فقال النسائي: "قيل: إن الزبير لم يسمع هذا الحديث من عمران بن حصين"3. وقال البيهقي مثل ذلك، ثم ساق بإسناده إلى يحيى بن معين أنه قال: "قيل لمحمد بن الزبير الحنظلي: سمع أبوك من عمران بن حصين؟ قال: لا"4. ومما يدلُّ على انقطاعه: ما أخرجه النسائي5، والبيهقي6 من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن رجل صَحِبَهُ، عن عمران به. هذا سياق البيهقي، وعند النسائي: "عن أبيه، عن رجل من أهل البصرة قال: صحبت عمران بن حصين، وفيه قصة، ولفظه: "لا نذر في غضب ... ". وأخرج النسائي7 من حديث عبد الوارث بن سعيد، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، أن رجلاً حَدَّثَهُ: أنه سأل عمران. ولفظه: "لا نَذْرَ في غَضَبٍ ... ".   1 انظر: تهذيب التهذيب: (3/320 – 321) . 2 التقريب: (ص 214) . 3 سنن النسائي: (7/28) . 4 سنن البيهقي: (10/70) . وانظر: تهذيب التهذيب: (3/320) . (7/28) . (10/70) . (7/29) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 قال أبو حاتم الرازي - بعد أن بَيَّنَ وجوهَ الاختلاف فيه على محمد بن الزبير-: "حديث عبد الوارث أشبه، لأنه قد بَيَّنَ عورة الحديث"1. ثالثاً: اضطرابه سَنَدَاً وَمَتْنَاً: أما اضطراب إسناده: فإنه رُوِيَ عن محمد بن الزبير على أوجه مختلفة، وقد ذكرنا بعضها فيما مضى، ونضيف إليها هنا: - أنه رواه سفيان الثوري، عن محمد بن الزبير، عن الحسن، عن عمران بن حصين به، أخرجه النسائي2، وأحمد3، والحاكم4، والبيهقي5. ولفظه: "لا نذر في معصية ولا غضب ... ". - وأخرجه النسائي6 من طريق: منصور بن زاذان، عن الحسن، عن عمران بن حصين، لم يذكر محمد بن الزبير. قال البيهقي: "وهذا - أيضاً - منقطعٌ، ولا يصحُّ عن الحسن عن عمران سماع من وجه صحيح يثبت مثله"7. ثم ساق بإسناده   1 علل ابن أبي حاتم: (1/440) . 2 السنن: (7/29) . 3 المسند: (4/443) . 4 المستدرك: (4/305) . 5 السنن: (10/70) . (7/29) . 7 سنن البيهقي: (10/70 – 71) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 إلى علي بن المديني - رحمه الله - القول بعدم صحة ذلك1. - وخالف هؤلاء - أيضاً - علي بن زيد بن جدعان، فجعله عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه النسائي2، ثم قال: "عليُّ بن زيد ضعيف، وهذا الحديثُ خطأ، والصواب: عمران بن حصين". وأما اضطراب متنه: فقد جاء لفظه مرةً: "لا نذر في معصية ... "، ومرة جاء: "لا نذر في غضب ... "، وجاء مرةً: "لا نذر في معصية ولا غضب ... ". وتقدمت كل هذه الألفاظ. وقد أشار الحافظ العراقيُّ إلى الاضطراب في حديث محمد بن الزبير هذا3. وقال الشيخ الألباني - بعد أن ذكر بعض وجوه الاختلاف في إسناده -: "وهذا اضطراب شديد يسقط الحديث بمثله لو كان من رواية ثقة؛ لأنَّ الاضطراب في روايته يدل على أنه لم يحفظه، فكيف إذا كان الراوي واهياً، وهو محمد بن الزبير؟ "4. ونعود الآن إلى موقف ابن القَيِّم - رحمه الله - من هذين الحديثين، وما استند إليه في تصحيحهما:   1 وانظر: المراسيل لابن أبي حاتم: (ص 38) . 2 السنن: (7/29 – 30) . 3 كما في فيض القدير: (6/437) . 4 إرواء الغليل: (8/213) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 قال ابن القَيِّم رحمه الله: "هذه الآثار قد تَعَدَّدَتْ طرقها، ورواتها ثقاتٌ"1. كذا قال رحمه الله. قلت: أما تعدد طرقها: فقد تَبَيَّنَ مما مضى أن طرق هذه الأحاديث وإن تعددت، فإنها مختلفة مضطربة، فلم يزدد الحديث بها إلاّ اضطراباً، كما ظهر لنا أن الحديثين – بكل طرقهما – إنما يرجعان إلى طريق واحدٍ هو: محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين. وأما ثقة رواتها: فقد وُجِدَ الأمر على خلاف ذلك، ففي طريق عائشة: "سليمان بن أرقم" المتروكُ الذي لا تقوم به حجة، وفي طريق عمران بن حصين: "محمد بن الزبير" الضعيفُ، "وأبوه" المجهول. ثم قال ابن القَيِّم: "وإن كان الزهريُّ لم يسمعه من أبي سلمة، فإنَّ له شواهدَ تُقَوِّيِهِ"2 وذكر من هذه الشواهد حديث عمران بن حصين. قلت: قد تقدم ضعف حديث عمران وشدة اضطرابه، وعلمنا أن حديث عائشة هو نفسه حديث عمران بن حصين، وإنما غَلِطَ فيه سليمان ابن أرقم، وخالفه غيره. فكيف يكون أحد الحديثين شاهداً للآخر؟! ثم أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى شاهدٍ آخر، وهو: ما أخرجه   1 تهذيب السنن: (4/374) . 2 تهذيب السنن: (4/374) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 ابن الجارود في (المنتقى) 1 من طريق: موسى بن أعين، ثنا خطاب2، ثنا عبد الكريم، عن عطاء بن أبي رباح: 91- (3) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النذرُ نَذْرَان: فما كان لله كفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين". قال الشيخ الألباني: "وهذا إسناد صحيحٌ، رجاله كلهم ثقات رجال البخاريِّ، غير خَطَّاب، وهو ابن القاسم الحراني، وهو ثقة كما قال ابن معين وأبو زرعة في رواية عنه، وقال البرذعي عنه: منكر الحديث، يقال: إنه اختلط قبل موته. وذكره ابن حبان في الثقات"3. ثم اعترض على ابن حجر في جزمه باختلاط خطاب هذا حيث إنه لم يذكره به سوى أبي زرعة، ومع ذلك لم يجزم به. قلت: وأخرج هذا الحديث البيهقيُّ في (سننه) 4 - من طريق ابن الجارود - وَضَعَّفَهُ! ثم ذكر ابن القَيِّم شاهداً آخر. وَصَحَّحَ إسناده، وهو ما رواه الطحاوي:   (ح 935) . 2 ابن القاسم الحرَّاني، قاضيها، ثقةٌ اختلط قبل موته، من الثامنة/ د س. (التقريب194) . 3 السلسلة الصحيحة: (ح479) . (10/72) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 92- (4) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ نَذَرَ أن يطيعَ الله فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَر أن يعصي الله فلا يعصه، ويُكَفِّر عن يمينه". قال ابن القَيِّم: "وهو عند البخاري إلا ذكر الكفارة"1. ثم نقل عن عبد الحق قوله: "وهذا أصحُ إسناداً، وأحسن من حديث أبي داود" يعني: حديث الزهري، عن أبي سلمة المتقدم. قلت: هذا الحديث أخرجه الطحاوي في (مشكل الآثار) 2 من طريق: حفص بن غياث، قال: سمعت ابن مُجَبَّر3، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها به. وأخرجه البخاري في (صحيحه) 4 من طريق: طلحة بن عبد الملك5، عن القاسم، عن عائشة به، بدون هذه الزيادة التي فيها ذكر الكفارة. وابن مجبر - راويه عن القاسم عند الطحاوي - هو: عبد الرحمن ابن مجبّر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، روى عن: سالم بن عبد الله،   1 تهذيب السنن: (4/374 – 375) . (1/470 – 471) ، (3/37) . 3 وقع في المشكل: "ابن محرز"، والصواب ما أثبته. انظر: (الجوهر النقي 10/71) ، (وفتح الباري 11/581) . 4 ك الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة. ح 6696 (الفتح: 11/581) . 5 الأيلي، ثقة، من السادسة / خ 4. (التقريب 282) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وروى عنه: مالك بن أنس، وثقه عمرو بن علي1، وكذا ابن حبان2. وقد روى الحديث: طلحةُ بن عبد الملك الأيلي - كما عند البخاري - وتابعه عليه: أيوب السختياني3، كلاهما عن القاسم به، ولم يذكرا هذه الزيادة، فإمَّا أن يُقال: ابن مجبر ثقة فزيادته مقبولة، وإما أن يقال: إنه قد خالف من هو أوثقُ منه وأكثر عدداً فتردُّ زيادته، ولعلَّ هذا الأخير هو ما تطمئن إليه النفس، وقد قال ابن القطان رحمه الله: "عندي شكُّ في رفع هذه الزيادة"4. وبعد، فهذا ما انتهى إليه البحث، مع الإمام ابن القَيِّم -رحمه الله- في هذه القضية، وخلاصة ذلك: أن حديث أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها في كفارة النذر غير صحيح، بل فيه ضعفٌ واضطراب، ولا يصلح حديث عمران بن حصين شاهداً له؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها قد رجع إلى حديث عمران. هذا مع ضعف حديث عمران أيضاً. أما الشواهد التي ساقها ابن القَيِّم: فلا يصلح أكثرها لتقوية هذا الحديث، وقد ثبت منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما إذا ترجح   1 الجرح والتعديل: (2/2/287) . 2 الثقات: (7/76) . 3 وروايته عند ابن حبان: (الإحسان 6/287) ح 4373. 4 التلخيص الحبير: (4/175) ح 2057. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 توثيق خطاب بن القاسم. وكذلك حديث عائشة - عند الطحاوي - فقد يصلح شاهداً إذا قيل بقبول الزيادة فيه من الثقة. ثم إن مضمون هذا الحديث - وهو القول بالكفارة في نذر المعصية - قد ذهب إليه: الإمام أحمد، وإسحاق، وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والجمهور على خلاف ذلك، مع اتفاقهم على الشطر الأول من الحديث وهو: أنه لا يجب الوفاء بنذر المعصية1، والله أعلم.   1 انظر: جامع الترمذي: (4/104 – 105) ، وفتح الباري: (11/587) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 14- من كتاب العتق 1 - باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم 93- (1) عن سمرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُو حُرُّ ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "هذا الحديث له خمسُ عللٍ: إحداها: تَفَرد حماد بن سلمة به، فإنه لم يحدث به غيره1. العلة الثانية: أنه اختلف فيه حماد وشعبة، عن قتادة، فشعبة أرسله، وحمادٌ وصله، وشعبةُ هو شعبةُ. العلة الثالثة: أن سعيد بن أبي عروبة خالفهما، فرواه: عن قتادة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله. العلة الرابعة: أن محمدَ بن يسار رواه: عن معاذ، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن قوله. وقد ذكر أبو داود هذين الأثرين. العلة الخامسة: الاختلاف في سماع الحسن من سمرة"2. قلت: هذا الحديث أخرجه: أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في: (جامعه) 4، و (علله) 5، والنسائي في (الكبرى) 6، وأحمد، والطيالسي   1 ومراده: أنه تفرد بوصله، وأنه لم يُحَدِّث به كذلك غيره. 2 تهذيب السنن: (5/407) . (4/259) ح 3949 ك العتق، باب فيمن ملك ذا رحم محرم. (3/637) ح 1365 ك الأحكام، باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم. (1/561) . (5/14) ح 4881. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 في (مسنديهما) 1، وابن الجارود في (المنتقى) 2، والطبراني في (الكبير) 3، والبيهقي في (سننه) 4 - من طريق أبي داود - من طرق، عن: حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن5، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، ولفظه كما تقدم، لكن وقع في إحدى روايات الإمام أحمد: "فهو عتيقٌ" بدل: "فهو حر". ووقع عند أبي داود من طريق موسى بن إسماعيل - أحد رواته عن حماد -: "عن سمرة بن جندب فيما يحسب حماد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ". قال أبو داود: "لم يُحَدِّث ذلك الحديث إلا حماد بن سلمة، وقد شكَّ فيه". وقال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه مسنداً إلا من حديث حماد بن سلمة". وسأل الترمذي البخاريَّ عنه؟ فلم يعرفه عن الحسن، عن سمرة إلا من حديث حماد بن سلمة"6. ونقل المنذري عن علي بن المديني قوله: "هذا عندي منكرٌ"7.   1 حم: (5/15، 18، 20) . طس: (ح 910) . (ح 973) . (7/248) ح 6852. (10/289) . 5 ابن أبي الحسن البصري، واسم أبيه: يسار، الأنصاري مولاهم، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهورٌ، وكان يُرْسِلُ كثيراً ويُدَلِّس، وهو رأس أهل الطبقة الثالثة، مات سنة110هـ / ع. (التقريب 160) . 6 علل الترمذي: (1/561) . 7 مختصر السنن: (5/408) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وكلام هؤلاء الأئمة - رحمهم الله - ظاهرٌ في كون حماد تَفَرَّدَ بوصل هذا الحديث، وعبارة الترمذي صريحة في ذلك، فإن هذا الحديث يُروى من وجه آخر عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، بدون ذكر "سمرة". وقد نقل المنذري وغيره عن أبي داود أنه قال: "شعبة أحفظ من حماد بن سلمة". قال المنذري: "يعني أنَّ شعبة رواه مرسلاً"1. وقال الخطابي: "أراد أبو داود من هذا: أنَّ الحديثَ ليس بمرفوع، أو ليس بمتصل، إنما هو: عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم"2. قلت: وكلمة أبي داود هذه لم أرها هكذا، والذي في (السنن) قوله: "سعيد أحفظ من حماد". وذلك أن أبا داود – رحمه الله – أخرجه من طريق: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن موقوفاً عليه3. وأخرجه مرة أخرى عن سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد والحسن مثله4. وأخرجه - قبل هذين الأثرين - من حديث سعيد أيضاً، عن قتادة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "من ملك ذا رحم ... " الحديث5. وأشار إلى الموقوف على عمر: الترمذيُّ6، والبخاريُّ7،   1 مختصر السنن: (5/408) . 2 معالم السنن: (5/408) . 3 سنن أبي داود: (4/261) ح 3951. 4 سنن أبي داود: (ح3952) . 5 المصدر السابق: (ح3950) . 6 في جامعه: (3/638) . 7 علل الترمذي: (1/561) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 لكنهما قالا: عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عمر رضي الله عنه، فلعلها رواية أخرى عن قتادة. فهذه الروايات من طريق سعيد هي التي قال أبو داود عقبها: "سعيد أحفظ من حماد". فَتَحَصَّلَ من ذلك أن هذا الحديث يُروى عن قتادة على عدة أوجه: 1- حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، مرفوعاً. 2- شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ولم أقف على هذه الرواية، ولكن تَقَدَّمَ نقل المنذري لكلام أبي داود فيها، وكذا كلام الخطابي. 3- سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن من قوله. مقطوعاً. 4- سعيد، عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد من قولهما. 5- سعيد، عن قتادة، عن عمر بن الخطاب من قوله، وتقدم أن أبا داود أخرج هذه الروايات الثلاث الأخيرة، وأخرجها أيضاً: النسائي في (سننه الكبرى) 1. 6- سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عمر رضي الله عنه موقوفاً عليه. ولم أقف على هذه الرواية أيضاً، لكن ذكرها البخاري والترمذي كما تقدم.   (5/14 – 15) ح 4883 – 4886. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 فهذه وجوه رواية هذا الحديث عن قتادة، والخوف أن يكون ذلك اضطراباً في هذا الحديث، لكن الذي يهمنا في هذا المقام: أن هذا الحديث لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم موصولاً، فهو ما بين: موقوف على عمر رضي الله عنه، أو مُرْسَل: عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ضَعَّفَ مراسليه جماعة -1 أو مقطوع من كلام الحسن رحمه الله. وقد تَقَدَّمَ كلامُ أبي داود في ترجيح الرواية المرسلة، وكذا ترجيح الموقوف من طريق سعيد، وقال الحافظ ابن حجر: "وَرَجَّحَ جمعٌ من الحفاظ أنه موقوف"2. وحتى لو حُكِمَ للرواية الموصولة، فإنها تبقى معلولةً – كما أشار ابن القَيِّم – بالخلاف في سماع الحسن من سمرة؛ فإنَّ كثيرين لا يثبتون له سماعاً منه، والحسن مدلس، وقد عنعن في هذا الحديث. وَثَمَّةَ شاهدٌ لحديث سمرة هذا، يُروى عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يتعرض له ابن القَيِّم رحمه الله: وهو ما أخرجه: النسائي في (الكبرى) 3، وابن ماجه في (سننه) 4، وابن الجارود في (المنتقى) 5، والحاكم في (المستدرك) 6،   1 انظر جامع التحصيل: (ص 100 – 101) . 2 بلوغ المرام مع سبل السلام: (4 / 1501) ح 1339. (5/13) ح 4877. (2/844) ح 2525. (ح 972) . (2/214) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 والبيهقي في (سننه) 1، وَعَلَّقَهُ الترمذي في (جامعه) 2، كلهم من طريق: ضمرة بن ربيعة3، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً بمثل حديث سمرة. ووقع عند ابن الجارود، والبيهقي: "فهو عتيق ". وقد ضَعَّفَ الأئمة هذا الحديث - عن ابن عمر رضي الله عنهما - وأنكروه: فأنكره الإمام أحمد وردَّه ردّاً شديداً، وقال: "لو قال رجلٌ: إن هذا كذبٌ، لما كان مخطئاً"4. وذُكِرَ له مرة، فقال: "ليس من ذا شيء، وَهِمَ ضمرة"5. وقال الترمذي: "ولم يُتابع ضمرة على هذا الحديث، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث"6. وقال النسائي: "لا نعلم أن أحداً روى هذا الحديث عن سفيان غير ضمرة، وهو حديث منكر"7. ونقل البيهقي عن الطبراني - وقد رواه من طريقه - قوله: "لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا ضمرة"8. وقال البيهقي: "وهم فيه   (10/289) . (3/638) . 3 الفلسطيني. 4 تهذيب التهذيب: (4/461) . 5 مسائل أبي داود للإمام أحمد: (ص 314) . 6 جامع الترمذي: (3/638) . 7 السنن الكبرى: (5/13) ح 4877. 8 سنن البيهقي: (10/289) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 راويه ... المحفوظ بهذا الإسناد: حديث نهى عن بيع الولاء وهبته"1. وقال البوصيري: "هذا إسناد فيه مقال"2. ومع ذلك، فقد صححه الحاكم! فقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي! وصححه كذلك: عبد الحق، وابن حزم3، وابن القطان4. والقول ما قاله هؤلاء الأئمة، من أنَّ هذا الحديث منكرٌ؛ فإنَّ ضمرة وإن كان صدوقاً، فإنه كان يَهِمُ، وعنده بعض المناكير5، ولعل هذا من مناكيره، والله أعلم. فتلخص من ذلك: أنَّ حديث سمرة بن جندب هذا معلولٌ كما ذكر ابن القَيِّم رحمه الله، وأن ما وُجدَ له من شاهد عن ابن عمر: منكرٌ، فلا يصلح لتقويته، وبذلك يبقى الحديث على ضعفه، والله أعلم. ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر في هذا الباب، وَأَعَلَّهُ، فقال: "وقد روى البيهقيُّ وغيره، من حديث أبي صالح، عن: 94- (2) ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: جاء رجلٌ - يقال له: صالح - بأخيه فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أَعْتِقَ أخي هذا، فقال: "إِنَّ اللهَ أَعْتَقَهُ حِينَ مَلَكْتَهُ ".   1 سنن البيهقي: (10/289) . 2 مصباح الزجاجة: (2/67) . ط / يوسف الحوت. 3 المحلى: (10/223) . تحقيق / حسن زيدان. 4 التلخيص الحبير: (4/212) . 5 تهذيب التهذيب: (4/461) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 قال ابن القَيِّم: "ولكن في هذا الحديث بَلِيَّتَانِ عظيمتان: العرزمي - وهو عبد الرحمن بن محمد - عن الكلبيِّ: كُسَيْرٌ عن عُوَيْرٍ"1. قلت: هذا الحديث: أخرجه الدارقطني في (سننه) 2 – ومن طريقه: البيهقي3 – من طريق: عبد الرحمن بن محمد4 العرزمي، عن أبي النضر5، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما به. قال الدارقطني عقبه: "العرزميُّ تركه ابن المبارك، ويحيى القطان، وابن مهدي. وأبو النضر هو: محمد بن السائب الكلبي، المتروك أيضاً، وهو القائل: كل ما حَدَّثْتُ عن أبي صالح كذب". وَتَعَقَّبَ ابن القطان عبد الحق بأنه ذَكَرَ هذا الحديث ولم يُبَيِّنْ علته، ثم أَعَلَّهُ بنحو ما أعله به الدراقطني6.   1 تهذيب السنن: (5/409) . (4/129) ح 15. 3 السنن: (10/290) . 4 ابن عبيد الله الفزاري، العَرْزَمي. يروي عن: جابر الجعفي، وعبد الملك بن أبي سليمان، وجماعة. روى عنه: ابنه محمد، وعبيد الرحمن بن صالح العتكي وغيرهما. قال أبو حاتم: "ليس بقوي". وضعفه الدارقطني. الجرح والتعديل: (2/2/282) ، والضعفاء والمتروكين للدارقطني: (ص 275) رقم 339. 5 هو: محمد بن السائب بن بشر الكلبي، أبو النضر الكوفي، النسَّابة، مُتَّهَمٌ بالكذب، ورمي بالرفض، من السادسة، مات سنة 146هـ/ ت فق. (التقريب 479) . 6 بيان الوهم والإيهام: (3/553) ح 1332. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 فَتَحَصَّلَ من ذلك: أن الأمر على ما وصف ابن القَيِّم رحمه الله، وأن هذا الحديث لا يصحُّ؛ لأن في إسناده مَتْرُوكَيْن كما تقدم، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 15- من كتاب الحدود والديات 1 - باب الشفاعة في الحدود 95- (1) عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دون حَدٍّ من حُدُودِ الله، فَقَد ضَادَّ1 اللهَ في أَمْرِهِ". قال ابن القيم رحمه الله: "رواه أحمد وغيره بإسناد جيد"2. قلت: الحديث بهذا اللفظ أخرجه: الطبراني في (الكبير) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، كلاهما من طريق: عبد الله بن جعفر5، عن مسلم بن أبي مريم6، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن ابن عمر رضي الله عنهما به. وسكت عنه الحاكم والذهبي، وهو ضعيفٌ بهذا الإسناد؛ للاتفاق على ضعفِ عبد الله بن جعفر المديني. وقد رُوي عن ابن عمر من وجه آخر، من غير طريق عبد الله بن   1 ضَادَّه، مضادَّةً: إذا باينه مخالفةً. (المصباح المنير: 2/359) . 2 إعلام الموقعين: (4/404) . (12/270) ح 13084. (4/383) . 5 ابن نَجِيح السَّعدي مولاهم، أبو جعفر المديني، والد عليٍّ، بصريٌ، أصله من المدينة، ضعيف، من الثامنة، يقال: تَغَيَّر حفظه بآخرة، مات سنة 178هـ/ت ق. (التقريب 298) . 6 المدني، مولى الأنصار، ثقة، من الرابعة/ خ م د س ق. (التقريب 530) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 جعفر، فقد أخرجه: أبو داود في (سننه) 1 من طريق: المثنى بن يزيد2، عن مطر الوراق، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما بمعنى الحديث المتقدم، وفيه زيادة، وهي: "وَمَنْ أَعَانَ عَلى خُصُومَةٍ بِظُلمٍ، فقد بَاء بغضب الله عزوجل". وهذا الإسناد ضعيف أيضاً؛ لضعف مطر الوراق، وجهالة المُثَنَّى بن يزيد. ولكنه جاء من طريق ثالث صحيحٍ، وهو ما أخرجه: أحمد في (مسنده) 3، وأبو داود في (سننه) 4والحاكم في (المستدرك) 5،كلهم من طريق: زهير بن معاوية، عن عمارة بن غُزَيَّة6، عن يحيى بن راشد7، عن ابن عمر رضي الله عنهما به. ولفظه: "من حالتْ شفاعته دون حدٍّ   (4/23) ح 3598 ك الأقضية، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها. 2 بصري أو مدني، مجهولٌ، من الثامنة/ د س. (التقريب 519) . (2/70) . (4/23) ح 3597. (2/27) . 6 ابن الحارث الأنصاري المازِني، المدني، لا بأسَ به، وروايته عن أنس مرسلةٌ، من السادسة، مات سنة 140هـ / خت م 4. (التقريب 409) . 7 ابن مسلم الليثي، أبو هشام الدمشقي، الطويل، ثقة، من الرابعة / د. (التقريب590) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 من حدود الله، فقد ضادَّ الله في أمره، ومن مات وعليه دَيْنٌ، فليس ثمَّ دينار ولا درهم، ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطلٍ وهو يعلم لم يزل في سخط الله حَتَّى يَنْزِعَ، ومن قال في مؤمنٍ ما ليس فيه حبس في رَدْغَةِ الخَبَال1 حتى يأتي بالمخرج مما قال". قال أبو عبد الله الحاكم: "حديث صحيحُ الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي رحمه الله. وقال الحافظ المنذري: " ... إسناد جيدٌ"2. وقال الشيخ الألباني: "إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم، غير يحيى بن راشد، وهو ثقةٌ"3. وسبق أنَّ ابن القيم جَوَّدَ هذا الإسناد. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث صحيحٌ، وأن الضَّعْفَ الواقعَ في بعض طرقه ينجبر بمجيئه من طريقٍ آخر صحيحٍ جَوَّدَهُ ابن القيم - رحمه الله - فأصاب، والله أعلم.   1 الرَّدَْغَةُ - بسكون الدال وفتحها - طينٌ ووحلٌ كثير، وتجمع على رَدَغٌ ورِدَاغٌ. (النهاية 2/215) . والخَبَال في الأصل: الفساد، ويكون في الأفعال والأبدان والعقول، ومعناه في الحديث: عصارة أهل النار. (النهاية 2/8) . 2 الترغيب والترهيب: (3/198) . 3 إرواء الغليل: (7/349) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 2 - باب في قطع جاحد العارية 96- (2) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كانت امرأة مخزومية تَسْتَعِير الْمَتَاع وَتَجْحَدُهُ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فَكَلَّمُوه، فَكَلَّم أَسَامةُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة‍! لا تَزَالُ تَكَلَّمُ في حَدٍّ من حدودِ الله" ثم قامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطيباً، فقال: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بأنَّه إذا سَرَقَ فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعيفَ قَطَعُوه، والذي نفسي بيدهِ، لو كانت فَاطِمَةُ ابنةُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعَ يَدَهَا". ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن طائفةً من الناس أعَلَّت هذا الحديث، فقالوا: إن معمراً تفرد من بين سائر الرواة بذكر "العارية"، وخالفه سائر أصحاب الزهري فقالوا: "سرقت"، ومعمر لا يقاوِمُ هؤلاء. قالوا: ثم إن الحديث لو ثبت، فإن وصف العارية إنما هو لمجرد التعريف بالمرأة، لا أنه سبب قطع يدها1. ثم أخذ ابن القيم - رحمه الله - في الجواب عن ذلك، فقال: "فأما تعليله بما ذُكِرَ: فباطلٌ". ثم بَيَّنَ أن معمراً تُوبع على هذه اللفظة، وسيأتي الكلام على هذه المتابعات إن شاء الله.   1 تهذيب السنن: (6/209) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 ثم ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن لحديث عائشة شاهداً من رواية ابن عمر رضي الله عنهما، بمثل رواية معمر، وبَيَّنَ أنَّ هذا اللفظ روي أيضاً عن سعيد بن المسيب مرسلاً عند النسائي1، وبذلك تزول دعوى تفرد معمر بهذه الرواية. ثم أخذ في الجواب على بقية ما أُعِلَّ به هذا الحديث، وسيأتي كلامه أثناء البحث إن شاء الله. قلت: هذا الحديث معروفٌ من حديث عائشة رضي الله عنها، ومداره على: الزهري، عن عروة بن الزبير، عنها. وقد رُوِيَ - كما تقدم - على وجهين: "أَنَّ امرأةً سرقت"، و "أَنَّ امرأةً كانت تستعير المتاعَ فتجحده". أما رواية السَّرقة: فقد أخرجها أصحاب الكتب الستة2، والدارمي في (مسنده) 3 من طريق: الليث. وأخرجه البخاري، ومسلم   1 تهذيب السنن: (6/210) . 2 خ: ك أحاديث الأنبياء، ح 3475 (الفتح 6/513) . وفي ك فضائل الصحابة، باب ذكر أسامة بن زيد ح 3732 (فتح الباري: 7/87) . م: (3/1315) ح 1688 (8) ، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود. د: (4/537) ح 4373، ك الحدود، باب في الحد يشفع فيه. ت: (4/37) ح 1430، ك الحدود، باب كراهية أن يشفع في الحدود. س: (8/73) ك قطع السارق، باب ما يكون حرزاً، وما لا يكون. جه: (2/851) ح 2547، ك الحدود، باب الشفاعة في الحدود. (2/94) ح 2307، ك الحدود، باب الشفاعة في الحدود دون السلطان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 في (صحيحيهما) 1، والنسائي في (سننه) 2 من طريق: يونس بن يزيد. وأخرجه النسائي3 من طريق: إسماعيل بن أمية، ومن طريق: إسحاق بن راشد. كلهم عن: الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أَهَمَّهُم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذكر الحديث بنحو ما تقدم، وزاد ابن ماجه وحده في آخر قول محمد بن رمح - راويه عن الليث -: "سمعت الليث بن سعد يقول: قد أعاذها الله - عزوجل - أن تسرق، وكل مسلم ينبغي له أن يقول هذا" يعني: فاطمة رضي الله عنها. كذا رواه هؤلاء الجماعة: الليث، ويونس، وإسماعيل بن أمية، وإسحاق بن راشد: عن الزهري بلفظ: "سرقت". وخالف هؤلاء جميعاً: معمر بن راشد، فقال فيه: "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده". أخرجه: عبد الرزاق في (مصنفه) 4: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة به، ولفظه هو المذكور   1 خ: ك الشهادات، باب شهادة القاذف والسارق والزاني، ح2648 (الفتح 5/255) ، وفي ك المغازي، ح4304 (الفتح8/24) . م: (3/1315) ح1688 (9) . (8/74) . (8/74) . (10/201) ح 18830 ك اللقطة، باب الذي يستعير المتاع ثم يجحده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 أول هذا البحث. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه: مسلم في (صحيحه) 1، وأبو داود في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3 - ومن طريقه البيهقي في (سننه) 4 - من طرق، عن عبد الرزاق به. وقد ادُّعِيَ - كما مرَّ في كلام ابن القيم رحمه الله - أن معمراً قد تَفَرَّدَ عن الزهري بهذا اللفظ، فقال النوويُّ: " ... إن جماعةً من الأئمة قالوا: هذه الرواية شاذة؛ فإنها مخالفة لجماهير الرواة، والشاذة لا يُعْمَلُ بها"5. ونقل ابن حجر مثل ذلك عن: ابن المنذر، والمحب الطبري، والقاضي عياض. وقال القرطبي: "رواية أنها سرقت أكثر وأشهر من رواية الجحد، فقد انفرد بها معمر وحده من بين الأئمة الحفاظ، وتابعه على ذلك من لا يُقْتَدى بحفظه: كابن أخي الزهري ونمطه. هذا قول المحدثين"6. ودعوى انفراد معمر بهذا لا تصحُ؛ فإنه قد وافقه عليه جماعة كما بَيَّنَ ابن القيم رحمه الله، ومن هؤلاء الذين تابعوه:   (3/1316) ح 1688 (10) . (4/538) ح 4374. و (4/557) ح 4397. (6/162) . (8/280) . 5 شرح مسلم: (11/188) . (69 فتح الباري: (12/90 - 91) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 1- شعيب بن أبي حمزة1: أخرجه النسائي في (سننه) 2 من حديث: بشر بن شعيب3، عن أبيه، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: استعارت امرأةٌ على ألسنة أناسٍ يُعْرَفُون وهي لا تُعْرَف حُلِيّاً، فباعته وأخذت ثمنه، ... الحديث، وفي آخره: "ثم قطعت تلك المرأة". 2- يونس بن يزيد4: أخرج حديثه أبو داود في (سننه) 5 من طريق: الليث، حدثني يونس، عن ابن شهاب ... فذكره بنحو حديث شعيب الذي قبله، وأخرجه البيهقي في (سننه) 6 من طريق أبي داود. ولكن اختلف على يونس في هذا الحديث سنداً ومتناً: فرواه أبو داود عن الليث عن يونس هكذا، وخالف اللَّيْثَ: عبد الله بن وهب7، وعبد الله بن المبارك8، فروياه عن: يونس، عن الزهري، عن عروة، عن   1 الأموي مولاهم، واسم أبيه: دينار، أبو بشر الحمصي، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهري، من السابعة، مات سنة 162هـ أو بعدها/ ع. (التقريب 267) . (8/73) . 3 أبو القاسم الحمصي، ثقة، من كبار العاشرة، توفي سنة 213هـ / خ ت س. (التقريب 123) . 4 هو: الأيلي. (4/556) ح 4396. (8/280) . 7 تقدمت روايته عند البخاري برقم (2648) . 8 تقدمت روايته عند البخاري برقم (4304) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 عائشة: أن امرأة سرقت في غزوة الفتح ... الحديث. قال البيهقي - رحمه الله - عن رواية ابن وهب وابن المبارك هذه: "وروايتهما أولى بالصحة من رواية أبي صالح"1. 3- أيوب بن موسى2: وقد اختُلِفَ على أيوب في روايته - أيضاً - سنداً ومتناً، فأخرجه البخاري في (صحيحه) 3 عن علي بن المديني، حدثنا ابن عيينة، قال: ذهبت أسأل الزهري عن حديث المخزومية فصاح بي. قلت لسفيان: فلم تحمله عن أحدٍ؟ قال: وجدته في كتاب كان كتبه أيوب بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "أن امرأة من بني مخزوم سرقت ... " الحديث. وأخرجه النسائي في (سننه) 4 من حديث إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان قال: "كانت مخزومية تستعير متاعاً وتجحده" ... قيل لسفيان: من ذكره؟ قال: أيوب بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة إن شاء الله تعالى. ثم أخرجه النسائي5 من حديث: محمد بن منصور، عن سفيان، عن أيوب بن موسى هكذا متصلاً، وفيه: "أن امرأة سرقت".   1 سنن البيهقي: (8/281) . 2 ابن عمرو بن سعيد بن العاص، أبو موسى المكي الأموي، ثقة، من السادسة، مات سنة 132هـ / ع. (التقريب 119) . 3 ح رقم 3733 (الفتح 7/87) . (8/72) . 5 السنن: (8/72) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 ثم أخرجه من طريق: رزق الله بن موسى، عن سفيان، عن أيوب بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه، قالوا: ما كنا نريد أن يبلغ منه هذا. قال: "لو كانت فاطمة لقطعتها"1. وأخرجه أحمد في (مسنده) 2: ثنا سفيان فذكره بمثل حديث رزق الله بن موسى، وزاد في آخره: "ثم قال سفيان: لا أدري كيف هو". قال الحافظ العراقي: "وابن عيينة لم يسمعه من الزهري، ولا ممن سمعه من الزهري، إنما وجده في كتاب أيوب بن موسى، ولم يصرح بسماعه من أيوب بن موسى، ولهذا قال في رواية أحمد: لا أدري كيف هو"3. 4- ابن أخي الزهري: وهذه المتابعة أخرجها ابن أيمن في (مصنفه) كما قال ابن حجر4. فهؤلاء أربعةٌ تابعوا معمراً على روايته هذا الحديث بلفظ "العارية": يونس بن يزيد، وشعيب بن أبي حمزة، وأيوب بن موسى، وابن أخي الزهري. أما رواية يونس، وأيوب، فقد اختلف عليهما كما مضى، وسلمت رواية شعيب، وابن أخي الزهري. وشعيب من أثبت   1 سنن النسائي: (8/72) . (6/41) . 3 فتح الباري: (12/90) . 4 فتح الباري: (12/90) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 الناس في الزهري - كما قال ابن معين1 رحمه الله - فلو لم توجد إلا روايته لكانت كافيةً لدفع دعوى التفرد عن رواية معمر، فكيف وقد انضم إليها غيرها؟ وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - من هذه المتابعات: رواية أيوب ابن موسى، وشعيب بن أبي حمزة، ردًّا على من أعلَّ الحديث بتفرد معمر، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك أول البحث. فثبت أن الحديثين محفوظان عن الزهري، لذا فإنه لا سبيل لإعلال أحدهما بالآخر، بل إن الجمع بينهما أولى، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والذي اتَّضَحَ لي: أن الحديثين محفوظان عن الزهري، وأنه كان يُحَدِّثُ تارةً بهذا وتارةً بها، فَحَدَّثَ يونس عنه بالحديثين، واقتصرتْ كلُّ طائفة من أصحاب الزهري - غير يونس - على أحد الحديثين"2. ثم نقل ابن حجر - رحمه الله - عن بعض الْمُحَدِّثِين أنه عَكَسَ القضية على من طَعَنَ في رواية معمر، فقال: لم يختلف على معمر ولا على شعيب، وهما في غاية الجلالة في الزهري، وقد وافقهما ابن أخي الزهري. وأما الليث ويونس - وإن كانا في الزهري كذلك - فقد اختلف عليهما فيه. وأما إسماعيل بن أمية وإسحاق بن راشد3: فدون معمر وشعيب في الحفظ. ثم قال رحمه الله: "وعلى هذا، فيتعادل الطريقان، ويتعين   1 سؤالات ابن الجنيد لابن معين (رقم 507) . 2 فتح الباري: (12/90) . 3 وقد روياه عن الزهري بلفظ "السرقة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 الجمعُ، فهو أولى من اطِّراح أحد الطريقين"1. قلت: ومعنى هذا الكلام: أنَّا إذا استثنينا رواية من اختلف عليه من الطرفين، فإنه يتحصل عندنا: أن معمراً، وشعيب بن أبي خالد روياه بلفظ "العارية"، وفي مقابلهما: إسماعيل بن أمية، وإسحاق بن راشد، وقد روياه بلفظ "السرقة"، وهما دون الأولين، وهذا إيراد متينٌ، وبه تزداد رواية معمر - ومن تابعه - قوةً، ويبعد أيُّ احتمال لإعلالها. هذا فيما يتعلق بالجواب عمَّا أُعِلَّتْ به رواية العارية. وأما ما ذهبوا إليه من تأويل رواية العارية - على فرض ثبوتها -: بأن القطع كان للسرقة لا للعارية، وأن ذكر العارية إنما هو للتعريف المجرد بالمرأة، فإنَّ هذه محاولة للجمع بين الروايتين بعد تسليم ثبوت رواية العارية، وقد قرر البيهقيُّ - رحمه الله - ذلك بقوله: "ويحتمل أن يكون رواية من روى العارية على تعريفها، والقطع كان سبب سرقتها التي نُقلت في سائر الروايات، فلا تكون مختلفة، ويكون التقدير: أن امرأةً مخزومية كانت تستعير المتاعَ وتجحده - كما رواه معمر - سرقتْ - كما رواه غيره - فقطعت، يعني للسرقة"2. وقد ردَّ ابن القيم - رحمه الله - هذا التأويل ودفعه، فقال: "وأما قولهم: إن ذكر جحد العارية للتعريف، لا أنه الْمُؤَثِّرُ: فكلامٌ في غاية الفساد، لو صحَّ مثله - وحاشا وكلاَّ - لذهب من أيدينا عامة الأحكام   1 فتح الباري: (12/91) . 2 السنن: (8/281) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 المترتبة على الأوصاف، وهذه طريقة لا يرتضيها أئمة العلم، ولا يرُدُّونَ بمثلها السنن، وإنما يسلكها بعض الْمُقَلِّدين من الأتباع"1. ثم أَكَّدَ ابن القيم - رحمه الله - كون جحد العارية سبب القطع بما جاء في رواية ابن عمر رضي الله عنهما: أن امرأة كانت تستعير الحُلِيَّ للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله، وتَرُدُّ ما تأخذ على القوم" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها" 2. وفي رواية أخرى أنه قال: "لتتب هذه المرأة، ولتؤدي ما عندها". مراراً، فلم تفعل، فأمر بها فقطعت3. فهذا الحديث صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطعها من أجل جحدها العارية، قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا يُبْطِلُ قول من قال: إن ذكر هذا الوصف للتعريف المجرد"4. ولكن ذكر البيهقي أن حديث ابن عمر هذا قد اختلف عن نافع في إسناده5. ثم ذهب ابن القيم - رحمه الله - إلى أن الجمع بين الخبرين ممكنٌ، ذلك أنه لا تنافي بين جحد العارية وبين السرقة؛ فإن ذلك داخلٌ في اسم   1 تهذيب السنن: (6/211) . 2 أخرجه النسائي في سننه: (8/71) . 3 أخرجه النسائي أيضاً: (8/71) . 4 تهذيب السنن: (6/210) . 5 سنن البيهقي: (8/281) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 السرقة، قال: "فإن هؤلاء الذين قالوا: إنها جحدت العارية، وذكروا أن قطعها لهذا السبب، قالوا: إنها سرقت، فأطلقوا على ذلك اسم السرقة. فثبت لغةً: أن فاعل ذلك - يعني جحد العارية - سارقٌ، وثبت شرعاً أن حَدَّهُ قطع اليد"1. وَتَعَقَّبَهُ الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: "كذا قال، ولا يخفى بُعْدُهُ"2. فتلخص من ذلك: أن حديث المخزومية التي قطعت ثابتٌ، وأن ما ذُكِرَ فيه من أن هذه المرأة كانت تجحد العارية: صحيحٌ لا وجه لإعلاله، كما قَرَّرَه ابن القيم رحمه الله، وتأكد من خلال هذه الدراسة. ولكن مع ثبوت هذا الحديث، يبقى الخلاف في: هل قَطْعُ هذه المرأة كان للسرقة، أو لجحد العارية؟ الجمهور على أنها قطعت للسرقة، وأن ما ذكر من جحدها للعارية صفة لها، لا أنه سبب القطع. وأيضاً: فإن جاحد العارية لا يقطع قياساً على المختلس والمنتهب والخائن، الذين جاء النص بعدم قطعهم. وأيضاً: لو قيل بقطع جاحد العارية لقطع جاحد غير العارية، ولا يقولون به. فهذا مذهب جمهور العلماء: أنه لا قطع على جاحد العارية3.   1 تهذيب السنن: (6/211) . 2 فتح الباري: (12/92) . 3 فتح الباري: (12/90) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وتمسك ابن القيم - رحمه الله - بظاهر الحديث، ولم يرَ فرقاً بين السارق والجاحد في القطع، وهو مذهب الإمام أحمد والظاهرية، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 3 - باب ما جاء في الرجل يزني بجارية امرأته 97- (3) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه في رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، أَنَّهُ قَال: لأَقْضِيَنَّ فيكَ بِقَضِيَّةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَكَ جَلَدْتُكَ مِائَة، وإن لم تكن أحلتها لك رَجَمْتُكَ بِالْحِجَارِةِ"، فوجدوه قد أحلتها له، فَجَلَدَهُ مائة. ذكر ابن القيم هذا الحديث، وعزاه إلى (المسند) و (السنن الأربعة) ، ثم نقل كلام الأئمة في تضعيفه: فالترمذي والنسائي أعلاَّه بالاضطراب، والبخاري قال بانقطاعه، وأعله أبو حاتم بجهالة خالد بن عُرْفُطَة. ثم ذكر عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه أخذ بهذا الحديث في ظاهر مذهبه. ثم أخذ - رحمه الله - في الدفاع عن هذا الحديث والتوجه إلى تقويته، فقال: "فإن الحديث حسنٌ، وخالد بن عرفطة قد روى عنه ثِقَتَان: قتادة، أبو بشر، ولم يُعرفْ فيه قدحٌ، والجهالة ترتفع عنه برواية ثقتين"1. قلت: هذا الحديث مداره على حبيب بن سالم2، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، ويرويه عن حبيب بن سالم جماعة:   1 زاد المعاد: (5/37 - 38) . 2 الأنصاري، مولى النعمان بن بشير وكاتبه، لا بأس به، من الثالثة/ م 4. (التقريب151) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 فأخرجه الترمذي في (جامعه) 1، والنسائي وابن ماجه في (سننيهما) 2، وأحمد في (مسنده) 3، من طريق: قتادة، عن حبيب بن سالم، أنه قال: رُفِعَ إلى النعمان بن بشير رجلٌ وقع على جارية امرأته، فقال: لأقضين ... الحديث، ووقع في رواية أحمد: "رُفِعَ إلى النعمان رجلٌ أَحَلَّت له امرأته جاريتها". أما لفظ النسائي عن النعمان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رجل ... " بدون ذكر قصة الرجل الذي رُفع إليه. وهذا الإسناد منقطعٌ؛ فإنَّ قتادة لم يسمع هذا الحديث من حبيب ابن سالم، كما قال البخاري4 رحمه الله، وقد سأله عنه الترمذي؟ فقال: "أنا أنفي هذا الحدث، إنما رواه قتادة، عن خالد بن عرفطة، عن حبيب ابن سالم"5. وحديث قتادة، عن خالد بن عرفطة هذا: أخرجه أبو داود، والنسائي في (سننيهما) 6، وأحمد، والدارمي في (مسنديهما) 7، كلهم من طريق:   (4/54) ح 1451 ك الحدود، باب الرجل يقع على جارية امرأته. 2 س: (6/124) ك النكاح، باب إحلال الفرج. جه: (2/853) ح 2551 ك الحدود، باب من وقع على جارية امرأته. (4/272) . 4 انظر: جامع الترمذي: (4/54) . 5 علل الترمذي: (2/614) . 6 د: (4/604) ح 4458. س: (6/124) . 7 حم: (4/275 - 276) ، مي: (2/102) ح 2334. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن خالد بن عرفطة1، عن حبيب ابن سالم: أن رجلاً يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته، فرفع إلى النعمان ... الحديث، وفي آخره: قال قتادة: "كتبتُ إلى حبيب ابن سالم فكتب إليَّ بهذا". وخالد بن عرفطة: جَهَّلَهُ أبو حاتم، والبزار2، قال أبو حاتم: "خالد بن عرفطة مجهولٌ، لا نعرف أحداً يقال له خالد بن عرفطة إلا واحد، الذي له صحبة"3. وقال الذهبي: "لا يُعرف"4. وأما ما قاله ابن القيم رحمه الله، من أن خالداً هذا روى عنه ثقتان، وبذلك تزول عنه الجهالة: فإنه غير مُسَلَّم؛ لأنه وإن ارتفعت عنه جهالة العين برواية أكثر من واحد، فإنه يبقى مجهول الحال؛ لأنه لم يوثقه أحد، فالحكم بصحة هذا الإسناد أو حسنه متوقف على العلم بحال خالد هذا، نعم وثقه ابن حبان5، ولكن قد علم أن ابن حبان لا يعتمد قوله في ذلك، لما عُرِفَ من توثيقه المجهولين، فكيف إذا عورض توثيقه بتجهيل مثل أبي حاتم، والبزار لهذا الرجل؟ وقد رُوي الحديث عن قتادة على غير هذين الوجهين:   1 مقبولٌ، من السادسة/ بخ د س. (التقريب 189) . 2 انظر: تهذيب التهذيب: (3/107) . 3 الجرح والتعديل: (1/2/340) ، وعلل ابن أبي حاتم: (1/448) . 4 المغني: (1/204) . 5 الثقات: (6/258) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 فأخرجه النسائي في (الكبرى) 1، والبيهقي في (سننه) 2 من طريق: همام بن يحيى، عن قتادة، عن حبيب بن سالم، عن حبيب بن يساف3: أن رجلاً وَطِئ جارية امرأته، فرفع إلى النعمان ... الحديث. وقد سُئِلَ أبو حاتم عن حديث همام عن قتادة، وحديث أبان عن قتادة الماضي، فقال: "حديث همام أشبه". ثم قال: "وحبيب بن يساف مجهولٌ، لا أعلم أحداً روى عنه غير قتادة هذا الحديث الواحد"4. قلت: ومع جهالة حبيب بن يساف، فقد رواه هَمَّام من وجه آخر، فرواه عن قتادة، عن حبيب بن يساف، عن حبيب بن سالم، فعكسه. أخرجه البيهقي في (سننه) 5 بإسناده إلى همام. فهذه أربعة أوجه عن قتادة في رواية هذا الحديث. وقد روى من وجه آخر عن حبيب بن سالم، فأخرجه الترمذي في (جامعه) 6، و (علله) 7، والنسائي في (الكبرى) 8، والطيالسي في   (5/237) ح 5528. (8/239) . 3 مجهولٌ، من الثالثة/ س. (التقريب 152) . 4 علل ابن أبي حاتم: (1/448) . (8/239) . (4/54) ح 1452. (2/614) . (5/237) ح 5527. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 (مسنده) 1 - ومن طريقه البيهقي2 - كلهم من طريق: هشيم، عن أبي بشر3، عن حبيب بن سالم: أن امرأة أتت النعمان بن بشير فقالت: إن زوجي وقع على جاريتي بغير إذني، فقال النعمان: إن عندي في هذا قضاءً شافياً أخذته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم تكوني أذنتِ له رجمته، وإن كنتِ أذنتِ له جلدته مائة".فقال لها الناس: ويحك! أبو ولدك يرجم؟ فجاءت فقالت: قد كنت أذنت له، ولكني حملتني الغيرة على ما قلت. فجلده مائة. وهذا سياق أبي داود الطيالسي. وهذا الإسناد منقطعٌ أيضاً، قال الترمذي: "وأبو بشر لم يسمع من حبيب بن سالم هذا أيضاً، إنما رواه عن خالد بن عرفطة". وكذا قال البيهقي في (سننه) وفي (المراسيل) 4 لابن أبي حاتم، بإسناده إلى شعبة، أنه قال: "لم يسمع أبو بشر من حبيب بن سالم". وفي (تهذيب التهذيب) 5 قول يحيى بن سعيد: "كان شعبة يضعف أحاديث أبي بشر عن حبيب بن سالم".   (ح 796) . 2 في سننه: (8/239) . 3 هو: جعفر بن إياس، أبو بشر بن أبي وَحْشِيَّة، ثقةٌ، من أثبت النَّاس في سعيد بن جبير، وَضَعَّفَهُ شعبة في حبيب بن سالم وفي مجاهد، من الخامسة، مات سنة 125هـ وقيل: 126هـ / ع. (التقريب 139) . (ص 26) . (2/83) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وقد رواه عنه شعبة نفسه متصلاً، فأخرجه أبو داود والنسائي في (سننيهما) 1، وأحمد، والدارمي في (مسنديهما) 2، والحاكم في (المستدرك) 3 - وأخرجه البيهقي4 من طريق أحمد - كلهم من طريق: شعبة، عن أبي بشر، عن خالد بن عرفطة، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ذكر قصة الرجل الذي وقع على جارية امرأته. فرجع الحديث بذلك إلى خالد بن عرفطة الماضي ذكره، وقد تَقَدَّمَ من كلام أبي حاتم، والبزار، والذهبي: أنه مجهول، فَيُتَعَجَّبُ حينئذٍ من الحاكم رحمه الله، إذ قال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي، مع قوله في خالد بن عرفطة: "لا يعرف". كما تقدم نقل ذلك عنه. ويتلخص من ذلك: أن هذا الحديث يدور إسناده ما بين: الضعف، والانقطاع، والاضطراب، وقد تقدمت أقوال بعض الأئمة في ذلك، ويضاف هنا قول الترمذي - عقب تخريجه هذا الحديث -: "حديث النعمان في إسناده اضطراب". وقال النسائي: "أحاديث النعمان   1 د: (4/605) ح 4459. س: (6/123) . 2 حم: (4/277) . مي: (2/103) ح 2335. (4/365) . (8/239) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 هذه مضطربة"1. وقال الخطابي: "هذا حديث غير متصل، وليس العمل عليه"2. ولذلك فإن حكم ابن القيم - رحمه الله - على هذا الحديث بالحُسْنِ فيه نظرٌ، ومع أنه قد وقف على أقوال الأئمة في إعلاله - بل ونقلها - إلا أنه لم يتعرض في جوابه إلا للقول بجهالة خالد بن عرفطة، مع أنَّ إعلاله بالاضطراب قوي، والله أعلم. 98- (4) عن سلمة بن الْمُحَبِّق رضي الله عنه: "أَنَّ رَسول الله قَضى في رَجُلٍ وَقَع على جَارِيَةِ امرأته: إنِ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا، فَهِي حُرَّةٌ، وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت طَاوَعَتْهُ، فهي له، وعليه لسيدتها مثلها". ذكر ابن القيم هذا الحديث وَعَلَّقَ القول به على ثبوت صِحَّتِه، فقال: "وأما حديث سلمة بن المحبق، فإنْ صَحَّ، تَعَيَّنَ القولُ به ولم يعدل عنه". ثم نقل أقوال الأئمة: النسائي، وأحمد، وابن المنذر، والخطابي، والبيهقي في تضعيف هذا الحديث. ثم بَيَّنَ - رحمه الله - أن جماعةً قبلوه، وهؤلاء فريقان: فريق قال بأنه منسوخ، وفريق ثانٍ قال هو مُحْكَمٌ، وَبَيَّنَ وجهه. هكذا يعرض ابن القيم موقف العلماء من هذا الحديث، ويُبْدي تَوَقُّفَهُ فيه، على أنه - في نظره - إن صحَّ تعين القول به؛ لأنه موافق   1 تحفة الأشراف: (9 / 17 - 18) . 2 معالم السنن: (6/269) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 للقياس، ولا يضرُّ حينئذٍ كثرة المخالفين1. على أنَّ ابن القيم - رحمه الله - في موضع آخر يرى احتمال تحسين هذا الحديث، فيقول: "وضعَّفه بعضهم من قِبَلِ إسناده، وهو حديثٌ حسنٌ، يَحْتَجُّون بما هو دونه في القوة، ولكن لإشكاله أقدموا على تضعيفه، مع لينٍ في سنده"2 والظاهر أن هذا الحكم الأخير هو اختياره؛ لأنه حتى حينما كان متوقفاً عن تصحيح هذا الحديث، نجد أنه كان يميل إلى العمل به، وأن العمل بمقتضاه هو الذي يوافق القياس. قلت: هذا الحديث مداره على الحسن بن أبي الحسن البصري، واختلف عليه: فقيل: عنه، عن سلمة بن المحبق. أخرجه أبو داود والنسائي في (سننيهما) 3، وأحمد في (مسنده) 4، والترمذي في (علله) 5 من طريق: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. وأخرجه أحمد في (المسند) 6، والطبراني في (الكبير) 7، والبيهقي في (السنن) 8 من طريق: عمرو بن دينار.   1 زاد المعاد: (5/39 - 40) . 2 إعلام الموقعين: (2/24) . 3 د: (4/607) ح 4461. س: (6/125) . (5/6) . (2/616) . (5/6) . (7/51) ح 6337، 6338. (8/240) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وأخرجه ابن ماجه، والدارقطني في (سننيهما) 1 من طريق: عبد السلام بن حرب، عن هشام بن حسان. وأخرجه أحمد في (المسند) 2 من طريق: المبارك بن فضالة، كلهم عن: الحسن البصري، عن سلمة بن الْمُحَبَّق، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو اللفظ المتقدم، لكن وقع عند أبي داود: "وإن كانت طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها". وكذا عند النسائي، لكن بلفظ: " ... وإن كانت طاوعته فهي لسيدتها ومثلها من ماله". وأما لفظ هشام بن حسان عند ابن ماجه والدارقطني فهكذا: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه رجل وقع على جارية امرأته، فلم يحدّه". وهذا الإسناد منقطع؛ فإن بين الحسن وسلمة فيه: قبيصة بن حريث، قال الترمذي: "سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث؟ فقال: رواه الفضل بن دلهم، ومنصور بن زاذان، وسلام بن مسكين: عن الحسن، عن قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبق، وهو أصحُّ من حديث قتادة"3. وقال ابن أبي حاتم في (علله) 4: "قلت - يعني لأبيه-: الحسن عن سلمة مُتَّصِل؟ قال: لا، حدثنا القاسم بن سلام، عن أبيه، عن الحسن، قال: حدثني قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبق، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأدخل بينهما قبيصة بن حريث، فاتَّصَل الإسناد. قلت: -   1 جه: (2/853) ح 2552. قط: (3/84) ح 11. (3/476) . 3 علل الترمذي: (2/616) . (1/447 - 448) ح 1346. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 القائل ابن أبي حاتم - الحسن سمع من سلمة، وقال1 محمد بن مسلم الطائفي: عن عمرو بن دينار، عن الحسن: سمعت سلمة بن المحبق؟ قال: هذا عندي غلط غير محفوظ". ومما يؤكد ما ذهب إليه البخاري وأبو حاتم رحمهما الله: أنه وقع في رواية الطبراني - وهي من طريق علي بن المديني، عن عمرو بن دينار، عن الحسن -: قال علي بن المديني: فقلت لسفيان: فإنَّ قتادةَ يقول: عن الحسن، عن قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبق؟ فقال لسفيان: قال عمرو: بينهما إنسان أو رجل؟ فقال له الهذلي - يعني أبا بكر الهذلي -: بينهما قبيصة بن حريث. قال سفيان: وإنما عُرِفَ هذا الهذلي أنه من قوم سلمة2. وأخرج الحديث بهذا الإسناد المتصل: عبد الرزاق في (مصنفه) 3، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن، عن قبيصة بن حريث4، عن سلمة بن المحبق رضي الله عنه به، باللفظ المذكور أول البحث. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه: أبو داود، والنسائي في (سننيهما) 5، وأحمد في (مسنده) 6،   1 هذه الجملة واقعة موقع التعليل لما قبلها؛ فكأنه قال: لأن الطائفي قال: عن عمرو بن دينار ... إلخ. والجملة في سياق السؤال. 2 المعجم الكبير: (7/52) . (7/342) ح 13417. 4 ويقال: حريث بن قبيصة، والأول أشهر، الأنصاري، البصري، صدوقٌ، من الثالثة، مات سنة 67هـ / د ت س. (التقريب 453) . 5 د: (4/605) ح 4460. س: (6/124) . (5/6) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 والطبراني في (الكبير) 1. فثبت بذلك أنَّ قتادة عنده - أيضاً - فيه رواية متصلة، وأن ذلك هو الصحيح عنه. وأخرجه الطبراني في (الكبير) 2، وابن أبي حاتم في (العلل) 3 عن أبيه، والبيهقي في (السنن) 4 من طريق: سلام بن مسكين5، عن الحسن، عن قبيصة، عن سلمة بن المحبق رضي الله عنه به، وفيه قصة، وهي: أن امرأة أرسلت جاريتها مع زوجها في سفر تخدمه، فوقع بالجارية، فأخبرت المرأة النبي صلى الله عليه وسلم ... فذكره، وفي آخره: "ولم يقم فيه حَدّاً". فثبتَ بذلك اتصال الحديث من وجهين عن الحسن رحمه الله، وأن الأئمة: البخاري، وأبا حاتم رَجَّحَا هذه الرواية الموصولة، ورأيا أنها أصح من تلك. فهذان وجهان عن الحسن في رواية هذا الحديث، وقد رُوي عنه على وجه ثالث، فأخرجه الطبراني في (الكبير) 6، والبيهقي في   (7/51) ح 6336. (7/52) ح 639. (1/247 - 248) . (8/240) . 5 ابن ربيعة الأزدي، البصري، أبو روح، ثقةٌ رُمِيَ بالقدر، من السابعة، مات سنة 167هـ / خ م د س ق. (التقريب 261) . (7/51) ح 6335. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 (السنن) 1، من طريق: شعبة، عن: قتادة، عن الحسن، عن جون بن قتادة2، عن سلمة بن المحبق به. وجون هذا: قال عنه الإمام أحمد: "لا يُعرف"3. وذكره علي بن المديني ضمن المجهولين من شيوخ الحسن البصري4. ولعلَّ هذا من الاضطراب في هذا الحديث على قتادة، عن الحسن، وقد حكم عليه العقيلي بذلك كما سيأتي. وقد تقدم معنا أن جماعةً من أهل العلم ضَعَّفُوا هذا الحديث ولم يثبتوه، وبالنظر إلى كلامهم، نجد أنهم حملوا في هذا الحديث على "قبيصة بن حريث" فذهب الإمام أحمد، والخطابي، والبيهقي إلى أنه لا يُعرف، وقال البخاري: "في حديثه نظر". كما نقل عنهم ذلك ابن القيم5 رحمه الله، ومن قبله المنذري6. وقبيصة هذا: لم يرو عنه إلا الحسن، ولم يوثقه - مع ذلك -   (8/240) . 2 ابن الأعور بن ساعدة التميمي ثم السعدي، البصري، لم تصح صحبته، ولأبيه صحبة، وهو مقبول، من الثانية/ د س. (التقريب 143) . 3 الميزان: (1/427) ، وتهذيب التهذيب: (2/122) . 4 تهذيب التهذيب: (2/122) . 5 زاد المعاد: (5/39) . 6 مختصر السنن: (6/271) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 أحدٌ إلا ابن حبان1، وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أن أبا العرب التميمي نقل توثيقه عن العجلي2، ولم أجده في (ثقات) العجلي، وقد ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 3 ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً على عادته في أمثاله. فالظاهر - والله أعلم - أن الرجل مجهولٌ كما حَكَمَ به غيرُ واحد من الأئمة: أحمد، والخطابي، والبيهقي، وجهله كذلك: ابن القطان4، وضعفه ابن حزم5. بالإضافة إلى قول البخاري: "في حديثه نظر"6. ولذلك ضَعَّفَ الأئمة هذا الحديث كما تقدم، وقال النسائي - وقد ساق الحديث من طرق-: "ليس في هذا الباب شيء صحيح يحتجُّ به"7. وقال ابن المنذر: "لا يثبت"8. وقال الخطابي: "منكر"9. وقال العقيلي: "حديث فيه اضطراب"10. هذا بالإضافة إلى ما تقدم من تضعيف الإمام أحمد والبخاري له.   1 الثقات: (5/319) . 2 تهذيب التهذيب: (8/346) . (3/2/125) . 4 بيان الوهم والإيهام: (4/135) . 5 فقال: "ضعيف مطروح" (تهذيب التهذيب: 8/346) . 6 الميزان: (3/383) . 7 السنن الكبرى: (6/448) . 8 مختصر السنن: (6/272) . 9 معالم السنن: (6/271) . 10 الضعفاء: (3/484) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 فتلخص: أن هذا الحديث ضعيفٌ، كما ذهب إليه أكثر أهل العلم، وعلى هذا، فاحتمال تحسينه - كما يرى ابن القيم - تَبَيَّنَ مِمَّا قَرَّروهُ - أنه مرجوح، وربما ظهرَ له هذا أولاً ثم رجع عنه؛ فقد تقدم أنه - رحمه الله - توقف فيه مرةً، وعَلَّقَ القول به على ثبوت صحته، وبناءً على ذلك فلا يحكم بمخالفته - رحمه الله - لهؤلاء الأئمة، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 4- باب فيمن تزوج بامرأة أبيه 99- (5) عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: "بَيْنَمَا أَنَا أَطُوفُ على إبلٍ لي ضَلَّتْ، إذ أَقْبَلَ رَكْبٌ - أو فوارس - معهم لواء، فجعلَ الأعرابُ يُطِيفونَ بي لِمَنْزِلَتِي من النبي صلى الله عليه وسلم، إِذْ أَتَوا قُبَّةً، فاسْتَخْرَجُوا منها رَجُلاً، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَسَأَلْتُ عنه، فذكروا أنه أَعْرَسَ بامرأةِ أبيهِ". ذكر المنذري في (مختصر السنن) 1 أن هذا الحديث قد اخْتُلِفَ فيه اختلافاً كثيراً، فروي عن البراء على عدة أوجه. فقال ابن القيم - رحمه الله - معقباً عليه: "وهذا كُلُّه يدلُّ على أن الحديثَ محفوظٌ، ولا يوجبُ هذا تركه بوجهٍ". ثم أخذ في التوفيق بين الأوجه التي ظاهرها التعارض في إسناد الحديث، ثم قال: "والحديث له طرقٌ حسان يُؤَيِّدُ بعضها بعضاً"2 فساق جملة منها. قلت: هذا الحديث يروى عن عديّ بن ثابت3، واختلف عليه:   (6/268 - 269) . 2 تهذيب السنن: (6/266 - 267) . 3 الأنصاري، الكوفي، ثقةٌ رُمِيَ بالتشيع، من الرابعة، مات سنة 116هـ/ ع. (التقريب 388) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 فأخرجه الترمذي في (جامعه) 1، وابن ماجه في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3، والدارقطني في (السنن) 4، وابن أبي حاتم في (العلل) 5 من طرق، عن: أشعث بن سَوَّار، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنه قال: مرَّ بي خالي أبو بردة بن نيار6 ومعه لواء، فقلت: أين تريد؟ قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ تَزَوَّجَ امرأة أبيه، أن آتيه برأسه". هذا لفظ الترمذي، وابن أبي حاتم. كذا وقعت رواية أشعث عند هؤلاء الجماعة، وأخرجه ابن أبي حاتم7، والبيهقي في (سننه) 8 من طريق: أبي خالد الأحمر، عن عدي بن ثابت، عن يزيد بن البراء، عن خاله: "أن رجلاً تزوج امرأة أبيه أو امرأة ابنه، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله". كذا بجعل "يزيد بن البراء" مكان أبيه، وبالشكِّ في متنه.   (3/634) ح 1362 ك الأحكام، باب فيمن تزوج امرأة أبيه. (2/869) ح 2607 ك الحدود، باب من تزوج امرأة أبيه من بعده. 3) 4/292) . (3/196) ح 337. (1/403) ح 1207. 6 البلوي، حليف الأنصار، صحابيُّ، اسمه: هانئ، وقيل: الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هبيرة، مات سنة 41 وقيل بعدها/ ع. (التقريب 621) . 7 العلل: (1/403) ح 1207. (8/237) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وقد وقع في البيهقي: " ... عن يزيد بن البراء، عن البراء" على الجادة، وهو خطأ، فقد جاء عند ابن أبي حاتم على الصواب بدون ذكر البراء، وسيأتي من كلام أبي حاتم ما يدلُّ على صحة ذلك. وقد تابع أشعثَ بن سَوَّار على الإسناد الأول - عدي بن ثابت، عن البراء -:السُّدِّيُّ1. فأخرجه النسائي في (سننه) 2، وابن حبان في (صحيحه) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، من طريق: الحسن بن صالح، عن السُّدِّيُّ، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لقيت خالي ومعه الراية ... الحديث. قال الحاكم: "حديث صحيحٌ على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. قلت: ومع أنه على شرط مسلم، إلا أنَّ السُّدِّي قد تَكَلَّمَ فيه غير واحدٍ، واحتمله بعضهم5. وثَمَّةَ متابعة أخرى لأشعث بن سوار على روايته هذه، فقد   1 هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، أو محمد الكوفي، صدوقٌ يَهِمُ، ورمي بالتشيع، من الرابعة، مات سنة 127هـ / م 4. (التقريب 108) . (6/109) . 3 الإحسان: (6/165) ح 4100. (2/191) . 5 انظر: تهذيب التهذيب: (1/313 - 314) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 أخرجه الإمام أحمد في (مسنده) 1 - ومن طريقه الحاكم في (المستدرك) 2 - من طريق: شعبة، عن ربيع بن ركين، قال: سمعت عدي بن ثابت يحدث عن البراء بن عازب، قال: مرَّ بنا ناسٌ منطلقون ... الحديث. والربيع هذا: هو الربيع بن رُكَيْن بن ربيع بن عميلة الفزاري، ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 3 ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وبقية الإسناد ثقات. فهذا حديث أشعث بن سوار - ومن تابعه على روايته -: عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب رضي الله عنه، على خلاف في رواية أشعث تقدم بيانه. وقد خالف هؤلاء جميعاً: زيد بن أبي أنيسة4، فأخرجه أبو داود، والنسائي في (سننيهما) 5، والدارمي في (مسنده) 6، والحاكم في (المستدرك) 7، كلهم من طريق:   (4/292) . (2/191 - 192) . (1/2/460) . 4 الجَزَري، أبو أسامة، أصله من الكوفة، ثم سكن الرُّها، ثقةٌ له أفراد، من السادسة، مات سنة 119هـ، وقيل: 124هـ / ع. (التقريب 222) . 5 د: (4/602) ح 4457. س: (6/110) . (2/76) ح 2245 ك النكاح، باب الرجل يتزوج امرأة أبيه. (4/357) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عدي بن ثابت، عن يزيد بن البراء1، عن أبيه، قال: لقيت عمي ومعه راية، فقلت له: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ نكح امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وآخذ ماله". هكذا، فزاد في إسناده "يزيد بن البراء" بين عدي والبراء. وزاد في متنه: "الأمر بأخذ ماله". وجاء أول السند عند الحاكم هكذا: "حدثني ابن أبي أنيسة"، وكأنه شيخه، وفي أول سنده سقطٌ ولا بدّ؛ فأين الحاكم من ابن أبي أنيسة؟! ويزيد بن البراء: وَثَّقَه العجلي2، وابن حبان3، وبقية الإسناد ثقاتٌ. وقد قَدَّمَ أبو حاتم - رحمه الله - حديثَ ابن أبي أنيسة هذا على حديث أشعث بن سَوَّار ومن وافقه، فقد سأله ابن أبي حاتم عن حديث أبي خالد الأحمر، عن أشعث، عن عدي بن ثابت، عن يزيد بن البراء عن خاله. وحديث حفص بن غياث، عن أشعث، عن عدي، عن البراء، فقال رحمه الله: "وَهِمَا جميعاً، إنما هو كما رواه زيدُ بن أبي أنيسة، عن عديّ، عن يزيد بن البراء، عن البراء، عن خاله أبي بردة. ومنهم من يقول: عن عمه أبي بردة"4.   1 ابن عازب، الأنصاري، الكوفي، صدوقٌ، من الثالثة/ د س. (التقريب 600) . 2 تاريخ الثقات: (ص 477) . 3 الثقات: (5/534) . 4 علل ابن أبي حاتم: (1/403) ح 1207. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 وقد تَقَدَّمَ أنَّ أشعثَ بن سوار مع ضَعْفِهِ، اخْتُلِف عليه في رواية هذا الحديث إسناداً ومتناً، والمتابعون له: ما بين متكلم فيه، وهو: السُّدِّيُّ، ومجهول - أو كالمجهول - وهو الربيع بن ركين. وأما ابن أبي أنيسة: فهو ثقةٌ، ولم يُخْتلف عليه مع ذلك، ولذلك قَدَّمَ أبو حاتم حديثه على حديث غيره، وإذا أمكن ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، فإنه لا يبقى هناك تعارض. وأما ما وقع في حديث ابن أبي أنيسة من قول بعضهم: "خالي" بدل "عمي" - كما أشار إليه أبو حاتم قبل قليل -: فإنه لا يضرُّ، وقد أجاب عنه ابن القيم رحمه الله، فقال: " ... فإنَّ البراء بن عازب حَدَّثَ به عن أبي بردة ... وهو عمه وخاله، وهذا واقعٌ في النسب"1. ومع ذلك: فقد روى الحديث من وجه آخر عن البراء بن عازب رضي الله عنه، فقد أخرجه: أبو داود في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3، والدارقطني في (سننه) 4، والحاكم في (المستدرك) 5 من طرق، عن:   1 تهذيب السنن: (6/266) . فقد يجتمع في شخصٍ واحدٍ أنه خال لشخص آخر وعمٌّ له بالرضاعة في الوقت نفسه. (4/602) ح 4456. (4/295) . (3/196) ح 338. (2/192) و (4/356) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 مُطَرِّف بن طريف1، عن أبي الجهم2، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: بينا أنا أطوف على إبل لي ... الحديث. ولفظه هو الذي سقناه أول هذا البحث. وهو سياق أبي داود، وعند الباقين نحوه. وهذا إسنادٌ رجالهُ ثقاتٌ رجال الصحيحين، خلا أبي الجهم، ومع ذلك فهو ثقة، قال الذهبي - رحمه الله - في (تلخيص المستدرك) 3: "قلت: إسناده مليح". وقال مرة: "صحيح"4. وقد حَسَّنَ ابن القيم هذا الطريق؛ فإنه قال: "والحديث له طرق حسان يقوِّي بعضها بعضاً، منها: مطرف عن أبي الجهم، عن البراء ... "5. وقد أورد ابن القيم - رحمه الله - لهذا الحديث شاهداً من رواية معاوية بن قرة عن أبيه، عن جده، بنحو حديث البراء المتقدم، ثم نقل عن ابن معين قوله: "هذا إسناد صحيح"6. قلت: وقال البوصيري   1 الكوفي، أبو بكر أو أبو عبد الرحمن، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار السادسة، مات سنة 141هـ أو بعد ذلك/ ع. (التقريب 534) . 2 هو: سليمان بن الجهم بن أبي الجهم الأنصاري الحارثي، الجوزجاني، مولى البراء، ثقةٌ، من الثالثة/ د س ق. (التقريب 250) . 3 المستدرك: (2/192) . 4 المصدر السابق: (4/356) . 5 تهذيب السنن: (6/266) . 6 زاد المعاد: (5/15) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 أيضاً: "إسناد صحيح رجاله ثقات"1. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث وإن كان في بعض طرقه اضطراب، فإن له طرقاً أخرى صحيحة لا مطعن فيها، ولا علة لها، فيكون الاعتماد عليها في الحكم بصحة هذا الحديث - أو حُسْنِهِ على الأقل - كمال حكم ابن القيم - رحمه الله - بحسن هذه الطرق، وذهب إلى أنها يؤيد بعضها بعضاً. ثم أيَّد ذلك بشاهد قويٍّ من حديث معاوية ابن قرة عن أبيه عن جده.   1 مصباح الزجاجة: (2/78) . طبعة الحوت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 5- باب في أنه لا يقتل المسلم بالكافر ذكر ابن القيم - رحمه الله - بعضَ الأحاديث الواردة في قتل المسلم بالكافر، وَبَيَّنَ أنها معلولة، قال: "وأما الحديث الذي ذكره أبو داود في (المراسيل) عن: 100- (6) عبد الله بن عبد العزيز الحضرمي، قال: قَتَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ خيبرَ مسلماً بكافرٍ، قَتَلَهُ غِيلَةً1، وقال: "أنا أَوْلَى، وَأَحقُّ من أَوْفَى بِذِمَّتِه": فمرسل لا يثبت" 2. قلت: أخرجه أبو داود في (المراسيل) 3 من طريق: ابن وهب، عن عبد الله بن يعقوب4، عن عبد الله بن عبد العزيز بن صالح5 به، وفيه: "أنا أولى أو أحق". ووقع في (تحفة الأشراف) 6 أن ذلك كان يوم "حنين"، والذي أثبته ابن القيم - رحمه الله - هو الموجود في نسختين من (المراسيل) ،   1 أي: في خُفْيَةٍ واغتيالٍ، وهو أن يُخْدَعَ ويقتل في موضعٍ لا يراه فيه أحدٌ. (النهاية 3/403) . 2 تهذيب السنن: (6/330) . (ح 251) باب الديات: في المسلم يقاد بالكافر إذا قتله. 4 ابن إسحاق المدني، مجهول الحال، من التاسعة/ د ت. (التقريب 330) . 5 الحضرمي، حجازيٌّ، مجهولٌ، من الرابعة، أَرْسَلَ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً / مد. (التقريب311) . (13/257) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 ولكن وقع في (تهذيب التهذيب) 1 ما يوافق نقل المزي، وكذا في (نصب الراية) 2، فالظاهرُ أنه الصواب، وقد رَجَّحَه محقق (تحفة الأشراف) . وهذا الحديث - مع إرساله - في إسناده مجهولان: "الحضرمي" مُرسِلُه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، و"عبد الله بن يعقوب" الراوي عنه، وبهما أَعَلَّهُ ابن القطان رحمه الله3. ثم أشار ابن القيم - رحمه الله - إلى مرسلٍ آخر يرويه ابن البيلماني، ثم قال: "ولا يصحُ من الوجهين: الإرسال، وابن البيلماني"4. ولم يذكر ابن القيم لفظه، وهو: 101- (7) عن عبد الرحمن بن البيلماني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ برجلٍ من المسلمين قَتَلَ معاهداً من أهل الذمة، فَقَدَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم، فضَرَب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى من وَفَّى بِذِمَّتِه". قال ابن القيم رحمه الله: "وقد أسنده بعضهم من حديث ابن البيلماني، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يصحُّ، وهذا الحديث مداره على ابن البيلماني، والْبَلِيَّة فيه منه، وهو مجمعٌ على ترك الاحتجاج به، فضلاً عن تقديم روايته على أحاديث الثقات الأئمة، المخرجة في   (6/86) . (4/336) . 3 بيان الوهم والإيهام: (3/70) ح 739. 4 تهذيب السنن: (6/330) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 الصحاح كلها"1. قلت: قد رُوِيَ حديث ابن البيلماني هذا مرسلاً، ومسنداً. أما المرسل: فقد أخرجه أبو داود في (المراسيل) 2 - ومن طريقه: الحازمي في (الاعتبار) 3 - من طريق: ابن وهب، عن سليمان بن بلال. وأخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) 4- ومن طريقه: الدارقطني في (سننه) 5 - من طريق: عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج. وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 6 - ومن طريقه: الدارقطني7، والبيهقي8، والحازمي9 - عن: الثوري. وأخرجه البيهقي في (سننه) 10 من طريق: سعيد بن منصور، عن عبد العزيز بن محمد. كلهم عن: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن البيلماني11، عن   1 تهذيب السنن: (6/330) . (ح 250) . (ص 189) . (5/408) ح 27460 - تحقيق: الحوت. (3/135) ح 167. (10/101) ح 18514. (3/135) ح 166. 8 السنن: (8/30) . 9 الاعتبار: (ص 189) . 10 (8/30) . 11 مولى عمر، مدني نزل حرّان، ضعيفٌ، من الثالثة/ 4. (التقريب 337) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 النبي صلى الله عليه وسلم به، واللفظ المذكور هو لفظ أبي داود، وفي آخره: "قال ابن وهب: تفسيره أنه قتله غيلة". وألفاظ الباقين بنحوه. وأخرجه الشافعي في (مسنده) 1، والبيهقي في (سننه) 2 من طريق: إبراهيم بن محمد، عن: محمد بن المنكدر، عن ابن البيلماني، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو لفظ أبي داود. فهكذا روي هذا المرسل عن ربيعة، ومحمد بن المنكدر، كلاهما عن ابن البيلماني به، لكن روى البيهقي بإسناده إلى أبي عبيد القاسم بن سلاّم، أنه قال: " ... بلغني عن ابن أبي يحيى أنه قال: أنا حَدَّثتُ ربيعة بهذا الحديث. فإنما دار الحديث على ابن أبي يحيى، عن عبد الرحمن بن البيلماني ... "3. ومهما يكن من أمر، فإن هذا المرسلَ ضعيفٌ، لوجود ابن البيلماني في إسناده، فإنه ضعيف عند جمهور العلماء4، ولذلك قال الدارقطني عقبه: "وابن البيلماني ضعيفٌ لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله". ونقل البيهقي في (سننه) 5 عن صالح بن محمد جزرة أنه قال: "عبد الرحمن بن البيلماني حديثه منكر، وروى عنه   (ص 343) من ك الديات والقصاص. (8/30) . 3 سنن البيهقي: (8/31) . 4 انظر أقوالهم فيه في تهذيب التهذيب: (6/149 - 150) . (8/31) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 ربيعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد، وهو مرسلٌ منكر". وفي الطريق الآخر: "إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى" وهو متروك الحديث باتفاقهم، فإذا نظرنا في كلام أبي عبيد الماضي: في أن ربيعة إنما أخذه من ابن أبي يحيى، وأنَّ الحديث حديث ابن أبي يحيى، فإنَّ هذا الإسناد يكون معلولاً بهذين الرجلين: ابن أبي يحيى، وابن البيلماني، هذا بالإضافة إلى كونه مرسلاً غير مسند. هذا فيما يتعلق بالطريق المرسل. وأما الطريق المسند: فقد أخرجه الدارقطني في (سننه) 1 - ومن طريقه البيهقي في (سننه) 2 - من طريق: عمَّار بن مطر، عن إبراهيم بن محمد، عن ربيعة، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مسلماً بمعاهدٍ، وقال: "أَنَا أَكْرَم مَن وَفَّى بذمته". وهذه الرواية الموصولة فيها عدة علل، كما بَيَّنَ ذلك الأئمة رحمهم الله: قال الدارقطني: "لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث، والصواب: عن ربيعة، عن ابن البيلماني - مرسلٌ - عن النبي صلى الله عليه وسلم"3. ثم ذكر ضعف ابن البيلماني، وقد سبق. وقال البيهقي:   (4/134) ح 165. (8/30) . 3 سنن الدارقطني: (3/135) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 "هذا خطأ من وجهين: أحدهما: وصله بذكر ابن عمر فيه، وإنما هو: عن ابن البيلماني، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. والآخر: روايته عن إبراهيم، عن ربيعة، وإنما يرويه إبراهيم عن: ابن المنكدر، والحمل فيه على عمار بن مطر الرُّهَاوي؛ فقد كان يقلب الأسانيد، ويسرق الأحاديث حتى كثر ذلك في رواياته، وسقط عن حد الاحتجاج به"1. وقال الحازمي - بعد أن ذكر الجماعة الذين رووه مرسلاً -: "وقد خالفهم إبراهيم بن أبي يحيى في ذلك، فرواه عن: ربيعة، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر مرفوعاً. وليس ابن أبي يحيى ممن يُفْرح بحديثه"2. وقال الحافظُ ابن حجر: "وَتَبَيَّنَ أنَّ عمار بن مطر خَبَطَ في سنده"3. قلت: وعمار بن مطر - الذي جاء منه البلاء والخبط في هذا الحديث -: هو أبو عثمان الرُّهَاوي، ضَعَّفَهُ الأئمة ورموا أحاديثه بالنكارة، فقال أبو حاتم: "كان يكذب"4. وقال العقيلي: "يُحَدِّث عن الثقات بمناكير"5. وقال ابن حبان: "يروى عن ابن ثوبان وأهل العراق المقلوبات، يسرق الحديث ويقلبه ... "6. وقال ابن عدي: "متروك   1 سنن البيهقي: (8/30) . 2 الاعتبار: (ص 190) . 3 فتح الباري: (12/262) . 4 الجرح والتعديل: (3/1/394) . 5 الضعفاء: (3/327) . 6 المجروحين: (2/196) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 الحديث ... الضعف على رواياته بَيِّنٌ"1. وقال الدارقطني: "ضعيف"2. وقال الذهبي: "هالك"3. فتلخص أن هذا المسند فيه بلايا: عمار بن مطر الهالك، وابن أبي يحيى المتروك، وابن البيلماني الضعيف، ومع كل ذلك: فإنَّ وَصْلَهُ خطأٌ، وأنَّ الصواب: إرساله، وهذا المرسل ضعيف أيضاً، لا يثبت مثله، وقد تقدم ذلك كله في كلام ابن القيم رحمه الله.   1 الكامل: (5/ 72 - 73) . 2 السنن: (1/211) . 3 الميزان: (3/169) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 6 - باب البدء في القسامة بأيمان المدعي 102- (8) عن سهل بن أبي حَثْمَةَ: أن نفراً من قومه انطلقوا إلى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقُوا فيها، فَوَجَدُوا أَحَدَهُم قتيلاً، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صَاحِبَنَا. فقالوا: ما قَتَلْنَاه ولا علمنا قاتلاً، فانطلقنا إلى نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لَهُم: "تَأْتُونِي بِالبَيِّنَة على من قَتَلَ هذا؟ " قالوا: مَا لَنَا بَيِّنة، قال: "فَيَحْلِفُوَن لكم؟ " قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فَكَرِهَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يبطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ مائة من إبل الصَّدَقَةِ. هكذا رُوِيَ هذا الحديث عند أبي داود وجماعة، والمشهور في هذه القصة خلافه، حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بأيمان الْمُدَّعِين، فلما لم يحلفوا طلب أيمان اليهود، ولا ذكر فيه للبينة. ووقع فيه خلاف آخر ستأتي الإشارة إليه. قال ابن القيم رحمه الله: "والصَّوابُ: روايةُ الجماعة الذين هم أئمةٌ أثباتٌ: أنه بدأَ بأَيمان الْمُدَّعِين، فلما لم يحلفوا ثَنَّى بأيمانِ اليهود. وهذا هو المحفوظُ في هذه القصة، وما سواه وَهْمٌ"1. قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري في (صحيحه) 2، وأبو داود، والنسائي في (سننيهما) 3، وكذا الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 4 من   1 تهذيب السنن: (6/321) . 2 ك الديات، باب القسامة، ح 6898 (فتح الباري 12/229) . 3 د: (4/661) ح 4523 ك الديات، باب ترك القود بالقسامة. س (8/12) ك القسامة، باب تبدئة أهل الدم في القسامة. 4 قط: (3/110) ح 95. هق: (8/120) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 طرق، عن: أبي نعيم1. وأخرجه مسلم في (صحيحه) 2 من طريق: عبد الله بن نمير. كلاهما عن: سعيد بن عبيد3، عن بشير بن يسار4، عن سهل بن أبي حَثْمَةَ5 رضي الله عنه به. واللفظ المذكور هو لفظ أبي داود، ولفظ الباقين مثله، غير أنه جاء عند البخاري: " ... فَكَرِهَ أن يُطَلَّ6 دمه" بدل "يبطل" عند الآخرين. أما مسلم، فإنه لم يسق لفظه في (صحيحه) . وساقه في كتابه (التمييز) بنحو لفظ البخاري، وسيأتي كلامه. هكذا رواه سعيد بن عبيد، عن بشير، وخالفه يحيى بن سعيد القطان، فأخرجه مسلم في (صحيحه) 7، والنسائي في (سننه) 8، والشافعي في (رواية المزني) 9 ثلاثتهم من طريق: عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي. وأخرجه مسلم10 أيضاً، والترمذي11، والنسائي12، ثلاثتهم   1 هو: الفضل بن دكين. (3/1294) ح 1669 (5) ، ك القسامة والمحاربين ... ، باب القسامة. 3 الطائي، أبو الهذيل الكوفي، ثقةٌ، من السادسة / خ د ت س. (التقريب 239) . 4 الحارثي، مولى الأنصار، مدني، ثقةٌ فقيهٌ، من الثالثة/ ع. (التقريب 126) . 5 ابن ساعدة بن عامر الأنصاري الخزرجي، المدني، صحابي صغير، ولد سنة ثلاث من الهجرة، وله أحاديث، مات في خلافة معاوية / ع. (التقريب 257) . 6 يقال: طُلَّ دمهُ، وأُطِلَّ، وأَطَلَّهُ الله: إذا أُهْدِرَ. (النهاية 3/136) . (3/1293) ح 1669. (8/10) . (ص 423) ح 624 باب ما جاء في القسامة. 10 ح 1669 (1) . 11 في جامعه: (4/30) ح 1422 ك الديات، باب ما جاء في القسامة. 12 (8/7) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 من طريق: الليث بن سعد. وأخرجه الترمذي1 وحده من طريق: يزيد ابن هارون. وأخرجه مسلم، والنسائي2، والدارقطني3 من طريق: بشر ابن الفضل. وأخرجه النسائي4، والشافعي5 من طريق: سفيان بن عيينة. كلهم عن: يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حَثْمَةَ - ووقعَ في رواية الليث بن سعد: عن سهل بن أبي حثمة، قال يحيى: وحسبت عن رافع بن خديج - أنهما قالا: خرج عبد الله بن سهل بن زيد، ومحيصة بن مسعود بن زيد، حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك.." فساقا الحديث بنحو ما تقدم، وفيه: فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل، فقال لهم: "أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم؟ " قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يميناً؟ " قالوا: وكيف نقبلُ أيمان قومٍ كُفَّار؟ فما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقله6. هذا سياق مسلم، ولفظ الآخرين نحوه. فقد خالف يحيى بن سعيد - في حديثه هذا - سعيد بن عبيد في   (4/31) . (8/9) . (3/108) ح 91. (8/11) . 5 رواية المزني: (ح 622) . 6 العقل: الدِّيَة. (النهاية 3/278) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 موضعين: فلم يذكر فيه سُوءَالَهُم البَيِّنَة، وذكر فيه طلبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أيمان الْمُدَّعين. فذهب بعض أهل العلم إلى تقديم رواية يحيى بن سعيد، وقد قَرَّرَ ذلك الإمام مسلم - رحمه الله - في كتابه (التمييز) فقال - بعد أن ساق الحديث بإسناده إلى سعيد بن عبيد -: "هذا خبرٌ لم يحفظه سعيد ابن عبيد على صحته، ودخله الوهمُ حتى أغفل موضع حُكْمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهته. وذلك أن في الخبر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة: أن يحلف المدَّعون خمسين يميناً ويستحقون قاتلهم، فأبوا أن يحلفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تبرئكم يهود بخمسين يميناً. فلم يقبلوا أيمانهم، فعند ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عقله"1. ثم ساق الحديث من عدة طرق إلى يحيى بن سعيد على نحو ما تقدم، ثم قال: "وَتَواُطُؤ هذه الأخبار التي ذكرناها بخلاف رواية سعيد، يَقْضِي على سعيد بالغلط والوهم في خبر القسامة. وغير مشكل على من عقل التمييز من الحفاظ من نقلة الأخبار، ومن ليس كمثلهم: أن يحيى بن سعيد أحفظ من سعيد بن عبيد، وأرفع منه شأناً في طريق العلم وأسبابه"2. ونقل ابن القيم - رحمه الله - عن النسائي قوله: "لا نعلمُ أحداً تابع سعيد بن عبيد على روايته عن بشير بن يسار"3.   1 التمييز: (ص 192) . 2 التمييز: (ص 194) . 3 تهذيب السنن: (6/320) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وقال المنذري - في كلامه على حديث سعيد بن عبيد-: "وقد ذكرنا ... اتفاق الحفاظ على البداءة بالمدعين"1. فهذا مسلك هؤلاء في هذين الخبرين. ورأى آخرون أنه لا تعارضَ بين الروايتين، وأن الجمع ممكن، فقال البيهقيُّ رحمه الله: "وإن صَحَّتْ رواية سعيد فهي لا تخالف رواية يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، لأنه قد يريد بالبَيِّنَة: الأيمان مع اللَّوث2، كما فسره يحيى بن سعيد، وقد يطالبهم بالبينة - كما في هذه الرواية - ثم يعرض عليهم الأيمان مع وجود اللوث، كما في رواية يحيى بن سعيد، ثم يَرُدُّها على الْمُدَّعَى عليهم عند نكول الْمُدَّعِين، كما في الروايتين"3. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ... في رواية سعيد بن عبيد: لم يذكر عرض الأيمان على المدعين، كما لم يقع في رواية يحيى بن سعيد طلب البينة أولاً، وطريق الجمع أن يقال: حَفِظَ أحدهم مالم يحفظ الآخر، فيحمل على أنه طلب البينة أولاً فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم فأبوا". قال: "وقد وجدنا لطلب البينة في هذه القصة شاهداً من وجه آخر، أخرجه النسائي4 من طريق: عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن   1 مختصر السنن: (6/321) . 2 اللَّوْثُ: البَيِّنَة الضعيفة غير الكاملة. (المصباح المنير: 2/560) . 3 سنن البيهقي: (8/120) . 4 في سننه: (8/12) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 ابن محيصة الأصغر أصبحَ قتيلاً على أبواب خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَقِمْ شاهدين على من قتله، أَدْفَعْهُ إليك بِرِمَّتِهِ". قال: يا رسول الله أنَّى أصيبُ شاهدين، وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم؟ قال: "فتحلف خمسين قسامة". قال: فكيف أحلف على ما لا أعلم. قال: "تستحلف خمسين منهم". قال: كيف وهم يهود؟. قال: "وهذا السندُ صحيحٌ حسنٌ، وهو نصٌ في الحمل الذي ذكرته، فتعين المصير إليه"1. وكأنَّ ابن القيم - رحمه الله - لم يستبعد إمكان الجمع أيضاً؛ فإنه بعد أن نقل كلام البيهقي السابق، قال: "ويدلُّ على ما ذكره البيهقي: حديث النسائي عن عمرو بن شعيب"2. وهذا بعينه مسلك ابن حجر كما مرَّ، إلا أنه - مع ذلك - قد صَوَّبَ ما ذهب إليه الإمام مسلم - رحمه الله - من ترجيح رواية يحيى بن سعيد، وتخطئة ما سواها. قلت: ومسلكُ الجمع وجيهٌ؛ إذ إنَّ الجمع بين الوجوه التي ظاهرها التعارض، أولى من تخطئة الثقة بلا برهانٍ واضحٍ، وبَيِّنَةِ ظاهرة، لا سيما وقد وُجِدَتْ متابعة لرواية سعيد بن عبيد، كما مضى في كلام ابن حجر رحمه الله. ثم إنه قد وقع خلافٌ على يحيى بن سعيد في روايته، ففي رواية حماد بن زيد عند مسلم3 وأبي داود4، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يُقْسِمُ خمسون   1 فتح الباري: (12/234) . 2 تهذيب السنن: (6/321) . 3 صحيح مسلم: ح 1669 (2) . 4 السنن: (4/655) ح 4520. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 منكم على رجلٍ منهم فيدفع برمته". قال البيهقي: "هكذا رواه حماد بن زيد ... والعدد أولى بالحفظ من الواحد"1. يعني أنهم لم يذكروا قوله: "على رجلٍ منهم". وَثَمَّةَ خلاف آخر على يحيى بن سعيد؛ فقد أخرج البيهقي - رحمه الله - هذا الحديث من طريق ابن عيينة، عن يحيى، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "فتبرئكم يهود بخمسين يميناً ... " 2. فَقَدَّمَ أيمان اليهود. قال أبو داود - وقد أشار إلى هذه الرواية -: "وهذا وَهْمٌ من ابن عيينة"3. وقد نقل الشافعي عن ابن عيينة أنه لم يتقنه، فقال: "فكان سفيان يحدثه هكذا، وربما قال: لا أدري أَبَدَأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصارَ في اليمين أم يهود؟ فقال له: إن الناس يحدثون أنه بدأ الأنصار، قال: فهو ذلك. وربما حَدَّثَهُ ولم يشكّ فيه"4. واستدلَّ البيهقي - رحمه الله - بذلك على أن ابن عيينة لم يتقنه إتقان الجماعة الكثيرين الذين رووه عن يحيى بخلاف ذلك5.   1 سنن البيهقي: (8/119) . 2 سنن البيهقي: (8/119) . 3 سنن أبي داود: (4/658) . 4 السنن المأثورة (رواية المزني) : (ص 423) . 5 سنن البيهقي: (8/119) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 فتلخص من ذلك: أن ابن القيم - رحمه الله - قد اختار رواية من روى البدءَ بأيمان الْمُدَّعِين، ولم يذكر طلبَ البينة، ورأى أنَّ ذلك هو الصواب، وأن ما عدا ذلك وَهْمٌ من قائله. وقد سبقه إلى ذلك: الإمام مسلم، والنسائي رحمهما الله. ومع ذلك، فإن القولَ بالجمع بين الخبرين، وعدم تعارضهما قول لا ينبغي إهماله أيضاً؛ لأن التأليف بين الأخبار أولى؛ لكون ذلك فيه إعمال لها جميعاً كما مضى، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 من كتاب الأدب 1 ـ باب كم مرة يشمت العاطس؟ ... 1 - باب كم مرة يشمت العاطس؟ 103- (1) عن أبي هريرة موقوفاً عليه: "شَمِّتْ1 أخَاكَ ثَلاثَاً، فما زَادَ فهو زُكَامٌ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث وعزاه إلى أبي داود، ثم ذكر أن أبا داود أخرجه من وجه آخر عن ابن عجلان، وفيه قول سعيد المقبري: "لا أعلمه إلا أنه رَفَعَ الحديث - يعني أبا هريرة - إلى النبي صلى الله عليه وسلم". ثم ذكرَ روايةً أُخرى عَلَّقَها أبو داود أيضاً، ثم حَكَمَ عليها بالحسن2. قلت: أما الرواية الموقوفة، فقد أخرجها أبو داود في (سننه) 3 من طريق: يحيى القطان. والبخاري في (الأدب المفرد) 4 من طريق: ابن عيينة، كلاهما عن: محمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري5، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وفي إسناده "محمد بن عجلان"، وقد تُكُلِّم في روايته عن المقبري،   1 التَّشْمِيتُ - بالشين والسين-: الدعاء بالخيرِ والبركةِ، والمعجمة أعلاهما. (النهاية 2/499) . 2 زاد المعاد: (2/440 - 441) . (5/290) ح 5034، ك الأدب، باب كم مرة يشمت العاطس. (ص 137) باب من عطس مراراً. 5 أبو سعيد المدني، ثقةٌ، من الثالثة، تَغَيَّرَ قبل موته بأربع سنين، وروايته عن عائشة وأم سلمة مرسلة، مات في حدود 120هـ /ع. (التقريب 236) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 عن أبي هريرة، قال يحيى القطان: "سمعتُ محمد بن عجلان يقولُ: كان سعيدٌ المقبري يُحَدِّث عن أبيه عن أبي هريرة، وعن أبي هريرة، فاختلط عليَّ فجعلتها كلها عن أبي هريرة"1. قال ابن حبان عقب إيراده هذه الحكاية: "وليس هذا مما يَهِي الإنسان به؛ لأن الصحيفة كلها في نفسها صحيحة، فما قال ابن عجلان: عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. فذاكَ مما حَمَلَ عنه قديماً قبل اختلاط صحيفته عليه، وما قال عن سعيد عن أبي هريرة: فبعضها متصل صحيحٌ، وبعضها منقطع لأنه أسقط أباه منها، فلا يجب الاحتجاج - عند الاحتياط - إلا بما يَرْوي الثقات المتقنون عنه عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة ... "2. فَتَبَيَّنَ من هذا أن ما ينفردُ به ابنُ عجلان عن المقبري عن أبي هريرة: ينبغي التوقف فيه احتياطاً، لاحتمال أن يكون منقطعاً. فإن قيل: وعلى القول بالانقطاع فإنه لا يضرُّ؛ لأنَّ الواسطة بين المقبري وأبي هريرة: "أبو سعيد المقبري"، ومع العلم بالواسطة فإنه لا يضر سقوطها؟ قيل: إنَّ تخليط ابن عجلان في حديث سعيد المقبري ليس قاصراً على رواية المقبري عن أبيه، بل منها ما كان عن سعيد عن غير أبيه، فقد   1 الثقات لابن حبان: (7/386) . وانظر: الميزان: (3/645) مع اختلاف يسير. 2 الثقات: (7/387) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 وَرَدَ في حكايته آنفة الذكر: أن سعيداً كان يُحَدِّثُ عن أبيه، عن أبي هريرة. وعن رجل، عن أبي هريرة، فاختلط عليه فجعلهما عن أبي هريرة1. وليس ذلك فحسب، بل اختلطت على ابن عجلان أحاديثُ المقبري عن أخيه عن أبي هريرة، وغيره من مشايخ سعيد، كما قاله النسائي رحمه الله2. هذا ما يتعلق بالكلام على إسناد هذا الحديث، أما من ناحية رفعه: فقد أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والطبراني في (الدعاء) 4، وابن السُنِّي في (عمل اليوم والليلة) 5، ثلاثتهم من طريق: الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة - قال: لا أعلمه إلا رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم - بمعنى الحديث المتقدم. وأخرجه الطبراني في (الدعاء) 6 من طريق ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم ... ، وقد تَقَدَّمَ أن   1 الميزان: (3/645) . 2 ينظر حول ذلك: (الثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم) : (ص 223 - 225) . (5/290) ح 5035. (3/1695) ح 1999. (ص 125) ح 250 باب تشميت العاطس ثلاثاً. (3/1695) ح 2001. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 البخاري أخرجه في (الأدب) من طريق ابن عيينة موقوفاً. وقد رُوي مرفوعاً من وجهٍ آخر، عَلَّقَه أبو داود1 فقال: "رواه أبو نعيم، عن موسى بن قيس، عن محمد بن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعاً". ووصله الطبراني في (الدعاء) 2، فقال: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم ... به، إلا أنه وقع عنده: "موسى بن موسى الأنصاري" بدل "موسى بن قيس" وأشار المحقق إلى عدم وقوفه على ترجمته. والرجل - كما جاء في إسناد أبي داود - هو موسى بن قيس3، قال ابن القَيِّم: "هو الحضرميُّ الكوفيُّ، يعرفُ بعصفور الجنة، قال يحيى بن معين: ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: لا بأس به"4. وقد حَسَّنَ ابن القَيِّم - رحمه الله - حديث موسى بن قيس هذا، فقال: "وهو حديث حسن"5. وقد سألَ ابن أبي حاتم أباه عن حديث أبي هريرة هذا موقوفاً؟ فقال: "منهم من يرفعه" قلت: من يرفعه؟ وأيهما أصح؟ فقال: "قوم من الثقات يرفعونه"6.   1 السنن: (5/290) . (3/1694) ح 1998. 3 قال الحافظ ابن حجر: "صدوق رُمِيَ بالتشيع، من السادسة/ د س". (التقريب:553) . 4 زاد المعاد: (2/440 - 441) . وانظر: ترجمته في تهذيب التهذيب (10/366) . 5 زاد المعاد: (2/441) . 6 علل ابن أبي حاتم: (2/291) ح 2376. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث يُروى عن أبي هريرة موقوفاً ومرفوعاً، وأن رَفْعَهُ زيادة من الثِّقَةِ فهي مقبولة، والحديث حَسَنٌ لغيره، وذلك أنه من رواية ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وقد تقدم أن الاحتياط التوقف في رواية ابن عجلان ما لم يتابع عليها، وقد وجدت الشيخ الألباني - رحمه الله - نَبَّه على متابعة له تجعل حديثه مقبولاً، ولا ينزل عن درجة الحسن، وهي: ما أخرجه الديلمي في (مسند الفردوس) من طريق: علي بن عاصم: حدثنا ابن جريج، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة به. أشار - رحمه الله - إلى هذه المتابعة في (السلسلة الصحيحة) 1 ثم قال: "وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين، غير علي بن عاصم، قال الحافظ: صدوقٌ يخطئ ويهم". قلت: وحديثه لا بأس به في المتابعات، وإذا ضُمَّ إلى طرق حديث ابن عجلان المتقدمة تَقَوَّى كل منهما بالآخر. وثمة متابعة أخرى لسعيد المقبري نفسه، وذلك فيما أخرجه ابن السني في (عمل اليوم والليلة) 2 من طريق: محمد بن سليمان بن أبي داود3، عن أبيه، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن   (ح 1330) . (ص 126) ح251. 3 الحراني، اسم جده: سالم أو عطاء، صدوقٌ، من التاسعة، مات 213هـ / ق. (التقريب 481) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه، وإن زاد على ثلاث فهو مزكوم، ولا تشميت بعد ثلاث مرات". وأشار النووي - رحمه الله - إلى هذه الطريق في (الأذكار) 1 فقال: "وروينا في كتاب ابن السني - بإسناد فيه رجل لم أتحقق حاله، وباقي إسناده صحيح - عن أبي هريرة ... " فذكره. قال ابن حجر - رحمه الله - عقب نقله كلام النووي هذا: "الرجل المذكور هو: سليمان بن أبي داود الحراني، والحديث عندهما - يعني عند ابن السني وأبي يعلى- من رواية محمد بن سليمان عن أبيه، ومحمد موثَّق، وأبوه2 يقال له: الحراني، ضعيف، قال فيه النسائي: ليس بثقة ولا مأمون"3. ولا شك أن هذه الطريق وإن كانت ضعيفة، فإنَّها تتقوى بما سبق، وإذا انضمت إلى الطريق السابقة أعطتها قوة. ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أشار إلى رواية ابن المسيب عن أبي هريرة الأخيرة، فبعد أن فرغ من الكلام على حديث ابن عجلان قال: "وفي الباب حديث آخر عن أبي هريرة يرفعه ... " فذكره، إلا أنه حدث له وهم يرحمه الله، وهو أنه جعل لهذا المتن إسناداً آخر، فقال: "وهذا الحديث هو حديث أبي داود الذي   (ص 234) . 2 انظر ترجمته في الميزان: (2/206) . 3 فتح الباري: (10/605) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 قال فيه: رواه أبو نعيم، عن موسى بن قيس، عن محمد بن عجلان، عن سعيد ... "1. وقد علم مما تقدم أنهما حديثان متغايران. هذا، وقد حَسَّنَ حديث أبي هريرة من طريق المقبري: البغوي2، والسيوطي3، والألباني4. وجوّد الحافظ العراقي إسناده5. ومن هذا يتبين أنَّ الحديث حسنٌ بتلك المتابعات، كما حَكَمَ بذلك ابن القَيِّم رحمه الله. ومن الشواهد التي ذكرها ابنُ القَيِّم - رحمه الله - لهذا الحديث: 104- (2) حديث عبيد بن رفاعة الزرقي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "تشمتُ العاطسَ ثلاثاً، فإنْ شئت فشَمِّتْهُ، وإن شئت فَكُفّ ". قال ابن القَيِّم - رحمه الله - عقب إيراده هذا الحديث: "ولكن له علتان: إحداهما: إرساله؛ فإن عبيداً هذا ليست له صحبة. والثانية: أن فيه أبا خالد يزيد بن عبد الرحمن الدالاني، وقد تُكِلِّم فيه"6.   1 زاد المعاد: (2/441) . 2 في مصابيحه، انظر: (المشكاة) : (ح 4743) . 3 في الجامع الصغير، انظر: فيض القدير مع الجامع: (4/164) ح 4898. 4 في صحيح الجامع: (ح 3715) . 5 كما في فيض القدير: (4/164) . 6 زاد المعاد: (2/441) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 1، والترمذي في (جامعه) 2، وابن السني في (عمل اليوم والليلة) 3، كلهم من طريق: عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن4، وإلى هنا اتفقوا جميعا ثم حصل اختلاف: فأما أبو داود وابن السُّني فقالا: عن يحيى بن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أمه حميدة أو عبيدة بنت عبيد بن رفاعة، عن أبيها عبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الترمذي فقال: عن عمر بن إسحاق بن أبي طلحة، عن أمه عن أبيها، كذا سماه عمر، ولم يسم أمه ولا أباها. ولذلك فقد قال الترمذي عقب إخراجه "حديث غريب، وإسناده مجهول". وَضَعَّفَهُ النوويُّ5 معتمداً في ذلك على قول الترمذي. ولكن تَعَقَّبَ الحافظ ابن حجر النوويَّ، فقال: "إطلاقه عليه الضعف ليس بجيد؛ إذ لا يلزم من الغرابة الضعف، وأما وصف الترمذي إسناده بكونه مجهولاً: فلم يُرِدْ جميع رجال الإسناد؛ فإنَّ معظمهم   (5/291) ح 5036. (5/85) ح2744 ك الأدب، باب ما جاء كم يشمت العاطس. (ح 252) . 4 أبو خالد الدالاني، الأسدي، الكوفي، صدوقٌ يخطئ كثيراً، وكان يُدَلِّس، من السابعة/ 4. (التقريب 636) . 5 في الأذكار: (ص 234) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 مُوثَّقُون، وإنما وقع في روايته تغيير اسم بعض رواته وإبهام اثنين منهم". ثم ساق إسناد أبي داود وقال: "وهذا إسناد حسن، والحديث مع ذلك مرسل". ثم ساق إسناد الترمذي، وقال: "وكأنه لم يمعن النظر، فمن ثم قال: إنه إسناد مجهول. وقد تَبَيَّنَ أنه ليس بمجهول، وأن الصوابَ: يحيى بن إسحاق، لا عمر"1. فتبين من ذلك أنَّ هذا الحديث وإن كان مرسلا إلا أنه حسن الإسناد، وأبو خالد الدالاني وإن كان متكلماً فيه إلا أنه لا يصل إلى درجة من يُترك حديثه، وأن أقلَّ أحوالِ هذا المرسل أنه يصلحُ شاهداً لحديث أبي هريرة المتقدم، والله أعلم.   1 فتح الباري: (10/605 - 606) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 2 - باب هل يجزئ عن الجماعة أن يسلم أو يرد أحدهم؟ 105- (3) عن علي رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُجْزِئ عن الجماعةِ إذا مَرُّوا أن يُسَلِّم أَحَدُهُم، ويُجْزِئ عن الجُلوسِ أن يَرُدَّ أَحَدُهُم ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ذهب إلى هذا الحديث من قال: إنَّ الرَّد فرضُ كفاية، يقومُ فيه الواحدُ مقامَ الجميع، لكن ما أَحْسَنَهُ لو كان ثابتاً؛ فإنَّ هذا الحديث رواه أبو داود من رواية سعيد بن خالد الخُزاعي المدني. قال أبو زرعة الرازي: مدنِيٌّ ضعيف. وقال أبو حاتم الرازي: ضعيفُ الحديثِ. وقال البخاري: فيه نَظَرٌ. وقال الدارقطني: ليس بالقوي"1. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2 - ومن طريقه البيهقي3 - وابن السني في (عمل اليوم والليلة) 4، ثلاثتهم من طريق: سعيد بن خالد الخزاعي5، حدثني عبد الله بن الفضل6، حدثنا   1 زاد المعاد: (2/426 - 427) . (5/387) ح 5210 ك الأدب، باب ما جاء في ردِّ الواحد عن الجماعة. 3 السنن: (9/48 - 49) ك السير، باب النفير وما يستدل به على أنَّ الجهاد فرض على الكفاية. (ص 114) ح 224، باب سلام الواحد من الجماعة على الجماعة. 5 المدني، ضعيف، من السابعة، مات بعد الخمسين/ د. (التقريب 235) . 6 ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، المدني، ثقةٌ، من الرابعة/ ع. (التقريب 317) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 عبيد الله بن أبي رافع، عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه به، واللفظ الذي ساقه ابن القَيِّم هو لفظ أبي داود. ولفظ ابن السُّني نحوه. وأخرجه جماعة غير هؤلاء، ذكرهم الشيخ الألباني في (إرواء الغليل) 1. والحديثُ بهذا الإسنادِ ضعيفٌ؛ لضعف سعيد بن خالد كما مَرَّ من كلام ابن القَيِّم رحمه الله. وقال الدارقطني: "الحديثُ غيرُ ثابت، تَفَرَّد به سعيد بن خالد المدني ... وليس بالقوي"2. وَضَعَّفَهُ المنذريُّ3 بسعيد هذا، وكذا الضياء المقدسي4. وللحديث شاهدٌ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أشارَ إليه الشيخ الألباني5 رحمه الله، وأخرجه ابن السُّنِّي في (عمل اليوم والليلة) 6 من طريق: حفص بن عمرو بن زريق، ثنا عبد الرحمن بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله! القوم يمُرُّون يسلِّم رجل منهم، يجزئ ذلك عنهم؟ قال: "نعم". قال: فيردُّ رجل من القوم، أيجزئ   (3/242) . 2 العلل: (4/22) . 3 مختصر السنن: (8/79) . 4 نقله عنه في إرواء الغليل: (3/242) . 5 الإرواء: (3/243) . (ص 118) ح 234. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 ذلك عنهم؟ قال: "نعم". وهذا الإسناد رجاله ثقات، غير حفص بن عمرو فلم أقف على من تَرْجَمَهُ، وعبد الرحمن بن الحسن: كذا هو عند ابن السُّنِّي، وصوابه: عبد الله، فهو عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب1، فقد أورده الشيخ الألباني في (الإرواء) 2 من رواية أبي سهل القَطَّان في (حديثه) ، فقال فيه: عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ... وله شاهد آخر أرشد إليه الشيخُ الألباني رحمه الله، وهو من رواية الحسن بن علي رضي الله عنه، أورده الهيثميُّ في (مجمع الزوائد) 3 بمثل لفظ حديث أبي سعيد المتقدم قبل قليل، ثم قال: "رواه الطبراني، وفيه كثير بن يحيى، وهو ضعيف". ويشهد له أيضاً: ما أخرجه مالكٌ في (الموطأ) 4 عن زيد بن أسلم، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُسَلِّمُ الراكبُ على الماشي، وإذا سَلَّمَ مِن القوم واحدٌ أجزأَ عنهم". والمراد: الإجزاء في الردِّ5.   1 أبو محمد، ثقةٌ جليل القدر، من الخامسة، مات في أول سنة 145هـ /4. (التقريب 300) . (3/243) . (8/35) . (2/959) ح 1، ك السلام، باب العمل في السلام. 5 انظر: التمهيد: (5/289) فقد أَوَّلَهُ ابن عبد البر على هذا المعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 قال الإمام النووي رحمه الله: "هذا مرسلٌ صحيحُ الإسناد"1. وقال الشيخ الألباني: "وزيد بن أسلم ثقةٌ عالم من رجال الستة، وكان يرسل، وهذا من مرسلاته"2. وقال الشيخ الأرناؤوط: "مرسلٌ صحيح"3. وقد تابعَ مالكاً على هذا المرسل: ابن جريج، فأخرجه ابن عبد البَرِّ في (التمهيد) 4 بإسناده إليه، عن زيد بن أسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مَرَّ القوم على المجلس فَسَلَّمَ منهم رجلٌ، أجزأَ ذلك عنهم. وإذا رَدَّ من أهلِ المجلس رجلٌ أجزأ ذلك عنهم". ولعلَّ الحديث بهذه الشواهدِ يَتَقَوَّى فيصلُ إلى رتبةِ الحَسَنِ، وقد حَسَّنَه أبو سعيد النيسابوري في (الأربعين) كما نقله عنه الشيخُ الألباني، ثم تعقبه بقوله: "ولعله يعني: حسن لغيره"5. وقال ابن عبد البر: "حديث حسن لا معارضَ له"6. وحسَّنَه الشيخُ الألباني أيضاً7. فإذا تقرر ذلك، فإنَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يكن مُصيباً في القول بعدم ثبوت الحديث، ولعله لم يتهيأ له الوقوف على شواهده؛   1 الأذكار: (ص 211) . 2 السلسلة الصحيحة: (ح 1148) . 3 التعليق على زاد المعاد: (2/427) . (5/291) . 5 إرواء الغليل: (3/242) . 6 التمهيد: (5/290) . 7 إرواء الغليل: (3/242) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 فإنَّ الحديث حسن لغيره بشواهد عديدة كما تقدم، والله أعلم. وقد استدلَّ بهذا الحديث: مالكٌ والشافعيُّ وأصحابهما على أن رَدَّ السَّلام فرضٌ على الكفاية، إذا قامَ به بعض القوم أجزأ عن غيرهم1، وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ذلك أول البحث.   1 انظر: التمهيد: (5/287 - 288) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 3 - باب ما جاء في المصافحة 106- (4) عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "مِنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ: الأَخْذُ باليَدِ " 1. ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (تهذيب السنن) 2، ثم قال:"وله علتان: إحداهما: رواية يحيى بن سُلَيْم له. والثانية: أن راويه عن ابن مسعود رجلٌ مجهولٌ". ثم نقل عن الترمذي أنه سألَ البخاريَّ عنه، فلم يُعُدَّه محفوظاً. قلت: هذا الحديث أخرجه: الترمذيُّ في: (جامعه) 3، و (علله) 4، وأبو أحمد الحاكم في (الفوائد) 5 من طريق: يحيى بن سليم الطَّائفي، عن سفيان، عن منصور، عن خيثمة6، عن رجلٍ، عن ابن مسعود رضي الله عنه به.   1 نقل ابن حجر في فتح الباري: (11/56) عن ابن بطال قوله: "الأخذ باليد: هو مبالغة المصافحة ... ". (8/79) . (5/75) ح 2730 ك الاستئذان، باب ما جاء في المصافحة. (2/863) . 5 كما أفاده الشيخ الألباني في الضعيفة: (3/449) . 6 ابن عبد الرحمن بن أبي سبرة، الجُعْفي، الكوفي، ثقةٌ، وكان يُرْسِلُ، من الثالثة، مات بعد سنة 80هـ/ ع. (التقريب 197) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 وقد أَعَلَّ الأئمة هذا الحديث وَضَعَّفُوه، فقال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريبٌ، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم عن سفيان، وسألت محمدَ بنَ إسماعيل عن هذا الحديث، فلم يُعدَّه محفوظاً، وقال: إنما أراد عندي: حديث سفيان، عن منصور، عن خيثمة، عمن سمع ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا سَمَرَ إلا لِمُصَلٍّ أو مُسَافِرٍ". قلت: فقد حمل البخاريُّ - رحمه الله - في هذا الحديث على يحيى بن سليم الطائفي، وأنه انقلبَ عليه، فجاء بمتنِ حديثِ الأخذِ باليد فَرَكَّبَهُ على إسناد حديث آخر، وهو حديث: "لا سَمَرَ إلا لِمُصَلٍّ ... " 1. وقال البخاري مرة: "هذا حديث خطأ"2. ثم بيَّنَ الصوابَ في حديث المصافحة هذا، فقال: "وإنما يُرْوَى عن منصور، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد - أو غيره - قال: من تَمَام التحية ... "3. كذا في (جامع الترمذي) ، وفي (العلل) 4 له: "وإنما يُروى عن منصور، عن الأسود بن يزيد - أو عبد الرحمن بن يزيد - أنه قال ... ". ويحيى بن سليم: سيئُ الحفظ، يَهِمُ ويخطئ، ولذلك قال الإمام   1 جامع الترمذي: (5/75 - 76) . 2 علل الترمذي: (2/863) . 3 جامع الترمذي: (5/76) . (2/863) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 أحمد: "أتيته فكتبت عنه شيئاً، فرأيته يُخَلِّطُ في الأحاديث فتركته"1. وخطَّأه غيره. وقال أبو حاتم رحمه الله: "حديثٌ باطلٌ"2 ولَعَلَّه - رحمه الله - يشير إلى العِلَّة التي ذكرها البخاري. وقد ذكر الذهبي هذا الحديث في ترجمة يحيى الطائفي من (ميزانه) 3 على عادته في ذكر شئٍ من حديث الراوي مما انفرد به، أو أُنْكِرَ عليه. وقد ضَعَّفَ إسناده أيضاً: الحافظُ ابن حجر، فقال: "إسناده ضعيف"4 وقال مرة: "في سنده ضعف"5. ويضافُ إلى ما تَقَدَّمَ: الجهالةُ في إسناده، حيث لم يُسَمّ الرَّاوي عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقد أشار الزيلعي إلى ذلك، فقال: "وفيه أيضاً مجهولٌ"6. ونقل المناوي في (فيض القدير) 7 عن المنذريِّ مثل ذلك. وقد أورد الشيخُ الألبانيُّ هذا الحديث في (السلسلة الضعيفة) 8،   1 انظر: الميزان: (4/384) ، وتهذيب التهذيب: (11/226 - 227) . 2 علل ابن أبي حاتم: (2/307) ح 2433. (4/384) . 4 الدارية: (2/234) . 5 فتح الباري: (11/56) . 6 نصب الراية: (4/260) . (6/11) . (3/449) ح 1288. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 ونقل أقوال الأئمة في تضعيفه، ثم ذكر له بعضَ الشواهد من حديث: أبي أمامة، والبراء بن عازب، وَضَعَّفها، ثم قال: "وجملة القول: أنَّ طرقَ هذا الحديث كلها واهيةٌ، وبعضها أشد ضعفاً من بعض، فليس فيها ما يمكنُ الاعتمادُ عليه كشاهدٍ صالح، فالذي أستخيرُ الله فيه: أَنَّهُ ضعيفٌ مرفوعاً، صحيحٌ موقوفاً، والله أعلم". فَتَلَخَّصَ من ذلك أن هذا الحديث: 1- ضعيف السند؛ لوجود يحيى الطائفي فيه. 2- ومقلوبُ المتن؛ إذ رُكِّبَ متنه على إسناد آخر. 3- وفي إسناده راوٍ مجهولٌ. 4- وأنَّ الصواب فيه: الوقفُ على الأسود بن يزيد، أو عبد الرحمن بن يزيد. وبذلك يكون للحديث علتان أخريان زيادة على ما ذكر ابن القَيِّم رحمه الله. ومع كل هذا، فقد رَمَزَ له السيوطي في (الجامع الصغير) 1 بالحُسْن! فلعله حَدَثَ خطأٌ؛ إذ إنَّ هذه الرموزُ قد يغلبُ عليها تحريف النساخ، كما نَبَّه عليه الشيخ الألباني2. فالله أعلم.   1 مع فيض القدير: (6/11) ح 8238. 2 مقدمة ضعيف الجامع: (1/13) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 4 ـ باب الرجل يدعى إلى طعام، هل يكون ذللك إذنا له؟ ... 4- باب الرجل يدعى إلى طعام، هل يكون ذلك إذنا له؟ قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد روى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم، من حديث قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: "رسولُ الرَّجُلِ إلى الرَّجُلِ إِذْنُه". وفي لفظ: "إذا دُعِيَ أَحَدُكُم إلى طَعَامٍ، ثُمَّ جَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فإِنِّ ذَلِك إذْنٌ لَهُ". ثم قال: "وهذا الحديث فيه مقالٌ، قال أبو عليٍّ اللؤلؤي: سمعتُ أبا داود يقول: قتادة لم يسمع من أبي رافع. وقال البخاريُّ في (صحيحه) : وقال سعيد: عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو إذنه. فَذَكَرَهُ تعليقاً لأجل الانقطاع في إسناده"1. قلت: عند التدقيق نجد أن المذكور في كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثان، أما أولهما، فهو: 107- (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رسولُ الرَّجُلِ إلى الرَّجُلِ إِذْنُه ". وهذا الحديث أخرجه، أبو داود في (سننه) 2، والبخاري في (الأدب المفرد) 3، والبيهقي في (سننه) 4 من طريق: حَمَّاد بن سلمة،   1 زاد المعاد: (2/432) . (5/376) ح 5189. (ص 157) . (8/340) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 عن هشام بن حسان1 وحبيب بن الشَّهيد. وأخرجه: ابن حبان في (صحيحه) 2، والبيهقي في (سننه) 3 من طريق: حماد بن سلمة أيضاً، لكن عن: أيوب وحبيب بن الشَّهيد. ثلاثتهم عن: محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. قلت: هكذا إسنادُ الحديث بهذا اللفظ عند الأئمة المذكورين، خلافاً لما يظهر من كلام ابن القَيِّم السالف؛ حيث جعل هذا اللفظ من رواية: قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة! وسيأتي أن هذا الإسناد الذي ساقه ابن القَيِّم إنما هو إسناد الحديث الثاني الآتي بعد هذا إن شاء الله. وهذا الإسنادُ صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ؛ فقد رواه عن ابن سيرين جماعة كما تقدم، وفيهم هشام بن حَسَّان الذي هو من أثبتِ الناسِ في ابن سيرين. وأما الحديث الثاني، فهو: 108- (6) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دُعِيَ أَحَدُكُم إلى طَعَامٍ، فجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فإِنِّ ذَلِك له إذْنٌ ".   1 الأزدي، القردوسي، أبو عبد الله البصري، ثقةٌ، من أثبت النَّاس في ابن سيرين، من السادسة، مات سنة 147 أو 148هـ / ع. (التقريب 572) . 2 الإحسان: (7/526) ح 5781. (8/340) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 هذا الحديث أخرجه، أبو داود في (سننه) 1، والبخاري في (الأدب المفرد) 2، والبيهقي في (سننه) 3. وعلقه البخاري في (صحيحه) 4 - كما مضى في كلام ابن القَيِّم - كلهم من طريق: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي رافع5، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. واللفظُ المذكور هو لفظ أبي داود، ومثله لفظ البخاريّ والبيهقي، ولكن ليس عندهما قوله: "إلى طعام ". ووقع في (سنن أبي داود) عقب الحديث: قال أبو علي اللؤلؤي: "سمعت أبا داود يقول: قتادة لم يسمع من أبي رافع شيئاً". وقد وقعت كلمة "شيئاً" في السنن بين قوسين، وَنَبَّه الحافظ ابن حجر على أن هذه اللفظة في رواية أبي الحسن بن العبد6. كذا أَعَلَّهُ أبو داود - رحمه الله - بالانقطاع، ووافقه على ذلك المنذري في (مختصر السنن) 7، وَأَيَّدَه بإخراج البخاري له معلقاً، وكأنَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - نقل كلام المنذري بعينه.   (5/376) ح 5190. ك الأدب، باب في الرجل يُدعى، أيكون ذلكَ إذنه؟ (ص 157) باب دعاء الرجل إذنه. (8/340) . 4 ك الاستئذان، باب إذا دُعِيَ الرجلُ فجاء هل يستأذنُ (فتح الباري 11/31) . 5 هو: نُفَيْع الصائغ، المدني، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ، مشهور بكنيته، من الثانية/ ع. (التقريب 565) . 6 فتح الباري: (11/31) . (8/64) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 أما عدمُ سماع قتادة من أبي رافع، فقد قاله أيضاً: شعبة1، وابن معين2. ولكن رَدَّ ذلك الحافظ الذهبي، ومن بَعْدِه الحافظ ابنُ حجر رحمهما الله تعالى، قال الذهبي - مُعَقَّبَاً على مقالة أبي داود -: "قلتُ: بل سمع منه؛ ففي صحيح البخاريَّ حديث سليمان التيمي، عن قتادة، سمعت أبا رافع، عن أبي هريرة حديث: إنَّ رحمتي غلبت غضبي"3. وكذا قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) 4، وأما في (تهذيب التهذيب) 5 فإنه أوردَ مقالةَ أبي داود ثم قال: "كأنه يعني حديثاً مخصوصاً، وإلا ففي صحيح البخاريِّ تصريحٌ بالسماع منه". وعلى القول بثبوت سماع قتادة من أبي رافع في هذا الحديث، فإن هذا الإسنادَ يبقى معلولاً بعنعنة قتادة؛ فإنه مدلس6، ولم يُصَرِّح بسماعه في هذا الحديث، قال الذهبي رحمه الله: "وهو حجة بالإجماع إذا بَيَّنَ السَّماع؛ فإنه مدلسٌ معروفٌ بذلك ... "7.   1 علل ابن أبي حاتم: (ص 170) ، وجامع التحصيل: (ص 312) . 2 جامع التحصيل: (ص 312 - 313) . 3 سير النبلاء: (5/283) . (11/31 - 32) . (8/354) . 6 انظر طبقات المدلسين: (ص 102) . 7 سير أعلام النبلاء: (5/271) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 ولكن يشهد له حديث أبي هريرة الماضي، الذي ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - مع حديث قتادة. فَتَلَخَّصَ من هذا: أن المذكور في كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثان، لكل منهما إسناد غير إسناد الحديث الآخر، وإن اتفقا في الصحابي، وأن التعليل الذي ذكره - رحمه الله - ينصرف إلى الثاني منهما كما يتضح من الدراسة السابقة، لكن الحديث الأول يشهد له ويقويه، فيصح الحديث بذلك، والله أعلم. قال البيهقي رحمه الله عقب هذين الحديثين: "وهذا عندي - والله أعلم - فيما إذا لم يكن في الدار حُرْمَة، فإن كان فيها حُرْمَةٌ، فلا بد من الاستئذان بعد نزول آية الحجاب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 5 - باب ما جاء في التنفير من الكذب 109- (7) عن عائشة رضي الله عنها: "ما كان شيءٌ أَبْغَضَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من الكَذِبِ، وما جَرَّبَ على أَحَدٍ كَذِبَاً فَرَجَعَ إِليه مَا كَانَ حَتَّى يَعْرِفَ منه تَوْبَةً ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "حديثٌ حسنٌ، رواه الحاكم في المستدرك من طريق: ابن وهب، عن محمد بن مُسْلم، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عائشة رضي الله عنها"1. قلت: هذا الحديث يرويه: معمر، عن أيوب2، عن ابن أبي مُلَيْكَة3 أو غيره، عن عائشة رضي الله عنها. أخرجه كذلك: عبد الرزاق في (مصنفه) 4: أخبرنا معمر به، ولفظه: "ما كان خُلُقٌ أبغضَ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذبِ، ولقد كانَ الرَّجُلُ يكذب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكِذْبَة فما يزال في نَفسِهِ عليه، حتى يعلَم أنْ قد أحْدَثَ منها توبة ".   1 إعلام الموقعين: (1/119 - 120) . 2 هو السختياني. 3 عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جدعان، التيمي، المدني، أدرك ثلاثين من الصحابة، ثقةٌ فقيهٌ، من الثالثة، مات سنة 117هـ/ ع. (التقريب 312) . (11/158) ح 20195. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 ورواه عن عبد الرزاق: أحمد وابن راهويه في (مسنديهما) 1، وبلفظه، لكن قال فيه ابن راهويه: "ما كان خُلُقٌ أبغضَ إلى رسول الله ... " وكذا هو عند ابن حبان في (صحيحه) 2 من طريق عبد الرزاق. وتابع معمراً: محمدُ بن مسلم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها. أخرج ذلك البيهقي في (سننه) 3 من رواية: مروان بن محمد4، محمد بن مسلم5، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة به، ولفظه هو الذي ذكرناه أول الباب. وخالف ابنُ وهب مروانَ بن محمد، فرواه عن: محمد بن مسلم، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عائشة به. أخرج ذلك الحاكمُ في (المستدرك) 6، ولفظه: "ما كان شيء أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، وما جَرَّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد - وإنْ قَلَّ - فيخرج له من نفسه حتى يجدد له توبة" قال أبو عبد الله: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبيُّ.   1 حم: (6/152) ، سق: (3/654) ح 702. 2 الإحسان: (7/495) ح 5706. (10/196) . 4 ابن حسان الأسدي، الدِّمشقي، الطَاطَري، ثِقَةٌ، من التاسعة، مات سنة210هـ/ م 4. (التقريب 526) . 5 الطائفي، صدوقٌ يخطئ من حفظه، من الثامنة، مات قبل التسعين/ خت م 4. (4/98) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 ولكن سُئل أبو حاتم - رحمه الله - عن حديث مروان بن محمد هذا؟ فقال: "ما أدري ما هذا؟ إِنَّمَا يُرْوَى هذا الحديثُ عن أيوب، عن إبراهيم بن ميسرة1، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلٌ. ومن يقول: عن ابن أبي مليكة، ليس بِمُصِيبٍ عندي". ثم حَدَّثَ في موضع آخر من (العلل) 2 بحديث ابن وهب، عن محمد بن مسلم - الذي سبق قبل قليل عند الحاكم - ثم قال: "إِنمَّا هو عن إبراهيم بن ميسرة، عن عائشة مرسلٌ". وقد ذهب الحافظ الدارقطني - رحمه الله - إلى ذلك أيضاً، فذكر في (علله) 3 أوجه الاختلاف على أيوب، ثم ذكر أنَّ حماد بن زيد، وحاتم ابن وردان، ووهيب رووه عن أيوب، عن إبراهيم بن ميسرة مرسلاً، قال: "وهو الصواب". والمراد بذلك: انقطاعه بين إبراهيم بن ميسرة وعائشة رضي الله عنها؛ فإنه لم يُعرف برواية عنها ولا أدركها، وإنما يَرْوي عن: سعيد بن جبير، وابن المسيب، وطاووس، ومجاهد وطبقتهم4. فإذا ثبت أن الصواب في هذا الحديث: ما ذكره ابن أبي حاتم،   1 الطائفي: نزيل مكة، ثَبْتٌ حافظٌ، من الخامسة، مات سنة 132هـ / ع. (التقريب94) . 2 العلل: (2/236) ح 2198. 3 ج5 (ق 87) . 4 انظر: تهذيب الكمال: (2/221 - 222) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 والدارقطني، وأنه ليس لابن أبي مليكة ذكر فيه، فإنه يكون معلولاً بالانقطاع، مع ما تقدم من الاختلاف على أيوب في إسناده، وما جاء عند عبد الرزاق من الشك في إسناده، وقوله: عن ابن أبي مليكة أو غيره. وهذا الغير مجهول لا يُعرف، وهو يؤكد ما ذهب إليه ابن أبي حاتم وغيره من عدم صحة ذكر ابن أبي مليكة في إسناده. وكذا الاختلاف في لفظه: فعند عبد الرزاق "ما كان خلقٌ أبغض إلى أصحاب رسول الله ... ". وعند غيره: " ... أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ". فإذا عُلِمَ ذلك، فإنَّ تحسينَ ابن القَيِّم - رحمه الله - له: لا يصحُّ، لما تقدم من حاله، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 6 - باب ما جاء في ذَم الغناء 110- (8) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: "الغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ في القَلْبِ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (إغاثة اللهفان) 1، فقال: "وقال شعبة: حدثنا الحكم، عن حماد، عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود ... " فذكره. ثم قال: "وهو صحيحٌ عن ابن مسعود من قوله. وقد رُوِيَ عن ابن مسعود مرفوعاً، رواه ابن أبي الدنيا في ذَمِّ الملاهي قال: أخبرنا عصمة بن الفضل، حدثنا حرمي بن عمارة، حدثنا سلاّم بن مسكين، حدثنا شيخٌ عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "الغناءُ ينبت النفاقَ في القلب كما ينبت الماءُ البقل" ". قال: "وقد تابع حَرَمِيَّ بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن: مسلمُ بن إبراهيم" ثم ساقه من طريقه عند ابن الْمُنَادى في أحكام الملاهي، ثم قال: "فمداره على هذا الشيخ المجهول. وفي رَفْعِهِ نظرٌ، والموقوف أصح".   (1/248) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وقال في كتابه (الكلام على مسألة السماع) 1: "صحَّ ذلك عنه - أي ابن مسعود - ومن الناس من يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه موقوف". قلت: أما الموقوف على ابن مسعود، فقد أخرجه البيهقي في (سننه) 2 عن ابن أبي الدنيا، وذلك من طريقين: الطريق الأول: - وهو الذي ساقه ابن القَيِّم - عن غندر3، عن شعبة، عن الحكم4، عن إبراهيم5، عن ابن مسعود6. وهذا الإسناد صحيحٌ، إلا أنه منقطع بين إبراهيم وابن مسعود؛ لأنه لم يلقه على قول أكثر أهل العلم7، ولكن احتملَ بعض الأئمة مراسيله وقَدَّمَها على مراسيل غيره، قال يحيى بن معين: "مراسيل إبراهيم أحبُّ إليَّ من مراسيل الشَّعْبِيِّ"8. ونقل العلائي عن الإمام أحمد بن حنبل   (ص 473) . (10/223) . 3 هو: محمد بن جعفر الهُذَلي، ثقةٌ صحيح الكتاب إلا أنَّ فيه غفلةً/ ع. (التقريب 472) . 4 هو: ابن عتيبة، الكوفي. 5 هو: النخعي. 6 وانظر: ذم الملاهي: (ص 38) ح 13. 7 انظر: المراسيل لابن أبي حاتم: (ص 8-10) ، وجامع التحصيل: (ص 168) . 8 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/18) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 أنه قال: "مرسلاتُ إبراهيم النخعي لا بأس بها"1. ثم قال: "وخَصَّ البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود دون غيره"2. وعلى كلِّ حالٍ فإن إبراهيم لم ينفرد برواية ذلك عن ابن مسعود، وإنما تابعه عليه محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، وهو: الطريق الثاني: أخرجه البيهقي - أيضاً - في (سننه) 3 من طريق ابن أبي الدنيا، عن: علي بن الجعد4، عن محمد بن طلحة5، عن سعيد ابن كعب المرادي، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد6، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: "الغناءُ ينبتُ النفاق في القلبِ كما ينبتُ الماءُ الزرعَ، والذِّكْرُ ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع" 7. وهذا الإسناد رجاله ثقاتٌ، إلا سعيد بن كعب؛ فإنه - فيما فتشت - لم يرو عنه غير محمد بن طلحة، وذكره ابن أبي حاتم في (الجرح   1 جامع التحصيل: (ص 99) . 2 المصدر السابق، وانظر (ص 168) . (10/223) . 4 ابن عبيد الجوهري، البغدادي، ثقةٌ ثبتٌ رُمِي بالإرجاء، من صغار التاسعة، مات سنة 230هـ / خ د. (التقريب 398) . 5 ابن مُصَرِّف اليامي، كوفيٌّ، صدوقٌ له أوهام، وأنكروا سماعه من أبيه لصغره، من السابعة، مات سنة 167هـ/ خ م د ت عس ق (التقريب 485) . 6 ابن قيس النَّخَعي، أبو جعفر الكوفي، ثقةٌ، من السادسة/ بخ 4. (التقريب 493) . 7 وانظر: ذَمّ الملاهي: (ص 38) ح 12. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 والتعديل) 1 فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في (الثقات) 2، ساكتاً عنه أيضاً، فالظاهر - والله أعلم - أنه إلى الجهالة أقرب. ولكن إذا ضُمَّ هذا الطريقٌ إلى طريق الحكم عن إبراهيم الماضي، تَقَوَّى كلّ منهما بالآخر، وقد تقدم أن ابن القَيِّم صَحَّحَ الموقوفَ، ونقل ابن حجر الهيثمي عن البيهقي قوله: "إن وقفه عليه هو الصحيح"3. هذا فيما يتعلق بالرواية الموقوفة، وأما الرواية المرفوعة: فأخرجها أبو داود في (سننه) 4، وابن المنادى في (أحكام الملاهي) 5 من طريق: مسلم بن إبراهيم6، حدثنا سلاّم بن مسكين، عن شيخ شَهِدَ أبا وائل7 في وليمةٍ، فجعلوا يلعبون، يَتَلَعَّبُون، يُغَنُّونَ، فحلَّ أبو وائل   (2/1/57) . (8/262) . 3 كَفُّ الرِّعَاعِ: (ص 65) . (5/223) ح 4927 ك الأدب، باب كراهية الغناء والزمر. 5 انظر: إغاثة اللهفان: (1/248) . 6 الأزدي الفراهيدي، أبو عمرو البصري، ثقةٌ مأمونٌ مُكْثِرٌ، عَمِيَ بآخرة، من صغار التاسعة، مات سنة 222هـ/ ع. (التقريب 529) . 7 هو: شقيق بن سلمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 حُبْوَتَه1، وقال: سمعت عبد الله - يعني ابن مسعود - يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الغناء ينبت النفاق في القلب". هذا سياق أبي داود. وتابع مسلمَ بن إبراهيم على هذه الرواية: حَرَمِيُّ بن عمارة2، قال: حدثنا سلاّم بن مسكين به3، أخرجه عنه: ابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) - ومن طريقه البيهقي في (سننه) 4 - ولفظه: "الغِنَاءُ ينبت النِّفَاقُ في القلب، كما ينبت الماء البقل ". وهذا الإسناد رجاله رجال الصحيح، إلا أنَّ عِلَّتَهُ هذا الشيخ المجهول، فإنَّ مداره عليه، ولذلك ضَعَّفَهُ جماعةٌ، فقال الغزالي في (الإحياء) 5: " ... ورفعه بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غير صحيح". قال العراقيُّ في تخريجه لأحاديث الإحياء - عقب كلام الغزالي -: "لأنَّ في إسناده من لم يُسَمِّ"6. وَضَعَّفَهُ ابن القَطَّان7. وقال النوويُّ: "لا يصحُّ". 1 قال أبو موسى في المجموع المغيث: (1/396) : "الاحتباءُ: جلسة الأعراب ... وهو ضَمُّ الساقين إلى البطن بثوبٍ يلفونه عليهما". وقال في (لسان العرب) : (ص765) : "الحِْبْوَة والحُبْوة: الثوب الذي يَحْتَبِي به". 2 ابن أبي حفصة، العَتَكِي، البصري، أبو روح، صدوقٌ يَهِمْ، من التاسعة، مات سنة   201هـ / خ م د س ق. (التقريب 156) . 3 وسبق تنبيه ابن القَيِّم على هذه المتابعة. (10/223) . (2/283) . 6 المصدر السابق. 7 فيض القدير: (4/413) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 ووافقه الزركشي1. ورمز له السيوطي بالضعف في (الجامع الصغير) 2. وَضَعَّفَهُ الشيخ الألباني3. وقد سبق قولُ ابن القَيِّم رحمه الله: "في رَفْعِه نَظرٌ". فتلخص من ذلك: أنَّ هذا الحديث لا يصحُّ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الصواب وَقْفُهُ على ابن مسعود رضي الله عنه، وهذا ما قَرَّرَهُ ابن القَيِّم رحمه الله. قال ابن حجر الهيتمي: "ومثله لا يقال من قِبَلِ الرأي؛ لأنه إخبارٌ عن أمرٍ غيبي، فإذا صحَّ عن الصحابة فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو مقررٌ عند أئمة الحديث والأصول4 ... وحينئذٍ فالحجة فيه دون سواه"5.   1 فيض القدير: (4/413) . 2 انظر: فيض القدير مع الجامع الصغير: (4/413) ح 5809. 3 ضعيف الجامع: (ح3941) . 4 انظر: حول ذلك: تدريب الراوي: (1/190) . 5 كفُّ الرِّعاع: (ص 65 - 66) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 7 - باب في الأمر بتحسين الأسماء 111- (9) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي، أنه قال: "إِنَّكُم تُدْعَونَ يَومَ القِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُم وأَسْمَاءِ آبَائِكُم، فَأَحْسِنُوا أَسَمَاءَكُم". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "رواه أبو داود بإسناد حسن"1. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2. وأحمد في (مسنده) 3، وابن حبان في (صحيحه) 4، والبيهقي في (سننه) 5، كلهم من طريق: هشيم، عن داود بن عمرو6، عن عبد الله بن أبي زكريا7، عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم به. وهذا الإسناد لا يقلُّ عن درجة الحَسَنِ إذا سَلِمَ من الانقطاع. قال عنه النووي: "إسناد جيدٌ"8. ولكنه إسناد منقطع كما بيَّنه غيرُ واحدٍ:   1 تحفة المودود: (ص 111) . (5/236) ح 4948 ك الأدب، باب في تغيير الأسماء. (5/194) . 4 الإحسان: (7/528) ح 5788. (9/306) . 6 الأزدي، الدمشقي، عاملُ واسط، صدوقٌ يخطئ، من السابعة/د. (التقريب199) . 7 الخُزاعي، أبو يحيى الشَّامي، واسم أبيه: إياس، وقيل: زيد، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ، من الرابعة، مات سنة 119هـ/د. (التقريب303) . 8 الأذكار: (ص246) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 قال أبو داود عقب إخراجه: "ابن أبي زكريا لم يدرك أبا الدرداء". وقال البيهقي: "هذا مرسلٌ، ابن أبي زكريا لم يسمع من أبي الدرداء"1. وقال المنذري: "عبد الله بن أبي زكريا: كنيته أبو يحيى ... ثقةٌ عابدٌ، لم يسمع من أبي الدرداء، فالحديث منقطع"2. وقال ابن حجر: "رجاله ثقات، إلا أنَّ في سنده انقطاعاً بين عبد الله بن أبي زكريا - راويه عن أبي الدرداء - وأبي الدرداء؛ فإنه لم يدركه"3. وقد رمز له السيوطي في (الجامع الصغير) 4 بالحُسْنِ، فلم يصب، وقد أورده الشيخ الألباني في (ضعيف الجامع) 5 وقال: "ضعيف". فَتَبَيَّنَ من ذلك أنَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - لا يُوافَقُ على الحكم بحُسْنِ هذا الإسناد؛ لما فيه من الانقطاع. ولكن يشهد لمعنى هذا الحديث: ما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم من تغييره بعض الأسماء إلى أسماء حسنة، وأيضاً: ما صحَّ من أن الناس يُنْسَبُونَ يوم القيامة إلى آبائهم. وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذا المعنى، فقال - عند كلامه على حديث أبي الدرداء الذي معنا -: "وفي هذا الحديث رَدٌّ على   1 سنن البيهقي: (9/306) . 2 مختصر السنن: (7/251) . 3 فتح الباري: (10/577) . وانظر: المراسيل لابن أبي حاتم: (ص113) . 4 مع فيض القدير: (2/553) ح2533. (ح2035) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 من قال: إن الناس يوم القيامة إنما يُدْعَوْنَ بأمهاتهم لا آبائهم، وقد تَرْجَمَ البخاري في صحيحه لذلك، فقال: باب يُدْعَى الناس بآبائهم، وذكر فيه حديث نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغَادِرُ يُرْفَعُ له لواءٌ يومَ القيامة، يقال له: هذه غدرة فلان بن فلان" 1. قال ابن حجر - رحمه الله - في كلامه على هذا الحديث: "فَتَضَمَّنَ الحديث: أنه ينسب إلى أبيه في الموقف الأعظم"2. وأما الأحاديث التي فيها الأمر بتغيير الأسماء إلى أحسن منها: فقد أخرج البخاري - أيضاً - منها جملة3. فثبتَ بذلك: أن حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وإن كان منقطعاً، فإن معناه قد صحَّ من جهات أخرى، وأن إطلاق ابن القَيِّم - رحمه الله - الحكم بحسنِ إسناده فيه نظر، والله أعلم.   1 تهذيب السنن: (7/250) . وانظر: صحيح البخاري: ك الأدب، باب ما يُدْعى الناس بآبائهم ح6177، 6178. (فتح الباري10/563) . 2 فتح الباري: (10/563) . 3 صحيح البخاري: ك الأدب، باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه، ح6191 - 6193. (فتح الباري 10/575) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 8 - باب ما جاء في الديك 112- (10) عن زيد بن خالد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَسُبُّوا الديك؛ فَإِنَّه يُوقِظُ للصَّلاةِ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ... "1 فذكره. قلت: هذا الحديث يرويه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: عبد العزيز ابن محمد. وأحمد، والطيالسي في (مسنديهما) 3، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5 من طريق: عبد العزيز6 بن أبي سلمة. وعبد الرزاق في (المصنف) 7 من طريق: معمر، كُلُّهم عن: صالح بن كيسان8، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن زيد بن خالد الجُهَني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَسُبُّوا الديك؛ فَإِنَّه يُوقِظُ للصَّلاةِ".   1 زاد المعاد: (2/471) . (5/331) ح 5101، ك الأدب ، باب ما جاء في الديك والبهائم. 3 حم: (5/192-193) ، طس: (ح957) . (ص525) ح945. 5 الإحسان: (7/493) ح5701. 6 ابن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، المدني، نزيل بغداد، ثقةٌ فقيهٌ مصنِّفٌ، من السابعة، مات سنة 164هـ/ ع. (التقريب 357) . (11/262) ح20498. 8 المدنيُّ، أبو محمد أو أبو الحارث، مُؤَدِّب ولدِ عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبتٌ فقيهٌ، من الرابعة، مات بعد سنة ثلاثين، أو بعد الأربعين /ع. (التقريب 273) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 هذا لفظ أبي داود، ولفظ الطيالسي، وابن حبان، وأحدُ لفظي أحمد: " ... فإنه يدعو إلى الصلاة ". ولفظ النسائي واللفظ الآخر لأحمد: "فإنه يُؤَذِّنُ بالصلاة ". وعند عبد الرزاق ذكر سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولفظه: "لَعَنَ رَجُلٌ دِيكاً صَاحَ عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا تلعنه؛ فإنَّه يدعو للصلاة ". وقد رُوي عن صالح بن كيسان على أوجه أخر؛ فأخرجه الطيالسي في (مسنده) 1، فقال: " ... عن عبد العزيز الماجشون، عن صالح، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه". قال راوي المسند: "وهذا أثبت عندي". لكن سأل ابن أبي حاتم أباه عنه؟ فقال: "ليس لابن أبي قتادة عن أبيه هاهنا معنى، وحديث صالح، عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد ابن خالد: صحيحٌ"2. وأخرجه البزار في (مسنده) 3 من طريق: مسلم بن خالد، عن صالح بن كيسان، عن عون بن عبد الله، عن أبيه، عن ابن مسعود به. قال البزار: "أخطأَ فيه مسلم بن خالد، والصواب: عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله، عن زيد بن خالد". وكذا قال أبو حاتم الرازي لما سُئل عنه4.   (ح957) . 2 علل ابن أبي حاتم: (2/345) ح2559. 3 كشف الأستار: (2/433) ح2040. 4 علل ابن أبي حاتم: (2/277) ح2332. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 قلت: فعادَ الحديث إلى زيدِ بن خالد، وقد ثبَتَ صحته عنه رضي الله عنه، فقد تَقَدَّم تصحيح أبي حاتم - رحمه الله - له، ونقلَ الحافظ ابن حجر تصحيح ابن حبان له وأقَرَّهُ1، وقال الإمام النووي رحمه الله: "إسنادٌ صحيحُ"2. ورمز له السيوطي بالصحَّة في (الجامع الصغير) 3. ونقل المناوي كلام النووي في تصحيح إسناده، ثم قال: "وقال غيره: رجاله ثقات"4. وصححه الشيخ الألباني5. فإذا تَقَرَّرَ ذلك، وأنَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - قد وافَقَهُ على تصحيحه جماعة من العلماء، فإن قوله - رحمه الله - في (المنار المنيف) 6: "وبالجملة: فكل أحاديث الدِّيك كذبٌ، إلا حديثاً واحداً: "إذا سَمِعْتُمْ صياح الدِّيَكَة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت مَلَكَاً " فيه نظرٌ؛ فإنَّ تصحيحه هذا الحديث هنا يُسْتدركُ به على إطلاقه هذا الحكم في المنار، فلعله - رحمه الله - غفل عن ذلك هناك. والله أعلم.   1 فتح الباري: (6/353) . 2 رياض الصالحين: (ص655) ح1728. 3 مع فيض القدير: (6/399) ح9786. 4 المصدر السابق. 5 صحيح الجامع: (ح7314) ، والتعليق على المشكاة: (ح4136) . (ص56) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 17- من كتاب الفرائض 1- باب ما جاء في ميراث ذوي الأرحام 113- (1) عن المقدام بن معدي كَرِب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ كَلاًّ1 فإليَّ - وَرُبَّما قال: إلى الله وإلى رسوله - وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَأَنَا وَارِثُ مَن لا وَارِثَ لَه: أَعْقِلُ له2، وأَرِثُهُ، والخالُ وارثُ من لا وَارِثَ له: يَعْقِلُ عنه، وَيَرِثُهُ ". قال المنذري - رحمه الله - عَقِبَ هذا الحديث: "واخْتُلِفَ في هذا الحديث، فروي عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهوزني، عن المقدام. وروي عن راشد بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، مُرْسَلاً". قال: "وقال أبو بكر البيهقي في هذا الحديث: كان يحيى بن معين يُضَعِّفُهُ، ويقول: ليس فيه حديث قويٌّ"3. وقد تعقب ابن القَيِّم رحمه الله المنذري، فقال: "فهذا ما رُدَّ به حديث الخالِ، وهي بأَسْرِهَا وجوهٌ ضعيفةٌ". قال: "أما قولهم: إن أَحَادِيثَهُ ضَعيفةٌ. فكلام فيه إجمالٌ، فإن أُرِيَد بها: أنها ليست في درجة الصحاح التي لا عِلَّة فيها: فصحيح، ولكن هذا لا يَمْنَعُ الاحتجاجَ بها، ولا يوجب انحطاطها عن درجة   1 الكَلُّ: الثِّقَلُ، والعِيَالُ، وهو أيضاً: اليتيم. المصباح المنير: (2/538) . 2 العَقْلُ: الدِّيَة، وعَقَلْتُ له دَمَ فلان: إذا تركتُ القَوَدَ للدِيَة. المصباح المنير: (2/423) . 3 مختصر السنن: (4/170) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 الحسن، بل هذه الأحاديث وأمثالها هي الأحاديث الحسان، فإنها قد تعددت طرقها، ورويت من وجوه مختلفة، وعرفت مخارجها، ورواتُها ليسوا بمجروحين ولا مُتَّهَمِين ... "1. ثمَّ ذكر - رحمه الله - أنه يُروى كذلك من حديث: عمر بن الخطاب، وعائشة رضي الله عنهما، ثم أخذ في بيان ما أُعِلَّت به، والجواب عن ذلك. قلت: حديث المقدام هذا مداره على راشد بن سعد2، وَرُوِيَ عنه على أربعةِ أوجه: أولها: ما أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 3، وأحمد في (مسنده) 4، وسعيد بن منصور في (سننه) 5، وابن حِبَّان في (صحيحه) 6، والطبراني في (الكبير) 7، والبيهقي في (سننه) 8، كلهم من طريق: شعبة.   1 تهذيب السنن: (4/170 - 171) . 2 الْمَقْرَئي، الحمصي، ثقةٌ كثير الإرسالِ، من الثالثة، مات سنة 108هـ، وقيل 113هـ/ بخ 4. (التقريب 204) . 3 د: (3/320) ح2899 ك الفرائض، باب في ميراث ذوي الأرحام. س: الكبرى (6/116) ح6322. جه: (2/914) ح 2738 ك الفرائض، باب ذوي الأرحام. (4/131، 133) . (3/1/72) ح 172. 6 الإحسان: (7/611) ح 6003. (20/264) ح 625. (6/214) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وأخرجه: أبو داود، والنسائي في (سننيهما) 1، وأحمد في (مسنده) 2، وابن الجارود في (المنتقى) 3، والطبراني في (الكبير) 4، والدارقطني في (سننه) 5، والحاكم في (المستدرك) 6، والبيهقي في (سننه) 7 - من طريق أبي داود - كلهم من طريق: حماد بن زيد. كلاهما - حماد وشعبة - عن: بُدَيْل بن ميسرة، عن عليِّ بن أبي طلحة8، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهَوْزَنيِّ9، عن المقدام رضي الله عنه به. واللفظ المذكور في مطلع البحث هو لفظ رواية شعبة، والسياق لأبي داود من بينهم، وأما لفظ رواية حماد بن زيد فهكذا: +   1 د: (3/320) ح 2900. س: الكبرى (6/116) ح 6321. (4/133) . (ح 965) . (20/265) ح 626. (4/85) ح 57، 58. (4/344) . (6/214) . 8 واسم أبي طلحة: سالم. مولى بني العباس، سكن حمص، أَرْسَلَ عن ابن عباس ولم يره، من السادسة، صدوقٌ قد يُخْطئ، مات سنة 143هـ / م د س ق. (التقريب402) . 9 هو: عبد الله بن لُحَيّ، الحِمْصي، ثقةٌ مخضرم، من الثانية/ د س ق. (التقريب319) . 10 فَسَّر أبو داود الضيعة عقب الحديث بِأَنَّهَا: العِيَال. قال المنذري في (مختصره 4/170) : "وقال غيره: ضيعة أي عيالاً ذوي ضيعةً، أي تُركوا فَضُيِّعوا، وهو مصدر، يقال: ضَاعَ عيالُ الرجلِ، ضيعةً، وضياعاً بالفتح ... ". وانظر النهاية: (3/107) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 وأنا مولى من لا مولى له: أرث ماله، وأفكُّ عَانَه1، والخال مولى من لا مولى له: يرث ماله، ويفك عانه". سياق أبي داود، والباقون بنحوه. وعند الدارقطني: "ضياعاً"، وعنده: "عانيه". والحديث بهذا الإسناد حَسَّنَهُ أبو زرعة2، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" لكن تعقبه الذهبي، فقال: "عليٌّ: قال أحمد: له أشياء منكرات. قلت: لم يخرج له البخاريُّ"3. قلت: وعليُّ بنُ أبي طلحة قال فيه أبو داود: "هو إن شاء الله مستقيم الحديث"4. وقال النسائي: "ليس به بأس"5 وَوَثَّقَهُ العجليُّ6. وذكره ابن حبان في (الثقات) 7. وقال ابن القطان: "ثقة"8. فالرجل على هذا صالحُ الأمر، مستقيم الحال، ووجود بعض المنكرات في حديثه لا يخرجُهُ عن حَدِّ الاحتجاج به، ولا يَنْزِلُ بحديثه عن درجة الحسن،   1 قال الخطابي: "يريد: عانيه، فحذف الياء، والعاني: الأسير". (معالم السنن 4/107) . 2 علل ابن أبي حاتم: (2/50) ح 1636. 3 تلخيص المستدرك: (4/344) . 4 تهذيب التهذيب: (7/339 - 340) . 5 المصدر السابق. 6 المصدر السابق: (7/341) . (7/211) . 8 بيان الوهم والإيهام: (3/541) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 ولا سيما إذا تُوبع على روايته - كما في هذا الحديث -،فالحكمُ ما حَكَمَ أبو زرعة - رحمه الله - من تحسين الحديث بهذا الإسناد. الوجه الثاني من وجوه روايته عن راشد بن سعد: ما أخرجه النسائي في (الكبرى) 1،وأحمد في (مسنده) 2، والطبراني في (الكبير) 3- وأشار إليه أبو داود4 - من طريق: معاوية بن صالح5، عن راشد بن سعد، عن المقدام بن معدي كرب بنحو ما تَقَدَّمَ، إلا أن الطبراني ليس عنده ذكر الخال. هكذا رواه معاوية بن صالح، فأسقط منه أبا عامر الهوزني، وجعله عن: راشد، عن المقدام. وقد حكم الدارقطنيُّ - رحمه الله - للرواية المتَّصِلَة، فنقل عنه صاحب (الجوهر النقي) 6 أنه ذَكَرَ: أن شعبة وحماداً وإبراهيم بن طهمان رووه عن بديل، عن عليِّ بن أبي طلحة، عن راشد، عن أبي عامر، عن   (6/115) ح 6320. (4/133) . (20/266) ح 628. 4 السنن: (3/321) . 5 ابن حُدَير، الحَضْرَمي، أبو عمر أو أبو عبد الرحمن، الحِمْصي، قاضي الأندلس، صدوقٌ له أوهامٌ، من السابعة، مات سنة 158هـ / ر م 4. (التقريب 538) . (6/214) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 المقدام. وأن معاوية بن صالح خالفهم، فلم يذكر أبا عامر بين راشد والمقدام، ثم قال الدارقطني: "والأول أشبهُ بالصواب". وَأَيَّدَ ابن القطَّان كلام الدارقطني هذا، فقال: "وهو على ما قال؛ فإنَّ عليَّ بنَ أبي طلحة ثقة، وقد زاد في الإسناد من يتصلُّ به، فلا يضره إرسالُ من قَطَعَهُ ولو كان ثقةً، فكيف إذا كان فيه مقالٌ؟ فنَرَى هذا الحديث حديثاً صحيحاً"1. الوجه الثالث: ما أخرجه ابن حبان في (صحيحه) 2، والطبراني في (الكبير) 3 - وأشار إليه أبو داود أيضاً - من طريق: عبد الله بن سالم4، عن الزُّبَيْدِي5، عن راشد بن سعد، عن ابن عائذ6 عن المقدام به، بنحو ما تقدم في حديث حماد بن زيد.   1 بيان الوهم والإيهام: (3/541) ح 1319. 2 الإحسان: (7/611) ح 6004. (20/265) ح 627. 4 الأشعري، أبو يوسف الحمصي، ثقةٌ رُمِيَ بالنَّصْبِ، من السابعة، مات سنة 179هـ / خ د س. (التقريب 304) . 5 هو: محمد بن الوليد بن عامر الزُّبَيْدي، أبو الوليد الحمصي، القاضي، ثقة ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهري، من السابعة/خ م د س ق. (التقريب ص 511) . 6 سمَّاه ابنُ حبان - عقب إخراج روايته -: عبد الله بن عائذ، وبهذا الاسم ترجمة ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل 2/2/122) فقال: "عبد الله بن عائذ الثمالي، أبو الحجاج، له صحبة ... ". وذكره في (2/2/102) باسم: عبد بن عبد الثمالي، وقال: "روى عن النبي صلى الله عليه وسلم". وَجَزَم ابنُ حجر في (الإصابة 2/339) بأنهما واحد، يُقال له هذا وهذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 وقد اعتبر ابنُ حبان - رحمه الله - هذه الرواية محفوظة أيضاً؛ فإنه لما أخرجَ رواية علي بن أبي طلحة المتقدمة، أعقبها رواية الزبيدي هذه، ثم قال: "سمع هذا الخبر راشدُ بن سعد: عن أبي عامر الهوزني، عن المقدام. وسمعه: عن عبد الله بن عائذ الأزدي، عن المقدام بن معدي كرب، فالطريقان جميعاً محفوظان، ومتناهما متباينان". قلت: وأما قوله: "متناهما متباينان" لأنه أخرج رواية أبي عامر الهوزني من طريق شعبة، وقد تقدم لفظها، لكن قد رويت من طريق حماد بن زيد بنحو رواية ابن عائذ هذه، فلا اختلاف إذن. وعلى ما قاله ابن حبان، تكون هذه رواية أخرى لراشد بن سعد، تابع فيها ابن عائذ أبا عامر الهوزني المتقدمة روايته، وحينئذٍ لا يكون هذا من الاختلاف بين الروايات. الوجه الرابع: ما أخرجه النسائي في (الكبرى) 1 من طريق: ثور ابن يزيد، عن راشد بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلاً. وقد سبق في كلام المنذريِّ الإشارة إلى هذا المرسل، وأَنَّه جَعَلَ ذلك من الاختلاف على راشد. وهذا المُرْسل لا تُعَلُّ به الروايات المتصلة، فراشد بن سعد كان معروفاً - مع ثقته - بكثرة الإرسال، ولا مانع أن يكون رواه مرة مرسلاً، مع روايته إياه متصلاً من أكثر من وجه، كما تقدم.   (6/116) ح 6323. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 فهذه أوجه روايته عن راشد بن سعد، وقد رَجَّحَ الدارقطني - كما تقدم - رواية عليِّ بن أبي طلحة على رواية معاوية بن صالح، وجمعَ ابنُ حبان بين رواية عليِّ بن أبي طلحة، ورواية الزبيدي، فلا تؤثر الرواية المرسلة على الروايات المتصلة، وبذلك يتبين أنه لا مجال لإعلال رواية راشد بن سعد هذه بالاختلاف، وأن الحديث من هذا الطريق حسنٌ كما تقدم تقريره. وثمة طريق آخر لحديث المقدام هذا من غير رواية راشد بن سعد، وهو ما أخرجه أبو داود في (سننه) 1 - ومن طريقه البيهقي2 - من طريق: إسماعيل بن عياش، عن يزيد بن حجر3، عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب4، عن أبيه5، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا وارث من لا وارث له: أفك عانيه، وأرث ماله. والخال وارث من لا وارث له: يفك عانيه، ويرث ماله". وهذا الإسناد ضعيفٌ: فيزيد بن حجر: مجهول، وكذا يحيى بن المقدام، وبينهما: صالح بن يحيى، ليِّن الحديث. وإذا كان كذلك، فإنَّ الاعتماد يكون على رواية راشد بن سعد المتقدمة.   (3/321) ح 2901. (6/214) . 3 الشَّامي، مجهول، من السابعة/ د. (التقريب 600) . 4 الكِنْدي، الشَّامي، لَيِّنٌ، من السادسة/ د س ق. (التقريب 274) . 5 يحيى بن المقدام بن معدي كرب، مستور، من الرابعة/ د س ق. (التقريب 597) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 ثم انتقل ابن القَيِّم بعد ذلك إلى حديث آخر في توريث الخال، وهو حديث: 114- (2) عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كتب إلى أبي عبيدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الله وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَن لا مَوْلَى له، والخَالَ وَارِثُ مَنْ لا وَارِثَ لَهُ ". وقد عزاه ابن القَيِّم إلى الترمذي - وأنه حَسَّنَه - وابن حبان، ثم رَدَّ القولَ بإعلاله، فقال: "ولم يصنعْ من أَعَلَّ هذا الحديثَ بحكيم بن حكيم، وأنه مجهول شيئاً؛ فإنه قد رَوَى عنه: سهيل بن أبي صالح، وعبد الرحمن بن الحارث، وعثمان بن حكيم أخوه. ولم يُعْلَمْ أن أحداً جَرَحَهُ، وبمثل هذا يَرْتَفِعُ عنه الجهالة، ويحتجُّ بحديثه"1. قلت: هذا الحديث أخرجه: الترمذي في (جامعه) 2، والنسائي في (الكبرى) 3، وابن ماجه في (سننه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، وابن الجارود في (المنتقى) 6، وابن حبان في (صحيحه) 7، والدارقطني،   1 تهذيب السنن: (4/171) . (4/421) ح 2103 ك الفرائض، باب ما جاء في ميراث الخال. (6/114) ح 6317. (2/914) ح 2737. (1/28، 46) . (ح 964) . 7 الإحسان: (7/612) ح 6005. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 والبيهقي في (سننيهما) 1، كلهم من طريق: سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن الحارث2، عن حكيم بن حكيم3، عن أبي أمامة4 بن سهل بن حنيف، أنه قال: كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة: أن عَلِّموا صبيانكم العوم، ومقاتلتكم الرمي. قال: فكانوا يختلفون بين الأغراض. قال: فجاء سهم غَرْب5، فأصاب غلاماً فقتله، ولم يُعْلَمْ للغلام أهلٌ إلا خاله، فكتبَ أبو عبيدة إلى عمر، فذكر له شأن الغلام: إلى من يَدْفَع عقله؟ فكتب إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخالُ وارث من لا وارث له". هذا لفظ ابن حبان، وابن الجارود، والبيهقي، وأحمد في رواية، والسياق لابن حبان، وعند الباقين: "ولم يُعلم للغلام أصل"، وأنه كان "في حِجْرِ خال له". وأما لفظ أحمد في الرواية الأخرى، وابن ماجه، والدارقطني، عن   1 قط: (4/84) ح 53. هق: (6/214) . 2 ابن عبد الله بن عَيَّاش بن أبي ربيعة المخزومي، أبو الحارث المدني، صدوقٌ له أوهامٌ، من السابعة، مات سنة 143هـ / بخ 4. (التقريب 338) . 3 ابن عباد بن حنيف الأنصاري الأوسي، صدوقٌ، من الخامسة/4. (التقريب 176) . 4 هو: أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاري، معروف بكنيته، معدودٌ في الصحابة، له رؤية ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، مات سنة 100هـ/ ع. (التقريب 104) . 5 سهم غَرَْب: أي لا يُعرف راميه. يقال: سهم غرب، بفتح الراء وسكونها، وبالإضافة وغير الإضافة. وقيل: بالسكون: إذا أتاه من حيث لا يدري، وبالفتح: إذا رماه فأصاب غيره. ولم يثبت بعضهم إلا الفتح. (النهاية 3/350 - 351) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 أبي أمامة: أن رجلاً رمى رجلاً بسهم فقتله، وليس له وارثٌ إلا خالٌ، فكتب في ذلك أبو عبيدة إلى عمر ... الحديث، بمثل ما تقدم. وأما الترمذي: فليس عنده إلا المرفوع فقط، دون باقي القصة. وهذا الإسناد لا بأسَ به في المتابعات؛ فإن عبد الرحمن بن الحارث تَكَلَّمَ فيه بعضهم، فقال الإمام أحمد: "متروك"1. وقال النسائي: "ليس بالقوي"2 وَضَعَّفَهُ ابن المديني3. لكن قال فيه ابن سعد: "ثقة"4. وقال ابن معين: "صالح"5. وقال مرة: "ليس به بأس"6. وقال أبو حاتم: "شيخ"7. وقال العجلي: "مدنيٌّ ثقة"8. وقال ابن نمير: "لا أُقْدِمُ على ترك حديثه"9 وذكره ابن حبان في (الثقات) 10، وقال: "كان من أهل العلم". ولذلك قال عنه الحافظ ابن حجر: "صدوق له أوهام". فمثله يُحَسَّنُ حديثُهُ إذا اعتضد.   1 تهذيب التهذيب: (6/156) . 2 المصدر السابق. 3 المصدر السابق. 4 المصدر السابق. 5 المصدر السابق. 6 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص 164) رقم 586. 7 الجرح والتعديل: (2/2/224) . 8 تهذيب التهذيب: (6/156) . 9 المصدر السابق. 10 (7/69 - 70) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وأما حكيم بن حكيم - شيخه في هذا الإسناد -: فقد تقدم في كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - أن بعضهم أَعَلَّ الحديث بجهالته، ولم أر ذلك إلا لابن القطان؛ فإنه قال: "لا يُعرف حاله"1. وقال عنه ابن سعد: "كان قليل الحديث ولا يحتجون به"2. ولكن قال العجلي: "ثقة"3. وذكره ابن حبان في (الثقات) 4. وصَحَّحَ له الترمذيُّ وابن خزيمة وغيرهما، كما قال ابن حجر5 رحمه الله، وقال الذهبي: "ثقة"6. وقال مرة: "حسن الحديث"7. وقال ابن حجر: "صدوق"8. هذا مع رواية جماعة عنه كما تقدم في كلام ابن القَيِّم رحمه الله، فمثله قد خَرَجَ عن وصفِ الجهالة، وحديثه لا يقلُّ - أيضاً - عن رتبة الحَسَنِ، كما وصفه بذلك الذهبي رحمه الله. وقد حَسَّنَ الترمذي هذا الحديث، وفي النسخة التي بين أيدينا قوله: "حسن صحيح". ولكن في (تحفة الأشراف) 9: "حسن" فقط،   1 تهذيب التهذيب: (2/449) . 2 المصدر السابق: (2/448) . 3 تاريخ الثقات: (ترتيب الهيثمي) : (ص 129) . (6/214) . 5 تهذيب التهذيب: (2/449) . 6 المغني: (1/186) . 7 الكاشف: (1/185) . 8 كما تقدم في ترجمته له. (8/4) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 وكذا نقل عنه الذهبي رحمه الله في (الميزان) 1. وقال أبو بكر البزار: "أحسن إسنادٍ فيه: حديث أبي أمامة بن سهل ... "2. يعني هذا. وقال الحافظ ابن حجر: "حديثٌ حسنٌ"3. وقال الشيخ الألباني: "إسناده حسن"4. وقال مرة: "صحيح"5. فتلخص من ذلك: أن حديث أبي أمامة هذا، عن عمر رضي الله عنه حديثٌ حسنٌ لغيره، وأنَّ الطعن فيه بجهالة حكيم بن حكيم لا ينتهض لإعلاله؛ لما تَقَدَّمَ من توثيق جماعةٍ له، ورواية آخرين عنه، بما يوجب رفع الجهالة عنه. وأما عبد الرحمن بن الحارث: فإنه وإن وَثَّقَهُ بعضهم، إلا أنَّ كلام من تكلم فيه يقتضي ثبوت بعض الضعف فيه، ولكن مثله مقبول في المتابعات والشواهد. ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر في هذا المعنى، وهو حديث: 115- (3) عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "الخالُ وارثُ من لا وارث له". عزاه ابن القَيِّم إلى الترمذي، وأنه قال: "وقد أرسله بعضهم، ولم يَذْكُرْ فيه عن عائشة".   (1/584) . 2 مسند البزار: (1/376) . 3 فتح الباري: (12/30) . 4 الإرواء: (6/137) . 5 صحيح ابن ماجه: (ح2212) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 ثم قال رحمه الله: "وهذا على طريقة منازعينا لا يضرُّ الحديث شيئاً، لوجهين: أحدهما: أنهم يحكمون بزيادة الثقة، والذي وصله ثقةٌ. وقد زاد، فيجبُ عندهم قبولُ زيادته. الثاني: أنه مُرْسَلٌ قد عَمِلَ به أكثر أهل العلم - كما قال الترمذي - ومثل هذا حجة عند من يرى المرسلَ حجة، كما نص عليه الشافعيِّ"1. قلت: هذا الحديث أخرجه: الترمذي في (جامعه) 2، والنسائي في (الكبرى) 3، والدارقطني في (سننه) 4، كلهم من طريق: أبي عاصم5. وأخرجه النسائي في (الكبرى) 6، والحاكم في (المستدرك) 7، من طريق: مخلد بن يزيد8. كلاهما عن:   1 تهذيب السنن: (4/172) . (4/422) ح 2104. (6/115) ح 6318. (4/85) ح54، 55. 5 هو: الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني، النبيل، البصري، ثِقَةٌ ثبْتٌ، من التاسعة، مات سنة 212هـ أو بعدها/ع. (6/115) ح6319. (4/344) . 8 القرشي، الحرَّاني، صدوق له أوهامٌ، من كبار التاسعة، مات سنة 193هـ /خ (التقريب524) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 ابن جريج، عن عمرو بن مسلم1، عن طاوس، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن قال: "الله ورسولُهُ مولى من لا مولى له، والخالُ وارثُ من لا وارثَ له". هذا لفظ الحاكم، وعند الدارقطني: "الله مولى ... "، أما لفظ الترمذي ففيه ذكر الخال فقط، وهو الذي قدمناه. قال أبو عيسى الترمذي: "حديث حسن غريب". وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي رحمه الله. وقد رُوِيَ عن أبي عاصم من وجه آخر موقوفاً على عائشة رضي الله عنها، فأخرجه الدارمي في (مسنده) 2، والدارقطني في (سننه) 3، والبيهقي في (سننه) 4، ثلاثتهم عن: أبي عاصم، بالإسناد الماضي إلى عائشة رضي الله عنها قولها، وعندهم: "الله ورسوله ... ". زاد الدارقطني في روايته: "فقيل لأبي عاصم: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فسكت. فقال له الشاذكوني: حَدِّثْنَا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت". وقد تابع أبا عاصم على هذه الرواية الموقوفة: عبد الرزاق، فأخرجه في (مصنفه) 5: أخبرنا ابن جريج ... فذكره.   1 الجندي، صدوقٌ له أوهامٌ، من السادسة / عخ م د ت س. (التقريب 427) . (2/265) ح2981 ك الفرائض، باب في ميراث ذوي الأرحام. (4/85) ح55، 56. (6/215) . (9/20) ح16202. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 قال البيهقي: "هذا هو المحفوظ، من قول عائشة موقوفاً عليها ... وقد كان أبو عاصم يرفعه في بعض الروايات عنه، ثم شكَّ فيه، فالرفع غير محفوظ". كذا قال البيهقي رحمه الله، وقد تقدم أنَّ مخلد بن يزيد الجَزَرِي قد تابع أبا عاصم على هذه الرواية المرفوعة، ومخلد هذا "صدوقٌ مشهورٌ"1 من رجال مسلم، فأبو عاصم وإن كان تَوَقَّفَ مرَّةً في رفعه، فمتابعة مخلد له على الرفع تدلُّ على أن للمرفوع أصلاً، ولا مانع من أن يكون جاء عن عائشة على الوجهين. على أن النسائي - رحمه الله - قد أعله "بعمرو بن مسلم"، وبالاختلاف فيه على ابن جريج، فقال: "عمرو بن مسلم ليس بذاك القويِّ، وقد اخْتُلِفَ فيه على ابن جريج". ونقله عنه المزيِّ في (تحفة الأشراف) 2. أما عمرو بن مسلم فقد ضَعَّفَه أيضاً: أحمد، وابن معين في رواية، وابن خِرَاش. وقال السَّاجي: "صدوقٌ يهم"3. وقال ابن معين مرة: "لا بأس به"4. وذكره ابن حبان في (الثقات) 5. وقال الذهبي: "صالح   1 الذهبي: (الميزان) : (4/84) . (11/426) . 3 تهذيب التهذيب: (8/105) . 4 سؤالات ابن الجنيد لابن معين: (ص346) رقم303. (7/217) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 الحديث"1. ومع ذلك، فهو من رجال مسلم، فمثله - والله أعلم - حديثه حسنٌ على أقل تقدير، وقد حسَّن له الترمذيُّ كما مضى، كما أنه لم ينفرد بروايةِ هذا الأصلِ، بل جاء من غير طريقه. وأما الاختلاف فيه على ابن جريج: فإن قيل: إن الكل محفوظٌ، فلا إشكالَ. وإن قيل بترجيح الوقف - كما سبق عن البيهقي، ونقَلَهُ ابن حجر2 عن الدارقطني أيضاً - فليس الاعتماد عليه وحده، وإنما يكون الاعتمادُ على ما تقدم من المرفوعات، ويكون هذا الموقوف للاستشهاد. وأما ما أشار إليه الترمذي من كونه يُرْوَى مرسلاً - وهو ما نقله ابن القَيِّم عنه وأجاب عنه بما تقدم -: فقد أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 3: عن معمر، عن ابن طاوس4، قال: سمعت بالمدينة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخالُ وارثُ من لا وارثَ له". فإنَّ هذا المرسلَ يعتضدُ بقول عائشة رضي الله عنها الماضي، وبالأحاديث المسندة في الباب، وبعمل أهل العلم به، كما قَرَّرَهُ ابن القَيِّم رحمه الله، ولا تناقض بينه وبين ما تقدم.   1 الميزان: (3/289) . 2 التلخيص الحبير: (3/80-81) . (9/19) ح16199. 4 هو: عبد الله بن طاوس بن كيسان اليماني، أبو محمد، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ، من السادسة، مات سنة 132هـ/ع. (التقريب 308) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث توريثِ الخالِ حديثٌ حسنٌ كما قال ابن القَيِّم رحمه الله، وأنَّه وإن كان في بعض طرقه مقالٌ، فإنَّ في اجتماع هذه الطرق - مع تعدُّدِها، واختلاف مخارجها - ما يقَوِّي هذا الحديثَ ولا يجعله ينزل - بحال - عن درجة الحسن، وقد تَقَدَّم تحسين جماعةٍ له: فحسَّن الترمذيُّ حديثي عمر، وعائشة. وحسن أبو زرعة حديث المقدام، مع تصحيح الحاكم لحديثي عائشة والمقدام رضي الله عنهم أجمعين، وكذا حسَّن الحافظ ابن حجر حديث عمر. كلُّ ذلك يُؤكِّد ما قرَّرَه ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى - من تحسين هذا الحديث، وهو ما ثبتَ من خلال هذه الدراسة، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 2 - باب ما جاء في ميراث الذي يسلم على يدي الرجل 116- (4) عن تميم الداري رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله، مَا السُّنَّة في الرَّجُلِ يُسْلِمُ على يدي الرجلِ من المسلمين؟ قال: "هُوَ أَوْلَى النَّاس بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - أن الذين رَدُّوا هذا الحديث، منهم من رَدَّهُ لِضَعْفِهِ، ومنهم من ذهب إلى كونه منسوخاً، ومنهم من تَأَوَّلَهُ - على تقدير صحته - بأن معناه: هو أحقُّ به: يواليه وينصره، ويبره ويصله ويرعى ذِمَامَهُ، ويغسله ويصلي عليه ويدفنه، فهذه أولويته به، لا أنها أولويته بميراثه، قال ابن القَيِّم: "وهذا هو التأويل"1. ثم ردَّ على من قال بضعفه، فقال: "وحديث تميم وإن لم يكن في رتبة الصحيح، فلا ينحطُّ عن أدنى درجاتِ الحسنِ"2. قلت: هذا الحديث أخرجه: الترمذيُّ، وابن ماجه في (سننيهما) 3، وأحمد في (مسنده) 4 - ومن طريقه: ابن عساكر في (تاريخ دمشق) 5 - كلهم من طريق: وكيع - وعند الترمذي: عن أبي أسامة، وابن نمير، ووكيع -.   1 تهذيب السنن: (4/185) . 2 المصدر السابق: (4/186) . 3 ت: (4/427) ح 2112 باب ميراث الذي يسلم على يدي الرجل. جه: (2/919) باب الرجل يسلم على يدي الرجل. كلاهما في ك الفرائض. (4/103) . (39/181) . في ترجمة "عبد الله بن موهب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وأخرجه: أحمد في (مسنده) 1 - ومن طريقه: ابن عساكر في (تاريخ دمشق) 2 - والدارمي في (مسنده) 3، وابن أبي حاتم في (علله) 4 عن أبيه، كلهم من طريق: أبي نعيم. وأخرجه النسائي في (الكبرى) 5 من طريق: عبد الله بن داود6. وأخرجه أبو يعلى في (مسنده) 7 - ومن طريقه ابن عساكر8 - والدارقطني في (سننه) 9 من طريق: علي بن مسهر10. وأخرجه النسائي في (الكبرى) 11 - ومن طريقه: ابن عساكر في   (4/103) . (39/182) . (2/272) ح 3037 ك الفرائض، باب الرجل يُوالي الرجل. (2/52) ح 1642. (6/134) ح 6380. 6 ابن عامر الهَمْدَاني، أبو عبد الرحمن الخريبي، كوفيُّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ، من التاسعة، مات سنة 213هـ / خ 4. (القريب 301) . (13/102) ح 7165. (39/184) . (4/181) ح 33. 10 القرشي، الكوفي، قاضي الموصل، ثقةٌ له غرائبُ بعد أن أُضِرَّ، من الثامنة، مات سنة 189هـ/ ع. (التقريب 405) . 11 (6/133) ح 6379. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 (تاريخه) 1 - من طريق يونس بن أبي إسحاق2. وأخرجه عبد الرزاق في (المصنف) 3 من طريق: عبد الله بن المبارك، وأحمد في (مسنده) 4 - وعنه ابن عساكر5 - من طريق: إسحاق بن يوسف. والطبراني في (الكبير) 6 من طريق: حفص بن غياث. والدارقطني في (سننه) 7 من طريق: إسماعيل بن عياش. وابن عساكر8 من طريق: يونس بن بكير9 كلهم عن: عبد العزيز بن عمر10، عن عبد الله بن مَوْهَب11، عن تميم   (39/185) . 2 السبيعي، أبو إسرائيل الكوفي، صدوقٌ يَهِمُ قليلاً، من الخامسة، مات سنة 152هـ على الصحيح/ رم 4. (التقريب 613) . (9/39) ح 16271. (4/102) . (39/186) . (2/45) ح 1272. (4/181) ح 31. (39/182) . 9 ابن واصل الشيباني، أبو بكر الكوفي، صدوقٌ يخطئ، مات سنة 199هـ/ خت م د ت ق. (التقريب 613) . 10 ابن عبد العزيز بن مروان الأموي، أبو محمد المدني، نزيل الكوفة، صدوقٌ يخطئ، من السابعة، مات في حدود 150هـ / ع. (التقريب 358) . 11 الشامي، أبو خالد، قاضي فلسطين لعمر بن عبد العزيز، ثقةٌ لكن لم يسمع من تميم الداري، من الثالثة/ ع. (التقريب 325) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 الداري رضي الله عنه بنحو ما تقدم، وعند الطبراني: "قلت: يا رسول الله، الرجل يسلم على يديَّ فيموت؟ ". وعند عبد الرزاق قوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم على يدي رجل فهو مولاه" بدون سؤال تميم. وقد تابع عبد العزيز بن عمر على روايته هذه: أبو إسحاق السَّبيعي، فأخرجه النسائي في (الكبرى) 1، والطبراني في (الكبير) 2، والحاكم في (المستدرك) 3 ومن طريقه: البيهقي في (سننه) 4 - كلهم من طريق: يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن عبد الله بن مَوْهَب، عن تميم الداري رضي الله عنه به. وخالف هؤلاء جميعاً: يحيى بن حمزة، فرواه عن: عبد العزيز بن عمر، عن عبد الله بن موهب، عن قبيصة بن ذؤيب، عن تميم الداري به. فزاد في الإسناد "قبيصة بن ذؤيب" بين ابن موهب، وتميم الداري. أخرجه كذلك: أبو داود في (سننه) 5 - ومن طريقه البيهقي6-   (6/133) ح 6378. (2/45) ح 1274. (2/219) . (10/297) . (3/333) ح 2918 ك الفرائض، باب في الرجل يسلم على يدي الرجل. (10/296) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 والطبراني في (الكبير) 1، والبخاري في (تاريخه) 2، والحاكم في (المستدرك) 3، وابن عساكر في (تاريخ دمشق) 4، والبيهقي5 من وجه آخر، كلهم من طريق: يحيى بن حمزة، عن عبد العزيز بن عمر، أنه قال: سمعتُ عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز، عن قبيصة بن ذؤيب، أن تميماً الداري رضي الله عنه قال: يا رسول الله، ما السنة في الرجل ... ؟ الحديث بنحو ما تقدم، وزاد ابن عساكر في روايته: "قال عبد العزيز بن عمر: وشهدتُ عمرَ بن عبد العزيز قضى بذلك في رجلٍ أسلم على يدي رجلٍ، فماتَ وتركَ مالاً، وابنةً له، فأعطى عمر ابنته النِّصْفَ، والذي أسلم على يديه النصف". وقد حَكَمَ البعض بتقديم رواية الجماعة المتقدمين، التي ليس فيها ذكرٌ لقبيصة، وخطَّأوا من وزاد فيه "قبيصة". فقال الترمذي: "وقد أدخل بعضهم بين عبد الله بن موهب، وبين تميم الداري: قبيصة بن ذؤيب، ولا يصحُّ". وقال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن حديث رواه يحيى بن حمزة، عن عبد العزيز بن عمر، عن ابن موهب، عن قبيصة بن ذؤيب، عن تميم الداري ... ؟ قال أبي: حدثني أبو نعيم، عن عبد العزيز، عن ابن موهب،   (2/45) ح 1273. (3/1/198 - 199) . (2/219) . (39/179 - 180) . (10/296) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 قال: سمعت تميماً الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبي: أبو نعيم أحفظُ وأتقنُ. قلت لأبي: يحيى بن حمزة أفهم بأهل بلده. قال: أبو نعيم في كل شيء أحفظُ وأتقن"1. وقال الحافظ ابن حجر: "تَفَرَّدَ يحيى بن حمزة بهذه الزيادة، وقد رواه بدونها من أسلفنا"2. ومال آخرون إلى إثبات الرواية التي فيها ذِكْرُ قبيصة، فقد ذكر عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه حديث ابن موهب، عن تميم، فقال: "قال يحيى بن حمزة: عن عبد العزيز بن عمر، عن ابن موهب، عن قبيصة، عن تميم"3. وفي لفظ: "إنما هو عن ابن موهب، عن قبيصة، عن تميم"4 وسُئل ابن معين عن هذا الحديث؟ فقال: "أهل الشام يقولون: عن قبيصة"5. وفي (تاريخ أبي زرعة الدمشقي) 6: أنَّ ابنَ معين كتبَ إلى أبي نعيم: أن بينهما رجلاً. فأنكر ذلك أبو نعيم من كتابه. وكان أبو نعيم ينكر وجود قبيصة في الإسناد، ويقول: "أنا سمعت عبد العزيز بن عمر، يذكر عن عبد الله بن موهب، قال: سمعتُ تميماً الداري". فلما احتجوا عليه برواية يحيى بن حمزة، قال: "ومن يحيى بن حمزة حتَّى يُحْتَجَّ عليَّ به؟! ". فقيل له: يا أبا نعيم، لو قيل لك في نُبْلِ رِجَالِك: من   1 علل ابن أبي حاتم: (2/52) ح 1642. 2 تغليق التعليق: (5/226) . 3 علل أحمد: (2/8) رقم 22. 4 جامع التحصيل: (ص 264) . 5 الجرح والتعديل: (2/2/174) . (1/570) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 الأعمش؟ من فلان؟ ألم يكن القائلُ يستطيع أن يقول: لكلِّ قومٍ عِلْمٌ، ولكل قومٍ رجالٌ، وهم أعلم بما رووا؟ فسكت أبو نعيم1. وقال ابن القطان: "ورواه يحيى بن حمزة عنه، فأدخل بينهما: قبيصة بن ذؤيب، وهو الأصوب"2. وكأنَّ أبا زرعة الدمشقي - رحمه الله - يُرَجِّح ذلك أيضاً، فإنه قال: "فوجهُ مدخل قبيصة بن ذؤيب في حديثه هذا - فيما نرى، والله أعلم - أن عبد العزيز بن عمر حَدَّثَ يحيى بن حمزة بهذا الحديث من كتابه، وحدثهم بالعراق حفظاً"3. يعني أن الرواية التي حَدَّث بها من كتابه أصحُّ، وهي التي فيها ذكر قبيصة. وإذا ما راعينا قول الإمام أحمد في عبد العزيز بن عمر: "ليس هو من أهل الحفظ والإتقان"4. وقول ابن حبان: "يخطئ"5. علمنا أن الوهم فيه من عبد العزيز هذا جائز، وأنه ربما أخطأ لمَّا حَدَّثَ من حفظه، فأسقط قبيصة من الإسناد، حتَّى إنَّ أبا نعيم - رحمه الله - لما عُورض برواية يحيى بن حمزة هذه سكت. فإذا قُبلَ هذا الترجيح للرواية المتصلة، فإنه لم يبق سببٌ لإعلال   1 تاريخ أبي زرعة الدمشقي: (1/570 - 571) ، وتاريخ دمشق: (39/ 187 - 188) . 2 بيان الوهم والإيهام: (3/546) ح 1324. 3 تاريخ أبي زرعة الدمشقي: (1/571) . 4 تهذيب التهذيب: (6/350) . 5 الثقات: (7/114) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 الحديث بالانقطاع بين ابن موهب، وتميم الداري، كما أعله بذلك: يعقوب بن سفيان1، والشافعي2 رحمهما الله؛ لأنَّ هذه الرواية - والحالة هذه - تصبحُ مرجوحةً. لكن يبقى بعد ذلك الكلام على بعض العلل التي رُمِي بها الحديث، فمن ذلك: إعلاله بالاضطراب: قاله ابن المنذر، وابن القطان3. وهذا مبنيٌّ على ما تقدم من كونه رُوي مرةً مرسلاً، ومرةً متصلاً، ومع إمكان الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى، لا يبقى وجهٌ للحكم باضطرابه، وقد أمكن ذلك كما تقدم. ومن ذلك: جهالة عبد الله بن موهب. قال ابنُ معين وقد سئل عنه: "لا أعرفه"4. وقال الشافعي: "وابن موهب ليس بمعروف عندنا"5. وقال ابن القطان: "وعلة هذا الحديث: الجهل بحال عبد الله بن موهب؛ فإنه لا تُعرف حاله وإن كان قاضي فلسطين، ولم يعرفه ابن معين"6.   1 سنن البيهقي: (10/296) . 2 المصدر السابق: (10/297) . 3 انظر: نصب الراية: (4/157) . 4 الجرح والتعديل: (2/2/174) . 5 سنن البيهقي: (10/297) . 6 بيان الوهم والإيهام: (3/546) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 قلت: وقد وَثقَهُ جماعةٌ؛ فقال العجلي: "شاميٌّ ثقةٌ"1. وقال يعقوب بن سفيان: "ثقة"2. وقال الذهبي: "صدوق"3. وقال ابن حجر - كما مر -: "ثقة". ولا شكَّ أن توثيق هؤلاء الأئمة له يدفع القول بجهالته. ومما أُعِلَّ به أيضاً: ضعف عبد العزيز بن عمر: فنقل الخطابيُّ عن الإمام أحمد قوله: "عبد العزيز - راويه - ليس من أهل الحفظ والإتقان"4. وقال ابن المنذر: "لم يروه غير عبد العزيز بن عمر، وهو شيخٌ ليس من أهل الحفظ والإتقان"5. وأقول: عبد العزيز بن عمر وَثقَهُ - أيضاً - جماعةٌ؛ فقال ابن معين: "ثقة"6. وقال مرة: "ليس به بأس، ثقة"7. وقال النسائي: "ليس به بأس"8. وقال أبو داود: "ثقة"9. وقال يعقوب بن سفيان: "ثقة"10.   1 تهذيب التهذيب: (6/47) . 2 المعرفة والتاريخ: (2/439) . 3 الكاشف: (2/121) . 4 معالم السنن: (4/186) . 5 نصب الراية: (4/157) . 6 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/367) . 7 سؤالات ابن الجنيد ليحيى: (ص 308) رقم 144. 8 تهذيب التهذيب: (6/350) . 9 تهذيب التهذيب: (6/350) . 10 المعرفة والتاريخ: (2/439) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 وقال أبو زرعة: "لا بأس به"1. وقال أبو حاتم: "يُكْتَبُ حديثه"2. وقال ابن عمار: "ثقة، ليس بين الناس اختلاف"3. وقال ابن شاهين: "ثقة ثقة، قاله أحمد ويحيى"4. وقال الذهبي: "ثقة"5. فإذا ظهر ذلك، فإنه لا متعلق لأحدٍ على عبد العزيز في تضعيف هذا الحديث. ويتلخص من ذلك أن ما أُعِلَّ به الحديث لا يضره، بل صححه الحافظ أبو زرعة الدمشقي رحمه الله، فقال: "وهذا حديثٌ مُتَّصِلٌ حسنُ المخرج والاتصال، لم أر أحداً من أهل العلم يدفعه"6. وقال مرة: "ولم أر أبا مسهر لما تَحَدَّثَ بهذا الحديث أنكره، ولا رَدَّهُ"7. ولذلك - والله أعلم - قال البخاريُّ - رحمه الله - وقد علقه في (صحيحه) 8 بصيغة تمريض، فقال: ويذكر عن تميم الداري رفعه ... - قال: "واختلفوا في صحة هذا الخبر". فلم يقطع - رحمه الله - بضعفه. ثم إن البخاريَّ - رحمه الله - قد ردَّ هذا الخبر لا لِعِلَّةٍ فيه، وإنما   1 الجرح والتعديل: (2/2/389) . 2 الجرح والتعديل: (2/2/389) . 3 تهذيب التهذيب: (6/350) . 4 تاريخ الثقات: (ص 162) رقم 932. 5 الكاشف: (2/177) . 6 تاريخ أبي زرعة الدمشقي: (1/571) . 7 المصدر السابق. 8 ك الفرائض، باب إذا أسلم على يديه ... فتح الباري: (12/45) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 لمعارضته خبراً آخر، فإنه قال في (تاريخه) 1 - بعد أن أخرجه -: "ولا يصح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن أعتق". وَرَدَّهُ الأوزاعي - أيضاً - من وجه آخر، فروى أبو زرعة الدمشقي بسنده إلى الوليد بن مسلم: أن الأوزاعي كان يدفع هذا الحديث، ولا يرى له وجهاً، ويحتجُّ على ذلك: بأنه لم يكن للمسلمين يومئذٍ ذمةٌ ولا خراجٌ2. ولكن تأويلّ هذا الحديث على الوجه الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله - من أن المقصود بالأولوية: أولوية النصرة، والتأييد، والمعاونة، لا أولوية الميراث - يدفع هذا الإشكال، وقال ابن حجر بأن هذا اختيار الجمهور، قال: "ورجحانه ظاهر"3. فتلخص من ذلك: أن هذا الحديث قد أُعِلَّ بما لا يؤثر فيه، وأنه بهذا الإسناد يصلُ إلى درجة الحَسَنِ - أو أدنى الحسن - كما قال ابن القَيِّم رحمه الله. ثم ذكر ابن القَيِّم بعد ذلك شاهداً لهذا الحديث، فقال: "وأما تضعيفُ الحديث: فقد رُوِيَت له شواهد. منها: حديث أبي أمامة". قلت: يشير - رحمه الله - إلى: ما رُوي:   1 الكبير: (3/1/198 - 199) . 2 تاريخ أبي زرعة: (1/571) . 3 فتح الباري: (12/47) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 117- (5) عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أَسْلَمَ على يدي رجلٍ، فله ولاؤه ". ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - أن هذا الحديث وإن رُدَّ بـ"جعفر ابن الزبير" فإنه قد رُوي من طريق آخر عند سعيد بن منصور1. قلت: حديثُ سعيد بن منصور هذا مُخَرَّجٌ في (سننه) 2، وأخرجه أيضاً: الطبراني في (الكبير) 3، والدارقطني في (سننه) 4، وابن عدي في (الكامل) 5 - ومن طريقه البيهقي في (سننه) 6 - كلهم من طريق: عيسى بن يونس7، عن معاوية بن يحيى8، عن القاسم بن عبد الرحمن9، عن أبي أمامة رضي الله عنه به. وعند الطبراني: "فهو مولاه" بدل: "فله ولاؤه".   1 تهذيب السنن: (4/186) . (3/1/78) ح 200. (8/223) ح 7781. (4/181) ح 32. (6/401) . (10/298) . 7 ابن أبي إسحاق السٍّبيعي، أخو إسرائيل، كوفيٌّ نزل الشام مرابطاً، ثقةٌ مأمونٌ، من الثامنة، مات سنة 187هـ وقيل: 191هـ / ع. (التقريب 441) . 8 الصَّدَفي، أبو روح الدمشقي، سكن الرَّي، ضعيفٌ، وما حَدَّثَ بالشام أحسن مما حدث بالرَّيِّ، من السابعة/ ت ق. (التقريب 538) . 9 الدمشقي، أبو عبد الرحمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 وهذا الإسناد ضعيفٌ لأجل معاوية بن يحيى، فقد أجمعوا على ضعفه1، ولذلك فقد أعلَّ هذا الحديث به: ابنُ عدي، والدارقطني، والبيهقي، والهيثمي2. وقال ابن أبي حاتم في (العلل) 3: "وسمعت أبا زرعة وقرأ علينا كتاب الفرائض، فانتهى إلى حديث كان عنده عن: عمرو الناقد، عن عيسى بن يونس، عن معاوية بن يحيى ... فامتنع أبو زرعة من فراءته علينا، ولم نسمعه منه". قلت: ومعاوية بن يحيى وإن كان ضعيفاً، فقد ذهب بعضهم إلى أنَّ ما حَدَّثَ به بالشام أحسنُ حالاً من غيره4، وإسناد هذا الحديث شاميٌّ، فالغالب أنه مما حَدَّثَ به بالشام، فلعل ذلك يُعطي هذا الحديث قوةً، وأنه - مع ضعف إسناده - إذا ضُمَّ إلى حديث تميم الداري المتقدم، تَقَوَّى كلُّ منهما بالآخر. وأما رواية جعفر بن الزبير5 التي أشار إليها ابن القَيِّم آنفاً: فأخرجها ابن عديٍّ في (الكامل) 6 - ومن طريقه البيهقي في (سننه) 7 -   1 انظر ترجمته في الميزان: (4/138) ، وتهذيب التهذيب: (10/219) . 2 مجمع الزوائد: (5/334) . (2/53) ح 1646. 4 قاله أبو زرعة، انظر: الجرح والتعديل: (4/1/384) . 5 الحنفي، أو الباهلي، الدمشقي، نزيل البصرة، متروك الحديث، وكان صالحاً في نفسه، من السابعة، مات بعد 140هـ / ق. (التقريب 140) . (2/135) . (10/298) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 من طريق: عيسى بن يونس، عن جعفر بن الزبير، وبالإسناد المتقدم في حديث معاوية. ولكنَّ جعفر بن الزبير متروك الحديث عندهم1، فيكون الاعتماد في حديث أبي أمامة هذا على ما جاء من رواية معاوية بن يحيى الصدفي - على ما فيها من ضَعْفٍ - فإنها تصلح شاهداً لحديث تميم الماضي، كما ذهب إلى ذلك ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم.   1 انظر تهذيب التهذيب: (2/90 - 92) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 18- من كتاب الأذكار 1 - باب ما يقول من نسي التسمية في أول طعامه 118- (1) عن عائشة رضي الله عنها، أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرَ اسْمَ الله تعالى، فَإِنْ نَسِيَ أن يَذْكُرَ اسم الله تعالى في أَوَّلِهِ فَلْيَقُل: بِسْم اللهِ في أَوَّلِهِ وآخره". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "حديث صحيح"1. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: إسماعيل بن عُلَيَّة. والترمذي في (جامعه) 3، وأحمد في (المسند) 4 من طريق: وكيع. والدارمي في (مسنده) 5 من طريق: معاذ بن هشام. والحاكم في (المستدرك) 6 من طريق: عَفَّان بن مسلم. والبيهقي في (سننه) 7 من طريق: روح، وكذا أحمد في رواية8. والنسائي في (عمل اليوم والليلة) 9 من طريق: المعتمر بن سليمان. والطيالسي في (مسنده) 10،   1 زاد المعاد: (2/397) . (4/139) ح 3767، ك الأطعمة، باب التسمية على الطعام. (4/288) ح 1858. ك الأطعمة، باب ما جاء في التسمية على الطعام. (6/208) . (2/21) ح 2027. (4/108) . (7/276) . (6/246) . (ص 261) ح 281، باب ما يقول إذا نسي التسمية ثم ذكر. 10 ح 1566. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 كلهم عن: هشام الدستوائي، عن بُدَيْل بن ميسرة، عن عبد الله بن عبيد ابن عُمَير1، عن أم كلثوم - وفي رواية أبي داود، وكذا الطيالسي: عن امرأة منهم يقال لها: أم كلثوم - عن عائشة رضي الله عنها به. وأخرجه ابن ماجه في (سننه) 2، وأحمد والدارمي في (مسنديهما) 3، وابن حبان في (صحيحه) 4، أربعتهم عن: يزيد بن هارون، عن هشام الدستوائي بالإسناد المتقدم، إلا أنه ليس فيه ذكر لأم كلثوم، وفي هذه الرواية قصة. وهذا الإسناد منقطع؛ فإن عبد الله بن عبيد بن عمير لم يسمع من عائشة، كما قال ابن حزم5 رحمه الله. ولا شكَّ أنَّ رواية الجماعة الذين ذكروا "أم كلثوم" أولى من رواية يزيد بن هارون الذي انفرد بإسقاطها، فتقدم عليها. وهذا الحديث قال فيه الترمذي: "حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. مع تصحيح ابن حبان إياه.   1 الليثي، الْمَكِّي، ثقة، من الثالثة، استشهد غازياً سنة 113 هـ/ م 4. (التقريب 312) . (2/1086) ح 3264. 3 حم: (6/ 143) ، مي: (2/21) ح 2026. 4 الإحسان: (7/323) ح 5191. 5 انظر: تهذيب التهذيب: (5/308) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 قلت: لكن في الإسناد أم كلثوم، راوية الحديث عن عائشة رضي الله عنها، وقد وقع خلاف فيها، فقال الترمذي - رحمه الله - عقب إخراجه حديثها: "هي بنت محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه". قال ابن حجر عقبه: "كذا في عدة أصول، ولا يعكر عليه إلا ما وقع في رواية أبي داود، عن عبد الله بن عبيد، عن امرأة منهم يقال لها: أم كلثوم"1. وقال في (التقريب) 2 - معقباً على قول الترمذي -: "فعلى هذا فهي تيمية لا ليثية". وتردد فيها المزي فترجمها: "الليثية أو المكية"3 لكن قال ابن حجر: "فقول ابن عمير: عن امرأة منهم. قابل للتأويل، فينظر فيه، فلعل قوله: منهم أي كانت منهم بسبب: إما بالمصاهرة، أو بغيرها من الأسباب"، قال: "والعمدة على قول الترمذي"4. وقال في (النكت الظراف) 5: "ويمكن تأويل قوله: منهم. أي من أهل جوارهم". وعلى كُلِّ حالٍ، فسواء أكانت ليثية أم تيمية، فإنها لا يُعْرَفُ لها حال ولا عينٌ، فلم يرو عنها غير: عبد الله بن عمير الليثي" هذا، ولم يوثقها أحد فيما فتشت عنها، ولذلك ذكرها الحافظ الذهبي في آخر كتابه (الميزان) 6 ضمن النساء المجهولات، فقال: "تفرد عنها عبد الله بن عبيد بن عمير في التسمية على الأكل".   1 النكت الظراف: (12/ 443) . (ص 758) . 3 تهذيب الكمال: (35/382) . 4 تهذيب التهذيب: (12/478) . (12/443) . (4/613) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 وعلى هذا: فإنَّ الحُكْمَ على هذا السند متوقفٌ على العلم بحال أم كلثوم هذه، إلا أن يُحْمَل تصحيح من صححه على قول الذهبي رحمه الله: "وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها"1، ومع ذلك فالحديث له شواهد يمكن أن يَتَقَوَّى بها، فمن هذه الشواهد: حديث أُمَيَّة بن مَخْشِيِّ، ذكره ابن حجر في (فتح الباري) 2 عقب حديث عائشة السالف، فقال: "وله شاهد من حديث أمية بن مخشي ... ". قلت: وهذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والطبراني في (معجمه الكبير) 4 من طريق: عيسى بن يونس. وأخرجه: أحمد في (مسنده) 5، والطبراني - أيضا - في (معجمه) 6، والنسائي وابن السني في (عمل اليوم والليلة) 7، والحاكم في (المستدرك) 8، خمستهم من طريق: يحيى بن سعيد، كلاهما عن:   1 الميزان: (4/604) . (9/521) . (4/140) ح 3768. (1/268) ح 855. (4/336) . (1/268) ح 854. 7 سي: (ص 262) ح282. ابن السني: (ص 218) ح461. (4/108) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 جابر بن صُبْح1، عن المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي2، عن عمه أمية بن مخشي3 - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يأكل، فلم يسم حتى لم يبق من طعامه إلا لقمة، فلما رفعها إلى فيه قال: "بسم الله أوله وآخره". فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "ما زالَ الشيطان يأكلُ معه، فلما ذَكَرَ اسم الله - عز وجل - استقاء ما في بطنه". لفظ رواية عيسى بن يونس. وقد وقع في رواية عيسى بن يونس: أن أُمَيَّة بن مخشي عمُّ الْمُثَنَّى، وفي رواية يحيى بن سعيد: أنه جده. وكأن ابن حجر - رحمه الله - يُضَعِّفُ القول الثاني؛ فإنه قال: "روي عن أمية بن مخشي وهو عمه، ويقال: جده"4. والْمُثَنَّى بن عبد الرحمن تَفَرَّدَ عنه جابر بن صبح5، لم يرو عنه غيره، ولم يوثقه أحد غير ابن حبان6، وقال علي بن المديني: "مجهول"7. وقال الذهبي: "لا يعرف"8. وسكت عنه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 9.   1 الرَّاسبي، أبو بشر البصري، صدوق، من السابعة/ د ت س. (التقريب 136) . 2 مستور، من الثالثة / د س. (التقريب 519) . 3 صحابيٌّ، يكنى أبا عبد الله / د س. (التقريب 115) . 4 تهذيب التهذيب: (10/ 37) . 5 انظر: الميزان: (3/ 435) . 6 الثقات: (7/ 503) . 7 تهذيب التهذيب: (10/ 37) . 8 الميزان: (3/ 435) . (4/ 1/ 326) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 ومن هذا يعلم أن قول الحاكم رحمه الله: "صحيح الإسناد"، وموافقة الذهبي إياه غير مقبول منهما؛ إذ الجهل بحال الْمُثَنَّى يمنع من الحكم بصحة إسناده. وثَمَّةَ شاهد آخر من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أخرجه: ابن حبان في (صحيحه) 1، والطبراني في (الكبير) 2، وابن السني في (عمل اليوم والليلة) 3، ثلاثتهم من طريق: خليفة بن خياط، عن عمر بن علي المقدمي4، عن موسى5 الجهني، عن القاسم ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود6، عن أبيه7، عن جده رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "من نَسِيَ أن يذكر الله في أول طعامه، فليقل حين يذكر: بسم الله في أوله وآخره؛ فإنه يستقبل طعاماً جديداً، ويمنع الخبيث ما كان يصيب منه ".   1 الإحسان: (7/ 322) ح 5190. (10/210) ح 10354. (ص 217) ح 459. 4 بصري، أصله واسطي، ثقة وكان يدلس تدليساً شديداً، من الثامنة، مات سنة 190 هـ/ ع. (التقريب 416) . 5 ابن عبد الله، ويقال: ابن عبد الرحمن، أبو سلمة الكوفي، ثقة عابد، لم يصح أنَّ القطان طَعَنَ فيه، من السادسة، مات سنة 144 هـ/ م ت س ق. (التقريب552) . 6 المسعودي، أبو عبد الرحمن، الكوفي، ثقةٌ عابدٌ، من الرابعة، مات سنة 120 هـ أو قبلها/ خ 4. (التقريب 450) . 7 عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي، الكوفي، ثقة، من صغار الثانية، مات سنة79 هـ، وقد سمع من أبيه، لكن شيئاً يسيراً / ع. (التقريب 344) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وهذا الإسناد رجاله ثقات، غير أنه يُخْشَى من عَدَمِ سماع عبد الرحمن بن عبد الله هذا الحديث من أبيه، فإنه قد تُكُلِّمَ في سماعه منه، واختلف الأئمة في ذلك، فمنهم من أثبت له السماع، ومنهم من نفاه، وقال علي بن المديني: "سمع من أبيه حديثين: حديث الضبِّ، وحديث تأخير الوليد للصلاة"1. وفي الإسناد أيضاً: عمر بن علي الْمُقَدَّمي، وهو شديد التدليس، كما وصفه بذلك ابن حجر2 رحمه الله، ولكنه صَرَّحَ هنا بالسماع، فانتفى بذلك احتمال تدليسه. وذكر له الشيخ الألباني شاهداً ثالثاً3: من رواية امرأة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعزاه لأبي يعلى4، وقال: "بسند صحيح رجاله ثقات رجال مسلم، غير إبراهيم بن الحجاج، وهو ثقة". ثم نقل عن الهيثمي قوله: "رجاله ثقات"5. وصحح إسناده أيضاً: محقق المسند. فَتَحَصَّلَ من ذلك: أن حديثَ الباب وإن كان فيه ضعف، فإنه يَتَقَوَّى بهذه الشواهد، ويصير بذلك حسناً على أقل أحواله. أما تصحيح   1 تهذيب التهذيب: (6/215 - 216) . وانظر: جامع التحصيل: (ص 272) . 2 طبقات المدلسين: (ص 130) في الطبقة الرابعة، وانظر: تهذيب التهذيب: (7/486) . 3 إرواء الغليل: (7/27) . 4 المسند: (13/78) ح7153. 5 مجمع الزوائد: (5/22) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 ابن القَيِّم - رحمه الله - إياه فلا يوافق عليه، لما تقدم من الكلام في طرقه، فلعله - رحمه الله - وقف عليه من طرق صحيحة غير هذه، أو قصد: أنه صحيح بشواهده، والله أعلم. وقد رمز له السيوطي بالصحة1، وصححه الشيخ الألباني2، مع ما تقدم من تصحيح الترمذي والحاكم والذهبي لرواية عائشة رضي الله عنها.   1 الجامع الصغير مع فيض القدير: (1/296) ح476. 2 إرواء الغليل: (7/24) ح 1965، وصحيح الجامع رقم: (380) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 2 - باب ما يقول إذا دخل السوق 119- (2) عن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ دَخَل السُّوق فقال: لا إِلَهَ إلاّ الله وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، له الْمُلْكُ وله الحَمْدُ، يُحْيِي ويُمِيتُ، وهو حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخير، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَدير: كُتِبَ له ألفُ ألفِ حسنة، ومُحِيَ عنه ألفُ ألفِ سيئة، وَرُفِعَ لَهُ ألفُ ألفِ درجة". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (تهذيب السنن) 1 ثم قال: "حديثٌ معلولٌ، لا يثبتُ مثله، وذكر له الترمذيُّ طرقاً". ثم ذكر هذه الطرق، وبيّن عِلَّةَ كل طريق منها: أما الطريق الأولى: فإنها أمثل طرقه، لكن فيها أزهر بن سنان، وهو لا بأس به، وقد تكلم فيه بعضهم. وأما الطريق الثانية: ففيها عمرو بن دينار2، وقد ضُعِّفَ. وأما الطريق الثالثة: ففيها عمران بن مسلم، وهو منكر الحديث. قلت: هذا الحديث مداره على: سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله، عن جَدِّه عمر رضي الله عنه. وله عن سالم طرق:   (7/336 - 337) . وانظر: المنار المنيف: (ص41 - 43) . 2 البصري، الأعور، قهرمان آل الزبير، أبو يحيى، ضعيفٌ، من السادسة / ت ق. (التقريب 421) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 الطريق الأول: رواه عمرو بن دينار، عن سالم به. أخرجه: ابن ماجه في (سننه) 1، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 2، وابن السني في (عمل اليوم والليلة) 3، والطبراني في (الدعاء) 4، كلهم من طريق: حماد بن زيد. وأخرجه الترمذي في (جامعه) 5 من طريق: المعتمر بن سليمان وحماد بن زيد. وأخرجه الطبراني في (الدعاء) 6 من طريق: ثابت بن يزيد7. وأخرجه الطبراني في (الدعاء) 8 - أيضاً - من طريق: عبد الله بن بكر السهمي9، عن هشام بن حسان. جميعهم عن: عمرو بن دينار، عن سالم به.   (2/752) ح 2235. ك التجارات، باب الأسواق ودخولها. 2 حم: (1/47) . طس: (ح 12) . (ص95) ح182. باب ما يقول إذا دخل السوق. (2/1165) ح789، باب القول عند دخول الأسواق. (5/491) ح3429. ك الدعوات، باب ما يقول إذا دخل السوق. (2/1166) ح791. 7 الأحول، أبو زيد البصري، ثقة ثَبْتٌ، من السابعة، مات سنة 169 هـ/ع. (التقريب 133) . (2/1166) ح790. 9 أبو وهب البصري، ثقةٌ، مات سنة 208 هـ / ع. (التقريب 297) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 وخالف فضيل بن عياض1 عبد الله السهمي، فرواه عن: هشام بن حسان، عن سالم، عن ابن عمر2. فأسقط منه "عمرو بن دينار" و"عمر ابن الخطاب". وخالفهما: سويد بن عبد العزيز، فرواه عن: هشام، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب موقوفاً عليه3، ولم يذكر فيه "سالماً". وقد أُعِلَّ هذا الطريق بعلل: أولها: أنه مضطرب، قال الإمام الدارقطني - بعد أن ذكرَ أوجه الاختلاف فيه -: "ويشبه أن يكون الاضطراب فيه من عمرو بن دينار"4. ثانيها: ضعف عمرو بن دينار5، وقد أَعَلَّهُ بذلك الدارقطني أيضاً6. ثالثها: نكارته، قال أبو حاتم: "هذا حديث منكر جداً، لا يحتمل سالم هذا الحديث"7.   1 ابن مسعود التميمي، أبو علي، الزاهد المشهور، ثقةٌ عابدٌ إمامٌ، من الثامنة، مات سنة 187 هـ، وقيل: قبلها/ خ م د ت س. (التقريب 448) . 2 انظر: علل الدارقطني: (2/49) . 3 المصدر السابق. 4 علل الدارقطني: (2/49) . 5 انظر أقوال العلماء فيه في: تهذيب التهذيب: (8/30 - 31) . 6 علل الدارقطني: (2/49) . 7 علل ابن أبي حاتم: (2/171) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 الطريق الثاني عن سالم: رواه عنه محمد بن واسع1. أخرجه الترمذي في (جامعه) 2، والدارمي في (مسنده) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، والعقيلي في (الضعفاء) 5 كلهم من طريق: يزيد بن هارون. وأخرجه الطبراني في (الدعاء) 6 من طريق: سعيد بن سليمان الواسطي. كلاهما عن: أزهر بن سنان7، عن محمد بن واسع قال: قدمتُ مكة فلقيني أخي سالم بن عبد الله بن عمر، فَحَدَّثَنِي عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ... فذكره. وزاد الدارمي والعقيلي قول محمد بن واسع: "فقدمت خراسان فلقيتُ قتيبة بن مسلم، فقلت: إني أتيتك بهدية، فحدثته، فكان يركب في موكبه، فيأتي السوق، فيقوم فيقولها، ثم يرجع". ووقع في المستدرك: "قدمت المدينة" بدل "مكة". ولعله خطأ.   1 ابن جابر بن الأخنس الأزدي، أبو بكر أو أبو عبد الله، البصري، ثقةٌ عابدٌ كثيرُ المناقب، من الخامسة، مات سنة 123 هـ/ م د ت س. (التقريب 511) . (5/491) ح 2428. (2/203) ح2695، ك الاستئذان، باب ما يقول إذا دخل السوق. (1/538) . (1/133) . (2/1167) ح792. 7 البصري، أبو خالد القرشي، ضعيف، من السابعة/ ت. (التقريب 97) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وأزهر بن سنان ضعيف، قال ابن معين: "لا شيء"1. ولَيَّنَه الإمام أحمد2. وقال الساجي: "فيه ضعف"3. وقال العقيلي: "في حديثه وهم"4. وقال ابن حبان: " ... منكر الرواية في قلته، لم يتابع الثقات فيما رواه"5. وقال الذهبي: "فيه لين"6. قلت: ومع ضعف أزهر هذا، فقد خالفه فيه يزيد الدورقي صاحب الجواليق7، فقد أخرج العقيلي في (ضعفائه) 8 من حديث إبراهيم بن حبيب بن الشهيد9، قال: حدثنا يزيد الدورقي أبو الفضل - صاحب الجواليق - قال: كان محمد بن واسع الأزدي لا يزال يجيء إلى دكان، فيقعد ساعة في أصحاب الجواليق، فنرى أنه يذكر ربه، فحدثنا، قال: كنت بخراسان مع قتيبة، فاستأذنته في الحج، فأذن لي، فلقيت سالم ابن عبد الله، فسمعته يذكر: أنه من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله ... قال: فلما رجعت إلى خراسان قال لي قتيبة: ما أفدتنا؟ فحدثته بهذا   1 الجرح والتعديل: (1/1/ 314) . 2 تهذيب التهذيب: (1/204) . 3 المصدر السابق. 4 تهذيب الكمال: (2/327) . ولم أجده في العقيلي. 5 المجروحين: (1/178) . 6 المغني: (1/65) . 7 الجُوَالِقَ: وعاءٌ. والجمع: الجَوَالِقَ، بالفتح، والجَوَالِيق. (مختار الصحاح 106) . (1/134) . 9 الأزدي، أبو إسحاق البصري، ثقةٌ، من التاسعة، مات سنة 203 هـ/ س. (التقريب 88) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 الحديث. فكان قتيبة يركب في الأيام، فيقف في السوق فيقولها أربعين مرة، ثم ينصرف. فهو هنا موقوفٌ على سالم من قوله، ولم أقف - بعد البحث - على ترجمة يزيد صاحب الجواليق، لكن قدم العقيلي هذه الرواية على رواية أزهر السالفة، فقال: "وهذا أولى من حديث أزهر"1. وقد حكم الأئمة على رواية أزهر بالنكارة والضعف، فقد نقل أبو غالب الأزدي عن علي بن المديني أنه ضعّف أزهر بن سنان جداً في حديث رواه عن محمد بن واسع، وأشار ابن حجر - رحمه الله - إلى أن المقصود هو هذا الحديث2. وحكم أبو حاتم على الحديث بالنكارة، وحمل ذلك على محمد بن واسع، فقال: "روى عن سالم، عن ابن عمر حديثاً منكراً"3. لكن تعقبه الذهبي رحمه الله، فقال: "النكارة إنما هي من قِبَلِ الراوي عنه"4. يعني: أزهر بن سنان. فقد تَبَيَّنَ من ذلك أن حديث أزهر هذا ضعيف السَّنَد، وأنَّ الصَّوابَ وقفه على سالم بن عبد الله بن عمر، مع الحكم بنكارته: ربما من أجل متنه كما سيأتي، وربما من أجل المخالفة في إسناده، فإن المشهور أنه: عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله.   1 الضعفاء: (1/134) . 2 تهذيب التهذيب: (1/204) . 3 الجرح والتعديل: (4/1/ 113) . 4 الميزان: (4/58) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 ومن أجل ذلك فقد حكم الترمذي على حديث أزهر هذا بالغرابة، فقال: "هذا حديث غريب". ولهذا الحديث طريق ثالث: أخرجه الترمذي في (علله) 1 - وعلقه في (جامعه) 2 - والعقيلي في (الضعفاء) 3، والحاكم في (المستدرك) 4 من طريق: يحيى بن سليم الطائفي، عن عمران بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعاً. وعمران بن مسلم اختلف فيه الأئمة في هذا الحديث: هل هو عمران القصير أم غيره؟ فَفَرَّقَ البخاريُّ بينهما، وجعل الراوي هنا غير القصير، فقد سأله الترمذي: من عمران بن مسلم هذا، هو عمران القصير؟ فقال البخاري: "لا، هذا شيخ منكر الحديث"5. وفرق بينهما العقيلي في (الضعفاء) 6، وكذا ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 7. وخالفهم في ذلك الدارقطني رحمه الله، فقال: "وقد قيل إن   (2/912) باب ما يقول إذا دخل السوق. (5/492) . (3/304) . (1/539) . 5 علل الترمذي: (2/912) . (3/304 - 305) . (3/1/304 - 305) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 عمران بن مسلم هذا ليس بعمران القصير، ذكره أبو عيسى ... عن البخاري، وهو عندي عمران القصير ... ليس فيه شك"1. وحاصل الخلاف في ذلك: أَنَّ عمران القصير من رجال الصحيح، أما الآخر - فكما قال البخاري -: منكر الحديث، ولكن مهما يكن من أمر فإن هذه الرواية قد ضَعَّفَها الأئمة، فقال الإمام البخاري - لما سأله عنها الترمذي -: "هذا حديث منكر"2. وكذا قال أبو حاتم3 رحمه الله. وقال ابن أبي حاتم: "وهذا الحديث هو خطأ، إِنَّمَا أراد: عمران ابن مسلم، عن عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير، عن سالم، عن أبيه. فغلط وجعل بدل عمرو: عبد الله بن دينار، وأسقط سالماً من الإسناد"4. ثم ساقه بإسناده إلى عمران بن مسلم على الصواب. قلت: وعلى قول من ذهب إلى أن عمران هذا هو القصير، فَإِنَّه - أيضاً - ينفردُ بأشياء لا يرويها غيره5. وقد ذكره ابن حبان في (الثقات) 6 لكنه قال: "إلا أن في رواية يحيى بن سليم عنه بعض   1 علل الدارقطني: ج4 ق (58/ أ) . 2 علل الترمذي: (2/912) . 3 علل ابن أبي حاتم: (2/181) . 4 المصدر السابق. 5 انظر: تهذيب التهذيب: (8/138) . (7/242) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 المناكير ... ". وهذا الحديث هو من رواية يحيى بن سليم عنه، فيكون قد وقع فيه خطأ على ما بَيَّنَ ابن أبي حاتم رحمه الله، ويرجع الحديث بذلك إلى رواية عمرو بن دينار عن سالم المتقدمة، وقد تبين ما فيها من مقال. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أنَّ أسانيدَ هذا الحديثِ لا تخلو من مقال، قال العقيلي رحمه الله: "والأسانيد فيه فيها لين"1. وقد مضى معنا حكم جماعة من العلماء عليه بالنكارة، فقد تكون النكارة في متنه من جهة ذكر هذا العدد فيه على هذه الصورة، وقد أشار إلى ذلك الإمام الشوكاني بقوله: " ... وإن كان في ذكر العدد على هذه الصفة نكارة"2. فقد علم أن من جملة القرائن التي يستدل بها على بطلان الحديث: اشتماله على الإفراط بالوعد العظيم على الفعل اليسير3. وقد ضَعَّفَهُ أيضاً الأئمة: النسائي، والدارمي، وأبو زرعة كما في (كشف الخفاء) 4. وقال العلامة أحمد شاكر: "إسناده ضعيف جداً"5. يشير إلى رواية عمرو بن دينار المتقدمة. وأما جعل البغوي له في (مصابيح السنة) 6 من قسم الحسن،   1 الضعفاء: (3/ 305) . 2 تحفة الذاكرين: (ص 209) . 3 انظر: النكت على ابن الصلاح، لابن حجر: (2/843) . (2/248) ح2472. 5 التعليق على المسند: (1/297) ح327. (1/118) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 وكذا تحسين الشوكاني له1، ثم الشيخ الألباني2: فلم أر أن الصواب قد حالفهم في ذلك، ويكون ابن القَيِّم - رحمه الله - بذلك قد أصاب في إعلاله هذا الحديث، وقوله إنه "لا يثبت مثله" والله تعالى أعلم.   1 تحفة الذاكرين: (ص 209) . 2 في صحيح الجامع: (ح 6231) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 3 - باب من قال: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند العطاس 120- (3) عن عبد الرحيم بن زيد العَمِّي، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذكروني عند ثلاث: تسمية الطعام، وعند الذبح، وعند العطاس". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث دليلاً للقائلين بعدم استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند العطاس، ثم قال: "لا يصح ... وله ثلاث علل: إحداها: تَفَرُّدُ سليمان بن عيسى به، قال البيهقي: وهو في عِدَادِ من يَضَعُ الحديث. الثانية: ضَعْفُ عبد الرحيم العَمِّي. الثالثة: انقطاعه"1. قلت: هذا الحديث أخرجه البيهقي في (سننه) 2 من طريق: يحيى ابن يحيى، عن سليمان بن عيسى3، عن عبد الرحيم بن زيد4 العمي، عن أبيه5، عن النبي صلى الله عليه وسلم به.   1 جلاء الأفهام: (ص 237) . (9/286) . 3 هو: سليمان بن عيسى بن نجيح السجزي. 4 ابن الحواري، البصري، أبو زيد، متروك، كَذَّبَهُ ابن معين، من الثامنة، مات سنة 184 هـ / ق. (التقريب 354) . 5 زيد بن الحواري، أبو الحواري، قاضي هَرَاة، ضعيف، من الخامسة/4. (التقريب223) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 وقد ذكر البيهقي - رحمه الله - العلل الثلاث، وأشار إلى عِلَّةٍ رابعة لم يَتَعَرَّض لها ابن القَيِّم رحمه الله، وهي: ضعف زيد العَمِّي، والد عبد الرحيم. أما العلة الأولى، وهي الكلام في سليمان بن عيسى: فإنه كما قال البيهقي، فقد قال الجوزجاني: "كان كَذَّابَاً مُصَرِّحَاً"1. وقال أبو حاتم: "رَوَى أحاديث موضوعة، وكان كَذَّابَاً"2. وقال الذهبي: "هالكٌ"3. وتتمة كلام البيهقي - كما في (السنن) 4 له -: "ولو عرف يحيى بن يحيى حالَه، لما استجازَ الرواية عنه". وأما العِلَّةَ الثانية، وهي ضَعْفُ عبد الرحيم العَمِّي: فإن حاله أسوأ مما قال ابن القَيِّم رحمه الله، فقد كَذَّبَه ابن معين5. وقال البخاري: "تركوه"6. وقال النسائي: "متروك"7. وقال أبو حاتم: "ترك حديثه"8. وقال أبو زرعة: "واهي، ضعيف الحديث"9. وقال   1 أحوال الرجال: (ص 207) . 2 الجرح والتعديل: (2/1/ 134) . 3 الميزان: (2/218) . (9/286) . 5 الميزان: (2/605) . 6 الضعفاء الصغير: (ص 157) . 7 الضعفاء والمتروكين: (ص 69) . 8 الجرح والتعديل: (2/2/340) . 9 المصدر السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 الجوزجاني: "غير ثقة"1. وقال ابن حبان: "يروي عن أبيه العجائب، لا يشك من الحديث صناعته أنها معمولة أو مقلوبة كلها ... "2. وقال الحافظ ابن حجر: "متروك". وأما أبوه زيد: فإنه وإن كان أحسن حالاً من ولده، إلا أنه قد ضُعِّفَ أيضاً، فقال ابن معين: "ليس بشيء"3. وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث، يُكْتَبُ حديثه ولا يحتجُّ به"4. وقال ابن حبان في ترجمة ابنه: " ... فأما ما روى عن أبيه: فالجرحُ ملزقٌ بأحدهما أو بهما"5. وقد سبق التنبيه على أنَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يذكر سوى ثلاث علل، ولم يذكر ضعف "زيد العمي" والد عبد الرحيم، ولعل السبب في ذلك هو أنه أورد الحديث من رواية: عبد الرحيم بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بدون ذكر أبيه، ولكن الحديث في (سنن البيهقي) : عن عبد الرحيم بن زيد، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب. وأما العلة الثالثة، وهي انقطاعه: فلم يذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - وجهه، ولعل موضعه: بين زيد العمي والنبي صلى الله عليه وسلم، فإن زيداً هذا لم   1 أحوال الرجال: (ص 197) . 2 المجروحين: (2/161) . 3 رواية الدقاق عن ابن معين: (ص 40) رقم 47. 4 الجرح والتعديل: (1/2/560) . 5 المجروحين: (2/161) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 يدرك النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً، بل تُكُلِّم في روايته عن مرة الهمداني1. فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن الحديث لا يصحُّ كما قال ابن القَيِّم رحمه الله، بل قال الشيخ الألباني: "موضوع"2.   1 انظر: (المراسيل) لابن أبي حاتم: (ص 65) . 2 السلسلة الضعيفة: (ح 539) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 19- من كتاب الفضائل 1 - باب في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 121- (1) عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "مَنْ صَلَّى عَلَيّ صَلاةً لَمْ تَزَل الملائكةُ تُصَلِّي عليه ما صَلَّى عَلَيَّ، فَلْيُقِلَّ عَبدٌ من ذلك أو لِيُكْثِرْ". أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث من طريق الإمام أحمد، بإسناد فيه عاصم بن عبيد الله، ثم أورده من طريق عبد الرزاق: عن عبد الله بن عمر العمري بلفظ قريب، ثم قال: "وعاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر العُمَرِي، وإن كان في حديثهما بعض الضعف، فرواية هذا الحديث من هذين الوجهين المختلفين، يدلُّ على أن له أصلاً، وهذا لا ينزل عن وسط درجات الحسن"1. قلت: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 3، وإسماعيل بن محمد الأصبهاني في (الترغيب والترهيب) 4 وإسماعيل بن إسحاق القاضي في (فضل الصلاة على   1 جلاء الأفهام: (ص 29) ح 46، 47. (1/ 294) ح 907، ك إقامة الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. 3 حم: (3/ 445) . طس: (ح 1142) . (2/ 686) ح 1652، باب الترغيب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 النبي) 1 - وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) 2 من طريق الطيالسي - كلهم من طريق: شعبة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر، عن أبيه عامر بن ربيعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به. واللفظ المذكور هو لفظ الإمام أحمد، وفيه قول عامر بن ربيعة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول ... فذكره، وألفاظ الباقين بنحوه. وهذا الإسناد ضعيف من أجل عاصم بن عبيد الله؛ فإن الجمهور على ضعفه3، بل قال فيه البخاري4، وأبو زرعة، وأبو حاتم5: "منكر الحديث". وقال الدارقطني: "مدنيٌّ يترك هو مُغَفَّلٌ"6. قلت: وكأنَّ الكلام فيه من قِبَلِ حفظه، فقد كان يخطئ ويَهِمُ، ومع ذلك فقد احتمله البعضُ، قال العجلي: "لا بأس به"7. وقال ابن عدي: "روى عنه ثقات الناس واحتملوه، وهو مع ضَعْفِهِ يُكْتَبُ حديثه"8. وقد جعله بعضُ الأئمة في مرتبة عبد الله بن محمد بن عقيل،   1 انظره مع تخريج الألباني: (ص 27) ح6. (1/ 180) . 3 انظر ترجمته في: الميزان: (2/353 - 354) . وتهذيب التهذيب: (5/46 - 49) . 4 الضعفاء الصغير: (ص 180) . 5 الجرح والتعديل: (3/ 1/ 348) . 6 سؤالات البرقاني للدار قطني: (ص 49) رقم 339. 7 الثقات: (بترتيب الهيثمي) : (ص 241) . 8 الكامل: (5/ 228) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 فقال يحيى القطان: "هو عندي نحو ابن عقيل"1. وقال الإمام أحمد: "ما أَقْرَبُهُمَا"2. والمعلوم أنَّ ابن عقيل صدوقٌ، قد احتمله بعض الأئمة، وقال البخاريُّ رحمه الله: "كان أحمد، وإسحاق، والحميدي يحتجون بحديثه"3. وقال الذهبي: "حديثه في مرتبة الحسن"4. فهذا حال عبد الله بن عقيل، وإذا كان عاصم - بمقتضى كلام هؤلاء الأئمة - في رتبته، فإن حاله يكون كحاله، وأمره يحتمل كأمره. وقد روى عنه شعبة مع تشدده في الرجال، ولم يكن يروي إلا عن ثقة إلا في النادر، قال السخاوي: " ... وعلى كل حال: فهو لا يروي - يعني شعبة - عن متروك، ولا من أجمع على ضعفه"5. وهذا الحديث من روايته عنه. وأيضاً: فالترمذي - رحمه الله - يصحح كثيراً من حديثه، ولذلك فقد جعله الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - في قسم المختلف فيهم: هل هم ممن غلب على حديثهم الوهم والغلط أم لا؟ 6. وما دامَ الرجلُ بهذه المثابة، وأنَّ بعضَ الأئمةِ قد احتملوه، ولم يُجْمِع أهل هذا الشأن على ضعفه، وروى عنه أئمة معتبرون،   1 تهذيب التهذيب: (5/ 47) . 2 المصدر السابق. 3 شرح علل الترمذي: (ص 249) ، والميزان: (2/ 484) . 4 الميزان: (2/ 485) . 5 فتح المغيث: (1/ 314) . 6 شرح علل الترمذي: (ص 249) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وصَحَّحَ - مع ذلك - له مثل الترمذي، فإن حديثه يكون مُحْتَمَلاً، وبخاصة إذا تابعه غيره ممن هو مثله أو أعلى منه رتبة، وسيأتي أنه توبع على هذه الرواية. ولذلك فقد قَبلَ هذا الحديث بعضهم، وجعله حسناً، فقال المنذري رحمه الله: "وعاصم وإن كان واهي الحديث، فقد مشاه بعضهم وصحح له الترمذي، وهذا الحديث حسن في المتابعات"1. وَحَسَّنَه كذلك الحافظ ابن حجر2. ووافقهما على ذلك السخاوي3 رحمه الله. وقد ذكر السخاويُّ أن عاصماً اختلف عليه في هذا الحديث، فقيل: عنه، عن عبد الله بن عامر، عن أبيه كما مضى. وقيل: عنه، عن عبد الله بن عامر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. لكن صحح السخاوي كونه عن عامر بن ربيعة، فقال: "وهو أصح"4. وقد تُوبعَ عاصمٌ على رواية هذا الحديث، تابعه: عبد الرحمن بن القاسم5، وذلك فيما أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 6 - ومن طريقه   1 الترغيب والترهيب: (2/ 500) ح 19. 2 القول البديع: (ص 121) . 3 المصدر السابق. 4 المصدر السابق: (ص 114) . 5 ابن محمد بن بكر الصديق، التيمي، أبو محمد المدني، ثقة جليل، من السادسة، مات سنة 126 هـ، وقيل بعدها / ع. (التقريب 348) . (2/ 215) ح 3115. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 أبو نعيم في (الحلية) 1 - عن: عبد الله بن عمر2، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عبد الله بن عامر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "من صَلَّى عليّ صلاةً، صَلَّى الله عليه، فأكثروا أو أَقِلُّوا". وعند أبي نعيم: "من صَلَّى عليّ صَلاةً، صَلَّى الله عليه عشراً ... ". وقد سقط من مصنف عبد الرزاق "عبد الرحمن بن القاسم" وجاء تاماً في (الحلية) ، وكذا ساقه ابن القَيِّم - رحمه الله - من طريق عبد الرزاق تاماً3. فهذه متابعة جيدةٌ من عبد الرحمن بن القاسم - وهو إمام جليل - لعاصم بن عبيد الله، وهي وإن اختلف لفظها قليلاً عن لفظ رواية عاصم، إلا أن المعنى متقارب، وتشهد لها في الجملة. وأما وجود عبد الله العمري في سند هذه المتابعة فإنه لا يَضُرُّ؛ لأنَّه وإن ضُعِّفَ، إلا أن أمره قد احْتُمِل، قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "وحديثه يتردد فيه الناقد، أما إن تَابَعَه شيخ في روايته: فذلك حسن قوي إن شاء الله"4. ولَمَّا لم ينفردْ برواية هذا الحديث، وإنما جاء من وجهٍ   (1/ 180) . 2 ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن، العمري، المدني، ضعيف عابد، من السابعة، مات سنة 171 هـ/ م 4. (التقريب 314) . 3 جلاء الأفهام: (ص 29) ح 47. 4 سير أعلام النبلاء: (7/ 341) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 آخر كما تقدم، فإنَّ الأمر يكون على ما وصف الذهبي إن شاء الله، ويتأيد حينئذ قول ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فرواية هذا الحديث من هذين الوجهين المختلفين، يدلُّ على أن له أصلاً". وقد قَوَّى الشيخ الألباني - رحمه الله - حديث عاصم السابق بهذه المتابعة، فقال: "ثم وجدتُ لعاصم متابعاً عند أبي نعيم في (الحلية) ، فالحديث حسن على الأقل"1. وحَسَّنَه كذلك في صحيح ابن ماجه2. فتلخص من ذلك: أن الحديثَ وإن كان فيه بعض الضعف، فإنَّه يَتَقَوَّى بمجيئه من وجهين مختلفين، وأن ذلك لا يقل عن وسط درجات الحسن، كما قال ابن القَيِّم رحمه الله.   1 تخريج أحاديث فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لإسماعيل القاضي: (ص 27) ح6. (ح 379) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 2 - باب ما جاء في فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة 122- (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "مَنْ قَرَأ سورةَ الكهف يوم الجمعة، سَطَعَ له نور من تحتِ قدمه إلى عَنَانِ1 السَّمَاء، يُضيء به يوم القيامة، وغُفِرَ له ما بين الجمعتين ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث ضمن كلامه على خصائص يوم الجمعة، وصدره بصيغة التمريض: "رُوِي" ثم قال: "وذكره سعيد بن منصور من قول أبي سعيد الخدري، وهو أشبه"2. قلت: أما حديث أبي سعيد، فقد أخرجه: الحاكم في (المستدرك) 3 - وعنه البيهقي في (سننه) 4 - من طريق: نعيم بن حماد5، عن هشيم، عن أبي هاشم6، عن أبي مجلز7،   1 العَنَانُ: السَّحَاب، وزناً ومعنىً، واحدته: عَنَانَة، وقيل: ما عَنّ لك منها، أي اعترض وبدا لك إذا رفعت رأسك. (النهاية 3/ 313، المصباح المنير ص 433 - عنن) . 2 زاد المعاد: (1/ 377 - 378) . (2/ 368) . (3/ 249) . 5 ابن معاوية بن الحارث الخُزَاعي، أبو عبد الله المروزي، نزيل مصر، صدوق يخطئ كثيراً، فقيه عارف بالفرائض، من العاشرة، مات سنة 228 هـ على الصحيح / خ مق د ت ق. (التقريب 564) . 6 الرُّمَّاني، الواسطي، واسمه: يحيى بن دينار، ثقة، من السادسة، مات سنة 122 هـ/ ع. (التقريب 680) . 7 هو: لاحق بن حميد بن سعيد السَّدوسي، البصري، مشهور بكنيته، ثقة، من كبار الثالثة، مات سنة 106 هـ وقيل: 109هـ/ ع. (التقريب 586) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 عن قيس بن عباد1: عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قَرَأَ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين ". قال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". لكن تعقبه الذهبي فقال: "نعيم ذو مناكير". وقد تابع نعيمَ بن حماد على هذه الرواية: يزيدُ بن مخلد بن يزيد2، عن هشيم، وقال فيه: "أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق". أشارَ إلى هذه المتابعة: البيهقي في (سننه) 3. وخالفهما: سعيد بن منصور، وأبو النعمان، وأبو عبيد، وأحمد بن خلف البغدادي، فرووه عن هشيم، فجعلوه موقوفاً على أبي سعيد من قوله. أما حديث سعيد بن منصور: فهو في (سننه) ، كما أشار البيهقي - رحمه الله - إلى ذلك4. ورواية أبي عبيد: أخرجها في (فضائل القرآن) 5 له، قال: حدثني هشيم. وأخرج الدرامي في (مسنده) 6 رواية   1 الضبعي، أبو عبد الله البصري، ثقة مخضرم، من الثانية، مات بعد سنة 80 هـ، ووهم من عده من الصحابة / خ م د س ق. (التقريب 457) . 2 له ترجمة في الجرح والتعديل: (4/ 2/ 291) وسكت عنه ابن أبي حاتم. (3/ 249) . 4 في سننه: (3/249) . ولم أقف عليه في القسم المطبوع من سنن سعيد بن منصور. (2/52) ح 459. (2/326) ح3410. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 أبي النعمان1: حدثنا هشيم. وأما رواية أحمد بن خلف: فأخرجها ابن الضريس في (فضائل القرآن) 2 عن هشيم، والخطيب في (تاريخ بغداد) 3 بإسناده إلى هشيم. وجاء عند هؤلاء: " ... أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق". فهؤلاء الأربعة قد رووه موقوفاً، وفيهم إمامان جليلان: سعيد ابن منصور، وأبو عبيد، وأما أبو النعمان: فهو ثقة أيضاً، إلا أنه تغير بآخرة. وأحمد بن خلف: ذكره الخطيب في (تاريخه) 4، وقال: "وهو شيخ غير مشهور عندنا". ولا شَكَّ أن رواية من وقفه أرجحُ من الأخرى؛ إذ هم أوثق، وأشهر، وأثبت ممن رفعوه، فنعيم بن حماد - أحد رواة الرفع - كثير الخطأ، ويزيد بن مخلد - مُتَابِعُهُ - شبه المجهول، فلا يقاومان هؤلاء الأئمة. وقد وقع في بعض ألفاظه: "ليلة الجمعة" بدل: "يوم الجمعة"، وانفرد بذلك أبو النعمان دون سائر من رواه، وذلك فيما أخرجه الدارمي، ولعل ذلك من تخليط أبي النعمان المعروف بـ"عارم"؛ فإنه اختلط في آخر حياته.   1 هو: محمد بن الفضل السدوسي، لقبه: عارم، ثقة تغير في آخر عمره، من صغار التاسعة، مات سنة 223 أو 224 هـ /ع. (التقريب 502) . (ص 164) ح 212. (4/ 134 - 135) . (4/ 134) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 ووقع فيه اختلاف آخر، إذ إن سائر الروايات قد وردت بلفظ: " ... ما بينه وبين البيت العتيق". وخالف نعيم بن حماد وحده، فقال: "ما بين الجمعتين"، ولعلَّ ذلك من مناكيره؛ فإنه لم يوافقه على هذه اللفظة أحد، حتى أن يزيد بن مخلد - الذي تابعه على رفع هذا الحديث - جاء به موافقاً للفظ الجماعة، مما يؤكد أن نعيم بن حماد قد أخطأ في متنه كما أصابه الخطأ في سنده. وقد تُوبع هشيمٌ على معنى هذا الحديث، تابعه: سفيان الثوري، وشعبة. أما حديث سفيان: فأخرجه النسائي في (عمل اليوم والليلة) 1، وعبد الرزاق في (مصنفه) 2، والحاكم في (المستدرك) 3 - وأشار إليه البيهقي4 - كلهم من طريق: سفيان، عن أبي هاشم، بالإسناد الماضي إلى أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: "من قَرَأَ سورة الكهف كما أنزلت، ثم أدرك الدجال، لم يُسَلَّطْ عليه، أو لم يكن له عليه سبيل، ومن قرأ سورة الكهف كان له نوراً من حيث قرأها ما بينه وبين مكة". هذا لفظ النسائي، ونحوه لفظ عبد الرزاق، والحاكم، ووقع في أوله عند عبد الرزاق: "من توضأ ثم فرغ من وضوئه،   (ص 529) ح 954. (3/ 378) ح 6023. (1/ 564) ، (4/ 511) . (3/ 249) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. خُتِمَ عليها بخاتم، فوضعت تحت العرش، فلا تكسر إلى يوم القيامة، ومن قرأ سورة الكهف ... ". وهذا وإن لم يكن فيه النص على "يوم الجمعة"، إلا أنه في جملته يشهد لحديث هشيم الماضي، ويؤكد صحة من أتى به عنه موقوفاً، فقد اتفق عبد الرزاق، وعبد الرحمن بن مهدي على روايته عن سفيان موقوفاً على أبي سعيد. قال أبو عبد الله الحاكم: "حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وأما شعبة: فقد اختلف عليه فيه، فأخرجه النسائي في (اليوم والليلة) 1 من طريق: غندر، عن شعبة، به موقوفاً. وأخرجه النسائي2 أيضاً، والطبراني في (الأوسط) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، ثلاثتهم من طريق: يحيى بن كثير5، عن شعبة به مرفوعاً. ولفظه بنحو لفظ حديث الثوري، إلا أن عندهم: " ... ومن قرأ بعشر آيات من آخرها، فخرج   (ص 528) ح 953. (ص 528) ح 952. (2/271) ح 1478. (1/564) . 5 ابن درهم العنبري مولاهم، البصري، أبو غسان، ثقة، من التاسعة، مات سنة 206 هـ/ ع. (التقريب 595) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 الدجال ... ". وعند الطبراني زيادة دعاء الوضوء الماضي في حديث الثوري. قال النسائي عقبه: "الصواب في هذا الحديث موقوف"1. وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث مرفوعاً عن شعبة إلا يحيى بن كثير". ومال الدارقطني إلى ترجيح الوقف أيضاً، فقال: " ... وقيل ... عن يحيى، عن شعبة مرفوعاً، ولم يثبت، ورواه غندر وأصحاب شعبة، عن شعبة موقوفاً"2. فَتَبَيَّنَ من ذلك صِحَّة رواية الوقف عن شعبة، وبذلك توافق رواية الثوري وهشيم المتقدمتين، ويترجح بذلك كون الموقوف عن أبي سعيد أصحّ. فإذا ثبت أنَّ الصواب في هذا الحديث الوقف، فإنَّه يكون من قبيل المرفوع، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ومثله لا يقال من قبل الرأي، فله حكم المرفوع"3. هذا فيما يتعلق بحديث أبي سعيد. وأما اللفظ الذي ذكره ابن القَيِّم رحمه الله، وهو: "من قَرَأَ سورة   1 وهذه العبارة ليست في المطبوع من (اليوم والليلة) لكن استدركها المحقق من هامش إحدى النسخ، وكذا نقلها عن النسائي: الهيثمي في مجمع الزوائد: (1/ 239) . 2 العلل: ج4 (ق 2/ أ) . 3 النكت الظراف: (3/447) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 الكهف يوم الجمعة، سَطَعَ له نورٌ من تحتِ قدمه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة، وغُفِرَ له ما بين الجمعتين". فليس هذا من حديث أبي سعيد كما هو المتبادر من كلام ابن القَيِّم، وإنما هو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقد عزاه ابن كثير في (تفسيره) 1 إلى ابن مردويه، فقال: "وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره - بإسناد له غريب - عن خالد بن سعيد بن أبي مريم2، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال ... " فذكره، وقال: "وهذا الحديث في رفعه نظر، وأحسن أحواله الوقف". وأورده المنذري في (الترغيب والترهيب) 3، قال: " ... بإسناد لا بأس به". وترجيحُ الحافظ ابن كثير كونه موقوفاً لا يضره، بل يُقال فيه ما قيل في حديث أبي سعيد المتقدم: من أنه موقوف له حكم الرفع. فالحاصل: أن حديثَ ابن عمر هذا يصلح شاهداً في الجملة لحديث أبي سعيد المتقدم، وبخاصة ما جاء في لفظ رواية نعيم بن حماد،   (3/70) . 2 المدني، مولى ابن جدعان، مقبول، من الرابعة/د ق. (التقريب 188) . (1/ 513) ك الجمعة، باب الترغيب في قراءة سورة الكهف ... ليلة الجمعة ويوم الجمعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 عن هشيم عند الحاكم: "أضاء له من النور ما بين الجمعتين". فإنَّ كلاً منهما يشهد للآخر، ويتقوى به. ويتلخص من ذلك: أن الحديثَ الذي أشارَ إليه ابنُ القَيِّم من رواية أبي سعيد صحيحُ الإسنادِ، إلا أنَّ الصوابَ فيه الوقفُ كما اختاره رحمه الله، ومع ذلك فإنَّ له حكم الرفع كما مضى. وله شاهدٌ من حديث ابن عمر، والراجحُ فيه الوقف أيضاً، فيكونُ هو الآخر في حكم المرفوع، وبمجموعهما يتأكد ثبوت الحديث، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 20- من كتاب التفسير 1 - باب في تفسير قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 123- (1) عن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه، قال: "كُلُّ حرفٍ في القرآنِ في القُنُوتِ: فهو الطاعة ". أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث مستدلاً به على ما قاله من رَفْع ابن حبان الموقوفات، فقال: "كما رَفَعَ قولَ أُبَيِّ بن كعب ... وهذا لا يُشْبهُ كلام رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وغايته أن يكون كلام أُبَيٍّ"1. قلت: هذا الحديث مداره على: دَرَّاج2، عن أبي الهيثم3، عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه أحمد، وأبو يعلى في (مسنديهما) 4 من طريق: حسن بن موسى5، عن ابن لهيعة، عن دَرَّاج به.   1 أحكام أهل الذمة: (2/ 623) . 2 ابن سمعان، أبو السَّمْح، قيل: اسمه عبد الرحمن، وَدَرَّاج لقب، السهمي مولاهم، المصري، صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف، من الرابعة، مات سنة 126هـ/ بخ 4. (التقريب 201) . 3 هو: سليمان بن عمرو بن عبد - أو عبيد- الليثي، المصري، ثقة، من الرابعة/ بخ4. (التقريب 253) . 4 حم: (3/ 75) ، يع: (2/ 522) ح 1379. 5 الأشيب، أبو علي البغدادي، قاضي الموصل وغيرها، ثقة، مات سنة 209 أو210هـ/ ع. (التقريب 164) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 وأخرجه ابن حبان في (صحيحه) 1، وابن أبي حاتم في (تفسيره) - كما ساقه عنه ابن كثير2 - كلاهما من طريق: ابن وهب. وأخرجه الطبراني في (الأوسط) 3 من طريق: رشدين بن سعد4، كلاهما عن: عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج به. ولفظه عند الجميع: "كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة". إلا أنه جاء عند الطبراني بلفظ: "كلُّ قنوت في القرآن فهو طاعة". قال الطبراني عقب روايته: "لم يرو هذا الحديث عن عمرو إلا رشدين". وهذا الحديث ضعيفٌ، ضَعَّفَهُ غير واحدٍ من الأئمة، وذلك أن مداره على دَرَّاج أبي السمح، وقد ضَعَّفه الأكثرون، فقال الإمام أحمد: "حديثه منكر"5. وقال النسائي: "ليس بالقوي"6. وقال مرة: "منكر   1 الإحسان: (1/ 264) ح 309. 2 تفسير القرآن العظيم: (1/160-161) . (2/480) ح 1829. 4 ابن مفلح المهري، أبو الحجاج المصري، ضعيف، رَجَّحَ أبو حاتم عليه ابن لهيعة، وقال ابن يونس: "كان صالحاً في دينه فأدركته غفلة الصالحين فَخَلَّطَ في الحديث"، من السابعة، مات سنة 188 هـ / ت ق. (التقريب 209) . 5 تهذيب التهذيب: (3/208) . 6 الضعفاء والمتروكين: (ص 39) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 الحديث"1. وقال الدارقطني: "ضعيف"2 ومرة قال "متروك"3. وقال فضلك الرازي: "ليس بثقة ولا كرامة"4. وضَعَّفَه الإمام أحمد، وأبو داود في روايته عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد خاصة5. وَوَثَّقَه مع ذلك: ابن معين6، وابن حبان7، وابن شاهين8. وقال عثمان الدارمي: "صدوق"9. ويَتَبَيَّنُ من هذا أنَّ جانب الضَّعْفِ أقوى في حقِّ دَرَّاج هذا، وبخاصة في روايته عن: أبي الهيثم، عن أبي سعيد كما قال أحمد، وأبو داود. واختاره ابن حجر. وهذا الحديث من روايته عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، فيكون ضعيفاً، ولذلك قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:   1 تهذيب التهذيب: (3/208) . 2 سؤالات الحاكم للدارقطني: (ص 170) رقم 261. 3 سؤالات البرقاني: (ص 29) رقم 142. 4 تهذيب التهذيب: (3/208) . 5 تهذيب التهذيب: (3/208 - 209) . 6 تاريخ الدوري عن ابن معين: (2/ 155) . 7 الثقات: (5/ 114) . 8 الثقات: (ص 83) . 9 تاريخ الدارمي عن ابن معين: (ص 107) رقم 315. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 "في هذا الإسناد ضعفٌ، لا يعتمد عليه، ورفع هذا الحديث منكرٌ، وقد يكون من كلام الصحابي أو من دونه، والله أعلم. وكثيراً ما يأتي بهذا الإسناد تفاسير فيها نكارة، فلا يغتر بها، فإن السند ضعيف"1. وهذا الكلام من ابن كثير - رحمه الله - يؤكد أَنَّ الضعف فيه من دَرَّاج. ومع ذلك، فإنَّ في أكثر طرق هذا الحديث من يُضَعَّف غير دَرَّاج هذا؛ ففي إسناد أحمد وأبي يعلى: "ابن لهيعة"، وليس الحديث من رواية أحد من العبادلة عنه، وفيه ضعف في غير روايتهم عنه، ولذلك قال الهيثمي: "وفي إسناد أحمد وأبي يعلى: ابن لهيعة، وهو ضعيف"2. أما إسناد الطبراني، ففيه: "رشدين بن سعد"، وهو ضعيف أيضاً. وقال الشيخ الألباني: "ضعيف"3. فتلخص من ذلك: أنَّ هذا الحديث ضعيف الإسناد، وأنَّ رفعه لا يصحُّ، كما قال ابن كثير رحمه الله، واختاره ابن القَيِّم أيضاً. فإذا تَبَيَّنَ ذلك، فإن لنا مع ابن القَيِّم - رحمه الله - وقفات: الأولى: في نسبته رفع هذا الحديث إلى ابن حبان، ولا أدري ما وجه ذلك؟ فقد شارك ابن حبان في روايته مرفوعاً جماعة، وفيهم من هو متقدم على ابن حبان.   1 تفسير القرآن العظيم: (1/ 161) . 2 مجمع الزوائد: (6/320) . 3 ضعيف الجامع: (ح4230) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 الثانية: لم يُنَبِّهْ - رحمه الله - على ضعف إسناده، بل أشارَ - فقط - إلى رجحان وقفه، وهذا لا يُغْني عن بيان ضعف سنده. الثالثة: نسبته هذا الحديث إلى أُبَيِّ بن كعب، وقد علمنا أنه مرويٌّ عن أبي سعيد رضي الله عنه، ولم أقف على من نسبه إليه غيره، ولم أجده من روايته بعد البحث، فلعله وَهِمَ في ذلك رحمه الله. وقد أوردَ ابن كثير - رحمه الله - هذا الحديث في تفسير قوله تعالى من سورة البقرة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] . ثم ذكر معاني {قَانِتُونَ} ، وأن اختيار ابن جرير: أنها بمعنى "مطيعون". وأن هذا القول يجمع الأقوال كلها، ثم أورد هذا الحديث في بيان معنى القنوت في القرآن، وذكر أنه لا يصح مرفوعاً كما تقدم من قوله، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 21- من كتاب التوحيد والأسماء والصفات 1 - باب في علو الله - عزوجل - واستوائه على عرشه 124- (1) عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: كُنْتُ في البَطْحَاءِ في عِصَابِةٍ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَمَرَّتْ بهم سحابةٌ، فَنَظَر إليها، فقال: "ما تُسَمُّونَ هذه؟ " قالوا: السَّحَاب. قال: "والْمُزْن؟ " 1. قالوا: والمزن. قال: "والعَنَان؟ " 2. قالوا: والعنان - قال أبو داود في حديثه: لم أَتْقنْ العنان جيداً - قال: "هل تدرون ما بُعْد ما بين السماء والأرض؟ ". قالوا: لا ندري. قال: "إنَّ بُعْدَ ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك" حتى عَدَّ سبع سموات "ثم فوق السابعة بحرٌ، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوْعَالٍ3، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله - تبارك وتعالى - فوق ذلك". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - أن هذا الحديث قد رُدّ بأن في إسناده "الوليد بن أبي ثور" وهو ضعيف، وبحديث أبي هريرة الذي رُوي بمعنى حديث العباس، ولكن جاء فيه أن ما بين الأرض والسماء خمسمائة سنة.   1 الْمُزْن: هو الغَيْم والسَّحاب، واحدته: مُزْنَةٌ، وقيل: هي السحابة البيضاء. (النهاية 4/325) . 2 تقدم معناه في ص (303) . 3 الوَعِلُ: الشاةُ الجَبَلِيَّة الذَّكَر، والأنثى منها: أَرْوِيَّة، والجمع: أَوْعَالٌ. (المجموع المغيث 3/435) مادة: وعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 ثم أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك: بأنَّ الوليدَ لم ينفرد به، بل تَابَعَهُ عليه جماعةٌ، منهم: إبراهيم بن طهمان، وعمرو بن أبي قيس، فلا تعلق على الوليد في ذلك. وبأن معارضته بحديث أبي هريرة: فاسدةٌ؛ لأن الترمذيَّ ضَعَّفَهُ، وأنَّ جماعةً قالوا بعدم سماع الحسن من أبي هريرة1. وساقه - رحمه الله - مرة من طريق أبي داود، ثم قال: "حديث حسن صحيح"2. وقال مرة: "رواه أبو داود بإسناد جيد"3. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، وابن ماجه في (سننيهما) 4، وأحمد في (مسنده) 5، والدارمي في (الرد على بشر المريسي) 6، وابن أبي شيبة في (العرش) 7، وعلقه ابن خزيمة في (التوحيد) 8، والآجري في (الشريعة) 9، واللالكائي في (شرح اعتقاد أهل السنة) 10، والعقيلي في   1 تهذيب السنن: (7/ 91 - 93) . 2 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص 93) . 3 مختصر الصواعق: (2/ 356) . 4 د: (5/93) ح 4723 ك السنة، باب في الجهمية. جه: (1/69) ح193 المقدمة. (1/207) . (ص 90 - 91) . (ص 55) ح 9. (1/236) . (ص 292) . 10 (3/390) ح 651. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 (الضعفاء) 1، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 2، كلهم من طريق: الوليد ابن أبي ثور3، عن: سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة4، عن الأحنف ابن قيس5، عن العباس رضي الله عنه به. واللفظ المذكور هو لفظ أبي داود، ومثله لفظ: ابن ماجه، وابن أبي شيبة، واللالكائي، والآجري، إلا أنه جاء عند ابن أبي شيبة: "ثمانية أملاك، أو أوعال". وأما الدارمي فقد وقع عنده: " ... بينهما مسيرة خمسمائة سنة، وكذلك غلظ كل سماء". وكذا لفظ الإمام أحمد، وزاد: "وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء". قلت: وفي هذا الإسناد الوليد بن أبي ثور، وقد ضَعَّفَهُ الأئمة: ذأحمد، وصالح جزرة، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن نمير6. وقال العقيلي: "يُحَدِّث عن سماك بمناكير لا يتابع عليها"7. وقال ابن حبان: "منكر الحديث جداً، في أحاديثه أشياء لا تشبه أحاديث الأثبات ... "8.   (2/284) في ترجمة "عبد الله بن عميرة". (1/9) ح6. 3 هو: الوليد بن عبد الله بن أبي ثور الهمداني، الكوفي، وقد ينسب لجده، ضعيف، من الثامنة، مات سنة 172 هـ/ بخ د ت ق. (التقريب 582) . 4 كوفي، مقبول، من الثانية / د ت ق. (التقريب 316) . 5 ابن معاوية بن حصين التميمي السعدي، أبو بحر، اسمه الضَّحَّاك، وقيل: صخر، مخضرم، ثقة، قيل: مات سنة 67 هـ، وقيل 72 هـ/ع. (التقريب96) . 6 انظر: الميزان: (4/340 - 341) ، وتهذيب التهذيب: (11/ 138) . 7 كذا في التهذيب: (11/ 138) ، ولم أجده في الضعفاء للعقيلي، انظره: (4/319) . 8 المجروحين: (3/ 79) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 ولذلك فقد أعلَّ الحديثَ به: ابن الجوزي1 رحمه الله، والمنذري، فقال: "وفي إسناده: الوليد بن أبي ثور، ولا يحتجُّ بحديثه"2. ولكن الوليد بن أبي ثور لم ينفرد بروايته عن سماك، وإنما تابعه جماعةٌ كما تقدم من كلام ابن القَيِّم رحمه الله، فمن هؤلاء: 1- عمرو بن أبي قيس3: أخرجه من طريقه: أبو داود في (سننه) 4، والترمذي في (جامعه) 5، وابن أبي عاصم في (السنة) 6، وابن خزيمة في (التوحيد) 7، وأبو الشيخ في (العظمة) 8، واللالكائي في (شرح اعتقاد أهل السنة) 9، من طرق، عن: عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عبد الله بن عميرة به، ولفظه عندهم كلفظ حديث أبي داود المتقدم من رواية الوليد بن أبي ثور، إلا أنه وقع عند أبي الشيخ: "والله - تبارك وتعالى - فوق ذلك بعلمه على العرش". ولم أر كلمة "بعلمه" إلا عنده.   1 العلل المتناهية: (1/ 10) . 2 تهذيب السنن: (7/ 93) . 3 الرازي، الأزرق، كوفي نزل الري، صدوق له أوهام، من الثامنة / خت 4. (التقريب 426) . (5/ 94) ح 2724. (5/ 424) ح 3320 ك التفسير، من سورة الحاقة. (1/ 253) ح 577. (1/ 234) ح 144. (2/ 566) ح 204. (3/ 389) ح 650. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 وعمرو بن أبي قيس: صدوق، لكن في حديثه بعض الخطأ، ويَهِمُ قليلاً1، ومثله لا بأس بحديثه في المتابعات، وقد قال الترمذي عقبه: "حديث حسن غريب". 2- إبراهيم بن طهمان: أخرجه من طريقه: أبو داود في (سننه) 2، والآجري في (الشريعة) 3، والبيهقي في (الأسماء والصفات) 4 ثلاثتهم من طريق: إبراهيم بن طهمان، عن سماك، عن عبد الله بن عميرة به، ولفظه بنحو ما تقدم في حديث الوليد بن أبي ثور، وهذه متابعة جيدة- أيضاً - للوليد بن أبي ثور، عن سماك. 3- شعيب بن خالد5: أخرجه من طريقه: أحمد في (مسنده) 6، وابن أبي شيبة في (العرش) 7 عن محمد بن أبان. والحاكم في (المستدرك) 8 عن إسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن:   1 انظر: تهذيب التهذيب: (8/ 94) . (5/94) ح 2725. (ص 292) . (ص 526) . 5 البجلي، الرازي، القاضي، ليس به بأس، من السابعة / د. (التقريب 267) . (1/206) . (ص 55) ح10. (2/ 412) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 عبد الرزاق، عن يحيى بن العلاء1، عن عمه شعيب بن خالد، عن سماك، عن عبد الله بن عميرة، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه به بإسقاط الأحنف بن قيس، ونَبَّهَ ابن أبي شيبة في حديثه على ذلك، فقال: "ولم يَذْكُر عبد الرزاق في حديثه الأحنف". وقد أخرجه الحاكم2 مرة أخرى بالإسناد نفسه، فذكر فيه الأحنف بن قيس! وقد وقع عندهم أن المسافة بين السماء والأرض خمسمائة سنة. وهذه المتابعة في إسنادها يحيى بن العلاء الرازي، وقد كذبه بعضهم، ورمي بالوضع. ولذا لما قال الحاكم عقبه: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"! تَعَقَّبَهُ الذهبي رحمه الله، فقال: "يحيى واهٍ". وقال ابن الجوزي رحمه الله - بعد أن أخرجه من طريق الإمام أحمد -: "هذا حديث لا يصحُّ، قال بعض الحفاظ: تَفَرَّدَ به يحيى بن العلاء، قال أحمد، هو كذاب يضع الحديث. وقال يحيى: ليس بثقة ... "3. وقال الذهبي - بعد أن أخرجه أيضاً من طريق أحمد -: "ويحيى بن العلاء متروك الحديث"4.   1 البجلي، أبو عمرو أو أبو سلمة، الرَّازِي، رُمي بالوضع، من الثامنة، مات قرب 160 هـ/ د ق. (التقريب 595) . 2 المستدرك: (2/501) . 3 العلل المتناهية: (1/ 8 - 9) ح 5. 4 العلو: (ص 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 فإذا عُرف حالُ هذه المتابعة، وأن مدارها على يحيى هذا، فإنَّه لا قيمةَ لها في تقوية رواية الوليد بن أبي ثور، إذ وجودها - والحالة هذه - كعدمها. 4- شريك: وأشار إلى روايته الترمذي، فقال: "وروى شريك، عن سماك بعض هذا الحديث، وأوقفه ولم يرفعه". قلت: أخرج رواية شريك هذه: ابن خزيمة في (التوحيد) 1، والحاكم في (المستدرك) 2 من طرق، عن شريك، عن سماك بإسناد الوليد ابن أبي ثور الماضي، إلى العباس رضي الله عنه في قوله عز وجل: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] قال: "ثمانية أملاك، على صورة الأوعال، بين أظلافهم إلى ركبهم مسيرة ثلاث وستين سنة". وفي رواية ابن خزيمة: "قال شريك مرة: ومناكبهم ناشبة بالعرش". قال أبو عبد الله الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي! وفيه نظر؛ فإن عبد الله بن عميرة لم يخرج له مسلم كما تَقَدَّم في ترجمته. فهذه المتابعاتُ للوليد بن أبي ثور يزول بها ما يخشى من التَّفَرُّدِ في هذا الحديث عن سماك بن حرب.   (1/ 251) ح 158. (2/ 500) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 ولكن هل يصحُّ إسناد هذا الحديث بعد وجود هذه المتابعات؟ كلاّ فإنه لا يزال مُعَلاًّ. وبيان ذلك: أن مدار هذا الحديث على عبد الله بن عميرة، وقد تَفَرَّد عنه سماك بن حرب، لم يرو عنه أحد غيره، ولم يوثقه مع ذلك أحد إلا ابن حبان1، وذكره ابن أبي حاتم في كتابه، فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً2. ولذلك قال عنه إبراهيم الحربي: "لا أعرفه"3 وقال الذهبي: "فيه جهالة"4. وقال مرة: "لا يعرف"5. وتوثيق ابن حبان هنا لا ينفعه شيئاً، لما عرف من عادته في توثيق المجهولين، علماً بأنه قد اشتبه عليه رجل بآخر؛ فإنه جعل "عبد الله بن عميرة القيسي أبا المهاجر"، هو نفسه "عبد الله بن عميرة الكوفي" الذي معنا، وهما عند البخاري6، وابن أبي حاتم7 اثنان، فلينظر في ذلك. وقد قال فيه الحافظ ابن حجر "مقبول" يعني: حيث يُتَابع، ولم يتابع هنا، فهو لين الحديث. فالحاصلُ: أن الرَّجُلَ مجهول، وبذلك أَعَلَّ الذهبي الحديث، فقال: "تَفَرَّدَ به سماك عن عبد الله، وعبد الله فيه جهالة"8.   1 الثقات: (5/ 42) . 2 الجرح والتعديل: (2/ 2/ 124) . 3 تهذيب التهذيب: (5/ 344) . 4 الميزان: (2/ 469) . 5 المغني: (1/ 350) . 6 التاريخ الكبير: (3/ 1/ 159) رقم 494، 495. 7 الجرح والتعديل: (2/ 2/ 124 - 125) رقم 572، 573. 8 العلو: (ص 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 فإذا أُضِيف إلى ذلك: تَفَرُّدُ سماك عنه، كانت تلك عِلَّة أخرى، فقد قال الإمام النسائي - رحمه الله - في حق سماك: "إذا انفرد بأصل لم يكن حُجَّةً؛ لأنَّهُ كان يُلَقَّنُ فيتلقن"1. وقال يعقوب بن شيبة: "ومن سمع منه قديماً، مثل: شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم"2. وليس هذا الحديث من رواية واحد من هؤلاء القدامى عن سماك، وكان قد اختلط بآخره كما مَرَّ. وثمةَ عِلَّةٌ أخرى في هذا الإسناد أيضاً، قال البخاريُّ - رحمه الله - في ترجمة عبد الله بن عميرة هذا: "لا نعلم له سماعاً من الأحنف"3. فإذا ثبت ذلك، فإنه يكون منقطعاً. وأيضاً قد اختلف في ألفاظ هذا الحديث، فروى "إما واحدة، أو اثنتان، أو ثلاث وسبعون سنة" وروي: "خمسمائة سنة" وروي: "ثلاث وستين سنة". ووقع عند أبي الشيخ: "والله فوق ذلك بعلمه ... " وغيره لا يذكر هذه اللفظة. هذا مع رواية بعضهم له عن سماك موقوفاً، وهذا لا شك اختلاف يورث ضعفاً في الحديث. فتلخص من ذلك: أن هذا الحديثَ ضعيفُ الإسنادِ، لا يثبت مثله، ولم يُصِبْ ابنُ القَيِّم - رحمه الله - في تصحيحه إياه أو حتى تحسينه؛ إذ قد تَبَيَّن من خلال هذه الدراسة أن الأمرَ على خلاف ذلك،   1 تهذيب التهذيب: (4/ 234) . 2 المصدر السابق. 3 التاريخ الكبير: (3/ 1/ 159) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 وقد ضَعَّفه الذهبي كما مضى، وضَعَّفَ ابن الجوزي بعض طرقه1، وأورده العقيلي في (ضعفائه) 2 في ترجمة ابن عميرة، ونقل كلام البخاري في عدمِ سماعه من الأحنف. وقال الشيخ الألباني: "إسناده ضعيف"3 والله أعلم.   1 العلل المتناهية: (1/ 8 - 10) . (2/284) . 3 ظلال الجنة: (1/ 254) ، وتخريج الطحاوية: (ص310) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 2 - باب آخر منه 125- (2) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ... إِنَّ عرشه على سمواته لهكذا" وقال بأصبعه مثل القبة عليه. "وإنَّه لَيَئِطُّ1 به أطيط الرَّحْلِ بالراكبِ". تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (تهذيب السنن) 2، وتَوَسَّعَ في الكلام عليه، والردِّ على من ضَعَّفَهُ، والجواب عن العلل التي أُعِلَّ بها، وخلص إلى القول بثبوت الحديث، وأنه حديث حسن. وستأتي أجوبته - رحمه الله - أثناء هذا البحث إن شاء الله تعالى. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، عن أحمد بن سعيد4 وجماعة واللفظ لأحمد. وأخرجه ابن أبي عاصم في (السنة) 5، واللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) 6، والبيهقي في (الأسماء والصفات) 7، والذهبي   1 الأطّ والأَطِيطُ: نقيضُ صوت الْمَحَامِل والرِّحَالِ إذا ثَقُلَ عليها الركبان، وأطّ الرَّحْلُ والنَّسْعُ، يَئِطُّ أطّاً وأطِيطاً: صَوَّتَ. (لسان العرب ص: 92، مادة: أطط) . (7/ 94 - 98) . (5/ 94) ح 4726 ك السنة، باب في الجهمية. 4 ابن إبراهيم الرِّباطي المروزي، أبو عبد الله الأشقر، ثقة حافظ، من الحادية عشرة، مات سنة 246 هـ/ خ م د ت س. (التقريب 79) . (1/ 253) ح 576. (3/ 394) ح 656. (ص 526) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 في (العلو) 1 كلهم من طريق: أحمد بن الأزهر2. وأخرجه الدارقطني في (الصفات) 3، والطبراني في (الكبير) 4، من طريق: علي بن المديني، ويحيى بن معين كليهما. وأخرجه الدارقطني في (الصفات) 5 - أيضاً - من طريق: محمد ابن يزيد المعروف بأخي كَرْخَويه - قال الدارقطني: "وكان من الثقات"- وأخرجه ابن خزيمة في (التوحيد) 6 من طريق: محمد بن بشار7. كلهم عن: وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن يعقوب ابن عتبة8، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم9، عن أبيه10، عن   (ص 37) . 2 ابن منيع، أبو الأزهر العبدي النيسابوري، صدوق كان يحفظ، ثم كبر فصار كتابه أثبت من حفظه، من الحادية عشرة، مات سنة 263 هـ / س ق. (التقريب 77) . (ص 52) ح 39. (2/ 132) ح 1547. (ص 50) ح 38. (1/ 239) ح 147. 7 ابن عثمان العبدي، البصري، أبو بكر، بندار، ثقة، من العاشرة، مات سنة 252 هـ / ع. (التقريب 469) . 8 ابن المغيرة بن الأخنس الثقفي، ثقة، من السادسة، مات سنة 128 هـ / د س ق. (التقريب 608) . 9 مقبول، من السادسة / د. (التقريب 138) . 10 هو: محمد بن جبير بن مطعم، ثقة عارف بالنسب، من الثالثة، مات على رأس المائة / ع. (التقريب 471) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 جده جبير بن مطعم رضي الله عنه. وأخرجه الآجري في (الشريعة) 1 عن حفص بن عبد الرحمن2، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بالإسناد السابق إلى جبير بن مطعم. ولفظه: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال ... فذكر حديث الاستسقاء، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ويحك!! أَتَدْرِي ما الله؟ إن عرشه على سمواته لهكذا" - وقال بأصبعه مثل القُبَّة عليه - "وإنه ليئطُ به أطيطَ الرَّحْلِ بالرَّاكِبِ". هذا سياق أبي داود، وعند ابن خزيمة: "إن الله على عرشه، وعرشه على سمواته، وسمواته على أرضه هكذا ... ". ولفظ الآجري: " إنه لفوق سماواته، وهو على عرشه"، وقريب منه لفظ البيهقي. وجاء عند اللالكائي مختصراً بدون ذكر القبة والأطيط، ولفظه: "إنه لفوق سماواته على عرشه". وقد رُوِيَ هذا الحديثُ على وجه آخرَ، فأخرجه أبو داود في (سننه) 3 عن: محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، وعبد الأعلى. وابن أبي شيبة في كتاب (العرش) 4 عن: عبد الأعلى. وأبو الشيخ في (العظمة)   (ص 293) . 2 ابن عمر، أبو عمر البَلْخِي الفقيه، النيسابوري قاضيها، صدوقٌ عابدٌ، رُمِيَ بالإرجاء، من التاسعة، مات سنة199هـ/ قد س. (التقريب 172) . (5/ 94 - 96) ح 4726. (ص 56) ح 11. (2/ 554) ح 198. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 عن: محمد بن المثنى. وابن أبي عاصم في (السنة) 1 عن: ابن المثنى، وعبد الأعلى. والدارمي في (الرد على بشر المريسي) 2 عن: ابن بشار. كلهم عن: وهب بن جرير بالإسناد السابق، لكنهم قالوا فيه: عن: محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، وجبير بن محمد، كلاهما عن محمد بن جبير به. وجاء عند الدارمي مختصراً ليس فيه قصة الأعرابي. قال أبو داود - عقب إشارته إلى هذا الخلاف في إسناده -: "والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح - يعني: عن يعقوب، عن جبير - وافقه عليه جماعة، منهم: يحيى بن معين وعلي بن المديني، ورواه جماعة عن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضاً"3. وَصَوَّبَ الدارقطني - أيضاً - ما صَوَّبَه أبو داود هنا4، وكذا صَوَّبَه المزي5. وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعدَّة علل، أجمل ذلك المنذري في (تهذيب السنن) 6، فقال: "قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه، إلا من هذا الوجه. ولم يقل فيه محمد بن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة".   (1/ 252) ح 575. (ص 105) . 3 سنن أبي داود: (5/ 96) . 4 الصفات: (ص 53) . 5 تهذيب الكمال: (4/ 506) . (7/ 97 - 101) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 قال المنذري: "ومحمد بن إسحاق مُدَلِّس، وإذا قال المدلس: عن فلان. ولم يقل: حدثنا، أو سمعت، أو أخبرنا، لا يحتجُّ بحديثه، وإلى هذا أشار البزار، مع أن ابن إسحاق إذا صَرَّحَ بالسماع: اختلف الحفاظ في الاحتجاج بحديثه، فكيف إذا لم يصرح به". قال: "وقد رواه يحيى بن معين وغيره، فلم يذكروا فيه لفظة: به"1. قال: "وقال الحافظ أبو القاسم الدمشقي2: وقد تَفَرَّدَ به يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس الثقفي الأخنسي، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم ... وليس لهما في صحيحي ... البخاري ... ومسلم رواية. وانفرد به محمد بن إسحاق بن يسار عن يعقوب. وابن إسحاق: لا يحتجُّ بحديثه، وقد طعن فيه غير واحد من الأئمة، وَكَذَّبَه جماعة منهم". فهذا حاصلُ ما أُعِلَّ به هذا الحديث، وقد تناول ابنُ القَيِّم هذه العلل بالجواب، فكان حاصل ما أجاب به: أولاً: أما الطَّعْنُ في محمد بن إسحاق: فإنَّه مردود، قال: "إن ابن إسحاق بالموضع الذي جعله الله: من العلم والأمانة"3. ثم أخذ في نقل أقوال الأئمة في الثناء على محمد بن إسحاق ومدحه، وأن الترمذي صحح   1 كما عند ابن أبي عاصم: (ح 575) ، والدارقطني: (ح 39) ، والآجري: (ص293) . 2 هو ابن عساكر، وقد ألف في تضعيف هذا الحديث جزءاً سماه (تبيان الوهم والتخليط فيما أخرجه أبو داود من حديث الأطيط) . أفاد ذلك محقق كتاب (العرش) لابن أبي شيبة. 3 تهذيب السنن: (7/ 94) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 له حديثاً لم يأت إلا من طريقه، وهو حديث سهل بن حنيف، قال: كنت ألقى من المذي شدة ... الحديث، قال ابن القَيِّم: "فهذا حكم قد تَفَرَّدَ به ابن إسحاق في الدنيا، وقد صححه الترمذي". وأما القول بتكذيبه: فإن ذلك مبنيٌّ على ما حُكي عن هشام بن عروة، إذ قال: "حَدَّثَ عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، وأُدْخِلْتُ عليها وهي بنت تسع، وما رآها رجل حتى لقيتُ الله". وأجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك: بأن سليمان بن داود الشاذكوني - راوي هذه الحكاية - اتُّهِم بالكذب، فلا يجوز القدح في الرجل بمثل روايته. ثم إن هشاماً نفى رؤيته لها، ولم ينف سماعه منها، ومعلوم أنه لا يلزم من انتفاء الرؤية انتفاء السماع، وفي هذا يقول الإمام أحمد: "لعله سمع منها في المسجد، أو دخل عليها فحدثته من وراء حجاب، فأي شيء في هذا؟ فقد كانت امرأة كبرت وأسنت"1. وقد رَدَّ الحافظ الذهبي - رحمه الله - هذه الحكاية بنحو ذلك2. قلت: ولعلَّ الذي تطمئنُ إليه النفسُ في أمر ابن إسحاق: ما قرره الذهبيُّ رحمه الله؛ حيث قال: " ... له ارتفاع بحسبه، ولا سيما في السِّير، وأمَّا في أحاديث الأحكام: فينحطُّ حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شَذَّ فيه، فإنه يعد منكراً"3. وقال مرة: "فالذي   1 تهذيب السنن: (7/94) . 2 سير أعلام النبلاء: (7/ 49) . 3 المصدر السابق: (7/ 41) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 يظهر لي: أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق، وما انفرد به: ففيه نكارة؛ فإن في حفظه شيئاً"1. قلت: وهذا الحديثُ من هذا القبيل؛ فإنَّ مداره على ابن إسحاق وحده، وإذا كان ما ينفرد به في الأحكام على هذه الصفة التي حكى الذهبيُّ - صاحب الاستقراء التام في الرِّجال - فإن ما ينفرد به في العقائد أولى أن يُتَوَقَّفَ فيه. وعلى هذا، فإن إطلاق ابنِ القَيِّم القول بتوثيقِهِ، والاحتجاجِ بروايته لا يخلو من نظر. ثانياً: وأما القولُ بأنَّ ابنَ إسحاقَ عنعنه، ولم يُصَرِّحْ بسماعه من يعقوب بن عتبة: فأجاب ابن القَيِّم بقوله: "فعلى تقدير العلم بهذا النفي: لا يخرج الحديث عن كونه حسناً، فإنه قد لقي يعقوب وسمع منه، وفي الصحيح قطعة من الاحتجاج بعنعنة الْمُدَلِّس: كأبي الزبير عن جابر، وسفيان عن عمرو بن دينار، ونظائر كثيرة لذلك"2. كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله! وهاهنا وقفات: - الأولى: هل عنعنة الراوي عن شيخه تحمل على الاتصال بمجرد ثبوت اللقاء؟ الجمهور على أن ذلك لا يكون متصلاً إلا بشرط عدم   1 الميزان: (3/ 475) . 2 تهذيب السنن: (7/ 98) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 كون المعنعن مُدَلِّسَاً1، وهذا شرط أساسي، قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "ثم بتقدير تيقن اللقاء، يشترط أن لا يكون الراوي عن شيخه مدلساً ... فإن كان مدلساً: فالأظهر أنه لا يحمل على السماع"2. ولما كان ابن إسحاق مدلساً، فإن عنعنته لا تحمل هنا على الاتصال، خلافاً لما اختاره ابن القَيِّم رحمه الله. - الثانية: فإذا ثبت أن ابن إسحاق من المدلسين، فهل يحتج بما قال فيه: "عن"، ولم يصرح بسماعه؟ قال النووي رحمه الله: " والصحيح التفصيل: فما رواه بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع: فمرسل، وما بينه فيه: كسمعت وحدثنا ... فمقبول محتج به"3. وقال العلائي: "الصحيح الذي عليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول: الاحتجاج بما رواه المدلس الثقة مما صرح فيه بالسماع، دون ما رواه بلفظ محتمل"4. وقال ابن حجر: "وحكم من ثبت عنه التدليس إذا كان عدلاً: أن لا يقبل منه إلا ما صرح فيه بالتحديث على الأصح"5. فظهر من ذلك عدم الاحتجاج برواية المدلس ما لم يصرح بالسماع أو التحديث، خلافاً لما قاله ابن القَيِّم هنا. وأما ما ذهب إليه - رحمه الله - من القول بالاحتجاج في   1 انظر: تدريب الراوي: (1/ 214 - 215) . 2 الموقظة: (ص 45) . 3 تدريب الراوي: (1/ 229 - 230) . 4 جامع التحصيل: (ص 111 - 112) . 5 نزهة النظر مع النخبة: (ص 43) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 الصحيح بعنعنة المدلسين، كأبي الزبير عن جابر، وسفيان عن عمرو بن دينار: فقد أجيب عن ذلك بأنه محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى1، على أن هذا قد نوزع فيه أيضاً2. وبعد ذلك كله: فإن ابن إسحاق قد عده الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الطبقة الرابعة3 من طبقات المدلسين، وهم: "الذين اتُّفِقَ على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل"4. فإذا ثبت ذلك، فإن عنعنة ابن إسحاق وعدم تصريحه بالسماع في هذا الحديث تبقى علة لا يمكن دفعها، خلافاً لابن القَيِّم رحمه الله. ثالثاً: أما عن تَفَرُّدِ جبير بن محمد به: فقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك: بأن محمد بن جبير ثقة، وعدم رواية أصحاب الصحيحين عنه ليس بعلة5. كذا وقع عند ابن القَيِّم "محمد بن جبير"، وقد تَقَدَّمَ أن كلام ابن عساكر في ابنه "جبير بن محمد بن جبير". ولا أدري: هل هذا خطأ طباعي، أم أن ابن القَيِّم فعلاً أراد محمد بن جبير؟   1 تدريب الراوي: (1/ 230) . وانظر الكلام على ذلك فيما تقدم (ص 319 - 321) . 2 انظر: النكت على ابن الصلاح: (2/ 635) . 3 طبقات المدلسين: (ص 132) . 4 المصدر السابق: (ص 24) . 5 انظر: تهذيب السنن: (7/ 98) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 وعلى كلِّ حال، فإنَّ جبير بن محمد مما يُعَلُّ به هذا الحديث، كما ذُكِر عن ابن عساكر؛ فإنه لم يرو عنه إلا: يعقوب بن عتبة، وحصين ابن عبد الرحمن1، ولم يوثقه مع ذلك أحد إلا ابن حبان، فإنه ذكره في (ثقاته) 2. وهو بهذه المثابة مجهول الحال، وقد قال عنه الحافظ ابن حجر: "مقبول"، يعني: حيث يتابع، ولم يتابعه أحد على هذا الحديث، فهو إذن لين الحديث. ثم أخذ ابن القَيِّم في الجواب عن باقي علل هذا الحديث: كالقول باضطراب إسناده ومتنه وغير ذلك، فذهب إلى أن زيادة لفظة (به) من باب زيادة الثقات، وذلك لا يوجبُ رَدَّ الحديث3. والذي يتلخصُ من ذلك: أن هذا الحديثَ ضعيفُ السَّنَدِ، غريبُ المتن:   1- لتفرد ابن إسحاق به، وقد عُرف القول فيما ينفردُ به. 2- وعنعنته إياه، وهو مدلس. 3- وضعفِ جبير بن محمد، إلى غير ذلك مما أعل به. وأما جواب ابن القَيِّم عن هذه العلل: فإنه لا يُغْنِي عن ضعف 1 انظر: تهذيب التهذيب: (2/ 63) . (6/ 148) . 3 تهذيب السنن: (7/ 98) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 الحديث شيئاً، - كما تقدم –؛ فإن جمعاً من الأئمة على إعلاله، وقد تقدم من ذلك قول: البزار، وابن عساكر، والمنذري، وأعَلَّهُ أيضاً: البيهقي رحمه الله، فقال: "وهذا حديث ينفرد به محمد بن إسحاق ... "1. فذكر نحواً من الكلام المتقدم. وقال الحافظ الذهبي: "هذا حديثٌ غريبٌ جداً فردٌ، وابن إسحاق حجةٌ في المغازي إذا أَسْنَدَ، وله مناكيرُ وعجائبُ، فالله أعلم أقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا أم لا ... "2. واسْتَغْرَبَهُ كذلك الحافظ ابن كثير3 رحمه الله. وقال الشيخ الألباني: "إسناده ضعيف، ورجاله ثقات. لكن ابن إسحاق مُدَلِّس، ومثله لا يحتج به إلا إذا صرح بالتحديث، وهذا ما لم يفعله فيما وقفت عليه من الطرق إليه ... "4. والخطابي - رحمه الله - مع أنه أخذَ في تأويل هذا الحديث، إلا أنه - فيما يبدو - قد اختار إعلاله؛ إذ قال: "وذكر البخاري هذا الحديث في التاريخ5 ... ولم يُدْخِلْهُ في الجامع الصحيح"6. ثم توجَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - بعد ذلك إلى نفي تَفَرُّدِ ابنِ   1 الأسماء والصفات: (ص 528) . 2 العلو للعلي الغفار: (ص 39) . 3 تفسير القرآن العظيم: (1/ 310) . 4 ظلال الجنة في تخريج السنة: (ص 252) . (1/ 2/ 224) . 6 معالم السنن: (7/ 97) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 إسحاق برواية هذا المعنى، فقال: "وقد رُوِيَ هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير حديث ابن إسحاق. فقال محمد بن عبد الله الكوفي - المعروف بمُطَيَّن-: حدثنا عبد الله بن الحكم وعثمان، قالا: حدثنا يحيى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن: 126- (3) عمر رضي الله عنه، أنه قال: أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ، فقالت: ادْعُ الله أن يُدْخِلَنِي الجنة. فَعَظَّمَ أَمْرَ الرَّبِّ، ثم قال: " إِنَّ كُرْسِيَّه فوقَ السموات والأرض، وأنه يقعدُ عليه، فما يَفْضُل منه مقدار أربع أصابع" ثم قال بأصابعه فجمعها، "وأنَّ له أطيطاً كأطيط الرحل " 1. ثم قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فإن قيل: عبد الله بن الحكم، وعثمان لا يعرفان. قيل: بل هما ثقتان مشهوران: عثمان بن أبي شيبة، وعبد الله بن الحكم القطواني، وهما من رجال الصحيح"2. قلت: هذا الحديث أخرجه هكذا مسنداً: ابن أبي عاصم في (السنة) 3 عن: إسماعيل بن سالم الصائغ. والبزار في (مسنده) 4 عن: الفضل بن سهل. وابن خزيمة في (التوحيد) 5 عن: يعقوب بن إبراهيم   1 تهذيب السنن: (7/ 98) . 2 المصدر السابق: (7/ 99) . (1/ 251) ح 574. (1/ 457) ح 325. (1/ 244) ح 150، 151. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 الدورقي. والطبراني1 عن: عبيد الله بن أبي زياد القطواني. وأبو الشيخ في (العظمة) 2 عن: أبي بكر ابن إسحاق، والحسن بن ناصح. والدارقطني في (الصفات) 3 عن: أحمد بن منصور بن سيار، كلهم عن: يحيى بن أبي بكير4، عن إسرائيل5، عن أبي إسحاق6 السبيعي، عن عبد الله بن خليفة7، عن عمر رضي الله عنه به بنحو ما تقدم. واللفظ الذي أورده ابن القَيِّم - رحمه الله - هو لفظ ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 8، من الطريق التي ذكرها ابن القَيِّم. وفي هذا الحديث عِدُّة علل:   1 أخرجه من طريقه: أبو العلاء الهمداني في فتياه حول الصفات (100/ 1) ، والضياء المقدسي في المختارة: (1/59) ، وأبو محمد الدشتي في إثبات الحد: (134 - 135) . أفاد ذلك الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة: (2/257) ح866. (2/ 548) ح193. (ص 48) ح35. 4 واسم أبي بكير: نسر، الكرماني، كوفي الأصل، نزل بغداد، ثقة، من التاسعة، مات سنة 208 هـ أو 209 هـ/ع. (التقريب 588) . 5 ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، أبو يوسف الكوفي، ثقة تُكُلِّم فيه بلا حجة، من السابعة، مات سنة 160 هـ وقيل بعدها / ع. (التقريب 104) . 6 هو: عمرو بن عبد الله بن عبيد - ويقال: علي، ويقال: ابن أبي شعيرة - الهمداني، ثقة مكثر عابد، من الثالثة، اختلط بآخرة، مات سنة 129هـ/ع. (التقريب423) . 7 الهمداني، مقبول، من الثانية / فق. (التقريب 301) . (1/ 4) ح 3 باب ذكر الاستواء على العرش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 أولها: جهالة عبد الله بن خليفة، راويه عن عمر: فقد ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 1 ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وانفرد ابن حبان بتوثيقه2 على قاعدته، فيكون بهذه المثابة مجهول الحال، إذ انتفت جهالة عينه برواية أبي إسحاق، ويونس بن أبي إسحاق3 عنه، ولذلك قال عنه الذهبي رحمه الله: "لا يكاد يعرف"4. وقال الحافظ ابن كثير: "ليس بذاك المشهور"5. وقال فيه الحافظ ابن حجر: "مقبول" يعني: حيث يتابع، وإلا يكون لين الحديث، وهو لم يتابع هنا، إذ مدار الحديث عليه وحده. العلة الثانية: اضطرابُه سنداً ومتناً: فقد رُوي عن عبد الله بن خليفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، أخرجه كذلك الدارمي في (الرد على المريسي) 6 من طريق: عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل به، وفيه: " ... وإنه ليقعدُ عليه، فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع - وَمَدَّ أصابعه الأربع - وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا ركبه من يثقله". وأخرجه ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 7 من طريق: وكيع، عن إسرائيل به، ولفظه   (2/ 2/ 45) . 2 الثقات: (5/ 28) . 3 تهذيب التهذيب: (5/ 198) . 4 الميزان: (2/ 414) . 5 تفسير القرآن العظيم: (1/ 310) . (ص 74) . (1/ 4) ح 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الكرسيُّ الذي يجلس عليه عز وجل، ما يفضل منه ... ". وقد وقع الحديث عند ابن خزيمة بالشك، ففيه: " ... عبد الله بن خليفة - أظنه عن عمر - أن امرأة ... " قال ابن خزيمة رحمه الله: "ما أدري: الشك والظن أنه عن عمر، هو من يحيى بن أبي بكير، أم من إسرائيل، قد رواه وكيع بن الجراح، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة مرسلاً، ليس فيه ذكر عمر لا بيقين ولا ظن"1. وقد روي مع ذلك موقوفاً على عمر رضي الله عنه، رواه كذلك: الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " إذ جَلَسَ - تبارك وتعالى - على الكرسي، سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد". أخرجه من هذا الطريق: عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب (السنة) 2، وقد أشار البزار - رحمه الله - إلى هذه الرواية الموقوفة، فقال: "وقد روى الثوري هذا الحديث عن: أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر موقوفاً"3. وقد أَعَلَّ الأئمة هذا الحديث من أجل هذا الاضطراب، فقال ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 4: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسناده مضطرب جداً ... وتارة يرويه ابن خليفة: عن عمر،   1 التوحيد: (1/ 245) . (ص 79) ح 402، باب ذكر الكرسي. 3 مسند البزار: (1/ 458) . (1/ 5 - 6) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتارة يقفه على عمر. وتارة يوقف على ابن خليفة. وتارة يأتي: فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع. وتارة يأتي: فما يفضل منه مقدار أربع أصابع، وكل هذا تخليط من الرواة، فلا يُعَوَّل عليه". وقال الحافظ ابن كثير: " ... منهم من يرويه عنه، عن عمر موقوفاً، ومنهم من يرويه عنه مرسلاً، ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة، ومنهم من يحذفها"1. العلة الثالثة: أن أبا إسحاق السَّبيعي عَنْعَنَهُ، وهو مُدَلِّسٌ: وقد ذكره الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ضمن الطبقة الثالثة من المدلسين2، والراجح في شأنهم: عدم قبول رواياتهم إلا إذا صرحوا بالسماع. وعلة رابعة: ذكرها الحافظُ ابن كثير رحمه الله، فقال: "وفي سماعه - يعني عبد الله بن خليفة - من عمر نظر"3. وكأن ابن خزيمة - رحمه الله - رَجَّحَ كونه مرسلا، ولذلك قال: "وليس هذا الخبر من شرطنا؛ لأنه غير متصل الإسناد. لسنا نحتج في هذا الجنس من العلم بالمراسيل والمنقطعات"4. فإذا تَبَيَّنَ ضعف هذا الحديث، فإن الهيثمي - رحمه الله - لم يُصِبْ   1 تفسير القرآن العظيم: (1/ 310) . 2 طبقات المدلسين: (ص 101) . 3 تفسير القرآن العظيم: (1/ 310) . 4 التوحيد: (1/ 245 - 246) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 حين قال: "رجاله رجال الصحيح"1. فإنَّ عبد الله بن خليفة لم يخرج له أحد من أصحاب السنن الأربعة، فضلاً عن الصحيحين، ومثله قول أبي محمد الدّشتي في كتاب إثبات الحدِّ: "حديث صحيح، رواته على شرط البخاري ومسلم". نقل ذلك عنه الشيخ الألباني، ثم قال: "وهو خطأ بَيّنٌ مزدوج، فليس الحديث بصحيح، ولا رواته على شرطهما ... فأنّى للحديث الصحة؟! بل هو حديث منكر عندي"2. فتلخص من ذلك: أنَّ هذا الحديثَ ضعيفُ السَّنَدِ، مضطربٌ سنداً ومتناً، فمثله لا يصلح الاعتماد عليه في تقوية حديث ابن إسحاق الماضي. ومن ذلك يتضح عدم إصابة ابن القَيِّم - رحمه الله - حينما حاول تقوية هذا الحديث، حيث أخذ يقوي أمر عبد الله بن الحكم القطواني، وعثمان بن أبي شيبة، والحديث معلول من جهات أخرى كما تقدم. وبالجملة: فقد نفى الحافظ الذهبي - رحمه الله - ثبوتَ لفظ الأطيط في أي خبر، فقال: "لفظ الأطيط لم يأت به نص ثابت"3. وابن القَيِّم - رحمه الله - أورد ذلك في مقام الاستدلال على علوِّ الله عز وجل واستوائه على عرشه، وفيما صحَّ من الأحاديث والآثار في هذا الباب كفايةٌ، وقد ساق ابن القَيِّم بعد هذين الحديثين جملة من   1 مجمع الزوائد: (1/ 84) . 2 السلسلة الضعيفة: (2/ 257) ح 866. 3 العلو: (ص 39) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 الأحاديث الصحيحة في إثبات ذلك1، ولسنا بحاجة إذن إلى الاحتجاج بما اشتمل على بعض الألفاظ المنكرة. يوضح ذلك ويبينه: قول الذهبي - رحمه الله - عقب هذا الحديث: "وقولنا في هذه الأحاديث: أننا نؤمن بما صح منها، وبما اتفق السلف على إمراره وإقراره، فأما ما في إسناده مقال، واختلف العلماء في قبوله وتأويله: فإنا لا نَتَعَرَّضُ له بتأويل، بل نرويه في الجملة ونبين حاله، وهذا الحديث - يعني حديث الأطيط - إنما سُقْنَاه لما فيه مما تواتر من علو الله - تعالى - فوق عرشه مما يوافق آيات الكتاب"2.   1 تهذيب السنن: (7/ 99 - 101) . 2 العلو: (ص 39) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 3 ـ باب ما جاء في نهي النبي صلى الله عليه عن اتخاذ قبره عيدا ... 3 - باب ما جاء في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيدا 127- (4) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُم قبوراً، ولا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيداً، وَصَلُّوا عَلَيّ، فإن صَلاتَكُم تَبْلُغُنِي حيث كُنْتُم". قال ابن القَيِّم رحمه الله - وقد ساقه بإسناد أبي داود -: "هذا إسناد حسن، رواته كلهم ثقات مشاهير"1. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3، والحسين بن أحمد بن إبراهيم بن نفيل في (جزئه) 4، من طرق، عن: عبد الله بن نافع، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. قال المنذري في (تهذيب السنن) 5: "في إسناده عبد الله بن نافع الصائغ ... ". ثم نقل كلام الأئمة في تضعيفه، وتوثيق ابن معين وأبي زرعة له.   1 إغاثة اللهفان: (1/ 191) . (2/ 534) ح 2042، ك المناسك، باب زيارة القبور. (2/ 367) . 4 كما أفاده ابن القَيِّم - رحمه الله - في جلاء الأفهام: (ص 17) . (2/ 447) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 قلت: وعبد الله بن نافع هذا قد تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ حفظه1، ومع ذلك فقد وَثَّقَهُ بعض الأئمة، فقال النسائي: "ثقة"2. ومرة قال: "ليس به بأس"3. وقال ابن معين: "ثقة"4. وقال أبو زرعة: "لا بأس به"5. وقال العجلي: "ثقة"6. وقال الدارقطني: "يعتبر به"7. وقال الخليلي: "ثقة"8. وقال ابن قانع: "مدني صالح"9. وذكره ابن حبان في (الثقات) 10 وقال: "وكان صحيحَ الكِتَابِ، وإذا حَدَّثَ من حفظه رُبَّمَا أَخْطَأ". فهذه أقوالُ الأئمةِ في عبد الله بن نافع، ويظهر منها أن الرَّجُلَ قد وَثَّقَهُ أئمةٌ معتبرون، فما قِيل من ضعفٍ في حفظه فإنه لا يُرَدُّ حديثه لأجله، اللهم إلا إذا خالفه من هو أحفظ منه وأثبت، فحينئذ يتوقف في حديثه.   1 انظر ترجمته في: الميزان: (2/ 513) ، وتهذيب التهذيب: (6/ 51) . 2 تهذيب التهذيب: (6/ 51) . 3 تهذيب التهذيب: (6/ 51) . 4 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص 153) رقم 532. 5 الجرح والتعديل: (2/2/184) . 6 تاريخ الثقات: (ص 281) . 7 سؤالات البرقاني للدارقطني: (ص 40) رقم 256. 8 الإرشاد: (1/ 316) . 9 تهذيب التهذيب: (6/ 52) . 10 (8/ 348) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 وقد رُوِيَ هذا الحديث من وجهٍ آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، فأخرجه أبو نعيم في (الحلية) 1 من طريق: عبد الله بن هشام الدستوائي، عن أبيه، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً، ولفظه: "لا تتخذوا قَبْرِي عيداً، لَعَنَ اللهُ قوماً اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد يُصَلُّون إليها، وصلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً". وفي إسناده: عبد الله بن هشام، قال عنه أبو حاتم: "متروك الحديث"2. وللحديث شاهد من حديث عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجه ابنُ أبي شيبة في (مصنفه) 3 - وعنه أبو يعلى في (مسنده) 4 - والضياء المقدسي في (المختارة) كما أفاده ابن القَيِّم5 رحمه الله، كلهم من طريق: جعفر بن إبراهيم، عن علي بن عمر، عن أبيه، عن عليِّ بن الحسين: أَنَّهُ رأى رجلاً يجيء إلى فُرْجَة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فيدعو. فنهاه، وقال: ألا أُحَدِّثُكَ حديثاً سمعته من أبي، عن جَدِّي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً،   (6/ 283) . 2 الجرح والتعديل: (2/2/193) . (2/375) . (1/361) ح 469. 5 انظر إغاثة اللهفان: (1/ 191) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم". قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) 1: "فيه جعفر بن إبراهيم الجعفري، ذكره ابن أبي حاتم2، ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات". قلت: "وعليُّ بن عمر" هو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال فيه ابن حجر: "مستور"3. فيكون هذا الإسناد - والحالة هذه - ضعيفاً، إلا أنه يصلح للاستشهاد به، وإذا انضم إلى حديث أبي هريرة السابق أعطاه قوة، وتَبَيَّنَ أن للحديث أصلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - بعد ذلك حديثين مرسلين من رواية: أبي سعيد مولى المهري، والحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بلفظ قريب من اللفظ الماضي، ثم قال: "فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين، يَدُلاّنِ على ثبوتِ الحديث، لاسيما وقد احتجَّ به من أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يكن رُوِيَ من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد تَقَدَّمَ مسنداً؟ "4.   (4/ 3) . 2 انظر: الجرح والتعديل: (1/ 1/ 474) ، وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 160) . 3 التقريب: (ص 404) . 4 إغاثة اللهفان: (1/ 192) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 فَتَلَخَّصَ من ذلك: أَنَّ حديثَ أبي هريرة الماضي حديثٌ حسنُ الإسناد، كما حَكَمَ ابن القَيِّم - رحمه الله - عليه، وأنه قد يعتضد بهذه الشواهد - المسند منها والمرسل - فيصبح صحيحاً لغيره، فإن وقف عند كونه حسناً، فحسبه ذلك. وقد حسنه - أيضاً -: الحافظ ابن حجر1، والشيخ الألباني رحمه الله، فقال: "رواه أبو داود وأحمد بسند حسن"2. وقال مرة: "وسنده حسن، ومن صححه فقد ذهل أو تساهل، نعم الحديث صحيح باعتبار ما له من الشواهد ... "3. قلت: وصحح النووي إسناده4، وهو غير مُسَلَّم لما مضى بيانه، والله أعلم.   1 كما في الفتوحات الربانية: (3/ 313) . 2 تحذير الساجد: (ص 142) . 3 التعليق على المشكاة: (1/ 292) . 4 الأذكار: (ص 97) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 4 - باب ما جاء في أطفال المشركين 128- (5) عن أبي رجاء العطاردي قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول وهو على المنبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزالُ أمرُ هذه الأمَّة مواتياً1 - أو مقارباً - ما لم يتكلموا في الولدان والقدر". قال أبو حاتم - يعني ابن حبان -: "الولدان. أراد بهم: أطفال المشركين". عزا ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث إلى (صحيح ابن حبان) ، ثم قال: "وأَمَّا حديث أبي رجاءٍ العطاردي، عن ابن عباس: ففي رَفْعِهِ نَظَرٌ، والنَّاس إنما رووه موقوفاً عليه، وهو الأشبهُ، وابن حِبَّان كثيراً ما يرفعُ في كتابه ما يَعْلَمُ أئمة الحديث أنه موقوف"2. وقال في موضع آخر: "في القلب من رَفْعِهِ شيءٌ، وإن أَخْرَجَهُ ابن حبان في (صحيحه) ، وهو يدلُّ على ذَمِّ من تَكَلَّمَ فيهم بغير علم، أو ضَرَبَ النُّصوصَ بعضها ببعض فيهم ... وأما من تَكَلَّمَ فيهم بعلمٍ وحقٍّ: فلا"3.   1 المواتاة: حسنُ المطاوعة والموافقة، وأصله الهمز فخفف وكثر، حتى صار يقال بالواو الخالصة، وليس بالوجه. (النهاية 1/ 22) . 2 أحكام أهل الذمة: (2/ 622 - 623) . 3 طريق الهجرتين: (ص 674) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 قلت: هذا الحديث أخرجه ابن حبان في (صحيحه) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، كلاهما من طريق: الحسن بن سفيان، عن محمد بن أبان الواسطي3 ويزيد بن صالح اليشكري4. وأخرجه الحاكم في (مستدركه) من طريق: أبي داود السجستاني، عن سليمان بن حرب5 وشيبان بن أبي شيبة6. كلهم من طريق: جرير بن حازم، عن أبي رجاء العطاردي7، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً، باللفظ المتقدم، ووقع عند الحاكم: "مُؤَامراً" بدل "مواتياً". قال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولا نعلم   1 الإحسان: (8/ 255) ح 6689. (1/33) . 3 الطَحَّان، صدوقٌ تَكَلَّمَ فيه الأزدي، من العاشرة، مات سنة 238 هـ/خ. (التقريب 465) . 4 أبو خالد، الفَرَّاء، النيسابوري، قال أبو حاتم: "مجهول"، فرده الذهبي بقوله: "بل مشهور صدوق". وَوَثَّقَه ابن حبان. الجرح والتعديل: (4/2/272) ، ثقات ابن حبان: (9/275) ، المغني في الضعفاء: (2/750) . (وانظر الميزان: 4/ 429) . 5 الأزدي، البصري، قاضي مكة، ثقة إمام حافظ /ع. (التقريب 250) . 6 هو: شيبان بن فروخ الحبطي الأبلي، صدوق يهم ورمي بالقدر/ م د س. (التقريب269) . 7 هو: عمران بن ملحان - ويقال: ابن تيم - مشهور بكنيته، مخضرم، ثقة، مُعَمَّر، مات سنة 105هـ/ ع. (التقريب430) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 له علة، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي - رحمه الله -. قال الشيخ الألباني: "وهو كما قالا"1. وساقه الحافظ الذهبي - رحمه الله - في ترجمة ابن حبان من (سير النبلاء) 2 بإسناده إليه، ثم قال: "هذا حديث صحيح، ولم يخرج في الكتب الستة". وعزاه الهيثمي إلى البزار والطبراني، ثم قال: "ورجال البزار رجال الصحيح"3. فقد صحح الحديث مرفوعاً - كما نرى -: ابن حبان، والحاكم، والذهبي، والهيثمي، والألباني، ولم يقل أحد منهم: بأن رفعه خطأ. وحينئذ فلا وجه لما قاله ابن القَيِّم من أن الصواب وقفه على ابن عباس، وأما قوله: "والناس إنما رووه موقوفاً عليه" فلم أقف بعد البحث على من رواه كذلك. وأما تضعيفه من قِبَلِ ابن حبان، وأنه هو الذي رفعه: فغير مقبول أيضاً، وقد رواه الحاكم – كما سلف - من غير طريق ابن حبان، والبزار - وهو متقدم على ابن حبان - فكلهم جاء به مرفوعاً، فلم يبق متعلق في ذلك على ابن حبان، والله أعلم.   1 السلسلة الصحيحة: (4/ 19 - 20) ح 1515. (16/ 103 - 104) . 3 مجمع الزوائد: (7/ 202) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 الخاتمة في نهاية دراستي هذه لابن القَيِّم وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها، وبعد هذا التجوال في تراثه وآثاره النافعة، أسجل خلاصة ما تَضَمَّنَهُ بحثي هذا وأهمَّ النتائج التي أسفرتْ عنها هذه الدراسة: 1- أَنَّ هذا الدِّين محفوظ بحفظ الله - عز وجل - له، وأنَّ من مظاهر هذا الحفظ: أولئك الأعلام الأفذاذ، والجهابذة الحُفَّاظ، الذين هَيَّأَهُم اللهُ - سبحانه - للذود عن دينه، ونُصْرَةِ شَرِيعَتِهِ، وأنَّ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ تأييداً خَاصَّاً من الله عز وجل. 2- أنَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - كان واحداً من أولئك الأعلام الذين نَصَرَ الله بهم الحق وهزم الباطل، وأظهر بهم السنة وقَمَعَ البدعة. 3- كانت العلاقة وثيقة بين ابن القَيِّم وبين العصر الذي عاش فيه تأثراً وتأثيراً؛ لذا فقد كان للأوضاع السياسية، والاجتماعية، والدينية الْمُتَرَدِّيَةِ آنذاك أكبر الأثر على تَوَجُّهَاتِ ابن القَيِّم ودعوته الإصلاحية. 4- أن ابن القَيِّم ولد في أُسْرَةٌ طَيِّبَة، وأن والده كان من أهل العلم والفضل، مما كان له - بتوفيق الله - أثر كبير في النشأة الصالحة لابن القَيِّم رحمه الله، وسلوكه طريق العلم وأهله. 5- لقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - متحلياً بمحاسن الأخلاق، وجميل العادات، مع الاجتهاد في الطاعة والجدِّ في العبادة، وذلك بشهادة كل من عرفه وعايشه، فجمع - رحمه الله - بذلك بين العلم والعمل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 فبورك له في علمه ودعوته، وعمَّ النفع بهما، وَسَرَتْ بركة ذلك في الأجيال من بعده إلى يومنا هذا. 6- عاش ابن القَيِّم حياته مجاهداً من أجل تحقيق أهداف نبيلة وغايات جليلة، تمثلت في: الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسُّنَّة الصحيحة، ونبذ ما سوى ذلك من البدع الْمُحْدَثَةِ والآراءِ المستحدثة، ومحاربة التَّعَصُّبِ المذهبيِّ، والتقليد الأعمى. ولقد كان ملتزماً ذلك في حياته كلها عملاً وسلوكاً، فأحيا الله على يديه - ومن قبله شيخه ابن تَيْمِيَّة - الدعوة السلفية النَيِّرَة في تلك الحقبة المظلمة. 7- تَعَرَّضَ ابن القَيِّم - رحمه الله - في مسيرته الإصلاحية لمحنٍ شديدة وابتلاءات عديدة، نتيجة لصدعه بالحق، وقيامه في وجه الباطل، فلم يزده ذلك إلا ثباتاً على مبادئه، وصلابةً في مواجهة أعداء السُّنَّة وأهلها، فضرب - رحمه الله - بذلك أروع الأمثلة في الصبر والثبات وتحمل الأذى في ذات الله عز وجل. 8- أما عن حياته العلمية: فقد بَرَّزَ وتفوق - رحمه الله - في علوم عديدة، بشهادة الأئمة الأعلام له بذلك، وهنا نقف على حقيقة مهمة، وهي: صعوبةُ الحُكْمِ على ابن القَيِّم - رحمه الله - بالتَّخَصُّصِ في فَنٍّ بعينه على حساب الفنون الأخرى؛ فقد شُهِدَ له بالتفوق في سائر العلوم والتقدم فيها. 9- لقد كان لتتلمذ ابن القَيِّم - رحمه الله - على خيرةِ علماءِ عصرهِ وأعلام وقته - مع ولوعه باقتناء الكتب وجمعها - أثر كبير في تفوقه وبروزه العلمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 10- وبعد هذه الرحلة المباركة في خدمة هذا الدين، ترك ابن القَيِّم - رحمه الله - كتباً ومؤلفات مباركة، عَمَّ النفع بها على مَرِّ العصور والأزمان، حتى وقتنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فانقطع عمله - رحمه الله - من الدنيا، إلا من هذا العلم النافع، فلا زال النفع به مستمراً، جزاه الله عن الإسلام وأهله خيراً. 11- ولقد توافرت لمؤلفات ابن القَيِّم - رحمه الله - خصائص وميزات عديدة، كان لها أثر كبير في رِفْعَةِ شأنها وذيوعِ صيتها، وعشقِ القلوب لها، مع انتفاعِ البعيد والقريب بها. 12- وفيما يتعلق بجانب الحديث وعلومه - موضوع هذه الدراسة - تبرز بعض الحقائق المهمة، فمن ذلك: - تَمَكُّنُ ابن القَيِّم - رحمه الله - من قواعد (مصطلح الحديث) ، ومعرفته التامة بها، وتطبيقه لتلك القواعد واستفادته منها أثناء دراسته للأحاديث النبوية ومناقشتها. بل إن له فضل السبق والتميز في بعض قضايا المصطلح؛ ككلامه في تقسيم الحديث الحسن إلى ثلاث مراتب، كما مرّ معنا. - معرفته التامة بقواعد "الجرح والتعديل ونقد الرواة" ورسوخ قدمه في ذلك، كما سبق بيانه عند الكلام على إفاداته في هذا الباب، ومَنْ وَقَفَ على ما أضافه من ضوابط وتفصيلات في مسألة "طلب تفسير الجرح"، - مثلا - عَلِمَ إمامة الرجل في هذا الفنِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 - لابن القَيِّم - رحمه الله - في نقد رواة الأحاديث، والكلام على الرجال جرحاً وتعديلاً منهج مميزٌ، مع معرفة تامة بأقوال أئمة الشأن في الرواة: عالماً بمراميها، مُرَجِّحَاً بين مختلفها، موفقاً بين ما ظاهره التعارض منها. - ومع كل ذلك: نرى اجتهاد ابن القَيِّم - رحمه الله - في إصدار أحكامٍ جامعةٍ على كثير من الرواة، وبيان مرتبتهم ومنزلتهم من القبول أو الردِّ؛ بما يدلُّ على شخصية مستقلة، وقدمٍ راسخةٍ، وإمامةٍ وتقدُّم في هذا الفن. وحسبه في هذا الباب شرفاً أن يعتمد على أقواله في الرجال مثل الحافظ ابن حجر، كما تقدَّمَ نقل أمثلة لذلك عند الكلام على "أهمية أقوال ابن القَيِّم في الجرح والتعديل"، بل لعل قوله - رحمه الله - في العلاء ابن إسماعيل: (مجهول) ، يُعَدُّ المصدر الوحيد - فيما أعلم - للحكم على هذا الرجل. - ظهرت ثمرة تمكن ابن القَيِّم من قواعد علوم الحديث في تطبيقه لتلك القواعد واستفادته منها في الحكم على المرويات ونقدها، بعد بذل الجهد في تخريجها وجمع طرقها. وبذلك تبرز قيمة هذه القواعد وفائدتها في تحقيق الهدف الأسمى والمطلوب الأعلى، وهو: تمييز صحيح الأخبار من سقيمها، ومعلولها من سليمها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 13- لم تقف جهود ابن القَيِّم عند هذا الحدِّ في مجال علوم الحديث وفنونه المختلفة، بل كانت له إسهامات مميزةٌ في جوانب أخرى، تمثل ذلك في: شرح الحديث، وبيان غريبه، واستنباط فقهه وأحكامه، واستخراج فوائده، والكشف عن دقائقه. وبذلك يقدِّم لنا - رحمه الله - مثالاً يُحْتَذى في الجمع بين: المعرفة بقواعد الحديث وقوانين روايته، والفقه فيه ومعرفة أحكامه ودرايته. وذلك - لا شكَّ - من أعظم المقاصد، وأسمى المطالب. 14- وتأكيداً للجانب العملي التطبيقي في إبراز جهود ابن القَيِّم في خدمة السنة النبوية وعلومها، فقد تناول هذا البحث مجموعة من الأحاديث التي حكم عليها ابن القَيِّم بتصحيح أو تضعيف أو غير ذلك، وتمت دراستها في ضوء أقوال الأئمة المعتبرين وحكمهم عليها، وقد بلغ عدد الأحاديث المدروسة حوالي مائة وأربعين حديثاً، أصاب ابن القَيِّم - رحمه الله - في الحكم على أكثرها، وجاء حكمه مرجوحاً في عدد قليل منها، ولا يضره ذلك ولا يقلل من مكانته؛ فإن ذلك يُعَدُّ قليلاً في جنب ما وُفِّقَ وسُدِّد فيه رحمه الله. 15- هذه الأحكام التي صدرت من هذا الإمام الجهبذ، تعد خدمةً جليلةً في مجال نقد المرويات الحديثية، وبيان درجتها، وتمييز صحيحها من غيره، وتمثل حلقة في سلسلة الجهود المباركة لأئمة النقد وفرسانه على مرِّ العصور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 وفي النية - إن شاء الله - حَصْرُ كُلِّ الأحاديث التي تَكَلَّم عليها في جميع مؤلفاته، وتصنيفها، وإخراجها مطبوعة بحول الله وقوته، خدمة للسنة النبوية المشرفة، ولبنة تضاف إلى البناء الموسوعي في مجال نقد المرويات الحديثية والحكم عليها. 16- وأخيراً: فإنه لا يفوتني أن أُسَجِّل توصيةً واقتراحاً ظهرت لي أهميته خلال رحلتي مع هذا الإمام العلامة، وهو: أنَّ تراثَ ذلك الإمام البحر لا يزال في حاجة مَاسَّة إلى خدمة أهل العلم وطلابه، وذلك باستخراج مكنون فوائده، وتقريب علومه للناس عامة، وأحسب أن ما قام به الشيخ بكر أبو زيد في كتابه: (تقريب فقه ابن القَيِّم) يمثل نموذجاً يُحْتَذَى في بقية علوم ابن القَيِّم. فإنَّ استخراج الفوائد المتعلقة بكلِّ فَنٍّ من كُتب ابن القَيِّم المختلفة، وضَمِّ ما توافَقَ من ذلك في شكل موسوعي، أمرٌ تتطلبه ظروف الحياة العلمية في وقتنا الحاضر. ولذلك فإنني أهيبُ بالهيئات العلمية المتخصصة - وعلى رأسها أقسام الدراسات العليا في هذه البلاد المباركة - أن توجه جهود باحثيها إلى خدمة علوم هذا الإمام وتراثه المبارك. وَيُقَال مثل ذلك عن كتبه ومؤلفاته؛ فإن الكثير منها لا يزال بحاجة إلى تحقيق عِلْمِيٍّ يليقُ بمكانة هذا الإمام، ويتيح فرصاً أكثر للانتفاع بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 ولذلك فإنني ألفت أنظار أهل العلم الغيورين على تراث هذا الإمام، المحبين له ولعلومه، إلى أن يولوا هذا الأمر عنايتهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 مصادر ومراجع ... المصادر المطبوعة 1- ابن قيم الجوزية - حياته وآثاره. د/ بكر بن عبد الله أبو زيد. نشر المكتب الإسلامي - بيروت، ومكتبة الرشد - الرياض، ط2، 1403هـ. 2- ابن قيم الجوزية وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف. د/ عبد الله محمد جار النبي. نشر مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، ط1، 1406هـ. 3- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية. لابن القيم. تصحيح لجنة بإشراف الناشر - نشر دار الكتب العلمية - بيروت، ط1، 1404هـ. 4- الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة. لأبي الحسنات، محمد بن عبد الحي، اللكنوي، الهندي (ت1304هـ) . تحقيق: عبد الفتاح أبي غدة - نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط2، 1404هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 5- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ترتيب علاء الدين علي بن بلبان الفارسي (ت 739هـ) . تحقيق: كمال يوسف الحوت - نشر دار الكتب العلمية - بيروت، ط1، 1407هـ. 6- أحكام أهل الذمة. لابن القيم. تحقيق: د/ صبحي الصالح - نشر دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1401هـ. 7- أحوال الرجال. لأبي إسحاق، إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني (ت 259هـ) . تحقيق: السيد صبحي السامرائي - نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1405هـ. 8- اختصار علوم الحديث. للحافظ ابن كثير (ت 774هـ) . تحقيق: أحمد محمد شاكر - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، (مطبوع مع الباعث الحثيث) . 9- اختلاف الحديث. للإمام الشافعي محمد بن إدريس (ت 204هـ) . تحقيق: محمد أحمد عبد العزيز - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1406هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 10- آداب الزفاف في السنة المطهرة. لمحمد ناصر الدين الألباني. نشر مكتبة التراث الإسلامي، عمان الأردن، ط2، للطبعة الجديدة بالقاهرة، 1409هـ. 11- الأدب المفرد. للإمام البخاري، محمد بن إسماعيل (ت 256هـ) . نشر دار الكتب العلمية، بيروت. 12- الأذكار النووية. للنووي، محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676هـ) . تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - نشر دار الملاح، 1391هـ. 13- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. للشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني. إشراف/ زهير الشاويش - نشر المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1399هـ. 14- الاستذكار لمذاهب فقهاء الأمصار لابن عبد البر، يوسف بن عبد الله بن محمد (ت 463هـ) . تحقيق: علي النجدي ناصف - نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1393هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 15- الاستيعاب في أسماء الأصحاب. لأبي عمر بن عبد البر. مطبوع بهامش الإصابة - (انظر الإصابة) . 16- الأسماء والصفات. للبيهقي، أحمد بن علي بن الحسين (ت 458هـ) . نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405هـ. 17- الإصابة في تمييز الصحابة. لابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر (ت 852هـ) . نشر مطبعة السعادة، مصر، ط1، 1328هـ. 18- أصول التخريج ودراسة الأسانيد. للدكتور/ محمود الطحان. نشر مكتبة الرشد، الرياض، السعودية، ط5، 1403هـ. 19- الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار. لأبي بكر محمد بن موسى الحازمي (ت 584هـ) . تعليق: راتب حاكمي - نشر مطبعة الأندلس، حمص، ط1، 1386هـ. 20- اعتقادات فرق المسلمين والمشركين. للرازي، فخر الدين محمد بن عمر (ت 606هـ) . تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، ومصطفى الهواري - نشر مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1398هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 21- إعلام الموقعين عن رب العالمين. لابن القيم، شمس الدين، محمد بن أبي بكر (ت 751هـ) . تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، نشر دار الجيل، بيروت. 22- إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان. لابن القيم. تحقيق: محمد عفيفي - نشر المكتب الإسلامي، الرياض، السعودية، ومكتبة فرقد الخاني، ط1، 1406هـ. 23- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان. لابن القيم. تحقيق: محمد حامد الفقي - نشر دار المعرفة، بيروت، ط2، 1395هـ. 24- الاقتراح في بيان الاصطلاح. لتقي الدين بن دقيق العيد (ت 702هـ) . تحقيق: قحطان الدوري - نشر مطبعة الإرشاد، بغداد، 1402هـ 25- الإلزامات والتتبع. للدارقطني، علي بن عمر (ت 385هـ) . تحقيق: مقبل بن هادي الوادعي - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1405هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 26- الإلمام بأحاديث الأحكام. لتقي الدين ابن دقيق العيد. تعليق: محمد سعيد المولوي - نشر دار الثقافة الإسلامية، الرياض، ط1، 1383هـ. 27- الأمثال في القرآن الكريم. لابن القيم. تحقيق: سعيد محمد نمر الخطيب - نشر دار المعرفة، بيروت، 1981م. 28- الأمصار ذوات الآثار. للحافظ الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748هـ) . تحقيق: قاسم علي سعد - نشر دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1406هـ. 29- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث. لأحمد محمد شاكر. نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط2 (مطبوع مع اختصار علوم الحديث) . 30- البداية والنهاية: لابن كثير، عماد الدين أبي الفداء (ت 774هـ) . تحقيق: د/ أحمد أبو ملحم، د/ علي نجيب عطوي وآخرون - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 31- بدائع الفوائد. لابن القيم. نشر دار الكتاب العربي، بيروت. 32- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. للشوكاني، محمد بن عليّ بن محمد (ت1250هـ) . نشر الشيخ معروف باسندوه، القاهرة، ط1، 1348هـ. 33- بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس. لأحمد بن يحيى الضَّبِّي (ت 599هـ) . نشر دار الكاتب العربي، بيروت 1967م. 34- بغية الملتمس في سباعيات حديث مالك بن أنس. للعلائي، صلاح الدين خليل بن كيكلدي (ت 761هـ) . تحقيق: حمدي السلفي - نشر عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1405هـ. 35- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة. لجلال الدين السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911هـ) . تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم - نشر دار الفكر، ط4، 1399هـ. 36- بلوغ المرام من أدلة الأحكام. لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . تحقيق: محمد حامد الفقي - نشر دار النهضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 37- التاج المكلل من جواهر الطراز الآخر والأول. لصديق حسن خان (ت 1307هـ) . تحقيق: عبد الحكيم شرف الدين - نشر المطبعة الهندية، بمباي - الهند، ط2، 1383هـ. 38- التاريخ. ليحيى بن معين، برواية الدوري عنه. تحقيق: د/ أحمد نور سيف - نشر مركز البحث العلمي لإحياء التراث، بجامعة أم القرى، ط1، 1399هـ. 39- تاريخ أبي زرعة الدمشقي. لعبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان، البصري (ت 281هـ) . تحقيق: شكر الله قوجاني. 40- تاريخ أسماء الثقات. لابن شاهين، أبي حفص عمر بن شاهين (ت 385هـ) . تحقيق: صبحي السامرائي - نشر الدار السلفية، الكويت، ط1، 1404هـ. 41- تاريخ بغداد. لأبي بكر، أحمد بن علي بن ثابت، الخطيب (ت 463هـ) . نشر دار الكتاب العربي، بيروت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 42- تاريخ الثقات. للحافظ، أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي (ت 261هـ) (بترتيب الهيثمي) . تحقيق: عبد المعطي قلعجي - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ. 43- تاريخ الدارمي عن ابن معين في تجريح الرواة وتعديلهم. لعثمان بن سعيد الدارمي (ت 280هـ) . تحقيق: د/ أحمد نور سيف - نشر مركز البحث العلمي، جامعة أم القرى بمكة. 44- التاريخ الكبير. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ) . نشر دار الكتب العلمية، بيروت (عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، الهند، 1361هـ) . 45- تأويل مختلف الحديث. لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276هـ) . تصحيح: محمد زهري النجار - نشر دار الجيل، بيروت، 1393هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 46- تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد. للشيخ: محمد ناصر الدين الألباني. نشر المكتب الإسلامي، بيروت، ط3، 1398هـ. 47- تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي. للمباركفوري (ت 1253هـ) . تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان - نشر المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ط2، 1384هـ. 48- تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف. للحافظ جمال الدين، أبي الحجاج المزي (ت 742هـ) . تحقيق: عبد الصمد شرف الدين - نشر الدار القيمة، بمباي، الهند، ط1، 1403هـ. 49- تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين. للشوكاني، محمد بن علي بن محمد (ت 1250هـ) . تحقيق: محمد بن محمد زبارة - نشر شركة مصطفى الحلبي، القاهرة، ط2، 1375هـ. 50- تحفة المودود بأحكام المولود. لابن القيم. تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - نشر مكتبة دار البيان، دمشق، ط1، 1391هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 51- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. لجلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911هـ) . تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف - نشر دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط2، 1385هـ. 52- تذكرة الحفاظ. لأبي عبد الله الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748هـ) . نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1. 53- تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم. لابن جماعة، إبراهيم بن سعد الله (ت 733هـ) . تحقيق: السيد محمد هاشم الندوي - نشر دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1354هـ (وعنها صورته دار الكتب العلمية - بيروت) . 54- الترغيب والترهيب. للأصبهاني، أبي القاسم إسماعيل بن محمد (ت 535هـ) . تحقيق: محمد بسيوني زغلول - نشر مكتبة النهضة الحديثة. 55- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف. لزكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت 656هـ) . تحقيق: مصطفى محمد عمارة - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1406هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 56- التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح. لأبي الوليد الباجي (ت 474هـ) . تحقيق: د/ أبو لبابة حسين - نشر دار اللواء، الرياض، ط1، 1406هـ. 57- تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس. لابن حجر العسقلاني، (ت 852هـ) . تحقيق: عبد الغفار سليمان البنداري، ومحمد أحمد عبد العزيز - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ. 58- تغليق التعليق على صحيح البخاري. لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . تحقيق: سعيد موسى القزقي - نشر المكتب الإسلامي، دار عمار، ط1، 1405هـ. 59- تفسير القرآن العظيم. لابن كثير، عماد الدين (ت 774هـ) . تصحيح: نخبة من العلماء - نشر دار إحياء الكتب العربية، القاهرة. 60- تقريب التهذيب. لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . تحقيق: محمد عوامة - نشر دار الرشيد، حلب، سوريا، ط1، 1406هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 61- التقريب والتيسير. للإمام النووي، محيي الدين يحيى بن شرف (ت 676هـ) . نشر مكتبة خاور، باكستان، لا هور، 1399هـ. 62- التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح. للحافظ عبد الرحيم بن الحسين، العراقي (ت 806هـ) . تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان - نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط1، 1389هـ. 63- التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني - نشر المدينة المنورة، 1384هـ. 64- تمام المنة في التعليق على فقه السنة. لمحمد ناصر الدين الألباني. نشر المكتبة الإسلامية، الأردن، ودار الراية، الرياض، ط2، 1408هـ. 65- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. لأبي عمر بن عبد البر (ت 463هـ) . تحقيق: مجموعة من المحققين - نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، (ج1 - 21) من سنة 1387 - 1410هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 66- التمييز. للإمام مسلم بن الحجاج (ت 261هـ) . تحقيق: د/ محمد مصطفى الأعظمي - نشر شركة الطباعة السعودية، الرياض، ط2، 1402هـ. 67- تهذيب التهذيب. لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . نشر دار الفكر العربي، صورة عن طبعة دائرة المعارف النظامية بالهند، ط1، 1327هـ. 68- تهذيب سنن أبي داود. لابن القيم. تحقيق: أحمد محمد شاكر، ومحمد حامد الفقي - نشر دار المعرفة، بيروت. 69- تهذيب الكمال في أسماء الرجال. للمزي، جمال الدين، أبي الحجاج يوسف المزي (ت 742هـ) . تحقيق: بشار عواد - نشر مؤسسة الرسالة، بيروت. 70- التوحيد وإثبات صفات الرب عزوجل. لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311هـ) . تحقيق: د/ عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان - نشر دار الرشيد، الرياض، ط1، 1408هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 71- الثقات. لأبي حاتم، محمد بن حبان البستي (ت 354هـ) . نشر مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، ما بين (1393 - 1403هـ) ط1. - (الثقات) لابن شاهين = تاريخ أسماء الثقات. - (الثقات) للعجلي = تاريخ الثقات. 72- جامع الأصول في أحاديث الرسول. لأبي السعادات، المبارك بن محمد بن الأثير (ت 606هـ) . تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - نشر مكتبة دار البيان، بيروت وغيرها، 1392هـ. 73- جامع البيان عن تأويل آي القرآن. للطبري، محمد بن جرير (ت 310هـ) . تحقيق: محمود محمد شاكر، وأحمد محمد شاكر - نشر دار المعارف، القاهرة. 74- جامع التحصيل في أحكام المراسيل. لصلاح الدين العلائي (ت 761هـ) . تحقيق: حمدي السلفي - نشر وزارة الأوقاف بالعراق، 1398هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 75- جامع الترمذي. لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت 279هـ) . تحقيق: أحمد محمد شاكر، وجماعة - نشر مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط2، 1398هـ. 76- الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير. للسيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911هـ) . نشر دار المعرفة، بيروت، ط2، 1391هـ (ومعه: فيض القدير شرح الجامع الصغير) . 77- الجرح والتعديل. لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ) . تحقيق: عبد الرحمن المعلمي اليماني - نشر دار الكتب العلمية، بيروت (صورة عن الطبعة الأولى في دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1271هـ) . 78- جزء القراءة خلف الإمام. للإمام البخاري (ت 256هـ) . تحقيق: فضل الرحمن الثوري - نشر المكتبة السلفية، لاهور - باكستان، ط1، 1400هـ. 79- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام. لابن القيم. نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 80- جلاء العينين في محاكمة الأحمدين. للألوسي، نعمان بن محمود خير الدين (ت 1317هـ) . نشر مطبعة المدني، القاهرة، 1381هـ. 81- الجمع بين رجال الصحيحين. لأبي الفضل محمد بن طاهر بن القيسراني (ت 507هـ) . نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1405هـ. - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء. 82- الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد. لابن عبد الهادي، يوسف بن الحسن بن عبد الهادي، الدمشقي (ت909هـ) . تحقيق: د/ عبد الرحمن بن سليمان العثيمين - نشر مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1407هـ. 83- الجوهر النقي في الرد على البيهقي. لعلاء الدين بن علي بن عثمان المارديني، ابن التركماني (ت 745هـ) . نشر دار الفكر، بيروت (مطبوع مع سنن البيهقي) . 84- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. لابن القيم. تحقيق: د/ السيد الجميلي - نشر دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1406هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 85- حجة النبي صلى الله عليه وسلم. لابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي (ت 456هـ) . تحقيق: د/ ممدوح حقي - نشر دار اليقظة العربية، بيروت، ط2، 1966م. 86- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة. للسيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911هـ) . تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم - نشر دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط1، 1387هـ. 87- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. لأبي نعيم، أحمد بن عبد الله الأصبهاني (430هـ) . نشر دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1400هـ. 88- حياة شيخ الإسلام ابن تيمية. لمحمد بهجة البيطار. نشر المكتب الإسلامي، ط2. 89- الداء والدواء. لابن القيم. تحقيق: محمد جميل غازي - نشر مطبعة المدني، القاهرة، 1398هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 90- الدارس في تاريخ المدارس. للنعيمي، عبد القادر بن محمد الدمشقي (ت 927هـ) . تحقيق: جعفر الحسني - نشر الثقافة الدينية، 1988م. 91- دراسات في علوم الحديث. للدكتور/ العجمي دمنهوري. نشر دار الطباعة المحمدية، القاهرة، ط1، 1403هـ. 92- الدراية في تخريج أحاديث الهداية. لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني - نشر دار المعرفة، بيروت. 93- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . تحقيق: محمد سيد جاد الحق - نشر دار الكتب الحديثة، القاهرة. 94- الدعاء. لأبي القاسم، سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360هـ) . تحقيق: د/ محمد سعيد بن محمد حسن البخاري - نشر دار البشائر الإسلامية، ط1، 1407هـ. 95- الدليل الشافي على المنهل الصافي. لابن تَغْري بردي، (ت 874هـ) . تحقيق: فهيم محمد شلتوت - نشر مركز البحث العلمي، كلية الشريعة، مكة المكرمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 96- ذم الملاهي. لابن أبي الدنيا، أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد (ت 281هـ) . تحقيق: محمد عبد القادر عطا - نشر دار الاعتصام، القاهرة، 1387م. 97- الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام. للدكتور/ بشار عواد. نشر مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، ط1، 1976م 98- ذيل ابن عبد الهادي على طبقات ابن رجب. ليوسف بن حسن بن عبد الهادي (ت 909هـ) . تحقيق: محمود بن محمد الحداد - نشر دار العاصمة، الرياض، ط1، 1408هـ. 99- ذيل تذكرة الحفاظ. لأبي المحاسن محمد بن علي بن الحسن الحسيني، الدمشقي (ت 765هـ) . نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت. 100- ذيل تذكرة الحفاظ. للحافظ جلال الدين السيوطي (ت 911هـ) . نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 101- ذيل طبقات الحنابلة. لأبي الفرج، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (ت 795هـ) . تحقيق: محمد حامد الفقي - نشر مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1372هـ. 102- ذيل العبر في خبر من غبر. لأبي المحاسن الدمشقي، محمد بن علي بن الحسن الحسيني (ت 765هـ) . تحقيق: أبي هاجر محمد بسيوني زغلول - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ. 103- رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد. تحقيق: محمد حامد الفقي - نشر حديث أكادمي، فيصل آباد، باكستان، 1402هـ. 104- الرد الوافر. لابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842هـ) . تحقيق: زهير الشاويش - نشر المكتب الإسلامي. 105- الرسالة. للإمام الشافعي (ت 204هـ) . تحقيق: أحمد محمد شاكر. (بدون تاريخ طبع، وبدون ناشر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 106- رسالة في الرد على الرافضة. لأبي حامد محمد المقدسي (ت 888هـ) . تحقيق: عبد الوهاب خليل الرحمن - نشر الدار السلفية، الهند، ط1، 1403هـ. 107- الرفع والتكميل في الجرح والتعديل. لمحمد بن عبد الحي اللكنوي (ت 1304هـ) . تحقيق: عبد الفتاح أبي غدة - نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، سوريا، ط3، 1407هـ. 108- الروح. لابن القيم. نشر مكتبة المدني، جدة، السعودية. 109- الروض الأنف في شرح السيرة النبوية. لعبد الرحمن السهيلي (ت 581هـ) . تحقيق: عبد الرحمن الوكيل - نشر دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1390هـ. 110- روضة المحبين ونزهة المشتاقين. لابن القيم. تحقيق: د/ السيد الجميلي - نشر دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1407هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 111- رياض الصالحين. للنووي، محيي الدين، يحيى بن شرف (ت676هـ) . تحقيق: عبد العزيز رباح وأحمد الدقاق - نشر دار المأمون للتراث، بيروت، ط2. 112- زاد المعاد في هدي خير العباد. لابن القيم. تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عبد القادر الأرنؤوط - نشر مؤسسة الرسالة، مكتبة المنار، ط3، 1406هـ. 113 - سبل السلام شرح بلوغ المرام. للصنعاني، محمد بن إسماعيل الأمير (ت 1182هـ) . تحقيق: محمد عبد العزيز الخولي - نشر دار الجيل، 1400هـ. 114- سلسلة الأحاديث الصحيحة. لمحمد ناصر الدين الألباني. نشر المكتب الإسلامي، ط2، 1399هـ. 115- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة. لمحمد ناصر الدين الألباني. نشر المكتب الإسلامي، بيروت، ط4، 1398هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 116- السلوك لمعرفة دول الملوك. للمقريزي، أبي العباس، أحمد بن علي (ت 845هـ) . تحقيق: محمد مصطفى زيادة - نشر مطبعة لجنة التأليف والنشر والترجمة، القاهرة، ط1، 1958م. 117- السنن. لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275هـ) . تحقيق: عزت عبيد الدعاس - نشر محمد علي السيد، حمص، سوريا، ط1، 1388هـ. 118- السنن. لأبي عبد الله، محمد بن يزيد بن ماجه، القزويني (ت 275هـ) . تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي - نشر دار إحياء الكتب العربية. 119- السنن. للإمام علي بن عمر الدارقطني (ت 358هـ) . نشر دار الفكر، بيروت. (معه: التعليق المغني) . 120- السنن. لسعيد بن منصور (ت 227هـ) . تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ. 121- السنن الصغرى (المجتبى) . للإمام أحمد بن شعيب النسائي (ت 303هـ) . نشر إحياء التراث العربي، بيروت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 122- السنن الكبرى. لأبي بكر، أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458هـ) . نشر دار الفكر، بيروت. 123- السُّنَّة. للإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل - عن أبيه. تحقيق: أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ. 124- السُّنَّة. لابن أبي عاصم، الضحاك بن مخلد الشيباني (ت 287هـ) . نشر المكتب الإسلامي، ط1، 1400هـ. 125- سؤالات الآجري أبا داود في الجرح والتعديل ج3. تحقيق: محمد علي قاسم العمري - نشر المجلس العلمي، إحياء التراث الإسلامي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط1، 1403هـ. 126- سؤالات ابن الجنيد ليحيى بن معين. لإبراهيم بن عبد الله الختلي (ت 260هـ) . تحقيق: د/ أحمد محمد نور سيف - نشر مكتبة الدار بالمدينة المنورة، ط1، 1408هـ. 127- سؤالات البرقاني للدارقطني. تحقيق: د/ عبد الرحيم القشقري - نشر أحمد ميان تهانوي، لاهور، باكستان، ط1، 1404هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 128- سؤالات الحاكم النيسابوري للدارقطني. تحقيق: د/ موفق بن عبد الله بن عبد القادر - نشر مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1404هـ. 129- سؤالات حمزة السهمي للدارقطني وغيره من المشايخ. تحقيق: د/ موفق بن عبد الله - نشر مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1404هـ. 130- سؤالات محمد بن عثمان بن أبي شيبة لعلي بن المديني في الجرح والتعديل. تحقيق: د/ موفق بن عبد الله - نشر مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1404هـ. 131- سير أعلام النبلاء. للحافظ أبي عبد الله الذهبي (ت 748هـ) . تحقيق: بشار عواد، وشعيب الأرنؤوط وغيرهما - نشر مؤسسة الرسالة ما بين سنة (1401 - 1405هـ) . 132- السيرة النبوية. لابن هشام. تحقيق: مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي - القاهرة، ط2، 1375هـ. 133- شذرات الذهب في أخبار من ذهب. لأبي الفلاح، عبد الحيِّ بن العماد (ت 1089هـ) . نشر المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 134- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة. لأبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي (ت 418هـ) . تحقيق: د/ أحمد سعد حمدان - نشر دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض. 135- شرح ألفية العراقي. للعراقي عبد الرحيم بن الحسين (ت 806هـ) . نشر دار الكتب العلمية، بيروت. 136- شرح السنة. لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي (ت 510هـ) . تحقيق: شعيب الأرنؤوط، ومحمد زهير الشاويش - نشر المكتب الإسلامي، ط1، 1400هـ. 137- شرح صحيح مسلم. للإمام النووي، محيي الدين، يحيى بن شرف (ت 676هـ) . نشر مكتبة الرياض الحديثة. 138- شرح علل الترمذي. لزين الدين، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (ت 795هـ) . تحقيق: صبحي جاسم الحميد - نشر وزارة الأوقاف بالعراق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 139- شرح معاني الآثار. للطحاوي، أحمد بن محمد بن سلامة (ت 321هـ) . تحقيق: محمد زهري النجار - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1399هـ. 140- شرح المواهب اللدنية. للزرقاني، محمد بن عبد الباقي بن يوسف (ت 1122هـ) . نشر دار المعرفة، بيروت، ط2، 1393هـ. 141- شرف أصحاب الحديث. للخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت (ت 463هـ) . تحقيق: محمد سعيد أوغلي - نشر دار إحياء السنة النبوية، أنقرة، تركيا. 142- الشريعة. لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ت 360هـ) . تحقيق: محمد حامد الفقي - نشر باكستان، حديث أكادمي، فيصل آباد، ط1، 1403هـ. 143- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل. لابن القيم. نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1407هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 144- الشمائل المحمدية. لأبي عيسى الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة (ت 279هـ) . تعليق: محمد عفيف الزعبي - نشر دار العلم للطباعة والنشر، جدة، ط1، 1403هـ. 145- صحيح ابن خزيمة. لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311هـ) . تحقيق: د/ محمد مصطفى الأعظمي - نشر شركة الطباعة السعودية المحدودة، الرياض، ط2، 1401هـ. 146- صحيح البخاري. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ) . تصحيح: محب الدين الخطيب - نشر وتوزيع إدارة البحوث والإفتاء، الرياض (مطبوع مع فتح الباري) . 147- صحيح الجامع الصغير وزيادته. للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، نشر المكتب الإسلامي، ط1، 1388هـ. 148- صحيح سنن ابن ماجه. لناصر الدين الألباني. نشر المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1407هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 149- صحيح مسلم. لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261هـ) . تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي - توزيع إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، 1400هـ. 150- الصفات. لعليّ بن عمر الدارقطني (ت 385هـ) . تحقيق: د/ علي بن محمد بن ناصر فقيهي - ط1، 1403هـ. 151- صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. نشر المكتب الإسلامي، ط8، 1397هـ. 152- الصلاة، وحكم تاركها. لابن القيم. تحقيق: تيسير زعيتر - نشر المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ. 153- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. لابن القيم. تحقيق: د/ علي بن محمد الدخيل الله - نشر دار العاصمة، الرياض، ط1، 1408هـ. (قطعة منه في أربعة مجلدات) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 154- الضعفاء الصغير. لمحمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ) . تحقيق: بوران الضناوي - نشر عالم الكتب، بيروت، ط1، 1404هـ. 155- الضعفاء الكبير. لأبي جعفر، محمد بن عمرو بن موسى العقيلي (ت 322هـ) . تحقيق: عبد المعطي قلعجي - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1404هـ. 156- الضعفاء والمتروكين. لأبي الحسن الدارقطني (ت 385هـ) . تحقيق: د/ موفق بن عبد الله بن عبد القادر - نشر مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1404هـ. 157- الضعفاء والمتروكين. لأبي عبد الرحمن، أحمد بن شعيب النسائي (ت 303هـ) . تحقيق: محمود إبراهيم زايد - نشر دار الوعي، حلب. 158- الضعفاء والمتروكين. لأبي الفرج بن الجوزي، عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 597هـ) . تحقيق: عبد الله القاضي - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1406هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 159- ضعيف الجامع الصغير وزيادته. للشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني. نشر المكتب الإسلامي، ط2، 1399هـ. 160- ضعيف سنن ابن ماجه. للشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني. نشر المكتب الإسلامي، ط1، 1408هـ. 161- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع. لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902هـ) . نشر مكتبة الحياة، بيروت. 162- طبقات الحفاظ. لجلال الدين السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911هـ) . مراجعة: لجنة من العلماء بإشراف الناشر - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ. 163- طبقات الشافعية. لأبي بكر بن قاضي شهبة (ت 851هـ) . تحقيق: د/ عبد العليم خان - نشر مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، ط1، 1398هـ. 164- الطبقات الكبرى. لابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري (ت 230هـ) . نشر دار صادر، بيروت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 - طبقات المدلسين = تعريف أهل التقديس. 165- طبقات المفسرين. للداودي، محمد بن علي بن أحمد (ت 945هـ) . تحقيق: علي بن محمد عمر - نشر مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1392هـ. 166- طرح التثريب في شرح التقريب. لأبي زرعة العراقي (ت 826هـ) . نشر دار المعارف، سوريا، حلب. 167- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية. لابن القيم. تحقيق: محمد حامد الفقي - نشر دار الكتب العلمية، بيروت. 168- طريق الهجرتين وباب السعادتين. لابن القيم. تحقيق: عبد الله بن إبراهيم الأنصاري - نشر إدارة الشؤون الدينية بدولة قطر، 1397هـ. 169- ظلال الجنة في تخريج السنة. للشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني. نشر المكتب الإسلامي، ط1، 1400هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 170- عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي. لابن العربي المالكي (ت 543هـ) . نشر دار العلم للجميع، سوريا. 171- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين. لابن القيم. تحقيق: زكريا علي يوسف - نشر مطبعة الإمام، القاهرة. 172- العرش وما روي فيه. لابن أبي شيبة، محمد بن عثمان العبسي (ت 297هـ) . تحقيق: محمد بن حمد الحمود - نشر مكتبة المعلا، الكويت، ط1، 1406هـ. 173- عشرة النساء. للإمام النسائي، أحمد بن شعيب النسائي (ت 303هـ) . تحقيق: عمرو علي عمر - نشر مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1408هـ. 174- العصر المماليكي في مصر والشام. للدكتور/ سعيد عاشور. نشر دار النهضة العربية، ط1، 1965م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 175- العظمة. لأبي الشيخ الأصبهاني، عبد الله بن محمد إدريس (ت 369هـ) . تحقيق: د/ رضاء الله بن محمد إدريس - نشر دار العاصمة، الرياض، ط1، 1408هـ. 176- العلل. لابن المديني، علي بن عبد الله السعدي (ت 234هـ) . تحقيق: د/ محمد مصطفى الأعظمي - نشر المكتب الإسلامي، 1980م. 177- علل الترمذي الكبير. لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت 279هـ) . ترتيب: أبي طالب القاضي. تحقيق ودراسة: حمزة ديب مصطفى - نشر مكتبة الأقصى، عمان، الأردن، ط1، 1406هـ. 178- علل الحديث. لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ) . نشر دار المعرفة، بيروت. 179- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية. لأبي الفرج بن الجوزي (ت 597هـ) . تحقيق: إرشاد الحق الأثري - نشر إدارة العلوم الأثرية، فيصل آباد، باكستان، ط1، 1399هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 180- العلل الواردة في الأحاديث النبوية. للدارقطني، علي بن عمر (ت 385هـ) . تحقيق: د/ محفوظ الرحمن السلفي - نشر دار طيبة، الرياض، الأجزاء (1 - 7) ، ط1 (سنة 1405 - 1409هـ) . 181- العلل ومعرفة الرجال. للإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) . تحقيق: د/ طلعت بيكيت، د/ إسماعيل أوغلي - نشر المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا، 1987م. 182- عمل اليوم والليلة. للنسائي، أحمد بن شعيب (ت 303هـ) . تحقيق: د/ فاروق حمادة - نشر مؤسسة الرسالة، ط1، 1406هـ. 183- عمل اليوم والليلة. لأبي بكر، أحمد بن محمد المعروف بـ "ابن السُّنِّي" (ت 364هـ) . تحقيق: بشير محمد عيون - نشر مكتبة دار البيان، دمشق، ط1، 1407هـ. 184- العلو للعليّ الغفار. للذهبي (ت 748هـ) . تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان - نشر المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ط2، 1388هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 185- فتح الباري شرح صحيح البخاري. لابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر (ت 852هـ) . توزيع رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (انظر: صحيح البخاري) . 186- فتح المغيث شرح ألفية الحديث. لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902هـ) . تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي - نشر مطبعة الأعظمي، الهند (ج1) . 187- الفتوحات الربانية على الأذكار النووية. لمحمد بن علان الصديقي الشافعي (ت 1057هـ) . نشر جمعية النشر والتأليف الأزهرية، القاهرة، ط1، 1348هـ. 188- الفروسية. لابن القيم. تحقيق: عزت العطار الحسيني - نشر دار الكتب العلمية، بيروت. 189- فصل المقال في شرح كتاب الأمثال. لأبي عبيد البكري. تحقيق: د/ إحسان عباس، د/ عبد المجيد عابدين - نشر دار الأمانة، مؤسسة الرسالة، 1391هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 190- الفصل للوصل المدرج في النقل. للخطيب البغدادي، أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت (ت463هـ) . تحقيق: عبد السميع محمد الأنيس - نشر: دار ابن الجوزي - السعودية. ط1، 1418هـ - 1997م. 191- الفوائد. لابن القيم. نشر المكتبة القيمة، القاهرة، ط1، 1400هـ. 192- فيض القدير شرح الجامع الصغير. لمحمد بن عبد الرؤوف المناوي. نشر دار المعرفة، بيروت، ط2 (مطبوع مع الجامع الصغير) . 193- القراءة خلف الإمام. للبيهقي، أحمد بن الحسين بن علي (ت 458هـ) . تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد زغلول - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ. 194- قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث. لمحمد جمال الدين القاسمي. تحقيق: محمد بهجة البيطار - نشر دار إحياء الكتب العربية، القاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 195- القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع. لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902هـ) . نشر دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1405هـ. 196- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة. للذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748هـ) . مراجعة: لجنة بإشراف الناشر - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ. 197- الكامل في ضعفاء الرجال. لابن عدي، أحمد بن عبد الله الجُرْجَاني (ت 365هـ) . تحقيق: لجنة بإشراف الناشر - نشر دار الفكر، بيروت، ط1، 1404هـ (وط 3، 1409هـ) . 198- كشف الأستار عن زوائد البزار. لنور الدين، علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807هـ) . تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي - نشر مؤسسة الرسالة، ط2، 1404هـ. 199- الكفاية في علم الرواية. للخطيب البغدادي (ت 463هـ) . تحقيق: محمد الحافظ التيجاني - نشر دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 200- كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع. للهيثمي، أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي (ت 974هـ) . تحقيق: محمد عبد القادر عطا - نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1406هـ. 201- الكلام على مسألة السماع. لابن القيم. تحقيق: راشد بن عبد العزيز الحمد - نشر دار العاصمة، الرياض، ط1، 1409هـ. 202- الكنى والأسماء. للدولابي، محمد بن أحمد بن حماد (ت 310هـ) . نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1403هـ. 203- الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات. لمحمد بن أحمد المعروف بابن الكيال (ت 939هـ) . تحقيق: عبد القيوم عبد رب النبيِّ - نشر المجلس العلمي بجامعة أم القرى، مكة، 1401هـ. 204- لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ. لتقي الدين محمد بن فهد المكي (ت 871هـ) . نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 205- لسان العرب. لابن منظور (ت 711هـ) . تحقيق: عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهشام محمد الشاذلي - نشر دار المعارف، القاهرة. 206- لسان الميزان. لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . نشر مؤسسة الأعظمي للمطبوعات، بيروت، ط2، 1390هـ. 207- المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين. لمحمد بن حبان البستي (ت 354هـ) . تحقيق: محمود إبراهيم زايد - نشر دار المعرفة، بيروت. 208- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807هـ) . نشر دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1402هـ. 209- المجموع شرح المهذب. للنووي، يحيى بن شرف (ت 676هـ) . تحقيق: محمد نجيب المطيعي - نشر مكتبة الإرشاد، جدة، السعودية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 210- مجموع الفتاوى. لشيخ الإسلام ابن تيمية. جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد العاصمي النجدي، وولده محمد - طبعة الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين. 211- المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث. لأبي موسى المديني (ت 581هـ) . تحقيق: عبد الكريم الغرباوي - من مطبوعات مركز البحث العلمي، بجامعة أم القرى، ط1، 1406هـ. 212- الْمُحَلَّى. لابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد (ت 456هـ) . نسخة مقابلة على نسخة الشيخ/ أحمد شاكر - نشر المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت. 213- مختار الصحاح. لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي (ت 666هـ) . نشر دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1967م. 214- مختصر سنن أبي داود. للمنذري، محمد بن عبد العظيم بن عبد القوي (ت 656هـ) . تحقيق: أحمد محمد شاكر، ومحمد حامد الفقي - نشر دار المعرفة، بيروت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 215- مختصر (الشمائل المحمدية) - للترمذي. اختصره: الشيخ الألباني. نشر المكتبة الإسلامية، عمان - الأردن، ط1، 1405هـ. 216- مختصر (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) - لابن القيم. اختصره: محمد الموصلي. نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ. 217- مختصر طبقات الحنابلة. للشطي، محمد بن عمر بن محمد (ت 1379هـ) . نشر دمشق، 1339هـ. 218- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. لابن القيم. مراجعة: لجنة من العلماء بإشراف الناشر - نشر دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ. 219- مدينة دمشق - دراسة في جغرافية المدن. للدكتور/ صفوح خير. من منشورات وزارة الثقافة والسياحة - سوريا، 1969م. 220- المراسيل. لأبي داود السجستاني (ت 275هـ) . تحقيق: شعيب الأرنؤوط - نشر مؤسسة الرسالة، ط1، 1408هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 221- المراسيل. لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم (ت 327هـ) . تحقيق: شكر الله نعمة الله قوجاني - نشر مؤسسة الرسالة، 1397هـ. 222- مسائل الإمام أحمد بن حنبل - رواية ابنه عبد الله. تحقيق: علي سليمان المهنا - نشر مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط1، 1406هـ. 223- المستدرك على الصحيحين. لأبي عبد الله الحاكم، محمد بن محمد (ت 405هـ) . نشر دار الكتاب العربي، بيروت. 224- المسند. للإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) . نشر المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1398هـ. 225- المسند. للإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) . تحقيق: أحمد محمد شاكر - نشر دار المعارف، القاهرة، ط4، 1373هـ. 226- مسند أبي عوانة. ليعقوب بن إسحاق الإسفراييني (ت 310هـ) . طبع دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، 1362هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 227- مسند إسحاق بن راهويه (مسند أم المؤمنين عائشة) . لابن راهويه، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد (ت 238هـ) . تحقيق د/ عبد الغفور البلوشي. نشر مكتبة الإيمان، المدينة المنورة، ط1، 1410هـ (ج2 - 3) . 228- مسند البزار. لأبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، تحقيق: د/ محفوظ الرحمن زين الله - نشر مؤسسة علوم القرآن، بيروت، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط1، 1409هـ (الأجزاء 1 - 9) . 229- مسند الدارمي. لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت 255هـ) . تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني - نشر السنة، ملتان، باكستان. 230- مسند أبي داود الطيالسي. لسليمان بن داود (ت 204هـ) . نشر دار المعرفة، بيروت. 231- مسند الشافعي. نشر دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1400هـ. 232- مسند أبي يعلى الموصلي. لأحمد بن علي بن المثنى التميمي (ت 307هـ) . تحقيق: حسين سليم أسد - نشر دار المأمون للتراث، دمشق، بيروت، ط1 (1404هـ إلى 1409هـ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 233- مشكاة المصابيح. لمحمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، توفي بعد (737هـ) . تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني - نشر المكتب الإسلامي، ط2، 1399هـ 234- مصابيح السنة. للبغوي، أبي محمد، الحسين بن مسعود الفراء (ت 516هـ) . نشر مطبعة بولاق، القاهرة، تم طبعه 1294هـ. 235- مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه. أحمد بن أبي بكر، شهاب الدين البوصيري (ت 840هـ) . تحقيق: محمد المنتقى الكشناوي - نشر الدار العربية للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1402هـ. 236- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير. لأحمد بن محمد بن علي الفيومي (ت 770هـ) . نشر المكتبة العلمية، بيروت. 237- المصنف. لعبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت 335هـ) . تحقيق: عبد الخالق الأفغاني - نشر الدار السلفية، بمباي، الهند، 1399هـ. 238- المصنف. لعبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211هـ) . تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي - 1390هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 239- معالم السنن. لأبي سليمان الخطابي (ت 388هـ) . تحقيق: أحمد محمد شاكر، ومحمد حامد الفقي - نشر دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت (مطبوع مع مختصر المنذري، وتهذيب ابن القيم) . 240- معالم وأعلام في بلاد العرب. لأحمد قدامة. دمشق، سوريا، 1385هـ. 241- المعجم الأوسط. للحافظ أبي القاسم الطبراني، سليمان بن أحمد (ت 360هـ) . تحقيق: محمود الطحان - نشر مكتبة المعارف، الرياض (الأجزاء 1 - 3) ط1 (1405 - 1407هـ) . 242- معجم البلدان. لياقوت بن عبد الله الحموي (ت 626هـ) . نشر دار صادر، دار بيروت، بيروت. 243- معجم الشيوخ - المعجم الكبير. لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748هـ) . تحقيق: د/ محمد الحبيب الهيلة - نشر مكتبة الصديق، الطائف، السعودية، ط1، 1408هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 244- المعجم الصغير. لأبي القاسم الطبراني، سليمان بن أحمد (ت 360هـ) . نشر دار الكتب العلمية، 1403هـ. 245- المعجم الكبير. لأبي القاسم الطبراني، سليمان بن أحمد (ت 360هـ) . تحقيق: حمدي السلفي - نشر الدار العربية للطباعة والنشر، ط1، (ما بين 1978م - 1983م) . 246- المعجم المختص بالمحدثين. للذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748هـ) . تحقيق: د/ محمد الحبيب الهيلة - نشر مكتبة الصديق، الطائف، السعودية، ط1، 1408هـ. 247- معرفة علوم الحديث. لأبي عبد الله الحاكم، محمد بن محمد (ت 405هـ) . تحقيق: معظم حسين - نشر دائرة المعارف العثمانية، الهند، ط2، 1397هـ. 248- المعرفة والتاريخ. لأبي يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي (ت 277هـ) . تحقيق: د/ أكرم ضياء العمري - نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1401هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 249- المغني في الضعفاء. للحافظ شمس الدين الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748هـ) . تحقيق: د/ نور الدين عتر. 250- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة. لابن القيم. تحقيق: فكري أبي النصر - نشر دار الكتب العلمية، بيروت. 251- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة. للسخاوي، محمد بن عبد الرحمن (ت 902هـ) . تحقيق: محمد عثمان الخشت - دار الكتاب العربي، بيروت، 1405هـ. 252- مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث. لأبي عمرو، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (ت 643هـ) . نشر دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ. 253- منادمة الأطلال ومسامرة الخيال. لعبد القادر بدران (ت 1346هـ) . نشر المكتب الإسلامي، دمشق. 254- من كلام أبي زكريا بن معين في الرجال رواية أبي خالد الدقاق: تحقيق: د/ أحمد نور سيف - نشر دار المأمون للتراث، ط1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 255- المنار المنيف في الصحيح والضعيف. لابن القيم. تحقيق: عبد الفتاح أبي غدة - نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، سوريا، ط2، 1402هـ. 256- المنتقى. لابن الجارود، عبد الله بن علي (ت 307هـ) . نشر حديث أكادمي، فيصل آباد، باكستان، 1403هـ. 257- المهذب في اختصار (السنن الكبير) للبيهقي. اختصره: الذهبي (ت 748هـ) . تحقيق: حامد إبراهيم أحمد، ومحمد حسين العقبي، وزكريا علي يوسف، مطبعة الإمام - القاهرة. 258- موضح أوهام الجمع والتفريق. لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت 463هـ) . نشر دار الكتب العلمية، بيروت (مصورة عن طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند) 1378هـ. 259- الموضوعات من الأحاديث المرفوعات. لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت 597هـ) . تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان - نشر المكتبة السلفية، السعودية، المدينة المنورة، ط1، 1386هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 260- موطأ مالك. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي - نشر دار إحياء التراث العربي. 261- الموقظة في علم مصطلح الحديث. للذهبي (ت 748هـ) . تحقيق: عبد الفتاح أبي غدة - نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، سوريا، حلب، ط1، 1405هـ. 262- ميزان الاعتدال في نقد الرجال. لأبي عبد الله الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748هـ) . تحقيق: علي محمد البجاوي - نشر دار المعرفة، بيروت، 1382هـ. 263- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة. لابن تغري بردي (ت 874هـ) . نشر المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة 264- نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر. لابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (ت 852هـ) . نشر المكتبة العلمية، بيروت (ومعه: نزهة النظر) . 265- نزهة النظر شرح نخبة الفكر. لابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. انظر: (نخبة الفكر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 266- النزول. لعلي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ) . تحقيق: د/ علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، ط1، 1403هـ. 267- نصب الراية لأحاديث الهداية. للزيلعي عبد الله بن يوسف (ت 762هـ) . تصحيح: إدارة المجلس العلمي - نشر المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1393هـ. 268- النكت على كتاب ابن الصلاح. لابن حجر العسقلاني. تحقيق: د/ ربيع بن هادي المدخلي - نشر المجلس الأعلى لإحياء التراث، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1404هـ. 269- النهاية في غريب الحديث. لابن الأثير المبارك بن محمد (ت 606هـ) . تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، ومحمود الطناحي - نشر المكتبة الإسلامية. 270- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار. للشوكاني، محمد بن علي (ت 1255هـ) . نشر دار الجيل، بيروت، 1973م. 271- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى. لابن القيم. نشر الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1396هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 272- هدي الساري مقدمة فتح الباري. لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) . تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن باز - نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية بالسعودية. 273- الوابل الصيب من الكلم الطيب. لابن القيم. تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط - نشر مكتبة دار البيان، دمشق، ط2، 1399هـ. 274- الوافي بالوفيات. للصفدي، خليل بن أيبك (ت 764هـ) . تحقيق: س. ديد رينغ - نشر فرانز شتاير، 1394هـ. 275- الوفيات. لتقي الدين أبي المعالي محمد بن رافع السلامي (ت 774هـ) . تحقيق: صالح مهدي عباس - نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1402هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 المخطوطات 276- البدر المنير في تخريج أحاديث الشرح الكبير. لابن الملقن، عمر بن علي (ت 804هـ) . نسخة محفوظة بمكتبة المخطوطات، الجامعة الإسلامية، تحت رقم (2247، 2248) ، ومصورة عن المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة. (أربعة أجزاء في مجلدين) . 277- العلل الواردة في الأحاديث النبوية. لأبي الحسن، علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني (ت 385هـ) . نسخة بالمكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية تحت رقم (217 - 223) ، ومصورة عن "دار الكتب المصرية". وتقع في خمس مجلدات. 278- فوائد في الكلام على حديث الغمامة، وحديث الغزالة لابن القيم. نسخة محفوظة بمكتبة الشيخ حماد الأنصاري باسم: (رسالة في الأحاديث الموضوعة) ، مصورة عن نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت رقم (5485) ق 100/1 - 117/2) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 279- المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي. لابن تغري بردي، أبي المحاسن، يوسف بن تغري بردي (ت874هـ) . نسخة محفوظة في مكتبة عارف حكمت، بالمدينة المنورة، 3 مجلدات. رقم عام: (3983 - 3985) ، رقم التصنيف: (237/900 - 239/900) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523