الكتاب: مجموعة الرسائل والمسائل والفتاوى المؤلف: حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر النجدي التميمي الحنبلي (المتوفى: 1225هـ) الناشر: دار ثقيف للنشر والتأليف، الطائف الطبعة: الطبعة الأولى، 1398هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مجموعة الرسائل والمسائل والفتاوى حمد بن ناصر آل معمر الكتاب: مجموعة الرسائل والمسائل والفتاوى المؤلف: حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر النجدي التميمي الحنبلي (المتوفى: 1225هـ) الناشر: دار ثقيف للنشر والتأليف، الطائف الطبعة: الطبعة الأولى، 1398هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مجموعة الرسائل والمسائل والفتاوي لحمد بن ناصر بن معمر من علماء القرن الثالث عشر الهجري مقدمة الناشر هذا كتاب ليس لنا فضل فيه سوى فضل الترتيب والجمع إن صح أن يسمى هذا من "باب الفضل" وإلا فالفضل للمتقدمين. حفزنا على جمعه "هكذا" اقتراحات كثيرة من عدة إخوان فضلاء ولا شك في أن المعنيين بالتراث العلمي، والدارسين لعلوم الشريعة والعقيدة سيجدون فيه نبعاً صافياً، ومنهلاً عذقاً رحم الله الشيخ الجليل ونفع بعلمه. وإنا لنخص بالشكر الشيخين الجليلين عبد الله بن عبد الرحمن البسام عضو هيئة التمييز بالمنطقة الغربية وعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ المتتبع لسير علماء الدعوة على توجيهاتهما وتشجيعهما لإخراج الكتاب على هذه الصورة العصرية حتى يتم النفع به. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. "الناشر" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ترجمة حياة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر بقلم الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ مؤلف كتاب مشاهير علماء نجد هو العالم العلامة المحقق الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر النجدي التميمي من آل معمر أهل العيينة. نزح منها واستوطن مدينة الدرعية وقرأ فيها على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وعلى الشيخ أبي بكر حسين بن غنام نزيل الدرعية، صاحب التاريخ المشهور وعلى الشيخ سليمان بن عبد الوهاب أخي الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبعد ذلك جلس للتدريس بمدينة الدرعية فأخذ عنه العلم خلق كثير من أهل الدرعية وغيرهم من أهل نجد الوافدين إليها، نذكر من فضلائهم في هذه الترجمة المقتضبة: الشيخ العلامة الشهيد سليمان بن الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ونجل المترجم الشيخ عبد العزيز بن الشيخ حمد بن معمر. والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين. وفي سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة من الهجرة طلب غالب بن مساعد شريف مكة من الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود أن يبعث إليه عالماً ليناظر علماء الحرم الشريف في شيء من أمور الدين، فبعث إليه الإمام عبد العزيز المترجم الشيخ حمد بن ناصر بن معمر على رأس ركب من العلماء، فلما وصلوا إلى الحرم الشريف أناخوا رواحلهم أمام قصر الشريف غالب فاستقبلهم بالحفاوة والإكرام وأنزلهم منزلاً محترماً يليق بهم، فلما طافوا وسعوا للعمرة ونحروا الجزر التي أرسلها معهم الأمير سعود بن عبد العزيز هدياً للحرم واستراحوا أربعة أيام من عناء السفر جمع الشريف غالب علماء الحرم الشريف من أرباب مذاهب الأئمة الأربعة - ماعدا الحنابلة - فوقع بين علماء الحرم ومقدمهم يومئذ في الكلام الشيخ 1 عبد الملك القلعي الحنفي وبين الشيخ حمد بن ناصر مناظرة عظيمة في مجالس عديدة بحضرة والي مكة الشريف غالب وبمشهد عظيم من أهل مكة وذلك في شهر رجب من السنة المذكورة سنة 1211هـ فظهر عليهم الشيخ حمد بن ناصر بن معمر بالحجة وقهرهم بالحق فسلموا له وأذعنوا، وقد سألهم –رحمه الله - ثلاث مسائل..   1 هو الشيخ عبد الملك بن عبد المنعم بن تاج الدين بن عبد المحسن بن سالم القلعي الحنفي. ولد بمكة وتلقى العلم عن علماء المسجد الحرام وبعد أن أجيز بالتدريس جلس للتدريس بالمسجد الحرام فقرأ عليه خلق كثير ولما قدم إلى مكة محمد علي باشا الألباني بلغه أن الشيخ مريض فزاره. توفي عام 1228هـ وله مؤلفات: 1ـ فتاوى في3 مجلدان -2ـ شرح على متن الأجرومتية ـ2ـ حل الرمز على شرح الكنز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الأولى: ما قولكم فيمن دعا نبياً أو ولياً واستغاث به في تفريج الكربات كقوله: يا رسول الله، أو يا ابن عباس، أو يا محجوب أو غيرهم من الصالحين. والثانية: من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولم يصل ولم يزك هل يكون مؤمناً؟، والثالثة: قال: هل يجوز البناء على القبور؟ فعكس علماء الحرم هذه الأسئلة على الشيخ حمد المذكور.. وطلبوا منه الإجابة عليها فأجاب عنها (رحمه الله) بما يشفي الغليل، ويبتهج به من يتبع الدليل، وأصل الإجابة وحررها لهم في رسالة سماها علماء الدرعية "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" وقد أوردها الشيخ حسين بن غنام في الجزء الثاني من تاريخه، واختارها الشيخ سليمان بن سحمان مع مختاراته التي جمعها في رسالة وسماها "الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية" فطبعت عدة مرات، ولولا ذلك لأوردناها في ترجمتنا للشيخ حمد بن معمر المذكور، فإنها جليلة القدر، عظيمة الفائدة (*) وقد أشار إلى ما جرى بين الشيخ حمد بن ناصر بن معمر وعلماء مكة من المناظرة الشيخ محمد بن علي الشوكاني فقال في الجزء الثاني من كتابه "البدر الطالع" ص (7) بعد ترجمته للشريف غالب بن مساعد ما نصه: وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه، وقدم صاحبه في الدين. انتهى كلام الشوكاني. وألف رسالة عنوانها: "حقيقة التوحيد والعبادة والفرق بين العادة والعبادة" تقع في 68 صفحة طبعت بمطبعة المنار بالقاهرة عام 1349هـ. وللشيخ حمد بن معمر غير هذه الرسالة رسائل كثيرة أجاب فيها على أسئلة علمية، لو جمعت لبلغت مجلداً ضخماً (*) ولكنها طبعت مفرقة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية، التي طبعت بمطبعة المنار أولاً، ثم بمطبعة أم القرى بمكة المكرمة ثانياً (1) وقد ولاه الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود قضاء الدرعية من جملة قضاتها الكثيرين، وبعثه بعدما استولى على الحجاز3 سنة 1220هـ إلى مكة عند الشريف غالب مشرفاً على أحكام قضاة مكة المكرمة، فأقام بمكة أربع سنوات ثم توفي بها -رحمه الله- سنة ألف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة، في أول شهر ذي الحجة، وصلى عليه الناس تحت الكعبة المشرفة ثم خرجوا به من الحرم إلى البياضية4 فخرج الإمام سعود بن عبد العزيز من قصره بالبياضية وصلى عليه بعدد كثير من المسلمين صلاة ثانية قبل أن يدفن ثم دفنوه بعد ذلك بمقبرة البياضية.   (*) لقد تحققت أمنية الشيخ الجليل وهذه رسائله في أجوبته قد جمعت. "الناشر" 3 استولى الإمام سعود بن عبد العزيز على الحجاز نهائياً سنة 1220هـ وبعث المترجم إلى مكة سنة 1221هـ 4 البياضية تقع بأعلى مكة شرقي القصر العالي المشهور قبل ذلك بقصر السقاف والبياضية محلها الآن محاكم التمييز الواقعة شرقي القصر المذكور. (*) أثبتناها في أول هذا الكتاب. "الناشر" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 قال أحمد بن محمد بن أحمد الحضراوي في تاريخه المخطوط الذي سماه "اللطائف في تاريخ الطائف" مانصه: نقلا منه عن السيد محمد ياسين ميرغنى بن عبد الله المحجوب لما ذكر كشف الامام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود للقبة التي فوق صخرة مقام ابراهيم قال: وكان المباشر له أي لكشف القبة حمد بن ناصر، يقصد به المترجم له. ثم ذكر بعد كلام لا فائدة في ذكره أنه مات ودفن بالبياضية. وقد ذكر المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر في الجزء الأول من تاريخه ص 159 طبعة أبي بطين: أن الشيخ1 حمد بن ناصر بن معمر توفي بمكة، وخفى عليه أنه دفن بالبياضية. فلم يذكر ذلك. وقد خلف الشيخ حمد ابنا عالما هو الشيخ عبد العزيز صاحب "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب ". (وسنورد له ترجمة في هذه الرسالة) . رحم الله الشيخ حمدا ورحم ابنه الشيخ عبد العزيز، وجميع مشائخ الاسلام، وعلماء الدين، انه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وسلم. "عن كتاب مشاهير علماء نجد"   1 قلت أورد صاحب "خلاصة الكلام" ذكره في معرض تحدثه عن الصلح الذي تم بين غالب والإمام سعود بن الإمام عبد العزيز قائلاً ما نصه: (ثم وصل من الدرعية عشرون رجلاً فيهم حمد بن ناصر أحد علمائهم، وكان الشريف بجدة وأعطوه كتاباً من سعود فيه إتمام أمر الصلح ونزل حمد إلى مسجد عكاش وجمع الناس وقرأ عليهم رسالة محمد بن عبد الوهاب، وقبل الشريف بمنع جميع الأمور فأمر بهدم القباب وترك شرب التنباك، وعدم بيعه، وبدخول الناس المسجد عند سماع الأذان لصلاة الجماعة في المسجد وبتدريس رسائل ابن عبد الوهاب، وترك تكرير الجماعة في المسجد الحرام، والاقتصار على الأذان في المنابر، وترك التسليم، والتذكير، والترحيم، وأبطل ضرب نوبته، ونوبة وإلى جدة، فتوجه حمد بن ناصر إلى الدرعيه يخبرهم بذلك وأرسل الشريف معه رسولاً فرجع بالجواب والشريف باق في جدة انتهى ما ذكره دحلان مع حذف يعض كلمات عدائية لا يليق ذكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب المسألة الأولى: فيمن دعا نبيا أو وليا وأستغاث به في تفريج الكربات ... الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب المسألة الأولى قالوا ما قولكم فيمن دعا نبينا أو ولياً واستغاث به في تفريج الكربات كقوله يا رسول الله أويا ابن عباس أويا محجوب أو غيرهم من الأولياء الصالحين. (الجواب) الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادى له، وأشهد أن لااله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وقفا أثرهم الى آخر الزمان. أما بعد فأن الله تعالى قد أكمل لنا الدين، ورسوله قد بلغ البلاغ المبين، وأنزل عليه الكتاب هدى وذكرى للمؤمنين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} وقال تعالى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . قال ابن عباس تكفل الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخر، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُون} . وروى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة رسوله" وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهار لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" وقال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت من شيء يقرب إلى الجنة إلا وحدثكم به ولا من شيء يقرب إلى النار إلا وقد حدثكم به " وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشد ين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور فأن كل بدعة ضلالة" فمن أصغى إلى كتاب الله وسنة رسوله وجد فيهما الهدى والشفاء وقد ذ م الله تعالى من أعرض عن كتابه ودعا عند التنازع إلى حكم غيره فقال تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} . إذا عرف فنقول: الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 إنما هو تذكر الآخر ة والإحسان إلى الميت بالدعاء له، والترحم والاستغفار له وسؤال العافية. كما في صحيح مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا السلام على أهل الديار -وفي لفظ عليكم أهل الديار- من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية". وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه" رواه مسلم فإذا كنا على جنازته ندعوا له لا ندعوه، ونشفع له لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى. فبدل أهل الشرك قولا غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالإستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحسانا إلى الميت بسؤال الميت، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة" رواه الترمذي وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة، ومن المحال أن يكون دعاء الموت مشروعاً ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يوفق له الخلوف الذي يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون. فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل نقل عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلاً عن أن يسألوا أصحابها جلب الفوائد، وكشف الشدائد؟ ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمطار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبره، ولا دعاه، ولا استشفى به، ولا استنصر به، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا الصلاة عندها، فإن كان عندكم في هذا أثر صحيح أو حسن فأوقفونا عليه، بل الذي صح عنهم خلاف ما ذهبتم إليه. ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس وتوسل بدعائه وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقنا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. ثبت ذلك في صحيح البخاري ذكره في كتاب الاستسقاء من صحيحه. ونحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أحداً من الأموات ولا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله. قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ* وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية. وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُم} الآية. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . قال مجاهد: يبتغون إلى ربهم الوسيلة هو عيسى وعزير والملائكة، وقال إبراهيم النخعي قال: كان ابن عباس يقول في قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} هو عزير والمسيح والشمس والقمر. وعن السدي وعن أبي هريرة. وعن ابن عباس قال: عيسى وأمه والعزير. وعن عبد الله بن مسعود قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنزلت هذه الآية. ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري ذكره في كتاب التفسير، وهذه الأقوال في معنى الآية كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابداً لله سواء كان من الملائكة، أو من الجن، أو من البشر. فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً، وذلك المدعوا يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجوا رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً، أو غائباً من الأنبياء والصالحين فقد تناولته هذه الآية. ومعلوم أن المشركين يسألون الصالحين بمعنى أنهم وسائط بينهم وبين الله، ومع هذا فقد نهى الله عن دعائهم وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعي ولا تحويله ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال {وَلا تَحْوِيلاً} فذكر نكرة تعم أنواع التحويل، فكل من دعا ميتاً من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة أو الجن فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله وهؤلاء المشركون اليوم منهم من إذا نزلت به شدة لا يدعوا إلا شيخه، ولا يذكر اسمه، قد لهج الصبي بذكر أمه، فإذا تعس أحدهم قال: يا ابن عباس. أيا محجوب. ومنهم من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بابن عباس أو غيره فيصدق ولا يكذب، فيكون المخلوق في صدره أعظم من الخالق. وإذا كان دعاء الموتى يتضمن هذا الاستهزاء بالدين، وهذه المحادة لرب العالمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فأي الفريقين أحق بالاستهزاء والمحادة لله؟ من كان يدعوا الموتى ويستغيث بهم ويأمر بذلك؟ أو من كان لا يدعوا إلا الله وحده لا شريك له كما أمرت به رسله ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به؟ ونحن بحمد الله من أعظم الناس إيجاباً لرعاية جانب الرسول تصديقاً له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به واتباع ذلك دون ما خالفه عملاً بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . ومعنا ولله الحمد أصلان عظيمان (أحدهما) : أن لا نعبد إلا الله فلا ندعو إلا هو، ولا نذبح النسك إلا لوجهه، ولا نرجو إلا هو، ولا نتوكل إلا عليه. (والأصل الثاني) أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبدعة.. وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله أن محمداً رسول الله، فان شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن إخلاص الألوهية لله فلا يتأله القلب، ولا اللسان، ولا الجوارح بغيره تعالى. لا يحب، ولا خشية، ولا إجلال ولا رغبة، ولا رهبة، وشهادة أن محمداً عبده ورسوله تتضمن تصد يقه في جميع ما أخبر به وطاعته واتباعه في كل ما أمر به، فما أثبته وجب اتباعه. وقد روي عن البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا ومن يأبى يا رسول الله؟ قال "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبي". إذا تمهد هذا فنقول الذي نعتقده وندين لله به أن من دعا نبياً أو وليا أو غيرهما وسأل منهم الحاجات، وتفريج الكربات، فقد ارتكب أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا أولياء وشفعاء يستجلبون بهم المنافع، ويستدفعون بهم المضار بزعمهم. قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فمن جعل الأنبياء أو غيرهم كابن عباس، والمحجوب أو أبي طالب، وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار –بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لكونهم أقرب إلى الملك -فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك حلال المال والدم. وقد نص العلماء رحمهم الله على ذلك وحكوا عليه الإجماع قال في الإقناع وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعا لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وقال الإمام أبو الوفا علي بن عقيل الحنبلي رحمه الله لما صعبت التكاليف على الطغام والجهال عدلوا عن أوضاع الشرك إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها والتزامها بما نهى عنه الشرع من ايقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع عليها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا. وأخذ تربتها تبركاً، وافاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. انتهى كلامه. وقال الإمام البكري الشافعي رحمه الله في تفسيره عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وكانت الكفار إذا سئلوا: من خلق السموات والأرض؟ قالوا الله، فإذا سئلوا عن عبادة الأصنام قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} لأجل طلب شفاعتهم عند الله وهذا كفر منهم. انتهى كلامه. فتأمل ما ذكره صاحب الإقناع وما ذكره ابن عقيل من تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وإن ذلك كفر. وقال الحافظ العماد بن كثير رحمه الله في تفسيره عند قوله تعالى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} إنما يحملهم على عبادتهم انهم عمدوا إلى الأصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين بزعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له، كافرين به. قال قتادة والسدى ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد {إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي ليشفعوا لنا عنده وليقربونا ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتقدها المشركون في قديم الدهر وحديثة وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بردها والنهى عنها والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له. وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به بل أبغضه ونهى عنه. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون لله لا يشفعون عنده إلا بأذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وكرهوه {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} تعالى عن ذلك. انتهى كلامه. وقال الإمام البكري رحمه الله عند قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} الآية: فإن قلت إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 (قلت) كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله والتقرب إليه لكن بطرق مختلفة ففرقة قالت ليس لنا أهلية عبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته فعبدناها لتقربنا إليه زلفى، وفرقة قالت الملائكة ذو وجاهة ومنزلة عند الله فاتخذونا أصناما على هيئتها لتقربنا إلى الله زلفى. وفرقة قالت جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة قالت اعتقد ت أن لكل ملك شيطاناً موكلاً بأمر الله فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله ولا أصابه شيطان بنكبة بأمر الله تعالى. انتهى كلامه. فأنظر إلى كلام هؤلاء الأئمة وتصريحهم بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله وتأمل ما ذكره ابن كثير وما حكاه عن زيد بن أسلم وابن زيد، ثم قال وهذا الشبة هي التي أعتقدها المشركين في قديم الدهر وحديثة وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بردها والنهى عنها. وتأمل ما ذكره البكري رحمة الله عند آية الزمر أن الكفار ما أرادوا إلا الشفاعة ثم صرح بأن هذا كفر. فمن تأمل ما ذكره الله في كتابه تبين له أن الكفار ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله فانهم لم يعتقدوا فيها أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات بل كانوا مقرين أن الفاعل لذلك هو الله وحده لا شريك له في ذلك. قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر الله فيها أن المشركين معترفون أن الله هو الخالق الرازق وإنما كانوا يعبدونهم ليقربوهم ويشفعوا لهم كما ذكره سبحانه في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فبعث الله الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يجعل معه إله آخر وأخبر سبحانه وتعالى أن الشفاعة كلها له وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بأذنه وأنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلا التوحيد والشفاعة مقيدة بهذه القيود قال تعالى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} وقال تعالى {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} وقال تعالى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم، وأكرم الخلق على الله أنه تعالى " آتى تحت العرش فأخر لله ساجداً، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: يا محمد أرفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع –قال- فيحد لي حداً ثم أدخلهم الجنة ثم أعود" فذكر أربع مرات صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء. وقال الإمام البكري رحمه الله عند قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} نفي الشفيع وإن كانت الشفاعة واقعة في الآخرة لأنها من حيث أنها لا تقع إلا بإذنه، كأنها غير موجودة من غيره، وهو كذلك لكن جعل ذلك لتبين الرتب، وجملة النفي حال من ضمير يحشروا، وهي محل الخوف، والمراد به المؤمنون العاصون، انتهى. وقال أيضاً عند قوله تعالى {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} دل على أن الشفاعة تكون للمؤمنين فقط. وقال الحافظ عماد الدين بن كثير عند قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو الذي خلق السموات والأرض وهو ربها ومدبرها، وهم مع هذا قد اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، وإنما عبد هؤلاء المشركون آلهة هم يعترفون أنها مخلوفة عبيد له كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وماملك. وكما أخبرنا عنهم في قوله {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فأنكر تعالى ذلك عليهم حيث اعتقدوا ذلك وهو تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم يزجرون عن ذلك، وينهونهم عن عبادة من سوى الله فكذبوهم.. انتهى كلامه. والمقصود بيان شرك المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله، وطلب شفاعتهم عند الله. وبيان أن طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد أنه من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين. وبيان أن الشفاعة كلها لله، ليس لأحد معه فيها شيء، وأنه لا شفاعة إلا بعد إذن الله تعالى، وأنه تعالى لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله. وأنه لا يرضى إلا التوحيد كما تقدمت الأدلة الدالة على ذلك. ومعلوم أعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عند الله الرسل والملائكة المقربون. وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول. ولا يتقدمون بين يديه. ولا يفعلون شيئاً إلى بعد إذنه لهم وأمره فيأذن سبحانه لمن يشاء أن يشفع فيه. فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له تعالى. والذي شفع عنده إنما شفع بإذنه له. وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه. وهي إرادته أن يرحم عبيده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها المشركون ومن وافقهم. وهي التي أبطلها سبحانه في كتابه بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} . ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد كما صرحت بذلك النصوص فروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا لله خالصاً من قلبه" (وعن عوف بن مالك قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "أتاني أت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً" رواه الترمذي وابن ماجه. فأسعد الناس بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد لله وأخلصوه من التعليقات الشركية وهم الذين ارتضى الله سبحانه قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} وقال تعالى {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} فأخبر سبحانه أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاه قول المشفوع له وإذنه للشافع. فأما المشرك فإنه لا يرتضيه ولا يرضى قوله فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين رضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع. فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة. وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه سبحانه فإنه الذي أذن والذي قبل والذي رضي عن المشفوع له والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة فالرب تبارك وتعالى هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعا من أذن له أن يشفع ليكرمه. فللشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ولهذا أثبتها الله سبحانه بإذنه في موضوع من كتابه. وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد كما تقدم من حديث أبي هريرة وعوف بن مالك. فمتخذ الشفيع مشرك لا تنفعه شفاعته. ولا يشفع فيه. ومتخذ الرب إلهه ومعبوده هو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيه. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . فبين أن المتخذين شفعاء مشركون. وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم إنما تحصل بإذنه سبحانه للشافع ورضاه عن المشفوع له كما تقدم بيانه. والمقصود أن الكتاب والسنة دلا على أن من جعل الملائكة أو الأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب أو المحجوب وسائط بينهم وبين الله ليشفعوا لهم عند الله لأجل قربهم من الله كما يفعل عند الملوك أنه كافر مشرك حلال الدم والمال وإن قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الله. وصلى وصام. وزعم أنه مسلم. بل هو من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. ومن تأمل القرآن العزيز وجده مصرحاً بأن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بأن الله هو الخالق الرازق وأن السموات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت قهره وتصريفه كما حكاه تعالى عنهم في سورة يونس وسورة المؤمنين والعنكبوت وغيرها من السور -ووجده مصرحاً بأن المشركين يدعون الصالحين كما ذكر تعالى ذلك عنهم في سورة سبحان والمائدة وغيرهما من السور، وكذلك ذكر عنهم أنهم يعبدون الملائكة كما ذكر ذلك في سورة الفرقان والنجم ووجده مصرحاً بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا الشفاعة والتقرب إلى الله كما ذكر تعالى ذلك عنهم في سورة يونس والزمر وغيرهما من السور. فإذا تبين لكم أن القرآن قد صرح بهذه المسائل الثلاث أعني اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية، وأنهم يدعون الصالحين وأنهم ما أردوا منهم إلا الشفاعة تبين لكم أن الذي يفعل عند القبور اليوم من سؤالهم جلب الفوائد، وكشف الشدائد، أنه الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين، فإن هؤلاء المشركين مشبهون شبهوا الخالق تعالى بالمخلوق. وفي القرآن العزيز وكلام أهل العلم من الرد على هؤلاء مالا يتسع له هذا الموضع فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس تكون على أحد وجوه ثلاثة إما لإخبارهم عن أحوال الناس مالا يعرفونه ومن قال أن الله لا يعرف أحوال العباد حتى يخبره بذلك بعض الأنبياء أو غيرهم من الأولياء والصالحين فهو كافر بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. (الثاني) أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يعاونونه فلا بد له من أعوان يعاونونه وأنصار لذله وعجزه. والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل وكل ما في الوجود من الأسباب فهو سبحانه ربه وخالقه وهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم، والله سبحانه ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، ولهذا لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، فإن من شفع عنده بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب أثر فيه بشفاعته حتى يفعل ما يطلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه. (الثالث) أن لا يكون الملك مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم إلا بمحرك يحركه من خارج فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظه أو من يدل عليه بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته. والله تعالى رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وكل الأسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانه إذا أراد إجراء نفع العباد بعضهم على يد بعض جعل هذا يحسن إلى هذا ويدعوا له أو يشفع له. فهو الذي خلق ذلك كله وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلمه. والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه كما تقدم بيانه. بخلاف الملوك المحتاجين فإن الشافع عندهم يكون شريكاً لهم في الملك وقد يكون مظاهراً لهم على ملكهم. وهم يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك. والملك يقبل شفاعتهم تارة لحاجته إليهم وتارة لجزاء إحسانهم ومكافأتهم. حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة والولد. حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك ويقبل شفاعة مملوكه فإذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه. ويقبل شفاعة أخيه مخافة أن يسعى في ضرره. وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس. فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو لرهبة. والله تعالى لا يرجو أحداً ولا يخافه ولا يحتج إلى أحد. هو الغني سبحانه عما سواه وكل ما سواه فقير إليه. والمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعدونه عند المخلوق وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} فأخبر سبحانه أن مايدعى من دونه لايملك كشف الضر عن الداعي ولاتحويله فأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه. ويتقربون إلى الله. فقد نفى سبحانه ما أثبتوه من توسط الملائكة والأنبياء. وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه إله. وأما من أراد الله فتنته فلا حيلة فيه {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 المسألة الثانية: من قال لا إله إلا الله ولم يصل ولم يزك هل يكون مؤمنا ... المسألة الثانية وأما المسألة الثانية فقالوا: من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ولم يصل ولم يزك هل يكون مؤمناً؟ فنقول: أما من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهو مقيم على شركه يدعو الموتى. ويستغيث بهم ويسألهم قضاء الحاجات. وتفريج الكربات. فهذا كافر مشرك حلال الدم والمال. وأن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام وزعم أنه مسلم كما تقدم بيانه. وأما أن وحد الله تعالى ولم يشرك به. ولكنه ترك الصلاة ومنع الزكاة. فان كان جاحدا للوجوب فهو كافر إجماعا. وأما أن أقر بالوجوب ولكنه ترك الصلاة تكاسلاً. فهذا قد اختلف العلماء في كفره. والعلماء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة. لا يجتمعوا على ضلالة. وإذا تنازعوا في شيء رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول. والواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق. بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال العلماء: الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه. والرد إلى الرسول هو الرد إلى السنة بعد وفاته. وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} . وقد ذم الله تعالى من أعرض عن كتابه ودعا عند التنازع إلى غيره. فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} إذا عرف هذا فنقول: اختلف العلماء رحمهم الله في تارك الصلاة كسلاً من غير جحود لوجوبها. فذهب الإمام أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ومالك إلى أنه لا يحكم بكفره. واحتجوا بما رواه عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة. ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.." وذهب إمامنا أحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه وإسحاق بن راهوية وعبد الله بن المبارك والنخعي وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وغيرهم من كبار الأئمة والتابعين إلى أنه كافر. وحكاه إسحاق بن راهوية إجماعاً ذكره عنه الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي في شرح الأربعين. وذكره في كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) عن جمهور الصحابة رضي الله عنهم. وقال الإمام أبو محمد بن حزم: سائر الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 التابعين يكفرون تارك الصلاة مطلقاً. ويحكمون عليه بالارتداد. منهم: أبو بكر وعمر وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وعبد الرحمن بن عوف وأبو الدراداء وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة. ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة. وأجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم "من لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" إن المراد عدم المحافظة عليهن في أوقاتهن بدليل الآيات والأحاديث الواردة فيها وفي تركها. واحتجوا على كفر تاركها بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" وعن بريدة بن الحصيب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح إسناده على شرط مسلم. وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بين العبد والكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد كفر وأشرك" وإسناده صحيح على شرط مسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف" رواه الإمام أحمد وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه، وعن عبادة بن الصامت قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشرك بالله شيئاً، ولا تترك الصلاة عمداً فمن تركها عمداً فقد خرج من الملة" رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه. وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ترك الصلاة مكتوبة متعمداً برئت منه ذمة الله" وراه الإمام أحمد. وعن أبي الدرداء قال: أوصاني أبو القاسم يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أترك الصلاة متعمداً فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة. رواه ابن أبي حاتم. وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة" الحديث. وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة رواه الترمذي. فهذه الأحاديث كما ترى صريحة في كفر تارك الصلاة مع ما تقدم من إجماع الصحابة، كما حكاه إسحاق بن راهوية وابن حزم وعبد الله بن شقيق، وهو مذهب جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم. ثم اعلم أن العلماء كلهم مجمعون على قتل تارك الصلاة كسلاً إلا أبا حنيفة ومحمد بن شهاب الزهري وداود فإنهم قالوا: يحبس تارك الصلاة المفروضة حتى يموت أو يتوب. ومن احتج لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها" فقد أبعد النجعة فإن هذا الحديث لا حجة فيه لمن يقول بقتله كما سيأتي بيانه وبسطه إن شاء الله. واحتج الجمهور على قتله بالكتاب والسنة.. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ-إلى قوله- فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فشرط الكف بالتوبة من الشرك وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإذا لم توجد هذه الثلاث لم يكف عن قتلهم، ولم يخل سبيلهم. قال ابن ماجه: حدثنا نصر بن علي حدثنا أبو أحمد حدثنا الربيع بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض" قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل، وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله {فَإِنْ تَابُوا} قال خلعوا الأوثان وعبادتها {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وقال في آية أخرى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} . وأما السنة فثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله" فعلق العصمة على الشهادتين والصلاة والزكاة. وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً فيه "من محمد رسول الله إلى أهل عمان. أما بعد فأقروا بشهادة أن لا إله إلا الله والنبي رسول الله وأدوا الزكاة، وخطوا المساجد وإلا غزوتكم" خرجه الطبراني والبزار وغيرهما، ذكره الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح الأربعين. وروى ابن شهاب عن حنظلة عن علي ابن الأشجع أن أبا بكر الصديق بعث خالد بن الوليد وأمره أن يقاتل الناس على خمس: فمن ترك واحدة تقاتله على الخمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقام الصلاة، وايتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. فقال سعيد بن جبير قال عمر بن الخطاب: لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم على تركه كما نقاتل على الصلاة والزكاة. وبالجملة فالكتاب والسنة يدلان على أن القتال ممدود إلى شهادتين والصلاة الزكاة، وقد أجمع العلماء على ذلك. قال في شرح الإقناع: أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله كالمحاربون وأولى.. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وأما حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت الناس أن أقاتل حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها" فهذا لا إشكال فيه بحمد الله، وليس لكم فيه حجة، بل هو حجة عليكم، ولو لم يكن إلا قوله "إلا بحقها" لكان كافياً في إبطال قولكم. وقد قال علماؤنا رحمهم الله: إذا قال الكافر لا إله إلا الله فقد شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة، وإلا بطلت، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كل حديث في وقت فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: "لا إله إلا الله" ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كف عنه، وصار دمه وماله معصوماً. ثم بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين فقال "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" فبين أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك، ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام كما وقعت لبعض الصحابة حتى جلاها أبو بكر الصديق، ثم وافقوه رضي الله عنه. ومما يبين فساد قولكم وخطأ فهمكم في معنى حديث أبي هريرة أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على قتال مانعي الزكاة بعد مناظرة وقعت بين أبي بكر وعمر، استدل عمر على أبي بكر بحديث أبي هريرة فبين صديق الأمة رضي الله عنه أن الحديث حجة على قتال من منع الزكاة، فوافقه عمر وسائر الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلون، ونحن نسوق الحديث بتمامه، ثم نذكر ما قاله العلماء في شرحه ليتبين أن فهمكم الفاسد لم يقل به أحد من العلماء، وأنه فهم مشئوم مذموم مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة فنقول: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر كيف تقاتل الناس -وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها" فقال أبو بكر لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، فوالله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق. وهذا الحديث خرجه البخاري في كتاب الزكاة، ومسلم في كتاب الأمان وهو من أعظم الأدلة على فساد قولكم، فإن الصديق رضي الله عنه جعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب. وقد تكلم النووي رحمه الله على هذا الحديث في شرح صحيح مسلم فقال (باب) الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من قال ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سررته إلى الله تعالى. وقتال من منع الزكاة وغيرها من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشرائع الإسلام) ثم ساق الحديث، ثم قال: قال الخطابي في شرح هذا الكلام كلاماً حسناً لا بد من ذكره لما فيه من الفوائد قال رحمه الله: (مما يجب تقديمه في هذا أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين: صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة عادوا إلى الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: وكفر من كفر من العرب ... والصنف الآخر فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام ... وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين الزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم. وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر رضي الله عنه وناظره واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم نفسه وماله" فكان لهذا من عمر رضي الله عنه تعلقاً بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكر: الزكاة حق المال. يريد أن القضية التي قد تضمنت عصمة دمه وماله. معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم، ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة إليها، وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعاً من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك ردوا المختلف فيه إلى المتفق عليه ... فلما استقر عند عمر صحة رأي أبي بكر رضي الله عنه وبان له صوابه تابعه على قتال القوم وهو معنى قوله: فلما رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر بالقتال عرفت أنه الحق. يريد إنشراح صدره بالحجة التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه نصاً ودلالة) انتهى. فتأمل هذا الباب الذي ذكره النووي رحمه الله وهو إمام الشافعية على الإطلاق تجده صريحاً في رد شبهتكم -أن من قال لا إله إلا الله لا يباح دمه وماله، وإن ترك الصلاة ومنع الزكاة، فالترجمة نفسها صريحة في رد قولكم فإنه صريح بالأمر بالقتال على ترك الصلاة ومنع الزكاة. وتأمل ما ذكره الخطابي أن الذين منعوا الزكاة منهم من كان يسمح بها ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم كبني يربوع فإنهم أرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وإنه عرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الخلاف ووقعت الشبهة لعمر في أمر هؤلاء، ثم إن عمر وافق أبا بكر على قتالهم. وتأمل قوله: واحتج عمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وكان هذا من عمر تعلقاً بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره ويتأمل في شرائطه. وتأمل قوله: إن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعاً من الصحابة. وقد أشار الخطابي إلى أن حديث أبي هريرة مختصر. قال النووي رحمه الله (قال الخطابي ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر أن عبد الله بن عمر وأنساً روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة ففي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وفي رواية أنس: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا حرمت علينا دماءهم وأموالهم إلا بحقها. لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" انتهى. (قلت) وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب والسنة ورواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر رضي الله عنهما دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة، وكان هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس آخر فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة لأحتج بها ولما كان احتج بالقياس والعموم، والله أعلم) انتهى كلام النووي. فتأمل ما ذكره الخطابي تجده صريحاً في رد قولكم وتأمل قوله: فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليهم. وبالجملة فحديث أبي هريرة حجة عليكم لا لكم، ولو لم يكن فيه إلا قوله "بحقها" لكان كافياً في بطلان شبهتكم، فإن الصلاة والزكاة من أعظم حقوق لا إله إلا الله، بل هما أعظمها على الإطلاق. ومما يدل على بطلان قولكم وفساد فهمكم في معنى الحديث أعني حديث أبي هريرة "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" أن جميع الشراح والمحدثين لم يتأولوه على هذا التأويل الذي ذهبتم إليه فإنه حديث صحيح مخرج في الصحاح، وهؤلاء شراح البخاري ومحشوه نحوا من أربعين كما نبه عليه القسطلاني في خطبة شرح البخاري -وكذا شرح مسلم- هل أحد منهم استدل به على ترك قتال من ترك الفرائض؟ بل الذي ذكروه خلاف ما ذهبتم إليه، ولو لم يكن إلا احتجاج عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 به على أبي بكر، واستدلال أبي بكر على قتال مانعي الزكاة لكان كافياً، ونحن نذكر لكم كلام الشراح عذراً أو نذراً. قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله عز وجل" قال الخطابي: ومعلوم أن المراد بها أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف، قال ومعنى حسابه على الله أي فيما يسرون به ويخفونه دون ما يخلون به في الظاهر (قال) ففيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر، وهذا قول أكثر العلماء، وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك أيضاً عن أحمد بن حنبل هذا كلام الخطابي. (وذكر القاضي عياض رحمه الله معنى هذا وزاد عليه وأوضحه فقال: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعتبر عن الإجابة إلى الإيمان وأن المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعى إلى الإسلام وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقوله "لا إله إلا الله" إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده ولذلك جاء في الحديث الآخر: وأني رسول الله، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة" هذا كلام القاضي عياض. قال النووي (قلت ولابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به " انتهى كلام النووي. فتأمل ما ذكره الخطابي وذكره القاضي عياض أن المراد بقول لا إله إلا الله التعبير عن الإجابة إلى الإيمان، واستدل لذلك بالحديث الآخر الذي فيه "واني رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة". وتأمل قول أن المراد بحديث أبي هريرة مشركوا العرب وغيرهم ممن لا يوحد، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقوله لا إله إلا الله إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده وتأمل قول النووي ولا بد من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالجملة فقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" لا نعلم أحداً من العلماء أجراه على ظاهره وقال أن من قال لا إله إلا الله يكف عنه ولا يجوز قتاله وإن ترك الصلاة ومنع الزكاة. هذا لم يقل به أحد من العلماء -ولازم قولكم أن اليهود لا يجوز قتالهم لأنهم يقولون لا إله إلا الله، وأن الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب لا يجوز قتالهم لأنهم يقولون لا إله إلا الله، وأن الصحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مخطئون في قتالهم لمانعي الزكاة لأنهم يقولون لا إله إلا الله، ولازم قولكم أن بني حنيفة مسلمون لا يجوز قتالهم لأنهم يقولون لا إله إلا الله.. سبحان الله ما أعظم هذا الجهل {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} . ومن العجب أنكم تقرؤن في صحيح البخاري في هذا الباب الذي ذكره في كتاب الإيمان حيث قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} حدثنا عبد الله السندي أنبأنا أبو روح الجرمي قال حدثنا قال حدثنا شعبة عن واقد بن محمد سمعت أبي يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا هم فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى". ثم بعد ذلك نقول من قال لا إله إلا الله حرم ماله ودمه. ولا أدري بما تجيبون به عن هذه الآية والحديثين الذين ذكرهما البخاري وبأي شيء تدفعون به هذه الأدلة؟؟ وقال الإمام أبو عيسى الترمذي في سننه (باب أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) حدثنا هناد وأنبأنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" الحديث -ثم أردفه بحديث أبي هريرة في قتال أبي بكر لمانعي الزكاة وساق الحديث بتمامه، ثم قال: (باب ما جاء "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة" حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني أنبأني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين) وفي الباب عن معاذ بن جبل وأبي هريرة هذا الحديث حسن صحيح. والمقصود فساد هذه الشبهة التي دسها من يدعي أنه من العلماء على الجهلة من الناس أن من قال لا إله إلا الله محمداً رسول الله أنه مسلم لا يجوز قتله وإن ترك فرائض الإسلام. فهذا كلام الله وهذا كلام رسوله وهذا كلام العلماء صريحاً في رد هذه الشبهة بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على أن الطائفة الممتنعة تقاتل على ترك الصلاة ومنع الزكاة وإن أقروا بالوجوب كما تقدمت النصوص الدالة على ذلك، بل قد صرح العلماء أن أهل البلد إذا تركوا الآذان والإقامة يقاتلون كما سيأتي وصرحوا أيضاً بأنهم لو تركوا إقامة صلاة الجماعة يقاتلون وكذلك لو تركوا صلاة العيد، وعلماء حرم الله الشريف يقولون من قال لا إله إلا الله فقد عصم ماله ونفسه وإن لم يصل ولم يزك، فسبحان الله مقلب القلوب والأبصار كيف يشاء. وهل هذا إلا معارضة لكلام الله وكلام رسوله وكلام أئمة المذاهب. وهذا كلامهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 موجود في كتبهم يصرحون بأن من ترك الصلاة قتل وأن الطائفة الممتنعة من فعل الصلاة والزكاة والصيام والحج تقاتل حتى يكون الدين كله لله ويحكون عليه الإجماع كما صرح بذلك أئمة الحنابلة في كتبهم فإذا كانوا مصرحون بأن من ترك بعض شعائر الإسلام كأهل القرية إذا تركوا الآذان أو تركوا صلاة العيد انهم يقاتلون فكيف بمن ترك الصلاة رأسا؟ وهؤلاء يقولون من قال لا إله إلا الله محمداً رسول الله فقد عصم ماله ودمه، وإن كان طائفة ممتنعين من فعل الصلاة بل يصرحون بأن (أهل) البوادي مسلمون حرام علينا دماؤهم وأموالهم، مع العلم القطعي بأنهم لا يؤذنون ولا يصلون ولا يزكون، بل الظاهر عنهم أنهم كافرون بالشرائع وينكرون البعث بعد الموت، فسبحان الله ما أعظم هذا الجهل. وقد ذكرنا من كلام الله وكلام رسوله وكلام شراح الحديث ما فيه الهدى لمن هداه الله وبين أن العصمة شرطها التوحيد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. فمن لم يأت بهذه الثلاث لم يكف عنهم، ولم يخل سبيلهم. وقد قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله أن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله". وأما كلام الفقهاء فنذكره على التفصيل إن شاء الله "أما كلام المالكية فقال الشيخ على الأجهوري في شرح المختصر: من ترك فرضاً آخر لبقاء ركعة بسجدتيها من الضروري قتله بالسيف حداً على المشهور.. وقال ابن حبيب وجماعة خارج المذهب كفراً، واختاره ابن عبد السلام انتهى. وقال في فضل الأذان، قال المازري: في الأذان معنيان أحدهما إظهار الشعائر والتعريف بأن الدار دار الإسلام وهو فرض كفاية يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه، فإن عجز عن قهرهم على إقامته إلا بقتال قوتلوا، والثاني الدعاء للصلاة والإعلام بوقتها. وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يسمع الأذان أغار وإلا أمسك وقال المصنف يقاتلون عليه ليس القتال من خصائص القول بالوجوب إلا أنهم اختلفوا في التمالي على ترك السنن هل يقاتلون عليها؟ والصحيح قتالهم وإكراههم لأن في التمالي على تركها إماتتها انتهى. وقال في فضل صلاة الجماعة. قال ابن رشد: صلاة الجماعة مستحبة للرجال في نفسه فرض كفاية في الجملة، ويعني بقوله في الجملة إنها فرض كفاية، على أهل المصر لو تركوها قوتلوا كما تقدم انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وعبارة غيره وإن تركها أهل بلد قوتلوا وأهل حارة اجبروا عليها.. انتهى كلام الشيخ علي الأجهوري. فانظر تصريحهم بأن تارك الصلاة يقتل باتفاق أصحاب مالك وإنما اختلفوا في كفره، وإن ابن حبيب وابن عبد السلام اختاروا أنه يقتل كافرا. وتأمل كلامهم في الطائفة الممتنعة عن الأذان أو عن إقامة الجماعة في المساجد انهم يقاتلون، فأين هذا من قولكم أن من ترك الفرائض مع الإقرار بوجوبها لا يحل قتالهم لأنهم يقولون لا إله إلا الله. وأما كلام الشافعية فقال الشيخ الإمام العلامة أحمد بن حمدان الأذرعي رحمه الله في كتاب (قوت المحتاج في شرح المنهاج) من ترك الصلاة جاحداً لوجوبها كفر بالإجماع، وذلك جار في كل جحود مجمع عليه من الدين بالضرورة، فإن تركها كسلاً قتل حداً على الصحيح أوالمشهور. أما قتله فلأن الله أمر بقتل المشركين ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فدل على أن القتل لا يرفع إلا بالإيمان وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولمافي الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لاإله إلاالله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا هم فاعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأمولهم إلا بحقها" ثم قال: (اشارات) منها جعل قتله ردة ووجد لشرذمة منهم منصور التميمي، وابن خزيمة، وقضية كلام الرونق أنه كلام منصور حيث قال: فإذا قتل ففي ماله ودفنه بين المسلمين قولان: أحدهما مارواه الربيع عن الشافعي أن ماله يكون لورثته ويدفن في مقابر المسلمين. وقال منصور في المستعمل سألت الربيع ما نصنع بماله إذا قتلناه؟ قال يكون فيئا. (ومنها) قال في الروضة: تارك الوضوء يقتل على الصحيح جزم به الشيخ أبو حامد. وفي البيان: لو صلى عريان مع القدرة على الستر أوالفريضة قاعداً بلا عذر قتل، وكذلك لو ترك التشهد والإعتدل، حكاه ابن الاستاذ عن البحر. فإن صح طرد في سائر الأركان والشروط، ويجب أن يكون محله فيما أجمع عليه، ومنها لو امتنع من الصوم والزكاة حبس ومنع المفطرات. وقال إمام الحرمين يجوز أن يجعل الممتنع مما يضيق عليه كالممتنع من الصلاة يجبر عليه، فإن أبى ضربت عنقه. قال المصنف والصحيح قتله بصلاة واحدة بشرط اخراجها عن وقت الضرورة انتهى كلام الأذرعي. فانظر كلامه في قتل من ترك الصلاة كسلاً. وأن الربيع روى عن الشافعي أن ماله يكون فيئا ولا يدفن في مقابر المسلمين. وتأمل كلام أبي حامد وكلام صاحب الروضة في قتل تارك الوضوء وكلام صاحب البيان فمن صلى عريان مع القدرة على التستر وصلى الفريضة قاعداً بلا عذر أنه يقتل، فأين هذا من قولكم أن من قال لا إله إلا الله كف عنه ولايجوز قتاله بوجه من الوجوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وقال الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي في التحفة في باب حكم تارك الصلاة: أن ترك الصلاة جاحداً وجوبها كفر بالإجماع، أو تركها كسلاً مع اعتقاده وجوبها قتل للآية {فَإِنْ تَابُوا} وخبر "أمرت أن أقاتل الناس" لأنهما شرطاً في الكف عن القتل والمقاتلة الإسلام وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الزكاة يمكن الإمام أخذها ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا وقاتلوا فكانت فيها على حقيقتها بخلافها في الصلاة، فإنه لا يمكن فعلها بالمقاتلة. وقال في باب صلاة الجماعة قيل وهي فرض للرجال فتجب بحيث تظهر بها الشعائر في ذلك المحل في البادية أو غيرها فإن لم يظهر الشعار بأن امتنعوا كلهم أو بعضهم -كأهل محلة من قرية كبيرة ولم يظهر الشعار إلا بهم - قوتلوا، يقاتلهم الإمام أو نائبه لإظهارهذه الشعيرة الكبيرة. وقال في باب الأذان: والإقامة سنة وقيل فرض كفاية فيقاتل أهل بلد تركوهما أواحدهما بحيث لم يظهروا الشعائر. وقال في باب صلاة العيد: هي سنة وقيل فرض كفاية فعليه يقاتل أهل بلد تركوها. انتهى كلامه في التحفة. فانظر كلامهم في قتل تارك الصلاة كسلاً. وتأمل قوله أن الآية والحديث شرطاً في الكف عن القتل والمقاتلة الإسلام، وإقام الصلاة، وإتياء الزكاة، وان الإمام يأخذ الزكاة بالمقاتلة ممن امتنعوا وقاتلوا. وتأمل كلامه في باب صلاة الجماعة، وانها تجب بحيث يظهر الشعار في ذلك المحل حتى في البادية وأنهم يقاتلون إذا امتنعوا. وتأمل كلامه في الأذان والإقامة وأن الإمام يقاتل على تركهما وعلى ترك أحدهما على القول بأنهما فرض كفاية. وتأمل كلامه في الطائفة اذا امتنعوا من صلاة العيدين، فأين هذا من كلام من يقول: إن أهل البلد والبوادي إذا قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله لم يجز قتالهم وان لم يصلوا ولم يزكوا، سبحان الله ما أعظم هذا الجهل. وأما كلام الحنابلة في الإقناع وشرحه في كتاب الصلاة: ومن جحد وجوبها كفر، فإن تركها تهاوناً وكسلاً لا جحوداً دعاه الإمام أو نائبه إلى فعلها لاحتمال أن يكون تركها لعذر يعتقد سقوطها به كالمرض ونحوه، فيهدده فأن أبي أن يصلها حتى تضايق وقت التي بعدها وجب قتله لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} -إلى قوله تعالى- {َإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فمن ترك الصلاة لم يأت بشرط التخلية فيبقى على إباحة القتل. ولقوله عليه السلام: "ومن ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله" رواه الإمام أحمد عن مكحول وهو مرسل جيد. ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام كمترد نصاً، فإن تاب بفعلها وإلا قتل بضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 عنقه بالسيف لما رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم. روى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تركها فقد كفر" رواه الخمسة وصححه الترمذي، انتهى. وقال رحمه الله في باب الأذان والإقامة: فإن تركهما أي الأذان والإقامة أهل بلد قوتلوا، أي يقاتلهم الإمام أو نائبه حتى يفعلوهما، لأنهما من أعلام الدين الظاهر. فقتلوا على تركهما كصلاة العيد. وقال رحمه الله في باب صلاة الجماعة: وهي واجبة وجوب عين. فيقاتل تاركها كالأذان. لكن الأذان إنما يقاتل على تركها أهل البلد كلهم، بخلاف الجماعة فإنه يقاتل تاركها وإن أقامها غيره لأن وجوبها على الأعيان بخلافه. وقال رحمه الله في باب صلاة العيدين: وهي فرض كفاية إن تركها أهل بلد يبلغون أربعين بلا عذر قاتلهم الإمام كالأذان، لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وفي تركها تهاون بالدين. وقال رحمه الله في (باب إخراج الزكاة) ومن منعها بخلاً أو تهاوناً أخذت منه قهراً كدين الآدمي، وإن غيب ماله أو كتمه وأمكن أخذها بأن كان في قبضة الإمام أخذت منه بغير زيادة. وإن لم يمكن أخذها استتيب ثلاثة أيام وجوباً. فإن تاب وأخرج كف عنه وإلا قتل لاتفاق الصحابة في قتال مانعيها وإن لم يمكن أخذها إلا بقتال وجب على الإمام قتاله إن وضعها موضعها. انتهى كلامه في الإقناع وشرحه. فتأمل كلامه فيمن ترك الصلاة كسلاً من غير جحود أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً -وتأمل كلامه في أهل البلد إذا تركوا الأذان والإقامة وصلاة العيد إنهم يقاتلون بمجرد ترك ذلك، فهذا كلام المالكية، وهذا كلام الشافعية، وهذا كلام الحنابلة، الكل منهم قد صرح بما ذكرناه، فإذا كانوا مصرحين بقتال من التزم شرائع الإسلام، إلا أنهم تركوا الأذان أو تركوا صلاة الجماعة أو تركوا صلاة العيد، فكيف بمن ترك الصلاة رأساً كالبوادي الذين لا يصلون ولا يزكون ولا يصومون. بل ينكرون الشرائع. وينكرون البعث بعد الموت هذا هو الغالب عليهم إلا من شاء الله وهم القليل. وإلا فأكثرهم ليس معهم من الإسلام إلا أنهم يقولون لا إله إلا الله. ومع هذا يجادل عنهم علماء مكة المشرفة ويقولون: إنهم مسلمون وإن دماءهم وأموالهم حرام بحرمة الإسلام وإن لم يزكوا ولم يصوموا. إلا إنهم يقولون لا إله إلا الله. وهل هذا إلا رد على الله تعالى حيث قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وهؤلاء يقولون يخلى سبيلهم وإن لم يصلوا ولم يزكوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام" وهؤلاء يقولون: من قال لا إله إلا الله عصم دمه وماله وإن لم يصل ولم يزك {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فهذا كتاب الله. وهذه سنة رسوله. وهذا إجماع الصحابة على قتل من ترك الصلاة ومن منع الزكاة. وقال صديق الأمة أبو بكر رضي الله عنه: والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وفي رواية عناقاً- لقاتلهم على منعها. وهذا أيضاً إجماع العلماء. قال في شرح الإقناع: أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله كالمحاربين بين وأولى. انتهى. وقال أبو العباس رحمه الله: القتال واجب حتى يكون الدين كله لله. وحتى لا تكون فتنة. فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضات أو الزكاة أو الصيام أو الحج. أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا والميسر. أو نكاح ذوات المحارم. أو عن التزام جهاد الكفار. أو ضرب الجزية على أهل الكتاب. أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماتها التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها. التي يكفر الواحد بجحودها. فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها. وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر أو الأذان والإقامة عند من يقول بوجوبها ونحو ذلك من الشعائر. فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها. انتهى كلامه. فتأمل كل إمام الحنابلة وتصريحه بأن من امتنع من شرائع الإسلام الظاهرة كالصلوات الخمس والصيام أو الزكاة أو الحج، وعن ترك المحرمات كالزنا أو شرب الخمر أو المسكرات أو غير ذلك فإنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك حتى يكون الدين كله لله ويلتزمون جميع شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائع الإسلام، وإن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف من الصحابة فمن بعدهم. فأين هذا من قولكم: إن من قال لا إله إلا الله فقد عصم ماله ودمه وإن ترك الفرائض وارتكب المحرمات، بل من تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده عرف أن قولكم هذا مضاد لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وما فعله الخلفاء الراشدين ومن بعدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فيا سبحان الله أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وهم يقولون: لا إله إلا الله وسبى نساءهم، واستحل دماءهم وأموالهم؟ أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يغزوا بني المصطلق لما قيل له أنهم منعوا الزكاة. وكان الذي قاله كاذباً. والقصة المشهور في كتب الحديث والتفسير. وذكرها المفسرون عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} . أما علمتم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية مع انهم يقولون لا إله إلا الله؟ أما علمتم أن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا الخوارج بأمر نبيهم صلى الله عليه وسلم. مع أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم. وقال: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" أما علمتم أن الصحابة قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلون ويؤذنون ويصومون؟ أما علمتم أن الصحابة قاتلوا بني يربوع لما منعوا الزكاة. مع أنهم مقرون بوجوبها. وكانوا قد جمعوا صدقاتهم أرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة. وفي أمر هؤلاء عرضت الشبهة لعمر رضي الله عنه حتى جلاها الصديق أبو بكر رضي الله عنه وقال: والله لو منعوني عقالاً -وفي رواية عناقاً- كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.. وقد تقدم ذلك مبسوطاً. وذكرنا لفظه في شرح مسلم في (باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) . أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث البراء إلى رجل تزوج امرأة كما رواه الترمذي في سننه حيث قال (باب فيما جاء فيمن تزوج امرأة أبيه) حدثنا أبو سعيد الأشج أخبرنا حفص بن غياث عن أشعث عن عدي بن ثابت عن البراء قال: مر بي خالي أبو بردة ومعه لواء فقلت: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن آتيه برأسه. حديث حسن غريب. انتهى ولو تتبعنا الآيات والأحاديث والآثار وكلام العلماء في قتال من قال: لا إله إلا الله إذا ترك بعض حقوقها لطال الكلام جداً. فكيف بمن جحد الإسلام كله. وكذب به. واستهزأ به على عمد إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله كهؤلاء البوادي؟ وفيما ذكرنا كفاية لمن طلب الأنصاف، فقد ذكرنا الأدلة من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة، وإجماع الصحابة، وإجماع العلماء بعدهم. فإن كان هذا الذي ذكرناه له معنى آخر ما فهمناه بينوه لنا من كلام الله وكلام العلماء، فرحم الله امرءا نظر لنفسه وعرف أنه ملاق الله الذي عنده الجنة والنار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المسألة الثالثة: هل يجوز البناء على القبور ... المسألة الثالثة وأما المسألة الثالثة فقالوا: فهل يجوز البناء على القبور؟ فنقول: ثبت في الصحيحين والسنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء على القبور وأمر بهدمه، كما رواه مسلم في صحيحه حيث قال: حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن ثابت عن أبي وائل الهياج الأسدي قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. وقال أيضاً: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه. وقال أيضاً: حدثنا ابن شفى هارون بن سعيد الالي قال حدثنا وهب قال حدثني عمرو بن الحارث أن ثمامة حدثه قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم بردوس فتوفي صاحب لنا. فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. وقال الترمذي: (باب ما جاء في تسوية القبور) حدثنا محمد بن بشار: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن حبيب عن أبي ثابت عن وائل أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته. قال: وفي الباب عن جابر وقال ابن ماجه في (باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها) : حدثنا زهير بن مروان حدثنا عبد الرزاق عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور. وحدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبور شيء. وحدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي حدثنا وهب، حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن القاسم بن مخيمرة عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: قال الشافعي رحمه الله في الأم: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويؤيد الهدم قوله: ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.. وقال الأذرعي رحمه الله في (قوت المحتاج) ثبت في صحيح مسلم النهى عن التجصيص والبناء وفي الترمذي وغيره: النهى عن الكتابة. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها، والوصية عليها باطلة. قال الأذرعي: ولا يبعد الجزم بالتحريم في ملكه وغيره من غير حاجة على من علم النهى، بل هو القياس الحق، والوجه في البناء على القبور المباهاة والمضاهاة للجبابرة والكفار، والتحريم ثبت بدون ذلك. وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وانفاق الأموال الكثيرة عليه فلا ريب في تحريمه. والعجب كل العجب ممن يلزم ذلك الورثة من حكام العصر ويعمل بالوصية بذلك! انتهى كلام الأذرعي رحمه الله. ومن جمع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما أنتم عليه من فعلكم مع قبر أبي طالب والمحجوب وغيرهما وجد أحدهما مضاداً للأخر، مناقضاً له بحيث لا جتمعان أبداً. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور كما تقدم ذكره، وأنتم تبنون عليها القباب العظيمة، والذي رأيته في (المعلاة) أكثر من عشرين قبة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها وأنتم تزيدون عليها غير التراب والتابوت الذي عليه ولباس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص. وقد روى أبو داود من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها كما تقدم في صحيح مسلم. وقال أبو عيسى الترمذي (باب ما جاء في تجصيص القبور والكتابة عليها) حدثنا عبد الرحمن بن الأسود حدثنا محمد بن ربيعة عن ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجصص القبور وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ. هذا حديث حسن صحيح وهذه القبور عندكم مكتوب عليها القرآن والأشعار. وقال أبو داود (باب البناء على القبور) حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرني ابن جريج قال حدثني أبو النبير أنه سمع جابرا يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يعقد على القبر، وأن يجصص وأن يبنى عليها" انتهى. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرجها والذي رأيته ليلة دخولنا مكة شرفها الله في المقبرة أكثر من مئة قنديل، هذا مع علمكم أن رسول الله صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وسلم لعن فاعله، فقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه أهل السنن. وأعظم من هذا كله وأشد تحريماً الشرك الأكبر الذي يفعل عندها وهو دعاء المقبورين وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، لكن تقولون لنا أن هذا لا يفعل عندها وليس عندها أحد يدعوها ويسألها، ونقول: اللهم اجعل ما ذكرناه حقاً وصدقاً ونسأل الله أن يطهر حرمه من الشرك.. ولا ريب أن دعاء الموتى وسؤالهم جلب الفوائد وكشف الشدائد إنه من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين كما تقدم بيانه في المسألة الأولى وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال تعالى {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} . وقد روى الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة" وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ رسول الله {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} رواه أحمد وأبو داود والترمذي. قال العلقمي في شرح الجامع الصغير حديث (الدعاء مخ العبادة) وقال شيخناً قال في النهلة مخ الشيء خالصه، وانما كان مخها لأمرين أحدهما أنه امتثال أمر الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فهو محض العبادة وخالصها.. والثاني إذا رأى نجاح الأمور من الله تعالى قطع عمله عما سواه ودعاه لحاجته وحده وهذا أصل العبادة. ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها، وهذا هو المطلوب من الدعاء. وقوله (الدعاء هو العبادة) قال شيخناً قال الطيالسي أتى بالخبر المعرف باللام ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء. وقال شيخناً قال البيضاوي لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تتأهل أن تسمى عبادة من حيث يدل على أن فاعله مقبل على الله معرض عما سواه لا يرجو إلا إياه، ولا يخاف إلا منه واستدل عليه بالآية يعني بقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فأنها تدل على أنه أمر مأمور به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط، والسبب على المسبب، وما كان كذلك كان أتم العبادة. انتهى كلام العلقمي رحمه الله. وليكن هذا آخر الكلام على هذا المسائل الثلاث، فان وافقتمونا على أن هذا هو الحق فهو المطلوب، وان زعمتم أن الحق خلافه فأجيبونا بعلم من الكتاب والسنة فانهما الحاكمان بين الناس فيما تنازعوا فيه كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وقد ذكرنا لكم الأدلة فاذكروا لنا جوابها من الكتاب والسنة وكلام الأئمة فإذا أجبتم على هذه المسائل الثلاث أجبناكم عن بقية المسائل. ولنختم الكلام بقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} . والحمد لله أولاً وآخراً كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 مجموعة الرسائل والمسائل والفتاوى مسألة هل يجب على المبتدئين المتعلمين الرقي إلى معرفة الدليل أم يكفيهم بتقليد من سبقهم مدخل ... مجموعة الرسائل والمسائل والفتاوى (وبه أستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. (مسألة) ما قولكم نور الله قلوبكم لفك المعضلات، ووفقكم للأعمال الصالحات: هل يلزم المبتدئين المتعلمين الترقي إلى معرفة الدليل الناص على كل مسألة ومعرفة طرقه وصحته؟ أم تقليد المخرجين للحديث أنه صحيح أو حسن، أو يكفيهم العمل بالفقهيات المجردة عن الدليل يغنهم هذا فيمن طلب العلم وتأهل له. فما الحال في العوام هل يجزئهم مجرد التقليد؟ وأيضاً حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فأفيدونا واحتسبوا فان الحاجة ماسة إلى هذه المباحث فان تتفضلوا بطول الجواب وذكر الدليل ومن قال به فهو المطلوب. فأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر رحمه الله تعالى: الجواب وبالله التوفيق. لا ريب أن الله سبحانه فرض على عباده طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} وقال تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إلى قوله {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ولم يوجب الله على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق العلماء على أنه ليس أحد معصوماً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولون فقال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه. وقال معن بن عيسى سمعت مالكاً يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في قولي فكل ما خالف الكتاب والسنة فاتركوه. وقال ابن القاسم كان مالك يكثر أن يقول: (أن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين) وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة على الطريق فهي قولي. والأمام أحمد كان يقول لا تقلدوني ولا تقلدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا. وكان يقول من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال. وقال لا تقلد دينك الرجال فانهم لن يسلموا من أن يغلطوا. وقال ابن عبد البر أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم وأن العلم معرفة الحق بدليله. ولهذا جعل الفقهاء من شروط القاضي أن يكون مجتهداً فلا يصح أن يتولاه المقلد. هذا الذي عليه جمهور العلماء قال في الإفصاح1 اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة فإنه قال يجوز ذلك. وقال الموفق في المغني2. يشترط في القاضي ثلاثة شروط (أحدها) الكمال وهو نوعان كمال الأحكام وكمال الخلقة (والثاني) العدالة (والثالث) أن يكون من أهل الاجتهاد وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية وقال بعضهم يجوز أن يكون عامياً فيحكم بالتقلد لأن الغرض فصل الخصومات فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز كما يحكم بقول المقومين ولنا قوله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ولم يقل بالتقليد وقال {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} وقال {فافَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار" رواه ابن ماجه (1) والعامي يقضى على جهل ولأن الحكم آكد من الفتيا لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلداً فالحاكم أولى انتهى. وقال في الإنصاف (2) ويشترط القاضي أن يكون مجتهداً هذا المذهب المشهور وعليه معظم الأصحاب، قال ابن حزم يشترط كونه مجتهداً إجماعاً وقال أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت تقليد رجل فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله، وقال في الإفصاح الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة وأن الحق لا يخرج عنهم واختار في الترغيب ومجتهداً3 في مذهب إمامه للضرورة. واختار في الإفصاح والرعاية ومقلداً   1 الإفصاح عن شرح معاني الصحاح –أي أحاديث الصحيحين لأبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الوزير المتوفي سنة 560. 2 المغني في فقه المذاهب الإسلامية للشيخ موفق الدين بن قدامة الحنبلي المتوفي سنة 620. 3رواه أصحاب السنن والحاكم، وهذا لفظ ابن ماجة. 4 يوجد عدة كتب سميت (الإنصاف في مسائل الخلاف) أحدها للقاضي أبو بكر بن العربي المالكي المتوفي سنة 543 وثانيها لأبي سعد محمد بن يحيى النيسابوري الشافعي المتوفي سنة 548 وثالثها للحافظ أبي الفرج بن الجوزي الحنبلي المتوفي سنة 591 والظاهر أن هذا الأخير هو المراد هنا فقوله: معظم الأصحاب يعني به الحنابلة. 5 الظاهر أنه معطوف على محذوف منصوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 (قلت) وعليه العمل من مدة طويلة وإلا تعطلت أحكام الناس وقيل في المقلد يفتي ضرورة وذكر القاضي أن ابن شاقلا اعترض عليه بقول الإمام أحمد لا يكون فقيهاً حتى يحفظ أربعمائة ألف حديث فقال ان كنت لا أحفظه فانني أفتى بقول من يحفظ أكثر منه. قال القاضي لا يقتضي هذا أنه كان يقلد أحمد لمنعه الفتيا بلا علم قال بعض الأصحاب: ظاهره تقليده إلا أن يحمل على أخذ طرق العلم عنه. وقال ابن بشار من الأصحاب لا أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها. وقال القاضي هذا منه مبالغة في فضله وظاهر نقل عبد الله يفتي غير مجتهد ذكره القاضي وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة انتهى ملخصاً. وذكر ابن القيم مسئلة التقليد في الفتيا ثلاثة أقوال: (أحدها) أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد لأنه ليس بعلم والفتوى بغير علم حرام ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم وأن المقلد لا يطلق عيه اسم عالم وهذا قول أكثر الأصحاب وهو قول جمهور الشافعية. (والثاني) أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه فيجوز أن يقلد غيره من العلماء إذا كان الفتوى لنفسه ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به لغيره وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا. (والقول الثالث) أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد وهو أصح الأقوال وعليه العمل انتهى كلام ابن القيم رحمه الله. فتبين بما ذكرناه أن المقلد ليس بعالم وإن التقليد إنما يصار إليه عند الحاجة للضرورة ولكن قد دعت الحاجة والضرورة إليه من زمان طويل لا سيما في هذا الوقت وحينئذ فيقال التقليد ثلاثة أنواع: (أحدها) التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد فهذا لا يجوز وقد اتفق السلف والأئمة على ذمه وتحريمه قال الشافعي رحمه الله أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. (النوع الثاني) التقليد مع القدرة على الاستدلال والبحث عن الدليل فهذا مذموم أيضاً لأنه عمل على جهل وإفتاء بغير علم مع قدرته وتمكنه من معرفة الدليل المرشد والله تعالى قد أوجب على عباده أن يتقوه بحسب استطاعتهم فقال تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فالواجب على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه ثم يلتزم طاعة الله ورسوله ولم يكلف الله عباده ما لا يطيقونه بل الواجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 على العبد ما يستطيعه من معرفة الحق فإذا بذل مجهوده في معرفة الحق فهو معذور فيما خفي عليه. (النوع الثالث) التقليد السائغ وهو تقليد أهل العلم عند العجز عن معرفة الدليل وأهل هذا النوع نوعان أيضاً (أحدهما) من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالفقه والحديث ولا ينظرون في كلام العلماء فهؤلاء لهم التقليد بغير خلاف بل حكى غير واحد إجماع العلماء على ذلك. (النوع الثاني) من كان محصلاً لبعض العلوم قد تفقه في مذهب من المذاهب وتبصر في كتب متأخري الأصحاب كالإقناع والمنتهى في مذهب الحنابلة أو المنهاج ونحوه في مذهب الشافعية أو مختصر خليل ونحوه في مذهب المالكية أو الكنز ونحوه في مذهب الحنفية ولكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل ومعرفة الراجح من كلام العلماء فهذا له التقليد أيضاً إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة مشهورة وذلك لقوله تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال" ولم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم يستفتون العلماء ويتبعونهم في الأحكام الشرعية والعلماء يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير فكان إجماعاً على جواز اتباع العامي العلماء المجتهدين ويلزم هذا العامي أن يقلد الأعلم عنده كما يلزمه في مسألة القبلة فإذا اجتهد مجتهدان عند اشتباه القبلة فاختلفا في الجهة اتبع المقلد أوثقهما عنده ولا يجوز له أن يتبع الرخص بل يحرم لك عليه ويفسق به. قال ابن عبد البر لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً. ولا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب يأخذ بعزائمه ورخصه. قال الشيخ تقي الدين في الأخذ برخص المذهب وعزائمه طاعة1 غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه وهو خلاف الإجماع وتوقف أيضاً في جوازه. وبالجملة فالعامي الذي ليس له من العلم حظ ولا نصيب فرضه التقليد فإذا وقعت له حادثة استفتى من عرفه عالماً عدلاً أو رآه منتصباً للإفتاء والتدريس واعتبر الشيخ تقي الدين وابن الصلاح الاستفاضة بأنه أهل للفتيا ورجحه النووي في الروضة ونقله عن أصحابه. وقال الشيخ تقي الدين لا يجوز أن يستفتي إلا من يفتي بعلم وعدل. فعلى هذا لا يكتفي بمجرد اعتزائه إلى العلم ولو بمنصب تدريس أو غيره لا سيما في هذا الزمان   1 قوله: طاعة الخ خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو أي الأخذ المذكور طاعة بغير النبي الخ إلا أن يكون سقط من الناسخ بعض الكلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الذي غلب فيه الجهل وقل فيه طلب العلم وتصدى فيه جهلة الطلبة للقضاء والفتيا فتجد بعضهم يقضي ويفتي وهو لا يحسن عبارة الكتاب ولا يعلم صورة المسئلة بل لو طولب بإحضار تلك المسألة وهي في الكتاب لم يهتد إلى موضعها فإنا لله وإنا إليه راجعون. لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى استامها كل مفلس قال في شرح مختصر التحرير ويلزم ولي الأمر منع من لم يعرف بعلم أو جهل حاله من الفتيا قال ربيعة بعض من يفتي أحق بالضرب من السراق. ولا تصح الفتيا من مستور الحال. وما يجيب به المقلد عن حكم فإخبار عن مذهب إمامه لا فتيا قاله أبو الخطاب وابن عقيل والموفق ويعمل بخبره إن كان عدلاً لأنه ناقلاً كالراوي. ولعامي تقليد مفضول من المجتهدين عند الأكثر من أصحابنا منهم القاضي وأبو الخطاب وصاحب الروضة وقاله الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية وقيل يصح إن اعتقده فاضلاً أو مساوياً لا أن اعتقده مفضولاً لأنه ليس من القواعد أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح وقال ابن عقيل1 وابن سيرج والقفال والسمعاني يلزمه الاجتهاد فيقدم الأرجح، ومعناه قول الخرقي والموفق في المقنع ولأحمد روايتان. ويلزمه إن بان له الأرجح تقليده في الأصح زاد بعض أصحابنا وبعض الشافعية في الأظهر ويقدم الأعلم على الأورع، ويخير في تقليد أحد مستويين عند أكثر أصحابنا قال في الرعاية ولا يكفيه من تسكن نفسه إليه، بل لا بد من سكون النفس والطمأنينة به، ويحرم عليه تتبع الرخص ويفسق به. وإن اختلف مجتهدان بأن أفتاه أحدهما بحكم والآخر بخلافه تخير في الأخذ بأيهما شاء على الصحيح، اختاره القاضي والمجد وأبو الخطاب وذكر أنه ظاهر كلام أحمد وقيل يأخذ بقول الأفضل منهما علماً وديناً وهذا اختيار الموفق في الروضة. ويحرم تساهل مفت وتقليد معروف به2 لأن الفتيا أمر خطر فينبغي أن يتبع السلف الصالح في ذلك فقد كانوا يهابون الفتيا كثيراً وقد قال الإمام أحمد إذا هاب الرجل شيئاً لا ينبغي أن يحمل على أن يقول به. قال بعض الشافعية من اكتفى في فتياه بقول أو وجه في المسئلة من غير نظر في الترجيح فقد جهل وخرق الإجماع. وذكر عن أبي الوليد الباجي3 إنه ذكر عن بعض أصحابهم أنه كان يقول الذي لصديقي علي أن أفتيه بالرواية التي توافقه، قال أبو الوليد وهذا لا يجوز عند أحد يعتد به في الإجماع. انتهى كلامه في شرح المختصر ملخصاً. وهذا الذي ذكره أبو الوليد ذكر مثله الشيخ تقي الدين وصاحب الإنصاف وغيرهما. قال في الاختيارات وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى أو بقول أو وجه   1 ابن عقيل من كبار فقهاء الحنابلة والثلاثة الذين ذكروا بعده من كبار الشافعية. 2 أي التساهل. 3 هو من كبار المالكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 من غير نظر في الترجيح ويجب العلم بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعاً. وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره فيولي مع عدم العدل انفع الفاسقين وأقلهما شراً وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الاورع وفيما نذر حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 هل يجب على المتعلم معرفة الدليل (وقول السائل) وفقه الله هل يلزم المبتدئين المتعلمين الترقي إلى معرفة الدليل الناص على كل مسألة. (جوابه) يعلم مما تقدم أن عليه أن يتقي الله بحسب استطاعته فيلزمه من ذلك ما يمكنه ويسقط عنه ما يعجز عنه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فلا يهجم على التقليد ويخلد إلى أرضه مع قدرته على معرفة الدليل لا سيما إذا كان قاضياً أو مفتياً وله ملكة قوية يقوى بها على الاستدلال ومعرفة الراجح فإن الرجل النبيه الذي له فهم وفيه ذكاء إذا سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الكتب التي يذكر فيها أقوال العلماء وأدلتهم كالمغني والشرح1 والتمهيد لابن عبد البر ونحوه هذه الكتب يحصل عنده في الغالب ما يعرف به رجحان أحد القولين فإذا كان طالب العلم متمذهباً بأحد المذاهب الأربعة ثم رأى دليلاً مخالفاً لمذهب إمامه وذلك الدليل قد أخذ به بعض أئمة المذاهب ولم يعلم له ناسخاً ولا معارضاً فخالف مذهبه واتبع الإمام الذي قد أخذ بالدليل كان مصيباً في ذلك بل هذا الواجب عليه ولم يخرج بذلك عن التقليد فهو مقلد لذلك الإمام فيجعل إماماً بازاء إمام ويبقى له الدليل بلا معارض. قال في الإختيارات من كان متبعاً لإمام فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل أو لكون أحدهما أعلم وأتقى فقد أحسن. وقال أبو العباس في موضع آخر بل يجب عليه وان أحمد نص عليه ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع. وقال أيضاً أكثر من يميز في العلم من المتوسطين إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام ترجح عنده أحدهما لكن قد لا يثق بنظره بل يحتمل عنده مالا يعرف جوابه والواجب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى منه للاجتهاد كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة إذا ترجح عنده أحدهما قلده والدليل الخاص الذي يرجح به قول على قول أولى بالإتباع من دليل عام على أن أحدهما أعلم أو أدين لأن الحق واحد ولابد ويجب أن ينصب الله على الحكم دليلاً2 انتهى.   1 أي الشرح الكبير على المقنع الذي يطبع الآن مع المغني في مطبعة المنار وكلاهما يذكر الأحكام بأدلتها. 2 يعني أبو العباس أن نصب الدليل على الحكم ثابت في الشرع قطعاً ولا يريد أنه واجب على الله تعالى فإنه سني سلفي لا معتزلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وقال الشيخ تقي الدين في بعض أجوبته "قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" ولازم ذلك أن من لم يفقهه في الدين لم يرد به خيراً فيكون التفقه في الدين فرضاً والفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهاً لكن من الناس من قد يعجز عن الأدلة التفصيلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته ويلزمه ما يقدر عليه "وأما القادر على الاستدلال فقيل يحرم عليه التقليد مطلقاً وقيل يجوز مطلقاً وقيل يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال. والاجتهاد ليس هو أمراً واحداً لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة، وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه، فمن نظر في مسألة تنازع فيها العلماء ورأى مع أحد القولين نصوصاً لم يعلم لها معارضاً بعد نظر مثله فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الأخير لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره باشتغاله على مذهب إمام آخر، وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فيكون موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده تاماً في هذا المسألة لضعف آلة الاجتهاد في حقه أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النصوص فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعاً للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله ورسوله، بخلاف من يقول قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها فهذا يقال له قد قال الله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك ثم أن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضاً راجحاً كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده، وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من حق هو محمود فيه بخلاف اصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي ترجحت حجته. وأما الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم. "وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه لا سيما إن كان قد رواه أيضاً فمثل هذا لا يكون عذار في ترك النص فقد بينا فيما كتبناه في (رفع الملام عن الأئمة الاعلام) نحواً من عشرين عذراً للأئمة في ترك العمل ببعض الحديث وبينا أنهم يعذرون في الترك لتلك الاعذار وأما نحن فلسنا معذورين في تركنا لهذا القول فمن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه أو القياس أو عمل بعض الأمصار وقد تبين لآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه وان نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر ومقدم على القياس والعمل لم يكن عذر ذلك الرجل عذراً في حقه فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقداً أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار من أهل المدينة النبوية الذين يقال أنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم انه منسوخ أو له معارض راجح، وقد بلغ من بعده أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه بل عمل به طائفة منهم من سمعه منهم ونحوه ذلك مما يقدح في هذا المعارض. "وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد أنت أعلم أم الإمام الفلاني كانت هذه معارضة فاسدة لأن الإمام الفلاني قد عارضه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، فكما أن الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع وإذا تنازعوا في شيء رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول -وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع آخر- فكذلك موارد النزاع بين الأئمة. وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر في دية الأصابع وأخذوا بقول معاوية لما كان معه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذه وهذه سواء" وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة فقال له أن أبا بكر وعمر يقولان.. فقال ابن عباس يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر. وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوه بقول عمر فبين أن عمر يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم أمر عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس. ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويبقي كل إمام في اتباعه بمنزلة النبي في أمته، وهذا تبديل للدين يشبه ما عاب الله به اليهود والنصارى في قوله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 بحث تقليد نقاد الحديث في صحته وغيرها وأما السؤال السائل عن الترقي إلى معرفة طرق الحديث وصحته أم تقليد المخرجين للحديث في أنه صحيح أو حسن يكفيهم فجوابه أن ذلك يكفيهم قال في شرح مختصر التحرير ويشترط في المجتهد أن يكون عالماً بصحة الحديث وضعفه سنداً ومتناً ولو كان علمه بذلك تقليداً كنقله من كتاب صحيح من كتب الحديث المنسوبة إلى الأئمة كمالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والدارقطني والحاكم ونحوهم لأنهم أهل المعرفة بذلك فجاز الأخذ بقولهم كما يؤخذ بقول المقومين في القيم انتهى. وقال في مسودة ابن تيمية: العامي الذي ليس معه آلة الاجتهاد في الفروع يجوز له التقليد فيها عند الشافعية والجمهور، قال أبو الخطاب ويجوز له الرجوع إلى أهل الحديث في الخبر وكون سنده صحيحاً أو فاسداً ولا يلزمه أن يتعلم ذلك بالإجماع انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وقال عبد الرحيم بن الحسين العراقي في الفيته: واخذ متن من كتاب لعمل ... أو احتجاج حيث ساغ قد جعل عرضاً له على أصول يشترط ... وقال يحيى النووي أصل فقط ثم قال المؤلف في شرحه أي وأخذ الحديث من كتاب من الكتب المعتمدة لعمل به أو احتجاج به إن كان ممن يسوغ له العمل الحديث أو الاحتجاج به جعل ابن الصلاح شرطه أن يكون ذلك الكتاب مقابلاً بمقابلة ثقة على أصول صحيحة متعددة مروية بروايات متنوعة، قال النووي فإن قابلها بأصل معتمد محقق أجزأه. وقال ابن الصلاح في قسم الحسن حين ذكر أن نسخ الترمذي تختلف في قوله حسن أو حسن صحيح ونحو ذلك، فينبغي أن تصحح أصلك بجماعة أصول وتعتمد على ما اتفقت عليه. فقوله ينبغي قد يشير إلى عدم اشتراط ذلك وإنما هو مستحب وهو كذلك انتهى كلام العراقي. وقال أبو الحسن البكري الشافعي في كتابه (كنز المحتاج على المنهاج) لما ذكر أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً إلا إذا فوضت إليه واقعة خاصة: فيكفي الاجتهاد في تلك الواقعة بناءاً على تجزئ الاجتهاد وهو الأصح -إلى أن قال- وقد يحصل الإجتهاد في باب دون باب آخر ولا حاجة لتتبع الأحاديث بل يكفي أصل مصحح أعتني به بجمع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود -ولا أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه عند الحاجة- ولا إلى البحث عن رواة حديث أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة رواته ويقظتهم وما عداه يكتفي في رواته بتعديل إمام مشهور عرفت صحة مذهبه جرحاً وتعديلاً- ولا إلى ضابط جميع مواضع الإجماع والاختلاف، بل يكفي معرفته بعدم مخالفة قوله الإجماع لموافقته بتقدم عليه أو غلبة ظن بتوليها في عصره، وكذا في معرفة الناسخ والمنسوخ انتهى. وقال في شرح الروض للقاضي زكريا لما ذكر أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً قال: والمجتهد من علم ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة، وعرف منها العام، والخاص، والمطلق، والمقيد، والمجمل، والمبين، والنص، والظاهر، والناسخ، والمتواتر، والآحاد، والمرسل، والمتصل، وعدالة الرواة وجرحهم، وأقاويل الصحابة رضي الله عنهم. فمن بعدهم -إلى أن قال- ولا يشترط التبحر في هذه العلوم بل يكفي معرفة جمل منها وأن يكون له في كتب الحديث أصل صحيح يجمع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود فيعرف كل باب فيراجعه إذا احتاج إلى العمل به. ويكتفي في البحث عن الآحاد بما قبله منها السلف وتواترت أهلية رواته من العدل والضبط وما عداه يكتفي في أهلية رواته بتأهل إمام مشهور عرفت صحت مذهبه في الجرح والتعديل. ثم اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرع ويجوز أن يتبعض بالباب الذي يجتهد فيه انتهى كلام القاضي. فتبين بما ذكرناه من القول جواز الاعتماد على نقل الأحاديث من الكتاب المصحح وكذلك التقليد لأهل الجرح والتعديل في تصحيح الحديث أو تضعيفه والله سبحانه أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ما قيل في تقليد الأئمة الأربعة (وأما قول السائل) وفقه الله لفهم المسائل حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله. فنقول: هذا الإجماع حكاه غير واحد من المتأخرين وكلهم نسبوه إلى الوزير أبي المظفر يحيى بن هبيرة صاحب الإفصاح عن معاني الصحاح فإنه ذكر نحواً من هذه العبارة وليس مراده أن الإجماع منعقد على وجوب تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة وأن الإجتهاد بعد استقرار هذه المذاهب لا يجوز فإن كلامه يأبى ذلك، وإنما أراد الرد على من اشترط في القاضي أن يكون مجتهداً وأن المقلد لا ينفذ قضاؤه كما هو مذهب كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين وحمل كلام من اشترط في القاضي أن يكون مجتهداً على ما كانت عليه الحال قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة، وأما بعد استقرار هذه المذاهب فيجوز تولية المقلد لأهلها ويفذ قضاؤه، وليس في كلامه ما يدل على أنه يجب التقليد لهؤلاء الأئمة بحيث أن يلزم الرجل أن يتمذهب بأحد هذه المذاهب الأربعة ولا يخرج عن مذهب من قلده كما يتوهم بل كلامه يخالف ذلك ولا يوافقه. وعبارته في الإفصاح: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد إلا أبا حنيفة فإنه قال يجوز ذلك. ثم قال والصحيح في هذه المسألة أن قول من قال لا يجوز تولية قاض حتى يكون من أهل الاجتهاد فإنه إنما عني به ما كانت الحال عليه قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة التي أجمعت الأمة أن كل واحد منها يجوز العمل به لأنه مستند إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. "فالقاضي الآن وان لم يكن من أهل الاجتهاد ولا يسعى في طلب الأحاديث وابتغاء طرقها ولا عرف من لغة الناطق بالشريعة صلى الله عليه وسلم مالا يعوزه معه معرفة ما يحتاج إليه فيه وغير ذلك من شروط الاجتهاد فان ذلك مما قد فرغ منه ودأب له فيما سواه وانتهى له الأمر من هؤلاء الأئمة المجتهدين إلى ما أراحوا به من بعدهم وانحصر، الحق في أقاويلهم، ودونت العلوم، وانتهت إلى ما اتضح فيه الحق. فإذا عمل القاضي في أقضية بما يأخذ عنهم أو عن الواحد منهم فإنه في معنى من كان أداه اجتهاده إلى قول قاله. وعلى ذلك فإنه إذا خرج من خلافهم متوخياً مواطن الاتفاق ما أمكنه كان آخذا بالحزم عاملاً بالأولى، وكذلك إذا قصد في موطن الخلاف توخي ما عليه الأكثر منهم والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى مع جواز علمه أن يعمل بقول الواحد، إلا أنني أكره له أن يكون ذلك من حيث أنه قد قرأ مذهب واحد منهم أو نشأ في بلدة لم يعرف فيها إلا مذهب إمام واحد منهم أو كان شيخه ومعلمه على مذهب فقيه من الفقهاء فقصر نفسه على اتباع ذلك المذهب حتى إنه إذا حضر عنده خصمان وكان ما تشاجرا فيه مما يفتي الفقهاء الثلاثة فيه بحكم نحو الوكيل بغير رضاء الخصم وكان الحاكم حنفياً وقد علم أن مالكاً والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل وأن أبا حنيفة يمنعه فعدل عما اجتمع عليه هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من غير أن يثبت عنه بالدليل ما قاله ولا أداه اجتهاده إلى أن أبا حنيفة أولى بالاتباع مما اتفق الجماعة عليه فإني أخاف على هذا من الله عز وجل بأنه اتبع في ذلك هواه وأنه ليس من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وكذلك إن كان القاضي مالكياً فأختصم إليه اثنان في سؤر الكلب فقضى بطهارته مع علمه بأن الفقهاء كلهم قضوا بنجاسته، وكذلك إن كان القاضي شافعياً فاختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمداً فقال أحدهما هذا منعني من بيع شاة مذكاة فقال الآخر إنما منعته من بيع الميتة، فقضى عليه بمذهبه وهو يعلم أن الأئمة الثالثة على خلافه، وكذلك إن كان القاضي حنبلياً فاختصم إليه اثنان فقال أحدهما لي عليه مال فقال الآخر كان له علي مال فقضيته، فقضى عليه بالبراءة من إقراره مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه، فإن هذا وأمثاله مما توخى اتباع الأكثرين فيه أقرب عندي إلى الإخلاص وأرجح في العمل. "وبمقتضى هذا فإن ولايات الحكام في وقتنا هذا صحيحة وإنهم قد سدوا ثغراً من ثغور الإسلام سده فرض كفاية ولو أهملت هذا القول ولم أذكره ومشيت على الطريق التي عليه الفقهاء الذين يذكر كل منهم في كتاب ان صنفه أو كلام إن قاله أنه لا يصح أن يكون قاضياً إلا من كان من أهل الاجتهاد، ثم يذكر من شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام، فإن هذا كالإحالة والتناقض، وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم، وأن لا ينفذ حق، ولا يكاتب به ولا يقام بينة، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية، وهذا غير صحيح بل الصحيح في المسألة أن ولاة الحكام جائزة وأن حكومتهم اليوم صحيحة نافذة وولايتهم جائزة شرعاً انتهى كلام ابن هبيرة رحمه الله1. فقد تضمن هذا الكلام أن تولية المقلد جائزة إذا تعذرت تولية المجتهد لأنه ذكر أن شروط الاجتهاد ليست موجودة في الحكام وأن هذا كالإحالة وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم فينفذ قضاء المقلد للحاجة لئلا تتعطل الأحكام. وهكذا قال غير واحد من المتأخرين الذين يذكرون أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً يذكر هذا ثم يذكر القول الثاني أنه يجوز تولية المقلد للضرورة كما ذكره متأخرو الحنابلة والمالكية والشافعية وتضمن أيضاً كلام ابن هبيرة أن إجماع الأئمة الأربعة حجة وأن الحق لا يخرج عن   1 في هذا الكلام نظر من وجوه ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن من أصول الشريعة اليسر ورفع الحرج ومن هدي النبي (ص) أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما وهذا أفضل مرجح بين ما اختلف فيه الأربعة أو غيرهم "ومنها" الترجيح بقوة الدليل "ومنها" أن كتب هذه المذاهب وغيرها لا تغني عن الاجتهاد لأن الناس يحدث لهم أقضية بما أحدثوا من أمور الكسب والعمران والنظم المالية ومن الفجور أيضاً كما قال الإمام عمر بن عبد العزيز "رضي" ويناسب هذا ما قاله الفقهاء في تعليق بعض الأعمال بالعرف الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان، وكتبه محمد رشيد رضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أقولهم فلا يخرج القاضي عما اجمعوا عليه فإن اختلفوا فالأولى أن يتبع ما عليه الأكثر، وصرح بأنه يكره له أن يقضي بما انفرد به الواحد منهم عما عليه الثالثة لكونه مذهب شيخه أو أهل بلده، وذكر أنه يخاف على هذا أن يكون متبعاً لهواه. وتضمن كلامه أيضاً أن الإجماع انعقد على تقليد كل واحد من المذاهب الأربعة دون من عداهم من الأئمة لأن مذاهبهم مدونة قد حررت ونقحها اتباعهم بخلاف أقول غيرهم من الأئمة فلأجل هذا جاز تقليدهم. فليس في كلامه إلا حكاية الإجماع على جواز تقليدهم لا على وجوبه. بل صرح بأن القاضي لا ينبغي له الاقتصار على مذهب واحد منهم لا يفتي إلا به، بل ذكر أن الأولى للقاضي أن يتوخى مواطن الاتفاق إن وجده وإلا توخى ما عليه الأكثر فيعمل بما قاله الواحد منهم مخالفة للأكثر. فقضية كلامه أن المقلد لا يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة بل يجتهد في أقوالهم ويتوخى ما عليه أكثرهم إلا أن يكون للواحد منهم دليل فيأخذ بقول من كان الدليل معه فيكون من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وهذا من جنس ما أشرنا إليه فيما تقدم من أن المقلد إذا كان نبيهاً وله ملكة قوية ونظر فيما تنازع فيه الأئمة وأمعن النظر في أدلتهم وتعليلاتهم تبين له الراجح من المرجوح وحينئذ فيعمل بما ترجح عنده أنه الصواب ولا يخرج بذلك عن التقليد فإذا كان الرجل شافعياً أو حنبلياً ونظر في كتب الخلاف ووجد دليلاً صحيحاً قد استدل به مالك فعمل بالدليل كان هذا هو المناسب في حقه فيجعل إماماً بازاء إمام ويسلم له الدليل بلا معارض. وليس هذا من الاجتهاد المطلق بل هو من الاجتهاد المقيد فهو يتبع الدليل ويقلد الإمام الذي قد أخذ به. وأما الأخذ بالدليل من غير نظر كلام العلماء فهو وظيفة المجتهد المطلق وأما المقلد الذي لم يجتمع فيه الشروط ففرضه التقليد وسؤال أهل العلم. قال عبد الله ابن الإمام أحمد سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلاف الصحابة والتابعين وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك ولا الإسناد القوي من الضعيف فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير ما أحب منها فيفتي به ويعمل به؟ قال لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم انتهى كلامه. وأما إذا وجد الحديث قد عمل به بعض الأئمة المجتهدين ولا يعلم عند غيره حجة يدفع بها الحديث فعمل به كان قد عمل بالحديث وقلد هذا الإمام المجتهد في تصحيحه وعدم ما يعارضه فيكون متبعاً للدليل غير خارج عن التقليد. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله طالب العلم يمكنه معرفة الراجح من الكتب الكبار التي يذكر فيها مسائل الخلاف ويذكر فيها الراجح مثل كتاب التعليق للقاضي أبي يعلى والانتصار لأبي الخطاب وعمل الأدلة لابن عقيل وتعليق القاضي يعقوب البرزيني وأبي الحسن الزاغوني ومما يعرف منه ذلك كتاب المغني للشيخ أبي محمد وكتاب شرح الهداية لجدنا أبي البركات، ومن كان خبيراً بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل ومن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 في الشرع، وأحمد رحمه الله أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان رحمهم الله ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصاً كما يوجد لغيره، ولا يوجد قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه ما يوافق القول القوي وأكثر مغاريده التي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحاً انتهى كلامه رحمه الله. وهو موافق لما ذكره صاحب الافصاح من أن القاضي عليه أن يتوخى أصابة الحق فيتوخى مواطن الاتفاق فيعمل بما اتفقوا عليه فان لم يكن الحكم متفقاً نظر فيما عليه الجمهور إذا لم يكن مع مخالفهم دليل فليس الناظر في كتب الخلاف ومعرفة الأدلة بخارج عن التقليد وليس في كلام صاحب الإفصاح ما يقتضي التمذهب بمذهب لا يخرج عنه بل كلامه صريح في ضد ذلك. وهذه شبهة ألقاها الشيطان على كثير ممن يدعي العلم وصار بها أكثرهم فظنوا أن النظر في الأدلة أمر صعب لا يقدر عليه إلا المجتهد المطلق، وأن من نظر في الدليل وخالف إمامه لمخالفة قوله لذلك الدليل فقد خرج عن التقليد ونسب نفسه إلى الاجتهاد المطلق، واستقرت هذه الشبهة في قلوب كثير حتى آل الأمر بهم إلى أن {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وزعموا أن هذا هو الواجب عليهم، وأن من انتسب إلى مذهب إمام فعليه أن يأخذ بعزائمه ورخصه وإن خالف نص كتاب أو سنة، فصار إمام المذهب عند أهل مذهبه كالنبي في أمته لا يجوز الخروج عن قوله، ولا تجوز مخالفته، فلو رأوا أحدا من المقلدين قد خالف مذهبه وقلد إماماً آخر في مسألة لأجل الدليل الذي استدل به قالوا هذا قد نسب نفسه إلى الاجتهاد ونزل نفسه منزلة الأئمة المجتهدين، وإن كان لم يخرج عن التقليد وإنما قلد إماماً دون إمام آخر لأجل الدليل وعمل بقوله تعالى: {فإ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فالمتعصبون للمذاهب إذا وجدوا دليلاً ردوه إلى نص إمامهم فإن وافق الدليل نص الإمام قبلوه وإن خالفه ردوه واتبعوا نص الإمام، واحتالوا في رد الأحاديث بكل حيلة يهتدون إليها، فإذا قيل هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا أنت أعلم بالحديث من الإمام الفلاني؟ مثال ذلك إذا حكمنا بطهارة بول ما يؤكل لحمه وحكم الشافعي بنجاسته وقلنا له قد دل على طهارته حديث العرنيين وهو حديث صحيح وكذلك حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم، فقال هذا المنجس لأبوال مأكول اللحم: أنت أعلم بهذه الأحاديث من الإمام الشافعي فقد سمعها ولم يأخذ بها؟ فنقول له قد خالف الشافعي في هذه المسألة من هو مثله أو أعلم منه كمالك والإمام أحمد رحمهما الله وغيرهما من كبار الأئمة، فنجعل هؤلاء الأئمة بازاء الشافعي ونقول إمام بإمام وتسلم لنا الأحاديث ونرد الأمر إلى الله والرسول عند تنازع هؤلاء الأئمة ونتبع الإمام الذي أخذ بالنص ونعمل بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فنمتثل ما أمر الله به. وهذا هو الواجب علينا ولسنا في هذا العمل خارجين عن التقليد بل خرجنا عن تقليد إمام إلى تقليد إمام آخر لأجل الحجة التي أدلى بها من غير معارض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لها ولا ناسخ. فالانتقال من مذهب إلى مذهب آخر لأمر ديني -بأن تبين له رجحان قول على قول فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الدليل- مثاب على فعله بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل عنه ولا يتبع أحداً في مخالفته الله ورسوله فإن الله فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل حال كما تقدم ذكره. وقد ذكرنا أن الشافعي رحمه الله قال: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الانتقال من مذهب إلى آخر وأما الانتقال من مذهب إلى مذهب لمجرد الهوى أو لغرض دنيوي فهذا لا يجوز وصاحبه يكون متبعاً لهواه وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجباً أو محرماً ثم يعتقده غير واجب أو محرم بمجرد هواه، وذلك مثل أن يكون طالباً للشفعة بالجوار فيعتقدها أنها حق ويقول مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أرجح من مذهب الجمهور ثم إذا طلبت منه الشفعة بالجوار اعتقد أنها ليست ثابته وقال مذهب الجمهور في هذه المسألة أرجح. ومثل من يعتقد إذا كان أخاً مع جد أن الأخوة تقاسم الجد كما هو مذهب الأئمة الثلاثة فإذا كان جداً مع أخ اعتقد أن الجد يسقط الأخوة كما هو مذهب أبي حنيفة. فهذا نحوه لا يجوز، وصاحبه مذموم، بل يجب عليه أن يعتقد الحق فيما له وعليه ولا يتبع هواه ولا يتبع الرخص، فمتبع الرخص مذموم والمتعصب للمذهب مذموم، وكلاهما متبع هواه. والمتعصبون لمذاهب الأئمة تجدهم في أكثر المسائل خالفوا نصوص أئمتهم واتبعوا أقوال المتأخرين من أهل مذهبهم فهم يحرصون على قاله الآخر فالآخر وكلما تأخر الرجل أخذوا بكلامه وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه فأهل كل عصر إنما يقضون بقول الأدنى فالأدنى إليهم وكلما بعد العهد ازداد كلام المتقدمين هجراً ورغبة عنه حتى إن كتب المتقدمين لا تكاد توجد عندهم فإن وقعت في أيديهم فهي مهجورة. فالحنابلة قد اعتمدوا على ما في الإقناع والمنتهى ولا ينظرون فيما سواهما ومن خالف مذهب المتأخرين فهو عنهم مخالف لمذهب أحمد رحمه الله مع أن كثيراً من المسائل التي جزم بها المتأخرون مخالفة لنصوص أحمد يعرف ذلك من عرفه. وتجد كتب المتقدمين من أصحاب أحمد مهجورة عندهم بل قد هجروا كتب المتأخرين فالمغني والشرح والإنصاف والفروع ونحو هذه الكتب التي يذكر فيها أهلها خلاف الأئمة أو خلاف الأصحاب لا ينظرون فيها. فهؤلاء في الحقيقة أتباع الحجاوي وابن النجار لا اتباع الإمام أحمد وكذلك متأخرو الشافعية هم في الحقيقة اتباع ابن حجر الهيتمي صاحب التحفة واضرابه من شراح المناهج فما خالف ذلك من نصوص الشافعي لا يعبئون به شيئاً وكذلك متأخرو المالكية هم في الحقيقة اتباع خليل فلا يعبئون بما خالف مختصر خليل شيئاً ولو وجدوا حديثاً ثابتاً في الصحيحين لم يعملوا به إذا خالف المذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وقالوا الإمام الفلاني أعلم منا بهذا الحديث {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . فكل أهل مذهب اعتمدوا على كتب متأخريهم فلا يرجعون إلا إليها ولا يعتمدون إلا عليها. وأما كتب الحديث كالأمهات الست وغيرها من كتب الحديث وشروحها وكتب الفقه الكبار التي يذكر فيها خلاف الأئمة وأقوال الصحابة والتابعين فهي عندهم مهجورة، بل هي في الخزانة مسطورة، للتبرك بها لا للعمل. ويعتذرون بأنهم قاصرون عن معرفتها. فالأخذ بها وظيفة المجتهدين، والاجتهاد قد انطوى بساطه من أزمنة متطاولة، ولم يبقى إلا التقليد، والمقلد يأخذ بقول إمامه ولا ينظر إلى دليله وتعليله، ولم يميزوا بين المجتهد المطلق الذي قد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد فهو يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد، وبين المجتهد في مذهب إمامه أو في مذهب الأئمة الأربعة من غير خروج عنها، فهو ملتزم لمذهب إمام من الأئمة وينظر في كتب الخلاف ويمعن النظر في الأدلة فإذا رأى الدليل بخلاف مذهبه قلد الإمام الذي قد أخذ بالدليل فهو اجتهاد مشوب بالتقليد، فينظر إلى ما اتفقوا عليه ويأخذ به، فإن اختلفوا نظر في الأدلة فإن وجد مع أحدهم دليلاً أخذ بقوله، فإن لم يجد في المسألة دليلاً من الجانبين أخذ بما عليه الجمهور، فإن لم يجد ذلك بل قوي الخلاف عنده من الجانبين التزم قول إمامه إذا لم يترجح عنده خلافه. فأكثر المقلدين لا يميزون بين المجتهد المستقل من غيره وجعلوهما نوعاً واحداً، وهذا غلط واضح فإن من كان قاصراً في العلم لا يستقل بأخذ الأحكام من الأدلة بل يسأل أهل العلم كما نص عليه الإمام أحمد رحمه الله في رواية ابنه عبد الله وقد ذكرناه فيما تقدم. وأما الاجتهاد المقيد بمذاهب الأئمة وتوخي الحق بما دل عليه الدليل وبما عليه الجمهور فهذا الذي ينبغي العدول عنه وهو الذي ذكره صاحب الإفصاح. وأما لزوم التمذهب بمذهب بعينه بحيث لا يخرج عنه وإن خالف نص الكتاب أو السنة فهذا مذموم غير ممدوح وقد ذمه صاحب الإفصاح كما تقدم ذكره بل قد ذمه الأئمة رضي الله عنهم. قال الشافعي رحمه الله: طالب العلم بلا حجة كحاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه وهو لا يدري. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يحل لأحد يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه. وقد صرح مالك أن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب. فكيف بمن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول من هو دون إبراهيم أو مثله. فقال جعفر الفريابي حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني الهيثم بن جميل (قال) قلت لمالك بن أنس يا أبا عبد الله إن عندنا قوماً وضعوا كتاباً يقول أحدهم حدثنا فلان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكذا وكذا وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم، قال مالك وصح عندهم قول عمر؟ قلت إنما هي رواية كما صح عنده قول إبراهيم، فقال هؤلاء يستتابون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقال أبو عمر بن عبد البر يقال لمن قال بالتقليد. لم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟ فإن قال قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسول الله صلى الله عليه لم أحصها والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني. قيل له أما العلماء إذا أجمعوا على تأويل شيء من كتاب أو حكاية عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه؟ فإن قال قلدته لأني أعلم أنه على صواب. قيل له علمت ذلك من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع؟ فإن قال نعم أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال قلدته لأنه أعلم مني، قيل له فقلد كل من هو أعلم منك فإنك تجد من ذلك خلقاً كثيراً ولا تخص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك. فإن قال قلدته لأنه أعلم الناس، قيل له فهو إذاً أعلم من الصحابة فكفى بقول مثل هذا قبحاً،1. "فإن قال أنا أقلد بعض الصحابة، قيل له فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم ولعل من تركت منهم أفضل ممن أخذت بقوله؟ على أن القول لا يصح بفضل قائله وإنما بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن مدين عن عيسى بن دينار عن القاسم عن مالك قال ليس كلما قال الرجل قولاً وإن كان له فضل يتبع عليه لقوله عز وجل {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} . فإن قال قصري وقلة علمي تحملني على التقليد، قيل له أما من قلد فيما ينزل به أحكام شرعية عالماً يتفق له على علمه فيصدر في ذلك عما يخبره به فمعذور لأنه قد أتى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولابد له من تقليد عالم فيما جهله لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك، ولكن من كانت هذه حاله هل يجوز له الفتوى في شرائع دين الله فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك يصيرها إلى غير من كانت في يده بقول لا يعرف صحته ولا قام له الدليل عليه وهو مقر أن صاحبه يخطئ ويصيب وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما يخالفه؟ فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع لزمه أن يجيزه للعامة وكفى بذلك جهلاً ورداً للقرآن قال الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ولم يستقين فليس بعلم وإنما هو ظن والظن لا يغني من الحق شيئاً". ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنه "من أفتى بفتيا وهو يعمي عنها كان   1 إنه على قبحه بمخالفة إمامه وسائر الأئمة على تفضيل الصحابة على أنفسهم باطل بالبداهة فإن المجتهد لا يمكنه أن يعرف أعلم الناس على الإطلاق فضلاً عن المقلد الذي لا يعرف أدلة أحد منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 إثمها عليه" موقوفاً ومرفوعاً، قال وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" قال ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد انتهى كلام أبي عمر رحمه الله تعالى. فتأمل ما في هذا الكلام من الرد على من يقول بلزوم التمذهب بمذهب من هذه المذاهب الأربعة لا يخرج عن ذلك المذهب ولو وجد دليلاً يخالفه لأن الإمام صاحب المذهب أعلم بمعناه ويجعل هذا عذراً له في رد الحديث أو ترك العمل به. وتأمل قوله لا خالف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد. ومراده إذا كان المقلد قادراً على الاستدلال وأما العاجز عنه فهو كالأعمى يقلد في جهة القبلة فهو معذور إذا كان عاجزاً وقد حكى الإمام أبو محمد بن حزم الإجماع على أنه لا يجوز التزام مذهب بعينه لا يخرج عنه فقال: أجمعوا على أنه لا يجوز لحاكم ولا لمفت تقليد رجل فلا يحكم ولا يفتى إلا بقوله انتهى. فحكاية الإجماع من هذين الإمامين أعني أبا عمر بن عبد البر وأبا محمد بن حزم كاف في إبطال قول المتعصبين للمذهب والله سبحانه وتعالى أعلم. بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط ونسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله رب العالمين آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 عدة رسائل في مسائل فقهية الرسالة الأولى من حمد بن ناصر بن معمر إلى جانب الأخ المكرم جمعان بن ناصر حفظه الله تعالى آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وموجب الخط إبلاغ السلام وبعد فالخط الشريف وصل أوصلك الله إلى رضوانه وما ذكر جنابك صار لدى محبك معلوماً ومن طرف المسائل التي تسأل عنها وتطلب جوابها. (حكم اشترط طلاق الضرة في عقد النكاح) (فالمسألة الأولى) فيمن شرطت على زوجها عند العقد طلاق ضرتها فهذا الشرط اختلف العلماء فيه هل هو صحيح أم فاسد فذهب الحنابلة إلى صحته فيجب عندهم الوفاء وخيار الفسخ لها إذا لم يف وذهب كثير من الفقهاء إلى أنه شرط باطل للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك والنهي يقضي الفساد على هذا يبطل الشرط ويصح النكاح لأن هذا ليس من الشروط المبطلة للعقد كنكاح الشغار والتحليل والمتعة. (الشروط الصحيحة في عقد النكاح) (وأما المسألة الثانية) فيما شرطت على الزوج عند العقد شرطاً صحيحاً ورضي بذلك وقالت إن فعلت كذا فهو طلاقي ثم لم يف لها بل خالف ما شرطت عليه فهذا الشرط إن كان من الشروط الصحيحة فلها الفسخ إن لم يف به وإن لم تقل فهو طلاقي فلها إلغاؤه وأبطاله فإذا أسقطته بعد البينونة سقط وجاز له أن يرجع إليها بنكاح جديد وإن كان الإسقاط قبل البينونة سقط والنكاح بحاله وليس لها مطالبته بذلك بعد إسقاطه. (حكم تراضي الزوجين على تعليق الطلاق بالتزوج عليها) (وأما المسألة الثالثة) فيمن تشاجر هو وزوجته ثم تراضيا على شروط صحيحة كقوله إن تزوجت عليك فهو طلاقك، ثم قالت له أعد اللفظ فأعاده مرتين أو ثلاث هل يثبت هذا الشرط وإن كان بعد عقد النكاح؟ وهل يقع عليه الطلاق؟ وهل يفرق بن الحرفين فيما إذا قال إن تزوجت فأنت طالق أو إذا تزوجت؟ فنقول هذا الشرط وهو تعليق الطلاق على التزوج شرط لازم وتعليقه صحيح فمتى تزوج طلقت ثم ننظر في نيته حال تكراره لفظ الطلاق فإن قصد بالتكرير أفهامها أو التأكيد لم تطلق إلا واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وله أن يراجعها بعد التزوج بالأخرى لأن هذا الشرط لم يوجد عند العقد بل حدث بعد ذلك فإن لم يقصد بالتكرار الإفهام ولا التأكيد طلقت ما نواه فإن لم يكن له نية ففيه خلاف والأشهر أنها تطلق بعدد التكرار وبعضهم يقول لا تطلق إلا واحدة. وأما التفرقة بين إن الشرطية وإذا فالعامة لا يفرقون بينهما فيحكم عليهم بلغتهم على قصدهم ونيتهم مع أن في مثل هذه الصورة يقع الطلاق بكل حال. (طلاق غير البالغ) (وأما المسألة الرابعة) وهي طلاق الصبي الذي لم يبلغ فقد اختلف العلماء في ذلك فذهب مالك وطائفة من العلماء إلى أنه لا يقع طلاقه حتى يبلغ وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه والشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه إذا عقل وعلم أن زوجته تبين منه بذلك خصوصاً إذا تجاوز العشر فإنه يقع طلاقه. (أحكام زيادة الوكيل بالتطليق على الواحدة) (وأما المسألة الخامسة) فيمن وكل وكيلاً في طلاق زوجته هل للوكيل أن يزيد على طلقة إذا كان الموكل لم يأمره بكثير ولا قليل؟ وهل إذا طلق ثلاثاً تقع أم لا؟ وهل يعتبر إنكار الموكل ذلك؟ فهذه المسألة الراجح فيها أن الوكيل لا يزيد على واحدة لأن الزيادة خلاف السنة فإن زاد لم يقع إ لا واحدة إلا أن يأمره الموكل بذلك فإن لم يأمره بذلك ولم يثبت ببينة ولا بأقرار الموكل -لم يثبت إلا طلاق السنة وهي طلقة واحدة. (حكم تكرار لفظ التطليق في الخلع) (وأما المسألة السادسة) فيمن بذلت لزوجها عوضاً كمخالعة الناس اليوم على أن يطلقها فقبل العوض ثم قال أنت طالق ثم قال أنت طالق ثم قال أنت طالق ثلاث مرات أو أكثر هل تبين منه باللفظة الأولى ولم تلحقها البواقي عند من يقول أن المختلعة لا يلحقها طلاق؟ فنقول الذي ذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى أنها تبين بالأولى ولا يلحقها ما بعدها لأنها بانت بالجملة الأولى فإذا لحقها جملة ثانية وثالثة لم يصادف ذلك محلاً وأما عند من يقول أن المختلعة يلحقها الطلاق كما ذكر كثير من التابعين فالطلاق عندهم لاحق. (حكم من أخذ عوض الخلع ولم ينطق بما يدل على إنشائه) (وأما المسألة السابعة) فيمن خالع زوجته بأن بذلت له العوض وقبله ولم يتلفظ بخلع ولا طلاق ولا فسخ هل تبين بمجرد أخذ العوض فالذي عليه الجمهور أنه لا بد أن اللفظ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقبل الحديقة وطلقها تطليقة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 (تعليق الطلاق) (وأما المسألة الثامنة) فيمن قال لزوجته إذا جاءني حقي فأنت طالق وإن نزلت على أهلك فأنت طالق فأقامت مدة لم تعطه ولم تنزل على أهلها هل الشرط لازم لهم إبطاله؟ فنقول إذا علق طلاقها على ذلك فالشرط لازم والتعليق ثابت ولو اتفقا على إبطاله وفي الحديث "ثلاث هزلهن جد وجدهن جد" الحديث. (الوصية بالأضحية وأكل ورثة الموصي منها) (وأما المسألة التاسعة) فيمن أوصى عند موته بأضحية هل للموصى إليه أو غيره من ورثة الميت الأكل منها أم لا؟ فالذي يظهر لي من كلام العلماء أنه لا بأس بذلك وإنما اختلفوا في أضحية اليتيم. (المفاضلة بين التضحية عن الميت والتصدق بثمنها) (وأما المسألة العاشرة) هل الأضحية عن الميت أفضل أم الصدقة بثمنها؟ فهذه المسئلة اختلف العلماء فيها فذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء إلى أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها وهو اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله وذهب بعضهم إلى أن الصدقة بثمنها أفضل وهذا القول قوي في النظر وذلك لأن التضحية عن الميت لم يكن معرفاً عند السلف إلا أنه ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاه بذلك والحديث ليس في الصحاح وبعض أهل العلم تكلم فيه وبعض الفقهاء لما سمعه أخذ بظاهره وقال لا يضحى عن الميت إلا أن يوصي بذلك فإن لم يوص فلا يذبح عنه بل يتصدق بثمنها فإذا كان هذا صورة المسألة فالأمر في ذلك واسع إن شاء الله تعالى. (حكم من ضحى عن غيره قبل نفسه أو وفاء نذره) (وأما المسألة الحادية عشرة) هل له أن يضحي عن غيره قبل أن يضحي لنفسه؟ وهل له أن يضحي وعليه نذر قبل أن يوفي بنذره؟ فمسألة التضحية عن الغير قبل أن يضحي لنفسه فلا أعلم فيها بأساً وإنما المنع فيمن عليه حجة الإسلام فليس له أن يحج عن غيره قبل أن يحج فريضة الإسلام. وأما تقديم الأضحية على النذر فالواجب يقدم على النافلة فإذا كان المنذور أضحية ذبحها قبل أضحية التطوع فإن تطوع وترك النذر وترك النذر الواجب وجب عليه أن يذبح الواجب أيضاً وأما إذا أراد أن يذبحهما جميعاً لكنه قدم التطوع على النذر فلا أعلم في هذا منعاً. (التفريق بين الأم وولدها الصغير وبين الأخوة في البيع) (وأما المسألة الثانية عشرة) وهي التفريق بين الوالدة وولدها قبل البلوغ وكذلك بين الأخوة في البيع فأما قبل البلوغ فلا يجوز التفريق وأما بعد البلوغ ففيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 خلاف والمشهور عن أحمد وكثير من الفقهاء أنه لا يجوز لحديث "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" 1 وكذلك حديث علي في التفرقة بين الأخوة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "رده رده". (من أبان زوجاً من أربع ليس له التزوج بغيرها قبل انقضاء عدتها) (وأما المسألة الثالثة عشرة) فيمن معه أربع فطلق واحدة وأبانها هل له أن يتزوج في مكانها أخرى وإن كانت المطلقة لم تعتد" لأنها بائن ليس عليها رجعة أم لا تجوز ذلك حتى تعتد المطلقة؟ فالذي نص عليه العلماء أن ذلك لا يجوز بل لا بد من انقضاء العدة ولا يجوز له أن يجمع ماءه في رحم خمس نسوة. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.   1 رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي أيوب وصحح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الرسالة الثانية ... رسالة ثانية من حمد بن ناصر معمر إلى جناب الأخ المكرم جمعان بن ناصر سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته والمسائل وصلت وهذا جوابها. (طلب أمام المسجد المعاونة من الفيء أو الزكاة) أما سؤال أمام المسجد المعاونة من الفيء أو الزكاة فالسؤال من حيث هو مذموم إلا في حال الاضطرار لكن إن كان السؤال من الفيء فهو موافق لأن الفيء للمسلمين غنيهم وفقيرهم وما من أحد من المسلمين إلا وله فيه نصيب. فإذا سأل الإنسان نصيبه من الفيء لم ينكر عليه. وأما إن كان السؤال من الزكاة فإن كان السائل غنياً فهو حرام ولا تحل له الزكاة بل لو جاءته من غير سؤال لم تحل له أن كان من الخمسة المذكورين في الحديث وذلك لأن الله تعالى قسمها بنفسه ولم يرض فيها بقسم نبي ولا غيره. (فروع في العبادات) وأما القيء فالمشهور أنه نجس وأما نقض الوضوء ففيه خلاف والمشهور أنه ينقض إذا كان كثيراً ولا ينقض اليسير منه وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أنه لا ينقض الوضوء ولو كثر لكن يستحب الوضوء وهذا اختيار الشيخ تقي الدين. وأما الخروج من الصلاة لأجل الخارج اليسير من القيء أو الدم فان كان يسيراً لم يقطع الصلاة ولا اعادة عليه لأنه روي عن الصحابة نحو ذلك فابن أبي أوفى بزق دما ثم قام فصلى. وابن عمر عصر بثرة فخرج دم فصلى ولم يتوضأ. وأما إخراج الإنسان زكاته أو بعضها بنفسه فذكر أهل العلم أنه لا يجوز أن يخرجها ولا بعضها أن كان الإمام عدلاً يضعها في أهلها (بل) يجب دفعها إليه. وأما قضاء الفوائت فالمشهور قضاء الفوائت على الفور مرتبا قلت الفوائت أو كثرت. وإذا صلى الحاضرة قبل الفائتة فان كان ناسياً للفائتة سقط الترتيب ويصلى الفائتة ولا يقضي الحاضرة لأن الترتيب يسقط بالنسيان. وأما الصلاة على الميت فان أوصى الميت بأن يصلى عليه رجل معين فهو أحق من غيره. ولا يقوم أحد في جنب الإمام بل يقف الإمام وحده إلا أن يكون المكان ضيقاً بحيث لا يحصل له الوقوف في الصف حينئذ يقف في جنب الإمام للحاجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وأما المطلقة فلا يجوز العقد عليها في العدة بإجماع أهل العلم بل لا يجوز التصريح في خطبتها فان كانت رجعية حرم التعريض أيضاً لأنها زوجة مادامت في العدة فان عقد عليها فالنكاح باطل ولا يحتاج إلى طلاق لأنه باطل إجماعاً بل يفرق بينهما فإذا اعتدت فهو خاطب من الخطاب وعند مالك أنها تحرم عليه أبداً وهو إحدى الروايتين عن ابن عمر والأول قول علي وهو المشهور عن أحمد والجديد من قولي الشافعي. وأما المطلقة إذا مات زوجها وهي في العدة كانت رجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً بلا خلاف بين العلماء وان كانت بائناً بنت على عدة الطلاق إلا أن يطلقها في مرض موته فتعتد أطول الاجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء وعند مالك والشافعي أنها تبني على عدة الطلاق لأنها بائن وليست بزوجة كما لو طلقها في الصحة. فأما إذا كان الطلاق البائن في الصحة فإنها تبني على عدة الطلاق عند الأئمة الثلاثة وعند أبي حنيفة تعتد أطول الاجلين. وأما مسألة الذي طلق زوجته واختل عقله فإن كان حال الطلاق ثابت العقل وطلق مختاراً فالطلاق واقع فإن كانت آخر ثلاث تطليقات لم تحل له إلا بعد زوج وإصابة ولو اختل عقله بعد ذلك ولو آل به الأمر إلى الجنون. وإن كان الطلاق الذي وقع بكلمة واحدة جمع فيها الطلاق فكذلك عند الأئمة الأربعة وهو الذي يفتى به عندنا وعند الشيخ تقي الدين وابن القيم ان طلاق الثلاث بكلمة واحدة مطلب تحسب طلقة واحدة وحينئذ فله رجعتها. والعمل على كلام الجمهور وأما الدعاء عند ختم القرآن فروي عن أنس رضي الله عنه أنه كان يجمع أهله وولده يدعو عند ختم القرآن وروي عن طائفة من السلف وهو قول غير واحد من الفقهاء وأما تعيين الدعاء فلم يثبت فيها دعاء مخصوص ولهذا لم يستحبه بعض الفقهاء قال لأنه لم يرد فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما التكبير في آخر كل سورة من سورة الضحى إلى آخر القرآن ففيه خلاف ولم يستحبه الشيخ تقي الدين إلى لمن يقرأ بقراءة ابن كثير. وأما من قرأ بقرآة عاصم التي هي غالب قراءة الناس اليوم فلا. وأما الرجل الذي وقف على المسجد بعض أملاكه فإن عين القائمين أو الإمام أو المؤذن تعين ما عينه الواقف من الجهات فإن لم يعين جهة فالواقف على المسجد يدخل فيه الإمام والمؤذن والقيم وكذا عمارته كتطيين سطحه وإبدال خشبه لتكسير فيه ونحو ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الرسالة الثالثة ... رسالة ثالثة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان، رزقه الله العلم النافع والإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه والمسائل وصلت وهذا جوابها واصلك إن شاء الله تعالى. (المسألة الأولى) في المنكر الذي يجب إنكاره هل يسقط الإنكار إذا بلغ الأمير أم لا فأعلم أن إنكار المنكر يجب بحسب الاستطاعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" وحينئذ إذا وقع المنكر وبلغ الأمير فلم يغيره لم يسقط إنكاره بل ينكره بحسب الاستطاعة لكن إن خاف حصول منكر أعظم سقط الإنكار وأنكر بقلبه وقد نص العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه أنه لا ينبغي وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد وفي الحديث "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي". (وأما مسألة العطية) فلا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية بين الأولاد وكراهة التفضل لكن اختلفوا في صفة التسوية فالمشهور عن أحمد أن المستحب أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله في الميراث للذكر مثل حظ الانثيين وعند أبي حنيفة ومالك والشافعي أنه يعطي الأنثى مثل ما يعطي الذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الرسالة الرابعة ... رسالة رابعة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان حفظه الله تعالى آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه، وسر الخاطر سؤالك عن ما أشكل عليك رزقنا الله وإياك العلم النافع والعمل الصالح. فأما ما سألت عنه من استعمال كنايات الطلاق فالذي عليه أكثر العلماء أن الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا مع النية فإذا تكلم الزوج بالكناية وقال: لم أرد طلاقك ولم أنوه، ولم يتكلم بذلك في حال الغضب وسؤالها الطلاق فهذا يقبل قوله ولا يقع به طلاق وأما إن تكلم بذلك في حال الغضب فهذا مما اختلف الفقهاء فيه فقال بعضهم يقبل قوله انه لم يرد طلاقاً ولم ينوه. وقال بعضهم لا يقبل قوله في ظاهر الحكم لأجل القرينة الدالة على إرادة الطلاق وبعض أهل العلم يفرق بين الكنايات ويقول الكنايات التي يكثر استعمالها في الطلاق ويعبرون أن من تلفظها فإنما يريد الطلاق فهذا لا يقبل بقوله وأما الكنايات التي تستعمل في عرف أهل البلد في الطلاق وفي غيره فهذا يقبل انه ما أراد الطلاق بل لو تلفظ بذلك وقال لم أرد الطلاق ولا غيره لم تطلق إلا بالنية إذا كان الطلاق لفظاً يستعمل في الطلاق وفي غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 (وأما المسألة الثانية) إذا قال أنت طالق طالق أنت طالق. فهذا إن نوى بالتكرار التأكيد أو إفهامها لم يقع إلا واحدة فان نوى به طلاقاً ثلاثاً وقعت ثلاثاً عند الجمهور وأما اذا طلق بالنية وقال لم أرد به التأكيد والإفهام ولا إيقاع ثلاث بل عزبت نيته فهذا محل الخلاف فبعض أهل العلم يقول واحدة إلا أن ينوي طلاق ثلاث فتقع. (وأما قولك) إذا توقف المفتي عن الإفتاء في الكنايات هل يكون داخلاً في الكتمان أم لا؟ فأعلم أن الذي يتناوله الوعيد هو من عنده علم من الله ورسوله فيسأل عنه فيكتمه. وأما من أشكل عليه الحكم ولم يتبين له حكم الله ورسوله فهذا لا حرج عليه إذا توقف. ولو عرف اختلاف العلماء ولم يعلم الراجح من القولين وأحمد رحمه الله وغيره من العلماء يتوقفون كثيراً في مسائل مع معرفتهم بكلام العلماء قبلهم في تلك المسائل إذا لم يتبين لهم الصواب وأحمد يتوقف عن الإفتاء في كنايات الطلاق في أكثر أجوبته وبعض العلماء لا يفتي في مسائل الطلاق بالكلية لعظم خطرها. والواجب على المفتي أن يراقب الله ويخشاه ويعلم أنه قد عرض نفسه للحكم بين يدي الله وبين عباده فيما أحل الله وحرم عليهم فلا يتكلم إلا بعلم وما أشكل عليه فليكله إلى عالمه. (وأما مسألة الحامل) إذا رأت الدم فهذا ينظر فيه وفي حال عادة المرأة فأن كان ذلك ليس بعادة لها إذا حملت فهذا لا تلتفت إليه بل تصلي فيه وتصوم ويكون حكمها حكم المستحاضة وليس في هذا اختلاف وإنما الاختلاف فيما إذا كانت عادة المرأة أنها تحيض وتطهر في عادة الطهر فهذا الذي اختلف فيه العلماء والراجح في الدليل أنه حيض إذا كان على ما وصفنا ولكن قليل الوقوع وأكثر الواقع على متكرره وبين من ليس لها عادة أو يضرب عليها الدم فإنه يشتبه على كثير من الطلبة. (وأما مسألة اليتيمة) إذا طلبت الزوج فيجوز لوليها تزويجها وإن لم تبلغ إذا كانت لها تسع سنين ولكن لا يجبرها ولا يزوجها إلا برضائها إذا كانت يتيمة وأما الأب فيجوز له إجبار الصغيرة التي لم تبلغ والبلوغ يحصل بالحيض ونبات الشعر الخشن حول القبل. (وأما مسألة الأمي) فالأمي الذي لا يحسن الفاتحة أو يلحن فيها لحناً يغير المعنى وأما إذا كان يحسن الفاتحة ولا يحيل ألفاظها عن معانيها فهذا لا يسمى أمياً ولكن أحق الناس بالإمامة أقرأهم لكتاب الله فإن وجد القارئ قدم على غيره وأما إذا أقيمت الصلاة ثم جاء القارئ وهم يصلون جاز للقارئ أن يصلي معهم إذا كان الإمام يحسن قراءة الفاتحة ولا يلحن فيها لحناً يحيل المعنى وأما الذي يلحن فيها لحناً يحيل المعنى فهذا هو الأمي لا يجوز أن يصلي إلا بمثله فلا يؤم أحداً يحسن الفاتحة. (وأما مسألة تعيين الإمام) كما هو واقع في المساجد التي لها أئمة راتبون فهذا إذا بان له أنه غير إمامه الراتب صحت صلاته لأن قصده الصلاة مع الجماعة وليس له قصد في تعيين الإمام والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الرسالة الخامسة ... رسالة خامسة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر حفظه الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه وكذلك السؤال وصورته ما قول العلماء فيمن دفع دابته إلى آخر يسقي عليها زرعاً بجزء من الثمرة سواء كان الدفع قبل وجود الزرع أو بعد ما أخضر الزرع وسواء كان مدة السقي معلومة أو مجهولة مثل إلى أن تهزل أو تعجز هل هذا جائز يشبه دفع الدابة إلى من يعمل عليها ببعض مغلها أم هذا ليس بصحيح لعدم معرفة الأجرة والجهل بالمدة إذا لم توقت؟ فنقول هذه المسألة لم أقف عليها منصوصة في كلام العلماء ولكنهم نصوا على ما يؤخذ منه حكم هذه المسألة فمن ذلك أنهم ذكروا أن من شروط صحة الإجارة معرفة قدر الأجرة. ومعرفة قدر المدة قال في المغني: يشترط في عوض الإجارة كونه معلوماً لا نعلم فيه خلافاً انتهى ولكن هذه المسألة هل تلحق بمسائل الإجارة وتعطى أحكامها أم تلحق بمسائل الشركة وتعطي أحكامها مثل المساقاة والمزارعة والمضاربة وغير ذلك من مسائل المشاركات؟ فإن قلنا إنها بمسائل الإجارة أشبه فالإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة على مدة معلومة ولهذا اختلف العلماء في جواز الأرض ببعض ما يخرج منها كثلث أو ربع فمنعه أبو حنيفة والشافعي وغيرهما وعللوه بأن العوض مجهول فلا تصح الإجارة بعوض مجهول، وأجازه الإمام أحمد فمن أصحابه من قال هو إجارة ومنهم من قال بل هو مزارعة بلفظ الإجارة قال في الإنصاف والصحيح من المذهب أن هذه إجارة لأن الإجارة تصح بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الأرض المأجورة وهو من مفردات المذهب انتهى. قال في المغني إجارة الأرض بجزء مشاع يخرج منها كنصف وثلث وربع المنصوص عن أحمد جوازه وهو قول أكثر الأصحاب واختار أبو الخطاب أنها لا تصح وهو قول أبي حنيفة والشافعي وهو التصحيح إن شاء الله لما تقدم من الأحاديث من في النهي من غير معارض لها ولأنها إجارة بعوض مجهول فلم تصح كأجارتها بثلث ما كخرج من أرض أخرى، ولأنه لا نص في جوازها ولا يمكن قياسها على المنصوص فإن المنصوص إنما وردت بالنهي عن إجارتها بذلك ولا نعلم في تجويزها نصاً والمنصوص جواز إجارة ذلك في بذهب أو فضة أو شيء معلوم فأما نص أحمد فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة انتهى. وقال في المغني أيضاً قال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عن الرجل يدفع البقرة إلى رجل على أن يعلفها ويحفظها وما ولدت من ولد (فهو) بينهما قال أكره ذلك، وبه قال أبو حنيفة وأبو خيثمة ولا أعلم فيه مخالفاً وذلك لأن العوض معدوم مجهول أيوجد أم لا والأصل عدمه انتهى. وأما إن ألحقنا هذه المسألة المسؤول عنها بمسائل الشركة وقلنا هي بمسائل الشركة أشبه جرى فيها من اختلاف العلماء ما جرى في نظائرها وأنا أذكر لك بعض ما ذكر العلماء في هذا الباب: قال في المغني وإن دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها وما رزق الله بينهما نصفين أو ثلاثا أو كيفما شرط صح. نص عليه في رواية الأثرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ومحمد بن سعيد ونقل عن الأوزاعي ما يدل على هذا وكره ذلك الحسن والنخعي وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي لا يصح والربح كله لرب المال وللعامل أجرة مثله ولنا أنها عين نمت بالعمل عليها فصح العقد عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير وكالشجر في المساقاة والأرض في المزارعة وقد أشار أحمد رحمه الله تعالى إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة فقال لا بأس بالثوب يدفع بالثلث أو الربع لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر، وهذا يدل على أنه ظاهر في مثل هذا إلى الجواز لشبهه بالمساقاة والمزارعة لا إلى المضاربة ولا إلى الإجارة. ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة: أرجو أن لا يكون به بأس ونقل أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل يكتسب عليه ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز والوجه فيه ما ذكرناه في مسألة الدابة وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قميصاً وله نصف ربحه بعمله جاز، نص عليه في رواية حرب وإن دفع غزلاً إلى رجل ينسجه ثوباً بثلث ثمنه أو ربعه جاز، نص عليه. ولم يجز مالك وأبو حنيفة والشافعي شيئاً من ذلك وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يقول لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع وسئل عن الرجل يعطي الثوب بالثلث ودرهم أو درهمين قال أكرهه لأن هذا شيء لا يعرف الثلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزاً لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر. قيل لأبي عبد الله فان كان النساج لا يرضى حتى يزاد على الثلث درهما قال فليجعل له ثلثاً وعشراً ثلث أو نصف عشر وما أشبهه انتهى ملخصاً. وقد نص أحمد أيضاً على جواز دفع الثوب لمن يبيعه بثمن يقدر له ويقول ما زاد فهو لك وقال في الإنصاف ولو دفع عبده أو دابته إلى من يعمل بهما بجزء من الأجرة أو ثوباً بخيطه أو عزلاً ينسجه بجزء من ربحه جاز نص عليه وهو المذهب جزم به ناظم المفردات وهو منها وقال في الحاوي الصغير ومن استأجر من يجد نخله أو يحصد زرعه بجزء مشاع منه جاز نص عليه في رواية مهنا وعنه لا يجوز وللعامل أجرة مثله. ونقل مهنا في الحصاد: هو أب لي أمن المقاطعة، وعنه له دفع دابته أو نخله لمن يقوم به بجزء من نمائه اختاره شيخ الإسلام والمذهب، لا لحصول نمائه من غير عمله انتهى ملخصاً. وقال في المغني وان اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر والعمل على أن ما رزق الله بينهم فعملوا فهذا عقد فاسد نص عليه أحمد في رواية أبي داود ومهنا وأحمد ابن القاسم وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر لأنه نماء ماله ولصاحبيه عليه أجرة مثلهما انتهى. وقال في موضع آخر فان اشترك ثلاثة من أحدهم الدابة ومن الآخر راوية ومن الآخر العمل على أن ما رزق الله بينهما صح في قياس قول أحمد فانه قد نص في الدابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها على أن لهم الأجرة على الصحة وهذا مثله وهكذا لو اشترك أربعة من أحدهم دكان ومن الآخر رحى ومن آخر بغل ومن آخر العمل على أن يطحنوا بذلك فما رزق الله تعالى بينهم صح وكان بينهم على ما شرطوه وقال القاضي العقد فاسد في المسألتين جميعاً وهو ظاهر قول الشافعي انتهى. ومن تأمل ما نقلناه تبين له حكم مسألة السؤال والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الرسالة السادسة ... رسالة سادسة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه وتسأل فيه عن مسائل: (الأولى) المطلقة البائن إذا مات زوجها الذي أبانها وهي في العدة فهذه إن كان زوجها طلقها في الصحة فانها تبنى على عدة الطلاق ولا تعتد للوفاة كما لو لم يمت. (الثانية) المتوفى عنها وهي حامل هل هي في احداد ولو اعتدت أربعة أشهر وعشراً؟ فالأمر كذلك هي في احداد حتى تضع حملها. (الثالثة) العبد المملوك إذا سرق من حرز من غير مال سيده هل يجب عليه القطع؟ فالامر كذلك وأما سيده فلا يقطع بسرقة ماله. (الرابعة) فيمن طلق امرأته قبل أن يدخل بها ثلاثاً هل إذا بانت بالأولى تحل له بملاك جديد أم تحرم عليه إلا بعد الزوج الثاني بعد أن يجامعها1 ولا تحل للزوج الأول قبل جماع الزوج الثاني وأما إن كان طلقها ثلاثاً واحدة بعد واحدة فإنها تبين بالأولى ولا يلحقها بقية الطلاق لأن غير المدخول بها لا عدة عليها ولا يلحقها الطلاق فاذا بانت بالاولى حلت لزوجها بعقد ثان وان لم تتزوج غيره وتبقى معه على طلقتين. (الخامسة) فيمن طلق زوجته تطليقتين بعد المسيس ثم تزوجت لها زوجاً ثانياً وطلقها قبل أن يمسها هل ترجع إلى الأول؟ فالامر كذلك ولا تأثير لهذا الزوج في حل العقد لأنها حلال لزوجها قبله فإذا اعتدت حلت لزوجها الأول بعقد جديد فان لم يكن خلا بها فلا عدة ويعقد عليها الثاني في الحال. (السادسة) إذا وطىء الصبي الصبية هل يلزمهما غير التعزير؟ فلا يلزمهما حد بل يعزران تعزيراً بليغاً قال الشيخ تقي الدين لا خلاف بين العلماء ان غير المكلف يعزر على الفاحشة تعزيراً بليغاً. (السابعة) فيمن رمى صبية بالزنا أو صبياً فان كان يمكن الوطء من مثله كبنت تسع وابن عشر فهذا يقام الحد على قاذفهما وان لم يبلغاً بخلاف الصغير الذي لا يجامع مثله الصغيرة التي لا يجامع مثلها فليس على قاذفهما إلا التعزير وأما الصغير إذا قذف الكبير فليس عليه إلا التعزير. (الثامنة) عبارة الشرح في تفسير الشرطين وكذلك عبارة الإنصاف التي نقلت فالذي عليه الفتوى أن الشرطين الصحيحين لا يؤثران في العقد كما هو اختيار الشيخ تقي الدين.   1 الظاهر أن هذا آخر السؤال وإن بدء الجواب بعده بالواو سهو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 (التاسعة) الجراح المقدرات مثل الموضحة والمأمومة والجائفة إذا كانت في العبد فديتها في نسبتها من ثمنه فالموضحة في الحر ديتها نصف عشر الدية ومن العبد نصف عشر قيمته بعد البرء. (العاشرة) دية المملوك قيمته سواء كثرت أو قلت وإذا قتل الحر العبد لم يقد به لقوله تعالى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} . (الحادية عشرة) الإقرار بالزنا هل يكفي فيه مرة أو أربع فالمسألة خلافية بين العلماء والاحوط أنه لا بد من الإقرار أربع مرات كما هو مذهب الإمام أحمد ولا بد أن يقيم على إقراره فان رجع عن إقراره لم يقم عليه الحد بل لو شرعوا في إقامة الحد عليه فرجع ترك لحديث ما عز والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الرسالة السابعة ... رسالة سابعة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر الأخ جمعان جعله الله من أهل العلم والإيمان آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته والخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه وكذلك المسائل التي تسأل عنها. (الأولى) إذا سرقت الدابة ونحرت الخ (فالجواب) أن الدابة إن سرقت من حرز مثلها كالبعير المعقول الذي عنده حافظ أو لم يكن معقولاً وكان الحافظ ناظراً إليه أو مستيقظاً بحيث يراه ونحو ذلك مما ذكر الفقهاء في معرفة حرز المواشي فهذه إذا سرقت من الحرز فعلى السارق القطع بشروطه فان لم تكن في حرز فلا قطع على السارق وعليه غرامة مثلي قيمتها وهو مذهب الإمام أحمد واحتج بأن عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها وأما من سرق من الثمرة فان كان بعد ما آواها الجرين فعليه القطع فان كان قبل ذلك بأن سرق من الثمر المعلق فلا قطع وعليه من مثله وبالغ أبو عمر بن عبد البر وقال لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بغرامة مثليه والصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال "من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة1 فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" حديث حسن قال الإمام أحمد لا أعلم شيئاً يدفعه وأما ما عدا هذا من الثمرة والماشية فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أنه لا يغرم أكثر من القيمة ان كان متقوماً أو مثله إن كان مثلياً فالأصل وجوب غرامة المثل المتلف والمغصوب والنهب والاختلاس وسائر ما تجب غرامته مخالفة الأصل في هذين الموضعين لا أثر له ويبقى ما عداهما على الأصل واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله وجوب غرامته المثلية في كل سرقة لا قطع فيها.   1 الخبنة كما في القاموس ما يحمله في حفنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وأما قول السائل وفقه الله إذا اختلفا في القيمة ولا بينة لهما من القول قوله؟ 1 فالظاهر من كلامهم أن القول قول الغارم. وأما قوله إذا سرقها وباعها على من لا يعرف فما الحكم؟ فنقول الحكم فيها كما تقدم وهو غرامة المثلين على ما ذكرنا من تغريم عمر حاطباً وعلى ما دل عليه حديث عمرو بن شعيب فان فيه أن السائل قال الشاة الحريسة يا نبي الله؟ قال "ثمنها ومثله معه" ولا فرق بين بيع الشاة وبين ذبحها ونحر الناقة وبيعها. (وأما المسألة الثانية) إذا دبر الرجل جاريته كقوله أنت عتيقة على موتي أو إذا مت فأنت حرة فهل بين هذه الألفاظ فرق؟ (فالجواب) أنه لا فرق بين هذه الألفاظ بل متى علق وصريح العتق بالموت فقال أنت حرة أو محررة أو عتيقة بعد موتي صارت مدبرة بغير خلاف علمته وأما قوله إذا دبرها وهي حامل أو حملت بعد التدبير فما الحكم في ولدها فنقول أما إذا دبرها وهي حامل فان ولدها يدخل معها في التدبير بغير خلاف علمناه لأنه بمنزلة عضو من أعضائها وأما إذا حملت بعد التدبير ففيه خلاف بين العلماء فذهب الجمهور إلى أنه يتبع أمه في التدبير ويكون حكمه حكمها في العتق بموت سيدها وهو مروي عن ابن مسعود وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم ومجاهد والشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك والثوري وأصحاب الرأي وذكر القاضي أن حنبلاً نقل عن أحمد أن ولد المدبرة عبد إذا لم يشترطه المولى قال: فظاهره أنه لا يتبعها ولا يعتق بموت سيدها وهذا قول جابر بن زيد وهو اختيار المزني من أصحاب الشافعي قال جابر بن زيد انما هو بمنزلة الحائط تصدقت به إذا مت فان ثمرته لك ما عشت وللشافعي قولان كالمذهبين. (وأما المسألة الثالثة) إذا تصرف الفضولي وأنكره صاحب المال فلم يجز التصرف فما الحكم في نماء المبيع؟ (فنقول) اختلف الفقهاء في تصرف الفضولي إذا أجازه المالك هل هو صحيح أم لا والخلاف مشهور وأما إذا لم يجز المالك لم ينعقد أصلاً ولا تدخل هذه المسئلة في الخلاف بل المالك باق على ملك صاحبه ولا ينتقل بتصرف الفضولي ونماؤه لمالكه. وأما قوله إذا قال الفضولي للمشتري أنا ضامن ما لحقك من الغرامة هل يلزمه غرامة النماء؟ فنقول إن كان المشتري جاهلاً ان هذا مال الغير أو كان عالماً لكن جهل الحكم وغره الفضولي فما لزم المشتري من الغرامة من هذا النماء الذي تلف تحت يده فهو على الضامن من الغار. (وأما المسألة الرابعة) وهي قوله على القول بأثبات الشفعة بالشركة والطرق هل إذا باع إنسان عقاره وقد وقعت الحدود ان الشركة باقية في البئر والطرق ومسير   1 أي فالقول لمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الماء هل يأخذ الشفيع المبيع كله لأجل الشركة في هذه الأمور أم لا شفعة له في الطريق ومسير الماء؟ فنقول على القول بأثبات الشفعة بالشركة في البئر والطريق يأخذ الشفيع المبيع كله بالشركة في البئر والطريق ولا يختص ذلك في البئر نفسها ولا بالطريق وحده وقد نص على ذلك أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب فانه سأله عن الشفعة لمن هي فقال للجار إذا كان الطريق واحداً فإذا صرفت الطرق الأربعة من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجار أحق بشفعة جاره ينتظره بها وان كان غائباً إذا كان طريقهما واحد" وفي حديث جابر المتفق عليه "الشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فمفهوم الحديث الأخير موافق لمنطوق الأول بإثبات الشفعة إذا لم تصرف الطريق والشركة في البئر تقاس على الشركة في الطريق لأن الشفعة إنما شرعت لأزالة الضرر عن الشريك ومع بقاء الشركة في البئر والطريق يبقى الضرر بحاله وهذا اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله وهو الذي عليه الفتوى. وأما الشفعة فيما لا ينقل وليس بعقار كالشجر إذا بيع مفرداً ونحو قول الشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى أن الشفعة تثبت في البناء والغراس وأن بيع مفرداً لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "الشفعة فيما لم يقسم" ولأن الشفعة تثبت لدفع الضرر والضرر فيما لم يقسم أبلغ منه فيما ينقسم وقد روى الترمذي من حديث عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشفيع شريك والشفعة في كل شيء" وقد روى مرسلاً رواه الطحاوي من حديث جابر مرفوعاً ولفظه "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء". (وأما مسألة الضيافة) والقول بوجوبها فالضيف على من نزل به وأما الغائب ومن لم ينزل به الضيف فلا يجب عليه معونة المنزول به إلا أن يختار المعين. (وأما مسألة الغريم) الذي أبرأ غرماءه مما عليهم من الدين فلما برىء من المرض أراد الرجوع مما زاد على الثلث فهذا لا رجوع فيه بل سقط الدين بمجرد إسقاطه وانما التفضيل فيما إذا أبرأ من الدين ومات في ذلك المرض. (وأما الذي أبرأ غريمه على شرط مجهول) بأن شرط عليه ذلولا تمشي في الجهاد دائماً ومتى ماتت اشترى أخرى أو شرط عليه أضحية كل سنة على الدوام فهذا لا يصح والبراءة. الحالة هذه لا تصح والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الرسالة الثامنة ... رسالة ثامنة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان حفظه الله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه وهذا جواب المسائل واصلك إن شاء الله تعالى. (الأولى) فيمن طلق زوجته في مرض موته وأبانها فالذي عليه العمل أنها ترثه ما دامت في العدة في قول جمهور العلماء وكذا ترثه بعد العدة ما لم تتزوج كما ذهب إليه مالك والإمام أحمد في رواية بل مذهب مالك أنها ترثه ولو تزوجت والراجح الأول. (وأما المسألة الثانية) وهي قولهم في المطلقة عليها أطول الأجلين من ثلاث حيض أو أربعة أشهر وعشراً فصورة المسألة على ما صورته في السؤال وأما الخلاف فالمشهور عن أحمد المعمول به عند أصحابه أن المطلقة البائن في مرض الموت تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء وهذا مذهب أبي حنيفة وقال مالك والشافعي تبني على عدة الطلاق. (وأما المسألة الثالثة) فالمشهور جواز إجارة العين المستأجرة قال في المغني يجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها نص عليه أحمد وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والنخعي والشعبي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأما اجارتها قبل قبضها فلا يجوز من غير المؤجر في إحدى الوجهين وهو قول أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الأجرة وزيادة نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وابن المنذر. (وأما المسألة الرابعة) وهي مسألة الحرز فالحرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه ويختلف باختلاف الأموال فحرز الغنم الحظيرة وحرزها في المرعى بالراعي ونظره إليها إذا كان يراها في الغالب وأما إذا نام عنها فقد خرج من الحرز والضابط ما ذكرناه وهو أن الحرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه الأموال تختلف وتفصيل المسألة مذكور في باب القطع في السرقة فراجعه. (وأما المسألة الخامسة) وهي السرقة من الثمر قبل إيوائه الحرز فهذا لا قطع فيه ولو كان عليه حائط أو حافظ إذا كان في رؤوس النخل لحديث رافع بن خديج "لا قطع في ثمر ولا كثر " وكذلك الماشية تسرق من المرعى إذا لم تكن محرزة لا قطع فيها وتضمن بمثل قيمتها والثمر يضمن بمثلي قيمته لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وروى الأثرم أن عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجل مزينة مثلي قيمتها وهذا مذهب أحمد. وأما الجمهور فقالوا: لا يجب عليه إلا غرامة مثله قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً قال بغرامة مثليه وحجة أهل القول الأول حديث عمرو بن شعيب قال أحمد لا أعلم شيئاً يدفعه. وأما المختلس والمنتهب والخائن وغيرهم فلا يغرم إلا مثله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 من غير زيادة على المثل والقيمة لأن الأصل وجوب غرامة المثل بمثله والمتقوم بقيمته خولف في هذين الموضعين للأثر ويبقى ما عداهما على الأصل. (وأما المسألة السادسة) إذا جامع جاهلاً أو ناسياً في نهار رمضان هل حكم الجاهل حكم الناسي أم بينهما فرق؟ فالمشهور أن حكمها واحد عند من يوجب الكفارة وبعض الفقهاء فرق بين أن يكون جاهلاً بالحكم أو جاهلاً بالوقت فأسقط الكفارة عن الجاهل بالوقت كما لو جامع أول يوم من رمضان يظن أنه من شعبان أو جامع معتقداً أن الفجر لم يطلع فبان أنه قد طلع ومن أسقطها عن الجاهل بالوقت فالناسي مثله وأولى قال الشيخ تقي الدين: لا قضاء على من جامع جاهلاً بالوقت أو ناسياً ولا كفارة أيضاً. (وأما المسألة السابعة) وهي مسألة القذف فالقذف ينقسم إلى صريح وكناية كالطلاق فالصريح ما لا يحتمل غيره نحو يازاني يا عاهر ونحو ذلك والكناية التعريض بالألفاظ المجملة المحتملة للقذف وغيره فان فسر الكناية بالزنا فهو قذف لأنه أقر بالقذف وأن فسره بما يحتمله غير القذف قبل مع يمنيه ويعزر تعزيراً يردعه وأمثاله ونحو ذلك فمتى وجد منه اللفظ المحتمل للقذف وغيره ولم يفسره بما يوجب القذف فانه يعزر ولا حد عليه. (وأما المسألة الثامنة) هل للأب أن يأخذ من صداق ابنته أم لا؟ فالمشهور عن أحمد جوازه وهو قول اسحق بن راهويه وقد روي عن مسروق أنه زوج ابنته واشترط لنفسه عشرة آلاف يجعلها في الحج والمساكين ثم قال للزوج: جهز امرأتك وروي ذلك عن علي بن الحسين أيضاً واستدلوا لذلك بما حكى الله عن شعيب {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} وبقوله صلى الله عليه وسلم "أنت ومالك لأبيك" وقوله "إن أولادكم من كسبكم فكلوا من أموالهم" فإذا شرط لنفسه شيئاً من الصداق كان آخذا من مال ابنته وله ذلك. (وأما المسألة التاسعة) إذا كان لأنسان طعام في ذمة رجل وليس هو سلماً وذلك بأن يكون قرضاً أو إجارة أرض أو عمارة تخل وأراد صاحبه أن يأخذ عنه جنساً آخر من الطعام فهذا لا بأس به إذا لم يتفرقاً وبينهما شيء فان اتفقاً على المعارضة وتفرقاً قبل التقابض لم يثبت الأول ومتى تقايضاً جازت المعاوضة كما يجوز ذلك في بيع الأعيان لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " وكما وردت السنة بمثل ذلك في قبض الدراهم عن الدنانير والدنانير عن الدراهم في حديث ابن عمر. (وأما المسألة العاشرة) فالعاصب للميت من كان أقرب من غيره بعد العاصب أو قرب فمتى ثبت النسب بأن هذا ابن عم الميت ولا يعرف أحداً أقرب منه فهو العاصب ولو بعد عن الميت فان عرف أن هذا الميت من هذه القبيلة ولم يعرف له عاصب معين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وأشكل الأمر دفع إلى أكبرهم سناً فان كان للميت وارث ذو فرض أخذ فرضه ولم يوجد عاصب فالرد إلى ذوي الفروض أولى من دفعه إلى بيت المال ويرد على أهل الفروض على حسب ميراثهم إلا الزوج والزوجة فلا يرد عليهم. (وأما المسألة الحادية عشرة) إذا زنت المرأة البكر وجلدت فهل تغرب أم لا فالمسألة فيها خلاف بين العلماء والمشهور أنها تغرب كما هو ظاهر الحديث أعني قوله صلى الله عليه وسلم "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الرسالة التاسعة ... رسالة تاسعة (قال جامع الرسائل) ومن جواب أسئلة وردت على حمد بن ناصر رحمه الله وعفا عنه قال: (التهليلات العشر من صلاتي المغرب والفجر) الحمد لله، أما المسائل التي سألت عنها فأولها السؤال عن التهليلات العشر بعد صلاة الصبح والمغرب إذا كان قد ثبت في الأحاديث من "قال قبل أن ينصرف -وفي لفظ دبر المغرب والصبح- لا اله إلا الله وحده لا شريك له" الخ وهو الذي يفعله الناس اليوم من الجهر هل كان من هديه صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه والتابعون وما أصل هذه التهليلات؟ فنقول وبالله التوفيق: أما أصل التهليلات العشر فهو ما أشار إليه السائل وفقه الله من الأحاديث الواردة فيه فروي الترمذي في سننه حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من قال في دبر صلاة الصبح وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير –عشر مرات- كتب له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات" الحديث وروى الترمذي أيضاً والنسائي في اليوم والليلة من حديث عمارة ابن شبيب مرفوعاً "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير على أثر المغرب بعث الله له مسلحة يحفظونه حتى يصبح" الحديث قال الترمذي: غريب فهذان الحديثان هما أصل التهليلات العشر بعد صلاة الصبح والمغرب وهما حجة على استحباب هذه التهليلات ولهذا استحبها العلماء وذكروها في الأذكار المستحبة دبر الصلاة وأن المصلي يهلل بهن دبر صلاة الفجر وصلاة المغرب. (المأثور في الأذكار عقب الصلاة ورفع الصوت بها) وأما قول السائل هل كان هذا من هديه صلى الله عليه وسلم أو فعله أصحابه؟ لم يبلغنا من فعله صلى الله عليه وسلم والذي ثبت عنه الترغيب في ذلك ويترتب الأجر العظيم على فعله وذلك كاف في استحبابه وهذا له نظائر كثيرة في السنة فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وردت الأحاديث بالحث على شيء من العبادات ورغب فيه الشارع ثبت أنها مستحبة وإن لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلها لم تستحب ومن تأمل الأحاديث عرف ذلك، وليس في هذا اختلاف بين العلماء وإنما الخلاف بينهم في استحباب رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة المكتوبة لأنه قد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك يعني بالجهر. ولهذا اختلف العلماء هل الأصل الإسرار كما هو المشهور عند اتباع الأئمة أم الجهر أفضل لهذا الحديث الصحيح؟ قال في الفروع وهل يستحب الجهر لذلك كقول بعض السلف والخلف وقاله شيخنا أم لا؟ كما ذكره أبو الحسن ابن بطال وجماعة وأنه قول أهل المذاهب المتبوعة وغيرهم وظاهر كلام أصحابنا مختلف ويتوجه تخريج واحتمال يجهر لقصد التعليم فقط ثم يتركه وفاقاً للشافعي وحمل الشافعي خبر ابن عباس على هذا انتهى كلامه. فهذا الاختلاف في استحباب الجهر بعد الصلوات بالأذكار الواردة من حيث الجملة وحديث ابن عباس دليل على الاستحباب. وأما تخصيص هذه التهليلات بالجهر دون غيرها من الأذكار فلا نعلم له أصلاً ولكن لما أثبت ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صح الاستدلال به على رفع الصوت بالتهليلات إذ هو من جملة الأذكار الواردة فمن رفع صوته بذلك لم ينكر عليه بل يقال رفع الذكر بعد الصلاة مستحب ومن أسر لم ينكر عليه لأن ذلك من مسائل الاختلاف بين العلماء وكل منهم قد قال باجتهاده رضي الله عنهم. (حكم التلقيح بالجدري) وأما السؤال عن التوتين الذي يفعله العوام يأخذون قيحاً من المجدور ويشقون جلد الصحيح ويجعلونه في ذلك المشقوق يزعمون أنه أن جدر يخفف عنه فهذا ليس من التمائم المنهي عن تعلقها فيما يظهر لنا وإنما هو من التداوي عن الداء قبل نزوله كما يفعلون بالمجدور إذا أخذته حمى الجدري لطخوا رجليه بالحنا لئلا يظهر الجدري في عينيه وقد جرب ذلك فوجد له تأثير وهؤلاء يزعمون أن التوتين من الأسباب المخففة للجدري والذي يظهر لنا فيه الكراهة لأن فاعله يستعجل به البلاء قبل نزوله إلا أنه في الغالب إذا وتن ظهر فيه الجدري فربما قتله فيكون الفاعل لذلك قد أعان على قتل نفسه كما ذكره العلماء فيمن أكل فوق الشبع فمات بسبب ذلك فهذا وجه الكراهة1 (التوسل إلى الخالق بالمخلوقين) وأما السؤال عن قول الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك فهذا ليس فيه دليل على السؤال بالمخلوقين كما قد توهمه بعض الناس فاستدل به   1 يظهر أن هذا التنوين الذي يسمى الآن التلقيح أو التطعيم لم يكن في عصر هذا المغني أوفي بلاده قد نجح كنجاحه المعرف الآن حتى في أمراض أخرى غير الجدري ولذلك أثبت أنه مظنة الضرر فيكون مكروهاً وقد حرمه في أول ظهوره كثيره من أهل البلاد والملل المختلفة حتى الإنكليز وقد ثبت من عهد بعيد أنه يقي من هذا الداء الفتاك المشوه وأن تأثير التلقيح الواقي خفيف جداً يتحمله الأطفال بسهولة فالقول بوجوبه غير بعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 على جواز التوسل بذوات الأنبياء والصالحين وإنما هو سؤال الله تعالى بما أوجبه على نفسه فضلاً وكرماً لأنه يجيب سؤال السائلين إذا سألوه كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ونظيره قوله {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وقوله: {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} هذا معنى ما ذكر العلماء في الحديث الوارد في ذلك إن صح وإلا فهو ضعيف، وعلى تقدير صحته فهو من باب السؤال بصفات الله لا من السؤال بذات المخلوقين والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الرسالة العاشرة ... رسالة عاشرة بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ إبراهيم بن محمد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه وما ذكرت صار عندنا معلوماً ومن جانب السؤال عما تضمنته سورة الإخلاص من التوحيد العلمي فيذكرون أهل العلم أن سورة الإخلاص متضمنة للتوحيد العلمي و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} متضمنة للتوحيد العملي فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها توحيد الاعتقاد والمعرفة ومما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه ونفي الولد والوالد الذي هو من لزوم الصمدية ونفي الكفر المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له ونفي كل نقص عنه ونفي الشبيه والمثيل ونفي مطلق الشريك عنه وهذه الأصول مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه فرق الضلال والشرك ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن وبيان ذلك أن القرآن مداره على الخبر والإنشاء والخبر نوعان خبر عن الخالق وأسمائه وصفاته وأحكامه وخبر عن خلقه فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عنه سبحانه وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن كما أخلصت سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} لبيان الشرك العملي القصدي. (الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية) وأما الفرق بين الشفاعة المثبتة المنفية فهي مسألة عظيمة ومن لم يعرفها حقيقة التوحيد والشرك والشيخ رحمه الله1 عقد له باباً في كتاب التوحيد فقال (باب الشفاعة) وقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا   1 يعني الشيخ محمد عبد الوهاب قدس الله روحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 شَفِيعٌ} ثم ساق الآيات وعقبه بكلام الشيخ تقي الدين فأنت راجع الباب وأمعن النظر فيه يتبين لك حقيقة الشفاعة والفرق بين ما أثبته القرآن وما نفاه. وإذا تأمل الإنسان القرآن وجد فيه آيات كثيرة في نفي الشفاعة وآيات كثيرة في إثباتها فالآيات التي فيها نفي الشفاعة مثل قوله تعالى {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} ومثل قوله تعالى {َنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} وقوله {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} وقوله {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} إلى غير ذلك من الآيات. وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فمثل قوله تعالى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقوله {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وقوله {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} وقوله {يومئذ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} إلى غير ذلك من الآيات. فالشفاعة التي نفاها القرآن هي التي يطلبها المشركون من غير الله فيأتون إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى قبر من يظنونه من الأولياء والصالحين فيستغيث به ويتشفع به إلى الله لظنه أنه إذا فعل ذلك شفع له عند الله وقضى الله حاجته سواء أراد حاجة دنيوية أو حاجة أخروية كما حكاه تعالى عن المشركين في قوله {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} لكن (كان) الكفار الأولون يتشفعون بهم في قضاء الحاجات الدنيوية. وأما المعاد فكانوا مكذبين به جاحدين له. وأما المشركون اليوم فيطلبون من غير الله حوائج الدنيا والآخرة ويتقربون بذلك إلى الله ويستدلون عليه بالأدلة الباطلة وحجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد. وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فقيدها سبحانه بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له فلا يشفع عند أحد إلا بإذنه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا يأذن للشفعاء إلا لمن رضي قوله وعمله وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أسعد الناس بشفاعته أهل التوحيد والإخلاص فمن طلبها منه اليوم حرمها يوم القيامة والله سبحانه قد أخبر أن المشركين لا تنفعهم شفاعة الشافعين وإنما تنفع من جرد توحيده لله بحيث أن يكون الله وحده هو آلهه ومعبوده وهو سبحانه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً كما قال تعالى {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} فإذا تأملت الآيات تبين لك أن الشفاعة المنفية هي التي يظنها المشركون ويطلبونها اليوم من غير الله. (وأما الشفاعة المثبتة) فهي التي لأهل التوحيد والإخلاص كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن شفاعته نائلة من مات من أمته لا يشرك بالله شيئاً والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الرسالة الحادية عشرة ... رسالة حادية عشر بسم الله الرحمن الرحيم السؤال بخط منصور أبا حسين1 والجواب بخط المجيب حمد بن ناصر رحمه الله. من منصور أبا حسين1 إلى الأخ حمد بن ناصر حفظه الله بما حفظ به عباده الصالحين وجعله من أئمة المتقين ومن أصحاب اليمين آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (أما بعد) أفدني أثابك الله الجنة ما صفة الواجب وحده والمسنون وحده وما يترتب عليهما من الثواب والعقاب؟ كذلك ما صفة المكروه وحده وصفة المحرم وحده، كذلك إذا دخل الرجل المسجد هل يعمل على حديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي وهو داخل في وقت النهي أو يعمل على حديث "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس" الخ كذلك بيع الدين بالدين وبيعتين في بيعة مثلهما لي ولا تخلني من صالح دعاك واستودعك الله وأنت سالم والسلام. (تعريف الواجب والمسنون والمكروه والمحرم) الحمد لله رب العالمين الواجب في الشرع ما ذم تاركه إذا تركه قصداً وأثيب فاعله، وهو يرادف الفرض عند الحنابلة والشافعية وأكثر الفقهاء وعن أحمد رواية أن الفرض آكد من الواجب وهو قول أبي حنيفة. وأما المسنون فهو ما أثيب فاعله ولم يذم تاركه السنة في اللغة الطريقة والسيرة وإذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وندب إليه قولاً وفعلاً مما لا ينطق به الكتاب العزيز. وأما المكروه فهو ضد المندوب وهو لغة ضد المحبوب وشرعاً ما مدح تاركه ولم يعاقب فاعله، ومنه ما نهى عنه الشارع لرجحان تركه على فعله كالصوم في السفر إذا وجدت المشقة في الصوم ونحو ذلك وأما المكروه فهو في عرف المتأخرين ما نهى عنه تنزيه ويطلق على الحرام أيضاً وهو كثير في كلام المتقدمين كالإمام أحمد وغيره كقول الإمام أحمد أكره المتعة والصلاة في المقابر، وهما محرمان، وقد ورد المكروه بمعنى الحرام في قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} . وأما الحرام فهو ضد الحلال وهو ما حرمه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من ترك الواجبات وفعل المحرمات وأصل التحريم في اللغة المنع ومنه قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} وحده شرعاً ما ذم فاعله ولو قولاً كالغيبة والنميمة ونحوهما مما يحرم التلفظ به أو عمل القلب كالنفاق والحقد ونحوهما.   1 يظهر أن لغتهم بنجد إعراب لفظ أب المضاف بالألف مطلقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 (تحية المسجد وقت الكراهية) وأما قوله إذا دخل الرجل المسجد وقت النهي هل يترك التحية على أحاديث النهي الخ فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء وفيها عن أحمد روايتان أحدهما أنه لا يصلي التحية وقت النهي وهو المذهب الذي عليه أكثر الأصحاب وهو قول أصحاب الرأي لعموم النهي والثانية يجوز وهو قول الشافعي وهو اختيار الشيخ تقي الدين لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين" وهو حديث صحيح وهو يخص أحاديث العموم وأهل هذا القول حملوا أحاديث النهي على ما لا سبب له. وأما ذوات الأسباب كركعتي الطواف وتحية المسجد وإعادة الصلاة إذا صلاها في رحله وإعادة صلاة الفجر إذا صلاها في رحله ثم حضر الجماعة وهم يصلون ونحو ذلك فهذا يفعل في أوقات النهي لأدلة دلت على ذلك وهي تخص عموم النهي، وكما أن الصلاة وقت الخطبة منهي عنها باتفاق العلماء وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر من دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين وليتجوز فيهما وهذا نظير قوله في أبي قتادة إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين فقد نهي عن الجلوس قبل الصلاة وذلك أمر بالصلاة إذا لم يقل أحد أنه دخل عقيب صلاة العصر يقوم قائماً التحية وقت النهي أجازوا ما هو مثله فإن مذهب الإمام أحمد أن ركعتي الطواف تفعل في أوقات النهي وكذلك المعادة مع إمام الحي إذا أقيمت وهو في المسجد يصليها معهم في وقت النهي وكذلك قضاء الفوائت تفعل في وقت النهي وكذلك صلاة الجنازة تفعل في الوقتين الطويلين من أوقات النهي هذا مذهب أحمد في هذه المسائل فما كان جوابهم ودليلهم على جوازه فهو دليل من أجاز تحية المسجد في هذه الأوقات فإن قوله صلى الله عليه وسلم "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين" أمر عام لجميع الأوقات فإذا قال منازعوهم أحاديث النهي تخص هذا العموم قالوا أنتم جوزتم الصلاة وقت الخطبة وركعتي الطواف واعادة الجماعة وقضاء الفوائت وصلاة الجنازة فلم تعملوا بأحاديث النهي على ظاهر بل خالفتم ظاهرها في صور معلومة. وأما بيع الدين بالدين فله صور منها ما هو منهي عنه بالاتفاق ومنها ما هو مختلف فيه وهو ينقسم إلى بيع واجب بواجب وساقط بساقط وساقط بواجب وواجب بساقط فالذي لا شك في بطلانه بيع الكالئ بالكالئ وهو بيع ما في الذمة مؤخراً بشيء في الذمة مؤخراً فإن الكالئ هو المؤخر فإذا أسلم شيئاً في ذمته في شيء في ذمة الآخر وكلاهما مؤخراً فهذا لا يجوز باتفاق العلماء ومثال الساقط بالساقط صورة المقاصة فإن اتفق الدينان جنساً وأجلاً فلا بأس بها وإن اختلف الجنس كما لو كان لكل واحد من اثنين دين على صاحبه من غير جنسه كالذهب والفضة وتساقطا ولم يحضرا شيئاً فهذا فيه خلاف المنصوص عن أحمد أنه لا يجوز إذا كانا نقدين من جنسين واختار الشيخ تقي الدين الجواز. وأما الساقط بالواجب فكما لو باعه ديناً في ذمته بدين آخر من غير جنسه فسقط الدين المبيع ووجب عوضه وهو بيع الدين الحال ممن هو في ذمته بيدين لم يقبض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو كان لرجل دراهم في ذمة رجل آخر فجعل الدراهم سلماً في طعام في ذمته فقد وجب له عليه دين وسقط عنه دين غيره وقد حكى ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم على ألا يجوز وليس في ذلك إجماع بل قد أجازه بعض العلماء لكن القول بالمنع هو قول الجمهور والله أعلم. وأما البيعتان في بيعة فالمشهور عن أحمد أنه اشترط أحد المتعاقدين على صاحبه عقداً آخر كبيع أو إجارة أو صرف الثمن أو قرض ونحو ذلك وعنه البيعتان في بيعة إذا باعه بعشرة نقداً أو عشرين نسيئة وقال في العمدة البيعتان في بيعة أن يقول بعتك هذا بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة أو يقول بعتك هذا على أن تبيعني هذا انتهى. فجمع بين الروايتين وجعل كل الصورتين داخلاً في معنى بيعتين في بيعة والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الرسالة الثانية عشرة في مسائل مختلفة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. (أما بعد) المسألة الأولى مسبوق دخل مع الإمام ولم يعلم هل هو في أول الصلاة فيستفتح ويقرأ سورة أم في آخرها فيسكت؟ (الجواب) أن أهل العلم اختلفوا في ذلك على قولين هما روايتان عن أحمد (احداهما) أن ما يدركه مع الإمام آخر صلاته وما يقضيه أولها قال في الشرح الكبير هذا هو المشهور في المذهب يروى ذلك عن ابن عمر ومجاهد وابن سيرين ومالك والثوري وحكى عن الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وما فاتكم فاقضوا" متفق عليه فالمقضي هو الفائت فعلى هذا ينبغي أن يستفتح ويستعيذ ويقرأ السورة (القول الثاني) أن ما يدركه مع الإمام أول صلاته والمقضي آخرها وهو الرواية الثانية عن أحمد قال في الشرح وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز وإسحاق وهو قول الشافعي ورواية عن مالك واختاره ابن المنذر لقوله عليه السلام: "وما فاتكم فأتموا" فعلى هذه الرواية لا يستفتح فأما الاستعاذة فإن قلنا تسن في كل ركعة استعاذ وإلا فلا وأما السورة بعد الفاتحة فيقرؤها على كل حال قال شيخنا لا أعلم خلافاً بين الأئمة الأربعة في قراءة الفاتحة وسورة وهذا مما يقوي الرواية الأولى انتهى. وقال في الفروع وقيل يقرأ السورة مطلقاً ذكر الشيخ أنه لا يعلم فيه خلافاً بين الأئمة الأربعة وذكر ابن أبي موسى المنصوص عليه وذكره الآجري عن أحمد وبنى قراءتها على الخلاف ذكره ابن هبيرة وفاقا وجزم به جماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 واختاره صاحب المحرر وذكر أن أصول الأئمة تقتضي ذلك وصرح به منهم جماعة وأنه ظاهر رواية الأثرم ويخرج على الروايتين الجهر والقنوت وتكبير العيد وصلاة الجنازة وعلى الأولى يعني الرواية الأولى المشهورة أن ما يدركه المسبوق مع الإمام آخر صلاته إن أدرك من رباعية أو مغرب ركعة تشهد عقب قضاء أخرى وفاقاً لأبي حنيفة ومالك في إحدى الروايتين له كالرواية الثانية انتهى. وفي القواعد الفقهية لما ذكر ما ينبني على الروايتين من الفوائد الفائدة الرابعة مقدرة القراءة وللأصحاب في ذلك طريقان أحدهما أنه أدرك ركعتين من الرباعية أنه يقرأ في المقضيتين بالحمد وسورة معها على كل الروايتين قال ابن أبي موسى لا يختلف قوله في ذلك والطريق الثاني بناؤه على الروايتين فإن قلنا ما يقضيه أول صلاته فكذلك وإلا اقتصر فيه على الفاتحة وهي طريقة القاضي ومن بعده وذكره ابن أبي موسى تخريجاً ونص عليه أحمد في رواية الأثرم وأومأ إليه في رواية حرب وأنكر صاحب المحرر الرواية الأولى قال لا يتوجه إلا على رأي من يرى قراءة السورة في كل ركعة أو على رأي من يرى قراءة السورة في الأخريين إذا نسيها في الأوليين انتهى ملخصاً والله أعلم. والذي يترجح عندنا أن ما أدركه المسبوق أول صلاته لأن الرواية من روى فأتموا أكثر وأصح عند كثير من أهل الحديث مع أن رواية فاقضوا لا تخالف رواية فأتموا لأن القضاء يرد في اللغة بمعنى التمام كما قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} وقال في الفتح قوله صلى الله عليه وسلم: "وما فاتكم فأتموا" أي أكملوا هذا هو الصحيح في رواية الزهري ورواية ابن عيينة بلفظ فاقضوا وحكم مسلم عليه بالوهن في هذه اللفظة مع أنه خرج إسناده في صحيحه لكنه لم يسق لفظه قال والحاصل أن أكثر الروايات وردت بلفظ فأتموا وأقلها بلفظ فاقضوا وإنما تظهر فائدة ذلك أن جعلنا بين القضاء والإتمام مغايرة لكن إذا كان مخرج الحديث واحداً واختلف في لفظة منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى وهنا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالباً لكنه يطلق على الأداء أيضاً ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} الآية ويرد لمعاني أخر فيحمل قوله هنا فاقضوا على معنى الأداء أو الفراغ فلا يغاير قوله فأتموا فلا حجة فيه لمن تمسك برواية فاقضوا على أن ما أدركه المأموم مع الإمام هو آخر صلاته حتى استحب له الجهر في الركعتين الأخريين وقراءة السورة وترك القنوت بل هو أولها وإن كان آخر صلاة إمامه لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدم وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال فلو كان ما يدركه مع الإمام آخراً له لما احتاج إلى إعادة التشهد انتهى ملخصاً فظهر لك أن هذا القول هو الراجح سبحانه وتعالى أعلم. (المسألة الثانية) رجل في سفر ودخل عليه وقت الزوال وهو عادم الماء فأخر صلاة الظهر ناوياً التأخير إلى العصر فوجد الماء في وقت الظهر ولم يستعمله فلما جاء وقت العصر إذا هو عادم للماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 (فالجواب وبالله التوفيق) أن المشهور عند الحنابلة أن مثل هذا لا إعادة عليه أنه لا يجوز له تأخير صلاة الظهر إلى وقت العصر إذا كان ناوياً للجمع قال في الشرح الكبير وإذا كان معه ماء فأراقه قبل الوقت أو مر بماء قبل الوقت فتجاوزه وعدم الماء في الوقت صلى بالتيمم من غير إعادة وهو قول الشافعي وقال الأوزاعي إن ظن أنه يدرك الماء في الوقت كقولنا وإلا صلى بالتيمم وعليه الإعادة لأنه مفرط ولنا أنه يجب عليه استعماله أشبه ما لو ظن أنه يدرك الماء في الوقت وفي شرح منصور على المنتهى. من في الوقت أراقه أي الماء أو مر به وأمكنه الوضوء منه ولم يفعل وهو يعلم أنه لا يجد غيره أو باعه أو وهبه لتعلق حق الله تعالى بالمعقود عليه فلم يصح نقل الملك فيه كأضحية معينة ثم أن تيمم لعدم غيره ولم يقدر على رد البيع أو الموهوب وصلى لم يعد لأنه عادم للماء حال التيمم أشبه ما لو فعل ذلك قبل الوقت انتهى. فإذا كان لا يعيد إذا مر به في الوقت ولم ينو الجمع فكيف إذا كان ناوياً للجمع؟ والله سبحانه وتعالى أعلم (المسألة الثالثة) رجل قضى رجلاً مثلاً جديدة1 والذي عندهم أنها زينة وأخذت أياماً عنده يعيرها وترد عليه وأخرجها من يده وربما رفعها عند أهله ولما لم تعبر جاء بها للذي قضاه فأنكرها أن تكون جديدته التي دفعها إليه ولم تكن بينة فاليمين على من تكون. (الجواب) أن الذي يظهر من كلامهم في هذه السورة أن القول قول الدافع بيمنه أنها ليست جديدته التي دفعها إذا كانت قد خرجت من يده وأما إذا لم تخرج من يده ففيها قولان في المذهب أحدهما وهو المشهور في المذهب أن القول قول المشتري مع يمينه قال في الانصاف لو باع سلعة بنقد أو غيره معين حال العقد وقبضه ثم أحضره وبه عيب وأدعى أنه الذي دفعه إليه المشتري وأنكر المشتري كونه الذي اشتراه به ولا بينة لواحد منهما فالقول قول المشتري مع يمينه لأن الأصل براءة ذمته وعدم وقوع العقد على هذا المعين ولو كان الثمن في الذمة ثم نقده المشتري أو قبضه من قرض أو سلم أو غير ذلك مما هو في ذمته ثم اختلفا كذلك ولا بينة فالقول قول البائع وهو القابض مع يمينه على الصحيح لأن القول في الدعاوي قول من الظاهر معه والظاهر مع البائع لأنه ثبت له في ذمة المشتري ما انعقد عليه العقد غير معين فلم يقبل قوله في ذمته -إلى أن قال- ومحل الخلاف إذا لم يخرج عن يده انتهى. ومراده أنه إذا أخرجه البائع من يده كما في الصورة المسؤول عنها فالقول قول المشتري وهو الدافع بلا خلاف عندهم والله أعلم. (المسألة الرابعة) باع رجل ثمرة بعد بدو صلاحها بشرط القطع لنفي الضمان لا حقيقة الشرط هل يصح ذلك وينتفي عنه الضمان أم لا؟   1 الجديد نقد متداول بنجد، وزينة جيدة ويعبرها يدفعها إلى الناس ورفعها عند أهله حفظها عندهم فحاصل السؤال أن رجلاً دفع نقداً جيداً إلى آخر فتصرف به أخذاً ورداً وربما حفظيه عند أهله ثم في آخر الأمر وقفت فأنكرها صاحبها ولم تكن بينة فعلى من تكون اليمين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 (فالجواب وبالله التوفيق) أن مثل هذا الشرط الذي لا يقصد المتعاقدان حقيقته وإنما قصد إبطال ما أثبته الله ورسوله من وضع الجائحة لأن المقصود في العقود معتبر والأعمال بالنيات ومن اشترط شرطاً يخالف حكم الله ورسوله فهو باطل وإن كان مائة شرط وكذلك إذا اشترط شرطاً لا حقيقة له وإنما قصده ونيته غير الشرط. وقد ذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى وتلميذه ابن القيم رحمه تعالى من ذلك صوراً كثيرة في كتاب الأعلام والله أعلم. (المسألة الخامسة) لو اشترى سلعة وخرجت من يده وظهر بها عيب فهل يمين البائع على البت أو على نفي العلم؟ (فالجواب) أن هذه المسألة فيها قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد (أحدهما) أن الايمان كلها على البت في الإثبات والنفي إلا لنفي فعل غيره أو نفي الدعوى على الغير فيحلف على نفي العلم وهذا هو المشهور في المذهب. (والقول الثاني) أنها على نفي العلم مطلقاً في النفي والإثبات وهو الرواية الثانية عن أحمد واختاره أبو بكر واحتج بالخبر الذي ذكره أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تضروا الناس في ايمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون" وعن أحمد رحمه الله رواية ثالثة يحلف لنفي عيب السلعة على العلم وهذا هو المروي عن عثمان رضي الله عنه في قصة العبد الذي باعه ابن عمر رضي الله عنهما ثم ظهر به عيب فقال له عثمان أتحلف أنك بعته وما تعلم به عيباً؟ والله سبحانه وتعالى أعلم. (المسألة السادسة) لو اشترى سلعة ليسافر بها في بلد ثم وجد بها عيباً وأشهد على الرد ولا حاكم يسلمها إليه والطريق مخوف ما وجه الحكم؟ (الجواب) أن الوجه المناسب له في هذه الصورة أن يشهد من حضر أنه فسخ العقد فإن أمكنه حفظها معه حتى يأتي صاحبها فعل وإلا أودعها عند ثقة والله سبحانه وتعالى أعلم. (المسألة السابعة) رجل أعار رجلاً شيئاً ليرهنه فرهنه عند آخر فأودعه المرتهن المعير مع علمه هل يزول اللزوم أم لا؟ (فالجواب) أن المشهور عند الحنابلة أن المرتهن أخرجه من يده زال اللزوم وبطل الرهن لأن استدامة القبض عندهم شرط في لزومه فمتى أخرجه من يده أو أعاده أو رده إلى مالكه بإعادة أو غيرها زال لزومه قال في الإقناع وان آجره أي آجر الراهن الرهن أو أعاره أي الراهن لمرتهن أو لغيره بإذنه فلزومه باق انتهى. وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أنه يلزم بمجرد العقد قبل القبض في غير المكيل والموزون وممن أوجب استدامة القبض مالك وأبو حنيفة قال في الشرح الكبير وهذا التفريع على القول الصحيح فأما من قال ابتداء القبض ليس بشرط فأولى أن يقول الاستدامة غير شرط لأن كل شرط يعتبر في الاستدامة يعتبر في الابتداء وقد يعتبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 في الابتداء ما لا يعتبر في الاستدامة وقال الشافعي استدامة القبض ليست شرط لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه فلم يشترط استدامته كالهبة ولنا قول الله تعالى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ولأنها أحد حالتي الرهن فكان القبض فيه شرطاً كالابتداء ويفارق الهبة فإن القبض في ابتدائها يثبت الملك فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانياً والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه واستيفاء الدين من ثمنه فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه انتهى. وذكر في الانصاف وغيره عن أحمد أنه أن آجره وأعاره لغير المرتهن زال لزومه قال في الإنصاف نصره القاضي وقطع به جماعة واختاره أبو بكر في الخلاف قال المجد في شرحه ظاهر كلام أحمد أنه لا يصير مضموناً بحال انتهى. قال في الانصاف فلو استأجره المرتهن عاد اللزوم بمضي المدة ولو سكنه بأجرته بلا إذنه فلا رهن نص عليهما ونقل ابن منصور ان كراه بإذن الراهن أوله فإذا رجع صار هنا والكراء للراهن انتهى. فظهر بما تقدم أن المشهور في المذهب أنه إذا أعاره الراهن المرتهن أو غيره أو آجره للمرتهن أو غيره بإذن المرتهن أن لزومه باق لحاله. والقول الثاني أنه متى خرج من يد المرتهن إلى الراهن أو غيره بإعارة أو إجارة أو سكن المرتهن الدار بلا إذنه فإنه يبطل لزومه وهذا هو الذي ذكره في الانصاف وغيره منصوص أحمد وهو طرد القول الصحيح عندهم لأنهم ذكروا أنه إذا أعاره المرتهن الراهن أو استأجره زال لزومه فأي فرق بينه وبين الأجنبي مع أن الإمام أحمد رحمه الله نص على أنه إذا أخرجه من يده إلى الراهن أو غيره زال لزومه كما تقدم في رواية ابن منصور وغيره والله أعلم. (المسألة الثامنة) أعاره سيفاً ليرهنه وقال شرطت عليك رهنه عند زيد أو في جنس كذا أو في قدر كذا فقال أطلقت الإذن لي فهل قوله معتبر لاتفاقهما على الإذن واختلافهما في الصفة أم قول المعير؟ (فالجواب) أن القول في مثل هذا قول المالك لأنه منكر لما ادعاه خصمه والقول قول المنكر بيمينه لقوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" قال في الإقناع وشرحه إن استعار أو استأجر شيئاً ليرهنه ورهنه بعشرة ثم قال الراهن لربه أذنت لي في رهنه بعشرة فقال ربه بل أذنت لك في رهنه بخمسة فالقول قول المالك بيمينه لأنه منكر للاذن في الزيادة ويكون رهنه بالخمسة فقط. (المسألة التاسعة) رجل أستأجر أرضاً للزرع فنبت فيها غرس لمن يكون الغرس؟ (فالجواب) أن الذي يظهر من كلامهم في مثل هذه الصورة أن الغراس يكون للمستأجر لأنه نبت على مائه فإن شاء قلعه وسوى الحفر وإن شاء تركه لصاحب الأرض بقيمته والخيرة في ذلك للمستأجر. (المسألة العاشرة) إذا استأجر رجلاً على رعي دابة وعلى طلاها عن جرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فأخذ يرعها ثم ماتت الدابة حتف أنفها هل يستحق شيئاً من الأجر في مقابل رعيه وطلاه أم لا؟ (الجواب وبالله التوفيق) أن هذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد (أحداهما) أنه لا يستحق شيئاً من الأجرة إلا بتسليم العين وهذا هو المشهور في المذهب قال في الإنصاف ويضمن الأجير المشترك ما جنت يده أو تلف بفعله على الصحيح من المذهب وقال أيضاً وتجب الأجرة بنفس العقد هذا المذهب وتستحق كاملة بتسليم العين أو بفراغ العمل الذي بيد المستأجر كطباخ استؤجر لعلم شيء في بيت المستأجر انتهى. قال في المغني وإنما توقف استحقاق تسليمه على العمل لأنه عوض فلا يستحق تسليمه إلا مع تسليم المعوض كالصداق والثمن في البيع ولا ضمان عليه أي الأجير المشترك فيما تلف من حرزه أو بغير فعله إذا لم يتعد قال في الانصاف هذا المذهب قال الزركشي هو المنصوص عليه في رواية جماعة ثم قال ولا أجرة له فيما عمل فيه أي الذي تلف في يده سواء أكثر الأصحاب والقول الثاني أنه له أجرة ما عمل في بيت ربه دون غيره وعنه له أجرة البناء لا غير. نص عليه في رواية ابن منصور وعنه له أجرة البناء والمنقول إذا عمله في بيت ربه وقال ابن عقيل في الفنون له الأجرة مطلقاً لأن وضعه النفع فيما عينه له كالتسليم إليه كدفعه إلى البائع غراره وقال ضع الطعام فيها وكاله فيها كان ذلك قبضاً لأنها كيله ولهذا لو ادعيا طعاماً في غرارة أحدهما كان له قال في الانصاف وهو قوي وقال في المنتهى وشرحه وله أي الحامل أجرة حمله إلى محل تلفه ذكره في التبصرة واقتصر عليه في الفروع لأن ما عمل فيه من عمل بإذن وعدم تمام العمل ليس من جهته وهذا القول هو الذي يترجح عندنا والله سبحانه وتعالى أعلم. (المسألة الحادية عشرة) لو حرم شيئاً لا يعمله هل يكون ظهاراً أم لا؟ (فالجواب وبالله التوفيق) أنه ذكر في الانصاف وغيره من كتب المذهب أنه لو قال علي الحرام أو يلزمني الحرام أو الحرام يلزمني فهو لغو لا شيء فيه مع الإطلاق وفيه من قرينته أو نيته أي الطلاق وجهان وأطلقهما في المغني والشرح والفروع قلت والصواب أنه مع النية والقرينة كقوله أنت علي حرام ثم وجدت ابن رزين قدمه وقال في الفروع يتوجه الوجهان أن نوى به طلاقاً وأن العرف قرينة ثم قال قلت الصواب أنه مع القرينة أو النية كأنت علي حرام وهذا كله كلام الانصاف. وأعلم أن الحلف بالحرام له صيغتان: (احداهما) أن يقول إن فعلت كذا فأنت علي حرام أو أنت علي حرام أن فعلت كذا أو إن فعلت كذا فامرأتي علي حرام هذا كله صيغة واحدة. (والصيغة الثانية) أن يقول الحرام يلزمني إن فعلت كذا أو إن فعلت كذا فالحرام لازم أو علي الحرام لا أفعل كذا وما أشبهه هذا فكل هذا حلف بالحرام وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 اختلف العلماء في ذلك قديماً وحديثاً حتى ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الاعلام أن فيها خمسة عشر قولاً ثم سردها ثم قال وفي المسألة مذهب وراء هذا كله وهو أنه إذا وقع التحريم كان ظهاراً ولو نوى أنه طلاق وإن حلف به كان يميناً مكفرة قال وهذا اختيار شيخ الإسلام وعليه يدل النص والقياس وانتهى كلامه. وهذا هو الراجح عندي في هذه المسألة لأن أكثر الناس يقصدون بها الحلف على الحض والمنع فعلى هذا يكون من أيمان المسلمين التي فرض الله فيها الكفارة كما قال تعالى في أول سورة التحريم {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} بعد قوله {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} فدل على أن الحلف بالحرام من أيمان المسلمين المكفرة لكن هل تكون كفارته كفارة يمين أو مغلظة أو مخففه وممن قال يكفر كفارة ظهار ابن عباس في إحدى الروايات عنه وسعيد بن جبير وأبو قلابة ووهب بن منبه وعثمان البيتي وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد وحجة هذا القول أن الله جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه إظهاراً وجعله منكر من القول وزوراً فالتشبيه بالمحرمة يجعله ظهاراً فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار قال ابن القيم رحمه الله تعالى وهذا أقيس الأقوال وأفقهها ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحليل والتحريم إنما ذلك إليه سبحانه وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال التي يترتب عليها التحليل والتحريم فالسبب إلى العبد وحكمه إلى الله فإذا قال أنت علي كظهر أمي أو قال أنت علي حرام فقد قال المنكر من القول والزور وكذب فإن الله لم يجعلها كظهر أمه ولا جعلها عليه حراماً فأوجب عليه هذا القول المنكر والزور أغلظ الكفارتين وهي كفارة الظهار انتهى. وأما من قال إنه يمين يكفر بما تكفر به اليمين بكل حال وهو قول أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن عمر وجمع من التابعين فحجة هذا القول ظاهر القرآن فإن الله سبحانه فرض تحلة الأيمان عقب تحليل الحلال فلا بد أن يتناوله يقيناً فلا يجوز جعل تحلة الأيمان بغير المذكور ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله والله سبحانه وتعالى أعلم. (المسألة الثانية عشرة) لو قال عقاري هذا مسبل يفعل به فلان ما شاء أو أراد ومات فلان قبله والحال أن قصده من جهات بر معلومة كصوام أم مؤذن أو إمام ما الحكم فيه؟ (فالجواب) أن مثل هذا وقف صحيح وللواقف أن يعين الجهة أو يعين رجلاً غيره يجعله في أعمال البر هذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى قال في الإقناع وشرحه وإن قال وقفت كذا وسكت ولم يذكر مصرفه فالأظهر بطلانه والذي في الانصاف وفي الروضة لأن الوقف يقتضي التمليك فلا بد من ذكر المملك ولأن جهالة المصرف مبطلة فعدم ذكره أولى بالإبطال قال في الانصاف الوقف صحيح عند الأصحاب وقطعوا به قال في الرعاية على الصحيح عندنا فظاهره أن في الصحة خلافاً انتهى. ومقتضاه أن صاحب الانصاف لم يطلع فيه على خلاف للأصحاب وكذا لم يحك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الحارثي في صحته خلافاً بين الأصحاب قال ولنا أنه إزالة ملك على وجه القربة فصح مطلقاً كالأضحية والوصية أما صورة المجهول فالفرق بينهما أن الإطلاق يفيد مصرف البر لخلو اللفظ عن المانع منه وكونه متعارفاً فالعرف إليه ظاهر في مطابقة مراده وكذلك التقييد بالمجهول فانه قد يريد به معيناً غير ما قلنا من المتعارف فيكون إذاً الصرف إلى المتعارف غير المطابق لمراده فينتفي الصرف بالكلية فلم يصح الشرط انتهى ما ذكره في الإقناع وعبارة صاحب الانصاف. وان قال وقفت وسكت يعني حكمه حكم الوقف المنقطع الانتهاء والوقف صحيح عند الأصحاب وقطعوا به وقال في الروضة على الصحيح عندنا فظاهره أن في الصحة خلافاً فعلى المذهب حكمه حكم الوقف المنقطع الانتهاء في مصرفه على الصحيح من المذهب كما قال المصنف هنا وقطع به القاضي في المجرد وابن عقيل واختاره صاحب التلخيص وغيره وقال القاضي وأصحابه يصرف في وجوه البر انتهى كلامه وصورة المسئلة المسؤول عنها تقرب من هذه الصورة لأنه لم يعين الجهة وقد تقرر أن الصحيح أن تعيين الجهة ليس بشرط. وأما إذا جعل النظر والتعيين إلى الرجل بعينه فمات فقال في الإقناع وشرحه فإن لم يشترط الواقف ناظراً أو شرطه لإنسان فمات المشروط له فليس للواقف ولاية النصب أي نصب ناظراً لانتفاء ملكه فلم يملك النصب ولا العزل كل في الأجنبي ويكون النظر للموقوف عليه إذا كان الموقوف عليه آدمياً معيناً كزيد أو جمعاً محصوراً انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم. (المسألة الثالثة عشرة) لو أجر الواقف مستحقه مدة طويلة وحكم حاكم بلزومها هل تلزم أم لا إلى أن يأتي محل الحكم وهو موت المؤجر؟ (فالجواب) أن الذي قطع به مشايخ المذهب أن المستحق للوقف إذا كان هو الناظر يجوز له إجارة الوقف مدة ولم يقيدوها بطول أو قصر فدل على جوازها وصحتها بالمدة الطويلة ولم يذكروا في ذلك خلافاً إلا تخريجاً ذكره الموفق في المغني أنها تبطل وإنما حكى الخلاف في أنفسخها بموت المؤجر هل تنفسخ بذلك أم لا قال في المغني إذا أجر الموقوف عليه مدة فمات في أثنائها وانتقلت إلى من بعده ففيه وجهان أحدهما لا تنفسخ الإجارة لأنه أجر ملكه في زمن ولايته فلم تبطل بموته كما لو آجر ملكه الطلق (الثاني) تفسخ الإجارة فيما بقي من المدة لأنا تبينا أنه آجر ملكه وملك غيره فصح في ملكه دون ملك غيره كما لو آجر دارين أحداهما له والأخرى لآخر وذلك لأن المنافع بعد الموت حق لغيره فلا ينفذ عقده عليها من غير ملك ولا ولاية بخلاف الطلق فإن الوارث من جهة الموروث فلا يملك إلا ما خلف وما تصرف فيه في حياته لا ينتقل إلى الوارث والمنافع التي آجرها قد خرجت من ملكه بالإجارة فلا ينتقل إلى الوارث والبطن الثاني في الوقف يملكون من جهة الواقف فما حدث منها بعد البطن الأول كان ملكاً لهم فقد صادف تصرف المؤجر ملكهم من غير إذنهم ولا ولاية له عليهم فلم يصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ويتخرج أن تبطل الإجارة كلها بناء على تفرق الصفقة وهذا لتفصيل مذهب الشافعي فعلى هذا إذا كان المؤجر قبض الأجر كله وقلنا تنفسخ الإجارة فلمن انتقل إليه الوقف أخذه ويرجع المستأجر على ورثة المؤجر بحصته للباقي من الأجرة وإن قلنا لا تنفسخ رجع من انتقل إليه الوقف على التركة بحصته وقال في الانصاف يجوز إجارة الوقف فإن مات المؤجر فانتقل إلى من بعده لم تنفسخ الإجارة في أحد الوجهين أحدهما لا تفسخ بموت المؤجر وهو المذهب كناظر الملك وكملكه الطلق قاله المصنف وغيره وصححه جماعة وقدمه في الفروع وغيره وقال القاضي في المجرد هذا قياس المذهب والثاني تنفسخ جزم به القاضي في خلافه واختاره ابن عقيل والشيخ تقي الدين وغيرهم قال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد في رواية صالح وقال ابن رجب وهو المذهب الصحيح لأن الطبقة الثانية تستحق العين بمنافعها بانقراض الطبقة الأولى قلت وهو الصواب وهو المذهب وقال في الفائق ويتخرج الصحة بعد الموت موقوفة لا لازمة وهو المختار انتهى. ومحل الخلاف المتقدم إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه بأصل الاستحقاق فأما إن كان المؤجر هو الناظر العام أو من شرط له وكان أجنبياً لم تنفسخ الإجارة بموته قولاً واحداً قاله الشيخ المصنف والشارح والشيخ تقي الدين وغيرهم وقال ابن حمدان في رعايته وغيره ومحل الخلاف إذا آجره مدة يعيش فيها غالباً فأما إن آجره مدة لا يعيش فيها غالباً فإنها تنفسخ قولاً واحداً وما هو ببعيد فعلى الوجه الأول من أصل المسئلة يستحق البطن الثاني حصتهم من الأجرة من تركه المؤجر إذا كان قبضها وإن لم يكن قبضها فعلى المستأجر وعلى الوجه الثاني يرجع المستأجر على ورثة المؤجر القابض قال الشيخ تقي الدين والذي يتوجه أنه لا يجوز تسليف الأجرة للموقوف عليه لأنه لا يستحق المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها فالتسليف لهم قبض مالا يستحقونه بخلاف المالك وعلى هذا فللبطن الثاني أن يطالبوا المستأجر بالأجرة لأنه لم يكن له التسليف ولهم أن يطالبوا الناظر انتهى كلام صاحب الانصاف وفيه بعض تلخيص والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما إذا حكم حاكم ممن يجوز له الحكم لكونه أهلاً لذلك في هذا في العقد المختلف فيه ونحوه فإنه لا يجوز له نقضه والله أعلم. (المسألة الرابعة عشرة) لو خلع زوجته على نفقة ولده منها وشرطت إن مات فلا رجوع له هل يصبح الخلع والشرط أو يفسد. (فالجواب) وبالله التوفيق أن الذي يظهر من كلام الأصحاب أن مثل هذا الشرط يصح لأنهم صححوا الخلع على المجهول كحمل أمتها وما تحمل شجرتها وعلى ما في يدها وهو لا يظهر وأشباه هذا قال في الانصاف إذا خلعها على ما في يدها من الدراهم أو ما في بيتها من المتاع فله ما فيهما فإن لم يكن فيهما شيء فله ثلاثة دراهم وأقل ما يسمى متاعاً قال وظاهر كلامه إن كان في يدها شيء من الدراهم فهي له لا يستحق غيرها ولو كان دون ثلاثة دراهم وهو صحيح وهو المذهب وقيل يستحق ثلاثة دراهم كاملة قال وإن خالعها على حمل أمتها أو ما تحمل شجرتها فله ذلك فإن لم تحملا فقال أحمد ترضيه بشيء وهو المذهب قال القاضي لا شيء له وتأول كلام أحمد ترضيه بشيء على الاستحباب انتهى كلامه فدل على صحة الخلع على المجهول وهذه الصورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 المسئول عنها غايتها أن يكون بعضها مجهولاً وقد ذكروا أنه لا يجوز لها أن تخالعه على رضاع ولده عامين قالوا فأن مات رجع بأجرة الباقي ومرادهم بذلك إذا لم تشترط أنه لا يرجع عليها إذا مات والله سبحانه وتعالى أعلم. (المسألة الخامسة عشرة) رجل وقف وقفاً على اللاعي وهو الذي يسأل في المساجد أو عند أبواب المساجد ومات الموقف ثم بعد زمان طويل قام ابن الموقف وقال لنا قرابة ضعفا ويزعم أن مفت أفتاه بأنه أحق به والوقف معين على مسجد الجامع من تكلم فيه من فقير غريب أو غيره. (فالجواب) أن المشهور عند أكثر الفقهاء من الحنابلة وغيرهم أن مثل هذا لا يجوز صرفه إلى غير من ذكر الواقف إذا كان ذلك في جهة بر وقال الشيخ تقي الدين يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه باختلاف الزمان كما لو وقف ذلك على الفقهاء والصوفية فأحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند قال في الانصاف يتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة له على الصحيح من المذهب ونقله الجماعة وقطع به أكثرهم وعليه الأصحاب ثم ذكر كلام الشيخ المتقدم والله أعلم. (المسألة السادسة عشرة) قول منصور في خيار المجلس بوكالة أو ولاية في بعض أفرادها مع ما في المغني من ذلك. (فالجواب) أن مراده بذلك أن الذي يتولى طرفي العقد لا يثبت له خيار المجلس لأنه هو البائع المشتري كالوكيل على بيع سلعة وشراها أو الولي إذا باع ما ولي عليه فأشتراه من نفسه لنفسه لأنه يتولى في ذلك طرفي العقد وعبارة منصور في شرح المنتهى ويثبت في بيع غير كتابة فلا خيار فيها تراد للعتق وغير تولي طرفي عقد في بيع بأن انفرد بالبيع واحد لولاية أو وكالة فلا خيار له كالشفيع وغير شراء منه يعتق عليه كرحمه المحرم لعتقه بمجرد انتقال الملك إليه في العقد أشبه ما لو مات قبل التفرق قال المنقح ويعترف بحريته قبل الشراء لأنه استقاذ لا يشري حقيقته لاعترافه بحريته ثم ذكر الصور التي تكون بمعنى البيع ويثبت فيها خيار كالصلح الذي بمعنى البيع وكقسمة وهبة بمعنى البيع وإجارة وما قبضه شرط لصحته كصرف وسلم وربوي بجنسه والله سبحانه وتعالى أعلم. (المسألة السابعة عشرة) الماء المتنجس بالتغيير وهو كثير إذا حوض وترك حتى صفي هل يطهر أم لا قياساً على الخمرة إذا انقلبت لقصد التخليل؟ (الجواب) أن الذي ذكره الفقهاء أن الماء المتنجس بالنجاسة سواء تغير طعمه أو لونه أو ريحه فإنه لا يطهر حتى يزول التغير بنزحه أو مكاثرته بالماء أو بزوال تغيره بنفسه إذا كان كثيراً والكثير عند الحنابلة وغيرهم ما كان قلتين فأكثر. وأما التراب فالمشهور عندهم أنه لا يطهره لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره أولى قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 في الفروع وقيل بلى وأطلق في الإيضاح روايتين وللشافعي قولان فعلى هذا إذا زال عنه أثر النجاسة بالكلية ولم يبق فيه لون ولا طعم ولا ريح فإنه يطهر بزوال النجاسة منه كالخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا وكذلك النجاسة إذا استحالت والله سبحانه وتعالى أعلم. (المسألة الثامنة عشرة) مسبوق ائتم بمثله حالة دخولهما مع الإمام وأنه يأتم أحدهما لصاحبه بعد المفارقة أو تكفي بعد السلام لأنه وقت ائتمامه به؟ فالجواب أن هذه المسألة فيها وجهان لأصحاب أحمد وبعضهم حكى فيها روايتين قال في الانصاف وإن سبق اثنان ببعض الصلاة فأتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما فعلى وجهين وحكى بعضهم في الخلاف روايتين منهم ابن تميم أحدهما يجوز ذلك وهو المذهب قال المصنف والشارح وصاحب الفروع وغيرهم لما حكوا الخلاف: هذا بناء على الاستخلاف وتقدم جواز الاستخلاف على الصحيح من المذهب وجزم بالجواز هنا في الوجيز والافادات والمنور وغيرهم وصححه في التصحيح والنظم (والوجه الثاني) لا يجوز قال المجد في شرحه هذا منصوص أحمد في رواية صالح وعنه لا يجوز هنا وإلا جوزنا الاستخلاف اختاره المجد في شرحه وفرق بينهما وبين مسألة الاستخلاف من وجهين انتهى وفيه بعض تلخيص والذي يترجح عندنا هو الوجه الأول سواء نويا ذلك في حال دخولهما مع الإمام والله سبحانه وتعالى أعلم. (المسألة التاسعة عشرة) لو تصاف اثنان ثم أتى ثالث ثم ذكر أحدهما أنه كان محدثاً وانصرف هل تصح صلاة الأول والثاني أم لا تصح صلاة الثلاثة؟ (فالجواب) أن ظاهر كلام أصحاب أحمد أن مثل هذا تصح صلاته لأنه حال المصادفة قد جهل حدثه وقد مضوا على أنه إذا لم يعلم حدثه حال المصادفة وجهله مصافه أيضاً أنه لا يكون فذا قال في الانصاف عند قول المصنف: ومن لم يقف معه إلا كافر أو امرأة أو محدث يعلم حدثه فهو فذ. قال (تنبيه) مفهوم كلام المصنف أنه إذا لم يعلم حدثه بل جهله وجهله مصافه أيضاً أنه لا يكون فذا وهو صحيح وهو المذهب نص عليه وجزم به في الفائق والشرح وقدمه في الفروع وقال القاضي وغيره حكمه حكم جهل المأموم حدث الإمام على ما سبق والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الرسالة الثالثة عشرة وهذه مسائل أخر سئل عنها الشيخ الإمام أحمد بن ناصر رحمه الله (المسألة الأولى) إذا التقى فئتان من المسلمين ووقع بينهما قتال وقتل من إحدى الطائفتين رجل وعلم قاتله بعينه ورضوا بالدية فهل تكون الدية على القاتل أم على أم على جميع الطائفة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فنقول وبالله التوفيق إذا اقتتلت طائفتان لعصبيه أو رياسة ونحو ذلك فهما ظالمتان وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى صرح بذلك في الشرح الكبير والانصاف والإقناع والشيخ تقي الدين في السياسة الشرعية قال في الانصاف بعد قوله "وتضمن كل واحدة ما أتلفته على الأخرى" وهذا بلا خلاف أعلمه: لكن قال الشيخ تقي الدين أن جهل قدر ما تهبه كل طائفة تساقطا كمن جهل الحرام من ماله أخرج نصفه والباقي له. وقال أيضاً أوجب الأصحاب الضمان على مجموع الطائفة وإن لم يعلم عين المتلف قال في الإقناع وشرحه فلو دخل بينهم بصلح وجهل قاتله ضمناه وإن علم قاتله من طائفة وجهل عينه ضمنته وحدها قال ابن عقيل ويفارق المقتول في زحام الجامع والطواف أن الزحام والطواف ليس فيه تعلا بخلاف الأول انتهى. قال مالك في الموطأ في جماعة اقتتلوا فأنكشفوا وبينهم قتيل أو جريح لا يدري من فعل ذلك به إن أحسن ما سمعه في ذلك العقل وإن عقله على القوم الذين نازعوه وإن كان القتيل أو الجريح من غير الفريقين فعقله على الفريقين جميعاً انتهى. وقال في الشرح الكبير إذا اقتتلت الفئتان فتفرقوا عن قتيل من أحدهما فاللوث على عاقلة القتيل وهذا قول الشافعي وروي عن أحمد أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه وهذا قول مالك وقال ابن أبي ليلى عقله على الفريقين جميعاً لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه وعن أحمد في قوم اقتتلوا فقتل بعضهم وجرح بعض فدية المقتولين على المجروحين تسقط منها دية الجراح انتهى. وقال في الانصاف بعدما ذكر نص أحمد هذا: قال الإمام أحمد قضى به علي. وحمله على من ليس به جرح من دية القتلى شيء فيه وجهان قال ابن حامد قلت الصواب على أنهم يشاركونهم في الدية انتهى. فهذا كلام الفقهاء فيما إذا جهل عين القاتل وأما إذا علم القاتل ففيه تعلق الحكم به فإن كان القتل عمداً فأولياؤه يخيرون إن شاءوا اقتصوا أو إن شاءوا أخذوا الدية فإن قبلوا الدية فهو من مال القاتل دون العاقلة ولا شيء على الطائفة التي هو منها إلا أن يكونوا قطاع الطريق لأنهم ردؤهم ومباشرهم سواء وكذا إن تواطؤا على قتله فقتله بعضهم وإعانة الأخرون كالممسك مع القاتل عند مالك وهو إحدى الروايتين عن أحمد فتكون الدية على المباشر والمعين لأنهم سواء عند الجمهور ذكره الشيخ تقي الدين. (والمسألة الثانية) إذا ادعى على رجل أنه قتل رجلاً فأقر بالقتل ولكن ادعى أنه قتله خطأ فهل يقبل قوله أم لا؟ فنقول إذا لم يكن للمدعي بينة وعلم القتل وصار ثبوت القتل بإقرار المدعي عليه سئل المدعي عليه عن صفة القتل فإن كان عمد الفعل بما يقتل غالباً على تفصيل الفقهاء في أول كتاب الجنايات فهذا لا يقبل قوله في دعوى الخطأ لأنه أقر أنه ضربه بما يقتل غالباً وإن أنكر يكون تعمد الفعل بل زعم أنه خطأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 محض وفسره بذلك فالقول قوله ولا قصاص عليه لان من شرطه أن يكون القتل عمداً محضاً والأصل عدم ذلك وعلى هذا فتكون الدية في ماله دون عاقلته. (والمسألة الثالثة) إذا اقتتلت طائفتان وادعت إحداهما بالتعدي من الأخرى وجاءوا بالشهود وادعى المشهود عليهم بأن الشهود من الطائفة المقاتلة لهم فهل ترد شهادتهم بذلك؟ فنقول ينظر في حال الشهود فان كانوا عدولا وادعوا أنهم لم يحضروا القتال ولم يدخلوا معهم وعلم صدقهم بقرائن الحال ترد شهادتهم بمجرد دعوى الخصوم لأن الخصم إذا جرح الشاهد العدل لا يقبل قوله فيه إلا ببينة. وأما إذا كان الشهود لا يعرفون بالعدالة أو كانت القرائن تدل على أنهم حاضرون معهم وأنهم من جملتهم لم يقبلوا ولم تسمع شهادتهم. ومن صور المسألة ما جرى بين الوداعين وأهل ميراث فان الوداعين زعموا أن معهم البينة على أنهم لم يبدؤ بقتال وانما قتلوا دفعاً على أنفسهم فلما سألنا عن شهودهم إذا هم من جملتهم الذين غزوا فقلنا لهم هؤلاء من جملتكم وعليهم من الدية بقدر نصبيهم منها ولا تقبل شهادتهم بأنهم يدفعون بها عن أنفسهم والمسألة واضحة في كلام العلماء لا تحتاج إلى نقل عبارات الفقهاء والله أعلم. (والمسألة الرابعة) إذا أرضعت امرأة مطلقة ولدها ولم يجر بينهما وبين الأب مشارطة على الرضاع ولكنها نوت الرجوع عليه وأشهدت على أنها محتسبة عليه فهل لها ذلك أم لا يثبت لها أجرة إلا بالمشارطة بينهما وبين الأب؟ فنقول قد ذكر الفقهاء أن الأم أحق برضاع ولدها إذا طلبت ذلك بأجرة مثلها ولكن اختلفوا هل لها ذلك إذا كانت في حبال الزوج أم لا؟ وأما إذا كانت مطلقة فهي أحق برضاعه وأن طلبت أجرة مثلها ولو مع وجود متبرعة غيرها واستدل صاحب الشرح بقوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} فقدمهن على غيرهن وقال {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وأما الدليل على وجوب تقديم الأم إذا طلبت أجرة مثلها فما ذكرنا من الآيتين، ولأن الأم أحنى وأشفق ولبنها أمرأ من لبن غيرها فكانت أحق به من غيرها، كما لو طلبت الأجنبية إرضاعه بأجرة مثلها ولأن في إرضاع غيرها تفويتا لحق من الحضانة وإضراراً بالولد ولا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب والإضرار بالولد لغرض إسقاط حق أوجبه الله على الأب انتهى. فإذا عرفت أنها أحق بإرضاعه بأجرة المثل ولو وجد الأب متبرعة تبين لك أن لها الرجوع بالأجرة على الأب إذا نوت ذلك وأشهدت عليه وان لم تشارط الأب لأن غاية ما يقال لعل الأب يجد متبرعة أو يجد من يرضعه بدون أجرة المثل فيقال في جواب ذلك الأم أحق به ولو حصل من يتبرع برضاعه فحينئذ لا تأثير لكونها تشارط أو لا تشارط لأنها متى أرضعته وطلبت أجرة مثلها لزم الأب ذلك إلا أن تكون أرضعته متبرعة برضاع ابنها ولو تنوي الرجوع على الأب فلا شيء لها والله أعلم. (المسألة الخامسة) هل منيحة الناقة ونحوها كالعاربة والقول فيهما سواء؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فيقال المنيحة عارية لأنه قبضها للانتفاع بلبنها فهو قابض بحظ نفسه وللمعير الرجوع في العارية متى شاء فان تلفت عند المستعير فهل هي مضمونة بكل حال كما هو المشهور عن أحمد والشافعي أم لا تضمن مطلقاً كما هو المشهور عن مالك وأبي حنيفة وهو اختيار ابن القيم في الهدي أم لا تضمن إلا أن يشترط ضمانها كما هو اختيار الشيخ ولا يخفي الراجح عند التأمل وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. وقع ذلك سنة 1225هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 رسائل وفتاوى الشيخ حمد بن ناصر بن معمر الرسالة الأولى ... (رسائل وفتاوي الشيخ حمد بن ناصر بن معمر) بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (الأولى) ما قول العلماء رضي الله عنهم فيمن صلى خلف الإمام؟ وما حكمه؟ (الجواب وبالله التوفيق) السنة أن يقوم المأمومون خلف الإمام فإن كان واحداً صلى عن يمينه، فإن كان معهم امرأة قامت خلفهم، فإن وقف المأموم قدام الإمام لم تصح صلاته، وإن وقف الرجل خلف الصف أو خلف الإمام لم تصح صلاته. (الثانية) هل تصح صلاة من أخل بأعراب الفاتحة أم لا؟ (الجواب وبالله التوفيق) هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد (إحداهما) لا تفسد ملحون فيها لحنا يحيل المعنى نحو أن يقول (أنعمت) برفع التاء فإن فعل لم يعتد بقراءته إلا أن يكون عاجزاً، وهذا مذهب الشافعي فإن كان لحن فيها يحيل المعنى نحو أن يكسر النون لم تبطل صلاته. (الثالثة) إذا صلى من في بدنه أو ثوبه نجاسة لنسيها أو لم يعلم بها إلا بعد انقضاء صلاته هل يعيدها أم لا؟ (الجواب وبالله التوفيق) هذه المسئلة فيها روايتان عن أحمد (إحداهما) لا تفسد صلاته وهو قول ابن عمر وعطاء لحديث النعلين، وفيه "يصلي بأصحابه إذا خلع نعليه –إلى أن قال- إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما أذى" رواه أبو داود، ولو بطلت لاستأنفها (والثانية) يعيد وهو مذهب الشافعي فإن علم بها في أثناء الصلاة وأمكنه إزالتها من غير عمل كثير كخلع النعال والعمامة ونحوها أزالها وبنى على ما مضى من صلاته وإلا بطلت. (الرابعة) إذا صلى الإمام محدثاً جاهلاً هو والمأمومون حتى سلموا ما حكم صلاتهم؟ (الجواب وبالله التوفيق) صلاتهم صحيحة دون الإمام فإنه يعيد روي عن عمر وعثمان وعلي ومالك والشافعي وإن علمه في الصلاة بطلت وأعادها. (الخامسة) إذا كان في أعضاء الوضوء نجاسة أو في بدن الجنب نجاسة فزالت بغسل من نوى غسل الجنابة ولم ينو إزالتها هل تزول أم لابد من النية؟ (الجواب) غسل النجاسة لا يفتقر إلى النية بل متى زالت النجاسة بالماء طهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 المحل لأنها من باب التروك بخلاف الأوامر فإنها تفتقر إلى النية لقوله عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" الحديث ولكن عليه أن يزيل النجاسة عن أعضائه وعن بدنه قبل الغسل. (السادسة) إذا توضأ الإنسان لمشروع كالنافلة وصلاة الجنازة لم ينو به الفرض هل يصلي به الفرض أم لا؟ (الجواب) يصلي به ما شاء فرضاً أو نفلاً، قال في الشرح الكبير ولا بأس أن يصلي الصلوات بالوضوء الواحد. لا نعلم فيه خالفاً. (السابعة) إذا دخل الوقت على عادم الماء وهو يرجو أن يصلي في آخر الوقت هل يصلي بالتيمم في أول الوقت أو يؤخر الصلاة حتى يأتي الماء؟ (الجواب) قال في الشرح: يستحب تأخير التيمم لآخر الوقت كمن يرجو وجود الماء. روي ذلك عن علي وعطاء والحسن وأصحاب الرأي وقال الشافعي في أحد قوليه التقديم أفضل. انتهى. (الثامنة) إذا طلقت المرأة وهي ترضع ولم يأتها الحيض بسبب الرضاع ما عدتها؟ (الجواب) هي في عدة حتى يأتيها الحيض فتعتد به ثلاث حيض أو تصير آيسة فتعتد بثلاثة أشهر. (التاسعة) إذا ادعت المرأة أنها اعتدت بعد الطلاق في وقت تمكن العدة فيه هل تصدق أم لا؟ وإذا شهدت امرأة أو امرأتان أنها اعتدت بالحيض أتقبل شهادتهن في ذلك لعدم إطلاع الرجل أم لا؟ (الجواب) تصدق لقوله تعالى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية وإذا شهدت امرأة عدلة أنها حاضت ثلاث حيض وهو ممكن قبلت والأحوط شهادة المرأتين. (العاشرة) هل وجه الأمة المملوكة عورة فيلزمها الخمار كالحرة أم لا؟ (الجواب) لا يلزمها لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى الإماء عن التقنع فاشتهر ولم ينكر فكان إجماعاً لكن إن كانت المرأة جميلة يخشى بها الفتنة فلا يجوز النظر إليها بشهوة، وأما الحرة فلا يجوز كشف وجهها في غير الصلاة بغير خلاف، والأمة إذا اعتقت فهي حرة. (الحادية عشرة) ما حكم الكلام عند الأذان والإقامة وتلاوة القرآن والكلام عند الجماع؟ (الجواب) قال في الشرح: يستحب لمن سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذن إلا في الحيعلة فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وهذا مستحب لا نعلم فيه خلافاً، ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمد الوسيلة والفضيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته. رواه البخاري. وقال بعض العلماء كذلك عند الإقامة. وأما الكلام عند تلاوة القرآن فقال النووي في كتابه (التبيان) ويتأكد الأمر باحترام القرآن من أمور (فمنها) اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القرآن إلا كلام يضطر إليه ويتمثل لأمر الله، قال تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي اسكتوا، وعن عمر أنه كان إذا قرأ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ مما أراد أن يقرأه. انتهى وأما الكلام حال الجماع فيكره كثرة الكلام حال الوطء قيل أنه يكون منه الخرس والفأفاء. (الثانية عشرة) هل ينادي الشخص والديه بأسمائهم أو قرابته أو هو من العقوق؟ (الجواب) قال في (كتاب الأذكار) باب نهي الولد والمتعلم والتلميذ أن ينادي أباه أو معلمه أو شيخه باسمه. روينا في كتاب ابن السني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معه غلام فقال: "ياغلام من هذا؟ " قال أبي. قال "لا تمش أمامه ولاتستبر له ولا تجلس قبله ولا تدعه باسمه" (قلت) معنى (لا تستبر له) أي الا تفعل فعلاً تتعرض فيه لأن يسبك زجراً وتأديباً على فعلك القبيح، وروينا فيه عن عبد الله بن زحر قال: كان يقال من العقوق أن تدعو أباك باسمه وأن تمشي أمامه في الطريق. انتهى. وأما القرابة غير الوالدين فلا أعلم بندائهم بأسمائهم بأساً. (الثالثة عشرة) هل يجوز التفرقة بين المملوكة وولدها في البيع أم لا؟ (الجواب) لا يجوز التفريق بين ذوي رحم محرم قبل البلوغ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" حديث حسن. (الرابعة عشرة) هل يفتقر غسل النجاسة إلى عدد أم لا؟ (الجواب) أما نجاسة الكلب والخنزير وما تولد منهما إذا أصابت غير الأرض فيجب غسله سبعاً إحداهن بالتراب سواء من ولوغه أو غيره لأنهما نجسان وما تولد منهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً" متفق عليه ولمسلم أولاهن بالتراب، وأما النجاسة على الأرض فيطهرها أن يغمرها في الماء ويذهب عينها ولونها لقوله صلى الله عليه وسلم: "صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء" متفق عليه وأما باقي النجاسات ففيه عن أحمد ثلاث روايات (الأولى) تغسل سبعاً (والثانية) ثلاثاً (والثالثة) تكاثر بالماء حتى تذهب عينها ولونها من غير عدد لقوله صلى الله عليه وسلم: "اغسليه بالماء" ولم يذكر عدداً وهو مذهب الشافعي واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو المفتى به عندنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 (الخامسة عشرة) إذا تكلم المصلي في نفس الصلاة أو تنحنح هل تبطل صلاته أم لا؟ (الجواب) إن تكلم فيها عمداً لغير إصلاح بطلت بالإجماع وإن تكلم ناسياً أو جاهلاً بتحريمه لم تبطل في إحدى الروايتين عن أحمد وهو مذهب الشافعي لحديث معاوية بن حكيم حيث تكلم في صلاته ولم يأمره بالإعادة وكذلك إن تنحنح لم تبطل وقيل إن بان حرفان بطلت. (السادسة عشرة) هل يحل عرض أحد من المسلمين أم لا؟ (الجواب) الغيبة محرمة بالإجماع وهي ذكرك أخاك بما يكرهه لو كان حاضراً ويباح منها ستة أسباب (الأول) التظلم فيجوز للمظلوم أن يقول لمن له قدرة فلان ظلمني أو فعل بي كذا ونحو ذلك. (الثاني) الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر فلان يعمل كذا فأزجره عنه. (الثالث) الاستفتاء بأن يقول للمفتي ظلمني أبي أو أخي أو فلان بكذا ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة. (الرابع) تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم (فمنها) جرح المجروحين من الرواة والشهود (ومنها) إذا تشارك إنسان في مصاهرة أو معاملة ونحو ذلك فيجب عليك أن تذكر له ما تعلم منه على وجه النصيحة (ومنها) إذا رأيت من يشتري سلعة معيبة فعليك أن تبين للمشتري وهذا على كل من علم بالعيب وجب عليه تبيانه. (الخامس) أن يكون مجاهراً بالفسق أو ببدعة كالمجاهرة بشرب الخمر وخيانة الأموال ظلماً وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوزه سبب آخر. (السادس) التعريف إذا كان الإنسان معروفاً بلقب كالأعرج والأعمى ونحوهما جاز تعريفه بذلك بنية التعريف لا التلقيب. فهذه الستة ذكرها العلماء مما تباح بها الغيبة ودلائلك مشهور في الأحاديث. تمت فرحم الله من نظر فيها وأصلح خلل ألفاظها ومعانيها بعد التحقق فإن الإنسان لا يعصم من الخطأ والنسيان، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الرسالة الثانية ... بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الإخوان جمعان ومرزوق حفظهما الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد وصل الخط أوصلكما الله إلى رضوانه والمسائل وصلت لكن إحدى الورقتين ضاعت قبل النظر فيها والجواب عنها، وهذا جواب الموجودة. (المسألة الأولى) في الخلية والبرية والبائن في الكنايات في الطلاق هل تقع ثلاثاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أم واحدة، فهذه المسألة اختلف الفقهاء فيها، وأكثر الروايات عن أحمد كراهة الفتيا في هذه الكنايات الظاهرة مع ميله إلى أنها ثلاث وحكى ابن أبي موسى عنه روايتين (إحداهما) أنها ثلاث (والثانية) يرجع إلى ما نواه، وهو مذهب الشافعي قال يرجع إلى ما نوى فإن لم ينو شيئاً وقعت واحدة واحتج بحديث بن عبد يزيد، وقال الثوري وأصحاب الرأي إن نوى ثلاثاً فثلاث، وإن نوى اثنتين أو واحدة وقعت واحدة ولا تقع اثنتين. وقال ربيعة ومالك يقع بها الثلاث، وإن لم ينو إلا في خلعه أو قبل الدخول فإنها تطلق واحدة لأنها تقتضي البينونة وهي تحصل في الخلع وقبل الدخول بالواحدة وفي غيرهما تقع الثلاث فهذه مذاهب الأئمة في هذه المسألة والله أعلم. (وأما المسألة الثانية) إذا ملك الزوج امرأته أمرها بأن قال لها أمرك بيدك فالمشهور أن القضاء ما قضت فإن طلقت نفسها ثلاثاً وقع، وإن نوى أقل منها يروى ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والزهري، وروي عن عمر وابن مسعود أنها طلقة واحدة، وبه قال عطاء ومجاهد والقاسم وربيعة ومالك والشافعي. قال الشافعي القول قوله في نيته، وعن أحمد ما يدل على ذلك وأنه إذا نوى واحدة فهي واحدة. (المسألة الثالثة) أنت علي كظهر أمي أعني به الطلاق فهذا لفظ الظهار لا يكون طلاقاً، ولو نوى به الطلاق أو صرح به ويكون عليه كفارة ظهار. (المسألة الرابعة) هل العارية مضمونة وإن لم يشترط المعير الضمان فالمسألة فيها خلاف المشهور1. على الظن أنها لم تقع وكثير منها عبارات تنقل من بعض الكتب، ويحملنا هذا على التغافل عن الجواب، وترى ودي أنكم ما تسألون إلا عن الواقع، وأيضاً لا تكثروا عدد المسائل فإن الطول يمل ولا يأتيكم على المسائل الكثيرة جواب يشفي، فإذا قلت المسائل وصارت من المسائل الواقعة فهو أحرى بسرعة الجواب وبسطه بدليله وتعليله وأنتم في حفظ الله وأمانة والسلام. وبقيت مسألة وهي هل يعتبر في البينات كثرة العدد واشتهار العدالة أم لا؟ قال في المغني ولا ترجح إحدى البينتين بكثرة العدد ولا اشتهار العدالة وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، ويتخرج أن ترجح وهو قول مالك لأن الشهادة إنما اعتبرت لغلبة الظن بالمشهود به، وإذا كثر العدد أو قويت العدالة كان الظن أقوى. ولنا أن الشهادة مقدرة في الشرع فلا تختلف بالزيادة كالدية فصار الحكم متعلقاً بها دون اعتبار الظن، ألا ترى أنه لو شهد النساء منفردات لا تقبل شهادتهن وإن كثرن حتى صار الظن بشهادتهن أغلب من شهادة الذكرين، وعلى هذا لا يرجح شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين في المال لأن كل واحدة من البينتين حجة في المال   1 هنا بياض في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فإذا اجتمعا تعارضا، فأما إن كان لأحدهما شاهدان وللأخر شاهد فبذل يمينه معه ففيه وجهان (أحدهما) يتعارضان (والثاني) يقدم الشاهدان لأنهما حجة متفق عليها والشاهد واليمين مختلف فيها. وهذا الوجه أصح إن شاء الله تعالى. انتهى كلامه رحمه الله والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الرسالة الثالثة ... بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان حفظه الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه، وأما ما ذكرت من المسائل فمن جهة تقدير نصاب الذهب في الزكاة فالنصاب عشرون مثقالاً وحررناه تقريباً سبعة وعشرين زرا بزرور الناس العابرة بينهم اليوم، ونصاب الفضة مائتاً درهم وحررناها أحداً وعشرين ريالاً من ريالات الناس التي يتعاملون بها اليوم وهي من الجدد قدر مائة جديدة تزيد قدر خمس جدد، فإذا صار عند المسلم من هذا ما ذكرنا زكاه إذا حال عليه الحول، ونصاب العيش قدر مائتين وستين بصاع العارض، وما سألت عنه من صفة الخل فيذكر أهل العلم أنه يعمل من التمر أو العنب أو غيرهما، ويطرح فيه ملح أو شيء حامض حتى لا يتخمر ويذكرون أن هذا صفة الخل المباح وعندنا ناس يعملونه على ما ذكرنا لك. وأما علامة القطنية فإذا غطيت بخرقة قطن أو صوف وخيطت عليها من داخل العبات ومن ظاهرها فلا بأس لأنها تصير حشوا، وما ذكرت من جهة الذي يفوته ركعتان من المغرب فهو إذا قام يقضي صلى ركعة وجلس وتشهد ثم قام وصلى الركعة الثالثة. هذا هو الذي عليه العمل والله أعلم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ماتقول السادة العلماء الجهابذة الحكماء ورثة الأنبياء الأواخر والقدماء، في مسائل سأل السائل عنها وطلب ذلك من أهله من الباذلين له فضلاً وتكرماً لا زالوا بعون الله مسددين بالقول والفعل ومغفور لهم ما اجترحوه من الكبائر على الإطلاق واللمم، وقذف في قلوبهم من النور الساطع المذهب عنها الظلم والظلمة والعمي وصلى الله على أشرف الخلق مطلقاً عرباً وعجماً، وعلى آله وصحبه ما قهقه سحاب ومطر وحياهم بأكرم التحيات وسلم فنقول: (الأولى) إذا زوج ولي أو نحوه موليته وهو معلن بالظلم في مال الناس وغيره أو الشاهدان وتاب من وجد ذلك فيه في مجلس العقد ولا نعلم ما في حقيقة قلبه، لكن الظاهر منه طلبه صحة ذلك العقد، والحاصل من ذلك أن مظلمته التي عنده أو عليه لا يمكن ردها في ذلك المجلس فهل إذا كانت الحالة على هذه الصفة يثبت النكاح معها أم لا؟ (الثانية) إذا كنت ببادية أو نحوها واحتجت لمن أشهده على عقد فالتمست عدلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فلم أجده فهل إذا اخترت ممن أجد في نفسي ولو غير عدل لتعذر غيره تكون شهادته مقبولة شرعاً أم لا؟ (الثالثة) إذا اشتريت خشب أثل ونحوه وهو قائم على أصله وشرطت على البائع إبقاءه في أرضه أو أطلقت فلم اشترط لكن أبقيته فلم أقطعه حتى زاد فهل العقد والشرط صحيحان أم باطلان أم الشرط فقط؟ (الرابعة) إذا أوصى بشيء نحو حجة في ماله فباع الوصي المال أو الوارث التركة ولم تنفذ الوصية وتعذر الرجوع على البائع لأفلاسه أو نحوه فهل تتعين الوصية في التركة التي وقع عليها عقد البيع كالدين فتلزم المشتري أم تبطل الوصية؟ (الخامسة) إذا رهن إنسان عند إنسان رهناً وقال أنا مقبضك هذا في دينك فقبضه ولم يزد في الإيجاب على هذه الكلمة فهل إذا وقع الإيجاب على هذا المنوال يثبت عقد الرهن أم يلغى؟ (السادسة) إذا كان رجل موصى على يتيم أو نحوه وليس للموصى مسكن يسكن فيه ولليتيم بيت وسكنه الموصى بزوجته مع اليتيم وليس بفقير فهل حكم سكناه هذه كسكنى الغاصب في الإثم وامتناع صحة الصلاة منه ومن نحو زوجته أم لا؟ (السابعة) ليف النخل الموقوف ومزقه وجماره وخشبه وسعفه ونحو ذلك هل هو نماء فيستحقه مستحق النماء أم لا؟ (الثامنة) هل يسوغ التقليد في نحو عقد واحد أو صلاة واحدة أو في مسألتين لنحو إمامين كالشافعي وغيره في نحو أكل لحم الجزور وأبي حنيفة في نحو مس الذكر أم لا؟ (التاسعة) إذا قتل إنسان إنساناً ووجبت عليه الدية وكانت محددة في اصطلاح الناس حينئذ وليست بدية الشرع الذي حده الشارع فهل إذا سلمها القاتل أو وارثه من بعده تامة والورثة أي ورثة المقتول فيهم نساء وضعفاء وفيهم عكسهم، فهل إذا فضل العكس بزيادة لخوف منه أو غير ذلك لكن هو من سبب القتل هل يشترك معه الباقون أم يختص به دونهم؟ (العاشرة) إذا بعت لرجل حديقة بمغنمها ومغرمها بجميع حدودها وحقوقها ولها مسيل أو نحوه وحصل في ذلك المسيل نحو رمل ليس بسبب أحد لكن بسبب السيل والرياح ونحوهما وربما أنه أو بعضه حصل على هذا السبب أيام ملكي لكن بغير فعلي فهل إذا كان على هذا المنوال وأراد هو أي المشتري أو بعض شركائه إصلاح المسيل أو نحوه بأزالة رمل أو غيره، وطلب من البائع بعض الغرم أو جميعه لكون الرمل أو بعضه حصل أيام ملكه فهل يمكن من ذلك شرعاً أم لا لأن ذلك حصل بغير فعل أحد فيكون حكم ذلك حكم أجزاء الأرض والأحجار التي فيها ولكونه مالكاً أي المشتري حال نفعها فلزمه الغرم في مقابلة الغنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 (الحادية عشرة) إذا ساقى إنسان إنساناً على نخل بجزء من ثمره بعدد أدوار معلومة وجذت الثمرة قبل كمال الأدوار فهل الخيرة في قيمة ما بقي من الأدوار إلى المالك فإن شاء أخذ قيمتها من الثمرة أو زادهم أو غير ذلك من سقيه له بعد الجذاذ وغير ذلك أم هي إلى العامل أم كيف الحكم؟ (الثانية عشرة) إذا شهد شاهد أو تصرف ولي فيما تعتبر العدالة فيه أي فيما صدر منهما ثم حصل مشاجرة فأوجب الشرع لصحة الشهادة وتصرف الولي العدالة فيهما فهل يقبل على الخصم جرحهما أنهما حين صدور الشهادة والتصرف منهما ليسا بعدلين أم لا يقبل جرحهما أنفسهما على الخصم المشهود له والمتصرف له إذا لحق ثبت له أولا بسببهما فلا يملكان إبطاله أيضاً أم كيف الحكم؟ (الثالثة عشرة) إذا كان ثم أرض موقوفة على معين واستحق إنسان ريعها في بعض الأزمنة فغارس المستحق للريع ذلك ونظره آخر بجزء من الغراس كنصفه أو ثلثه على حساب ما يتفقان عليه ثم بعدما غرس العامل وثبت الغراس باع ذلك المغارس نصيب الأرض أي الجزء المشروط أو غيره من المستحقين فهل هذا البيع سائغ شرعاً أم لا؟ وهل إذا ساغ ثم حدث مستحق آخر يستحق الريع هل له على المشتري شيء سوى الأجرة وهل حكم من حدث من أهل الوقف في جواز بيع ذلك الجزء المشروط لهم وعدمه لأحد أم لا؟ (الرابعة عشرة) إذا ساقيت رجلاً على حديقة لي فنضب ماء بئره ولا يمكن سقيه إلا من بئر آخر فكيف الحكم في ذلك؟ (الخامسة عشرة) إذا كان لي مال من الأموال الزكوية مطلقاً ويتبعني تنضيضه بالحساب أو تقويمه أو خرصه، فهل إذا استضررت واحتطت وأخرجت الفرض بيقين يكفي ذلك أم لا بد من تحرير الحساب في التقويم والخرص؟ (السادسة عشرة) إذا كان ثم مزبلة قد ملئت من الزبالة وتعذر معرفة أربابها وربما ان ضررها تعدى على جيرانها، فهل يسوغ لرؤساء البلد إجارتها وصرف تلك الأجرة على المصالح العامة كالمؤذن والمدرس ونحوهما أم لا؟ (السابعة عشرة) إذا أوصى إنسان آخر على أولاده يقوم بأمرهم ويحفظ مالهم حتى يرشدوا وأوصى الموصي للوصي بنحو غلة عقاره إلى أن يرشد الأولاد، ثم بعد ما يرشدون لا شيء له لأن تلك الوصية في مقابلة قيامه بأمرهم وحفظ المال وغير ذلك، فهل إذا أرشد أحد منهم وطلب حصته من جميع غلة عقاره وقال للوصي إن والدي لم يوص لك بذلك إلا في مقابلة عملك فيريد من أرشد منا وسقط عمله هو وماله عنك يسقط لك من الجزء المشروط بقدره. مثال ذلك: إذا كان للموصي ثلاثة بنين وأوصى للوصي بربع ماله فصح له ثلاثة من اثني عشر لكل ابن ثلاثة فلما أرشد منهم واحد قال أريد سهما من الثلاثة التي في يدك لأن عملك علي وعلى مالي قد سقط والثاني كذلك فهل ذلك لهم أم يستحقه الموصي إليه حتى يرشد آخرهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 (الثامنة عشرة) إذا قال رجل لزوجته أنت شيخة روحك فقالت هو طلاقي ثلاثاً هكذا، فهل تبين في ذلك أم لا يقع إلا بما حكى صاحب الانصاف والإقناع وغيرهما عن صاحب الروضة؟ (التاسعة عشرة) إذا كان بيني وبين شريك لي نحو أربعة حيطان مشاعة بيننا فباع نصيبه من آخر في الجميع صفقة واحدة ومن تلك الأربعة واحد أو اثنان على انفراد كل واحد منهما تصح فيه الشفعة لعدم الضرر في القسمة وإجبار من امتنع عنها فيهما أو أحدهما فهل يستحق الشفيع أخذ ما لا ضرر في قسمته بقدره من الثمن كما لو باع شقصاً وسيفاً فإنه يأخذ الشقص بقيمته صرح به في الإقناع. (العشرون) إذا وهب إنسان مثله نخلاً أو أرضاً واستثنى غلة ذلك مدة حياته أو مدة معلومة فهل تبطل الهبة والاستثناء معاً أم تصح هي فقط ويلغى الاستثناء؟ (الحادية والعشرون) إذا قال إنسان لآخر له عليه دراهم أو نحوها أنا مفضل لك مالي على فلان عن الذي لك علي فهل تكون هذه حوالة أم لا؟ (الثانية والعشرون) إذا كان بيني وبين شريك لي بئر وأراد أن يسقي عليها في نوبته على حمير أو نحوها ولا شك ولا ريب أنهن ينجسن اللزاء مصب الماء ومجاري الحبال، وذلك عندي وعنده غيرنا حقيقة فهل أمنعه عن ذلك أم لا؟ (الثالثة والعشرون) إذا دفعت إلى رجل نقداً كان له علي فيما مضى ثم خرج عن يده ثم رد إليه بعيب وأراد رده علي ولم أعلم هل هو إياه أم لا فهل يميني له مع إنكاري على البت أم على نفي العلم؟ (الرابعة والعشرون) إذا اشتريت حيواناً أو متاعاً ووجدت به عيباً ونويت غير اشهاد بالمطالبة بالارش واستعملته فهل أصدق بيمين في نيتي أم لا بد من الاشهاد وإلا لم أملك الرد بعدما استعملت المبيع؟ (الخامسة والعشرون) إذا وضعت السكين ونحوها في النار وخرجت حامية وغمستها في ماء نجس أو قديت بها نحو خارجة أذى قد امتلأت قيحاً فهل تطهر بعد ذلك أم لا؟ (السادسة والعشرون) إذا ادعى إنسان على مورثه عيناً أو ديناً في مرض ذلك المورث فتوجهت عليه اليمين لعدم البينة فنكل فهل تثبت العين المدعاة أو الدين مع الحكم بنكوله أم لا للتهمة؟ (السابعة والعشرون) إذا أوصى إنسان بوقف ثلث ماله أو وقفه في حياته وفي ذلك المال أثمان ومواشي وأواني وأثاث ومطعوم من نحو مكيل وموزون ونحو ذلك فكيف العمل في ذلك؟ (الثامنة والعشرون) إذا اشترك رجل وآخرون في زرع ونحوه وله أيضاً شركاء أخر وشركاء أخر أيضاً وطلب منه كلهم سقي الزرع في نوبة واحدة، وربما أن الشركاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 اتفقوا على نوبة واحدة، وربما أن الشركاء اتفقوا على نوبة مقيدة بيوم، لكن استعجل بعضهم أو جميعهم عن النوبة المقدرة وطلبوا جميعاً مني العمل في وقت واحد فشق ذلك علي فهل إذا كان يقيناً أنه إذا ترك إلى نوبته أنه لا ينقص ومع السقي فالظاهر أنه يزيد فهل يجبرونني إلا على السقي مثله في نوبته؟ (التاسعة والعشرون) ما كيفية قبض المتهب والممتلك لمال ولده في العقار فيهما؟ (الثلاثون) إذا وقف إنسان على جهة باسم مشترك وتعذر عليه الوصول إلى تمييز تلك الجهة عن الأخرى ولم يكن ثم قرينة دالة ولا غيرها، بل أبهم ذلك من أصله فهل هذا الوقف باطل كالوصية صرح أنه إذا أوصى لاسم مشترك وتعذر معرفته بصريح أو قرينة أن الوصية تبطل من أصلها، فيكون حكمه حكمها أم له حكم في هذه مفرد عنها؟ (الحادية الثلاثون) إذا كان ثم مسقاة وبها حمام كحمام ميتاح جعل ذلك لكافة المسلمين لرفع الحدث وزوال الخبث ونحوهما، وتلك البئر وما حولها فوقه غما لدفع الأذى عن الآتي إليها، ففي الصيف عن حر الشمس ونحوها في الشتاء عن المطر والبرد ونحوهما، وكان إذا قصده بالليل تضرر بظلمته وربما أنه يقع في الماء المستنقع من حيث لا يدري أو ينزع بالدلو عن البئر فيصيبه لسبب ذلك في غير مصبه المعد للمصب وغير ذلك من المصاب، فلما رأى بعض الناس هذه الضرورة الشاقة على المسلمين وقف وقفاً يصرف ريعه في سراج معلق في ذلك الموضع ليضيئه فيهتدي المتوجه لذلك المكان ويبصر كل موضع يحتاجه، فهل إذا كان الوقف على هذا المنوال هو صحيح مثاب فاعله أم باطل آثم فاعله؟ إذا كان بعض المتشبهين بالفقهاء وأظنه من جهالهم قال هذا وقف باطل فقيل له لم ذلك؟ فقال لعدم القربة حيث اعتبرت شرعاً. فقيل له وما ذلك؟ فقال أن القنديل إذا أضاء بالمكان رأى الناس عورات بعضهم بعضاً. فقال له معارضه هذا منك قول وقياس فابعد وليس لمثلك هذا فان من طلب الاستئثار عن النظر المحظور شمله الحياء إذا العورة في ضوء النهار أبين لمن قصد اتصال نظره إلى ما منع منه شرعاً، فليس هذا من قولك بعدم صحة الوقف وعدم ثواب فاعله في شيء، بل الواجب في مثل هذا أن يقال الثواب بحسب النية مطلقاً فكيف الحكم في هذا؟ (الثانية والثلاثون) إذا أتلف إنسان لأنسان ثمرة وهي طلع أو بلح أو نحوهما أو زرعاً وهو قطن فكيف حكم ضمان ذلك المتلف علي المتلف؟ (الثالثة والثلاثون) إذا قال مريض لورثته ان قال فلان له على أنا مائة فهو صادق، ثم مات القائل فادعاها فلان فهل هذا منه إقرار فتسلم إلى فلان أم لا؟ (الرابعة والثلاثون) إذا كان لي شريك في نحو نخل والنخل له نوبة معروفة مثل أن يسقى يوماً ثم يترك ثلاثة ثم يسقى، واصطلحت أنا وشريكي أن كل واحد منا يسقي شهراً مثلاً في نوبته لا قبلها ولا بعدها فبدأت وسقيت النخل فلما انقضت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وتوجهت نوبة النخل في مدة شريكي كلمته في سقيه فهو يقول أسقي غداً ومضت مدة النخل المضروبة لسقيه وتركه فيها، فهل إذا ثبت هذا ومضت نوبة النخل أي ثلاثة الأيام مثلاً فاستأجرت عليه من يسقي النخل ونويت الرجوع عليه بالأجرة يسوغ الشرع لي الرجوع عليه، وذلك مع حضوره وعدم امتناعه بالقول لا بالفعل؟ (الخامسة والثلاثون) إذا كان ثم حديقة لرجل سدسها مثلاً ولآخر سدسها وللثالث سدسها أو نصفها وقف على معين يستحقه عشرة أشخاص وباع واحد من أهل المطلق نصيبه فشفع شريكاه على المشتري فهل يقال في نصيب أهل الوقف وهو النصف تقسم الحديقة على عدد رءوس أهل الوقف كأهل الطلق أم يكون النصيب الموقوف كنصيب واحد ولو استحقه عدد لأنه ان كان كذلك صحت المسألة من ستة، وان كان بالعكس فمن ستين، وبينهما فرق ظاهر في وجوب الشفعة وعدمها. (السادسة والثلاثون) إذا كنا نحو أربعة أخوة تحت يد أبيناً وجميعناً يستحق أخذاً من الزكاة، فهل إذا دفع أحدنا فطرته لأخيه، ثم دفعها الثاني إلى الثالث، ثم الثالث كذلك إلى الرابع وهو الدافع الأول هل يسوغ هذا أم لا؟ (السابعة والثلاثون) إذا كان بيني وبين إنسان حائط قائم على أصله لكن تآكل وجه أساسه الذي من جهتي بسباخ ونحوه، فهل أجبره على إصلاح أساسه أم لا؟ وهل إذا لم أجبره وكان فوق ذلك الجدار خشب لثالث وخشي أن انهدم بسبب تآكل أساسه أن يتلف عليه شيء فهل يجبر صاحب العلو صاحب الأسفل على إصلاح أساسه أم لا إجبار بعد الانهدام؟ (الثامنة والثلاثون) إذا وقف إنسان عقاراً ونحوه وشرط أن ريعه يجعل في مسجد معين سماطا في زمن معين نحو شهر رمضان على من حضر في ذلك المكان والزمان، وليس ثم استحقاق مقدر بل مطلق بحسب ما يرى الناظر فهل إذا حصل غلة من الوقف في يد الناظر وتيقن أنه يبقى من تلك الغلة بقية بعد مضي الزمن المقدر، فهل يسوغ للناظر أو يجبر على صرف البقية إلى مسجد آخر محتاج وهو في ناحية البلد في ذلك الزمن لأنه إذا أراد مده إلى العام المقبل اعترته الآفات من سوس ونقص وتلف وغير ذلك أم لا يسوغ له سوى الأرصاد أو البيع وارصاد الثمن؟ (التاسعة والثلاثون) إذا قالت امرأة خلني وأعطيك مائة فقال خلعتك فقالت لم أبذل لك العوض إلا على الطلاق فقط فهل يقبل قولها فلا يقع الخلع ولا يستحق عليها العوض المبذول أم لا يقبل قولها لأن مرادها الفراق بابانة وقد حصلت، فلا مزية ولا فائدة للفظ الطلاق بدلاً عن الخلع أم كيف الحكم في ذلك؟ (الأربعون) إذا ادعى إنسان على إنسان عيناً في يده وأنكر المدعي عليه فأقام المدعي بينته أن آل فلان عموماً أو فلاناً خصوصاً اغتصبها من المدعي وليس من هي في يده من الأول ولا المعين، لكن انما انتقلت إليه من أحدهم أو ممن انتقلت إليه منهم، فهل تكلف البينة أن تشهد أنها في ملكه إلى الان أم يكتفى بشهادتها في صفة خروجها عن يد المدعي ويكون للمدعي عليه حكم الغاصب نفسه ولو لم يكن غصب ولا علم أنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 غضبت، فهل تنزع من يده على هذا المنوال أم إذا أعدها ملكه أي المنكر تقبل لأنه لا يعلم لها غاصباً، وربما أنه لا يعلم من انتقلت إليه منه أم يكفي الحكم في ذلك؟ والحمد لله أولاً وأخيراً، وصلى الله على محمد وآله وصحبه باطناً وظاهراً. فأجابه رحمه الله تعالى: الحمد لله المسئول الهدى والسداد. (الأولى) نعم إذا تاب الولي أو الشاهدان في مجلس العقد صح ذلك وقبل منهما وصاروا كمستور قبل رد الظلامة. (الثانية) تولية الأمثل فالأمثل في الأعمال المعتبرة فيها العدالة عند عدم العدل والإشهاد في العقود جائز، ولا يستقيم أمر الناس بدونه كالإشهاد في الأماكن التي يتعذر فيها العدل. صرح بذلك جماعة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والمذهب لا. (الثالثة) إذا أخر قطع الخشب مع شرطه فنما وغلظ فالبيع صحيح ويشتركان في الزيادة ومع عدم شرط القطع البيع أيضاً صحيح، والكل للمشتري إلى وقت قطعه المعتبر عند أهله. (الرابعة) إذا باع الوصي المال الموصى به أو الوارث لزم البائع الضمان لأنه لا يصح أن يبيع بمؤجل أن تلف المبيع الموصى به، ومع وجوده البيع فاسد لأن الوصي لا يجوز له بيعه بمؤجل كالوكيل. (الخامسة) قول الراهن أنا مقبضك وقول المرتهن أنا قابض كل ذلك صحيح لازم لكونه لسان أهل العصر لا نزاع في ذلك وفي مسائل غير ذلك. (السادسة) إذا كان غنياً ولم تكن سكناه ببيت اليتيم في مصلحة ظاهرة لليتيم، فمقامه هو وزوجته مقام الغاصب حذو القذة بالقذة. (السابعة) الذي يظهر أن مسيل الوقف المضر الذي لا يرجى كونه نخلاً صالحة أنه هو الليف غير المضر حكمه حكم الأغصان اليابسة. (الثامنة) التلفيق في التقليد في واقعة واحدة لا يجوز، فالتقليد في أكل الجزور وفي مس الذكر صلاة المقلد صحيحة لأن ذلك ليس بتلفيق إنما هو كالمقلد لأبي حنيفة وحده، لأن أكل لحم الإبل غير ناقض عند الثلاثة، وإنما التلفيق الباطل كالذي يقلد أبا حنيفة في مس الذكر والإمام أحمد في دم يسير لحقه بعد الوضوء ونحو ذلك، لأنه صلاة باطلة عند الإمامين أبي حنيفة بيسير الدم وأحمد بمس الذكر، وهذا ونحوه هو التلفيق. (التاسعة) أما دية العمد فإذا رضي أولياء المقتول بشيء صح ويشترك فيه جميع الورثة كالميراث، إلا أن يرضى أحد منهم بالتفضيل لبعضهم أو يرضى القاتل بعد رضاء الكل بأن لا يزيد المخوف منه شيئاً من غير الذي تراضوا عليه، لأن العمد لا دية فيه والرضاء بالقليل والكثير سواء. وأما دية الخطأ فثابتة كثبوت الدين على العاقلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 (العاشر) الحاصل في العقار المبيع في أرضه ومسيله بحركة الرياح والسيول حكمه حكم الأحجار والأشجار الحادثة تدخل في البيع كالتراب تلزم المشتري الحادث ولو كان حدوثه في أيام من قبله من ملاك العقار، أما إن رفع التراب أو أزاله عن موضعه الذي هو فيه بفعل الله شخص فان من رفعه يلزمه ضمان نقص ما أحدث في ملك غيره وهذا بلا أشكال. (الحادية عشرة) إذا ساقاه بعدد أدوار معلومة فبعد الجذاذ لا سقي إلا بتراضيهما ومع التمساح فليس للمالك إلا قدر حسابه بما قبل الجذاذ من الأدوار لأن الجزء المشروط إنما حصل له في مقابلة الأدوار المشروطة فاذا لم تكمل وجب رد ما قبلها من جزء العامل لكونه لم يستحقه بالسقي والشرط صحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو حلل حراماً". (الثانية عشرة) أما ولي اليتيم إذا أقر بمبطل لتصرفه في مال اليتيم كفسقه، فان كان في ذلك حظ لموليه لم يبطل العقد بمجرد جرحه لنفسه لأنه مهتم فلا بد من البينة، وان كان الخط لليتيم في ثبوت العقد وعدم الحط في بطلانه قبل لعدم التهمة، وأما الشاهد فمتى جرح نفسه قبل الحكم وبعده لا لكن لا يضمن. (الثالثة عشرة) إذا غارس الناظر بأصل الاستحقاق أو غرس فيها وهي عليه وحده ثم حدث وارث فالظاهر ان الحادث لا يقلع البناء والغراس، وإنما يستحق تقدير أجرة الأرض من استحقاقه. (الرابعة عشرة) إذا نضب ماء البئر فحصل المالك الماء من بئر بعيدة كان للمساقي تفاوت ما بين البئرين. (الخامسة عشرة) متى استظهر الإنسان زكاة ماله بيقين برئت ذمته من الزكاة من غير كيل ولا وزن ولا وعد ولا ذرع لأن المطلوب هو براءة الذمة، وكذلك حتى في زكاة الفطر. (السادسة عشرة) نعم المزبلة المضرة يجوز لرؤساء البلد أن يفعلوا بها كما يفعل الحاكم من بيع واجارة وصرف ذلك في المصالح، بل هو أحسن من بقائها مضرة. (السابعة عشرة) الوصية تصح مدة معلومة ومجهولة فاذا أوصى له بجزء واحد ذلك بالرشد، فمن رشد لم يستحق ما قابله. (الثامنة عشرة) لا يقع الطلاق إلا بما حكي عن صاحب الروضة وهو موفق الدين ابن قدامة رحمه الله تعالى. (التاسعة عشرة) كل بستان معتبر ضرره بنفسه لا يضاف إليه البستان المضر. (العشرون) تصح هبة الشيء واستثناء نفعه مدة معلومة، لكن غلة العقار ليست من هذا القبيل في شيء لكونها معدومة مجهولة حينئذ فتصح الهبة ويلغو استثناء الغلة إلا أن تكون الثمرة موجودة وقت الهبة تشققت أم ظهرت بلا تشقق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 (الحادية والعشرون) تصح الحوالة بكل لفظ متعارف عند أهل تلك اللغة. (الثانية والعشرون) نعم نمنعه لأن كل الأبوال نجسة عند أبي حنيفة إلا بول الحمار، وعند الشافعي مطلقاً وعند أحمد ومالك كل ما أكل لحمه فبوله طاهر وما لا فلا، فبول الحمار نجس عند الأربعة. (الثالثة والعشرون) إذا خرج عن يده لم يكن له إلا يمين الذي دفعه ما علمت أن هذا هو النقد الذي دفعت إليك. (الرابعة والعشرون) إذا وجد المشتري في المبيع عيباً واختار الإمساك وأخذ الارش فاستعمل صح ذلك وليس عليه قبل استعماله أنه يريد الارش بل تكفي نيته، ومتى اختلفا كان القول قوله في نيته فيحلف بالله ما رضيت به بعد علمي بالعيب، وما استعمله الأبنية أخذ الارش. (الخامسة والعشرون) إذا سقيت السكين ماء نجساً لم تطهر، والظاهر أن هذا هو سقيها، فإن كان للسقي كيفية غير هذا فما أدري. (السادسة والعشرون) إذا ادعى الوارث على مورثه عيناً أو ديناً ولا بينة فنكل ولو في مرض الموت المخوف صح ذلك، ولو استغرق ماله كله بخلاف التبرع والوصية، لكن متى اتهم حلف أن ذلك ليس بحيلة. (السابعة والعشرون) يباع الأثاث والاواني وما يصلح ويضاف إلى الأثمان ويشتري به لأنه مراد الواقف، ولا يستقيم الأمر بدونه، وأما العقار فيترك على حاله يقف ثلثه. (الثامنة والعشرون) إذا كان الزرع يزيده السقي فلو لم ينقصه الترك أجبر الممتنع. (التاسعة والعشرون) صفة قبضه صفة قبض المشتري سواء بسواء. (الثلاثون) الذي يظهر لي من هذه المسألة عدم صحة الوقف إلحاقاً له بالمبهم. (الحادية والثلاثون) وأما وقف المصباح المذكور عما ذكرتم في السؤال فقربة والقائل أنه غير قربة غير مصيب. (الثانية والثلاثون) إذا أتلف الإنسان الثمرة مع التلقيح ونحوه أو تلف ولد الغرس ونحوها فكيفية ذلك أن يقال قيمة العقار مع ثمرته والغرس مع ولدها ألف مثلاً ومع عدم ذلك ثمانمائة فيكون قيمة ذلك مائتين وعلى هذا فقس. (الثالثة والثلاثون) إذا قال: إن قال فلان فهو صادق فليس بإقرار. (الرابعة والثلاثون) الله أعلم. (الخامسة والثلاثون) إذا اتحد الواقف فكالشخص الواحد ولو تعدد المستحق، وإن كان الواقف متعدداً فلكل واحد حكم نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 (السادسة والثلاثون) إذا كان ذلك التدافع بلا حيلة صح. (السابعة والثلاثون) الذي يظهر لي أن الممتنع على إصلاح أس الحائط1. (الثامنة والثلاثون) نعم يسوغ له إنفاق الغلة التي يتحقق أنها تفضل إلى المسجد المحتاج لا إشكال في ذلك. (التاسعة والثلاثون) الذي يظهر صحة الخلع واستحقاق الزوج للعوض وبينونة الزوجة بما جرى بينهما أنه خلع صحيح مبين، ولا أثر لقولها في إبطال العوض بدعوى الطلاق ولا سيما مع أن هذه هي اللغة المتعارفة في هذا الزمان. (الأربعون) متى ثبت أن العين التي في يد مدعيها ملكها الذي قبله بغصب وشهدت له بذلك بينة انتزعها من صاحب اليد بشهادة البينة من غير أن تكلف البينة الشاهدة بملكه حينئذ والله سبحانه وتعالى أعلم.   1 هكذا في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الرسالة الرابعة ... بسم الله الرحمن الرحيم وله رحمه الله جواب عن المسائل الآتية (الأولى) ما خيار المجلس وما صورته؟ (الجواب) خيار المجلس يثبت للمتبايعين ولكل منهما فسخه ما داما مجتمعين وهو قول أكثر أهل العلم كما في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا تبايع الرجلان فلكل واحد منهما الخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهعما البيع فقد وجب البيع" والمرجع في التفريق إلى عرف الناس وعادتهم. (الثانية) إذا تبايعا وشرطا أن ليس بينهما خيار مجلس (الجواب) يلزم البيع ويبطل الخيار لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" يعني لزم. قال في الشرح وهذا مذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله لحديث ابن عمر. (الثالثة) إذا تواعد رجلان يبغي أن يكتب أحدهما على الآخر مائة جديدة وبعد ذلك جاءه بالدراهم يريد أن يكتب عليه فقال بدالي هل يلزم أم لا؟ (الجواب) لا بد من قبض رأس مال المسلم في مجلس العقد فإن تفرقا قبل قبضه لم يصح وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ومالك يجوز أن يتأخر قبضه يومين أو ثلاثاً أو أكثر ما لم يكن ذلك شرطاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 (الرابعة) إذا اشترى رجل من آخر مائة صاع وواعده أن يكيلها الصبح فلما أتاه قال بدالي وهو لم ينقد الدراهم هل يلزمه أم لا؟ (الجواب) يلزم البيع بمجرد العقد ولا يوافق على فسخ البيع إلا برضا المشتري ولكن لا يجوز بيعه قبل قبضه لقوله صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه" متفق عليه. (الخامسة) الإجارة والمساقاة هل هما عقد لازم أم جائز؟ وما معنى اللازم والجائز؟ (الجواب) أما الإجارة فهي عقد لازم وهو قول جمهور العلماء لأنها بمعنى البيع والمساقاة فأكثر الفقهاء على أنها عقد لازم واختاره الشيخ تقي الدين، وعند شيخنا أنها عقد لازم من جهة المالك وعقد جائز من جهة العامل، وأما معنى اللازم والجائز فاللازم هو الذي لا يمكن أحد من العاقدين من فسخه إلا برضا الآخر، والجائز هو الذي يفسخه بغير رضا صاحبه. (السادسة) إذا باع رجل بعيراً على آخر وقال البائع الثمن عشرة وقال المشتري بل تسعة (الجواب) إذا اختلفا في قدر الثمن ولا بينة لأحدهما تحالفا فحلف البائع أولاً ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا فإن تحالفا ولم يرض أحدهما بقول الآخر انفسخ البيع وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك، وعن أحمد أن القول قول البائع أو يترادان البيع لما روي ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع" رواه سعيد وابن ماجه. قال الزركشي وهذه الرواية وإن كانت خفية مذهبا فهي ظاهرة دليلاً وذكر دليلها وما إليها. (السابعة) إذا أكرى رجل بعيراً وقال صاحب البعير الأجرة عشرة وقال المكتري الأجرة ثمانية. (الجواب) إذا اختلفا في قدر الأجرة فهو كما إذا اختلفا في قدر الثمن كما تقدم في المسألة التي قبلها نص أحمد على أنهما يتحالفا وهو مذهب الشافعي، قال في الشرح وهو الصحيح إن شاء الله. (الثامنة) إذا اكترى رجل بيتاً وقال صاحب البيت أنا مكريك سنة، وقال المستأجر أنا مستكري سنتين. (فالجواب) القول قول المالك مع يمينه، قال في الشرح لأنه منكر للزيادة فكان القول قوله كما لو قال بعتك هذا العبد بمائة، وقال بل هذا العبد بمائتين. (التاسعة) إذا تبايعا نخلا وشرطا الخيار عشر سنين وأخذ المشتري العمارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 في عشرة هذه السنين ويوم فك البائع النخل هل العمائر ترد على البائع أو تكون على المشتري يأخذها مع الدراهم؟ (الجواب) ما حصل من غلات المبيع ونمائه في مدة الخيار فهو للمشتري أمضيا العقد أو فسخاه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" قال الترمذي هذا حديث صحيح وهذا من ضمان المشتري فيجب أن يكون له بمقابلة ضمانه. (العاشرة) إذا رهن رجل سلعة وضاعت وهو لم يفرط فيها هل يسقط الدين أو الدين ثابت ولو ضاعت الرهانة؟ (الجواب) إذا تلف الرهن في يد المرتهن فإن كان بتعديه أو تفريطه في حفظه ضمنه، قال في الشرح لا نعلم فيها خلافاً، فأما إن تلف من غير تعد منه ولا تفريط فلا ضمان عليه وهو من مال الراهن. يروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال عطاء والزهري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، فإن تلف بغير تعد ولا تفريط لم يضمنه ولم يسقط شيئاً من الدين بل هو ثابت في ذمة الراهن ولم يوجد ما يسقطه. (الحادي عشرة) إذا ضمن رجل على آخر وادعى المضمون عنه أني أعطيت الضمين. (الجواب) لصاحب الحق أن يطالب من شاء من الضمين أو المضمون عنه، وبه قال الشافعي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي وأبو عبيد لقوله عليه السلام: "الزعيم غارم" فإن أدى المضمون عنه برئت ذمة الضامن بغير خلاف، وإن أدى الضامن الدين ونوى الرجوع رجع على المضمون عنه لما أداه لصاحب الحق وهو مذهب مالك والشافعي. (الثانية عشرة) إذا أحال رجل على آخر عشرة دراهم على مليء وقبله وبعد هذا أفلس المحال عليه هل ينحرف على صاحبه أم لا؟ (الجواب) إذا أحاله على مليء برئت ذمة المحيل ولم يعد الحق إليه سواء أمكن الاستيفاء أم لا؟ وبه قال الليث والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر لأنه أحاله على مليء برضاه وقبل ولم يكن له على المحيل رجوع بشرط أن تكون الحوالة صحيحة بشروطها. (الثالثة عشرة) ما معنى تعارض البينتين؟ (الجواب) معنى تعارض البينتين تساويهما من كل وجه، فإذا أقام المدعي بينة وأقام المدعي عليه بينة وتساويا فقد تعارضتا، فإذا تعارضت بينتاهما سقطتا وكانا كمن لا بينة لهما. (الرابعة عشرة) ما معنى قولهم بينة الداخل والخارج؟ (الجواب) بينة الخارج بينة المدعي وبينة الداخل بينة المدعى عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 (الخامسة عشرة) ما الفرق بين قسمة التراضي والإجبار؟ (الجواب) قسمة الإجبار هي التي لا ضرر فيها على أحد من الشركاء ويمكن تعديل السهام من غير رد عوض، فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" فإن كان فيها رد عوض فهي بمعنى البيع فلا يجبر عليها الممتنع، فإن لم تكمل هذه الشروط فهي قسمة تراض لا يجبر الممتنع عليها بل برضاه. (السادسة عشرة) إذا بنى رجل بيتاً وبنى فيه مدابغ وكنيفاً وبنى جاره بعده بيتاً وأقام التالي بينة: إن كنيفك ومدابغك تضر بي (الجواب) إذا كانت المدابغ والكنيف سابقة على ملك جاره ولا حدثت دار جاره إلا بعد بناء الكنيف والمدابغ فلا تزال لأنها سابقة على مالك الجار والجار هو الذي أدخل الضرر على نفسه وفي إزالة ضرره ضرر بجاره فلا يزال بالضرر إذا كانت المدابغ ونحوها سابقة على ملك الجار وإن ضرت بالجار والله أعلم. (السابعة عشرة) إذا بنى رجل مدابغ أو كنيفاً وأقام الأول البينة إن هذه التي حدثت تضر بي (الجواب) يمنع الجار أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" فإذا أراد أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره فإنه يمنع منه للحديث وهذه المسألة عكس التي قبلها في الصورة والحكم. (الثامنة عشرة) إذا مات رجل وجاء آخر إلى الوارث يدعي أن له ديناً على الميت وليس على المدعي شهود ما صفة يمين الوارث؟ (الجواب) إذا لم يكن مع المدعي بينة وأراد أن يستحلف الوارث فإنه يحلف على نفي العلم. قال في المغني والأيمان كلها على البت والقطع إلا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم، فإذا حلف على مثال أن يدعي عليه أي على الغير دين أو غصب فإنه يحلف على نفي العلم لا غير. (التاسعة عشرة) إذا ادعى رجل على آخر بدعوى وليس عند المدعي بينة ما صفة يمين المنكر؟ (الجواب) يحلف المنكر على البت والقطع لأن الأيمان كلها على البت إلا على نفي الغير فإنها على نفي العلم كما تقدم في المسألة قبلها. (العشرون) إذا تداعى اثنان ولا بينة معهما وصارت اليمين على المنكر فإن حلف قضي له، وإن أبى أن يحلف فهل يقضى عليه بنكوله أم يردون اليمين على المدعي (الجواب) ففيه قولان هما روايتان عن أحمد (احداهما) لا ترد بل إذا نكل من توجهت عليه اليمين قضي عليه بالنكول وهو قول أبي حنيفة (والرواية الأخرى) أن اليمين ترد على المدعي فيقول له رد اليمين على المدعي فإن ردها حلف المدعي انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 1وقال في (الباب السبعون) من الكتاب المذكور وقد ذكرنا في أول الكتاب جملة مقالة أهل السنة والحديث التي اجتمعوا عليها كما حكاه الأشعري عنهم، ونحن نحكي مسائله المشهورة هذا مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بها المقتدى بهم فيها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج عن الجماعة زائغ عن منهج أهل السنة وسبيل الحق. قال وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن المسيب وغيرهما ممن جالسنا وأخذنا عنهم فكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص، ويستثنى في الإيمان غير أن لا يكون الاستثناء شكاً، إنما هي سنة ماضية عند العلماء. وإذا سئل الرجل أمؤمن أنت؟ فإنه يقول أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو أو يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. ومن زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجيء. ومن زعم أن الإيمان هو القول والأعمال شرائع فهو مرجيء ومن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فقد قال بقول المرجئة ومن لم يرى الاستثناء في الإيمان فهو مرجيء. ومن زعم أن إيمانه كأيمان جبرائيل والملائكة فهو مرجيء ومن زعم أن المعرفة تقع في القلب وإن لم يتكلم بها فهو مرجيء. والقدر خيره وشره قليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومره، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوله وآخره من الله عز وجل قضاء قضاه على عباده وقدره عليهم لا يعدو واحد منهم مشيئة الله ولا يجاوزه قضاء، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له واقعون فيما قدر عليهم وهو عدل منه جل ثناءه وعز شأنه، والزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك والمعاصي كلها بقضاء الله وقدر من الله من غير أن يكون لأحد من الخلق على الله حجة بل لله الحجة البالغة على خلقه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وعلم الله عز وجل ماض في خلقه بمشيئة منه قد علم من إبليس ومن غيره من لدن عصى الله تبارك وتعالى إلى أن تقوم الساعة المعصية -وخلقهم فكل يعمل لما خلق له وصائر إلى ما قضي عليه لا يعدو واحد منهم قدر الله ومشيئته والله الفعال لما يريد. ومن زعم أن الله سبحانه شاء لعباده الذين عصوه الخير والطاعة، وأن العباد شاءوا لأنفسهم الشر والمعصية فعملوا على مشيئتهم فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله تعالى وأي افتراء على الله أكبر من هذا.   1 وجدنا في الأصل المخطوط هذا الكلام بعد المسائل المتقدمة وفي آخره أنه منقول من كتاب حادي الأرواح فأثبتناه هنا تبعا للأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ومن زعم أن الزنا ليس بقدره قيل له أرأيت هذه المرأة حملت من الزنا وجاءت بولد هل شاء الله أن يخلق هذا الولد وهل مضى في سابق علمه فإن قال لا فقد زعم أن مع الله خالقاً وهذا الشرك صراح. ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام ليس بقضاء الله ولا قدره فقد زعم أن الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره وهذا صريح قول المجوسية، بل أكل رزقه الذي قضى الله أن يأكله من الوجه الذي أكله. ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر الله عز وجل فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله وأي كفر أوضح من هذا، بل ذلك بقضاء الله عز وجل وذلك عدل منه في خلقه وتدبيره فيهم، وما جرى من سابق علمه فيهم، وهذا عدل الحق الذي يفعل ما يريد. ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبير أتاها إلا أن يكون في ذلك حديث كما جاء على ما روي ولا بنص الشهادة، ولا نشهد أنه في الجنة بصالح عمله ولا بخير أتاه إلا أن يكون في ذلك حديث كما جاء على ما روي ولا بنص الشهادة. والخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان ليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها ولا يخرج عليهم ولا نقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة. والجهاد ماض قائم مع الأئمة بروا أو فجروا ولا يبطله جور جائر ولا عدل عادل. والجمعة والعيدان والحج مع السلطان وان لم يكونوا بررة عدولا أتقياء، ودفع الصدقات والخراج والأعشار والفيء والغنائم إليهم عدلوا فيها أو جاروا، والانقياد لمن ولاه الله عز وجل أمركم، لا تنزع يدا من طاعة ولا نخرج عليه بسيف حتى يجعل الله لنا فرجاً مخرجاً، ولا نخرج على السلطان ونسمع ونطيع، ولا ننكث بيعة فمن فعل ذلك فهو مبدع مخالف مفارق للجماعة، وان أمرك السلطان بأمر هو لله معصية فليس لك أن تطيعه البتة وليس لك أن تخرج عليه ولا تمنئه حقه. والامساك في الفتنة سنة ماضية واجب لزومها، فان ابتليت فقدم نفسك دون دينك ولا تمن على الفتنة بيد ولا لسان: ولكن أكفف يدك ولسانك وهواك والله المعين، والكف عن أهل القبلة ولا نكفر أحداً منهم ولا نخرجه من الإسلام بعمل إلا أن يكون في ذلك حديث كما جاء وكما روي فنصدقه ونقبله ونعلم أنه كما روي نحو ترك الصلاة وشرب الخمر وما أشبه ذلك، أو يبتدع بدعة ينسب صاحبها إلى الكفر والخروج عن الإسلام فاتبع ذلك ولا تجاوزه. (والأعور الدجال) خارج لا شك في ذلك ولا اريتاب وهو أكذب الكاذبين. وعذاب القبر حق يسأل العبد عن دينه وعن ربه، وعن الجنة وعن النار. ومنكر ونكير حق وهما فتانا القبر نسأل الله الثبات. وحوض محمد صلى الله عليه وسلم حق ترده أمته وآنيته عدد نجوم السماء يشربون بها منه. والصراط حق يوضع على سواء جهنم ويمر الناس عليه والجنة من وراء ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 (والميزان) حق توزن به الحسنات والسيآت كما شاء الله أن توزن. (والصور) حق ينفخ فيه اسرافيل فتموت الخلق ثم ينفخ فيه أخرى فيقومون لرب العالمين للحساب، وفصل القضاء والثواب والعقاب والجنة والنار (واللوح المحفوظ) يستنسخ منه أعمال العباد كما سبق فيه من المقادير (والقضاء والقلم) حق كتب الله به مقادير كل شيء وأحصاه في الذكر. والشفاعة يوم القيامة حق يشفع قوم في قوم فلا يصيرون إلى النار ويخرج قوم من النار بعدما دخلوا ولبثوا فيها ما شاء الله ثم يخرجهم من النار، وقوم يخلدون فيها أبدا وهم أهل الشرك والتكذيب والجحود والكفر بالله عز وجل. ويذبح الموت يوم القيامة بين الجنة والنار، وقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها خلقهما الله عزس وجل وخلق الخلق لهما لا تفنيان ولا يفنى ما فيها أبدا، فان احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} وبنحو هذا من متشابه القرآن قل له كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك والجنة والنار خلقهما الله للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا. (والحور العين) لا يمتن عند قيام الساعة ولا عند النفخة ولا أبدا لأن الله خلقهن للبقاء لا للفناء ولا يكتب عليهن الموت، فمن قال خلاف ذلك فهو مبتدع ضال عن سواء السبيل، وخلق سبع سموات بعضها فوق بعض، وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض وبين الأرض العليا وسماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام والماء فوق السماء السابعة العليا. وعرش الرحمن فوق الماء والله عز وجل على العرش والكرسي موضع قدميه، وهو يعلم ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى وما في قمر البحر ومنبت كل شعرة وشجرة وكل زرع وكل نبات ومسقط كل ورقة، وعدد كل كلمة، وعدد الرمل والحصا، والتراب ومثاقيل الحبال وأعمال العباد وآثارهم، وكلامهم وأنفاسهم، ويعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء من ذلك وهو على العرش فوق السماء السابعة، ودونه حجب من نار وحجب من نور وظلمة وما هو أعلم به. فان احتج مبتدع بقول الله تعالى {َنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وبقوله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} الآية ونحو هذا من متشابه القرآن فقل انما يعني بذلك العلم لأنه الله عز وجل على العرش فوق السماء السابعة العليا يعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان الله عز وجل عرش وللعرش حملة يحملونه والله عز وجل على عرشه وليس له حد والله عز وجل سميع لا يشك بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى ولا يسهو. قريب لا يغفل، يتكلم وينظر ويبسط ويضحك ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويسخط ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنح وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وقلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء ويوعيها ما أراد، وخلق آدم بيده على صورته، والسموات والأرض يوم القيامة في كفه، ويضع قدمه في النار فتنزوي، ويخرج قوماً من النار بيده، وينظر إلى وجهه أهل الجنة يرونه فيكرمهم ويتجلى لهم، وتعرض عليه العباد يوم القيامة ويتولى حسابهم بنفسه ولا يلي ذلك غيره عز وجل. والقرآن كلام الله تكلم به ليس بمخلوق. فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف فلم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من القول الأول، ومن زعم أن ألفاظنا وتلاوتنا مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي. وكلم الله موسى تكليما منه إليه وناوله التوراة من يده إلى يده ولم يزل الله عز وجل متكلما، والرؤيا من الله، وهي حق، إذا رأى صاحبها في منامه ما ليس أضغاثاً فقصها على عالم وصدق ولم يحرف فيها تأولها العالم على أصل تأويلها الصحيح وتأويلها حينئذ حق، وكانت الرؤيا من الأنبياء وحيا، فأي جاهل أجهل ممن يطعن في الرؤيا ويزعم أنها ليست بشيء؟ وبلغني أن من قال هذا القول لا يرى الاغتسال من الاحتلام. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ان رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده –وقال- إن الرؤيا من الله"، وذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم والكف عن مساويهم التي شجرت بينهم، فمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو واحداً منهم أو تنقصه، أو طعن عليهم أو عرض بعيبهم أو عاب أحد منهم فهو مبتدع رافضي خبيث لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً بل حبهم سنة والدعاء لهم قربة، والإقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة. وأفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وبعد عمر عثمان وعلي ووقف قوم على عثمان، وهم خلفاء راشدون مهديون، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة ويدخله الحبس حتى يتوب ويرجع. ويعرف للعرب حقها وسابقتها وفضلها ويحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حب العرب من الإيمان وبغضهم نفاق" ولا يقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب ولا يقرون لهم بفضل فإن قولهم بدعة. ومن حرم المكاسب والتجارات وطلب المال من وجهه فقد جهل وأخطأ، بل المكاسب من وجهها حلال قد أحلها الله ورسوله فالرجل ينبغي أن يسعى على نفسه وعياله من فضل ربه، فإن ترك ذلك على أن لا يرى ذلك الكسب حلالاً فقد خالف الكتاب والسنة. (والدين) إنما هو كتاب الله عز وجل وآثار وسنن وروايات صحاح من الثقات والأخبار الصحيحة القوية المعروفة ويصدق بعضها بعضاً حتى ينتهي ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين والتابعين وتابع التابعين ومن بعدهم من الأئمة المعروفين المقتدى بهم المتمسكين بالسنة المتعلقين بالآثار لا يعرفون ببدعة ولا يطعنون بكذب ولا يرمون بخلاف إلى أن قال فهذه الأقاويل التي وصفت مذهب أهل السنة والجماعة والأثر والروايات وحملة العلم الذين أدركناهم عنهم الحديث وتعلمنا منهم السنن وكانوا أئمة معروفين ثقات أهل صدق وأمانة يقتدى بهم ويؤخذ عنهم لم يكونوا أصحاب بدع ولا خلاف ولا تخليط وهذا قول أئمتهم وعلمائهم الذين كانوا قبلهم فتمسكوا بذلك وتعلموه وعلموه. (قلت) حرب هذا هو صاحب الإمام أحمد وإسحاق وله عنهم مسائل جليلة وأخذ عن سعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي وهذه الطبقة، وقد حكى هذه المذاهب عنهم واتفاقهم عليها. ومن تأمل النقول عن هؤلاء وأضعاف أضعافهم والحديث وجده مطابقاً لما نقله حرب، ولو تتبعناه لكان بقدر هذا الكتاب مراراً. وقد جمعنا منه في مسألة علو الرب تعالى على خلقه واستوائه على عرشه وحده سفراً متوسطاً فهذا مذهب المستحقين لهذه البشرى قولاً وعملاً واعتقاداً وبالله التوفيق. انتهى كلامه من كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح رحمه الله ورضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الرسالة الخامسة ... بسم الله الرحمن الرحيم (من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان حفظه الله تعالى) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) الخط وصل وصلك الله تعالى إلى رضوانه وهذا جواب المسائل واصلك إن شاء الله. (الأولى) في من طلق زوجته في مرض موته وأبانها فالذي عليه العمل ترثه مادامت في العدة في قول جمهور العلماء، وكذا ترثه بعد العدة ما لم تتزوج كما ذهب إليه مالم والإمام أحمد بل مذهب مالك أنها ترثه ولو تزوجت والراجح الأول. (المسألة الثانية) قولهم في المطلقة هل عليها أطول الأجلين من ثلاث حيض أو أربعة أشهر وعشر فصورة المسألة على ماصورت في السؤال وأما الخلاف فالمشهور عن أحمد المعمول به عند أصحابه أن المطلقة البائن في مرض الموت تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وقال الشافعي تبني على عدة الطلاق. (المسألة الثالثة) المشهور جواز إجارة العين المستأجرة قال في المغني يجوز للمستأجر أن يأجر العين المستأجرة إذا قبضها. نص عليه أحمد وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والنخعي والشعبي والثوري والشافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وأصحاب الرأي، وأما إجارته قبل قبضه فلا يجوز من غير المؤجر في أحد الوجهين وهو قول أبي حنيفة والمشهور من قول الشافعي، ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الأجرة والزيادة نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وابن المنذر. (المسألة الرابعة) وهي مسألة الحرز فالحرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه ويختلف باختلاف الأموال، فحرز الغنم الحظيرة وحرزها في المرعى بالراعي ونظره إليها إذا كان يراها في الغالب وما نام عنه منها فقد خرج عن الحرز، والضابط ما ذكرناه وهو أن الحرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه والأموال تختلف، وتفصيل المسألة مذكور في باب القطع في السرقة فراجعه. (المسألة الخامسة) وهي السرقة من الثمر قبل إيوائه الحرز فهذا لا قطع فيه، ولو كان عليه حائط أو حافظ إذا كان في رءوس النخل لحديث رافع بن خديج "لا قطع في ثمر ولا كثر" وكذلك الماشية تسرق من المرعى إذا لم تكن محرزة لا قطع فيها وتضمن بمثل قيمتها، والثمر يضمن بمثل قيمته لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وروى الأثرم أن عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثل قيمتها، وهذا مذهب أحمد، وأما الجمهور فقالوا لا يجب عليه إلا غرامة مثله. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً قال بوجوب غرامة مثليه. وحجة أهل القول الأول حديث عمرو بن شعيب قال أحمد: لا أعلم شيئاً يدفعه وأما المختلس والخائن وغيرهم فلا يغرم إلا مثله من غير زيادة على المثل أو القيمة، لأن الأصل وجوب غرامة المثل بمثليه، والمتقوم بقيمته خولف في هذين الموضعين للأثر، ويبقى ما عداهما على الأصل. (المسألة السادسة) إذا جامع جاهلاً أو ناسياً في نهار رمضان هل حكم الجاهل حكم الناسي أم بينهما فرق؟ فالمشهور أن حكمهما واحد عند يوجب الكفارة، وبعض الفقهاء فرق بين أن يكون جاهلاً بالحكم أو جاهلاً بالوقت فأسقط الكفارة عن الجاهل بالوقت كما لو جامع أول يوم من رمضان يظن أنه من شعبان أو جامع يعتقد أن الفجر لم يطلع فبان أنه قد طلع، ومن أسقطها عن الجاهل بالوقت فالناسي مثله وأولى قال الشيخ تقي الدين: لا قضاء على من جامع جاهلاً بالوقت أو ناسياً ولا كفارة أيضاً. (المسألة السابعة) وهي مسألة القذف فالقذف ينقسم إلى صريح وكناية كالطلاق، فالصريح ما لا يحتمل غيره نحو يا زان يا عاهر يا منيوك ونحو ذلك والكناية التعريض بالألفاظ المجملة المحتملة للقذف وغيره، فإن فسر الكناية بالزنا فهو قذف لأنه أقر على نفسه، وإن فسره بما يحتمله غير القذف قبل مع يمينه ويعزر تعزيراً يردعه وأمثاله عن ذلك، فمتى وجد منه اللفظ المحتمل للقذف وغيره ولم يفسره بما يوجب القذف فإنه يعزر لا حد عليه. (المسألة الثامنة) هل للأب أن يأخذ من صداق ابنته أم لا؟ فالمشهور عن أحمد جواز ذلك وهو قول إسحاق، وقد روي عن مسروق أنه زوج ابنته واشترط لنفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 عشرة آلاف فجعلها في الحج والمساكين ثم قال للزوج جهز امرأتك. وروي ذلك عن علي بن الحسين أيضاً استدلوا لذلك بما حكى الله عن شعيب {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} وبقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" وقوله: "إن أولادكم من كسبكم فكلوا من أموالهم" فإذا اشترط لنفسه شيئاً من الصداق كان قد أخذ من مال ابنته وله ذلك. (المسألة التاسعة) إذا كان للإنسان طعام في ذمة رجل وليس هو سلماً وذلك بأن يكون قرضاً أو أجرة أرض أو عمارة نخل وأراد صاحبه أن يأخذ عنه جنساً أخر من الطعام فهذا لا بأس به إذا لم يتفرقا وبينهما شيء فإن اتفاقا على المعارضة وتفرقا قبل التقابض لم يثبت إلا للأول ومتى تقابضا جازت المعاوضة ويجوز ذلك في بيع الأعيان لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم يداً بيد" كما ورد في السنة بمثل ذلك في قبض الدراهم عن الدنانير والدنانير عن الدراهم في حديث ابن عمر. (العاشرة) العاصب للميت من كان أقرب من غيره بعد العاصب أو قرب، فمتى ثبتت النسبة بان هذا ابن عم الميت ولا يعرف أحد أقرب منه فهو العاصب وإن بعد عن الميت، فإن عرف أن هذا الميت من هذه القبيلة ولم يعرف له عاصب معين وأشكل الأمر دفع إلى أكبرهم سناً، فإن كان للميت وارث ذو فرض أخذ فرضه، وإن لم يوجد عاصب فالرد إلى ذوي الفرض أولى من دفعه في بيت المال، ويرد على ذوي الفرض على حسب ميراثهم إلا الزوج والزوجة فلا يرد عليهم. (الحادية عشرة) إذا زنت المرأة البكر وجلدت فهل تغرب أم لا؟ فالمسألة فيها خلاف بين العلماء والمشهور أنها تغرب كما هو ظاهر الحديث أعني قوله صلى الله عليه وسلم: "البكر بالكبر جلد مائة وتغريب عام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الرسالة السادسة ... بسم الله الرحمن الرحيم (من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه وسر الخاطر، وإن سألت عن حال أخيك فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، نسأل الله أن يتم علينا نعمته في الدنيا والآخرة، وكل من تسأل عنه طيب، وسعود وآل الشيخ وعيالهم وعيالنا الجميع في عافية ونعمة، وما ذكرت من التحول إلى رنية فأرجو أن يكون سفراً مباركاً، نسأل الله أن ينزلنا وإياكم منزلاً مباركاً وهو خير المنزلين، ولا تنس الدعاء بما أوصى الله به نبيه صلى الله عليه وسلم {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} وأما المسائل التي سألت عنها: (الأولى) إذا استأجر إنسان من آخر ناضحاً يسقي عليه شجره أو زرعه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وشط عليه إن ما الناضح أو عجف فالأجرة تامة، وإن لم يسق عليه إلا يوماً واحداً ورضي كل منهما بذلك هل يحكم بفسادها أم لا؟ فالذي يظهر لي صحة ذلك العقد إذا كانت الأجرة معلومة والمدة معلومة، وأما الشرط فهو فاسد فإن مات الناضح أو عجف لزم المستأجر قسط ما مضى من المدة وانفسخ فيما بقي إن لم يتراضيا على إتمام العمل على ناضح واحد. وأما قولك: هل إجارة الإنسان نفسه أو دابته بجزء مشاع من الثمرة قبل ظهورها أو قبل بدو صلاحها صحيح أم لا؟ فاعلم أن الثمرة لا يصح بيعها قبل بدو صلاحها ولا تجعل أجرة للعمل، لأن جعلها أجرة بيع لها، وأما إن ساقاه على الثمرة بجزء منها فذلك صحيح قبل ظهورها وبعده. وأما قولك: إذا فرق نائب الإمام جماعته النائبة وكان بعضهم غائباً وأخذ الأمير من رجل دراهم وجعلها سلماً في ثمر ذمة الغائب ما الحكم إذا ترافعا؟ فالذي يظهر لي أن هذا السلم لا يلزم الغائب، لأن الغائب معذور وطريق الحيلة أن يقترض عليه أو يقرضه الأمير بنفسه، فإّا قدم طالبه بما لزمه من النائبة. وأما قياسكم على صاحب الدين إذا امتنع عن وفاء دينه وباع الحاكم لوفاء دينه فقياس غير صحيح، وذلك أن الحاكم له تسلط على بيع مال الممتنع من وفاء دينه إذ لا طرق للوفاء إلا بذلك، وأما هذا الغائب فلم يمتنع، بل لو كان الذي عليه الدين غائباً لم يكن للحاكم بيع ماله. وأما قولك: من ينظر في جراح النساء فالذي ينظر في جراح النساء من يوثق به من أهل الخبرة والمعرفة. وأما قولك: هل شهادة النساء في استهلال الجنين من جهة الإرث إذا كن اثنتين فأكثر مقبولة أم لا؟ فالمشهور أنه يقبل في ذلك قول امرأة واحدة إذا كانت عدلة مرضية لأن مالا يطلع عليه يقبل قولهن فيه، وقد نص الفقهاء على قبول المرأة وحدها في ذلك وفي المسألة خلاف. وأما قولك: هل الغرة في الجنين واجبة على كل حال خلق أم لا؟ فالمشهور أن الغرة تجب إذا وضعت المرأة ما تنقضي بها عدتها وتصير به الأمة أم ولد وذلك إذا تبين فيه خلق الآدمي. وأما قولك: إذا غاب من الإنسان يده أو رجله بجناية الغير وبقي العضو مع عيبه هل الدية تامة؟ فهذا فيه تفصيل وذلك أنه ينظر إلى العضو فإن ذهب نفعه بالكلية بحيث تعطل نفعه فديته تامة، وأما إذا كان في العضو نفع فليس فيه من الدية إلا بقدر الذاهب من النفع. وأما قولك: هل المعتبر فيما تحمله العاقلة لا تحمل ما دون الثلث فما فوقه بالجاني أو المجني عليه. فاعلم أن المشهور أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 تحمل ما فوق الثلث في الخطأ خاصة، وأما في العمد فتلزم الجاني في ماله حالة، وإذا حملت العاقلة ردا لم تحمل فالاعتبار في ذلك بحال المجني عليه إذا كان حراً مسلماً ولم يكن جنيناً، وأما دية الجنين فلا تحمله العاقلة لنقصه عن الثلث إلا إذا كان تبعاً لأمه وأنت سالم والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الرسالة السابعة ... بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان حفظه الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه وكذلك السؤال وصورته. ما قول العلماء فيمن دفع دابة إلى آخر يسقي زرعاً بجزء من الثمرة سواء كان الدفع قبل وجود الزرع أو بعدما أخضر الزرع، وسواء كانت مدة السقي معلومة أو مجهولة مثل أن تهزل أو تعجف هل هذا جائز يشبه دفع الدابة إلى من يعمل عليها مغلها أم هذا ليس بصحيح لعدم معرفة الأجرة والجهل بالمدة إذا لم توقت. فنقول هذه المسألة لم أقف عليها منصوصة في كلام العلماء ولكنهم نصوا على ما يؤخذ منه حكم هذه المسألة. فمن ذلك أنهم ذكروا أن من شرط صحة الإجارة معرفة قدر الأجرة ومعرفة قدر المدة قال في المغني يشترط في عوض الإجارة كونه معلوماً لا نعلم في ذلك خلافاً انتهى. ولكن هذه المسألة هل تلحق بمسائل الإجارة وتعطى أحكامها أم تلحق بمسائل الشركة وتعطى أحكامها مثل المساقاة والمزارعة والمضاربة وغير ذلك من مسائل المشاركات فإن قلنا أنها بمسائل الإجارة أشبه، فالإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة على مدة معلومة. ولهذا اختلف العلماء في جواز إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها كثلث أو ربع فمنعه أبو حنيفة والشافعي وغيرهما وعللوه بأن العوض مجهول فلا تصح الإجارة بعوض مجهول وأجازه الإمام أحمد فمن أصحابه من قال بل هو مزارعة بلفظ الإجارة. قال في الإنصاف والصحيح من المذهب أن هذه إجارة وأن الإجارة تصح بجزء مشاع معلوم مما يخرج من الأرض المؤجرة وهو من مفردات المذهب انتهى. وقال في المغني إجارة الأرض بجزء مشاع مما يخرج كنصف أو ثلث أو ربع المنصوص عن أحمد جوازه وهو قول أكثر الأصحاب، واختار أبو الخطاب أنها لا تصح وهو الصحيح إن شاء الله لما تقدم من الأحاديث في النهي من غير معارض لها، ولأنها إجارة بعوض مجهولاً فلم تصح كإجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى، ولأنه لا نص في جوازها ولا يمكن قياسها على المنصوص، فإن النصوص إنما وردت بالنهي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 إجارتها بذلك ولا نعلم في تجويزها نصاً، والمنصوص جواز إجارتها بذهب أو فضة أو شيء معلوم فأما نص أحمد فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة انتهى. وقال في المغني أيضاً: قال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عن الرجل يدفع البقرة إلى الرجل على أن يعلفها ويحفظها وما ولدت من ولد بينهما؟ قال أكره ذلك، وبه قال أيوب وخيثمة ولا أعلم فيه مخالفاً وذلك لأن العوض معدوم مجهول ولا يدري أيوجد أم لا والأصل عدمه انتهى. وأما إن ألحقنا هذه المسألة المسئول عنها بمسائل الشركة وقلنا هي بمسائل الشركة أشبه جرى فيها من اختلاف العلماء ما جرى في نظائرها وأنا اذكر بعض ما ذكره العلماء في هذا الباب. قال في المغني: وإن دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها وما رزق الله بينهما نصفين أو ثلاثاً وكيفما شرطا صح نص عليه في رواية الاثرم ومحمد بن سعيد، ونقل عن الأوزاعي ما يدل علة هذا وكره ذلك الحسن والنخعي وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي لا يصح والربح كله لرب المال وللعامل أجرة مثله. ولنا أنها عين تنمي بالعمل عليها فصح العقد عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير وكالشجر في المساقاة وا لأرض في المزارعة. وقد أشار الإمام أحمد إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة، فقال لا بأس باثوب يدفع بالثلث والربع لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر وهذا يدل على أنه صار في مثل هذا إلى الجواز لشبهه بالمساقاة والمزارعة لا المضاربة ولا إلى الإجارة. ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة أرجو أن لا يكون به بأس، ونقل أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده لرجل ليكتسب عليه ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز، والوجه فيه ما ذكرناه في مسألة الدابة، وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قميصاً وله نصف ربحه بعمله جاز. نص عليه في رواية حرب، وإن رفع غزلاً إلى رجل ينسجه ثوباً بثلث ثمنه أو ربعه جاز نص عليه، ولم يجز مالك وأبو حنيفة الشافعي شيئاً من ذلك. وقال الاثرم: سمعت أبا عبد الله يقول لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع، وسئل عن الرجل يعطي الثوب بالثلث ودرهم او درهمين قال أكرهه لأن هذا شيء لا يعرف، الثلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزاً لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر، قيل لأبي عبد الله فإن كان النساج لا يرضى حتى يزاد على الثلث درهماً؟ قال فليجعل له ثلثا وعشرا ثلثا ونصف عشر وما أشبه انتهىملخصاً. وقد نص أحمد على جواز دفع الثوب لمن يبيعه بثمن يقدره له ويقول ما زاد فهو لك، ولو دفع عبده أو دابته إلى من يعمل بهما بجزء من الأجرة أو ثوباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 يخيطه أو غزلاً بجزء من ربحه أو بجزء منه جاز نص عليه وهو المذهب جزم ناظم المفردات وهو منها. وقال في الحاوي الصغير: ومن استأجر من يجذ نخله أو يحصد زرعه بجزء مشاع منه جاز نص عليه في رواية مهنا، وعنه لا يجوز وللعامل أجرة مثله. ونقل مهنا في الحصاد هو أحب ألي من المقاطعة، وعنه له دفع دابته أو نخله لمن يقوم به بجزء من نمائه. اختاره الشيخ تقي الدين، والمذهب لا لحصول نمائه بغير عمله انتهى ملخصاً. وقال في المغني: وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض ومن الآخر البذر ومن البقر والعمل على أن ما زرق الله بينهم فعملوا فهذا عقد فاسد نص عليه أحمد في رواية أبي داود ومهنا وأحمد بن القاسم، وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر لأنه نماء ماله ولصاحبيه عليه أجرة مثليهما انتهى. وقال في موضع آخر: فإن اشترك ثلاثة من أحدهم دابة ومن الآخر راوية، ومن الأخر العمل على أن ما رزق الله بينهم صح في قياس قول أحمد فإنه قد نص في الدابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها على أن لهما الأجرة على الصحة وهذا مثله. وهكذا لو اشترك أربع من أحدهم دكان ومن الآخر رحى، ومن آخر بغل ومن آخر العمل على أن يطحنوا وما رزق الله تعالى فهو بينهم صح وكان بينهم على ما شرطوه. وقال القاضي: العقد الفاسد في المسألتين جميعاً وهو ظاهر قول الشافعي انتهى. ومن تأمل ما نقلناه تبين له حكم مسألة السؤال والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الرسالة الثامنة ... بسم الله الرحمن الرحيم من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر حفظه الله تعالى آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه وكل من تسأل عنه طيبون آل الشيخ وسعود وإخوانه وأولاده الجميع فيما تحب ولله الحمد، وأن سألت عن حالي فالحمد لله الذي بنعمته تنم الصالحات وما ذكرت من جهة العذر عن الزيارة فعذرك واضح ولا عليك شرهة في الزيارة والحالة هذه، وما ذكرت من جهة المشاورة في التحول بأهلك جهة رنية فالذي أراه لك استخارة الله سبحانه، فإن وجدت نفسك مهتوية فتوكل على الله والوادي فيه ما يكفيك وهذا رجب تبغي تصدر قالته إن شاء الله ولا أكره لك نفع الناس وبث العلم الذي تفهم لا كان في أصل الدين ولا فروعه، واحرص على تعليم الناس ما أوجب الله عليهم وكثرة القراءة في نسخ الأصول خصوصاً مختصرات الشيخ رحمه الله وكذلك السير وحط الباب على تعليم العامة أصل دين الإسلام ومعرفة أدلته ولا تكتف بالتعليم أنشدهم واجعل لهم وقتاً تسألهم عن أصل دينهم، ولا تغفل عن استحضار النية فإن الأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى، والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً، فالصواب ما وافق شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم والخالص ما أريد به وجه الله تعالى. قال تعالى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وأحذر القول على الله بلا علم فإن الله تعالى لما ذكر المحرمات العظام ختمها بقوله تعالى {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فجعل القول منه بلا علم قريناً للشرك في الآية الكريمة، الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولكن العبد هو الذي يكلف نفسه ويحملها ما لا تطيق ويعرضها لسخط الله ومقته. ومن أعظم التكلف أن يتكلم الإنسان بما لا يعلم، والواجب على الإنسان أن يتكلم في دين الله بما يعلم فإن لم يكن عنده علم فليقل الله ورسوله أعلم، ولا تستح من قول لا أدري فقد قيل إذا ترك العالم قول لا أدري أصيبت مقاتله. فإذا وقع عليك قضية من القضايا فإن كان عندك علم فتكلم وإلا فإن أمكن فيها الإصلاح فأصلح فيها فإن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، فإن لم يمكن الصلح أولم يرض به الخصمان فأصرفهما عنك ولا تعاظم ذلك ولا تستح منه فإن الأمر عظيم ولا بد من يوم تعاد فيه الخصومات بين يدي رب العالمين، قال تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . وأما المسائل التي سألت عنها (فالأولى) شهادة المرأة الواحدة في الرضاع عند من يقول به هل تصدق ولو ادعت أم الطفل كذبها؟ فالأمر كذلك تصدق والقول قولها. وأما قولك: هل تعتبر العدالة في المرضعة إذا ادعت الرضاع؟ فالأمر كذلك بل لا بد من العدالة في الشهادة في الرضاع وغيره، والمراد العدالة ظاهراًن وأما الرضاع فنصوا على العدالة في المرأة إذا ادعت ذلك قال ابن عباس: يقبل قولها إّا كانت مرضية وتستخلف فإذا حلفت فارق الزوج المرأة. وقال الشيخ تقي الدين: يقبل قول المرأة في الرضاع إذا كانت معروفة بالصدق لحديث عقبة المخرج في الصحيحين. وأما قولك: إذا ماتت المرأة وشهد على إقرارها بالرضاع امرأة أو امرأتان فالظاهر أن ذلك لا يعمل به لأن الشهادة على الشهادة لها تسعة شروط (أحدها) أن تكون في غير حق الله (ومنها) أن يستدعي شاهد الأصل شاهد الفرع فيقول اشهد على شهادتي. وأيضاً فإن الشهادة على الرضاع لا تقبل إلا مفسرة لاحتمال أن يكون الشاهد يرى في الرضاع خلاف الصواب، فلا بد من تفسير الرضاع بخمس رضعات في الحولين. (المسألة الثانية) إذا كان بين شريكين نخل أو زرع وأراد أحدهما تركه للآخر وعوضه كيلاً معلوماً أو جزءاً مشاعاً من الثمرة فهذا مساقاة لا مشاركة ولا بأس بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فإن كان بجزء مشاع فهو مساقاة وإن كان بكيل معلوم فهو إجارة وفيها خلاف والمفتى به عندنا جوازها. (المسألة الثالثة) إذا كان شريكان في نخل أو زرع وبدا صلاح الثمرة واشترى أحدهما نصيب الآخر بكيل يشترطه من الثمرة بعينها والبائع عليه مؤونة الكد حتى يتم العمل، فهذه مسألة من حيث أن كلام الفقهاء فيها يخالف ظاهر السنة قال ابن عبد البر: الخرص في المساقاة لا يجوز عند جميع العلماء وعلله وجعل أخذ الثمرة بكيل معلوم من المزابنة المنهي عنها، ولكن ظاهر السنة جاوز هذا، فإنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة يخرص على أهل خيبر، فإذا خرصها خيرهم وقال: "إن شئتم فخذوها بخرصها وإن شئتم فهي لنا" وقد روي أنه خرص عليهم أربعين ألف وسق فأخذوا الثمن وضمنوا للمسلمين عشرين قال ابن القيم على فوائد قصة خيبر وفيها جواز قسمة الثمار خرصاً، وان القسمة ليست بيعاً. انتهى بمعناه. وأما الأمر الذي لا يجوز وهو واقع كثيراً وينبغي التفطن له والتنبيه عليه إذا كان لرجل طعام في ذمة صاحب النخل قد أسلمه في ذمته وحضرت الثمرة وأخذ المسلم من المسلم إليه نخلاً بخرصه فهذا لا يجوز ولا يحل لمن أخذه أن يبيعه حتى يكتاله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله" حديث صحيح. ونص الفقهاء على أنه لا يجوز لمن قبض الطعام جزافا أن يبيعه حتى يكيله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الرسالة التاسعة ... (من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه وتسأل فيه عن مسائل: (الأولى) المطلقة البائن إذا مات زوجها الذي أبانها وهي في العدة فهذا إن كان زوجها أبانها في الصحة فإنها تبني على عدة الطلاق ولا تعتد للوفاة كما لو أبانها في المرض. (الثانية) المتوفى عنها وهي حامل هل هي في إحداد ولو تعتد أربعة أشهر وعشراً؟ فالأمر بذلك هي في إحداد حتى تضع حملها. (الثالثة) العبد المملوك إذا سرق من حرز من غير مال سيده هل يجب عليه القطع؟ فالأمر كذلك وأما سيده فلا يقطع بسرقة ماله. (الرابعة) فيمن طلق امرأته قبل أن يدخل بها ثلاث تطليقات هل إذا بانت في الأولى هل تحل له بملاك جديد أم تحرم عليه؟ فلا تحل له إلا بعد الزواج الثاني بعد أن يجامعها ولا تحل للأول قبل جماع الزوج الثاني، وأما إن كان طلقها ثلاثاً واحدة بعد واحدة فإنها الطلاق تيبن بالأولى ولا يلحقها بقية الطلاق لأن غير المدخول بها لا عدة عليها ولا يلحقها الطلاق، فإذا بانت بالأولى حلت لزوجها بعقد ثان، وإن لم تتزوج غيره وتبقى معه على طلقتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 (الخامسة) فيمن طلق زوجته تطليقتين بعد المسيس ثم تزوجت له زوجاً ثانياً وطلقها قبل أن يمسها هل ترجع إلى الأول؟ فالأمر كذلك ولا تأثير لهذا الزوج في حل العقد لأنها حلال لزوجها قبله، فإذا اعتدت خلت لزوجها الأول بعقد جديد، فإن لم يكن خلا فلا عدة عليها ويعقد عليها الثاني في الحال. (السادسة) إذا وطيء الصبي الصبية هل يلزمهما غير التعزير؟ فلا يلزمهما حد بل يعزران تعزيراً بليغاً قال الشيخ تقي الدين: لا خلاف بين العلماء أن غير المكلف يعزر على الفاحشة تعزيراً بليغاً. (السابعة) فيمن رمى صبية بالزنا أو صبياً فإن كان يمكن الوطء من مثله كبنت تسع وابن عشر فهذا يقام الحد على قذفهما، وإن لم يبلغا بخلاف الصغير الذي لا يجامع مثله والصغيرة التي لا يجامع مثلها فليس على قذفهما إلى التعزير وأما الصغير إذا قذف الكبير فليس عليه إلا التعزير. (الثامنة) عبارة الشرح في تفسير الشرطين وكذلك عبارة الانصاف التي نقلت، فالذي عليه الفتوى أن الشرطين الصحيحين لا يؤثران في العقد كما هو اختيار الشيخ تقي الدين. (التاسعة) الجراح المقدرات مثل الموضحة والمأمومة والجائفة إذا كانت في العبد فديتها في العبد نسبتها من ثمنه، فالموضحة من الحر ديتها نصف عشر الدية، ومن العبد نصف عشر قيمته، والجائفة في الحر فيها ثلث الدية، ومن العبد ثلث قيمته، وأما الجراحات التي لا مقدر فيها من الحر فديتها من العبد ما نقص قيمته بعد البرء. (العاشرة) دية المملوك هل هي على النصف من الحر؟ فليس الأمر كذلك بل دية المملوك قيمته سواء كثرت أو قلت، وإذا قتل الحر العبد لم يقد به لقوله تعالى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} . (الحادية عشرة) الإقرار بالزنا هل يكفي فيه مرة أو أربع فالمسألة خلافيه بين أهل العلم، والأحوط أنه لا بد من الإقرار أربع مرات كما هو مذهب الإمام أحمد، ولابد أن يقيم على إقراره حتى يتم الحد، فإن رجع عن إقراره لم يقم عليه الحد، وكذا لو شرعوا في إقامة الحد عليه فرجع لحديث ماعز والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الرسالة العاشرة ... (من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان سلمه الله تعالى) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه، تسأل عمن اعتقل لسانه عن بغض الكلام دون بغض وهو مريض وقيل له: أوص لأخيك فلان بالنفقة وكرر عليه مراراً وسكت سكتة ثم قال فلان يسميه باسمه ويشير برأسه إشارة ولم يتكلم بالنفقة ما حكم هذه الوصية؟ (فالجواب) أن العلماء اختلفوا في وصية من اعتقل لسانه في الشرح لما ذكر صحة وصية الأخرس: فأما الناطق إذا اعتقل لسانه فعرضت عليه وصية فأشار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 بها وفهمت إشارته فلا تصح وصيته إذا لم يكن مأيوساً من نطقه ذكره القاضي وابن عقيل وبه قال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ويحتمل أن تصح وهو قول الشافعي وابن المنذر وقال في الانصاف: لا تصح وصية من اعتقل لسانه وهو المذهب وعنه التوقف، ويحتمل أن تصح إذا اتصل بالموت وفهمت إشارته اختاره في الفائق. (قلت) وهو الصواب قال الحارثي وهو الأولى واستدل له بحديث رض اليهودي رأس الجارية وإيمائها انتهى. وهذا الاختلاف فيما إذا اعتقل لسانه واتصل به الموت، وهذا المسئول عنه قد تكلم باسم الرجل فالظاهر من حاله يقدر على التلفظ بالوصية ولم يلفظ بها فلا يدخل تحت الصورة المختلف فيها، والأقرب عندي عدم الصحة والله أعلم. (المسألة الثانية) إذا احتاج العامل إلى جعل حظيرة على زرعه تمنع الرياح عن مضرة الزرع ومنعه المالك معللاً بأن الحظيرة تجمع التراب، فالأقرب في مثل هذا أن العامل عن فعل ذلك لأن فيه منفعة مقصودة، ولكن يلزمه إزالة الحظيرة وقلع ما اجتمع فيها من التراب الذي ألقته الريح، فتحصل المصلحة للعامل من غير ضرر على المالك. وأما مسألة الميراث فقد علمت الذي عليه العمل في أصل المسألة وأما هذه الصورة بعينها فلا أعلم الحكم فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الرسالة الحادية عشرة ... بسم الله الرحمن الرحيم ومن جواب مسائل سئل عنها حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله قال بعد كلام سبق (وأما المسألة السابعة) وهي قولك: أنا نقول إن الإنسان إذا لم يحصل له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه يهاجر. فنقول في هذه المسألة كما قال العلماء رحمهم الله تعالى: تجب الهجرة على من عجز عن إظهار دينه بدار الحرب، فإن قدر على إظهار دينه فهجرته مستحبة لا واجبة وقال بعضهم بوجوبها لما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين" إن لم تكن البلد بلد حرب ولم يظهر الكفر فيها لم نوجب الهجرة إذا لم يكن فيها إلا المعاصي وعلى هذا يحمل الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" الحديث. انتهى جواب الشيخ رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الرسالة الثانية عشرة ... بسم الله الرحمن الرحيم (من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان جعله الله من أهل العلم والإيمان) سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه وكذلك المسائل التي تسأل عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 (الأولى) إذا سرقت الدابة ونحرت إلى آخر المسالة (فالجواب) أن الدابة إن سرقت من حرز مثلها كالبعير المعقول الذي عنده حافظ أو لم يكن معقولاً، وكان الحافظ ناظراً إليه أو مستيقظاً بحيث يراه ونحو ذلك مما ذكره الفقهاء في معرفة حرز المواشي فهذه إذا سرقت من الحرز فعلى السارق القطع بشرطه، فإن لم تكن في حرز فلا قطع على السارق وعليه مثلاً قيمة مثلها، وهو مذهب الإمام أحمد. واحتج بأن عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة حين انحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها. وأما من سرق من الثمر المعلق فلا قطع عليه وعليه غرامة مثليه في مذهب الإمام احمد، وقال أكثر الفقهاء: لا تجب فيه اكثر من مثليه وبالغ أبو عمر بن عبد البر فقال: لا اعلم أحداً من الفقهاء قال بوجوب غرامة مثليهن والصحيح ما ذهب إليه الإمام احمد لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال "من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" حديث حسن. قال الإمام أحمد: لا أعلم شيئاً يدفعه. وأما ما عدا هذا أعني الثمرة والماشية فالمشهور من مذهب الإمام أحمد لا يغرم أكثر من القيمة إن كان متقوماً أو مثله إن كان مثلياً لأن الأصل وجوب غرامة المثل فقط بدليل المتلف والمغصوب والنهب والاختلاس وسائر ما تجب غرانته فخولف الأصل في هذين الموضعين للأثر ويبقى ما عداهما على الأصل. واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله وجوب غرامة المثلين في كل سرقة لا قطع فيها. (وأما قول السائل) وفقه الله: وإذا اختلفا في القيمة ولا بينة لهما من القول قوله؟ فالظاهر من كلامهم أن القول قول الغارم. (وأما قوله) وإذا سرقها ثم باعها على من لا يعرف فما الحكم؟ فنقول فيها كما تقدم وهو غرامة المثلين على ما ذكرنا من تغريم عمر حاطباً، وعلى ما دل عليه حديث عمرو بن شعيب فإن فيه أن السائل قال: الشاة الحريسة يا نبي الله؟ قال: "ثمنها ومثله معه" ولا فرق بين بيع الشاة وبين ذبحها ونحر الناقة وبيعها. (المسألة الثانية) إذا دبر الرجل جاريته كقوله أنت عتيق بعد موتي وإذا مت فأنت حرة هل بين هذه الألفاظ فرق؟ (فالجواب) أنه لا فرق بين هذه الألفاظ، بل متى علق صريح العتق بالموت فقال أنت حرة محررة أوعتيق بعد موتي صارت مدبرة بغير خلاف علمته. (وأما قوله) وإذا دبرها وهي حامل أو حملت بعد التدبير فما الحكم في ولدها؟ فنقول أما إذا دبرها وهي حامل فإن ولدها يدخل معها في التدبير بغير خلاف علمناه لأنه بمنزلة عضو من أعضائها، وأما إذا حملت به بعد التدبير ففيه خلاف بين العلماء فذهب الجمهور إلى أنه يتبع أمه في التدبير ويكون حكمه حكمها في العتق بموت سيدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وهو مروي عن ابن مسعود وابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم ومجاهد والشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك والثوري وأصحاب الرأي. وذكر القاضي أن حنبلاً نقل عن أحمد أن ولد المدبرة عبد إذا لم يشترط المولي؟ قال فظاهره أنه لا يتبعها ولا يعتق بموت سيدها. وهذا قول جابر بن زيد هو بمنزلة الحائط تصدقت به إذا مت، فإن ثمرته لك ما عشت وللشافعي قولان كالمذهبين. (المسألة الثالثة) إذا تصرف الفضولي وأنكر صاحب المال فلم يجز التصرف فما الحكم في نماء المبيع؟ (فنقول) اختلف الفقهاء في تصرف الفضولي إذا أجازه المالك هل هو صحيح أم لا؟ والخلاف مشهور، وأما إذا لم يجز المالك فلم ينعقد بيع أصلاً ولا تدخل هذه المسألة في الخلاف بل الملك باق على ملك صاحبه ولا ينتقل بتصرف الفضولي ونماؤه لمالكه. (وأما قوله) إذا قال الفضولي للمشتري أنا ضامن ما الحكم في الغرامة هل يلزمه غرامة النماء؟ فنقول إن كان المشتري جاهلاً أن هذا مال الغير أو كان عالماً لكن جهل الحكم وغره الفضولي فما لزم المشتري من الغرامة من هذا النماء الذي تلف تحت المعهود يكون على الضامن الغار. (المسألة الرابعة) وهي قوله على القول بإثبات الشفعة بالشركت في البئر والطريق، وهل إذا باع إنسان عقاره وقد وقعت الحدود إلا أن الشركة باقية في البئر والطريق ومسيل الماء هل يأخذ الشفيع المبيع كله لأجل الشركة في هذه الأمور أم لا شفعة له إلا في البئر والطريق ومسيل الماء؟ (فنقول) على القول بإثبات الشفعة بالشركة في البئر والطرق يأخذ الشفيع المبيع كله بالشركة في البئر والطريق ولا يختص ذلك بالبئر نفسها ولا بالطريق وحده، وقد نص على ذلك أحمد في رواية أبي طالب فإنه سأله عن الشفعة لمن هي؟ فقال للجار إذا كان الطريق واحداً، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة، ويدل على ذلك ما رواه أهل السنن الأربعة من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الجار أحق بشفعة جاره وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحد". وفي حديث جابر المتفق عليه "الشفعة في كل مال يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فمفهوم الحديث الأخير موافق لمنطوق الأول بإثبات الشفعة إذا لم تصرف الطرق. والشركة في البئر تقاس على الشركة في الطريق لأن الشفعة إنما شرعت لإزالة الضرر عن الشريك ومع بقاء الشركة في البئر والطريق يبقى الضرر بحاله وهذا اختيار الشيخ تقي الدين رحمه الله وهو الذي عليه الفتوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وأما الشفعة فيما لا ينقل وليس بعقار كالشجر إذا بيع مفرداً ونحو ذلك فاختلف العلماء في ذلك فالمشهور في المذهب أنها لا تثبت فيه الشفعة وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي، وعن أحمد رواية أخرى أن الشفعة تثبت في البناء والغراس وأن بيع مفرداً لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم" ولأن الشفعة تثبت لدفع الضرر فيما لا ينقسم أبلغ منه فيما ينقسم. وقد روى الترمذي من حديث عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشفيع شريك والشفعة في كل شيء" وقد روي مرسلاً ورواه الطحاوي من حديث جابر مرفوعاً ولفظه: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء. وأما مسألة الضيافة على القول بوجوبها فالضيف على من نزل به، وأما الغائب ومن لم ينزل به الضيف فلا يجب عليه معونة المنزول به إلا أن يختار المعين. وأما مسألة المريض الذي أبرأ غرماءه مما عليهم من الدين فلما بريء من المرض أراد الرجوع فيما زاد على الثلث فهذا لا رجوع فيه، بل يسقط الدين بمجرد إسقاطه، وإنما التفصيل فيما إذا برأ من الدين ومات في ذلك المرض. وأما الذي أبرأ غريمه على شرط مجهول بأن شرط عليه ذلولاً تمشي في الجهاد دائماً، ومتى ماتت اشترى أخرى أو شرط عليه أضحية كل سنة على الدوام فهذا لا يصح والبراءة والحالة هذه لا تصح والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الرسالة الثالثة عشر ... من حمد بن ناصر إلى الأخ سعيد أسعده الله بطاعته وجعله من أهل ولايته. سلام عليكم ورحمه الله وبركاته. وبعد الخط وصل وصلك الله إلى رضوانه وسر الخاطر حيث أفاد العلم بطيبكم وصحة حالكم أحال الله عنا وعنك جميع ما نكره. وأما المسألة المسئول عنها هل الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة أم لا؟ فالمسألة فيها ثلاث روايات عن أحمد ليس كما ذكر صاحب الشرح حيث ذكر أن الدين يمنع وجوب الزكاة رواية واحدة، والروايات الثلاث حكاها في الفروع والانصاف. (الأولى) وهي المذهب الدين يمنع وجوب الزكاة. (والثانية) أنه لا يمنع مطلقاً كما هو مذهب الشافعي. (الثالثة) الفرق بين الحال وغيره فالحال يمنع وجوب الزكاة بخلاف المؤجل واختار هذه الرواية بعض الأصحاب وهي ظاهر حديث عثمان لأنه قال هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه ثم ليزك ما بقي، وهذه الرواية هي التي عليها ظاهر الفتوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 (المسألة الثانية) وهي أن الناس قبل الإسلام منهم من لا يورث المرأة ومنهم من يصالحها ويسلمون وبينهم عقار ونحوه من الإرث شيء باعه الرجال ولم يعطوا النساء منه شيئاً قبل الإسلام الخ، فالذي عليه الفتوى في هذه المسائل أعني عقود الجاهلية من نكاح وبياعات وعقود الربا والغصوب ومنع المواريث أهلها ونحو ذلك أن من أسلم على شيء من ذلك لم نتعرض له فلا نتعرض لكيفية عقد النكاح هل وقع بشروطه كالولي والشهود ونحو ذلك، وكذلك البياعات لا تنقض إذا اسلم المتعاقدان ولا ننظر كيف وقع العقد، وكذلك عقود الربا إذا أسلما ولم يتقابضا بل أدركهما الإسلام قبل التقابض فليس لصاحب الدين إلا رأس ماله لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} . وأما المال المقبوض فلا يطالب به القابض إذا أسلم لقوله تعالى: {َمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} وكذلك المواريث والغصوب فإذا استولى إنسان على حق غيره وتملكه في جاهليته ومنع ملكه بحيث أيس منه ثم أسلم وهو في يده لا ينازع فيه فهذا لا نتعرض له لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" ولأن الناس أسلموا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ولم يبلغنا أنهم نظروا في أنكحة الجاهلية ولا في عقودهم ومعاملاتهم ولا في غصوبهم ومظالمهم التي تملكوها في حال كفرهم. قال ابن جريج قلت لعطاء أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر الجاهلية على ما كانوا عليه؟ قال لم يبلغنا إلا ذلك، وقال الإمام أحمد في رواية مهنا من أسلم على شيء فهو عليه. وقال الشيخ تقي الدين ولو تزوج المرتد كافرة مرتدة كانت أو غيرها ثم أسلما فالذي ينبغي أن يقال هنا أن نقرهم على مناكحهم كالحربي إذا أنكح نكاحاً فاسداً ثم أسلما فإن المعنى واحد وهو جيد في القياس إذا قلنا أن المرتد لا يؤمر بقضاء ما تركه في الردة من العبادات، فأما إذا قلنا أنه يؤمر بقضاء ما تركه من العبادات ويضمن ويعاتب على ما فعله ففيه نظر، وما يدخل في هذا كل عقود المرتدين إذا أسلموا قبل التقابض أو بعده، وهذا باب واسع يدخل فيه جميع أحكام أهل الشرك في النكاح وتوابعه والأموال وتوابعها أو استولوا على مال مسلم أو تقاسموا ميراثاً ثم أسلموا بعد ذلك والدماء وتوابعها كذلك. انتهى كلام الشيخ رحمه الله. وقال رحمه الله في موضع آخر: ولو تقاسموا ميراثاً جهالاً فهذا شبيه بقسم ميراث المفقود إذا ظهر حياً لا يضمنون ما أتلفوا لأنهم معذورون، وأما الباقي فيفرق بين المسلم والكافر فإن الكافر لا يرد باقياً ولا يضمن تالفاً انتهى. وأما قولك: وأيضاً ذكر الفقهاء أن المرتد لا يرث ولا يورث فكفار أهل زماننا هل هم مرتدون أم حكمهم حكم عبدة الأوثان لأنهم مشركون؟ (فنقول) أما من دخل منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 في الإسلام ثم ارتد عنه فهؤلاء مرتدون وأمرهم عندك واضح، وأما من لم يدخل في دين الإسلام بل أدركته الدعوة الإسلامية وهو على كفره كعبدة الأوثان اليوم فهذا حكمه حكم الكافر الأصلي لأنا نقول أن الأصل الإسلام والكفر طاريء، بل نقول الذين نشأوا بين الكفار وأدركوا آباءهم على الشرك بالله هم كآبائهم كما دل عليه الحديث الصحيح "فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فإذا كان دين آبائهم الشرك بالله فنشأ هؤلاء عليه واستمروا عليه فلانقول الأصل الإسلام والكفر طاريء، بل نقول هم كالكفار الأصليين ولا يلزم هنا على هذا تكفير من مات في الجاهلية قبل ظهور هذا الدين، فإنا لا نكفر الناس بالعموم كما أنا لا نكفر اليوم بالعموم، بل نقول من كان من أهل الجاهلية عاملاً بالإسلام تاركاً للشرك فهو مسلم وأما من كان يعبد الأوثان ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين فهو ظاهره الكفر وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية لجهله وعدم من ينبهه لأنا نحكم على الظاهر، وأما الحكم على الباطن فذلك أمره إلى الله والله تعالى لم يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة كما قال تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وأما من مات منهم مجهول الحال فهذا لا نتعرض له ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه وليس ذلك مما كلفنا به {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فمن كان منهم مسلماً أدخله الله الجنة، ومن كان منهم كافراً أدخله الله النار، ومن كان لم تبلغه الدعوة فأمره إلى الله، وقد علمت اختلاف العلماء في أهل الفترة ومن لم تبلغه الحجة الرسالية وأيضاً فإنه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا بما حكم به الفقهاء في المرتد بأنه لا يرث ولا يورث لأن من قال بأنه لايرث ولا يورث يجعل ماله فيئاً لبيت مال المسلمين وطرد هذاالقول أن يقال جميع أملاك الكفار اليوم بيت مال لأنهم ورثوها عن أهاليهم وأهاليهم مرتدون ولا يورثون وكذلك الورثة مرتدون لايرثون لأن المرتد لايرث ولايورث، وأما إذا حكمنا فيهم بحكم الكفار الأصليين لم يكن شيء من ذلك بل يتوارثون، فإذا أسلموا فمن أسلم على شيء فهو له ولا نتعرض له ولا نتعرض لما مضى منهم في جاهليتهم لا المواريث ولا غيرها، وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أسلم على شيء فهو له" ونص أحمد على مثل ذلك كما تقدم عنه في رواية مهنا. وأعلم بأن القول بأن المرتد لا يرث ولا يورث أحد الأقوال في المسألة وهو المشهور في المذهب وهو مذهب مالك الشافعي (والقول الثاني) أنه لورثته من المسلمين وهو رواية عن أحمد وهو مروي عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وهو قول جماعة من التابعين وهو الأوزعي وأهل العراق (والقول الثالث) أن ماله لأهل دينه الذي اختاره ان كان منهم من يرثه وإلا فهو فيء وهو رواية عن أحمد وهو مذهب داود بن علي والسلام. (فائدة) قال في الإقناع وشرحه: وإذا ذبح السارق المسلم أو الكتابي المسروق مسمياً حل لربه ونحوه أكله ولم يكن ميتة كالمغصوب ويقطع السارق إن كان قيمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 المذبوح نصاباً وإلا فلا –إلى أن قال: - ومن سرق من ثمر أو شجر أو جمار نخل وهو الكثر بضم الكاف وفتح المثلثة قبل إدخاله الحرز كأخذه من رءوس النخل وشجر من بستان لم يقطع، وإن كان عليه حائط وحافظ، ويضمن عوضه مرتين لحديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع في ثمر ولا كثر" رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب بغيته من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة" ولأن الثمار في العادة تسبق اليد إليها فجاز أن تغلظ قيمتها على سارقها ردعاً له وزجراً بخلاف غيرها، وقوله صلى الله عليه وسلم "غير متخذ خبنة" بالخاء المعجمة ثم باء موحدة ثم نون أي غير متخذاً في حجره، ومن سرق منه أي من الثمر نصاباً بعد أن يؤويه الحرز كجرين ونحوه أو سرق نصاباً من ثمر من شجره في دار محرزة قطع لقوله عليه السلام في حديث عمرو بن شعيب السابق " ومن سرق منه شيء بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" رواه أحمد والنسائي وأبو داود ولفظه له، وكذلك الماشية تسرق من المرعى من غير أن تكون محرزة تضمن بمثلي قيمتها ولا قطع كثمر وكثر، واحتج أحمد بأن عمر غرم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة مزينة مثلي قيمتها. رواه الاثرم، وما عداها أي الثمر والكثر والماشية يضمن بقيمته مرة واحدة إن كان متقوماً أو مثله إن كان مثلياً كان التضعيف فيها على خلاف القياس للنص فلا يتجاوزه محل النص وقال في كتاب الأطعمة: ومن مر بثمر على شجر أو مر بثمر ساقط تحته لا حائط عليه أي على الشجر ولا ناظر ولو كان المار غير مسافر ولا مضطر فله أن يأكل منه ولو لغير حاجة إلى أكله ولو أكله من غصونه من غير رميه ولا ضرر به ولا صعود شجره لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتيت حائط بستان فناد: يا صاحب البستان. فان أجابك وإلا فكل من غيرأن تفسد " رواه أحمد وابن ماجه ورجاله ثقات. قال في المبدع: وروى سعيد باسناده نحوه مرفوعاً، ومثله عن عبد الرحمن بن سمرة وأبو برزة وهو قول عمرو بن شعيب وابن عباس وعلم منه أنه لا يجوز رميه بشيء ولا صعود شجره لأنه يفسد، واستحب جماعة أن ننادي قبل الأكل ثلاثاً يا صاحب البستان فان أجابه وإلا أكل للخبر السابق، وكذلك ينادي للماشية إذا أراد أن يشرب من لبنها ولبن ماشية إذا مر بها كالثمر لما روى الحسن عن سمرة مرفوعاً قال: "إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان صاحبها فيها فليستأذنه فإن لم يجد أحداً فليحتلب وليشرب ولا يحتمل" رواه الترمذي وصححه، وحديث ابن عمر "لا يحتلبن أحدكم ماشيته إلا بإذنه" متفق عليه يحتمل حمله على ما إذا كان حائط أو حافظ جمعاً بين الخبرين، والأولى في الثمار وغيرها كالزرع ولبن الماشية لا يأكل منها إلا بإذن خروجاً من الخلاف انتهى كلام الإقناع وشرحه، وصلى الله عليه محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 كتاب مختصرات الردود رسالة من محمد أحمد الحفظي اليمني: منها أنه زعم إن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم به ... كتاب مختصر الردود قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين وحجة على الكافرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً. أما بعد: فانه لما كان منتصف جمادي الثانية من سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف ورد علينا رسالة من محمد بن أحمد الحفظي اليمني يسأل فيها عن مسائل أوردها عليه بعض المجادلين فطلب منا الجواب عليها. منها: أنه زعم أن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه، الثاني: أن نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة وهي من الأصغر، الثالث: أنه قد ورد في حديث الضرير قوله يا محمد إني أتوجه بك الخ وفي الجامع الكبير وعزاه للطبراني فيمن انفلتت عليه دابته قال يا عباد الله احبسوا وهذا دعاء ونداء لغير الله. الجواب وبالله التوفيق والتأييد ومنه استمد العون والتسديد، اعلم أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان: أحدهما سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه مثل سؤاله أن يدعوا له أو يعينه أو ينصره مما يقدر عليهن فهذا جائز كما كان الصحابة رضي الله عنهم يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته فيشفع لهم ويسألونه الدعاء فيدعو لهم فالمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها كما قال تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} وكما ورد في الصحيحين: إن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى ثم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي سنن أبي داود أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله فقال: "شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه" فأقره على قوله نستشفع بك على الله، وأنكر قوله نستشفع بك بالله عليك" فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يطلبون منه الدعاء ويستشفعون به في حياته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 النوع الثاني: سؤال الميت والغائب وغيرهما ما لا يقدر عليه إلا الله مثل سؤال قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات فهذه من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالدين بالإضرار أنه ليس من دين الإسلام فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزلت به شدة أو عرضت له حاجة يقول لميت يا سيدي فلان اقض حاجتي أو اكشف شدتي أو أنا في حسبك أو أنا متشفع بك إلى ربي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها، فإن هذا من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم لم يقولوا أن آلهتم شاركت الله في خلق العالم أو أنها تنزل المطر وتنبت النبات بل كانوا مقرين بذلك لله وحده كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الآية. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال طائفة من السلف في تفسير هذه الآية: إذا سئلوا من خلق السموات والأرض قالوا الله وهم يعبدون غيره، ففسروا الإيمان في الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية وفسروا الإشراك بإشراكهم في توحيد الألوهية الذي هو توحيد العبادة. والعبادة اسم جامع لما يحب الله ويرضاه من الأقوال من ذلك الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله، فمن طلبه من غيره واستعان به فيه فقد عبده به والدعاء من أفضل العبادات وأجل الطاعات قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة" وللترمذي والنسائي ابن ماجه من حديث النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو العبادة" ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية قال الترمذي حديث حسن صحيح، قال الشارح: معنى قوله صلى الله عليه وسلم "الدعاء هو العبادة" أي خالصها أن الداعي إنما يدعو الله عند انقطاع أمله مما سواه وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص انتهى. والدعاء في القرآن يتناول معنيين أحدهما: دعاء العبادة وهو دعاء الله لامتثال أمره في قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الثاني دعاء المسألة وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة ودفع المضرة وبقطع النظر عن الامتثال فقد فسر قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} بالوجهين أحدهما: ما هو عام في الدعاء وغيره وهو العبادة وامتثال الأمر له سبحانه فيكون معنى قوله {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أثابكم كما قال في الآية الأخرى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي يثيبهم على أحد التفسيرين. الثاني: ما هو خاص معناه سلوني أعطكم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 عليه وسلم أنه قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فاستجيب له من يسألني فأعطيه سؤاله من يستغفرني فاغفر له" فذكر أولاً لفظ الدعاء ثم السؤال ثم الاستغفار والمستغفر سائل كما أن السائل داع فعطف السؤال والاستغفار على الدعاء فهو من باب عطف الخاص على العام، وهذا المعنى الثاني أعني الخاص هو الأظهر لوجهين: أحدهما: ما في حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أن الدعاء هو العبادة" ثم قرأ الآية {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فاستدلاله عليه الصلاة والسلام بالآية دليل على أن المراد منها سلوني. وخطاب الله عباده المكلفين بصيغة الأمر منصرف إلى الوجوب ما لم يقم دليل يصرفه إلى الاستحباب فيفيد قصر فعله على الله فلا يجعل لغيره لأنه عبادة، ولهذا أمر الله الخلق بسؤاله فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وفي الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "سلوا الله من فضله فإن الله يحب الملحين في الدعاء" فتبين بهذا أن الدعاء من أفضل العبادات وأجمل الطاعات. الوجه الثاني: أنه سبحانه قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} والسائل راغب راهب وكل راغب راهب فهو عابد سائل وكل سائل لله فهو عابد قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} لا يتصور أن يخلو داع لله من دعء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب والخوف والطمع له، فدعاء العبادة ودعاء المسألة كلاهما عبادة لله لا يجوز صرفها إلى غيره. فلا يجوز أن يطلب من مخلوق ميت أو غائب قضاء حاجة أو تفريج كربة ما لا يقدر عليه إلا الله لا يجوز أن يطلب إلا من الله. فمن دعا ميتاً أو غائباً فقال: يا سيدي فلان أغثني أو انصرني أو ارحمني أو اكشف عني شدتي ونحو ذلك فهو كافر مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء. فإن هذا هو شرك المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يكونوا يقولون تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها، بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنه في غير موضع من كتابه. وإنما كنوا يفعلون عندها ما يفعله اخوانهم من المشركين اليوم من دعائها والاستغاثة بها والذبح لها والنذر لها يزعمون أنها وسائط بينهم وبين الله تقربهم إليه وتشفع لهم لديه كما حكاه عنهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون الدعاء كله لله والذبح كله لله والاستغاثة كلها بالله وجميع العبادات كلها بالله. والله سبحانه قد بين في غير موضع من كتابه أن الدعاء عبادة فقال تعالى: حاكيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 عن خليله إبراهيم عليه السلام {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} فأخبر سبحانه أنه لا أضل من هذا الداعي وأن المدعو لا يستجيب له وأن ذلك عبادة يكفر بها المعبود يوم القيامة كقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} . وقد سمى إله سبحانه الدعاء ديناً في غير موضع من كتابه وأمرنا أن نخلصه له وأخبر أن المشركين يخلصون له في الشدائد فقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} فأخبر سبحانه أنهم عند الأضطرار يدعونه وحده لا شريك له مخلصين له في تلك الحالات لا يستغيثون بغيره فلما نجاهم من تلك الشدة إذا هم يشركون في دعائهم، ولهذا قال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} أي أنه سبحانه لما نجاكم إلى البر أعرضتم أي نسيتم ما عرفتم من توحيده، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فالدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات، ولهذا أخبر أنه الدين فذكره معرفاً بالألف واللام وأخبر المشركين يخلصون له في الشدائد وأنهم في الرخاء يشركون معه غيره فيدعون من لا ينفعهم ولا يضرهم ولا يسمع دعاءهم فصاروا بذلك كافرين، ومن تأمل أدلة الكتاب والسنة علم أن شرك المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو في الدعاء والذبح والنذر والتوكل والالتجاء ونحو ذلك. فان جادل مجادل وزعم أنه ليس هذا قيل له: فأخبرنا عما كانوا يفعلون عند آلهتم، وما الذي يريدون؟ وما هذا الشرك الذي حكاه الله عنهم؟ فان قال: شركهم عبادة غير الله قيل له: وما معنى عبادتهم لغير الله؟ أتظن أنهم يعترفون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن لأن الله أخبر عنهم أنهم مقرون بذلك لله وحده، فان قال: انهم يريدون منهم النفع والضر من دون الله فهذا يكذبه القرآن أيضاً، لأن الله أخبر عنهم أنهم لم يريدوا إلا التقرب بهم إلى الله وشفاعتهم عنده كما قال تعالى حاكيا عنهم: {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} الآية. وأخبر تعالى عن شركهم في غير آية من كتابه كقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآيتين أي لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من حال إلى حال ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فيبن الله لهم أن هؤلاء عبادي يرجون رحمتي ويخافون عذابي. وأخبر انهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله وهذا هو الإغاثة، والمشركين يزعمون ان آلهتهم تشفع لهم بالسؤال لله، والطلب منه، فيقضي الله لهم تلك الحاجات. فأبطل الله هذه الشفاعة التي يظنها المشركون، وبين أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فمن جعل الانبياء والملائكة وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذين يكونون بين الملك ورعيته بحيث يزعم أنهم يرفعون الحوائج إلى الله فمن اعتقد هذا فهو كافر مشرك. إذا تقرر هذا فنقول: قول القائل إن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه: الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك النصوصه- كلام باطل بل النصوص صريحة في كفر من دعا غير الله وجعل الله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله ويرجوه كما يرجو الله ويتوكل عليه في أموره قال الله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} فمن أحب مخلوقاً كما يحب الله أو رجاه كما يرجو الله فقد جعله نداً لله، وصار من الخالدين في النار، وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار" وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك". والند المثل قال الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال تعالى عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والرزق والاحياء والأمانة، وإنما سووهم به في الدعاء والخوف والرجاء والمحبة والتعظيم والإجلال، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} فصرح بكفره وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقال فيما حكاه عن المسيح: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} وقال تعالى: {َالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} فدلت الآية الكريمة على أن أعظم شركهم إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 هو دعاء غير الله فانه أخبر أنهم لا يملكون من قمطير، وهو القشر الذي يكون على ظهر النواة أي ليس لهم الامر شيء وان قل، ثم أخبر أنهم لا يسمعون دعاءهم وأنهم لو سمعوا ما استجابوا لهم، وهذا صريح في دعاء المسألة، ثم أخبر أن هذا شرك يكفرون به يوم القيمة فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} كقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} . والله سبحانه قد أرسل رسله وأنزل كتبه ليعبده وحده ويكون الدين كله له ونهى أن يشرك به أحد من خلقه وأخبر أن الرسالة عمت كل أمة وأن دين الرسل واحد هو الأمر بعبادته وحده لا شريك له وأن لا يشرك به أحد سواه كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وأخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، وأن من أشرك به فقد حبط عمله، وصار من الخالدين في النار. كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} .. فيقاتل لمن أنكر أن يكون دعاء الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد شركاً أكبر أخبرنا عن هذا الشرك الذي عظمه الله وأخبر أنه لا يغفره؟ أتظن أن الله يحرمه هذا التحريم ولا يبينه لنا؟ ومعلوم أن الله سبحانه أنزل كتابه تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وقد أخبر في كتابه أنه أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً فكيف يجوز أن يترك بيان الشرك الذي هو أعظم ذنب عصى الله به سبحانه فإذا أصغى الإنسان إلى كتاب الله وتدبره وجد فيه الهدى والشفاء {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} {مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . ويقال أيضاً قد أمرنا الله سبحانه بدعائه وسؤاله، واخبر أنه يجيب دعوة الداع إذا دعاه وأمرنا ان ندعوه خوفاً وطمعاً، فإذا سمع الإنسان قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقوله {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وأطاع الله ودعاه وأنزل به حاجته وسأله تضرعاً وخفية فمعلوم أن هذا عباده فيقال: فإن دعا في تلك الحاجة نبياً أو ملكاً أو عبداً صالحاً هل أشرك في هذه العبادة فلا بد أن يقر بذلك إلا أن يكابر ويعاند. وقال أيضاً: إذا قال الله {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وأطعت الله ونحرت له هل هذا عبادة فلا بد أن يقول: نعم: فيقال له: فإذا ذبحت لمخلوق نبي أو ملك أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم إلا أن يكابر ويعاند، وكذلك السجود عبادة فلو سجد لغير الله لكان شركاً ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه النهي عن دعاء غيره وتكاثرت نصوص القرآن على النهي ذلك أعظم مما ورد في النهي عن السجود لغير الله والذبح لغير الله فإذا كان من سجد لغير نبي أو ملك وعبد صالح لا يشك أحد في كفره، وكذلك لو ذبح له القربان لم يشك أحد في كفره لأنه أشرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 في عبادة الله غيره فيقال: السجود عبادة وذبح القربان عبادة والدعاء عبادة فما الفارق بين السجود والذبح والدعاء إذا الكل عبادة والدعاء عبادة؟ وما الدليل على أن السجود لغير الله والذبح لغير الله شرك أكبر والدعاء بما لا يقدر عليه إلا الله شرك أصغر. ويقال أيضاً: قد ذكر أهل العلم من أهل كل مذهب باب حكم المرتد وذكروا أنواعاً كثيرة كل نوع منها يكفر به الرجل ويحل دمه وماله ولم يرد في واحد منها ما ورد في الدعاء بل لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير إله بالنهي والتحذير من فعله والوعيد عليه ولا يشتبه هذا إلا على من لم يعرف حقيقة ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من التوحيد ولم يعرف حقيقة شرك المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحل دماءهم وأموالهم وأمره الله أن يقاتلهم (حتى لا تكون فتنة) أي لا يكون شرك (ولا يكون الدين كله لله) فمن أصغى إلى كتاب الله علم علماً ضرورياً أن دعاء الأموات من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، فكيف يسوغ لمن عرف التوحيد الذي بعثه الله به محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل ذلك من الشرك الأصغر، ويقول قد عدم النص الصريح على كفر فاعله، فان الأدلة القرآنية والنصوص النبوية قد دلت على ذلك دلالة ظاهرة ليست خفيه، ومن أعمى الله بصيرته فلا حيلة فيه {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وأيضاً فان كيثرا من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الكفر والردة وانعقد عليها الإجماع لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفراً وإنما يستنبطها العلماء من عموم النصوص كما إذا ذبح المسلم نسكاً متقرباً به إلى غير الله فان هذا كفر بالإجماع كما نص على ذلك النووي وغيره وكذلك لو سجد لغير الله. فاذا قيل هذا شرك لأن الذبح عبادة والسجود عبادة فلا يجوز لغير الله كما دل عل ذلك قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فهذا صريح في الأمر بهما وأنه لا يجوز صرفهما لغير الله؟ فينبغي أن يقال فاين الدليل المصرح بان هذا كفر بعينه؟ ولازم هذه المجادلة الإنكار على العلماء في كل مسألة من مسائل الكفر والردة التي لم يرد فيها نص بعينها، مع ان هذه المسألة المسئول عنها قد وجدت فيها النصوص الصريحة من كلام الله وكلام رسوله وأوردنا من ذلك ما فيه الهدى لمن هداه الله. وأما كلام العلماء فنشير إلى قليل من كثير ونذكر كلام من حكى الإجماع على ذلك قال في الإقناع وشرحه من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر اجماعاً لأن هذا كفعل عابدي الأصنام قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} انتهى، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وقد سئل عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله فانا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك فأجاب بقوله: ان أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق، فان الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما أمر به وما نهى عنه إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فانهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر باجماع أهل الملل. وان أراد بالواسطة انه لابد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم، يسألونه ذلك ويرجعون إليه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار، ولكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقال تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيس والعزير والملائكة والأنبياء. فيبن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا. وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته ويخافون عذابه وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فبين الله سبحانه وتعالى أن إتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين وقد قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَلا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} الآية. {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} الآية وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} . فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذين بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه. وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم، وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم –وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس بقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أقرب إلى الملك من الطلب أقرب إلى الملك من الطلب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبهون شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا الله أنداداً وفي القرآن من الرد على هؤلاء مالا تتسع له هذه الفتوى. فإن هذا دين المشركين عباد الأوثان كانوا يقولون إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله تعالى وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى حيث قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي فليستجيبوا لي إذا دعوتهم بالأمر، والنهي ويؤمنوا بي أني أجيب دعاءهم لي بالمسألة، والتضرع وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (الشرح:7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} . وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه وحسم مواد الاشراك به حيث لا يخاف أحد غير الله، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه قال تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وقال تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} فبين أن الطاعة لله والرسول وأما الخشية والتقوى فلله وحده وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فبين أن الاتياء لله والرسول وأما الحسب فهو لله وحده كما قالوا حسبنا الله ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله ونظيره قوله تعالى {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته ويحسم عنهم مواد الشرك وهذا تحقيق قولنا لا إله إلا الله فان إلا له هو الذي تؤلهه القلوب بالمحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف حتى قال لهم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد" وقال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده" وقال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فانما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"وقال: " لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيث ما كنتم فان صلاتكم تبلغني" وقال في مرضه "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا" قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لابرز قبره ولكن خشى أن يتخذ مسجدا، وهذا باب واسع انتهى ما لخصته من كلام الشيخ في مسألة الوسائط. وقال رحمه الله في موضع آخر: والله سبحانه وتعالى لم يجعل أحداً من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية، والالهية مثل، ما ينفرد به من الخلق والرزق وأجابة الدعاء، والنصر على الأعداء وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، بل غاية ما يكون العبد سبباً مثل أن يدعو ويشفع والله تعالى قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فيبن سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، ولهذا كانوا في الشفاعة على ثلاثة أقسام: فالمشركون أثبتوا الشفاعة التي هي شرك كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند الملوك خواصهم لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير أذنهم، ويجيب الملوك سؤالهم لحاجتهم إليهم فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله مشركون كفار، لأن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ولا يحتاج إلى أحد من خلقه بل من رحمته واحسانه اجابة دعاء الشافعين، ولهذا قال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (الزمر:43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} وقال عن صاحب يسن: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} وأما الخوارج والمعتزلة فأنهم أنكروا شفاعة نبيناً صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع خير القرون. القسم الثالث: أهل السنة والجماعة وهم سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان أثبتوا ما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله ونفوا ما نفاه فالشفاعة التي أثبتوها هي التي جاءت بها الأحاديث، وأما الشفاعة التي نفاها القرآن كما عليه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من الأمة فينفيها أهل العلم والإيمان. مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين الغائبين قضاء حوائجهم، ويقولون انهم إذا أرادوا ذلك قضوها، ويقولون أنهم عند الله كخوص الملوك عند الملوك يشفعون بغير أذن الملوك، ولهم على الملوك ادلال يقضون حوائجهم فيجعلونهم لله بمنزلة شركاء الملك، والله سبحانه قد نزه نفسه عن ذلك انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما الشرك نوعان: أصغر وأكبر. فالأكبر الذي يغفره الله إلا التوبة منه وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} مع اقرارهم بأن الله هو الخالق وحده خالق كل شيء ومليكه وان آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت وانما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر شرك العالم يحبون معبوداتهم، ويعظمونها ويوالونها من دون الله. وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون إذا انتقص معبودهم وآلهتهم من المشائخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وإذا انتقصت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب اليث إذا حرب، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها باطعامهم شيئاً رضوا عنه ولم تنكره قلوبهم، وقد شاهدنا هذا منهم نحن وغيرنا ونرى أحدهم قد اتخذ ذكر الهه ومعبودة من دون الله على لسانه أن قام وان قعد، وان عثر وان مرض، فذكر الهه ومعبودة من دون الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 هو الغالب على لسانه وهو لا ينكر ذلك.. ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده، ووسيلته إليه، وهكذا كان عباد الأصنام سواء. وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم يتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم فأولئك كانت آلهتهم من الحجر وغيرهم اتخذوها من البشر قال تعالى حاكياً عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فهذا حال من اتخذا من دون الله ولياً يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز من يتخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي من أنكره؟ والذي قام في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم ان آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك وقد أنكر الله عليهم في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن رضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء ثم ساق كلاماً طوبلاً وقرره أحسن تقرير. فتأمل كلامه هذا حيث قرر أن الذي يفعله مشركو زمانه هو عين الشرك الذي فعله المشركون الأولون، ثم قال: وما أعز من يتخلص من هذا بل ما أعز من لا يعادي من أنكره؟ ففي هذا شاهد لصحة الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بداً" وقوله فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه" قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال"فمن؟ " أخرجاه في الصحيحين. وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في رسالته التسعينية لما تكلم على حديث الخوارج، فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من قد مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضاً وذلك بأمور: منها الغلو الذي ذمه الله كالغلو في المشائخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح فكل من غلا في نبي أو في رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الالهية مثل: أن يدعوه من دون الله بان يقول يا سيدي فلان أغثني وأنا في حسبك فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فان تاب وإلا قتل، فان الله أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه الها آخر والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل الملائكة والمسيح وعزير والصالحين. أو قبورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله الرسل تنهي أن يدعي أحد من دونه لادعاء عبادة ولا دعاء استغاثة انتهى. وقال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله: لما صعبت التكاليف على الجهال والطعام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من ايقاد السرج، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها يا مولاي أفعل بي كذا وكذا وأخذ تربتها تبركاً، وافاضة الطيب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكهف، ولم يتمسح بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل لحمالون على جنازته أبو بكر الصديق أو محمد أو علي أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه. ولم يرق ماء الورد على القبر انتهى كلامه. فتأمل رحمك الله ما ذكره هذا الإمام وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام فضلاً عن النساء، والغوغاء والعوام، مع كونه في سادس القرون والناس لما ذكره يفعلون وجهابذة العلماء والنقدة لذلك مشاهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية فهم بها قائمون يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون وموه به المتعصبون والملحدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فصل: في قوله ان نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وان نظر فيه من حيثية الإعتقاد فهو كالطيرة ... فصل قوله الثاني: ان نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر ثم أولوه بالأصغر، وان نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة وهي من الأصغر. فنقول هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق فأي مشابهة بين من وحد الله وعبده ولم يشرك معه أحداً من خلقه وأنزل حاجته كلها بالله واستغاث له في تفريج كرباته وإغاثة لهفاته، لكنه حلف بغير الله يميناً مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه ولم يسأله ولم يستغث به وبين من استغاث لغير الله، وسأله جلب الفوائد وكشف الشدائد، فإن هذا صرف مخ العبادة الذي هو لبها وخالصها لغير الله وأشرك مع الله غيره في أجل العبادات وأفضل القربات التي أمرنا الله بها في غير موضع من كتابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو العبادة كما تقدم في حديث النعمان بن بشير أن الدعاء هو العبادة، وفي حديث أنس "الدعاء مخ العبادة" وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يحب الملحين فيه، وأن من لم يسأل الله يغضب عليه، ففي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" وفيه أيضاً "إن الله يحب الملحين في الدعاء" وفيه أيضاً "من لم يسأل الله يغضب عليه" وفي الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء". وما الحلف فلم يأمرنا الله به، بل أمرنا بحفظه فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} قيل المعنى: لا تحلفوا وقيل: لا تحنثوا، ولا يرد على هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حلف في مواضع فاليمين تستحب إذا كان فيها مصلحة راجحة، وعلى هذا حمل العلماء ما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو يحلف لمصالح مطلوبة للأمة كزيادة إيمانهم وطمأنينة قلوبهم كما أمره الله بذلك في ثلاث مواضع من كتابه، وأما الحلف لغير مصلحة فليس مشروعاً بل يباح إذا كان صادقاً. وأما الدعاء فهو محبوب مشروع لله، بل سماه الله في كتابه الدين وأمر بإخلاصه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 له، وسماه رسوله صلى الله عليه وسلم العبادة ومخ العبادة فكيف يقال هو الحلف؟ فمن صرف الدعاء لغير الله فقد أشرك في الدين الذي أمر الله بإخلاصه وفي العباد ة التي أمر الله بها، وأيضاً فإن الداعي راغب راهب فالعبد يدعو ربه رغباً ورهباً، ويتوكل عليه في حصول مطلوبه ودفع مرهوبه، فإذا طلب فوائده وكشف شدائده من غير الله فقد أشرك مع الله في الرغبة والرهبة والرجاء والتوكل فإن هذا من لوازم الدعاء وهو من العبادة التي أمر الله بها كقوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وقوله تعالى {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فمن استغاث بغيؤر الله فهو راغب في حصول مطلوبه راج له متوكل عليه وذلك هو حقيقة العبادة التي لا تصلح إلا لله، وهو معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تؤلهه القلوب محبة ورجاء وخوفاً وتوكلاً. ويقال أيضاً الذي يدعو غير الله في مهماته وكشف كرباته قد رد على الله وكذب بآياته فإن الله أخبر أنه لا يشفع إلا بإذنه وأن الشفاعة كلها لله، وهذا زعم أن الميت يشفع له، وأخبر الله أن الأولياء والصالحين لا يملكون كشف الضر ولا تحويله وأنهم لا ينفعون ولا يضرون ولا يسمعون الدعاء ولا يستجيبون، وهذا زعم أنهم باب حوائجه إلى الله وأنهم ينفعون ولا يضرون ولا يسمعون الدعاء ولا يستجيبون، فكذب على الله وكذب بآياته فكيف يقال: أن هذا كالحلف بغير الله؟ الذي قصاراه أن يكون شركاً اصغر يعاقب عليه كما يعاقب الزاني، وقاتل النفس وآكل الربا لأنه ارتكب محرماً غير مستحل له نظير ما يفعله الزاني وقاتل النفس، فأما ان فعله مستحلاً له أو يكون المخلوق في قلبه أعظم من الخالق كان ذلك كفراً. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتواضع للخلق والحلف بغير الله وما لي إلا الله وأنت وأنا متوكل على الله وعليك ولولا أنت لم يكن كذا وكذا وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده انتهى. ويقال أيضاً: من المعلوم بالإضرار من دين الإسلام أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد وينهى عن الإشراك فكان أول آية أرسله الله بها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} فأنذر عن الشرك، وهجر الأوثان وكبر الله، وعظمه بالتوحيد فاستجاب له من استجاب من المسلمين، وصبروا على الأذى من قومهم، وقاسوا الشدائد العظيمة فهاجروا وأخرجوا من ديارهم، وأذوا في الله وتميز الكافر من المسلم. ومات من المسلمين من استوجب الجنة ومات من الكفار من استوجب النار، هذا كله قبل النهي عن الحلف بغير الله، فالاستغاثة بأهل القبور واستنجادهم واستنصارهم لم يبح في شرائع الرسل كلهم بل بعث الله جميع رسله بالنهي عن ذلك والأمر بعبادته وحده لا شريك له. وأما الحلف فكان الصحابة يحلفون بآبائهم بالكعبة وغير ذلك، ولم ينهوا عن ذلك إلا بعد مدة طويلة فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" وقال: "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت". ومن لا يميز بين دعاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الميت والحلف به لا يعرف الشرك الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم ينهي عنه، ويقاتل أهله، وأي جامع بين الحلف والاستغاثة فالمستغيث طلب سائل والحلف لم يطلب ولم يسأل، فإن كان الجامع بينهما عند القائل باتحادهما إن كل منهما قول باللسان؟ فيقال له: والإنكار والدعوات وقول الزور وقذف المحصنات كل ذلك قول باللسان، ولو قال أحد: إنها ألفاظ متقاربة لعد من المجانين. وإن أراد هذا القائل اتحادهما في المعنى فهذا باطل كما تقدم بيانهن وأي مشابهة بين من جعل لله نداً من حلقه ويرجوه، ويستنصره ويستغيث به. وبين من لا يدعو إلا الله وحده لا شريك لهن واخلص له في عبادته؟ فالأول أشرك مع الله في قوله وفعله واعتقاده بخلاف الحالف بل لو اعتقد الحالف تعظيم المخلوق على الخالق لصار مشركاً شركاً أكبر كما تقدم. ومما يبين ذلك أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الحلف بغير الله وحلف بعض الصحابة حدثاء العهد فقال في حلفه: واللات قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" ولما قال له بعض الصحابة حدثاء العهد بالكفر: اجعل لنا ذلت أنواط قال: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة لتركبن سنن من كان قبلكم" فانظر كيف نهي الحالف وأرشده إلى الكفارة بأن يقول لا إله إلا الله من غير تغليظ، والذين قالوا اجعل لنا أنواط غلظ عليهم التغليظ الشديد وحلف لهم إن طلبهم كطلبة بني إسرائيل وإن قولهم: اجعل لنا ذات أنواط كقول بني إسرائيل اجعل لنا إلهاً سواء فهما متفقان معنى، وإن اختلفا لفظاً، وهذا مما يبين لك من معنى لا إله إلا الله. فإذا كان اتخاذا الشجرة للعكوف حولها وتعليق الأسلحة بها للتبرك اتخاذا له مع الله مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر، ودعائه في إنزال الفوائد، والاستغاثة به في كشف الشدائد، وأخذ تربته تبركاً وإسراج القبر وتخليقه، وأي شيهة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون. قال بعض أله العلم من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها انتهى. ومما يبين الفرق بين دعاء الأموات، والاستغاثة بهم. وبين الحلف بهم أن العلماء قسموا الشرك: إلى أكبر وأصغر جعلوا دعاء الأموات، والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا رب السموات والأرض هو عين شرك المشركين الذين كفرهم الله في كتابه، وجعلوا الحلف بغير الله شركاً أصغر فيذكرون الأول في باب حكم المرتد وأن من أشرك بالله فقد كفر ويستدلون بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ويفسرون هذا الشرك بما ذكرناه ويذكرون الثاني في كتاب الإيمان فيفرقون بين هذا وهذا. ولم نعلم أن أحداً من العلماء الذين لهم لسان صدق في الأمة قال إن طلب الحوائج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 من الموتى والاستغاثة بهم شرك أصغر، ولا قال أن ذلك كالخلف بغير الله. اللهم إلا أن يكون بعض المنتسبين إلى العلم من المتأخرين الضالين الذين قرروا الشرك، وحسنوه للناس نظماً ونثراً. وصار لهم نصيب من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} . وأما قوله: وإن نظر فيه من جهة الاعتقاد فهو كالطيرة. فهذا كلام باطل يظهر بطلانه مما تقدم فيقال: وأين الجامع بين شرك من جعل بينه وبين الله واسطة يدعوه ويسأله قضاء حاجاته وكشف كرباته. فيقول: هذا وسيلتي إلى الله وباب حاجتي إليه. وبين من عبد الله وحده لا شريك له ودعاه خوفاً وطمعاً، وأنزل به حاجاته كلها وتبرأ من عبادة كل معبود سواه؟ ولكن وقع في قلبه شيء من الطيرة فالأول: هو دين أبي جهل وأصحابه وهو دين أعداء الرسل من لدن نوح إلى يومنا هذا. وأما الطيرة فتقع على المؤمنين الموحدين كما في حديث ابن مسعود المرفوع "الطيرة شرك" وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل رواه أبو داود ورواه الترمذي وصححه وجعل آخره من قول ابن مسعود، وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس عبد إلا سيدخل قلبه الطيرة فإذا أحس بذلك فليقل أنا عبد الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لا يأت بالحسنات إلا الله ولا يذهب بالسيئات إلا الله أشهد أن الله على كل شيء قدير ثم يمضي لوجهه" وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك وكفارة ذلك أن يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك" وفي صحيح ابن حبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طيرة والطيرة على من تطير" ومعنى هذا من تطير تطيراً منهي عنه بأن يعتمد على ما يسمعه أو يراه من الأمور التي يتطير بها حتى تمنعه مما يريد من حاجته فإنه قد يصيبه ما يكرهه، وأما من توكل على الله ولم ينظر إلى الأسباب المخوفة وقال: ما أمر به من هذه الكلمات ومضى فإنه لا يضره ذلك، فإذا كان هذا حال الطيرة فأين الجامع بينها وبين الشرك الأكبر في الاعتقاد. فإذا أراد السائل أن التطير إذا زجر أو تطير بما يراه من علم النجوم وغيره، أو يسمعه من الكلام يعتقد في ذلك علم الغيب، وأن الطيرة تجتره عما هو صائر إليه في المستقبل، وأن الأفلاك تدبر أمر الخلائق فليس هذا من الشرك الأصغر بل هذا من الشرك الأكبر نظير شرك عباد الكواكب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فصل: أن ورد في حديث الضرير قوله: يا محمد وفيمن انفلتت دابته قال: "يا عباد الله أحبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله ... (فصل) وأما قول القائل: الثالث أنه قد ورد في حديث الضرير قوله: يا محمد وفي الجامع الكبير وعزاه للطبراني فيمن انفلتت عليه دابته قال: "يا عباد الله احبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله. فنقول وبالله التوفيق: اعلم ان الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وسلم بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن الإشراك، فحمى حمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك حتى في الألفاظ حتى أن رجلاً قال له: ما شاء الله وشئت قال: "اجعلتني لله نداً قل ما شاء الله وحده" فكيف يأمر بدعاء الميت أو الغائب؟ بل من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن داء الميت والغائب لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من الصحابة استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موتهن ولا قال أحد: أن الصحابة استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان هذا جائزاً أو مشروعاً لفعلوه ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وقد كان عندهم من قبور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعاه ولا استغاث به ولا استنصر به، ومعلوم ان مثل هذا مما توفر الهمم والدواعي على نقل ما هو دونه. وحينئذ فلا يخلو: أما أن يكون دعاء الموتى والغائبين، أو الدعاء عند قبورهم والتوسل بأصحابها أفضل أو لا يكون؟ فان كان أفضل فكيف خفى علماً وعملاً على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علماً وعملاً بهذا الفضل العظيم، ويظفر به الخلوف علماً وعملاً، وهذان الحديثان اللذان أوردهما السائل أما أن يكون الصحابة الذين رووهما وسمعوهما من النبي صلى الله عليه وسلم جاهلين بمعناهما وعلمه هؤلاء المتأخرون، وأما أن يكون الصحابة علموها علماً، وزهدوا فيها عملاً مع حرصهم على الخير وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وكلاهما محال بل هم أعلم الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطوع الناس لأوامره وأحرص الناس على كل خير، وهم نقلوا إلينا سنة نبيناً صلى الله عليه وسلم فهل فهموا من هذه الأحاديث جواز دعاء الموتى والغائبين، والفضلاء فضلاً عن استحبابه والأمر به. ومعلوم أنهم عرضت لهم شدائد واضطرارات وفتن وقحط وسنون مجدبات أفلا جاؤا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم شاكين وله مخاطبين وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم داعين؟ والمضطر يتشبث بكل سبب يعلم ان له فيه نفعاً، لا سيما الدعاء، فلو كان ذلك وسيلة مشروعة وعملاً صالحاً لفعلوه، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور حتى توفاه الله. وهذه سنة خلفائه الراشدين وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين هل يمكن أحد أن يأتي عنهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة أو عرضت لهم شدة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها فضلاً عن أن يسألوها حوائجهم؟ فمن كان عنده في هذا أثر أو حرف واحد في ذلك فليوقفنا عليه. نعم يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون بكثير من المختقات والحكايات المكذوبات، حتى لقد صنف في ذلك عدة مصنفات ليس فيها حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فيها التمويهات، والحكايات والخنرعات والأحاديث المكذوبات كقولهم: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وحديث لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه، ومنها حكايات لهم عن تلك القبور أن فلاناً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلان دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت، وفلاناً نزل به ضر فأتى صاحب ذلك القبر فكشف ضره ونحو ذلك مما هو مضاد لما بعث الله بمحمداً صلى الله عليه وسلم من الدين. ومن له معرفة بما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم أنه حمى جانب التوحيد وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك فكيف يستدل بكلامه على نقيض ما أمر به فيستدل في حديث الأعمى بقوله يا محمد على أنه أمر بدعائه في حال غيبته فيدل على جواز الاستغاثة بالغائب وكذلك قوله: "يا عباد الله احبسوا" يدل على ذلك أيضاً هذا من أعظم المحال وأبطل الباطل، بل كلامه صلى الله عليه وسلم يوافق الوحي عليه يصدقه ولا يكذبه فإنهما من مشكاة واحدة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ونحن نجيب عن هذين الحديثين بعون الله وتأكيده من وجوه. الوجه الأول: أن القرآن الكريم فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فيرد المتشابه إلى المحكم ولا يضرب كتاب الله بعضه ببعض، وكذلك السنة: فيها محكم ومتشابه فيرد متشابهها إلى المحكم ولا يضرب بعضها ببعض، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضاً، والسنة توافق القرآن ولا تناقضهن وهذا أصل عظيم يجب مراعاته من أهمله فقد وقع في أمر عظيم وهو لا يدري، من المعلوم أن أدلة القرآن الدالة على النهي عن دعاء غير الله متظاهرة مع وضوحها وبيانها كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} وقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} إلى غير ذلك من الآيات الواضحات البينات. فمن أعرض عن هذا كله وتعامى عنه وأعرض عن الأحاديث الصحيحة الدالة على تحقيق التوحيد وأبطال الشرك وسد ذرائعه وتعلق بحديث ضعيف بل ذكر بعض العلماء أنه حديث منكر وهو قوله: "إذا انفلتت دابة أحدكم فلينادي عباد الله احبسوا" ومثل حديث الأعمى الذي فيه يامحمد وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأله في حال غيبته لم يكن هذا إلا من زيغ في قلبه قد تناوله قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} وقوله: صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". الوجه الثاني: أن يقول لمن استدل بالحديثين على دعاء غير الله أتظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك وقد نهى عنه وقد جرد التوحيد لله ونهى عن دعوة غير الله؟ وقال: "إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله". فكيف يجتمع في قلبك أن الله بعثه يأمر بالتوحيد، ويحذر من الإشراك ثم يأمر أمته بعين ما حذرهم عنه فمن زعم أن قوله: "يا عباد الله احبسوا" يدل على جواز دعاء الغائب بالنص، وعلى دعاء الميت بالقياس على الغائب، وكذلك حديث الأعمى فمن زعم هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فقد حاد الله ورسوله، حيث زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أمته بالإشراك الذي بعثه الله ينهي عنه. الوجه الثالث: أن يقال وعلى تقدير أن هذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله شرك أصغر فيظن من في قلبه رائحة الإيمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك الأصغر الذي قد حرمه الله ورسوله، بل إذا علم الإنسان أن هذا الشرك أصغر ثم زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أمته به كان كافراً وقد قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فحاشا جنابه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بالشرك ولو كان أصغر. ومن استدل بهذين الحديثين على دعاء الموتى والغائبين فهو بين أمرين لا محيد له عنهما، أما أن يقول: هذا يدل على أن دعاءهم مستحب أو جائز ومن قال ذلك: فقد خالف إجماع المسلمين ومرق من الدين، فإنه لم يقل أحد من المسلمين أن دعاء الموتى جائز، أو مستحب، وأما أن يقول أن ذلك يدل على أن دعاء الموتى شرك أصغر لا أكبر ومن قال ذلك فقد تناقض في استدلاله حيث استدل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر به على ما نهى عنه، وكيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستدل بأمره على نهيه؟ ثم يقال: لهذا المستدل بقوله: " فليقل يا عباد الله احبسوا" أخبرنا عن هذا الأمر هل هو للوجوب، أو الاستجابة أو الإباحة؟ وهي أقل أحواله، وأما ما كان مكروه أو محرماً فلا يكون فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فما وجه الاستدلال الوجه الرابع: أن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه من رواية معروف بن حسان وهو منكر الحديث قاله ابن عدي. الوجه الخامس: أن يقال إن صح الحديث فلا دليل على دعاء الميت الغائب، فإن الحديث ورد في أذكار السفر. ومعناه أن الإنسان إذا انفلتت دابته وعجز عنها فقد جعل الله عباداً من عباده الصالحين أي صالحي الجن أو الملائكة أو ممن لا يعلمه من جنده سواه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} أما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عباداً قد وكلهم لهذا الأمر، فإذا انفلتت الدابة ونادى صاحبها بما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حبسوا عليه دابته، فإن هؤلاء عباد الله أحياء قد جعل الله لهم القدرة على ذلك، كما جعل الله لإنس فهو ينادي من يسمع ويعين بنفسه ويرى بعينه كما ينادي أصحابه الذين معه من الإنس، فأين هذا من الاستغاثة بأهل القبور. بل هذا من جنس ما يجوز طلبه من الأحياء قفان الإنسان يجوز له أن يسأل المخلوق من الأحياء ما يقدر عليه كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وكما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} وكما يستغيث الناس يوم القيامة بآدم ثم بنوح، ثم بإبراهيم ثم بموسى، ثم بعيسى حتى يأتوا نبينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 محمداً صلى الله عليه وسلم بل هذا من جنس استغاثته برفقته من الإنس، فإذا انفلتت دابته ونادى رفقته يا فلان ردوا الدابة لم يكن في هذا بأس، فهذا الذي ورد في الحديث من جنس هذا بل قد يكون قربة إذا قصد به امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فأين هذا من استغاثة العبادة؟ بأن ينادي ميتاً، أو غائباً في قطر شاسع سواء كان نبياً أو عبداً صالحاً. الوجه السادس: ان الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} فبعد أن أكمله بفضله ورحمته فلا يحل له أن يخترع فيه ما ليس منه، ونقيس عليه ما لا يقاس عليه، بل الواجب اتباع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: كما أمر به فإذا نادى شخصاً معيناً باسمه فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى من لم يؤمر بندائه، وليس ذلك في كل حركة وسكون وقيام وقعود وإنما ذلك في أمر مخصوص. وأما حديث الأعمى فالجواب عنه من وجوه: الوجه الأول: أن الحديث إذا شذ عن قواعد الشرع لا يعمل به فانهم قالوا: أن حد الحديث الصحيح إذا رواه العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة، فهذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به في هذا الباب، لمخالفته لقواعد الشرع وأصوله، بل من احتج به على دعاء الميت والغائب فقد خالف نصوص الكتاب والسنة مع أنه بحمد الله يواقف ذلك ولا يخالفه، فليس فيه دليل على ما ذكره السائل كما سننبه عليه أن شاء الله تعالى وكيف يستدل بما ليس فيه دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام!. الوجه الثاني: أن يقال: هذا الحديث قد رواه النسائي في اليوم والليلة والبهيقي وابن شاهين في دلائلهما عندهم عن عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه اللفظة أعني قوله يا محمد ولفظ الحديث عندهم عن عثمان بن حنيف أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له يا نبي الله قد أصبت في بصري فادع الله لي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم اني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة"أي أتشفع به إليك "في رد بصري اللهم شفع نبيي في" ففعل ذلك فرد الله عليه بصره" وقال له: "إذا كانت لك حاجة فبمثل ذلك فافعل" انتهى. فهذا الحديث بهذا اللفظ لا حجة للمبطل فيه، لأن غايته أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وساقه الترمذي بسياق قريب من هذا فقال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا عثمان بن عمر حدثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادع الله أن يعافيني قال "أن شئت دعوت وان شئت صبرت فهو خير لك" قال: فادعه فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء "اللهم أني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة أني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم فشفعه في " هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر وهو غير الخطاء انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 هذا لفظه بحروفه وفي نسخة أخرى إني توجهت إلى ربي، وليست هذه اللفظة في سياق هؤلاء الأئمة أعني قوله: يا محمد التي غاية ما يتعلق به المبطلون. الوجه الثالث: أن يقال: على تقدير صحة هذه اللفظة فليس فيها ما يدل على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان فيها ما يدل على ذلك لفعله الصحابة رضي الله عنهم، فلما ثبت أن الصحابة لم يفعلوه، بل ولا أجازوه علمنا أنه ليس في ذلك دليلاً فبقي أن يقال ما معناه؟ فنقول ذكر العلماء في معناه قولين أحدهما انه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيدل على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مما بعد مماته إلا أن التوسل ليس فيه دعاء له، ولا استغاثة به وإنما سأل الله بجاهه وهذا ذكره الفقيه أبو محمد بن عبد السلام، فإنه أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأما التوسل به صلى الله عليه وسلم فيجوز إن صح الحديث فيه يعني حديث الأعمى. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى: أم التوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم فلم نعلم أحداً من السلف فعله، ولا روى فيه أثراً ولا نعلم فيه، إلا ما أفتى ابن عبد السلام من المنع، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن وهو حديث الأعمى الذي أصيب بصره، فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به، وللناس في معنى هذا الحديث قولان: أحدهما أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر رضي الله عنه لما استقى بالعباس فذكر أنهم يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ثم توسلوا بعم العباس بعد موته، وتوسلهم به استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته، ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعاً لهم داعياً، ولهذا قال: في حديث الأعمى اللهم فشفعه في فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له فسأل الله أن يشفعه فيه. والثاني: أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون في حياته وبعد وفاته انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى، فتبين بهذا أن معناه التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته في حضوره أم التوسل بذاته أن يسأل الله بجاهه والتوسل غير الاستغاثة فإنه لم يقل أحد: أن من قال: اللهم إني أسألك بحق فلان أنه استغاث به بل إنما استغاث بمن دعاه بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان أو بحرمته أو نحو ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له والمتوسل به لا يدعي، ولا يسأل ولا يطلب منه، وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به، والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، فكل أحد يفرق بين المسؤول والمسئول به. فالحديث على هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن عبد السلام لا حجة فيه لمن جاوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فإن هذا لم يفهمه أحد من العلماء من الحديث، ولم يذكروا في معناه إلا هذين القولين الذين ذكرناهما أحدهما: ما ذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 إليه ابن عبد السلام، والثاني: ما ذهب إليه الأكثرون أن معناه التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته بحضوره. كما في صحيح البخاري أن عمر رضي الله تعالى عنه استسقى بالعباس فقال: اللهم انا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقنا وانا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون، فبين عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون. وتوسلهم به هو أنهم يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو معه، فيتوسلون بدعائه كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً ثم قال يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم قال: "اللهم أغثنا" الحديث بطوله، ففي هذا أنه قال ادع الله أن يغيثنا فلما كثر الغيث قال ادع الله أن يمسكه عنا، فهذا هو التوسل الذي كانوا يفعلونه، فلما مات صلوات الله وسلامه عليه لم يتوسلوا به، ولم يستسقوا به، فلو كان ذلك مشروعاً لم يعدلوا إلى العباس، وكيف يتركون التوسل بنبيهم صلى الله عليه وسلم ويعدلون إلى العباس؟ وكذلك معاوية رضي الله عنه استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يدك إلى الله فرفع يده ودعا ودعوا فسقوا. وقال الشيخ الإمام أبو العباس تقي الدين بن تيمية: في رده على ابن البكري لما تكلم على حديث الأعمى قال: والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، كما كان الصحابة يطلبون منه في الاستسقاء، وقوله: أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة أي بدعائه وشفاعته، ولهذا قال في تمام الحديث اللهم فشفعه في، فالذي في الحديث متفق على جوازه وليس هو مما نحن فيه انتهى، وقال رحمه الله تعالى: في موضع آخر لفظ التوجه والتوسل يرد به: أن يتوجه به ويتوسل إلى اله بدعائهم وشفاعتهم فهذا هو الذي جاء في ألفاظ السلف من الصحابة رضي الله عنهم كقول عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقنا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون فهذا أخبار من عمر رضي الله عنه عما كانوا يفعلونه وتوسلوا بالعباس كمكا كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام توسل بيزيد. ومن هذا الباب ما في البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش الميزاب. وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل ومن هذا الباب حديث الأعمى فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني قال "إن شئت دعوته وإن شئت صبرت فهو خير لك" قال: ادع الله فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم فشفعه في" فأمره أن يطلب من الله أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون طالباً لتشفيعه فيه إذا شفع فيه فدعا الله، وكذلك في أو الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له ودعا له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله وأن يسأله قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا نظير توسلهم به في الاستسقاء حيث طلبوا منه أن يدعو الله لهم ودعوا هم الله تعالى أيضاً. وقوله: يا محمد إني توجهت بك إلى ربي خطاب لحاضر قلوبه كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وكما يستحضر الإنسان من يحبه، أو يبغضه ويخاطبه وهذا كثير، فهذا كله يبين أن معنى التوسل والتوجه به وبالعباس وغيرهما في كلامهم هو التوسل، والتوجه بدعائه وبدعاء العباس ودعاء من توسل به وهذا مشروع بالاتفاق لا ريب فيه انتهى كلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى، وفي ما ذكرنا كفاية لمن نور الله عليه قلبه ومن أعمى الله قلبه لم نزده كثرة النقول إلا حيرة وضلالاً {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فصل: في قول القائل إما التوسل فإن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ... (فصل) وأما قول القائل: وأما التوسل فقد أخرج الحاكم في مستدركه وصححه أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وورد اللهم بحق نبيك والأنبياء قبلي ولا أدري من خرجه، فأم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب قدس الله سره، ونور رمسه نقلاً في جواز ذلك عن ابن عبد السلام، فبقي الكلام في النداء وفي غيره من الأنبياء، وفي معاني الأحاديث الأخرى وما حكمها، وما الحجة المقابلة لما يقولون المخصص لما يعممون، وأم التوسل بغير الأنبياء فيوردون أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء فسقوا وطفق الخ لا أدري من قالها فما تقولون في معناها، وقد رأيت لبعض المحققين أن التوسل بالأولياء غير التوسل إليهم فالأول: جائز والثاني: شرك: وفي عدة الحصن الحصين للحرزي والتوسل إلى الله بأنبيائه ورسله والصالحين إلى آخره. فالجواب أن يقال العبادات مبناها على الأمر والإتباع لا على الهوى: والابتداع، والتوسل الذي جاءت به السنة، وتواتر في الأحاديث هو التوسل، والتوجه إى الله بالأسماء والصفات، وبالأعمال الصالحة كالأدعية الواردة في السنة كقوله: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم" وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا الله أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" وكقوله في الحديث الآخر: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" وكما حكى الله سبحانه عن عباده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 المؤمنين انهم توسلوا إليه بصالح أعمالكم فقال حاكياً عنهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} وكما ثبت في الصحيحين من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين، وشفاعتهم في حياتهم، كما ذكرنا من توسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وتوسلهم بالعباس وبيزيد بن الاسود، وتوسل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته له: فهذا مما لا نزاع فيه، بل هو من الأمور المشروعة وهو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . وأما التوسل بالذات: فيقال: ما الدليل على جواز سؤال الله بذوات المخلوقين ومن قال هذا من الصحابة والتابعين، فالذي فعله الصحابة رضي الله عنهم هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات، والتوحيد، والتوسل بما أمر الله به من الإيمان بالرسول ومحبته وطاعته ونحو ذلك، وكذلك توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته وتوسلوا بدعاء العباس وبيزيد. وأما التوسل بالذات بعد الممات فلا دليل عليه ولا قاله أحد من السلف: بل المنقول عنهم يناقض ذلك، وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز ونقل عن بعضهم جوازه وهذه المسألة وغيرها من المسائل إذا وقع فيها النزاع بين العلماء فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ومعلوم ان هذا لم يكن منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مشهوراً بين السلف، وأكثر النهي عنه لا ريب أن الأنبياء والصالحين لهم الجاه عند الله لكن الذين لهم عند الله من الجاه والمنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ونحن ننقفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا فاذا توسلنا إلى الله بايماننا بنبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته واتباع سنته كان هذا من أعظم الوسائل. وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته، فلا يكون وسيلة فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بما مر من التوسل به من الدعاء للمتوسل وبمحبته واتباعه فبأي شيء يتوسل به الإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة، فأما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك مثل أن يقول لأبي الرجل أو صديقه أومن يكرم عليه: اشفع لنا عند فلان وهذا جائز وأما أن يقسم عليه فلا يجوز الاقسام بمخلوق كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين، فالتوسل إلى الله بذات خلقه بدعة مكروهة لم يفعلها السلف من الصحابة ولا التابعين لهم باحسان. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: في كتاب اغاثة اللهفان في مكائد الشيطان، وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته كما يفعله كثير من هؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 النوع الثاني: أن يسأل الله به وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة إجماعا. النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد القبر لذلك فهذا أيضاً من المنكرات إجماعاً، وما علمت فيه نزاعاً بين أئمة الدين، وان كان كثير من المتأخرين يفعله، وبالجملة فأهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منه إلا الحنفاء اتباع ملة ابراهيم وعبادتها في الأرض من قبل نوح وهياكلها، ووقوفها وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض، قال إمام الحنفاء عليه الصلاة والسلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} وكفى في معرفة انهم أكثر أهل الأرض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "ان بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادهم على بذل نفوسهم، وأموالهم وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع اخوانهم، وما حل بهم ولا يزيدهم ذلك إلا حبالهم وتعظيماً، ويوصي بعضهم بعضاً بالصبر عليها انتهى كلامه رحمة الله عليه، والمقصود: أنه حكى الإجماع على أن التوسل إلى الله بصاحب القبر بدعة إجماعاً. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في رده على ابن البكري وما زلت أبحث وأكشف ما أمكنني من كلام السلف، والأئمة والعلماء، هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء أو فعل ذلك أحد منهم فما صلى الله عليه وسلمم وقعت على فتيا للفقيه أبي محمد ابن عبد السلام أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم فجوز التوسل به أنه صح الحديث في ذلك، وذكر القدروي في شرح الكرخي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله إلا بنبينا انتهى كلامه. وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى عن أبي الحسين القدوري نحو ذلك فقال رحمه الله تعالى: قال القدروي قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول بمعقد العز من عرشك، أو يقول بحق خلقك وقال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك هو الله فلا أكره ذلك وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام قال القدروي المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق لمخلوق على الخالق فلا تجوز يعني وفاقاً، وقال البلدجي في شرح المختارة، ويكره أن يدعو الله إلا به فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك، أو أنبيائك أو نحو ذلك، لأنه لا حق لمخلوق على الخالق انتهى. وقال أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية قدس الله نفسه ونور رمسه: في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لفظ التوسل بالشخص والتوجه به، والتوسل به، فيه اجمال واشتراك غلط يسببه من لم يفهم مقصود الصحابة يراد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً مثلاً، أو يكون الداعي مجيباً له مطيعاً لأمره مقتديا به فيكون التسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أما بمحبته السائل واتباعه له، وأما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الاقسام والتوسل بذاته فهذا هو الذي كرهوه ونهو عنه، وكذلك لفظ السؤال بشيء قد يراد به المعنى الأول وهو التسبب به لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الاقسام. ومن الأول حديث الثلاثة الذين أووا إلى غار وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما فإن الصخرة انطبقت عليهم فقالوا: ليدعو كل رجل منكم بأفضل عمله فدعوا الله بصالح أعمالهم، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله، ويتوجه به إليه ويسأل به، وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمروا به من العمل الصالح وسؤاله التضرع. ومن هذا ما يذكر عن فضيل بن عياض أنه أصابه عسر البول فقال: بحبي إياك إلا فرجت عني ففرج عنه، وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله ابنها قالت: اللهم إني آمنت بك وبرسولك وهاجرت في سبيلك وسألت الله أن يحيي ولدها وأمثال ذلك، وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} الآيات فسؤال الله والتوسل إليه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.) وأما قوله في حديث أبي سعيد: "أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا" فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثبتهم، فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته، وإثباته فهو التوسل به والتوجه به والتسبب به، ولو قدر أنه قسم لكان قسماً بما هو من صفاته فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله فصار هذا كقوله في الحديث الصحيح: "أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" والاستعاذة لا تصح بمخلوق كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة. فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بعفوه، ومعافاته من عقوبته مع أنه لا يستعاذ بمخلوق كسؤال الله بإجابته وإثابته، وإن كان يسأل بمخلوق ومن قال من العلماء لا يسأل إلا به لا ينافي السؤال بصفاته كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله. ومن حلف بغير الله فقد أشرك ومع هذا فالحلف بعزة الله ولعمر اله ونحو ذلك مما قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف به لم يدخل في الحلف بغير الله. وأما قول بعض الناس: أسألك بالله وبالرحم وقراءة من قرأ: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} .. فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته فسؤال السائل بالرحم لغيره يتوسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الاقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب كالتوسل بدعاء الأنبياء وبطاعتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ومن هذا الباب ما يروى أن عبد الله بن جعفر قال: كنت إذا سألت علياً شيئاً فلم بعطنيه قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه أو كما قال، فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الاقسام عليه بجعفر أو من قولهم: أسألك بحق أنبيائك ونحو ذلك، وليس كذلك، بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله ابنه وله عليه حق الصلة فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث "إن من أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه بعد أن يولي" ولو كان هذا من هذا الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ونحوهما أولى من سؤاله بحق جعفر، ولكان علي إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وجابته السائل أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره انتهى ملخصاً. وأما قول القائل: فقد أخرج الحاكم في المستدرك وصححه أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم. فهو من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال أحمد بن حنبل: ضعيف وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء وضعفه ابن المديني جداً، وقال أبو داود: أولا د زيد بن أسلم كلهم ضعيف وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثاً فقال: من حدثك فذكر إسناداً له منقطعاً فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح عليه السلام، وقال أبو زرعة ضعيف، وقال أبو حاتم ليس بقوي في الحديث كان في نفسه صالحاً، وفي الحديث واهياً، وقال ابن حبان: كتن يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل، وإسناد المتروك فاستحق الترك، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ضعيفاً جداً، وقال ابن خزيمة: ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه. وقال الحاكم وأبو نعيم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة، وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه فهذا الحديث الذي استدل به تفرد به عبد الرحمن بن زيد وهو كما تسمع. وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية قدس اله روحه ونور ضريحه: في رده على ابن البكري وأما قول القائل: قد توسل به الأنبياء آدم وإدريس ونوح وأيوب كما هو مذكور في كتب التفسير وغيرها فيقال: مثل هذه القصص لا يجوز الاحتجاج بها بإجماع المسلمين فإن الناس لهم في شرع من قبلنا قولان: أحدهما: أنه ليس بحجة، الثاني أنه حجة ما لم يأت شرعنا بخلافه بشرط أن يثبت ذلك بنقل معلوم كأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فأما الاعتماد على نقل أهل الكتاب، أو نقل من نقل عنهم فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، لأن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم". وهذه القصص التي فيها ذكر توسل الأنبياء بذاته ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصحابة، وإنما تذكر مرسلة كما تذكر الاسرائيليات التي تروى عمن لا يعرف، وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع على ما نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتكلمنا عليه وبينا بطلانه، ولو نقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ذلك عن كعب ووهب ومالك بن دينار ونحوه ممن ينقل عن أهل الكتاب لم يجز أن يحتج به، لأن الواحد من هؤلاء، وإن كان ثقة فغاية ما عنده أن ينقل من كتاب من كتب أهل الكتاب، أو يسمعه من بعضهم فإنه بينه وبين الأنبياء دهر طويل، والمرسل عن المجهول من أهل الكتاب الذي لا يعرف علمه وصدقه لا يقبل باتفاق المسلمين، ومراسيل أهل زماننا عن نبينا صلى الله عليه وسلم لا تقبل عند العلماء مع كون ديننا محفوظاً محروساً فكيف بما يرسل عن آدم وإدريس ونوح وأيوب عليهم صلى الله عليه وسلم والقرآن قد أخبرنا بأدعية الأنبياء وتوباتهم واستغفارهم وليس فيها شيء من هذا، وقد نقل أبو نعيم في الحلية أن داود عليه السلام قال: يا رب أسألك بحق آبائي عليك … إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: يا داود وأي حق لآبائك علي، فإن كانت الاسرائيليات حجة فهذا يدل على أنه لا يسأل بحق الأنبياء وإن لم تكن حجة لم يجز الاحتجاج بتلك الاسرائيليات انتهى كلامه، فبين رحمه الله تعالى أنه لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما روي في ذلك باطل لا أصل له. وأما قوله: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلاً في جواز ذلك عن ابن عبد السلام. فنقول قد تقدم أن التوسل المشروع هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات، والتوحيد، وكذلك التوسل بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان به وطاعته، وكذلك التوسل بدعائه وشفاعته وكل هذا مشروع بلا ريب، وأما التوسل بنفس الذات فقد قدمنا أن كثيراً من العلماء نهوا عن ذلك وجعلوه من البدع المكروهة المحدثة، وبعضهم رخص في ذلك وهو قول: ضعيف مرود، وعز الدين بن عبد السلام أنكر التوسل إلى الله بغير النبي صلى الله عليه وسلم وأم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلق القول بجوازه على صحة حديث الأعمى لأنه فهم من الحديث أن الأعمى توسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم. وأم الجمهور فقد حملوا حديث الأعمى على انه توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الصحابة يتوسلون به في الاستسقاء كما في حديث أنس الذي رواه البخاري في صحيحه وقد تقدم وشيخنا رحمه الله نقل كلام العز بن عبد السلام، ليبين أن مسألة التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم بدعة مكروهة، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فأجاوزه بعض العلماء كالعز بن عبد السلام، والسائل فهم من نقل الشيخ أنه اختاره، وليس الأمر كذلك، بل الذي اختاره رحمه الله تعالى هو الذي ذهب إليه الجمهور أن ذلك بدعة محدثة لم يفعلها الصحابة، ولا التابعون، فإنه لم بنقل عن أحدهم أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كما قدمناه. وأما قوله: وأما التوسل بغير الأنبياء فيوردون أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء. وقد نقلنا بيانه بما فيه الكفاية وبينا أن التوسل بدعاء الصالحين في الاستسقاء وغيره مشروع كما فعله الصحابة لما توسلوا بالعباس ويزيد بن الأسود، وليس كلامنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 في هذا وإنما الكلام في التوسل بنفس الذات وأما قولهم: في حديث العباس فطفق الناس يتمسحون به فلم نقف لها على أصل ولا رأيناها في شيء من الكتب وعلى تقدير ثبوتها فليس فيها حجة على التوسل بالأموات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فصل: في قوله إن سلمنا هذا القول وظهر دليله فالجاهل معذور لأنه لم يدر ما الشرك والكفر ومن مات قبل البيان فليس بكافر ... (فصل) وأما قوله إن سلمنا هذا القول وظهر دليله فالجهل معذور لأنه لم يدر ما الشرك والكفر، ومن مات قبل البيان فليس بكافر، وحكمه حكم المسلمين في الدنيا والآخرةن لأن قصة ذات أنواط وبني إسرائيل حين جاوزوا البحر تدل على ذلك إلى آخره. فالجواب أن يقال: أن الله تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} . وقد أجمع العلماء على أنه من بلغه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن حجة الله قائمة عليه، ومعلوم بالإضرار من الدين أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب ليعبد وحده لا يشرك معه غيره، فلا يدعى إلا هو ولا يذبح إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يتوكل إلا عليه ولا يخاف خوف السر إلا منه، والقرآن مملوء من هذا قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وقال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة. والله تعالى لا يعذب خلقه إلا بعد الاعذار فأرسل رسله وأنزل كتبه لئلا ويقولوا: {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} . وكل من بلغه القرآن فليس بمعذور، فإن الأصول الكبار التي هي أصل دين الإسلام قد بينها الله تعالى في كتابه، وأوضحها وأقام حجته، على عباده، وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهماً جلياً كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره، فإن الكفار قد قامت عليهم الحجة من الله تعالى مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوا كلامه: فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ} وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .. والآيات في هذا المعنى كثيرة يخبر سبحانه أنهم لم يفهموا القرآن ولم يفقهوه وأنه عاقبهم بالأكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وأنه ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، فلم يعذرهم مع هذا كله بل حكم بكفرهم وأمر بقتالهم، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم بكفرهم، فهذا يبين لك أن بلوغ الحجة نوع وفهمها نوع آخر. وقد سئل شيخنا رحمه الله تعالى عن هذا الآية فأجاب السائل بقوله: من العجب العجاب كيف تشكون في هذا وقد وضحته لكم مراراً، فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية بعيدة أو يكون في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف، وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحمها في كتابه فإن حجة الله في القرآن فمن بلغه فقد بلغته الحجة وبلوغها نوع وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم الله ببلوغها إياهم مع كونهم لم يفهموها. وإن أشكل عليكم ذلك فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "أينما لقيتوهم فاقتلوهم" مع كونهم في عصر الصحابة ويحقر معهم الإنسان عمل الصحابة، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشديد والغلو والاجتهاد وهم يظنون أنهم مطيعون لله وقد بلغتهم الحجة ولكن لم يفهموها، وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه وتحريقهم بالنار مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاحهم وهم أيضاً يظنون أنهم على حقن وكذلك إجماع السلف على تكفير أناس من غلاة القدرية وغيرهم مع كثرة علمهم، وشدة عبادتهم، وكونهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل أنهم لم يفهموا فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا انتهى كلامه. إذا تقرر هذا فنقول: إن هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهر حالهم الشرك لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم، بل نقول: من بلغته هذه الدعوة، المحمدية وانقاد لها، ووحد الله وعبده وحده لا شريك له، والتزم شائع الإسلام وعمل بما أمره الله به وتجنب ما نهاه عنه فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة في كل زمان وفي كل مكان، وأما من كانت حاله حال أهل الجاهلية لا يعرف التوحيد الذي بعث الله ورسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله ورسوله ينهى عنه ويقاتل عليه، فهذا لا يقال أنه مسلم لجهله، بل من كان ظاهر عمله الشرك بالله فظاهره الكفر فلا يستغفر له ولا يتصدق عنه ونكل حاله إلى الله الذي يبلو السرائر ويعلم ما تخفي الصدور. ولا نقول: فلان مات كافراً لأنا لا نفرق بين المعين وغيره فلا نحكم على معين بكفر لأنا لا نعلم حقيقة حاله وباطن أمره بل نكل ذلك إلى الله، ولا نسب الأموات بل نقول أفضوا إلى ما قدموا، وليس هذا من الدين الذي أمرنا الله به بل الذي أمرنا به أن نعبد الله وحده ولا نشرك به، ونقاتل من أبى عن ذلك بعدما ندعوه إلى ما دعا إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصر وعاند كفرناه وقاتلناه، فينبغي للطالب أن يفهم الفرق بين المعين وغيره، فنكفر من دان بغير الإسلام جملة ولا نحكم على معين بالنار ونلعن الظالمين جملة ولا نخص معيناً بلعنة كما قد ورد في الأحاديث من لعن السارق وشار بالخمر، فنلعن من لعنه الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم جملة ولا نخص شخصاً بلعنه، بين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر جملة، ولما جلد رجلاً قد شرب قال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فصل: قوله أن كثير من العلماء فعلوا هذه الأمور أو فعلت بحضرتهم ولم تنكر ... (فصل) وأما قوله ومنها أن كثيراً من العلماء الكبار فعلوا هذه الأمور وفعلت بحضرتهم، ولم تنكر، ومن ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور واتخاذها أعياداً في الغالب فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم يؤتى إليه من النواحي، وقد يحضرهم بعض العلماء فلا ينكر. فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أن يقال: قد افترض الله على الخلق طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . فإذا اختلف الناس في شيء من أمور الدين هل هو واجب أو محرم، أو جائز وجب رد ما وقع فيه الاختلاف إلى الله والرسول، ويجب على المؤمن إذا دعى إلى ذلك أن يقول سمعاً وطاعة قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ..فنحن نحاكم من نازعنا في هذه المسألة وغيرها من المسائل إلى الله والرسول، لا إلى أقوال الرجال وآرائهم. فنقول لمن أجاز بناء القباب على القبور بالجص والآجر وأسرجها وفرشها بالرخام وعلق عليها قناديل الفضة وبيض النعام وكساها كما يكس بيت الله الحرام هل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وحث عليه أم نهى عنه وأمر بازالة ما وضع من ذلك صلى الله عليه وسلمما أمرنا به ائتمرنا وما نهانا عنه انتهينا، وسنته هي الحاكمة بيننا وبين خصومنا في محل النزاع، فنقول قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته، وفي صحيحه أيضاً عن ثمامة بن شفى الهمداني قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوى ثم قال سمعت رسول الله صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الله عليه وسلم يأمر بتسويتها وفي صحيحه أيضاً عن جابر بن عبد الله قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه، وفي سنن أبي داود والترمذي حديث حسن صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه الإمام أحمد وأهل السنن. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء عليها وأمر بهدمه بعد ما يبنى ونهى عن الكتابة عليها، ولعن من أسرجها، فنحن نأمر بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسويتها وننهى عن البناء عليها كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي افترض الله علينا طاعته واتباعه وأم غبره فيؤخذ من قوله ويترك كما قال الإمام مالك كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة فخذه ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير، وقال أيضاً لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذوا من حيث أخذوا. والعجب ممن يسمع هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن تعظيم القبور، وعقد القباب عليها من الجص والآجر، وإسراجها ولعن من أسرجها، ثم يقول فعلت هذه الأمور بحضرة العلماء الكبار ولم ينكروا كأنه لم يسمع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر، وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الأسناد وصحته ويذهبون إلى قول سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. فإن كان هذا كلام ابن عباس فيمن عارض السنة لقول أبي بكر وعمر وكلام أحمد فيمن ذهب إلى رأي سفيان فكيف بمن عارض السنة بقول فلان صلى الله عليه وسلموقد روى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد ما أتخون على أمتي ثلاثة زلة العالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناق الرجال" ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها إذ لولا ذلك لم يخف من زلة العالم على غيره، فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق العلماء، فإنه اتباع للخطأ على عمد، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يفسد الزمان ثلاثة أئمة مضلون وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وزلة العالم، فإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطىء لم يجز لأحد أن يفتي ويدين الله بقول لا يعرف وجهه فكيف إذا عارض بقوله أو فعله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني: أن يقال: إذا لم تقنع ولم يطمئن قلبك بما جاء عن رسول الله صلى الله وقلت العلماء أعلم منا وأطوع لله ولرسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فنقول أعلم الناس بما أمر الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نهى عنه أصحابه رضي الله عنهم فهم أعلم الناس بسنته، وأطوعهم لأمره، وهم الذين رضي الله عنهم عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة" وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خير القرون قرني الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فان الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبه نبيه واقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديتهم فانهم كانوا على الصراط المستقيم، وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من قبلكم فوالله لقد سبقتم سبقاً بعيداً ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم صلالاً بعيداً. فان احتج أحد علينا بما عليه المتأخرون قلنا الحجة بما عليه الصحابة، والتابعون والذين هم خير القرون لا بما عليه الخلف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نقل عنهم انهم عقدوا القباب على القبور وأسرجوها، وخلقوها وكسوها الحرير أم هذا مما حدث بعدهم من المحدثات التي هي بدع صلى الله عليه وسلم معلوم أن عندهم من قبور الصحابة الذين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ما لا يحص هل بنوا على قبورهم وعمظوها ودعوا عندها.. صلى الله عليه وسلمضلاً عن أن يسألوها حوائجهم أو يسألوا الله بأصحابها، فمن كان عنده في هذا أثر صحيح أو حسن فليرشدنا إليه وليدلنا عليه، وأنى له بذلك؟ فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلفائه الراشدين. وقد روى خالد بن سنان عن أبي العالية قال لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعبا فنسخه بالعربية فانا أول رجل من العرب قراه قرأته مثل ما أقرأ القرآن قال خالد: فقلت لأبي العالية ما كان فيه قال: سيرتكم وأموركم، ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت: فما صنعتم بالرجل قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة فلما كان بالليل دفناه، وواسينا القبور كلها مع الأرض لنعميه عن الناس لا ينبشونه فقلت وما يرجون منه قال: كانت السماء إذا حبست عنهم ابرزوا السرير فيمطرون فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال فقلت منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت ما كان تغير منه شيء قال: لا: إلا شعرات من قفاه أن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع. ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من نعيمه قبره لئلا يفتتن به الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به هؤلاء المشركون وعلموا حقيقته لبنوا عليه وعظموه، وزخرفوا قبره وأسرجوه، وجعلوه وثنا يعبد، فانهم قد اتخذوا من القبور أوثاناً ممن لا يداني هذا ولا يقاربه، بل لعله عدو الله، وأقاموا لها سدنة وجعلوها معابد، واعتقدوا أن الصلاة عندها، والدعاء حولها والتبرك بها فضيلة مخصوصة ليست في المساجد، ولو كان الأمر كما زعموا بل لو كان مباحاً لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علماً ولما أخفوه خشية الفتنة به، بل دعوا عنده وبينوه لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من هؤلاء الخلوف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وصرفوا لغير الله جل العبادات وما أحسن ما قال الأمام مالك رحمة الله صلى الله عليه وسلمن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن لكل ما نقص تمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهديه وسنة خلفائه الراشدين تعوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك، ومن له خبرة بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور وما يفعل بها وما يفعل عندها، وبما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم وازن بين هدية صلى الله عليه وسلم وهدى أصحابه، وبين ما عليه المتأخرون اليوم، وما يفعلونه عند القبور تبين له التباين والتضاد، وعلم أن بينهما من الفرق أبعد مما بين المشرق والمغرب كما قيل: سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب الوجه الثالث: أن يقال: قوله، أن كثيراً من العلماء فعلوا هذه الأمور وفعلت بحضرتهم فلم ينكروا، من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور. فيقال: بل قد نهوا عن ذلك وصرحوا بكراهته والنهي عنه وهذه كتبهم بأيدنا مصرحة بما ذكرنا، ونحن نسوق عباراتهم بألفاظها، فأما كلام الحنابلة فقال في الإقناع: ويستحب رفع القبر قدر شبر ويكره فوقه، ويكره البناء عليه سواء لاصق البناء القبر أو لا، ولو في ملكه من قبة أو غيرها للنهي عن ذلك، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى، في إغاثة اللهفان: ويجب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول انتهى، وهو في المسبلة أشد كراهة قال الشيخ: هو غاضب، وقال أبو حفص: تحرم الحجرة بل تهدم وهو الصواب انتهى كلامه في الإقناع، وهذا الذي ذكره غير واحد من أئمة الحنابلة فلا حاجة إلى الاطالة بنقل عباراتهم. وأما كلام الشافعية فقال الأذرعي رحمه الله تعالى: في قوت المحتاج إلى شرح المنهاج عند قول المؤلف رحمه الله تعالى: ويكره تجصيص القبر، والبناء والكتابة عليه، ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره والنهي عن الكتابة، وعبارة الحلوانية ممنوعا منهما، وعبارة القاضي ابن كج ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة، وقال الحضرمي في شرح المهذب، وقد يقولون: يعني الأصحاب لا تبنى القبور وكأنهم يريدون لا تبنى القبور نفسها بآجر والبناء قبل فالمفهوم من كلامهم أن هذا كالتجصيص فيكره، ولا يحرم، إلا أن يريد في المقبرة المسبلة فيحرم قلت: وينبغي تحريمه في المسبلة مطلقاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وان لم يضيق لأنه قد أبدى بالجص وإحكام البناء فيمنع من الدفن هناك بعد البلاء، ولا يبعد الجزم بالتحريم في ملكه وغيره على من علم النهى عنه بل هو القياس الحق، قوله: ولو بنى في مقبرة مسبلة هدم أي بناء على القبر فيها، وعلى الفرق في التحريم بيت ملكه وملك غيره جرى كثيرون منهم القاضيان الحسين، والمارودي في موضع آخر فقال: يكره البناء على القبور كالقباب والبيوت، وان كان في غير ملكه لم يجز للنهي عن ذلك والتضييق، قال الشافعي رضي الله عنه: ورأيت الولاة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى منها ولم أر الفقهاء يعيبون في ذلك عليهم انتهى. وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وانفاق الأموال الكثيرة عليها فلا ريب في تحريمه، والعجب كل العجب ممن يلزم ذلك الورثة من حكام العصر ويعمل بالوصية بذلك مع قول الأصحاب: لا تنفذ الوصية حيث لا حاجة إليه ومن جوز البناء في الملك صرح بالكراهة فكيف تنفذ الوصية على المكروه؟ انتهى كلام الاذرعي رحمه الله: فصرح بأن البناء مكروه وساق عبارات الأصحاب، وهل الكراهة كراهة تحريم أم لا؟ أم يفرق بين المسألة وغيرها؟ واختار التحريم مطلقا في ملكه وغيره على من علم النهي وقال بل هو القياس الحق. وأما المالكية، فقال القرطبي رحمه الله في شرح مسلم: لما ذكر قوله: صلى الله عليه وسلم: "ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" ظاهرة منع تسنيم القبور ورفعها اوان تكون لاطئة بالأرض، وقد قال به: بعض أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بازالته ليس هو التسنيم ولا يعرف به القبر كي يحترم إنما هو الارتفاع الكثير الذي كانت الجاهلية تفعله، فانها كانت تعلى عليها وتبنى فوقها تفخيما لها وتعظيماً، وأما تسنيمها فذلك صفة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر على ماذكر في الموطأ، وقد جاء عن عمر أنه هدمها وقال ينبغي أن تسوى تسوية تسنيم وهذا معنى قول الشافعي تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع وتكون على وجه الأرض، وتسنيمها اختاره أكثر العلماء وجملة أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة والشافعي، قلت والذي صار إليه عمر أولا فانه جمع بين التسوية والتسنيم. وقوله نهى أن يجصص القبر ويبنى عليه التجصيص هو البناء بالجص وبظاهر هذا الحديث قال مالك وكره البناء والجص على القبور وقد أجازه غيره، وهذا حديث حجة عليه ووجه النهي على البناء، والتجصيص في القبور أن ذلك مباهاة واستعماله زينة الدنيا في أول منازل الآخر وتشبه بمن كان يعبد القبور ويعظمها، وباعتبار هذه المعاني وبظاهر هذا النص ينبغي أن يقال هو حرام كما قد قال به: بعض أهل العلم انتهى كلام القرطبي رحمه الله. وقال الشيخ سالم السنهوري: في كتابه تيسير الملك الجليل شرح مختصر خليل قال بعض: لا شك أن المعلاة والشبيكة من مقابر المسلمين المسبلة، المرصدة لدفن الموتى بمكة المشرفة وأما البناء بهما لا يجوز ويجب هدمه يدل له قول الشافعي: رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما بنى بها، قال في المداخل: وقد جعل عمر رضي الله عنه القرافة بمصر لدفن موتى المسلمين واستمر الأمر على ذلك وأن البناء بها ممنوع وان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 السلطان الظاهر أمر باستفتاء العلماء في زمانه في هدم ما بها من البناء فاتفقوا على لسان واحد يجب على ولي الأمر هدمه وأن يكلف أصحابه رمي ترابها في الكمارة، ولم يختلف في ذلك أحد منهم، ثم إن الظاهر سافر إلى الشام فلم يرجع انتهى، قال بعض ولم أحداً من المالكية أباح البناء حول القبور في مقابر المسلمين سواء كان الميت صالحاً، أو عالماً أو شريفاً أو سلطاناً أو غير ذلك. وفي جواب ابن رشد عن سؤال القاضي له عن ذلك أما ما بني في مقبرة المسلمين ووقف، فإن وقفه باطل وأنقاضه باقية على ملك ربها إن كان حياً أو كان له ورثة، ويؤمر هو ووارثه بنقلها عن مقابر المسلمين، وإن لم يكن له وارث استأجر القاضي على نقلها منها وصرف الباقي في مصاريف بيت المال، ولا يؤخذ جواز البناء على القبور من قول الحاكم في مستدركه عقب مصاريف بيت المال، ولا يؤخذ جواز البناء على القبور عليه ليس العمل عليها فإن أئمة المسلمين شرقاً وغرباً مكتوب على قبورهم، وأخذه الخلف عن السلف فيكون إجماعاً مستنداً إلى حديث آخر كخبر "لا تجتمع أمتي على ضلالة" ولا من وقل ابن قداح في مسائله: لا يجوز البناء على القبر وهل يكتب عليه أولا؟ لم يرد في ذلك عن السلف الصالح شيء ولكن إن وقع وعمل على قبر رجل من أهل الخير فخفيف لأن كلام الحاكم وابن قداح خاص بالكتابة لا يتعداها إلى البناء. وقال ابن رشد كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة وهي من بدع أهل الطول وأحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة وهو مما لا اختلاف فيه , انتهى. فتأمل كلام الحنفية في ذكر كراهة البناء على القبور والمراد بالكراهة كراهة التحريم التي هي مقابلة ترك الواجب، وقد ذكروا من قواعدهم أن الكراهة حيث أطلقت فالمراد منها التحريم، وممن نبه على ذلك ابن نجيم في البحر وغيره حيث قال كلام السهنوري رحمه الله. وأما كلام الحنفية فقال الزيلعي في شرحه: على الكنز عند قول الماتن ويسنم القبر ولا يربع ولا يجصص، لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنماً، وقال إبراهيم النخعي: أخبرني بعض من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر مسنمة، وسنم محمد بن الحنفية قبر ابن عباس، ويسنم قدر شبر وقيل أربعة أصابع، ولا بأس برش الماء عليه حفاظاً لترابه عن الاندراس. وعن أبي يوسف أنه كرهه لأنه يجري مجرى التطيين، ويكره أن يبني على القبر، وفي الخلاصة ولا يجصص القبر ولا يطين، ولا يرفع عليه بناء، وذكر أيضاً قاضي خان في فتاويه أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص والتقصيص وعن البناء فوق القبر قالوا أراد بالبناء السفط الذي يجعل في ديارنا، وقال ابن الهمام في فتح القدير قال أبو حنيفة حدثنا شيخ لنا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تربيع القبور وتجصيصها، وروى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة عن حماد ابن أبي سليمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 عن إبراهيم قال أخبرني من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر فانتزه من الأرض وعليها فلق أبيض من مدر. فتأمل كلام الحنفية في ذكر كراهة البناء على القبور والمراد بالكراهة كراهة التحريم التي هي في مقابلة ترك الواجب، وقد ذكروا من قواعدهم أن الكراهة حيث أطلقت فالمراد منها التحريم، ومن نبه على ذلك ابن نجيم في البحر وغيره حيث قال وأفاد صحة إطلاق الحرمة على المكروه تحريماً، وتأمل كلام الزيلعي وما ذكره من الخلاف بين الأصحاب هل يسنم قدر شبر أو قدر أربع أصابع وذكر عن أبي يوسف أنه كره رش القبر بالماء لأنه يجري مجرى التطيين، وهل هذا منهم رحمهم الله إلا اتباع ما عليه السلف الصالح؟ من ترك تعظيم القبور التي هي من أعظم الوسائل إلى الشرك. فتأمل رحمك الله كلام العلماء من أهل المذاهب الذين نقلنا عنهم، والموجود في كلام غيرهم يوافق ذلك ولا يخالفه، وكلامهم صريح في النهي عن البناء على القبور، لكن هل هو تحريم أو تنزيه اختلفوا في ذلك فبعضهم قال: هو حرام مطلقاً إتباعاً للنص ولم يفرق بين ملكه وغيره، وبعضهم صرح بالنهي مطلقاً، وجعل التحريم في البناء في المقبرة المسبلة، والقول بتحريمه في المسبلة هو قول الأئمة الأربعة وهذا صريح في إبطال ما ذكره القائل أن العلماء لم ينكروا ذلك فإذا كانوا مصرحين بالنهي عن ذلك في كتب أصحاب الأئمة الأربعة. فكيف يقال: لم ينهوا عن ذلك بل أقروهم وقد صرحوا بتحريمه، وجوب هدمه إذا بنى في مقابر المسلمين، ومع هذا فقد ضيقت المقابر بالقباب في كل مصر من الأمصار مع وجود النهي والإنكار، فظهر لك بهذا وتبين أنه ليس بناء هذه القباب وتعظيمها، وإسراجها بأمر من العلماء، ولا رضى منهم بذلك، بل هو بأمر الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وشربوا الخمر والمسكرات وأعرضوا عن سماع الآيات، وأقبلوا على سماع الأبيات، فهل يقول أحد: أن هؤلاء الذين تركوا المأمور وارتكبوا كل محظور قد أقرهم العلماء على ذلك ورضوا به ولم ينكروه. وهذا القائل الذي زعم أن بناء القباب جائز لأن العلماء لم ينكروه يقال له: هل وجد في زمانهم من ترك الصلاة ولا يؤدي الزكاة ويشرب الخمور ويجاهر بالفجور؟ فإن قال: لم يوجد فهذا مكابرة كمن ينكر الشمس بالهاجرة وإن قال: بل وجدت في سائر الأقطار وكثر في جميع الأعصار والأمصار، فيقال: هل أجازه العلماء ورضوا به، فإن كان وجود القباب يدل على رضاهم بها فهذا مثله، وكيف يقال: إن العلماء بذلك راضون وله فاعلون؟ وهذه كتبهم مشحونة بالنهي عن ذلك وتحريمه ويوجبون هدمه في المقابر المسبلة. وهذه المقابر المسبلة بالقباب في الحرمين ومصر والشام والعراق وبلاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 العجم وكتبهم تنهى عن ذلك وتحرمه وتوجب هدمه ولا يقول: أن العلماء لم ينكروه إلا من قصر في العلم باعه وقل نظره واطلاعه هذا مع أنا نقول كما قال: صلى الله عليه وسلم: "خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"، فلو قدر أن المتأخرين فعلوا ذلك وحضروه وأقروه ولم ينكروه لم يكن قولهم: حجة {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما وافق هديه فهو مقبول وما خالفه فهو مردود كما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وكل قول يخالف سنته فهو مردود على قائله، وما أحسن ما قال الشافعي رحمه صلى الله عليه وسلمإذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي الحائط وقال أيضاً: "أجمع الناس أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وصح عنه أنه قال: إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم آخذ به فاعلموا أن عقلي قد ذهب، وصح عنه أنه قال: لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وان كان لسان الشافعي فهو لسان الجماعة كلهم. وابلغ من هذا كله قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فهذا دليل على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله أصوله وفروعه إلى الله ورسوله لا إلى غير الله ورسوله، ولهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وهذا شرط ينتفي المشروط بانتفائه، فدل على أن من حكم غير الله ورسوله في موارد النزاع كان خارجاً عن مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر. وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد وفاته قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي هذا الرد الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولي الأمر ورد ما تنازعتم فيه إلى الله والرسول خير لكم في معاشكم ومعادكم وهو سعادتكم في الدارين فهو خير لكم وأحسن عاقبة فدل على أن طاعة الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلاً وآجلاً. وهذه قاعدة عظيمة مهمة يحتاج إليها كل أحد وطالب العلم إليها أحوج فانه في غالب الأحوال يرى نصوص أهل مذهبه قد خالفت نصوص غيرهم من أهل المذاهب فلا ينبغي له أن يهجم على كتب المذاهب، ويأخذ بعزائمها ورخصها بل الواجب عليه أن يطلب ما جاء في تلك المسائل عن الله ورسوله، ويعرض نصوص مذهبه ونصوص غيرهم من أهل المذاهب على ما جاء عن الله ورسوله فما وافقها قلبه وما خالفها رده على قائله كائناً من كان فيجعل ما جاء عن الله ورسوله هو المعيار ويدور معه حيث دار. وكثير من الناس أو أكثرهم نكس هذا الحكم على رأسه وجعلوا الحكم للكتب التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 صنفها المتأخرون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، بل صرح بعضهم في مصنفاته بأنه يجب على العامي أن يتمذهب بمذهب يأخذ بعزائمه ورخصه، وان خالف نص الكتاب أو السنة وهذا من أعظم حيل الشيطان، وحبائله التي صاد بها كثيراً ممن ينتسب إلى العلم والدين فنبذوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، وأقبلوا على الكتب التي صنفها متأخروهم. وقالوا هم أعلم به، ثم لم يكتفوا بها، ولم يعملوا بما فيها بل أن وافق ما فيها أهواءهم قبلوه وعملوا به، وقالوا نص عليه في الكتاب الفلاني، وان خالف ما فيها أهواءهم لم يعبأوا بها، ولم يحتجوا بها بل ربما جعلوا حجتهم ما فعله اخوان الشياطين من الرعايا والسلاطين الذين بنوا القباب على القبور وارتكبوا كل محظور فزخرفوا القبور بالبناء وكسوها كما يكسى البيت الحرام وفعلوا عندها ما يفعله عباد الأصنام حتى آل الأمر إلى أن صار فعلهم هذا حجة تعارض بها النصوص، فيقول قائلهم هذا موجود في كل عصر ومصر من غير نكير فيكون اجماعاً هذا مع علمه بما نص عليه الفقهاء من النهي عن ذلك، وتحريمه خصوصاً البناء في المقابر المسبلة فانهم اتفقوا على تحريم البناء فيها. ثم لا يخفى ما في الحرمين الشريفين من القباب المبنية في المعلاة والبقيع ومقابر مصر كالقرافة وغيرها، ومقابر الشام وغيرها فهلا أنكر المتأخرون ما نهى عنه علماؤهم وحرموه، بل أعرضوا عن ذلك كأنهم لم يسمعوه، بل أعرضوا عن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وغلبت عليهم العادة التي نشئوا عليها ووجدوا أهلهم عليها، واحتجوا بالحجة القرشية {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} والحجة الفرعونية {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} وقبلهم ابراهيم لما قال لهم عليه السلام: {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} . والمشركون في هذا الزمان يسلكون سبيلهم خذو القذة بالقذة لما أنكرنا عليهم الشرك بالله وتعظيم القبور، والبناء عليها، واسراجها ودعاءها، والدعاء عندها ولم يكن لهم حجة يحتجون بها إلا هذه الحجج التي حكى الله عن المشركين من قريش ومن قبلهم، فيقولون هذا قد وجد من ستمائة سنة فلم ينكر هذا عمل الناس في القديم والحديث هذا فلان قد نص على هذا في منسكه هذا صاحب البردة قد ذكره في بردته هذا فلان حضره فلم ينكره، وهذه الشبهة هي التي ملأت قلوبهم وأخذت أسماعهم وأبصارهم فلم يلتفتوا إلى غيرها، فإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيتهم يصدون وهم مستكبرون. وغاية ما يحتج به أحدهم إذا قيل له انزل والجىء إلى المحاجة والمناظرة أن يقول القرآن لا يفسره إلا الصحابة كان ابن عباس لا يفسره إلا في الصحراء مخافة أن ينزل عليه العذاب، فإذا قيل له بيننا وبينكم تفاسير السلف كابن عباس قال لسنا أهلاً لذلك، بل فرضنا التقليد ومشائخنا أعلم منا بكتاب الله، فلو كان هذا شركاً لما ذكروه في مناسكهم وأشعارهم ثم ينشد من الأشعار ما تقشعر منه الجلود لما فيها من الشرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بالواحد المعبود، ويقول هذا كلام العالم الفلاني في قصيدته وشرحها فلان وفلان وتداولها العلماء فلم ينكروا ذلك. وهذه الشبهة هي التي قامت بقلوبهم وتوارثوها عن آبائهم فهم لا يصغون إلا إليها ولا يعولون إلا عليها كأنهم لم يسمعوا بكتاب منزل ولا نبي مرسل، فلما فضحهم الله، وهتك أستارهم بها أقيم عليهم من أدلة الكتاب والسنة على ابطال الشرك، وكفر من فعله وإباحة دمه وماله، وأقيم عليهم من الأدلة ما لا يقدرون على دفعه لم يكن لهم حيلة إلا الجحود والإنكار، وقالوا نعم هذا الشرك بالله، ونشهد أنه باطل ولكن هذه القباب التي على القبور لا يقصدها إلا العوام والجهلة الطغام. فإذا قيل أفلا تنهون العوام عما يفعلونه من الإشراك، وتهدمون هذه البنايا التي على القبور قالوا هذا أمر الملوك فبسبب هذه الأمور غلب الشرك على أكثر النفوس لغلبة الجهل وقلة العلم حتى صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الهدى كلاماً حسناً يناسب ذكره في هذا الموضوع قال رحمه الله: لما ذكر غزوة الطائف وذكر فوائد القصة قال: ومنها أنه لا يجوز ابقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً فانها شعائر الكفر والشرك وهي من أعظم المنكرات، فلا يجوز الاقرار عليها بعد القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً، وطواغيت تعبد من دون الله تعالى، والاحجار التي تقصد بالتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، فلا يجوز ابقاء شيء منها على وجه الارض مع القدرة على ازالتها وكثير منها بمنزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الاخرى وأعظم شركاً عندها وبها والله المستعان. فلم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق، وترزق وتميت، وتحيي، وانما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله اخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم خذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الاعلام واشتدت غربة الاسلام، وقل العلماء وغلبت السفهاء، وتفاقم الامر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله الارض ومن عليها وهو خير الوارثين انتهى كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فصل: اتخاذ القبور أعيادا في الغالب ... (فصل) وأما قول القائل واتخاذها أعيادا في الغالب فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم يؤتى إليه من النواحي، وقد يحضر بعض العلماء ولا ينكر- فنقول – هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 المسألة يظهر جوابها مما تقدم، فان الله قد أتم نعمته على خلقه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وافترض على الخلق طاعته، وأخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقال جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وهو صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق للأمة كما أخبر الله عنه في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فدل أمته على كل خير يعلمه لهم، وحذر أمته عن شر ما يعلمه لهمن فكل عمل لم يشرعه فليس من الدين. والعبادات مبناها على الأمر الاتباع لا على الهوى والابتداع، وكل عمل ليس عليه أمره فهو رد كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وقال صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" فيقال لمن أجاز القبور أعياداً: هل هذا مما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب فيه أم هو مما نهى عنه وحذر من صلى الله عليه وسلم وهل فعل ذلك خلفاؤه الراشدون، والذين أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم سنتهم كما في حديث العرباض "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الامور فان كل بدعة ضلالة" ومعلوم أن قبره صلى الله عليه وسلم أشرف قبر على وجه الأرض فلو كان فضيلة لما أهملوه ومن له معرفة بالسنن والآثار يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وحذر أمته وأن الصحابة لم يفعلوه وكذلك أتباعهم الذين اتبعوهم بإحسان لم يفعلوه بل نهوا عن ذلك وأنكروا على ما فعله. ونحن نذكر بعض ما ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن اتخاذ قبره عيداً وهو سيد القبور فقبر غيره من باب الأولى والأحرى، قال أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حديث ما كنتم" وهذا اسناد جيد رواته كلهم ثقاة مشاهير، وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن ابراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن الحسين انه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه فقال: الا أحدثكم بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي فان تسليمكم يبلغني أينما كنتم" رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته التي اختارها من الاحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وقال سعيد بن منصور في السنن: حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 "لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيث ما كنتم فان صلاتكم تبلغني" وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء فقلت: لا أريده فقال: ما لي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اذا دخلت المسجد فسلم ثم قال: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيث كنتم ما أنتم ومن بالاندلس الا سواء " فهذان المسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما، وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يكن روى مسندا من وجوه غير هذا فكيف وقد تقدم مسندا. ووجه الدلالة منه ان قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الارض وقد نهى عن اتخاذه عيداً فقبر غيره أولى بالنهى كائناً من كان ثم أنه قرن ذلك بقوله: "ولا تتخذوا من بيوتكم قبوراً" أي لا تعطلوها من الصلاة فيها، والدعاء والقرآن فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت، ونهى عن تحري العبادة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون، ثم انه عقب النهى عن اتخاذه عيداً بقوله: "وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" يشير بذلك إلى ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم فلا حاجة إلى اتخاذه عيداً. وقد حرف هذه الاحاديث بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك وشبها من اليهود بالتحريف فقال هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده واعتياد قصده، وانتيابه ونهى أن يجعل كالعيد الذي انما يكون من الحول إلى الحول، بل أقصدوه كل ساعة وكل وقت، وهذا مراغمة ومحادة ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس، والتلبيس والتناقض. فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون، ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل اثماً وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دنيه وسنته، وهكذا غيرت أديان الرسل ولولا أن الله أقام لدنيه أنصاراً وأعواناً يذبون عنه لجرى عليه ما جرى على الاديان قبله. ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الانبياء مساجد أو يلعن فاعل ذلك، فانه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فكيف يأمر بملازمتها، والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها وانتيابها، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول، وكيف يسأل ربه ألا يجعل قبره وثناً يعبد وكيف يقول أعلم الخلق بذلك؟ ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشى أن يتخذ مسجدا وكيف يقول: "لا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم" وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك مافهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف. وهذا أفضل التابعين من أهل بيته على بن الحسين رضي الله عنه نهي ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الرجل ان يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم واستدل عليه بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال، وكذلك عن الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر اذا لم يكن يريد المسجد، ورأى ان ذلك من اتخاذه عيداً، فانظر إلى هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدنية، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب نسبى وقرب الدار لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم وكانوا له أضبط، والعيد اذا جعل اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وانتيابه للعبادة عنده أو لغير العبادة كما ان المسجد الحرام ومزدلفة، وعرفة جعلها الله عيداً مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك، وكان المشركون لهم أمكنة ينتابونها للاجماع عندها فلما جاء الاسلام محا الله ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فصل: إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ... (فصل) واعلم أن في اتخاذ القبور أعياداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد فمن ذلك الصلاة إليها، والطواف بها وتقبيلها، واستلامها وتعفير الخدود على ترابها، والاستغاثة باصحابها وسؤالهم الرزق، والنصر والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكربات، واغاثة اللفهات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الاصنام يسألونها أوثانهم، وهذا هو عين الشرك الأكبر الذي بعث الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ينهي عنه، ويقاتل أهله ومن مات عليه كان من أهل النار عياذا بالله من ذلك. وكان مبدأ هذا الداء العظيم في قوم نوح لما غلوا في الصالحين كما أخبر الله عنهم في كتابه حيث قال: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} قال ابن جرير: وكان من خبر هؤلاء ما حدثناه ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس، أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوماً صالحين. فهؤلاء جمعوا بين فتنتين فتنة القبر وفتنة التماثيل وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له أم سلمة كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: "أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" وهذا كان سبب عبادة اللات فروى ابن جرير بإسناده عن منصور عن مجاهد ة {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} قال: كان يلت السويق للحاج فمات فعكفوا على قبره، وكذلك قال أبو الجوزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج، فقد رأيت أن سبب عبادة يغوث ويعوق ونسر واللات إنما كان سببه تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها تماثيل ثم عبدوها. قال أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور وهي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه إلى أقرب النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، ولهذا تجد أهل الشرك كثيراً يتضرعون عندها ويخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها، والدعاء ما لا يرجون في المساجد، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس، وإن لم يقصد ما قصده المشركون سداً للذريعة. قال وأما إن قصد الرجل بالصلاة عند القبر تبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد، وبناء المساجد عليها. فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه، بل نهى عن ذلك في نهاية حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك، قالت عائشة رضي الله عنها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبائهم مساجد" ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً" متفق عليه، وقولها خشي هو بضم الخاء المعجمة تعليلاً لمنع إبراز قبره، وأبلغ من هذا أنه نهى عن الصلاة إلى القبر فلا يكون القبر بين المصلي والقبلة وروى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" وفي هذا إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو باطل من عدة وجوه. منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة المنبوشة كما يقوله المعللون بالنجاسة ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة لأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع وليس للنجاسة عليها طريق فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم في قبورهم طريون. ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها. ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكاد الحشوش، والمجازر أولى من ذكر القبور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المساجد مع تطيينها بطين طاهر وهذا باطل قطعاً، وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وفهم الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزماً لا يحتمل النقيض ان هذه المبالغة واللعن والنهي ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل الشرك فان هذا وأمثاله منه صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه. ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به، وما نهى عنه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضاداً للاخر مناقضاً له: فانه نهى عن الصلاة اليها وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى أن ايقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على ايقاد القناديل عليها، ونهى أن تتخذا عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً، ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها وهؤلاء يرفعونها ويبنون عليها القباب، ونهى عن الكتاب عليها، وهؤلاء يكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها وهؤلاء يزيدون سوى التراب الآجر والاحجار والجص، فأهل الشرك مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل القبور وفي ما نهى عنه محادون له في ذلك. فاذا نهى الموحدون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعظيمها، والصلاة عندها واسراجها، والبناء عليها والدعاء عندها، وما هو أعظم من ذلك مثل بناء المساجد عليها، ودعائها وسؤالها قضاء الحاجات، واغاثة اللهفات غضب المشركون واشمأزت قلوبهم، وقالوا قد تنقص أهل الرتب العالية، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر وسرى ذلك في نفوس الجهال الطغام حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعطائم ونفروا الناس عن دين الاسلام، ووالوا أهل الشرك، وعظموهم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فصل: قوله فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم يؤتى إليه من النواحي وقد يحضره بعض العلماء ولا ينكر ... (فصل) وأما قوله: فالكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم يؤتى اليه من النواحي وقد يحضر بعض العلماء فلا ينكر. فنقول أما قوله فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم فقد قدمنا الجواب عن ذلك، وبينا أن ذلك من اتخاذها أعياداً، وإنه مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان، ومكان فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم: "يوم عرفة وأيام النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام " رواه أبو داود وغيره، وأما المكان فكما روى أبو داود في سننه أن رجلاً قال يا رسول الله: أنى نذرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أن انحر إبلا ببوابة فقال: " أبها وثن من أوثان المشركين أو عيد من أعيادهم"؟ قال لا قال: "فأوف بنذرك" وكقوله: " لا تجعلوا قبري عيداً" فالعيد مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فاذا كان اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، واتيانه للعبادة ولغيرها، كما ان المسجد الحرام ومنى ومزدلفة، وعرفة والمشاعر جعلها الله عيداً للحنفاء كما جعل أيام التعبيد فيها عيداً فاتيان القبور في يوم معلوم من شهر معلوم والاجتماع لذلك بدعة لم يشرعها رسول الله، ولم يفعلها الصحابة، ولا التابعون لهم باحسان سواء كان ذلك في البلد أو خارجا عنه. وأما قوله: يؤتي إليه من النواحي. فنقول: وهذا أيضاً بدعة مزعومة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان، وبين ذلك أن زيارة القبور نوعان: زيارة شرعية، وزيارة بدعية شركية فالزيارة الشرعية مقصودها ثلاثة أشياء: أحدهما تذكير الآخرة، والاتعاظ والاعتبار، والثاني: الإحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده به فيهجره ويتناساه، فإذا زاره وأهدى إليه هدية، من دعاء أو صدقة سر الميت بذلك كما يسر الحي من يزوره ويهدي له، ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة، والرحمة لوم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعوا بهم، ولا يصلي عندهم، والثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم فيحسن إلى نفسه وإلى المزور. وأما الزيارة البدعية الشركية: فأصلها مأخوذ من عبادة الأصنام، وهو أن يقصد قبر صالح في الصلاة عنده أو الدعاء عنده به أو طلب الحوائج منه، والاستغاثة به ونحو ذلك من البدعة التي لم يشعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان كما تقدم بيانه مبسوطاً. ثم أعلم أن الشرعية هي التي لا تشد الرحال فإن كانت بشد رحل فهي زيارة بدعية لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة، بل قد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: "لا تشد الرحال إلا ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد المسجد الأقصى ومسجدي هذا" وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به، فلو نذر رجل أن يصلي في المسجد ويعتكف فيه أو يسافر إليه لم يجب عليه في ذلك باتفاق الأئمة، حتى نص بعض العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قبا لأنه ليس من الثلاثة مع أن مسجد قبا تستحب زيارته لمن كان بالمدينة لأن ذلك ليس بشد رحل كما في الصحيح "من تطهر في بيته ثم أتى قبا لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة". قالوا: ولأن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين لم يفعلها أحد من الصحابة التابعين، ولا أمر بها رسول صلى الله عليه وسلم، ولا استحسنها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة، وإنما اختلف العلماء اتباع الأئمة في الجواز بعد اتفاقهم على أنه ليس مشروعاً ولا مستحباً فالمتقدمون منهم قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 لا يجوز السفر اليها ولا تقصر الصلاة في هذا السفر لأنه معصية وهذا قول: أبى عبد الله بن بطه وأبى الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرة، وذهب طائفة من المتأخرين أصحاب أحمد والشافعي إلى جواز السفر إليها كأبي حامد الغزالي وابن عبدوس وأبي محمد المقدسي وأجابوا عن حديث "لا تشد الرحال" بأنه لنفي الاستحباب والفضيلة ورد عليهم الجمهور من وجهين: أحدهما: أن هذا تسليم منهم أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قرية ولا طاعة، ومن اعتقد أن السفر لزيارة القبور قربة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاده أنه طاعة فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك، وأما إذا قصد بشد الرحل غرضاً من الأغراض المباحة فهذا جائز. الوجه الثاني: أن النفي يقضي النهي والنهي يقتضي التحريم، والأحاديث التي تذكر في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح ولا حسن، ولا روى أهل السنن المعروفة كسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي في ذلك شيئاً، بل ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد، وأبي داود الطيالسي وعبد بن حميد وغيرهم، ولا أهل المصنفات المعروفة كموطأ مالك وغيره، بل لما سئل الإمام أحمد وغيره وهو أعلم الناس في زمانه بالسنة عن هذه المسألة لم يكن عنده ما يعتمد عليه إلا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام" وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه، وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبة ثم ينصرف. واتفقت الأمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأظنه منصوصاً عنه، قال أبو حنيفة: يستقبل القبلة ويسلم عليه هكذا في كتب أصحابه، وقال مالك لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ولكن يسلم ويمضي ومن رخص منهم في الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء أن يدعوا مستقبل القبلة، أما مستدبر القبر، وأما منحرفاً عنه، وهو أن يستقبل القبلة ويدعو ولا يدعو مستقبل القبر، وهكذا المنقول عن سائر الأئمة، ليس فيهم من استحب للمرء أن يستقبل القبر أعني قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟ ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين مشهد يقصد بالزيارة لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا اليمن ولا العراق، ولا خرسان ولا مصر، بعدما فتح الله هذه البلاد وصارت بلاد إسلام، وإنما حدث فيها بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 انقراض عصر السلف، فصار يوجد في كلام بعض الناس فلان ترجى الإجابة عند قبره وفلان يدعي عند قبره، وبعضهم يقول قبر فلان الترياق، المجرب ونحو ذلك، مما لم يكن معروفاً في عهد الصحابة والتابعين، وقائل هذا أحسن أحواله أن يكون مجتهداً في هذه المسألة أو مقلداً فيعفو الله عنه، أما أن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك فلا، بل يقال هذه زلة فلا يجوز تقليده فيها إذا عرف أنها زلة لأنه اتباع للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر من العارف وكلاهما مفرط فيما أمر به وقال الشعبي قال عمر رضي الله عنه يفسد الزمان ثلاثة أئمة مضلون وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وزلة العالم وقال معاذ رضي الله عنه احذروا زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق، وقال اجتبوا من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً. واعلم رحمك الله أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفرة والزلة وهو فيها معذور بل مأجور لاجتهاد، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن يهدر مكانه وإمامته منزلته من قلوب المسلمين، قال مجاهد والحكم ومالك وغيرهما: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم وقال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله، وقدر روى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة: قال وما هي يا رسول الله قال "أخاف عليهم من زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وعلى الحق منار كأعلام الطريق". ويكفي اللبيب في هذا ما قصه الله في كتابه عن بني إسرائيل مع صلاحهم، وعلمهم أنهم بعدما فلق لهم البحر، وأنجاهم من عدوهم أتوا نبيهم صلى الله عليه وسلم قائلين اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وكذلك ما رواه الترمذي وغيره أن أناساً من الصحابة في غزوة حنين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم حين مروا بسدرة للمشركين يعكفون عندها وينوطون بها يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لتركبن سنن من كان قبلكم". فإذا كان قد خفي عليهم مع صلاحهم ووضوحه وبيانه وقبلهم قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم وقد اختارهم الله على عالمي زمانهم وخفي عليهم هذا وقالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فهذا يفيد أن المسلم، بل العالم قد يقع في أشياء من الشرك، وهو لا يدري فيفيد الحرص بذل الجهد في البحث عما جاء عن الله ورسوله، ولا يقلد دينه الرجال فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا وأبى الله أن يصح إلا كتابه وأن يعصم إلا رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وإذا اشتبه عليه الحق في هذا الباب أو غيره، فليدع بما رواه في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام من الليل: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. قال شيخ الإسلام علم الهداة الأعلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام بن عبد الوهاب أجزل الله لهم الثواب وأدخلهم الجنة بغير حساب. بسم الله الرحمن الرحيم اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي قال الله خطاباً له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه ومن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. أما بعد فإني وقفت على جواب للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين وقد سئل عن أبيات من البردة وما فيها من الغلو والشرك العظيم المضاهي لشرك النصارى ونحوهم ممن صرف خصائص الربوبية والألوهية لغير الله كما هو صريح الأبيات المذكورة، ولا يخفى على من عرف دين الإسلام أنه الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه وأن الجنة عليه حرام، وذكر الشيخ في جوابه أن الأبيات المذكورة تضمنت الشرك وصرف خصائص الربوبية والألوهية لغير الله، فأعترض عليه جاهل ضال فقال مبرئا لصاحب الأبيات من ذلك الشرك بقوله حماه الله من ذلك، ويكفيه في نفي هذه الشفاعة قوله أول المنظومة. دع ما ادعته النصارى في نبيهم. البيت المطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم". الجواب: إن هذه التبرئة إنما نشأت عن الجهل وفساد التصور فلو عرف الناظم وهذا المعترض ومن سلك سبيلهم حق الله على عباده وما اختص به من ربوبيته وألوهيته وعرفوا معنى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لما قالوا هم وأمثالهم ممن جهل التوحيد كما قال تعالى في حق من هذا وصفه: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} فالجهل بما بعث الله به رسله قد عم كثيراً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 هذه الأمة فظهر فيها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال (فمن) ونحو ذلك من الأحاديث. وقوله ويكفيك في نفي هذه الشفاعة قوله أول المنظومة: دع ما ادعته النصارى في نبيهم -البيت. الجواب: إن هذا يزيده شناعة ومقتاً لأن هذا تناقض بين وبرهان أنه لا يعلم ما يقول فلقد وقع فيما وقعت فيه النصارى من الغلو العظيم الذي نهى عنه ورسوله، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله أو فعل ما يوصل إليه بقوله: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" وقوله لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت: قال: "أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده" وقال: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل" فلقد حذر أمته وأنذرهم عن الشرك ووسائله، وما دق منه وجل، ودعا الناس إلى التوحيد ونهاهم عن الشرك، وجاهدهم على ذلك حتى أزل الله به الشرك والأوثان من جميع الجزيرة وما حولها من نواحي الشام واليمن وغير ذلك. وقد بعث السرايا في هدم الأوثان وإزالتها كما هو مذكور في كتب الحديث، والتفسير والسير كما في حديث أبي الهياج الأسدي الذي في الصحيح قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لهدم مناة، وبعث خالد بن الوليد يومئذ لهدم العزى، وقطع السمرات التي كانت تعبدها قريش وهذيل، وبعث المغيرة بن شعبة لهم اللات فهدمها وأزال من جزيرة العرب وما حولها جميع الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله، والصحابة رضي الله عنهم تعاهدوا هذا الأمر واعتنوا به بإزالته أعظم الاعتناء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يقع في أمته من الاختلاف كما في حديث العرباض بن سارية قال: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً" الحديث، فوقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وعظم الاختلاف في أصل الدين بعد القرون المفضلة كما هو معلوم عند العلماء، ولو أخذنا نذكر ذلك أو بعضه لخرج بنا عن المقصود من الاختصار، فانظر إلى ما وقع اليوم من البناء على القبور، والمشاهد وعبادتها، فلقد عمت هذه البلية في كثير من البلاد، ووقع ما وقع من الشرك وسوء الاعتقاد في أناس ينسبون إلى العلم، قال سليمان التيمي لو أخذت بزلة كل عالم لاجتمع فيك الشر كله، فإنا لله وإنا غليه راجعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وقوله المطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم". أقول لا ريب أن المطابقة وقعت منه ولا بد، لكنها في النهي عنه لا في المنهى، فالذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الإطراء طابقته الأبيات من قوله: يا أكرم الخلق مالي من الوذ به ... سواك ... إلى آخرها فقد تضمنت غاية الإطراء والغلو الذي وقعت فيه النصارى وأمثالهم، فإنه قصر خصائص الالهية والربوبية التي قصرها الله على نفسه، وقصرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرفها لغير الله، فإن الدعاء مخ العبادة واللياذ من أنواع العبادة، وقد جمع في أبياته الاستعانة والاستغاثة بغير الله، والالتجاء والرغبة إلى غير الله، فإن غاية ما يقع من المستغيث والمستعين والراغب إنما هو الدعاء واللياذ بالقلب واللسان، وهذه هي أنواع العبادة التي ذكرها الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه وشكرها لمن قصرها على الله ووعده على ذلك الإجابة والإثابة كقوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} الآية فهذا هو الدين الذي بعث الل به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول لهم: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (الجن:20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} إلى آخر الآيات وهذا هو توحيد الربوبية فوحد الله في الهيتة وربوبيته وبين للأمة ذلك كما أمره الله تعالى وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (الشرح:7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أمره بقصر الرغبة على به تعالى وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} . ونهى عن الاستعاذة بغيره بقوله تعالى عن مؤمن الجن {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} واحتج الإمام أحمد رحمه الله وغيره على القائلين بخلق القرآن بحديث خولة بنت حكيم مرفوعاً "من نزل منزلاً فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" الحديث على أن القرآن غير مخلوق، إذ لو كان مخلوقاً لما جاز أن يستعاذ بمخلوق لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأمثال ذلك من القرآن والحديث كثير يظهر بالتدبر. وأما قول المعترض أن النصارى يقولون: أن المسيح ابن الله نعم قاله طائفة، وطائفة قالوا: هو الله والطائفة الثالثة قالوا هو ثالث ثلاثة، وبهذه الطرق الثلاثة عبدوا المسيح عليه السلام فأنكر الله عليهم تلك الأقوال في المسيح، وأنكر عليهم ما فعلوه من الشرك كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فأنكر عليهم عبادتهم للمسيح والأحبار والرهبان، وأما المسيح فعبادتهم له بالتأله وصرف خصائص الالهية له من دون الله كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} فأخبر أن الالهية وهي العبادة حق الله لا يشركه فيها أولوا العزم ولا غيرهم يبين ذلك قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . وأما عبادتهم للأحبار فإنهم أطاعوهم فيما حللوه لهم من الحرام وتحريم ما حرموه عليهم من الحلال، ولما قدم عدي بن حاتم رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراره من الشام، وكان قبل مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم نصرانياً فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم تلا عليه هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال يا رسول الله لسنا نعبدهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه" قال: بلى "قال: فتلك عبادتهم" ففيه بيان أن من أشرك مع الله غيره في عبادته وأطاع غير الله في معصيته فقد اتخذه رباً ومعبوداً وهذا بين بحمد الله. فلو تأمل هذا الجاهل المعترض قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} لعلم أن الله تعالى قد أنكر على النصارى قولهم، وفعلهم وعلى كل من عبد معه غيره بأي نوع كان من أنواع العبادة، لكن هذا وأمثاله كرهوا التوحيد، وألفوا الشرك وأحبوه، وأحبوا أهله فترامى بهم هذا الداء العضال إلى ما ترى من التخليط والضلال والاستغناء بالجهل ووساوس الشيطان " فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". ولا شفاء لهذا الداء العظيم إلا بالتجرد عن الهوى والعصبية، والإقبال على تدبر الآيات المحكمات في بيان التوحيد الذي بعث الله به المرسلين كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ومثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} أمره تعالى أن يدعو أهل الكتاب إلى أن يخلصوا العبادة لله وحده، ولا يشركوا فيها أحد من خلقه، فإنهم كانوا يعبدون أنبياءهم كالمسيح بن مريم، ويعبدون أحبارهم ورهبانهم. وتأمل قوله: {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جميع من أرسل إليه كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وقوله: {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} تعم كل شرك دق أو جل كثر أو قل، قال العماد بن كثير في تفسيره هذا الخطاب مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم وقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} لا وثناً ولا صنماً، ولا صليباً ولا طاغوتاً، ولا ناراً، ولا شيئاً، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، قلت وهذا هو معنى لا إله إلا الله، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 قال وهذه دعوة جميع الرسل قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} انتهى المقصود. وقال رحمه الله: في تفسير قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية قال محمد بن إسحق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام أتريد يا محمد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى بن مريم فقال رجل من أهل نجران يقال له الرئيس: أو ذاك منا يا محمد وإليه تدعونا أو كما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله، وما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني" أو كما قال صلى الله عليه وسلم: فأنزل الله عز وجل في ذلك {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس اعبدوني من دون الله أي مع الله. وإذا كان هذا لا يصح لنبي ولا مرسل فلأن لا يصح لأحد من الناس بطريق الأولى والأحرى، ولهذا قال الحسن البصري لا ينبغي هذا للمؤمن أن يأمر الناس بعبادته، وذلك أن القوم كان يفسد بعضهم بعضاً يعني أهل الكتاب وقوله {وَلا يَأْمُرَكُمْ} -بعبادة أحد غير الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي لا يفعل ذلك، لأن من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر والأنبياء، إنما يأمرونكم بالإيمان وعبادة الله وحد لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال في حق الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} انتهى وهو في غاية الوضوح، وبيان التوحيد وخصائص الربوبية، والالهية ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن وفي السنة من الأحاديث كذلك. فإذا كان من المستحيل عقلاً وشرعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وجميع الأنبياء والمرسلين أن يأمروا أحداً بعبادتهم فكيف جاز في عقول هؤلاء الجهلة أن يقبلوا قول صاحب البردة. يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم وقد أخلص الدعاء الذي هو مخ العبادة، واللياذ الذي هو من أنواع العبادة، وتضمن إخلاص الرغبة والاستكانة والاستغاثة، والالتجاء إلى غير الله وهذه هي معظم العبادة كما أشير إلى ذلك كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} إلى قوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} وعن أنس رضي الله عنه مرفوعاً "الدعاء مخ العبادة" رواه الترمذي وقوله: إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ... فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم المنافي لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وقوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} الآية وفي الحديث الصحيح قال لأبنته فاطمة وأحب الناس إليه: "يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك الله من شيء" فتأمل ما بين هذا وبين قول الناظم من التضاد والتباين، ثم المصادمة منه لما ذكره اله تعالى وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} ، وتأمل ما ذكره العلماء في سبب نزول هذه الآية وأمثال هذا الآية كثير لم ينسخ حكمها ولم يغير، ومن دواعي ذلك فقد افترى على الله كذباً وأضل الناس بغير علم كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، وبهذا يعلم أن الناظم قد زلت قدمه اللهم إلا أن يكون قد تاب وأناب قبل الوفاة والله أعلم. وأما قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها. فمن المعلوم أن الجواد لا يجود إلا بما يملكه، فمقتضى ذلك أن الدنيا والآخرة ليست لله لغيره، وأن أهل الجنة من الأولين والآخرين لم يدخلهم الجنة الرب الذي خلقها لهم، بل أدخلهموها غيره {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} وفي الحديث الصحيح "لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله" قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني اله برحمته" وقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى} فلا شريك لله في ملكه كما لا شريك له في ألهيته، وربوبيته، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً. وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم: وهذا أيضاً كالذي قبله لا يجوز أن يقال: إلا في حق الله تعالى: الذي أحاط علمه بكل شيء كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} وقال: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} والآيات في هذا المعنى كثيرة تفوت الحصر، وكل هذه الأمور من خصائص الربوبية والالوهية التي بعث الله رسله وأنزل كتبه لبيانها واختصاصها لله سبحانه دون كل من سواه، وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} كقوله في آية الكرسي: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} فقد أطلع من شاء من أنبيائه ورسله على ما شاء من الغيب بوحيه اليهم، فمن ذلك ما جرى من الأمم السالفة وما جرى عليهم كما قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} وكذلك ما تضمنه الكتاب والسنة من أخبار المعاد والجنة والنار ونحو ذلك أطلع الله عليه رسوله والمؤمنون عرفوه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وأما احاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها، وما كان منها وما لم يكن فذاك إلى الله وحده لا يضاف إلى غيره من خلقه، فمن ادعى ذلك لغير الله فقد أعظم الفرية على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فما أجرأ هذا القاتل على الله في سلب حقه وما أعداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن تولاه من المؤمنين صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، فمن لا يعرف والشرك وما عابه القرآن وذمة وقع فيه، وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف انه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره، أو شر منه أو دونه فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة ويكفر الرجل بمحض الايمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عياناً والله المستعان انتهى. قلت وقد رأينا ذلك والله عياناً من هؤلاء الجهلة الذين ابتلينا بهم في هذه الأزمنة اشربت قلوبهم بالشرك والبدع واستحسنوا ذلك، وأنكروا التوحيد والسنة، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فضلوا وأضلوا. وأما قول الناظم: فإن لي ذمة منه بتسميتي محمداً ... ............... البيت فهذه من جهله إذ من المعلوم عند من له أدنى مسكة من عقل أن الاتفاق في الاسم لا ينفع إلا بالموافقة في الدين، واتباع السنة فأولياء الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه على دينه، والعمل بسنته، كما دل على ذلك الكتاب والسنة كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ (لأعراف:156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وتأمل قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه ويحميه وينصره ويجمع القبائل على نصرته صلى الله عليه وسلم، وحمايته من أعدائه، وقد قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: لقد علمو أن أبننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول إلا باطل حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل ولما لم يتبرأ من دين أبيه عبد المطلب ومات على ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لاستفغرن لك ما لم أنه عنك" أنزل الله سبحانه {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فلا وسيلة للعبد لنيل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بالإيمان به وبما جاء به من توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ومحبته واتباعه، وتعظيم أمره ونهيه والدعوة إلى ما بعث به من دين الله والنهي عما نهى عنه من الشرك والبدع، وما لا فلا، فعكس الملحدون الأمر فطلبوا الشفاعة الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وإنكاره، وقتال أهله، وإحلال دمائهم وأموالهم، وأضافوا إلى ذلك إنكار التوحيد، وعداوة من قام به واقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله من قوله: ويكفر الرجل بمحض الايمان وتجريد التوحيد إلى آخر كلامه. وأما قول الناظم: ولن يضيق رسول الله جاهك بي البيت فهذا هو الذي ذكر الله عن المشركين من اتخاذ الشفعاء ليشفعوا لهم، ويقربوهم إلى الله زلفى قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (الزمر:2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} فهذا هو دين الله الذي لا يقبل الله من أحدا دينا سواه، ثم ذكر بعد ذلك دين المشركين فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . فتأمل قول الله تعالى كفرهم بقولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال آخر هذه السورة {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (الزمر:43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} قلت وقد وقع من هؤلاء من اتخاذهم شفعاء بدعائهم وطلبهم ورغبتهم والالتجاء إليهم وهم أموات غافلون عنهم لا يقدرون ولا يسمعون لما طلبوا منهم وأرادوه. وقد أخبر تعالى (أن الشفاعة ملكه لا ينالها من أشرك به غيره وهو الذي له ملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 السموات والأرض كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} فعاملهم الله بنقيض قصدهم من جميع الوجوه، وأسجل عليهم بالضلال، ولهذه الآية نظائر كثيرة كقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فبين أن دعوتهم غير الله شرك باللهن وأن المدعو غيره لا يملك شيئاً، وأنه لا يسمع دعاء الداعي ولا يستجيب له، وأن المدعو ينكر ذلك الشرك ويتبرأ منه ومن صاحبه يوم القيامة، فمن تأمل هذه الآيات انزاحت عنه وتوفيق اله وفتحه جميع الشبهات. ومما يشبه هذه الآية في حرمان من أنزل حوائجه بغير الله، واتخذه شفيعاً من دون الله بتوجيه قلبه وقالبه إليه واعتماده في حصول الشفاعة عليه كما قد تضمنه بيت الناظم قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأنظر كيف حرمهم الشفاعة لما طلبوها من غير الله؟ وأخبر كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} فهذه الشفاعة المنفية هي التي فيها الشرك. وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فإنما ثبتت بقيدين عظيمين إذن الرب تعالى للشفيع، ورضاه عن المشفوع له، وهو لا يرضى من الاديان الستة المذكورة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} الآية الا الإيمان الذي أصله وأساسه التوحيد، والإخلاص كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .. إلى قوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر شفاعته قال: "وهي نائلة ان شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً" وقال أبو هريرة: "من أحق الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: "من قال لا اله الا الله خالصاًمن قلبه" قال شيخ الاسلام في هذا الحديث: "فتلك الشفاعة لأهل الاخلاص باذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله". وقد كشفنا بحمد الله بهذه الآيات المحكمات تلبيس هذا المعترض الملبس ولجاجه وافتراءه على الله ورسوله، فان دعوة غير الله ضلال وشرك ينافي التوحيد، وان اتخاذ الشفعاء انما هو بدعائهم والالتجاء اليهم وسؤالهم أن يشفعوا للداعي، وقد نهى الله عن ذلك، وبين أن الشفاعة له فاذا كانت له وحده فلا تطلب الا ممن هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ملكه فيقول اللهم شفع نبيك في لأنه تعالى هو الذي أذن للشفيع يرضى دينه وهو الاخلاص كما تقدم بيانه. وأما قول المعترض ان المعتزلة احتجوا بالآيات التي فيها نفي الشفاعة على أنها لا تقع لأهل الكبائر من الموحدين. فأقول لا ريب أن قولهم هذا: بدعة وضلالة، وأنت أيها المجادل في آيات الله بغير سلطان مع المعتزلة في طرفي نقيض تقول: ان الشفاعة تثبت لمن طلبها، وسألها من الشفيع فجعلت طلبها موجباً لحصولها، والقرآن قد نفى ذلك وأبطله في مواضع كثيرة بحمد الله، والحق انها لا تقع الا لمن طلبها من الله وحده، ورغب اليه فيها، واخلص له العبادة بجميع أنواعها، فهذا هو الذي تقع له الشفاعة قبل دخول النار أو بعده ان دخلها بذنوبه، فهذا هو الذي يأذن الله للشفعاء أن يشفعوا له بما معه من الاخلاض كما صرحت بذلك الاحاديث والله أعلم، وقد قدمنا ما دل عليه الكتاب والسنة أن ما في القرآن من ذكر الشفاعة نفياً واثباتاً فحق لا اختلاف فيه بين أهل الحق، فالشفاعة المنفية انما هي في حق المشرك الذي اتخذ له شفيعاً يطلب الشفاعة منه فيرغب إليه في حصولها كما في البيت المتقدم، وهو كفر كما صرح به القرآن، وأما الشفاعة التي أثبتها الكتاب والسنة فقد ثبتت للمذنبين الموحدين المخلصين، وهذا هو الذي تظاهرت عليه النصوص واعتقده أهل السنة والجماعة ودانوا به. والحديث الذي أشار اليه المعترض من قوله "أنا لها أنا لها" لا ينافي ما تقرر، وذلك أن الناس في موقف القيامة اذا فزعوا إلى الرسل ليشفعوا لهم إلى الله في اراحتهم من كرب ذلك المقام بالحساب وكل نبي ذكر عذره قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "فيأتون فأخر بين يدي الله ساجداً" أو كما قال " فأحمده بمحامد يفتحها علي ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع واسأل تعطه واشفع تشفع قال فيحد لي حداً فادخلهم الجنة" فتأمل كون هذه الشفاعة لم تقع الا بعد السجود لله ودعائه وحمده والثناء عليه بما هو أهله، وقوله "فيحد لي حداً" فيه بيان ان الله هو الذي يحد له، وهذا الذي يقع من الناس يوم القيامة مع الرسل هو من باب سؤال الحي الحاضر والتوسل إلى الله بدعائه، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم إذا نابهم شيء كما في حديث الاستسقاء وغيره. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يفعلون عند قبره شيئاً من ذلك البتة ففرق أصحاب رسول الله وهم أعلم الأمة وأفضلها بين حالتي الحياة والممات وكانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه وفي الصلوات والخطب وعند ذكره امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني أينما كنتم" ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يستسقي بالناس أخرج معه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: اللهم انا كنا إذا أجدبنا توسلنا اليك بنبينا فتسقينا وأنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فيدعو، فلو جاز أن يتوسل عمر والصحابة بذات النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لما صلح منهم أن يعدلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس، فلما عدلوا عنه إلى العباس علم أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يجوز في دينهم، وصار هذا إجماعاً منهم. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك فقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله به وأكره أن يقول بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، قال أبو الحسن أما المسألة بغير الله فتكره في قولهم لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه، وقال ابن بلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله إلا به فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك لأنه لا حق لمخلوق على الخالق، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا عند محمد حرام وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب. فإذا قرر الشيطان عنده أن الاقسام على الله به والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وانجع لقضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعاءه نفسه من دون الله ثم ينقله بعد درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثناً يعكف عليه، ويوقد عليه القناديل ويعلق عليه الستور، ويبنى عليه المسجد ويعبده في السجود له، والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس لعبادته واتخاذه عيداً ومنسكاً وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم. قال شيخنا قدس الله روحه وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس، قال وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب يدعو أحدهم من يعظمه، ويتمثل لهم الشيطان أحياناً، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، ثم ذكر المرتبة الثانية وهي أن يسأل الله به وقال: هو بدعة باتفاق المسلمين، والثالثة أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين وإن كان كثير من الناس يفعل ذلك انتهى. ففرض على كل أحد أن يعلم ما أمر الله به ورسوله من إخلاص العبادة لله وحده فإنه الدين الذي بعثه به، وأن يترك ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الشرك فما دونه كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} وأن لا يدين الله تعالى إلا بما دله الدليل على أنه من دين الله، ولا يكون أمعه يطير مع كل ريح، فإن الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والأمم قبلها، قد تنازعوا في ربهم وأسمائهم وصفاته وما يجب له علة عباده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} فيا سعادة من تجرد عن العصبية والهوى، والتجأ إلى حصن الكتاب والسنة، فإن العلم معرفة الهدى بدليله وما ليس كذلك فجهل وضلال. وأما قول المعترض: فأنظر إلى الشفاء تجده حكى كفر من قال مثل هذه الكلمة أي الكلمة التي ذكرها المجيب في معنى قوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} الآيات ذكر عبارات النسفي في معناها، وهي قوله: هو إظهار للعبودية وبراءة مما يختص بالربوبية من علم الغيب أي أبا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر إلى آخر كلامه. إذ من عادة هذا المعترض الجاهل رد الحق، والمكابرة في دفعه والغلو المتناهي وإلا فمن المعلوم عند من له معرفة بدين الإسلام أن المجيب إنما أتى في جوابه بتحقيق التوحيد ونفي الشرك بالله، وذلك تعظيم لجانب الرسالة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أمته عن كل ما يؤول بهم إلى الغلو، ولما قيل له صلى الله عليه وسلم، أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا قال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض لكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله تعالى" والنبي صلى الله عليه وسلم هو أحق الخلق بالتواضع لله وحده سبحانه وفي الحديث "فإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك" الحديث، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة يخبر بذلك عن نفسه، ويعترف بذلك لربه وهو الصادق المصدوق، فإذا قال المسلم مثل هذا في حقه صلى الله عليه وسلم وأخبر به عن نفسه لم يكن منتقصاً له بل هذا من تصديقه والإيمان به. قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا كان الكلام في سياق توحيد الرب، ونفي خصائصه عما سواه لم يجز أن يقال: هذا سواء عبارة في حق دون الله من الأنبياء، والملائكة، فإن المقام أجل من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد توحيده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم الناس تقريراً لما يقال على هذا الوجه، وإن كان نفسه المسلوب كما في الصحيحين في حديث الإفك لما نزلت براءة عائشة من السماء وأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قالت لها أمها: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت واله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أياكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها على لهذا الكلام الذي نفت فيه أن نحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى بحمد الله لا بحمدك، ولم يقل أحد أن هذا سوء أدب عليه صلى الله عليه وسلم، وأخرج البيهقي بسنده إلى محمد بن مسلم سمعت حبان صاحب ابن المبارك يقول قلت لعبد الله بن المبارك: قول عائشة الحمد أهله، وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال: اللهم أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرف الحق لأهله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وهذا المعترض وأمثاله ادعوا تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قد نهى عنه من الغلو والإطراء، وهضموا ربوبية الله وتنقصوا الهيته، وأتوا بزخارف شيطانية، وحاولوا أن يكون حق الله من العبادة التي خلق لها عبادة نهباً بين الأحياء والأموات هذا يصرفه لنبي، وهذا لملك وهذا لصالح أو غير هؤلاء ممن اتخذوهم أنداداً لله، وعبدوا الشياطين بما أمروهم به من ذلك الشرك بالله، فإن عبادتهم للأنبياء والصالحين إنما تقع في الحقيقة على من زينها لهم من الشياطين وأمرهم بها كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ونحو هذا الآية كثير في القرآن. ولما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله ما وقع في زمانه من الشرك بالله قال: وهذا هضم للربوبية وتنقص للألهية وسوء ظن برب العالمين وذكر أنهم ساووهم بالله في العبادة كما قال تعالى عنهم وهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وأما ذكره عن خالد الأزهري فخالد وما خالد أغرك منه كونه شرح التوضيح والآجرومية في النحو، وهذا لا يمنع كونه جاهلاً بالتوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كما جهله من هو أعلم منه، ممن لهم تصانيف في المعقول كالفخر الرازي وأبي معشر البلخي ونحوهما ممن غلط في التوحيد، وقد كان خالد يشاهد أهل مصر يعبدون البدوي وغيره فما أنكر في ذلك في شيء من كتبه ولا نقل عنه أحد أنكاره فلو صح ما ذكر خالد من حال الناظم لم يكن جسراً تذاد عنه النصوص من الآيات المحكمات القواطع والأحاديث الواضحات البنات كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقوله {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار". وقد استدرج الله أهل الشرك بأمور تقع لهم يظنونها كرامات عقوبة لهم، وكثير منها أحوال شيطانية أعانوا بها أولياءهم من الإنس كما قد يقع كثيراً لعباد الأصنام، وما أحسن ما قال بعضهم شعراً: تخالف الناس فيما قد رأوا ورووا ... وكلهم يدعون الفوز بالظفر فخذ بقول يكون النص ينصره ... إما عن الله أو عن سيد البشر وقد حاول هذا الجاهل المعترض صرف أبيات البردة عما هو صريح فيها نص فيما دلت عليه من الشرك، والالهية مشاركة الله في علمه، وملكه وهي لا تحتمل أن تصرف عما هي فيه من ذلك الشرك والغلو، فما ظفر هذا المعترض من ذلك بطائل غير أنه وسم نفسه بالجهل والضلال والزور والمحال، ولو سكت لسلم من الانتصار لهذا الشرك العظيم الذي وقع فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وأما قول المعترض ورد في الحديث لولا حبيبي محمد ما خلقت سمائي ولا أرضي ولا جنتي ولا ناري فهذا من الموضوعات لا أصل له ومن ادعى خلاف ذلك فليذكر من رواه من أهل الكتاب المعتمدة في الحديث، وأنى له ذلك، بل هو من أكاذيب الغلاة الوضاعين، وقد بين الله تعالى حكمته في خلق السموات والأرض في كثير من سور القرآن كما قال في الآية التي تأتي بعد وهي قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} ولها نظائر تبين حكمة الرب في خلق السموات والأرض. وقوله كيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله من الدنيا في حياته أو في الآخرة بعد وفاته. أقول هذا كلام من اجترى، وافترى وأساء الأدب مع الله، وكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يعرف حقيقة الشفاعة، ولا عرف تفرد الله بالملك يوم القيامة، وهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه أو من بعدهم من أئمة الإسلام أن أحد يتصرف يوم القيامة صلى الله عليه وسلم ولو أطلقت هذه العبارة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لادعاه كل لمعبوده من نبي أو ملك أو صالح أنه يشفع له إذا دعاه {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} وقال تعالى {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} وهذا القول الذي قاله الجاهل قد شافهنا به جاهل مثله بمصر يقول الذي يتصرف في الكون سبعة البدوي والإمام الشافعي والشيخ الدسوقي حتى أكمل السبعة من الأموات، هذا يقول هذا ولي له شفاعة، وهذا صالح كذلك وقد قال تعالى: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} إلى قوله {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي ظلم أعظم من الشرك بالله، ودعوى الشريك في الملك والتصرف وهذا غاية الظلم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: في معنى قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا لشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، فالشفاعة التي يظنها المشركون منتفية كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمد لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له ارفع رأسك وقل تسمع وسأل تعطه واشفع تشفع، وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: من أسعد الناس بشفاعتك قال: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود فالشفاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع وقد بين النبي إنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص انتهى كلامه. وقال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعاً فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فالمشرك إنما يتخذه معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع أما مالك لما يريده عابده منه، فان لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك، فان لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً فان لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً منتقلاً من الأعلى إلى الأدنى فنفى الملك والشركة، والمظاهر والشفاعة التي يطلبها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه فكفى بهذه الآية برهانا ونجاة وتجريداً للتوحيد وقطعاً لأصول الشرك، ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا فم ذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن ولعمر الله ان كان أولئك ـ إلى أن قال ـ ومن أنواعه أي الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه اليهم وهذا أصل شرك العالم فان الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن يملك لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع أو المشفوع له عنده فانه لا يقدر أن يشفع عند الله الا باذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لأذنه، وانما السبب لأذنه كمال التوحيد فجاء هذا المشرك بسبب يمنع هذا الاذن هو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياءه الموحدين له، بذمهم، وعيبهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص اذ ظنوا انهم راضون منهم بهذا وانهم يوالونهم عليه وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم؟ قال وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر الا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه والهه ومعبوده، فجرد حبه لله وخوفه لله ورجاءه لله وذله لله، وتوكله على الله واستعانته بالله والتجاءه إلى الله، وأخلص قصده لله متبعاً لأمره، متطلباً لمرضاته إذا سأل سأل الله وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله فهو بالله ومع الله انتهى. فرحم الله هذا الامام وشيخه، فلقد بين للناس حقيقة الشرك وطرقه وما يبطله، وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" ولم يقل فاسألني واستعن بي فقصر السؤال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 والاستعانة على الله الذي لا يستحقه سواه كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فمن صرف ذلك لغير الله فقد عصى الله ورسوله وأشرك بالله. وللمعترض كلام ركيك لا حاجة لنا إلى ذكر ما فيه وانما نتتبع من كلامه ما يحتاج إلى رده وابطاله جنس ما تقدم. وأعلم أنه قال لما ذكر قول المجيب: انه لا يجتمع الايمان بالآيات المحكمات وتلك الأبيات لما بينهما من التنافي والتضاد قال المعترض: أقول: يجتمعان بأن يفرد الله بالعبادة ولا يقدح فيه تشفعه باحباب حبه إليه وكيف يحكم عليه بالضلال بمجرد طلبة الشفاعة ممن هو أهل لها كما في الحديث " أنا لها أنا لها" ومعلوم أن الضلال ضد الحق. فالجواب لا يخفي ما في كلامه من التخليط والتلبيس والعصبية المشوبة بالجهل المركب لايدري ولا يدري أنه لا يدري، وقد بينا فيما تقدم أن دعوة غير الله ضلال، وان اتخاذ الشفعاء الذين أنكر الله تعالى انما هو بدعائهم والالتجاء اليهم، والرغبة اليهم فيما أراده الراغب منهم من الشفاعة التي لا يقدر عليها الا الله وذلك ينافي الاسلام والايمان بلا ريب، فان طلبها من الأموات والغائبين طلب لما يقدر عليه الا الله، وهو خلاف لما أمر الله تعالى به، وارتكاب لما نهى عنه كما تقدم بيانه في معنى قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآية وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . فطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره بعد وفاته وبعده عن الداعي لا يحبه الله تعالى، ولا يرضاه، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وهو التوسل الذي ذكره العلامة ابن القيم وشيخه وصرحاً بأنه شرك. وللعلامة ابن القيم أبيات في المعنى وهي قوله: والشرك فهو توسل مقصوده ... الزلفى من الرب العظيم الشان بعبادة المخلوق من حجر ومن ... بشر ومن قبر ومن أوثان والناس في هذا ثلاث طوائف ... ما أربع أبداً بذي امكان احدى الطوائف مشرك بالهه ... فاذا دعاه دعا الها ثان هذا وثاني هذه الاقسام ... لك جاحد يدعو سوى الرحمن هو جاحد للرب يدعو غيره ... شركاً وتعطيلاً له قدمان هذا وثالث هذه الاقسام خيـ ... ـر الخلق ذاك خلاصة الانسان يدعو اله الحق لا يدعو ولا ... أحد سواه قط في الاكوان يدعوه في الرغبات والرهبات والحالات من سر ومن اعلان وقد أنكر الله ذلك الدعاء على من زعم في الرسل والملائكة وذلك كما قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وأمه وعزيرا والملائكة فأنكر الله ذلك، وقال: هؤلاء عبيدي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، وهؤلاء الذين نزلت هذه الآية في انكار دعوتهم من أوليائه وأحبابه، وقد تقدم ان الدعاء وجميع أنواع العبادة حق الله المحض كما تقدم في الآيات. والحاصل أن الله تعالى لم يأذن لأحد أن يتخذ شفيعاً من دونه يسأله، ويرغب اليه ويلتجىء اليه، وهذا هو العبادة، ومن صرف من ذلك شيئاً لغير الله فقد أشرك مع الله غيره كما دلت عليه الآيات المحكمات، وهذا ضد أفراد الله بالعبادة، وكيف يتصور أفراد الله بالعبادة؟ وقد جعل العبد ملاذا ومفزعاً سواه، فان هذا ينافي الافراد، فاين ذهب عقل هذا وفهمه؟ قال شيخ الاسلام رحمه الله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الاقوال والاعمال الباطنة والظاهرة انتهى وقد تبين ان الدعاء مخ العبادة وهو مما يحبه الله وبأمر به عباده أن يخلصوه له، وقد تقدم من الآيات ما يدل على ضلال من فعل ذلك وكفره، وبهذا يحصل الجواب عن قول المعترض ان الشفاعة المنفية انما هي في حق الكفار فنقول فمن اتخذ معبوداً سوى الله يرجوه أو يخافه فقد كفر. وتأمل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فبين تعالى أن المخلوق لا يصلح أن يدعي من دون الله، وأن من دعاه فقد أشرك مع الله غيره في الالهية، والقرآن من أوله إلى آخره يدل على ذلك، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الملحدين محجوبون عن فهم القرآن كما حجبوا عن الايمان بجهلهم وضلالهم واعراضهم عما أنزل الله في كتابه من بيان دينه الذي رضيه لنفسه ورضيه لعباده. قال شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: وحقيقة التوحيد أن يعبد الله وحده لا يدعى الا هو ولا يخشى، ولا يتقي الاهو ولا يتوكل الا عليه، ولا يكون الدين الا له، وأن لا يتخذ الملائكة والنبيون أرباباً فكيف بالأئمة والشيوخ، فاذا جعل الامام والشيخ كأنه اله يدعى مع غيبته وموته، ويستغاث به ويطلب منه الحوائج كأنه مشبهاً بالله، فيخرجون عن حقيقة التوحيد الذي أصله شهادة أن لا اله الا الله، وأن محمداً رسول الله انتهى. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" فلو جاز أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قصر سؤاله واستعانته على الله وحده، وابن عباس أحق الناس بأن يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه له منفعة، فلو جاز صرف ذلك لغير الله لقال: واسألني واستعن بي؟ بل أتى صلى الله عليه وسلم بمقام الارشاد، والابلاغ والنصح لأبن عمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 بتجريد اخلاص السؤال لله، والاستعانة بالله تعالى فاين ذهبت عقول هؤلاء الضلال عن هذه النصوص والله المستعان؟ وقال الشيخ رحمه الله: وأعلم أن لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة ودعاء المسألة وكل عابد سائل، وكل سائل عابد وأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، واذا جمع بينهما، فانه يراد بالسائل الذي يطلب ذلك لجلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الامر وان لم يكن هناك صيغة سؤال، ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب والخوف والطمع انتهى، فتبين ان الأبيات البردة التي قدمنا الكلام عليها تنافي الحق وتناقضه وماذا بعد الحق الا الضلال. وقول المعترض: لا سيما وللناظم جانب عظيم من الزهد، والورع والصلاح، بل وله يد في العلوم كما حكى ذلك مترجموه، وهذا كله صار هباء منثوراً حيث لم يرضوا عنه. أقول هذا دعوى تحتمل الصدق والكذب، والظاهر انه لا حقيقة لذلك فانه لا يعرف الا بهذه المنظومة، فلو أقدر أن لذلك أصلاً فلا ينفعه ذلك مع تلك الأبيات، لأن الشرك يحبط الأعمال كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقد صار العمل مع الشرك هباء منثوراً قال سفيان بن عيينة: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فان فتنتهم فتنة لكل مفتون، فان كان للرجل عبادة فقد فتن بأبياته كثيراً من الجهال وعبادته ان كانت فلا تمنع كونه ضالاً كما يرشد إلى ذلك آخر الفاتحة قال سفيان بن عيينة من فسد من من علمائناً ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، فالواجب علينا أن نبين ما في كلامه مما يسخط الله ورسوله من الشرك والغلو وأما الشخص وأمثاله ممن قد مات فيسعنا السكوت عنه لأنا لا ندري ما آل أمره إليه وما مات عليه. وقد عرف أن كلام خالد الأزهري لا حجة فيه، وأهل الغلو والشرك ليس عندهم الا المنامات والأحوال الشيطانية التي يحكيها بعضهم عن بعض، كما قال لي بعض علماء مصر: أن شيخاً مشى بأصحابه على البحر فقال: لا تذكروا غيري وفيهم رجل ذكر الله فسقط في البحر فأخذه بيده الشيخ فقال: الم أقل لكم لا تذكروا غيري فقلت: هذه الحكاية تحتمل أحد أمرين لا ثالث لهما أحدهما: أن تكون مكذوبة مثل أكاذيب سدنة الأوثان، أو انها حال شيطانية، وأسألك أيها الحاكي لذلك أيكون فيها حجة على جواز دعوة غير الله فأقر وقال: لا حجة فيها على ذلك. والمقصود بيانه أنه ليس عند الغلاة من الحجة على ما زخرفوه أو كذبوه، وما قال الله وقال رسوله، فهذا بحمد الله كله عليهم لا لهم، ومل حرفوه من ذلك رد إلى صحيح معناه الذي دل عليه لفظه مطابقة وتضمناً والتزاماً قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} . وذكر المعترض حكاية يقول عن غير واحد من العلماء العظام: انهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والمنظومة تنشد بين يديه إلى قوله لكن الخصم مانع ذلك كله بقوله انهم كفار. فالجواب أن يقال ليس هذا وجه المنع، وانما وجهه انما حكاية مجهولة عن مجهول، وهذا جنس اسناد الأكاذيب، فلو قيل من هؤلاء العظام، وما أسماؤهم، وما زمنهم وما طبقتهم لم يدر عنهم، وأخبار المجهولين لا تقبل شهادة ولا رواية يقظة فكيف إذا كانت أحلاماً، والمعترض كثيراً ما يحكي عن هيان بن بيان. ثم قال المعترض على قول المجيب وطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع شرعاً وعقلاً قال المعترض: من أين هذا الامتناع وما دليله من العقل والسمع؟ فالجواب أن يقال: معلوم ان دليله من الجهتين لا تعرفه أنت ومن مثلك وانما معرفتك في اللجاج الذي هو كالعجاج الذي يحرم في الفجاج أما دليله من السمع فقد تقدم في آيات الزمر ويونس وغيرهما، وقد بسطنا القول في ذلك بما يغني عن اعادته فليرجع إليه، وأما دليل من العقل فالعقل الصحيح يقضي ويحكم بما يوافق النقل بأن النجاة والسعادة والفلاح، وأسباب ذلك كله لا يحصل الا بالتوجه إلى الله تعالى وحده، واخلاص الدعاء له والالتجاء إليه، لأن الخير كله بيده وهو القادر عليه، وأما المخلوق فليس في يده من هذا شيء كما قال تعالى: {يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} فتسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فالذي له الخلق والامر، والنعم كلها منه، وكل مخلوق فقير إليه لا يستغنى عنه طرفه عين هو الذي يستحق أن يدعى ويرجى ويرغب إليه، ويرهب منه، ويتخذ معاذا وملاذا، ويتوكل عليه وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} . وقال المفسرون المحققون السلفيون المتبعون في قول الله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي لا يبرحون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج الا منه، ولا يرعبون الا إليه ويعملون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ولهذا قال سعيد عن صاحب ياسين من قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فهذا دليل فطري عقلي سمعي. وأما قول المعترض أن قال الناظم: ومن علومك علم اللوح والقلم ان من بيانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فالجواب أنه ليس كما قال: بل هي تبغيضية ثم لو كانت بيانية فما ينفعه والمحذور بحاله، وهو أنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وقد صرح المعترض بذلك فقال: ولا شك انه أوتي علم الأولين والآخرين وعلم ما كان وما يكون فالجواب هذه مصادمة لما هو صريح في كتاب الله وسنة رسوله. بان الاحاطة بما في اللوح المحفوظ علماً ليس إلا لله وحده كذلك علم الأولين والآخرين، ليس إلا لله وحده إلا ما أطلع الله عليه نبيه في كتابه، كما قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} فالرجال في عمى عن قول الله تعالى: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وتقدم لهذه الآيات نظائر، فاحاطة العلم بالموجودات أو المعدومات التي وجدت أو ستوجد لله وحده لم يجعل ذلك لأحد سواه وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} فأسند علم وقت الساعة إلى ربه بأمره كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} وأمثال هذه الآيات، مما يدل على أن الله تعالى اختص بعلم الغيب كله الا ما استثناه بقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ومن تبيغيضية هاهنا بلا نزاع، وقد قال الخضر لموسى عليهما السلام: "ما نقص علمي وعلمك في علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر" فتأمل هذا وتدبر. وأما قول المعترض، وتأويله لقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} فتأويل فاسد ما قاله غيره، ولا يقوله مسلم من أنه يعلم الغيب بتعليم الله له، والنفي في الآية أن يعلمه بنفسه بدون أن يعلمه الله بذلك فما أجرأ هذا الجاهل على هذا التأويل، وما أجهله بالله وبكتابه؟ فيقال في الجواب: لا ينفعك هذا التأويل الفاسد اذ لو كان أحد يعلم جميع الغيب بتعلم الله لصدق عليه أن يقال هذا يعلم الغيب كله الذي يعلمه الله فما بقى على هذا القصر علم الغيب على الله في هذه الآية معنى وحصل الاشتراك نعوذ بالله من الافتراء على الله وعلى كتابه وخرق ما لم ينزل الله به سلطاناً وأما قوله في قول الناظم: ان لم تكن في معادي آخذا بيدي. ان الأخذ باليد بالشفاعة. فالجواب أن الحقيقة هذا القول: وصريحة طلب ذلك من غير الله، فلو صح هذا الحمل فالمحذور بحاله لما قد عرفت من أن الاستغاثة بالأموات والاستشفاع بهم في أمر هو في يد الله ممتنع حصوله، لكونه تألها وعبادة، وقد أبطله القرآن، فهذا المعترض الجاهل يدور على منازعة الله في حقه، وملكه وشمول علمه، والله يجزيه بعمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وأما قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} فقيل: المراد بها الخمس المذكورة في سورة لقمان، وهذا قبل أن يطلع نبيه عليها وإلا فقد ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله تعالى حتى علمه كل شيء حتى الخمس. فالجواب انظر إلى هذا المفتري الجاهل البليد كيف اقتفى أثر صاحب الأبيات بجميع ما اختلقه وافتراه وأكثر من الأكاذيب على أهل العلم، فان قوله: ذكر عامة أهل العلم انه لم يتوفاه الله حتى علمه كل شيء حتى الخمس، فحاشا أهل العلم الذين يعرفون بأنهم من أهل العلم من هذه المقالة، وعامة أهل العلم، بل كلهم على خلاف ما ادعاه سلفاً وخلفاً. قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله في تفسيره الكبير الذي فاق على التفاسير: ابتدأ تعالى ذكر الخبر عن علمه بمجيء الساعة فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} التي تقوم فيها القيامة لا يعلم ذلك أحد غيره {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} من السماء لا يقدر على ذلك أحد غيره {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أرحام الاناث {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} يقول: وما تعلم نفس حي ماذا تعمل غد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} يقول: وما تعلم نفس حي بأي أرض يكون موتها {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يقول: أن الذي يعلم ذلك كله هو الله، دون كل أحد سواه وذكره سنده عن مجاهد {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث وقد علمت متى ولدت فمتى أموت فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى آخر السورة قال: فكان مجاهد يقول هن مفاتح الغيب التي قال الله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} . وأخرج بسنده عن قتادة {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية، خمس من الغيب استأثر الله بهن فلم يطلع عليهن ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، وبسنده عن عائشة رضي الله عنها من قال: أن أحداً يعلم الغيب إلا الله فقد كذب وأعظم الفرية على الله قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وبالسند عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله" {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية ثم قال: " لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم أحد متى ينزل الغيث إلا الله ولا يعلم أحد متى قيام الساعة إلا الله ولا يعلم أحد ما في الأرحام إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت" وبسنده عن مسروق عن عائشة قالت: من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} " الآية انتهى ما ذكره ابن جرير. وذكر البغوي في تفسيره حديث ابن عمر وعائشة المتقدم ثم قال: وقال الضحاك ومقاتل ومفاتح الغيب خزائن الأرض. وقال عطاء: ما غاب عنكم من الثواب وقيل: انقضاء الأجل وقيل أحوال العباد من السعادة والشقاوة، وخواتيم أعمالهم وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ما لم يكن بعد أن يكون أولا يكون، وما لا يكون كيف يكون انتهى قلت ولا يعرف عن أحد من أهل العلم خلاف ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات، ونعوذ بالله من مخالفة ما أنزل الله في كتابه، وما أخبر به عن نفسه أو أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجمع عليه العلماء، فإن الله استأثر بعمله عن خلقه ووصف نفسه بأنه علام الغيوب، ونعوذ بالله من حال الافتراء والتكذيب. وأما قوله: ولو أن عبارات أهل العلم مثل البيضاوي وأبي السعود والقسطلاني وأمثالهم تجدى إليكم شيئاً لذكرناها لكنها تحمى بلفظة واحدة وهي أنهم كلهم كفار فلا نقبل مهم أحداً ومن هذه حالة فلا حيلة به. فالجواب أنه ليس للبيضاوي ومن ذكر عبارات تخالف ما قاله السلف والعلماء في معنى الآيات ومعاذ الله أن يقول المجيب: أن هؤلاء كفار ولا يوجد عن أحد من علماء المسلمين أنه كفر أحداً قد مات من هذه الأمة فمن ظاهره الاسلام فلو وجد في كلامه زلة من شرك، أو بدعة. فالواجب التنبيه على ذلك، والسكوت عن الشخص لما تقدم من أنا لا ندري ما خاتمته، وأما هؤلاء الذين ذكرهم من المفسرين فأنهم من المتأخرين الذين نشئوا في اغتراب من الدين. والمتأخرون يغلب عليهم الاعتماد على عبارات أهل الكلام مخالفة لما عليه السلف وأئمة الاسلام من الارجاء، ونفى حكمة الله، وتأويل صفات الله وسلب معانيها ما يقارب ما في كشف الزمخشري، والارجاء والجبر يقابل ما فيه من نفى القدر، وكلاهما في طرفي نقيض، وكل واحد خالف ما عليه أهل السنة والجماعة في ذلك، ومعلوم أن صاحب الكشاف أقدم من هؤلاء الثلاثة وأرسخ قدماً منهم في فنون من العلم، ومع هذا فقال شيخ الاسلام البلقيني استخرجت ما في الكشاف من دسائس الاعتزال بالمناقيش وقال أبو حيان وقد مدح الكشاف وما فيه من لطيف المعنى ثم قال: ولكنه فيه مجال لناقد ... وزلات سوء قد أخذن المخانقا فيثبت موضوع الأحاديث جاهلاً ... ويغزو إلى المعصوم ما ليس لا ئقاً وينسب ابداء المعاني لنفسه ... ليوهم اغمارا وأن كان سارقاً ويسهب في المعنى الوجيز دلالة ... بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا يقول فيها الله ما ليس قائلاً ... وكان محباً في المخاطب وامقا ويشتم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما أن أو لجوه المضائقا لئن لم تداركه من الله رحمة ... لسوف يرى للكافرين مرافقاً فاذا كان هذا في تفسير مشهور وصاحبه معروف بالذكاء والفهم فما دونه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 المتأخرين أولى بأن لا يتلقى من كلامهم بالقبول إلا ما وافق تفسير السلف وقام عليه الدليل. وهنا المعترض من جهله يحسب كل بيضاء شحمة يعظم المفضول من الأشخاص والتصانيف، ولا يعرف ما هو الأفضل، ولو كان له أدني مسكة من فهم ومعرفة بالعلماء، ومصنفاتهم لعلم أن أفضل ما في أيدي الناس من التفاسير هذه الثالثة التي نقلنا منها تفسير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، وتفسير الحسين بن مسعود البغوي، وتفسير العماد اسماعيل بن كثير فهذه أجل التفاسير، ومصنفوها أئمة مشهورون أهل سنة ليسوا بجهيمة، ولا معتزلة ولا قدرية، ولا جبرية ولا مرجئة بحمد الله، وأكثر ما في هذه التفاسير الأحاديث الصحيحة، وآثار الصحابة وأقوال النابغين وأتباعهم، فلا يرغب عنها إلا الجاهلون الناقضون المنقوصون والله المستعان، والمصنفون في التفسير وغيره غير ما ذكر المعترض كثيرون، وأحسن من البيضاوي وأبي السعود البحر لأبي حيان، لأنه كثيراً ما ينقل في تفسيره عن السلف والأئمة، وكذلك تفسير الخازن. وبالجملة فمن كان من المصنفين أبعد تقليد المتكلمين، وذكر عباراتهم، ويعتمد أقوال السلف فهو الذي ينبغي النظر إليه والرغبة فيه، وعلى كل حال فليس في تفسير البيضاوي وأبي السعود وشرح القسطلاني، ومواهبه ما ينفع هذا الجاهل المفتري، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله. وقول المعترض على قول المجيب: علماؤهم شر من تحت أديم السماء. فيقال: هل ورد هذا الحديث في أهل العراق فهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفار مجوس، أو فيما يأتى فهذه شفاعة على غالب علماء الأمة، ومنهم الامام أبو حنيفة والامام أحمد وأمثالهم، فالجواب أن هذا كلام من لا يعقل ولا يفهم شيئاً ولا يفرق بين أهل السنة والجماعة وأهل البدعة والضلالة ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" رواه البرقاني في صحيحه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفرق كما افترقت اليهود والنصارى فاليهود افترقت على احدى وسبعين والنصارى على اثنتين وسبعين وهذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. وأول من فارق الجماعة في عهد الصحابة رضي الله عنهم الخوارج قاتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان والقدرية في أيام ابن عمر وابن عباس، وأكثر الصحابة موجودون، ومن دعاتهم معبد الجهني، وغيلان القدري الذي قتله هشام بن عبد الملك، وكذلك الغلاة في على الذين خذلهم علي الاخاديد وحرقهم بالنار، ومنهم المختار بن أبي عبيد الذي قتله مصعب بن الزبير ادعى النبوة وتبعه خلق، ثم ظهر فتنة الجهيمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وأول من ظهر الجعد بن درهم قتله خالد بن عبد الله القسري، والصحابة رضي الله عنهم والتابعون والأئمة متوافرون وقت ظهور مبادىء هذه البدع لم يلحقهم من ضلال هذه الفرق شفاعة، ولا غضاضة، لأنهم متمسكون بالكتاب والسنة منكرون لما خالف الحق، وصح من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم" سمعته من نبيكم. وظهرت بدعة جهم بن صفوان في زمن أبي حنيفة وأنكرها وناظرهم، وانتشرت في زمن الامام أحمد رحمه الله والفقهاء، وأهل الحديث، وامتحن الامام فتمسك بالحق وصبر، وصنف العلماء رحمهم الله المصنفات الكبار في الرد على الجهمية بخلق القرآن المعطلين لصفات الملك الديان، كالامام أحمد في رده المعروف، وابنه عبد الله وعبد العزيز الكناني في كتاب الحيدة، وأبي بكر الاثرام والخلال، وعثمان بن سعيد الدارمي، وامام الأئمة محمد بن خزيمة واللالكائي، وأبي عثمان الصابون، وقبلهم وبعدهم ممن لا يحص وهذا كله انما هو في القرون الثلاثة المفضلة، ثم بعدها ظهرت كل بدعة: بدعة الفلاسفة، وبدعة الرافضة، وبدعة المعتزلة، وبدعة المجبرة، وبدعة أهل الحلول، وبدعة أهل الاتحاد، وبدعة الباطنية الاسماعيلية، وبدعة النصيرية والقرامطة ونحوهم. وأما أهل السنة والجماعة فيردون بدعة كل طائفة من هؤلاء الطوائف بحمد الله، فالأئمة متمسكون بالحق في كل زمان ومكان، والبلد الواحد من هذه الامطار يجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة، وهؤلاء يناظرون هؤلاء، ويناضلوهم بالحجج والبراهين، وظهر معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الايمان حبة خردل" وقال: "بدأ الاسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" وفي رواية "يصلحون ما أفسد الناس". وقد صنف العلماء رحمهم الله مصنفات وبينوا ما تنتحله كل فرقة من بدعتها المخالفة لما عليه أهل الفرقة الناجية، وليس على الفرقة الناجية شفاعة، ولا نقص في مخالفة هذه الفرق كلها، وانما ظهر فضل هذه الفرقة بتمسكها بالحق، وصبرها على مخالفة هذه الفرق الكثيرة، والاحتجاج بالحق ونصرته، وما ظهر فضل الامام أبي حنيفة والامام أحمد ومن قبلهما من الأئمة ومن بعدهما إلا بتمسكهم بالحق، ونصرته وردهم الباطل؟ وما ضر شيخ الاسلام أحمد بن تيمية وأصحابه حين جلب عليهم أهل البدع وآذوهم، بل أظهر الله بهم السنة، وجعل لهم لسان صدقة في الأمة، وكذلك من قبلهم ومن بعدهم كشيخنا شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 لما دعا إلى التوحيد وبين أدلته، وبين الشرك وما يبطله، وفيه قال الامام العلامة الأديب أبو بكر ابن غنام رحمه الله تعالى: وعاد به نهج الغواية طامساً ... وقد كان مسلوكاً به الناس تربع وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع فآثاره فيها سوام سوافر ... وأنواره فيها تضيء وتسطع فهذا المعترض لو تصور وعقل لتبين له ان ما احتج به ينقلب حجة عليه. وقول المعترض وان كان قد ورد في حق أهل الحرمين فهذا ظاهر البطلان اذ هي مهبط الوحي ومنبع الايمان ولو قيل ان هذا الحديث وأمثاله ورد في ذم نجد وأهلها فقد ورد في ذمهم أحاديث كثيرة شهيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم لا يزالون في شر من كذبهم إلى يوم القيامة. فالجواب أن نقول: الاحاديث التي وردت في غربة الدين، وحدوث البدع وظهورها، لا تختص بمكة والمدينة ولا غيرهما من البلاد والغالب أن كل بلد لا تخلو من بقايا متمسكين بالسنة فلا معنى لقوله: وان كان قد ورد في حق أهل الحرمين في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل في وقت الخلفاء الراشدين ما هو معروف عند أهل العلم مشهور في السير والتاريخ، وأول ذلك مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم وقعة الحرة المشهورة، ومقتل ابن الزبير في مكة، وما جرى في خلال ذلك من الفتن، وصار الغلبة في الحرمين وغيرها لأهل الأهواء فاذا كان هذا وقع في خير القرون فما ظنك فيما بعد حين اشتدت غربة الاسلام، وعاد المنكر معروفاً والمعروف منكراً فنشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير. وأما قوله إذ هي مهبط الوحي ومنبع الايمان. فالجواب أن نقول مهبط الوحي في الحقيقة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} فهذا محل الوحي ومستقره، وقوله: ومنبع الايمان: الايمان ينزل به الوحي من السماء لا ينبع من الأرض، ومحله قلوب المؤمنين، وهذه السور المكية التي في القرآن معلومة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر من مكة المشركون، وفيها ذمهم والرد عليهم كقوله {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} وقال: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ونحو هذه الآيات كما في فصلت والمدثر وغيرهما. ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدنية، وأهل الشرك لم يزالوا بها، ومنعوا رسول الله وأصحابه من دخولها بالوحي، وقاتلوهم ببدر وأحد والخندق، وهم كانوا من آخر العرب دخولاً في الاسلام حاشاً من هاجر، وكل هذا بعد نزول الوحي، ونحن بحمد الله لا ننكر فضل الحرمين، بل ننكر على من أنكره، ولكن نقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الأرض لا تقدس أحداً، وانما يقدس المرء عمله، فالمحل الفاضل قد يجتمع فيه المسلم والكافر، وأهل الحق وأهل الباطل كما تقدم، فأهل الحق يزدادون بالعمل الصالح في المحل الفاضل لكثرة ثوابه، وأهل الباطل لا يزدهم إلا شراً تعظم فيه سيآتهم كما قال تعالى في حرم مكة: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فاذا كان هذا الوعيد في الارادة فعمل السوء أعظم، فالمعول على الايمان والعمل الصالح، ومحله قلب المؤمن والناس مجزيون بأعمالهم أن خيراً فخير وأن شراً فشر. وقوله ولو قيل أن هذا الحديث ورد في ذم نجد وأهلها إلى آخره. فأقول الذم انما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل، والأحاديث التي وردت في ذم نجد كقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في يمننا اللهم بارك لنا في شامنا" قالوا وفي نجدنا قال "هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان" قيل: انه أراد نجد العراق لأن في بعض الفاظه ذكر المشرق، والعراق شرقي المدنية، والواقع يشهد له لأن نجد الحجاز ذكره العلماء في شرح هذا الحديث، فقد جرى في العراق من الملاحم والفتن ما لم يجر في نجد الحجاز، يعرف ذلك من له اطلاع على السير، والتاريخ، كخروج الخوارج بها الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الاشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة، وقتال بني أمية لمصعب بن الزبير، وقتله، وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتل والسفك وغير ذلك مما يطول عده، وعلى كل حال فالذم يكون في حال دون حال ووقت دون وقت بحسب حال الساكن، لأن الذم انما يكون للحال دون المحل، وان كانت الأماكن تتفاضل وقد تقع المداولة فيها، فان الله يداول بين خلقه حتى في البقاع فمحل معصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر. وأما قول المعترض: منها قوله صلى الله عليه وسلم: لا يزالون في شر من كذابهم فالجواب ان هذا من جملة كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهله بالعلم لا يميز بين الحديث وغيره، وهذا الكلام ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في نفر من بني حنيفة سكنوا الكوفة في ولاية ابن مسعود عليها، وكانوا في مسجد من مساجدها فيسمع منهم كلمة تشعر بتصديق مسيلمة فأخذهم عبد الله بن مسعود وقتل كبيرهم ابن النواحة وقال في الباقين: لا يزالون في بلية من كذابهم يعني ذلك النفر يذم نجدا بنفر أحدثوا حدثا في العراق وقد أفنى كل من حضر مسيلمة في القرن الأول ولم يبق بنجد من يصدق الكذاب، بل من كان في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم بنجد يكفرون مسيلمة ويكذبونه فلم يبق بنجد من فتنة مسليمة لا عين ولا أثر. فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله وزوال من يصدقه، لذم اليمن بخروج الاسود العنس دعواه النبوة وما ضر المدينة سكن اليهود فيها وقد صارت مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومعقد الاسلام وما ذمت مكة بتكذيب أهلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة عداوتهم له بلى هي أحب أرض الله إليه فاذا كان الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 كذلك فارض اليمامة لم تعص الله، وانما ضرت المعصية ساكنيها بتصديقهم كذابهم، وما طالت مدتهم على ذلك الكفر بحمد الله فطهر تلك البلاد منهم، ومن سلم منهم من القتل دخل في الاسلام فصارت بلادهم بلاد اسلام بنيت فيها المساجد، وأقيمت الشرائع وعبد الله فيها في عهد الصحابة رضي الله عنهم وبعدهم، ونفر كثير منهم مع خالد بن الوليد لقتال العجم فقاتلوامع المسلمين. فنال تلك البلد من الفضل ما نال غيرها من بلاد أهل الاسلام على أنها تفضل على كثير من البلاد بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو بمكة لأصحابه: " أريت دار هجرتكم" فوصفها ثم قال: "فذهب وهلى إلى أنها اليمامة أو يثرب" ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، وكفى بهذا فضلاً لليمامة، وشرفاً لها على غيرها، فان ذهب وهله صلى الله عليه وسلم في رؤياه إليها لا بد أن يكون له أثر في الخير يظهر فظهر ذلك الفضل بحمد الله في القرن الثاني عشر، فقام الداعي يدعو الناس إلى مادمت إليه الرسل من أفراد الله العبادة، وترك عبادة ما سواه، واقامة الفرائض والعمل بالواجبات، والنهي عن مواقعة المحرمات، وظهر فيها الاسلام أعظم من ظهوره في غيرها في هذه الازمان ولولا ذلك ما سب هؤلاء نجدا واليمامة بمسيلمة. إذا عرف ذلك فليعلم ان مسيلمة وبني حنيفة انهما كفروا بجحودهم بعض آية من كتاب الله جهلاً وعناداً، وهذا المعترض وأمثاله جحدوا حقيقة ما بعث الله به رسله من التوحيد الذي دلتعليه الآيات المحكمات التي تفوت الحصر، وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه من الغلو، والشرك، فجوزوا أن يدعى مع الله غيره، وقد نهى الله ورسوله عن ذلك في أكثر سور القرآن، وجوزوا أن يستعان بغير الله ورسوله نهى عن ذلك أشد النهي، وجعلوا لله شريكاً في ملكه وربوبيته كما جعلوا له شريكاً في الالهية، وجعلوا له شريكاً في احاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها، وقد قال تعالى مبيناً لما اختص به من شمول علمه {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} إلى قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية. وهذه الاصول كلها في الفاتحة يبين تعالى أنه هو المختص بذلك دون كل من سواه ففي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} اختصاص الله بالحمد لكماله في ربوبيته والهيته وملكه، وشمول علمه وقدرته، وكماله في ذاته وصفاته {رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو ربهم وخالقهم ورازقهم، ومليكهم والمتصرف فيهم بحكمته، ومشيئته ليس ذلك إلا له {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه تفرده بالملك كقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه قصر العبادة عليه تعالى بجميع أفرادها، وكذلك الاستعانة وفي {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أيضاً توحيد الربوبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وهذه الأصول أيضاً في: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فهو ربهم ورازقهم، والمتصرف فيهم والمدبر لهم {مَلِكِ النَّاسِ} هو الذي له الملك كما في الحديث الوارد في الأذكار " لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" وقوله: {إِلَهِ النَّاسِ} هو مألوههم ومعبودهم لا معبود لهم سواه، فأهل الإيمان خصوه بالالهية، وأهل الشرك جعلوا له شريكاً يؤلهونه بالعبادة كالدعاء، والاستعانة والاستغاثة والالتجاء، والرغبة والتعلق عليه ونحو ذلك وفي {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} براءة النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك والمشركين {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (الكافرون:1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى قوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} فهذا هو التوحيد العملي وأساسه البراءة من الشرك والمشركين باطناً وظاهراً. وفي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} توحيد العلم والعمل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يعني هو الله الواحد الأحد الذي لا نظير له، ولا وزير ولا ند، بل ولا شبيه له ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ في الاثبات إلا على الله عز وجل، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني الذي يصمد الخلائق إليه في حوائجهم، ومسائلهم، قلت: وفيه توحيد الربوبية، وتوحيد الالهية، وقال الأعمش عن شقيق عن أبي وائل: الصمد السيد الذي قد انتهى سؤدده، وقال الحسن أيضاً الصمد الحي القيوم الذي لا زوال له، وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد كأنه جعل ما بعده تفسيراً له، وقال سفيان عن منصور عن مجاهد: الصمد المصمت لا جوف له قال أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة: وكل هذا صحيحة وهي صفات ربنا عز وجل. وقال مجاهد {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} يعني لا صحابة له وهذا كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو مالك كل شيء، وخالقه فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه، أو قريب يدانيه تعالى وتقدس وتنزه، قلت فتدبر هذه السورة وما فيها من توحيد الالهية والربوبية وتنزيه الله عن الشرك والشبيه والنظير، وما فيها من مجامع صفات كماله ونعوت جلاله، ومن له بعض تصور يدري هذا بتوفيق الله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . وأما قول المعترض على قول المجيب ونوع الشرك جرى في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية أقول هذه البردة متقدمة على زمن شيخ الإسلام ومع هذا لم ينقل عنه فيها كلمة واحدة. بالجواب تقدم البردة على زمن شيخ الإسلام ان كان كذلك فماذا يجدي عليه، وما الحجة منه على جواز الشرك وأيضاً فشهادته هذه على شيخ الإسلام غير محصورة فلا تقبل، وهولم يطلع إلا على النزر اليسير من كلام شيخ الإسلام، ولم يفهم معنى ما أطلع عليه، وهو في شق وشيخ الإسلام في شق، وليس في كلام شيخ الإسلام إلا ما هو حجة على هذا المعترض، لكنه يتعلق في باطله بمثل خيط العنكبوت، فان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 كان يقنعه كلام شيخ الإسلام رحمه الله المؤيد بالبرهان فقد تقدم من كلامه ما يكفي ويشفي في تمييز الحق من الباطل، وكلامه رحمه الله في أكثر كتبه يبين هذا الشرك وينكره، ويرده كما قد رد على ابن البكري حين جوز الاستغاثة بغير الله، ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل وفهم ان كلام صاحب البردة داخل تحت كلام شيخ الإسلام في الرد عليه والإنكار وأنا أورد هنا جواباً لشيخ الإسلام عن سؤال من سأله عن نوع هذا الشرك وبعض أفراده فأتى بجواب عام شامل كاف واف. قال السائل ما قول علماء المسلمين فيمن يستنجد بأهل القبور ويطلب منهم إزالة الألم ويقول يا سيدي أنا في حسبك؟ وفيمن يستلم القبر ويمرغ وجهه عليه ويقول قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ ونحو ذلك. الجواب الحمد لله رب العالمين الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو عبادة الله وحده لا شريك له، واستعانته والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الآيات وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآيات قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا، والملائكة قال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، فاذا كان هذا حال من يدعو الانبياء والملائكة فكيف بمن دونهم؟ قال تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} الآية وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . فبين سبحانه ان من دعى من دون الله من جميع المخلوقات الملائكة، والبشر وغيرهم انهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه، وانه ليس له شريك في ملكه له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وانه ليس له عون كما يكون للمك أعون وظهراء، وان الشفعاء لا يشفعون عنده الا لمن ارتضى، فنفى بذلك وجوه الشرك، وذلك أن من دعى من دونه أما يملكون مالكاً، وأما أن لا يكون مالكا واذا لم يكن مالكا فأما أن يكون شريكاً، وأما أن لا يكون شريكاً، واذا لم يكن شريكاً فأما أن يكون معاوناً، وأما أن يكون سائلاً طالباً، فأما الرابع فلا يكون الا من بعد اذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وكما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقال: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . فبين سبحانه أن من أتخذ الملائكة والنبيين أرباباً كان كافراً فكيف بمن اتخذ من دونهم من المشائخ وغيرهم أرباباً: فلا يجوز أن يقول لملك ولا لنبي، ولا لشيخ سواء كان حيا أو ميتاً اغفر ذنبي، أو انصرني على عدوي أو اشف مريضي، أو ما أشبه ذلك، ومن سأل ذلك مخلوقاً كائناً من كان فهو مشرك بر به من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والانبياء، والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} الآية وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وان قال ان اسأله لأنه أقرب إلى الله مني ليشفع لي لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه يستشفعون بهم في مطالبهم، ولذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقد قال سبحانه {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} إلى قوله: {تُرْجَعُونَ} وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فبين الفرق بينه وبين خلقه فان من عادة الناس أن يستشفع إلى الكبير بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشافع فيقضي حاجته أما رغبة وإما رهبة وأما أحياء وأما غير ذلك فالله لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما يشاء، وشفاعة الشافع عن اذنه والأمر كله له فالرغبة يجب أن تكون إليه كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} والرهبة تكون منه قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وقد أمرنا أن نصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء وجعل ذلك من أسباب أجابة دعائنا. وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد منه لا يمكن أن ندعوه الا بهذه الواسطة ونحو ذلك هو من قول المشركين فان الله تعالى يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وقد روى أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا يارسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت الآية وقد أمر الله العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته، وأمر كلا منهم أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . ثم يقال لهذا المشرك أنت اذا دعوت هذا فان كنت تظن أنه أعلم بحالك، أويقدر على سؤالك وارحم بك من ربك فهذا جهل وضلال، وكفر، وان كنت تعلم ان الله أعلم وأقدر وأرحم فلماذا عدلت عن سؤال غيره، وان كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى منزلة عند الله منك فهذا حق أريد به باطل، فانه اذا كان أقرب منك وأعلى درجة فان معناه أن يثيبه، ويعطيه ليس معناه أنك دعوته كان الله يقضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 حاجتك أعظم مما يقضيها اذا دعوته أنت، فانك أن كنت مستحقاً للعقاب ورد الدعاء فالنبي والصالح لا يعين على ما يكره الله ولا يسعى فيما يبغضك إليه وان لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة والقبول منه. فان قلت هذا دعاء الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيب اذا دعوته انا فهذا هو القسم الثاني وهو أن يطلب منه الفعل ولا يدعوه، ولكن يطلب أن يدعو له كما يقال للحي ادع لي، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء في الحي، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم وفلم يشرع لنا أن نقول ادع لنا ولا أسأل لنا ربك ونحو ذلك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة ولا التابعين. ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد بذلك حديث، بل الذي ثبت في الصحيح انهم لما أجدبوا زمن عمر استسقى بالعباس رضي الله عنهما فقال: اللهم انا كنا اذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وأنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. فلم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: يارسول الله ادع الله، أو استسقى لنا ونحن نشكو إليك ما أصابنا، ونحو هذا، ولم يقله أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، بل كانوا إذا جاءوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه ثم إذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر بل ينحرفون فيستقبلون القبلة، ويدعون الله وحده لا شريك له كما كانوا يدعونه في سائر البقاع، وفي المؤطا وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي السنن أيضاً أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيث ما كنتم فان صلاتكم تبلغني" وفي الصحيح أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا قالت عائشة: ولولا ذلك لابرز قبره لكن خشى أن يتخذ مسجداً وفي سنن أبي داود عنه أنه قال: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". ولهذا قال العلماء لا يجوز بناء المساجد على القبور، وقالوا: أنه لا يجوز أن ينذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر شيئاً لا من دراهم، ولا زيت ولا شمع ولا حيوان، ولا غير ذلك كله لأنه نذر معصية، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين أن الصلاة عند القبور في المشاهد مستحبة، ولا أن الدعاء هناك أفضل، بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد وفي البيوت أفضل من الصلات عند قبر، لا قبر نبي ولا صالح سواء سميت مشاهد أم لا وقد شرع الله ذلك في المساجد دون المشاهد وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} ولم يقل في المشاهد وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية. وذكر البخاري في صحيحه والطبري وغيره في تفاسيرهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} الآية قالوا هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الامد فاتخذوا تماثيلهم أصناماً، فالعكوف على القبور، والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها، هو أصل الشرك وعبادة الاوثان، ولهذا اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء الصالحين، فانه لا يتمسح به ولا يقبله، وليس في الدنيا ما شرع تقبيله الا الحجر الأسود، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله لأعلم حجر لا تضر ولا تنفع ولو أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، ولهذا يسن أن يقبل الرجل ويستلم ركني البيت الذين يليان الحجر ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين انتهى. وقال رحمه الاله في الرد على ابن البكري بعد كلام له سبق: لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق، ودعاءه سبب في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، ومن الذي قال إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر سواء كان نبياً أو غير نبي كان ذلك سبباً في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به، ومن الذي يفعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين إحداهما أن هذه أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله والثانية أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها فإنه ليس كلما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه -إلى أن قال: وهذا المقام يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقاً وأمرا، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتاً أو غائباً وأن يستغيثوا به سواء كان ذلك عند قبره أو لم يكن عند قبره، بل نقول سؤال الميت أو الغائب نبياً كان أو غير نبي من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاصطرار من دين المسلمين، فان أحداً منهم ما كان يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من المؤتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الانبياء الا عند قبورهم، ولا اذا بعدوا عنها بل، ولا أقسم بمخلوق على الله أصلاً، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الانبياء، ولا قبور غير الانبياء ولا الصلاة عندها. وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه وذكروا ان هذا من البدع التي لم يفعلها السلف، وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف الترياق المجرب وقول بعضهم: فلان يدعي عند قبره وقول بعض الشيوخ: إذا كانت لك حاجة فاستعثت بي أو قال استغث عند قبري ونحو ذلك فان هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم، ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الاسلام بعد القرون المفضلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وكذلك المساجد المبينة على القبور التي تمسى المشاهد محدثة في الاسلام، والسفر إليها محدث في الاسلام لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة، بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا قالت عائشة: ولولا ذلك لابرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً، وثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس: "ان من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فأني أنهاكم عن ذلك" وقد تقدم أن عمر لما أجدبوا استسقى بالعباس فقال اللهم انا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وانا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون، فلم يذهبوا إلى القبر ولا توسلوا بالعباس وكان توسلهم به توسلاً بدعائه كالامام مع المأموم وهذا تعذر بموته. فأما قول القائل عن ميت من الانبياء والصالحين اللهم اني أسالك بفلان، أو بجاه فلان، أو بحرمة فلان فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة ولا التابعين، وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز فكيف بقول القائل للميت: أنا أستغيث بك أو أستجير بك، وأنا في حسبك أوسل الله لي، ونحو ذلك، فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة لو قدر أنه له تأثير، فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو ميت من تتمثل له الشياطين، وربما كانت له صورة ذلك الغائب وربما كلمته، وربما قضت له بعض أحياناً بعض حوائجه كما تفعل له شياطين الأصنام. فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يعبد في حياته إذ هو ينهي عن ذلك وأما بعد الموت فهو لا يقدر أن ينهي فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثناً يعبد ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيداً" وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" وقال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الآية أن هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، ولهذا المعنى لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد انتهى ملخصاً. وأخرج ابن أبي شيبة عن الزبير أنه رأى قوماً يمسحون المقام فقال لم تؤمروا بهذا إنما أمرتم بالصلاة عنده، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلهم، فإن كان المعترض يستدل بكلام شيخ الإسلام، فهذا صريح كلامه المؤيد بالأدلة والبراهين، وكلام العلماء كمثل كلام الشيخ في هذا كثير جداً لو ذكرناه لطال الجواب. وأما قول المعترض بل مدح الصرصري وأثنى عليه بقوله قال الفقيه الصالح يحيى بن يوسف الصرصري في نظمه المشهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فالجواب أن هذا من جملة أكاذيب المعترض على شيخ الإسلام وغيره، وقد كذب على الإقناع والشفاء، وليس في الكتابين إلا ما يبطل قوله، وفي الحديث: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وإلا فكلام الشيخ في رد ما يقوله الصرصري وانكاره موجود بحمد الله. قال رحمه الله في رده عللاى ابن البكري بعد وجهين ذكرهما: الثالث أنه ادرج سؤاله أيضاً في الاستغاثة به، وهذا جائز في حياته لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته بنقل أحد من العلماء، ولكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة وكمحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم دين وصلاح، لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام الذين يخذ بقولهم في شرائع الإسلام، وليس معهم دليل شرعي، ولا نقلعن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، وأكثر منه يأتي إلى قبر الشيخ يدعو به ويدعو عنده. وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أوسنة، أو قول عن الصحابة والأئمة وليس عندهم إلى قول طائفة أخرى قبر معروف ترياق مجرب، والدعاء عند قبر الشيخ مجاب ونحو ذلك، ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض تلك الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين أو الكواكب والأوثان، فإن الشياطين كثيراًما تتمثل لهم فيرونها وقد تخاطب أحدهم ولا يراها، ولو ذكرت ما أعلم من الواقائع الموجودة في زماننا لطال المقال، وكل ما كان القوم أعظم جهلاً، وضلالاً كانت هذه الأحوال الشيطانية أكثر. وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال، أو طعام أو لباس أو غير ذلك، وهو لا يرى أحد أتاه به فيحسب ذلك كرامة، وإنما هو من الشيطان، وسببه شركه بالله، وخروجه عن طاعة الله ورسوله إلى طاعة الشيطان فأضلتهم الشياطين بذلك، كما كانت تضل عباد الاصنام انتهى ما ذكره شيخ الاسلام رحمه الله من انكاره ما في شعر الصرصري وغيره من هذه الامور الشركية وبيان أسبابها. وأما قول المعترض: وفيه توسل عظيم ان لم يزد على قول صاحب البردة لم ينقص عنه. فالجواب أن هذا من عدم بصيرته، وكبير جهله، فان من له أدنى معرفة وفهم، يعلم أن بين قول صاحب البردة وقول الصرصري في أبياته تفاوتاً بعيداً، فقد نبهنا على ما يقتضيه كلام صاحب البردة من قصر الالهية والربوبية والملك وشمول العلم على عبد شرفه الله بعبوديته، ورسالته ودعوة الخلق إلى عبادته وحده وجهاد الناس على ذلك، وبلغ الأمة ما أنزل الله تعالى عليه في الآيات المحكمات من تجريد التوحيد والنهي عن الشرك ووسائله كما قدمنا الإشارة إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وأما الصرصري ففي كلامه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، والاستغاثة به بلا قصر ولا حصر، للاستغاثة والاستعانة في جانب المخلوق وقد أنكره شيخ الاسلام رحمه الله، وذكر أنه لا دليل من كتاب ولا سنة عليه، ولا قال به أحد من الصحابة والتابعين والأئمة، وقد بين رحمه الله ان استغاثة الحي بالحي انما هي بدعائه وشفاعته، وأما الميت والغائب فلا يجوز أن يستغاث به، وكذلك الحي فيما لا يقدر إلا الله، وأن أهل الاشراك ليس معهم إلا الجهل والهوى، وعوائد نشؤا عليها بلا برهان، وقد عرفت ان هذا المعترض لم يأت إلا بشبهات واهبة، وحكايات سوفسطائية أومنامات تضليلية كما قال كعب بن زهير: فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... أن الأماني والأحلام تضليل وليس مع هؤلاء المشركين الادعوى مجردة محشوة بالأكاذيب، وليس معهم بحمد الله دليل من كتاب أو سنة، أو قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، وقد جئناهم بأدلة الكتاب والسنة وما عليه الصحابة والأئمة، ولو استقصينا ذكر الأدلة وبسطنا القول لاحتمل مجلداً ضخما. وسبب الفتنة بقصائد هؤلاء المتأخرين كقصائد البوصيري، والبرعي واختيارها على قصائد شعراء الصحابة كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك وكعب بن زهير وغيرهم من شعراء الصحابة رضي الله عنهم، وفيها من شواهد اللغة والبلاغة ما لم يدرك هؤلاء المتأخرون منه عشر المعشار، وما ذاك إلا لأن قصائد هؤلاء المتأخرين تجاوزوا فيها الحد إلى ما يكرهه الله ورسوله، فزينها الشيطان في نفوس الجهال، والضلال فمالت إليها نفوسهم عن قصائد الصحابة، التي ليس فيها إلا الحق والصدق وما قصروا فيها جهدهم عما يصلح أن يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحروا فيها ما يرضيه، وتجنبوا ما يسخطه صلى الله عليه وسلم، وما نهى عنه من الغلو فما أشبه هؤلاء بقول أبي الوفاء بن عقيل، وهو في القرن الخامس، لما صعبت التكاليف على الجهال، والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم اذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع إلى آخره. ومما يتعين أن نختم به هذا صلى الله عليه وسلم: فصل ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله ونفعنا بعلومه، قال بعد أن ذكر زيارة الموحدين للقبور: وأن مقصودها ثلاثة أشياء: أحدها: تذكير الآخرة والاعتبار والاتعاظ، الثاني: الاحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده به فيتناساه، فاذا زاره وأهدى إليه هدية من دعاء أوصدقة ازداد بذلك سروره وفرحه، ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لأهل القبور بالمغفرة، والرحمة وسؤال العافية فقط، ولم يشرع أن يدعوهم ولا يدعو بهم، ولا يصلى عندهم، الثالث: احسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ من عباد الأصنام قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله، لا يزال تأتيه الالطاف من الله، وتفيض على روحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الخيرات، فاذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الالطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية، والماء على الجسم المقابل له، قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله واقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه الالتفات إلى غيره وكلما كان جمع القلب والهمة عليه أعظم كان أقرب إلى الانتفاع به. وقد ذكر هذه الزيارة ابن سيناء والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها وايقاد السرج، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله قالوا: فان العبد اذا تعلق روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال يفيض عليه نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحضرة وقرب من السلطان وهو شديد التعلق به فما يحصل لذلك من الأنعام والأفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بابطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم وأوجب لهم النار. والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله، وأبطاله مذهبهم قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده، وهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو ملك السموات والأرض، وهو الله وحده، وهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه، فصارت الشفاعة في الحقيقة انما هي له، والذي يشفع عنده انما يشفع باذنه وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهي ارادته من نفسه أن يرحم عبده وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون، ومن وافقهم، وهي التي أبطلها الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} . وأخبر سبحانه أنه ليس للعباد من دونه، بل أراد سبحانه رحمة بعبده اذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فالشفاعة باذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيع من دونه، بل يشفع باذنه، والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك، والعبد المأمور فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك، فانه لا شريك له، والتي أثبتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 شفاعة العبد المأمور الذي يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول اشفع في فلان، ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهو الذين ارتضى الله سبحانه قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وقال تعالى {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} فأخبر أنه لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضى قول المشفوع له، واذنه للشافع، فأما المشرك فانه لا يرضاه ولا يرضى قوله فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه، فانه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، واذنه للشافع فمتى لم يوجد مجوع الأمرين لم توجد الشفاعة. وسر ذلك أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الامر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئاً الا من بعد اذنه لهم، ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره، واذنه، فاذا أشركهم به المشرك واتخذهم شفعاء من دونه ظناً منه أنه اذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه، وما يجب له وما يمتنع عليم فان هذا محال ممتنع يشبه قياس الرب سبحانه على الملوك والكبراء حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج. وبهذا القياس الفاسد عبد ت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي، والفرق بينهما هو الفرق بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والملوك والغني والفقير، الذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره، فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فان قيام مصالحهم بهم وهم أعوانهم، وأنصارهم الذين قيام الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم والسنتهم في الناس فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم وان لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنقص طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهمعلى الكره والرضاء، فأما الذي غناه من لوازم ذاته وكل ما سواه فقير إليه لذاته وكل من في السموات والأرض عبيد له مقهورون لقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعاً لم ينقص من عزه، وسلطانه وملكه وربوبيته والهيته مثقال ذرة قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وقال في سيدة آي القرآن أية الكرسي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} وقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فأخبر ان ملكه السموات والأرض. يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وان أحداً لا يشفع عنده الا باذنه، فانه ليس بشريك بل مملوك محض بخلاف شفاعة أهل الدينا بعضهم عند بعض. فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع الا باذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فانه هو الذي قبل والذي أذن والذي رضى عن المشفوع، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة، وقوله فمتخذ الشفيع لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده، ومحبوبه ومرجوه ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع ليشفع له قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فبين سبحانه ان متخذي الشفعاء مشركون وان الشفاعة لا تحصل باتخاذهم. وسر الفرق بين الشفاعتين: ان شفاعة المخلوق للمخلوق وسؤاله للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده لا خلقاً ولا أمراً ولا اذناه، بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض فيقبل شفاعة الشافع وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها، وقد يتعارض عنده الأمر ان فيبقى متردداً بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد وبين الشفاعة التي تقتضي القبول فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح. وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه، فانه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها ويحبها منه، ويرضى عن الشافع لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده بمجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر، فان أحداً من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة، ولا غيرها الا بمشيئة الله وخلقه، فالرب تعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه، ولو أن مملوكه وعبده، فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله من رزق او نصر أو غيره فكل منهما محتاج إلى الآخر. ومن وفقه الله لفهم هذا الموضوع تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بيت ما أثبت الله من الشفاعة، وما نفاه وأبطله، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب، وانهم على شيء والسلف على شيء كما قيل: سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب والأمر والله أعظم مما ذكرنا انتهى وبه كمل الجواب، والحمد لله الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده، وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله، وصلى الله وسلم على محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221