الكتاب: كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام وبراءة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن مفتريات هذا الملحد الكذاب المؤلف: سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان بن مصلح بن حمدان بن مسفر بن محمد بن مالك بن عامر الخثعمي , التبالي , العسيري , النجدي (المتوفى: 1349هـ) الناشر: أضواء السلف الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام سليمان بن سحمان الكتاب: كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام وبراءة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن مفتريات هذا الملحد الكذاب المؤلف: سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان بن مصلح بن حمدان بن مسفر بن محمد بن مالك بن عامر الخثعمي , التبالي , العسيري , النجدي (المتوفى: 1349هـ) الناشر: أضواء السلف الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأفهام]ـ المؤلف: سليمان بن سحمان الناشر: أضواء السلف الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وأصحابه، صلاة دائمة إلى يوم الدين. أما بعد، فإني رأيت نبذة ألفها رجل من أهل الشام يقال له "أحمد باشا العظمي" سلك فيها مسلك أهل الغواية والضلالة، ونهج فيها مناهج أهل الغباوة والجهالة، وأكثر فيها من الهمط بالكذب والظلم والعدوان، وقلد فيما يحكيه أهل الفرية والبهتان، وبسط لسانه بالوقاحة والهذيان، وعام في بحر الشبهات والشكوك والطغيان، وهام في أودية الجهالة والضلالات، وتاه في مهامه تلك الفلوات، بما لفق فيها من الهمط والخرط والتمويهات، وخزعبلات ذي الشقاشق والترهات، التي لا يصغى إليها إلا القلوب المقفلات {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وقد أقذع هذا الشامي في مسبة شيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام من أرشد الله تعالى بدعوته كثيراً من العباد، وأهلك من رد عليه ذلك، وناد، فلم يوفق لدعوة المرشد إلى الرشاد المقيم من السنة لأحبها ونهجها، المقوم مائلها ومعوجها، ناهج منهج الصواب، الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، ومن حكمته سبحانه أن يبتلي خيار هذه الأمة بشرارها، ومؤمنيها بفجارها، وعلمائها بجهالها؛ وهذه سنة الله التي خلت من قبل، وامتحانه الذي يظهر به ميزان الترجيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 والعدل، وتتم به نعمته على أهل العلم والفضل، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} فكان السبب الداعي إلى تحامل هؤلاء الضلال، وما لفقوه من الأكاذيب المخترعة والأوضاع المقترحة المبتدعة العضال، ما خصه الله ومنحه إياه من الدعوة إلى توحيد الله من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصر والمتابعة والطاعة وتقديم سنته صلى الله عليه وسلم كل سنة وقول، والوقوف معها حيث ما وقفت، والانتهاء حيث انتهت، في أصول الدين وفروعه، باطنه وظاهره، خفيه وجليه، كلية وجزئية، فلما اشتهر هذا منه، وظهر بذلك فضله، وتأكد علمه ونبله، وأنه سباق غايات وصاحب آيات، لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، حسده أعداء الله ورسوله، حيث لم يدركوا هذه الفضيلة، ولم يصلوا إلى هذه المنقبة الجليلة، فرموه بهذه الشنعات الرذيلة وشمروا له عن ساق العداوة بكل مقدور وحيلة، فأبى الله إلا أن يظهر دينه على يد هذا الإمام، وأن ينصره على من ناوأه من سائر الأنام، وأن يظهر به شعائر الإيمان والإسلام، وأن أعداءه ومنازعيه، وخصومه في الفضل وشانئيه، يصدق عليهم المثل السائر، بين أهل المحابر والدفاتر: حسدوا الفتى إذا لم ينالوا سعيه ... فالناس أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغياً إنه لدميم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وله رحمه الله في المناقب والمآثر، ما لا يخفى أهل الفضائل والبصائر، فلما اختصه الله بهذه الكرامة تسلط أعداء الدين، وخصوم عباد الله المؤمنين، على مسبته والتعرض لبهته وعيبه، قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله بذلك ثواباً عند انقطاع أعمالهم" وأفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر؛ وقد ابتلينا من طعن أهل الجهالة والسفاهة بما لا يخفى، ولما رأيت ما في هذه النبذة من البهت والكذب والزور، والكفر والزندقة والفجور، مما تنفر عنه طباع المؤمنين، وتستك عند ذلك أسماع الموحدين، استعنت الله تعالى على رد أباطيله؛ على وجه الاختصار والاقتصار، وترك ما لا يتعلق بنا من مباحثه وتفاصيله، إذ القصد بالأصالة بيان ما كان عليه شيخنا رحمه الله تعالى من الدعوة إلى دين الله ورسوله، وترك عبادة ما سواه، وتجريد متابعته الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمره به ونهي عنه، وتقديم قوله على من خالفه كائناً من كان، ونفي ما لفقه هؤلاء الجهلة المفترون، من الأكاذيب المخترعة، والأقوال المفترعة، التي لا يحكيها عن الشيخ إلا من أعمى الله بصيرة قلبه، وكان له نصيب وافر من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} والله المسؤول المرجو الإجابة، أن يجزل لنا الإثابة، وأن يمدنا بمعونته وتوفيقه للإصابة، فهو حسبنا ونعم الوكيل. فصل: قال الملحد المعترض: أما بعد أيها الإخوان المتلقبون بالمتنورين، أراكم تدعون الناس لبدعة الاجتهاد في الدين وغيرها من البدع التي جرت دعاتها قبلكم إلى ما لا نرضاه لكم، زين لهم الشيطان أعمالهم فظنوا أنهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 المهتدين. نحن وأنتم متفقون بالشهادتين، مقرون بالأركان لا نختلف بأصول الإيمان، ولا ننكر أركان الإسلام، غير أننا نقول بالمحكم، ونرجع إليه، وأنتم تتبعون المتشابه وتعولون عليه، نحن نحتاط بما لا نرتاب، وأنتم لا تخرجون مما يريب، نحن ننتمي الإجماع والجماعة وأنتم تترخصون بالإنفراد والتأويل بالرأي، قمتم بعد أن ذهب الله بزعماً. تلك المذاهب والنحل، وانتشرتم بعد أن طوى دعاة تلك البدع تدعون الناس لما لا ينفعهم في الدنيا، ولا ينجيهم في الآخرة إلى آخر ما حكاه من الهذيان العاري عن التحقيق، بل هو ليس على منهج مستقيم ولا على أقوم طريق. والجواب: ومن الله أستمد الصواب. إنا لا ندري ولا نعرف من هؤلاء المتلقبون بالمتنورين، فإذا كانوا على منهج قويم وصراط مستقيم، وعلى خلاف ما عليه أصحاب الجحيم، وكانوا متمسكين بدين الله ورسوله، متشرعين به داعين إليه، فسيجيبونكم على هذه الخرافات، وينفون ما تنسبون إليهم من هذه الترهات، التي لا يصغي إليها إلا القلوب المقفلات، ويتحلى بها أهل الجهالة والضلالات، وإن كانوا على غير ذلك فلا حاجة بنا إلى الجواب عنهم، وحسبنا أن نجيب على ما تنسبون إلينا من هذه المفتريات، وما تلبسونه به الحق بالباطل منن تلك الضلالات، وعلى ما تنتحلونه من البدع والمكفرات، وتدعون أن ذلك هو دين الله ورسوله، من غير إقامة حجة، ولا إيضاح محجة، وإنما تعتمدون في ذلك على أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، وهم قد نهجوا في تلك الطريق منهجاً وعراً، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأتوا زوراً وبهتاناً وهجراً وزين لهم الشيطان أنهم ينالون بذلك أجراً، ويحوزون به عزاً وفخراً، فأركبهم مراكب الأسلاف قسراً، وأمطى كواهلهم في ذلك السنن قهراً، وحسن لهم أن الآباء بحقيقة الحق أدرى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وأنهم ينهج منهج الشريعة أحرى، فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين، وخلعوا ربقة التوحيد والدين، فجوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث، والخطوب المعضلة الكوارث، وأقبلوا عليهم في طلب الحاجات وتفريج الشدائد والكربات، من الأحياء منهم والأموات، وكثير منهم يعتقد النفع والإضرار في الجمادات، كالأحجار والأشجار، ويتناوبون ذلك في أغلب الأزمان والأوقات، ولم يكن لهم إلى غيرها إقبال ولا التفات، فهم على تلك الأوثان عاكفون، ولها في كثير من الأحايين ملازمون {نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فسلكتم على طريقة هؤلاء القوم الضلال تهرعون، وبأخلاقهم وأفعالهم متمسكون، تقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، فهذه هي حالكم في اعتقاداتكم وديانتكم، التي بها تدينون، ولك نبأ مستقر وسوف تعلمون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فصل: مبدأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قال المعترض: مذهب الوهابية كان الناس في اختباط وتردد من حقيقة مذهب الوهابية ومقولاتهم بسبب ما كانوا يتسترون به، من مظاهر التوحيد وادعاء التمسك بالكتاب والسنة حتى طغوا وبغوا وتغلبوا على الحجاز، وناظرهم العلماء فكشف الله الستر عنهم وسلط عليهم إبراهيم باشا المصري فكاد يفنيهم ويقطع دابرهم، لكن إرادة الله في بقاء جرثومة من هذه الطائفة في بلاد نجد، وقد تصدى لتحرير مذهبهم، وتقرير مقولاتهم، والرد عليهم جمهور من علماء الحجاز، منهم أحمد بن زين الملقب بدحلان نزيل مكة المكرمة، المتوفى في المدينة المنورة سنة 33 وبسط ذلك في تاريخه المسمى خلاصة الكلام, في أمراء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 البلد الحرام، وأنا إن شاء الله آخذ عنه ما يتعلق بموضوعنا مختصراً بدون تصرف، وبالله المستعان. والجواب: أن يقال: لا غرو من هذا ولا بدع، فإن الناس من أهل الريب والالتباس كانوا من أمر الشيخ وحاله في اختباط وتخليط من حقيقة ما كانوا عليه الشيخ رحمه الله على قدر أغراضهم وشهواتهم وإراداتهم الباطلة فرموه بالأمور العظيمة، من الأقوال الشنيعة الذميمة، وعادوه وآذوه، وأخرجوه من بلده لما دعاهم إلى توحيد الله، بإخلاص العبادة وترك عبادة ما سواه كما قال ورقة بن نوف لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- "يا ليتني فيها جذعاًَ إذ يخرجك قومك" قال: "أو مخرجي هم؟ " قال: "نعم إنه لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا أوذي وعودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً" فهذه حال الرسل وأتباعهم على الحقيقة في كل زمان ومكان، وأما من هداه الله لدين الإسلام، وشرح صده للإيمان به وتوحيده، فإن لم يتخبط في حال الشيخ، ولم يتردد فيه كما تردد وتخبط فيه من أعمى الله بصيرة قلبه، لأنه قد كان من المعلوم عند عاقل خبر الناس وعرف أحوالهم، وسمع شيئاً من أخبارهم وتواريخهم، أن أهل نجد وغيره ممن تبع دعوة الشيخ، واستجاب لدعوته من سكان جزيرة العرب كانوا على غاية من الجهالة والضلالة، والفقر والعالة، لا يستريب في ذلك عاقل، ولا يجادل فيه عارف، كانوا من أمر دينهم في جاهلية، يدعون الصالحين، ويعتقدون في الأشجار والأحجار والغيران، يطوفون بقبور الأولياء، ويرجون الخير والنصر من جهتها، وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية، وجهالة الصوفية، ما يرون أنه من الشعب والإيمانية، والطريقة المحمدية، وفيهم من إضاعة الصلوات، ومنع الزكاة، وشرب المسكرات، ما هو معر وف ومشهور، فمحى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الله بدعوته شعار الشرك ومشاهده، وهدم بيوت الكفر والشرك ومعابده، وكبت الطواغيت والملحدين، وألزم من ظهر عليه من البوادي وسكان القرى، بما جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم- من التوحيد والهدى، وكفر من أنكر البعث واستراب فيه من أهل الجهالة والجفاء، وأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وترك المنكرات والمسكرات، ونهى عن الابتداع في الدين، وأمر بمتابعة السلف الماضين، في الأصول والفروع من مسائل الدين، حتى ظهر دين الله، واستعلن واستبان بدعوته منهاج الشريعة والسنن، وقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحدت الحدود الشرعية، وعزرت التعازير الدينية، وانتصب علم الجهاد، وقاتل لإعلاء كلمة الله أهل الشرك والفساد حتى سارت دعوته، وثبت نصحه لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وجمع الله به القلوب بعد شتاتها وتألفت بعد عداوتها، وصاروا بنعمة الله إخواناً، فأعطاهم الله بذلك من النصر والعز والظهور، ما لا يعرف مثله لسكان تلك الفيافي الصحور، وفتح عليهم الحسا والقطيف، وقهروا سائر العرب من عمان إلى عقبة مصر، ومن اليمن إلى العراق والشام، ودانت لهم عربهم وأعطوا الزكاة، فأصبحت نجد تضرب إليها أكباد الإبل في طلب الدنيا والدين، وتفتخر بما نالها من العز والنصر والإقبال والسنا كما قال عالم صنعاء وشيخها في ذلك الوقت. قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد سر في جاءني من طريقه ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي وقال عالم الإحساء وشيخها: لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلو الضلال ويرفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 تجر به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع وهذه في أبيات لا نطيل بذكرها وقد شهد غيرهما بمثل ذلك واعترفوا بعلمه وفضله وهدايته. وأما قوله: من حقيقة الوهابية ومقولاتهم بسبب ما كانوا يتسترون به من مظاهر التوحيد وادعاء التمسك بالكتاب والسنة. فالجواب أن يقال: حقيقة ما عليه الوهابية هو ما كان عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وسلف الأمة وأئمتها في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقتها أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالقبول والتسليم، كما سيأتي بيان ذلك قريباً فيما بعد إن شاء الله تعالى. قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 فصل: شيء من سيرة الشيخ رحمة الله ونقص عليك شيئاً من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونذكر طرفاً من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيها حقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغراه، وبالغ في كفره واستهواه، فنقول: قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة والمقروءة عليه، وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره ودعوته وما عليه الفضلال النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت به الأخبار النبوية، وتلقتها أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالقبول والتسليم، يثبتونتها ويؤمنون بها، ويمرونها، كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقد درج على هذا من بعدهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان وسلف الأمة وأئمتها، كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وطلحة بن عبيد الله، وسليمان بن يسار، وأمثالهم، ومن الطبقة الأولى مجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وابن سيرين؛ وعامر الشعبي، وجنادة بن أبي أمية، وحسان بن عطية، وأمثالهم. ومن الطبقة الثانية علي بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك؛ وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس، وإسحاق بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري، وإخوانهم وأمثالهم ونظراؤهم من أهل الفقه والأثر في كل مصر وعصر. وأما توحيد العبادة والإلهية فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ، وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه، يوضح ذلك أن أصل الإسلام وقاعدته شهادته أن لا إله إلا الله وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين، كائناً من كان، وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الإنس والجن، وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم، وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، لا من الأولين، ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، وما يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةً رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وَاجْتَنِبُوا الْطَّاغُوتَ} وقال تعالى عن الخليل: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ , وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وقال: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون , أَنْتُمْ وَآبَاؤكُمْ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌ إِلَّا رَبَّ الْعَالِمِينَ} ، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَحْدَهُ} ، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الْرَّحَمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وذكر عن رسله نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقومهم {اُعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} وقال عن أهل الكهف {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدَى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قُامُوا فَقَالُوا رُبُّنَا رَبُّ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلَهَاً لَقَدْ قُلْنَا إِذَاً شَطَطَاً هُؤلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِبَاً} ، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفَرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} في موضعين من كتابه، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ الْنَّارَ} قال –رحمه الله-: والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها، يدخل فيه شرك عباد القبور وعباد الأنبياء والملائكة والصالحين فإن هذا هو شرك جاهلية العرب الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله محمد –صلى الله عليه وسلم- فإنهم كانوا يدعونها ويلتجئون إليها ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها، لتقربهم إلى الله زلفى كما قد حكى الله عنهم في مواضع من كتابه كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعَهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤلَاءِ شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللهِ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دونِ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} وقال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَانَاً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكَهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} قال –رحمه الله- ومعلوم: أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السماوات والأرض أو استقلوا بشيء، والتدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولَنَّ اللهُ , قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَانِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسكَاتِ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيِهِ فَلْيَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِلُونَ} فهم معترفون بهذا مقرون به لا ينازعون فيه، ولذلك حسن موقع الاستفهام وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل وبطلت عبادة من لا يكشف الضر ولا يمسك الرحمة ولا يخفي ما في التنكير من العموم والشمول المتناول لأقل شيء وأدناه من ضر أو رحمة. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى قوله {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرَهُمْ بَالَلهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ذكر فيه السلف كابن عباس وغيره إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته وملكه وفسر شركهم بعبادة غيره. قال –رحمه الله-: وقد بين القرآن في غير موضع أن من المشركين من أشرك بالملائكة ومنهم من أشرك بالأصنام وقد رد عليهم جميعهم وكفر كل أصنامهم، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالْنَّبِيِينَ أَرْبَابَاً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ... } الآية، وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدَاً لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} ونحو ذلك في القرآن كثير وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين كعبادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الكواكب والأصنام من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله قال –رحمه الله-: وهذه العبادات التي صرفها المشركون لآلهتهم هي أفعال العبد الصادرة منه كالحب والخضوع والإنابة والتوكل والدعاء والاستعانة والاستغاثة والخوف والرجاء والنسك والتقوى والطواف ببيته رغبة ورجاء وتعلق القلوب والآمال بفيضه ومده وإحسانه وكرمه فهذه الأنواع أشرف أنواع العبادة وأجلها بل هي لب سائر الأعمال الإسلامية وخلاصتها وكل عمل يخلو منه فهو خداج مردود على صاحبه وإنما أشرك وكفر من كفر من المشركين بقصد غير الله بهذا وتأهيله لذلك قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} ، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} الآية وحكي عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ , إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والتدبير والتأثير، وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع والتعظيم والدعاء ونحو ذلك من العبادات. قال –رحمه الله-: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين نحكم بأنهم مشركون ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية وما عدا هذا من الذنوب التي دونه في الرتبة والمفسدة لا نكفر بها ولا نحكم على أحد من أهل القبلة على أحد من أهل القبلة الذين باينوا لعباد الأوثان والأصنام والقبول بمجرد ذنب ارتكبوه وعظيم جرم اجترحوه وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة ونحوهم ممن كفرهم السلف لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى من سلف هذه الأمة ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج. وقالته في أهل الذنوب من المسلمين. قال –رحمه الله-: ومجرد الإتيان بلفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلماً بل هو حجة على ابن آدم خلافاً لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار كالكرامية ومجرد التصديق كالجهمية وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة وسجل على كذبهم مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة منن التأكيدات. قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فأكدوا بلفظ الشهادة وإن المؤكدة واللام والجملة الاسمية فأكذبهم الله وأكد تكذيبهم بمثل ما أكدوا به شهادتهم سواء بسواء وزاد التصريح باللقب الشنيع الفظيع، وبهذا تعلم أن تسمى الإيمان لا بد فيه من الصدق والعمل من شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره فلا شهادة له وإن صلى وزكى وصام وأتى بشيء من أعمال الإسلام. قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضاً: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ، الآية، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ، الآية قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} الكفر ونوعان مطلق ومقيد، فالمطلق أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول، والمقيد أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول حتى إن بعض العلماء كفر من أنكر فرعاً مجمعاً عليه كتوريث الجد والأخت وإن صلى وصام فكيف بمن يدعو الصالحين ويصرف لهم خالص العبادة ولبها، وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال، وإن صلى وصام ومن جرت على لسانه. قال –رحمه الله-: والصحابة كفروا من منع الزكاة وقاتلوهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 مع إقرارهم بالشهادتين والإتيان بالصلاة والصوم والحج. قال –رحمه الله-: واجتمعت الأمة على كفر بني عبيد القداح مع أنهم يتكلمون بالشهادتين ويصلون ويبنون المساجد في قاهرة مصر وغيره، وذكر أن ابن الجوزي صنف كتاباً في وجوب غزوهم وقتالهم سماه النصر على مصر قال: وهذا يعرفه ممن له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين، فتشبيه عباد القبور بأنهم يصلون ويصومون ويؤمنون بالبعث مجرد تعمية على العوام وتلبيس لينفق شركهم، ويقال بإسلامهم وإيمانهم ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وأما مسائل القدر والجبر والإمامة والتشيع ونحو ذلك من المقاولات والنحل، فهو أيضاً فيها على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى والدين، يبرأ مما قالته القدرية النفاة والقدرية المجبرة وما قالته المرجئية والرافضة وما عليه غلاة الشيعة والناصبة يوالي جميع أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويكف عما شجر بينهم، ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم وأقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه لفضائلهم وسوابقهم وجهادهم وما جرى على أيديهم من فتح القلوب بالعلم النافع والعمل الصالح وفتح البلاد ومحو آثار الشرك وعبادة الأوثان والنيران والأصنام والكواكب ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام، ويرى البراءة مما عليه الرافضة وأنهم سفهاء لئام، ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر فعمر فعثمان فعلي –رضي الله عنهم أجمعين- ويعتقد أن القرآن الذي نزل به به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين وخاتم النبيين، كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ويبرأ من رأي الجهمية القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف أهل العلم والإيمان، ويبرأ من رأي الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب القائلين بأن كلام الله هو المعنى القائم بنفس الباري، وأن ما نزل به جبريل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 حكاية أو عبارة عن المعنى النفسي، ويقول هذا من قول الجهمية وأول من قسم التقسيم هو ابن كلاب وأخذ عنه الأشعري وغيره كالقلانسي، ويخالف الجهمية في كل ما قالوه وابتدعوه في الدين ولا يرى ما ابتدعه الصوفية من البدع والطرائق المخالفة لهدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وسنته في العبادات والخلوات والأذكار المخالفة للمشروع، ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده بل السنة أجل في صدره وأعظم عنده من أن تترك لقول أحد كائناً من كان، قال: عمر بن عبد العزيز لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نعم عند الضرورة وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار وقواعد الاستنباط والاستظهار يصار إلى التقليد لا مطلقاً فيما يتعسر ويخفى ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة خلافاً لغلاة المقلدين، ويوالي الأئمة الأربعة ويرى فضلهم وإمامتهم وأنهم من الفضل والفضائل في غاية ورتبة يقصر عنها المتطاول، ويوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم من أهل الحديث من أهل الفقه والتفسير وأهل الزهد والعبادة ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين من السلف الماضين برأي مبتدع أو قول مخترع فلا يحدث في الدين ما ليس له له أصل يتبع وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر، ويؤمن بما نطق به الكتاب وصحت به الأخبار وجاء الوعيد عليه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع وأمر به الرسول –صلى الله عليه وسلم-. ومن نسب إليه خلاف هذا فقد كذب وافترى، وقال ما ليس له به علم وسيجزيه الله ما وعده به أمثاله من المفترين وأبدى –رحمه الله- من التقارير المفيدة والأبحاث الفريدة على كلمة الإخلاص والتوحيد شهادة أن لا إله إلا الله ما دل عليه الكتاب المصدق والإجماع المستبين من نفي استحقاق العبادة والإلهية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 عما سوى الله وإثبات ذلك لله سبحانه على وجه الكمال المنافي لكليات الشرك وجزئياته، وأن هذا هو معناها وضعاً ومطابقة خلافاً لمن زعم غير ذلك من المتكلمين كمن يفسر ذلك بالقدرة على الاختراع أو بأنه تعالى غني عما سواه مفتقر إليه ما عداه فإن هذا لازم المعنى إذ الإله الحق لا يكون إلا قادراً غنياً عما سواه، وأما كون هذا هو المعنى المقصود بالوضع فليس كذلك، والمتكلمون خفي عليهم هذا وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية والقدرة هو الغاية المقصودة والفناء فيه هو تحقيق التوحيد، وليس الأمر كذلك، بل هذا لا يكفي في الإيمان وأصل الإسلام إلا إذا أضيف إليه واقترن به توحيد الإلهية، وإفراد الله بالعبادة والحب والخضوع والتعظيم والإنابة والتوكل والخوف والرجاء وطاعة الله وطاعة رسوله هذا أصل الإسلام وقاعدته والتوحيد الأول توحيد الربوبية والقدرة والخلق والإيجاد هو الذي بني عليه توحيد العمل والإرادة وهو دليله الأكبر وأصله الأعظم كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} إلى آخر الآيات قال العلامة ابن القيم –رحمه الله- شعراً: إن كان ربك واحداً سبحانه ... فاخصصه بالتوحيد مع إحسان أو كان ربك واحداً أنشأك لم ... يشركه إذ أنشاك رب ثان فكذلك أيضاً وحده فاعبده لا ... تعبد سواه يا أخا العرفان وهذه الجمل منقولة عن السلف والأئمة من المفسرين وغيرهم من أهل اللغة إجمالاً وتفصيلاً، وقد قرر –رحمه الله- على شهادة أن محمداً رسول الله من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصرة والمتابعة والطاعة وتقديم سنته –صلى الله عليه وسلم- على كل سنة وقول والوقوف معها حيث ما وقفت والانتهاء حيث انتهت في أصول الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وفروعه باطنه وظاهره خفيه وجليه كلية وجزئية ما ظهر به فضله وتأكد علمه ونبله وأنه سباق غايات وصاحب آيات لا تشق غباره ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره إلى أن قال –رحمه الله-: "وما حكيناه عن الشيخ حكاه أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة مجملاً ومفصلاً، وهذه عبارة أبي الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، قال أبو الحسن الأشعري جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته، وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يردون من ذلك شيئاً، والله تعالى إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأن محمداً عبده رسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله تعالى على عرشه كما قال {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأن له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وأن له عينين بلا كيف وأن له وجهاً جل ذكره كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} وأن أسماء الله تعالى لايقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علماً كما قال {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} ، وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة كما قال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وقالوا إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} وكما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقالوا إن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله أو يكون أحداً يقدر على أن يخرج عن علم الله وأن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله، وأقروا أنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد يخلقها الله وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين بمعصيته ولطف للمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم ولم يلطف للكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين، وأن الله تعالى يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف لهم حتى يكونوا ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله كما قال، ويلجئون أمرهم إلى الله ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت والفقر إلى الله في كل حال، ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق الكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهم مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق، ويقولون الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وأن موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكاً فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة، ولم يكفروا أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر. والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره وحلوه ومره وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وأنما أصابهم لم يكن ليخطئهم؛ والإسلام هو أن يشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير الإيمان ويقرون بأن الله مقلب القلوب، ويقرون بشفاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأنها لأهل الكبائر من أمته وبعذاب القبر وأن الحوض حق والمحاسبة من الله للعباد حق والوقوف بين يدي الله حق. ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله تعالى أنزلهم حيث شاء ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوماً من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر والمناظرة فيما يناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولا يقولون كيف ولا لم؛ لأن ذلك بدعة، ويقولون إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ولم يرض بالشر وإن كان مريداً له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه –صلى الله عليه وسلم-، ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر، ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون والمهديون وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي –صلى الله عليه وسلم- ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول –صلى الله عليه وسلم- ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين ولا يبتدعون في دينهم ما لم يأذن به ويقرون أن الله تعالى يجئ يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 إمام بر وفاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة ويرونه في الحضر والسفر، ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث الله نبيه –صلى الله عليه وسلم- إلى آخر عصابة تقاتل الدجال وبعد ذلك يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لا يخرج عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتنة ويصدقون بخروج الدجال وأن عيسى بن مريم يقتله، ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم، ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر كما قال تعالى، وأن السحر كائن موجود في الدنيا، ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم ويقرون أن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله، وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالاً كانت أو حراماً، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تنسخ القرآن وأن الأطفال أمرهم الله إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد وأن الله عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله تعالى ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه وإخلاص العمل، والنصيحة للمسلمين ويدينون بعبادة الله في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والمعصية والفخر والكبر والإزراء على الناس والعجب ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المأكل والمشرب فهذه جملة ما يأمرون به وينتحلونه ويرونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وبكل ما ذكرناه من قولهم نقول، وإليه نذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل، فهذه عقيدة الوهابية التي لها ينتحلون وديانتهم التي بها يدينون وطريقتهم التي هم بها متمسكون فمن أصفى الله سريرته ونور بصيرته ونظر فيها بعين الإنصاف وترك طريقة أهل الظلم والاعتساف، وجدها على مثل ما كان عليه أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من التابعين والأئمة المهتدين، ومن أعمى الله بصيرة قلبه وجعل على بصره غشاوة فإنه لا يزده ذلك إلا عتواً ونفوراً وتكبراً وفجوراً لأنه قد أشرب قلبه بعداوة هذا الدين وأهله ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور قال الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ومن نظر بعين البصيرة ما ذكناه من حقيقة دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه أئمة الإسلام وهداة الأنام عرف أن أحق الناس بسلوك طريقتهم واتباع آثارهم هم الوهابية وأنهم هم الذين أخلصوا دينهم لرب البرية، وأن قول هذا الملحد إسلام ووهابية لا يجتمعان قول من لم يعرف الإسلام على الحقيقة ولم يسلك منهج السلف الصالح والصدر الأول على هذه الطريقة والله المستعان. وأما قوله حتى بغوا وطغوا وتغلبوا على الحجاز فالجواب أن يقال ليس الأمر بتوحيد الله وإفراده بالعبادة بجميع أنواعها لله تعالى وترك عبادة ما سواه من الأحجار والأشجار والأموات والغائبين من الأنبياء والأولياء والصالحين والطواغيت المعبودين من دون الله والقيام بوظائف الجهاد في سبيل الله بغي وطغيان كما يزعمه أعداء الله ورسوله الذين ما شموا روائح دينه وشرعه بل يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 المفسدين بل ليس معهم من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه، بل الجهاد في سبيل الله أحد أركان الإسلام العشرة التي لا يتم ولا يستقيم بناء إلا عليها، فبالجهاد في سبيل الله قام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحدت الحدود الشرعية وعزرت التعازير الدينية ودخل الناس في دين الله أفواجاً واستجابوا لمن دعاهم إلى الله وأدخلوا سائر أهل نجد ممن لا يقبل هدى الله الذي بعث به رسوله في دين الله قهراً وجاهدوهم حتى تبين لهم صحة هذا الدين وذاقوا حلاوته واطمأنوا به وجاهدوا مع الأمير محمد بن سعود من لم يدخل فيه حتى اثتوثقت له جزيرة العرب وادنت ثم قال شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن مفتي الديار النجدية –رحمه الله- في المقامات التي ألفها في الاعتبار بما فعل الله بمن عاد أهل هذه الملة الحنيفية والطريقة المحمدية في حال دعوة الشيخ لهم إلى دين الله ورسوله، ثم إن الذين أنكروا هذه الدعوة من الدول الكبار والشيوخ وأتباعهم من أهل القرى والأمصار أجلبوا على عداوة أهل الإسلام وهم إذ ذاك في عدد قليل وفي حال تخلف الأسباب عنهم وفقرهم فرموهم عن قوس العداوة فمن أهل نجد دهام ابن داوس وابن زامل وآل بجاد أهل الخرج وابن راشد راعي الحوطة وتركي الهزاني وزيد ومن والاهم من الأعراب والبوادي كذلك العنقري في الوشم ومن تبعه وشيوخ سدير والقصيم وبوادي نجد وابن حميد ملك الأحساء ومن تبعه من حاضر وباد كلهم تجمعوا لحرب المسلمين مراراً عديدة مع عريعر وأولاده، منها نزولهم على الدرعية وهي شعاب لا يمكن تحصينها بالأبواب والبناء قد أشار إلى ذلك العلامة حسين بن غنام –رحمه الله تعالى- وجاءوا بأسباب من الكيد مزعج ... مدافعهم يزجي الوحوش زينتها فنزلوا البلاد واجتمع من اجتمع من أهل نجد حتى من يدعي أنه من العلماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وهو من أمثل علمائهم وعقلائهم لما سئل كيف أشكل عليكم أمر عريعر وفساده وظلمه وأنتم تعينونه وتقاتلون معه فقال لو من الذي حربكم إبليس كنا معه، والمقصود أن الله تعالى ردهم بغيضهم لم ينالوا خيراً وحمى الله تلك القرية فلم يشربوا من آبارها. وأما وزير العراق فمشى مراراً عديدة بما يقدر عليه من الجنود والكيد الشديد وأجرى الله تعالى عليهم من الذل ما لا يخطر ببال. قبل أن يقع بهم ما وقع من ذلك إن ثويني في مرة من المراة مشى يجنوده إلى الإحساء بعد ما دخل أهلها في الإسلام في حال حداثتهم بالشرك والإضلال، فلما قرب من تلك البلاد أتاه رجل مسكين لا يعرف من غير مما لات أحد من المسلمين فقتله فنصر الله هذا الدين برجل لا يعرف وذلك مما به يعتبر فانفلت تلك الجنود وتركوا ما معهم من المواشي والأموال خوفاً من المسلمين ورعباً فغنمها من حضر وقد قال الشيخ حسين بن غنام في ذلك: تقاسمتم الإحساء قبل منالها ... فللروم شطر والبوادي لهم شطر في أبيات كثيرة ثم جددوا أسباب الحرب المسلمين وساروا بدول عظيمة يتبع بعضها بعضاًَ وكيد عظيم فنزلوا الإحساء وقائدهم علي كيخيا فتحصن من ثبت على دينه في الكوت وقصر صاهود فنزل بهم وصار يضربهم بالمدافع والقنابر وحفر اللغوب فأعجزه الله ومن معه ممن ارتد عن الإسلام فولى مدبراً بجنوده فاجتمع سعود بن عبد العزيز في ثاج وغزوة الذين معه –رحمه الله- والذين معه من المسلمين أقل من المنتفق أو آل ظفير الذين مع الكيخيا فألقى الله الرعب في قلوبهم مع كثرتهم وقوتهم فصارت عبرة عظيمة فطلبوا الصلح على أن يدعهم سعود يرجعون إلى بلادهم فأعطاهم أماناً على الرجوع فذهبوا في ذل عظيم فلما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قدم كل منهم مكانه مات سليمان باشا وذلك من نصر الله لهذا الدين فأهلك الله من أنشأ هذه الدول ثم قام علي كيخيا فصار هو الباشا فأخذ يجدد آلة الحرب فجمع من الكيد والأسباب أعظم مما كان معه في تلك الكرة، فلما كملت أسبابه وجمع الجموع فلم يبق إلا خروجه لحرب المسلمين لينتقم من أهل هذا الدين سلط الله صبيين مملوكين عنده يبيتون معه فقتلوه آخر الليل فحمدت تلك النيران وتفرقت تلك الأعوان فما قام لهم قائمة، فيالها عبراً ما أظهرها لمن له أدنى بصيرة فاعتبروا يا أولي الأبصار أين ذهب عقل من أنكر هذا الدين وجادل وكابر في دفع الأدلة على التوحيد وما حل، وكذلك ما جرى في حرب أشراف مكة لهذه الدعوة الإسلامية والطريقة المحمدية وذلك أنهم من أول من بدأ المسلمين بالعداوة فحبسوا حاجهم فمات في الحبس منهم عدد كثير ومنعوا المسلمين من الحج أكثر من ستين سنة وفي أثناء هذه المدة سار إليهم غالب الشريف بعسكر كثيف وكيد عنيف وقدم أخاه عبد العزيز قبله في الخروج فنزل قصر بسام فأقام مدة يضرب بالمدافع والقنابر وجر عليه الزحافات فأبطل الله كيده على هذا القصر الضعيف بناؤه القليل رجاله، فرحل منه ووافا غالباً ومعه أكثر الجنود ومعه من الكيد مثل ما كان على أخيه أو يزيد، فنزلوا جميعاً الشري فجد في حربهم بكل كيد فأعجزه الله تعالى عن ذلك البناء الضعيف الذي لم يتأهب أهله للحرب بالنباء والسلاح فأبطل الله كيده ورده عنهم بعد الإياس فسلط الله المسلمين على ما كان معه من الأعراب خصوصاً مطير فأوقع الله بهم في العداوة ومعهم مطلق الجربا فهزمهم الله تعالى وغنم المسلمون جميع ما كان معهم من الإبل والخيل وسائر المواشي، فصار ما ذكرناه من نصر الله وتأييده لأهل هذه الدين عبرة عظيمة وفي جملة قتلاهم حصان إبليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وبعدما ذكرناه جدّ غالب في الحرب واجتهد لكن صار حربه للأعراب ولم يتعد النير فيغزوا على من استضعفه ويغير فأعطى الله أعراب المسلمين الظفر عليه في عدة وقعات من أعظمها وقعة الخرمة على يد ربيع وغزوه من أهل الوادي وبعض قحطان، فهزمه الله تعالى واشتد القتل في عسكره فأخذوا جميع ما كان معه من المواشي وغيرها فصار بعد ذلك في ذل وهوان ففتح الله وساروا لحرب الشريف ومعهم عبد الوهاب أبو نقطة أمير عسير وسالم شكبان أمير أهل بيشة فنزلوا دون الحرم فخرج إليهم عسكر من مكة فقتلوه فطلب الشريف المذكور منهم الأمان فلم يقبلوا منه إلا الدخول في الإسلام والبيعة للإمام سعود فأعطاهم البيعة على يد رجال بعثوهم إليه، هذا بعد وقعات تركنا ذكرها كراهة الإطالة لأن القصد لهذا الوضع الاعتبار بما جرى لأهل هذه الدعوة من النصر والتأييد والظهور على قلة أسبابهم وكثرة عدوهم وقوته، وذلك من آيات الله وبيناته على أن ما قام به هذا الشيخ في حال فساد الزمان. الدين الذي بعث الله به المرسلين وتبين أن هذه الطائفة في هذه الأزمنة هي الطائفة المذكورة في قوله –صلى الله عليه وسلم-: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" وقد كانت هذه الطائفة قبل ظهور الشيخ فيما تقدم موجودة في الشام والعراق ومصر وغيرها بوجود أهل السنة وأهل الحديث في القرون المفضلة وبعدها، فلما اشتدت غربة الإسلام وقل أهل السنة واشتد النكير عليهم وسعى أهل البدع في إيصال المكر إليهم من الله بهذه الدعوة فقامت بها الحجة واستبانت الحجة والمقصود أن كل من ذكرنا ممن عاداهم من أهل نجد والإحساء وغيرهم من البوادي أهلكهم الله ولحقتهم العقوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 حتى في الذراري والأموال، فصارت أموالهم فيئاً لأهل الإسلام وانتشر مكلهم وصار كل من بقي في أماكنهم سامعاً مطيعاً لإمام المسلمين القائم بهذا الدين، فانتشر مالك أهل الإسلام حتى وصل إلى حدود الشام مع الحجاز وتهامة وعمان، فصاروا بحمد الله في أمن وأمان يخافهم كل مبطل وشيطان. ففي هذا معتبر لأهل الاعتبار مع ما وقع بمن حاربهم من الخراب والدمار، واستيلاء المسلمين على ما كان لهم من العقار والديار، فلا يرتاب في هذا الدين بعد هذا البيان إلا من عميت بصيرته وفسدت علانيته وسريته. انتهى. فإذا تبين لك ما ذكرناه آنفاً عرفت إنما ذكره هذا الملحد من قوله حتى بغوا وطغوا أنه كلام من لا يعرف الإسلام من الكفر ولا شم روائح الدين ولا عرف ما كان عليه الصحابة ومن بعدهم من التابعين، ولا ما درج عليه أئمة العلم والدين، من بيان دين الله ورسوله وجهاد من خرج عنه من المرتدين، والبغاة الخارجين، والكفار المعتدين، والظلمة المفسدين، وإلا فقد كان منن المعلوم، والمتقرر المفهوم أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى- تبين بدعوة الناس إلى دين الله ورسوله بعدما خرجوا منه إلى عبادة الأوثان والأحجار والأشجار والأولياء والصالحين وغيرهم من سائر المعبودين، وقد ذكر الشيخ حسين بن غنام الإحسائي في تاريخه ما وقع في نجد وغيرها من سائر الأقطار من الكفر العظيم ما لا يتسع له هذا الموضع، فنذكر ما وقع في نجد من ذلك حتي يتبين لك حقيقة ما كان عليه الشيخ –رحمه الله تعالى-، وحقيقة ما كان عليه أهل نجد قبل دعوته. قال الشيخ في تاريخه: وكان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم، والكل على تلك الأحوال مقيم، وفي ذلك الوادي مسيم، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، وقد مضوا قبل بدو نور الصواب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 يأتون من الشرك بالعجاب؛ وينسلون إليه من كل باب، ويكثر منهم ذلك عند قبر زيد بن الخطاب، ويدعونه لتفريج الكرب بفصيح الخطاب، ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وكان ذلك في الحبيلة مشهور وبقضاء الحوائج مذكور لا كذلك قريرة في الدرعية يزعمون أن فيها قبوراً، أصبح فيها بعض الصحابة مقبوراً، فصار حفظهم في عبادتها موفوراً، فهم في سائر الأحوال عليها يعكفون، أأفكاً آلهة دون الله تريدون، وكان أهل تلك التربة، أعظم في صدورهم من الله خوفاً ورهبة، وأفخم عندهم رجاء ورغبة، فلذلك كانوا في طلب الحاجات بهم يبتدون، ويقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، وفي شعيب غبيرا يفعل من الهجر والمنكر، ما لا يعهد مثله ولا يتصور، ويزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب محض وبهتان مزور، مثله لهم إبليس وصور؛ ولم يكونوا به يشعرون. وفي بليدة الندى ذكر النخل المعروف بالفحال، يأتونه النساء، والرجال ويغدون عليه بالبكر والآصال، ويفعلون عنده أقبح الفعل، ويتبركون به، ويعتقدون، وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن الزواج، ولم تأتها لنكاحها الأزواج، فتظلمه بيديها، وتقول، يا فحل الفحول، أريد زوجاً قبل أن يحول الفحول، هكذا صح عنهم القول، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، وشجرة الطريفية تشبث بها الشيطان، واعتلق فكان ينتابها للتبرك طوائف وفرق، ويعلقون فيها إذا ولدت المرأة ذكر لخرق عليها لعلمهم عن الموت يسلمون، وفي أسفل الدرعية غار كبير، يزعمون أن الله تعالى أن الله تعالى فلقه في الجبل لامرأة تسمى بنت الأميرة أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله فانفلق لها الغار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 بإذن العلي الكبير، وكان تعالى لها من ذلك السوء مجير، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون، أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون، ثم ذكر في البلد الحرام وما في المدينة المنورة وما في الطائف وجدة وما في جميع قرى اليمن وما في مصر والشام والعراق والموصل وما في المجرة والبحرين والحساء والقطيف من الكفر العظيم، والشرك الوخيم، أضعاف أضعاف ما في نجد من ذلك، فهذه حال أهل نجد وحال أهل الأقطار والأمصار فإن كان ما عليه هؤلاء هو دين الله ورسوله وهو الإسلام الذي تمسك به كان معصوم الدم والمال، فليس على وجه الأرض حينئذٍ شرك ولا كفر فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإن كان هو الكفر والشرك الذي حرمه الله ورسوله وحكم على أهله بالخلود في النار كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} فالمجادل عن هذا دينه، وهذه نحلته، ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، وممن أضله على علم وختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، وزعم أن جهاد هؤلاء وإدخالهم في دين الله هو البغي والطغيان فهو من أكفر خلق الله وأضلهم عن سواء السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم اعلم أيها المنصف المتعري من ثوب الجهل المركب وثوب التعصب للباطل، أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى- في حال دعوته إلى دين الله ورسوله، لم يقاتل الناس ابتداءً بل مكث برهة من الزمان يدعو الناس إلى أفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة وترك عبادة ما سواه من الأولياء والصالحين والأحجار والأشجار والطواغيت، يخبرهم أن التقرب والاعتقاد في الأولياء والصالحين هو محض حق الله تعالى لا يصلح منه شيء لغير الله لا ملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهما، فلما تبين بهذا واشتهر أمره بالدعوة إلى دين الله ورسوله، واستنكف أعداء الله من ذلك واستكبروا عن قبول دعوته فآذوه وعادوه وأخرجوه من بلدة العيينة ثم هاجر إلى الدرعية، فآووه وواسوهن وقاموا بنصرته والجهاد معه لما أنكر عليه أهل نحد وغيرهم من الطوائف ما دعاهم إليه فشمروا له عن ساق العداوة وبدأوه بالقتال، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون فحينئذٍ قاتلهم مدافعة لهم لما بغوا عليه وظلموه، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ , الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وقد قال الشيخ الإمام وعلم الهداة الأعلام الشيخ حسين بن غنام منظومة يذكر فيها ما من الله به على المسلمين من النصر والتأييد والتمكين لما كسر الله ثويني وأعرابه فقال –رحمه الله تعالى-: تلألأ نور الحق وانصدع الفجر ... وديجور ليل الشرك مزقه الظهر وشمس الأماني أشرقت في سعودها ... ولاح بأفق السعد أنجمه الزهر وجلاء ظلام الخطب بيض صائع ... كان سناها في عيابه بدر وأسفر وجه الوقت بعد تعبس ... وحالت بضع الله أحواله الكدر فأيامه بالأنس بيض شوارق ... تضيء كما أضوى بديجوره فجر وهبت رياح النصر والفوز والهنا ... فحق لنا منها البشائر والبشر وروح روح الإنس كل موحد ... ففي قلبه سكر وما مسه خمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 كان به من نشأة اللطف نشوة ... ترنح منها العطف واستحكم السكر وغنت بروضات السرور بلابل ... يرجعن الحانا يهش لها الصخر فاصل التهاني دانيات قطوفه ... وفرع المنى غض وأوراقه خضر ونادى مناد الحلق بالخلق معلنا ... وإلا فليجل الحمد وليعظم الشكر فما قلب ذي ظهر بفيفا أضله ... وفاجاه عند التوى ذلك الظهر أذيق العدى كاس الردى فسما الهدى ... وشلت يمين الشرك وانقصم الظهر وفلت جنود المعتدين ومزقت ... وزال ظلام الشرك وانمحق النكر فمن حامد منا ومثن وساجد ... لمولاه شكراً بعدما انكشف الأمر لقد أقبلوا والأرض ترجف منهمو ... وقد أدبروا يقفوهم الذل والصغر وساروا بأسباب المكائد والردى ... إلينا فما أغناهم الكيد والجر وقد زاغت الأبصار واختنك الفضا ... علينا كان الأرض مما بنا شبر فآبوا وقد خابوا وما أركوا المنى ... وبادوا وما سادوا وعقباهم الخسر جنود فساد وابتداع وفتنة ... يقودهم الإضلال والبغي والفجر يريدون أن يطفو مصابيح نوره ... ويخفوا قويماً لا يرام له ستر أبى الله أن يسمى الضلال على الهدى ... ويطمس أعلام الحنيفية الكفر وتعلوا البواغي والطواغي وحزبها ... على عصبة في الدين شرعهم الذكر وينسخ آيات الكتاب وحكمه ... لحون الغنا والعود والطبل والزمر لقد فل عضب الشرك بل ثل عرشه ... وسل حسام الدين واندرس الشر وحالت مغانيه واقوت ربوعه ... وزالت مبانيه فساحاته صفر كأن لم تكن فيه الملاهي مرنة ... ولم يجتمع للهو في ساحة سمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فعلى الشرك أحزاب الضلالة بعدما ... تغشاهم الإذلال والعار والوزر وقامت نواعي الرفض يندبن أهله ... بحرقة قلب فيه من فقدهم جمر إلى أن قال: فمن مبلغ عني العداة رسالة ... أنيبوا فما يؤيكم السهل والوعر أتيتم إلينا رائمين قطيعة ... فحل بكم بأس وعاجلكم جزر ورمتم ذرى السمحا وجب سنامها ... وهدم دعامات عليها رسى قصر وناويتم الإسلام والله دونه ... وأحزابه والسمر والبيض والبتر إلى أن قال: ألم يأن أن تأووا إلى معقل الهدى ... فقد جاءت الآيات واستتبع النذر تبين نهج الحق والرشد للورى ... فليس لمن ينحو سبيل الردى عذر وقامت على الدين القويم شواهد ... يقصر عن تعدادها الضبط والحصر فآياته محفوظة عن معارض ... وراياته لا يستطاع لها كسر يشيعها التسديد حيث تيممت ... ويتبعها التأبيد والنصر والقهر تشعشع من خمسين عاماً ضياؤه ... ولم تبق أرض ليس فيها له ذكر سقى قبر من إحياء شؤبوب رحمة ... وعم سحاب العفو من ضمه القبر فقد جاءنا يدعو إلى الدين بعدما ... عفى رسمه والأرض من نوره قفر فجادله الأحبار فيما أتي به ... من الحق والبرهان يكشفه السبر ونوظر حتى ألزم الخصم عجزه ... وصار إليه الفلج والورد والصدر فعودي بغياً واهتضاماً ونصرة ... لملة آباء عليها مضى العمر وهموا بما لم يدركوا من وقيعة ... فما ناله مما أرادوا به ضر نفته العدا لما جفته أقارب ... فآواه بل ساواه من خصه البر فجاهد حتى أطلع الله بدره ... بآل سعود حين شدوا له الأزر فهم أنجم للمهتدين وصارم ... شباه بهام المعتدين له طر لقد أحرزوا خصل الثناء وأبرزوا ... من الدين مطوياً فلاح له نشر في أبيات لا نطيل بذكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فصل: مناظرة مع علماء مكة وأما قول المعترض الملحد وناظرهم العلماء فكشف الله الستر عنهم. فالجواب أن يقال لهذا الملحد المفتري، قد كان من المعلوم عند الخاصة والعامة أن هذه المناظرة التي وقعت بين علماء مكة المشرفة وبين علماء الموحدين من المسلمين من أهل نجد أنها أشهر من نار على علم، ولم يكن ما جرى بينهم من المناظرة خفياً حتى تذكرها على سبيل الإجمال تعمية على من لم يعلم حقيقة الحال، وقد كان من المعلوم أنكم قوم بهت تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون وتموهون على الناس أن العلماء ناظروهم وكشفوا سترهم وهذا كذب وظلم وعدوان وتحكم بالباطل وهذيان، وليس معكم من الحجة والبيان إلا هذه الأماني الكاذبة التي هي في الحقيقة كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ونحن نذكر ما جرى بينهم من المناظرة من غير زيادة ولا نقصان، ولا تخرص بالهذيان، ليتبين لكل منصف تعنتكم بالباطل الذي لا يجدي، وتعلقكم بما لا ينجيكم في غدٍ بل يردي، فاعلم أن هذه المناظرة جرت ووقعت في السنة الحادية عشر بعد المائتين والألف. قال الشيخ الإمام حسين بن غنام –رحمه الله- في تاريخه روضة الأفكار وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 هذه السنة أرسل الشريف غالب رسلاً إلى عبد العزيز أصلح الله تعالى له الحال، وبلغه جميع الآمال، يطلب منه علماء من أهل الدين والتوحيد، ويزعم أنه يقصد بذلك تحقيق هذا الأمر ويريد ويحرّص على قدومهم مع من أرسله من البريدة حتى يقف على الحال عن يقين وعيان، ويحيط بعد ذلك بالعرفان، وينجلي له من المناظرة في شريف ذلك المكان، ما خفي عليه مدة أزمان، وربما تشرق له أنوار شمس البيان، ويحصل منه بعد الإباء والإصرار إذعان، وبعد النفرة عن عذب ذلك المنهل شرب وإدمان، فلما عرف أهل الإيمان، ما قصده ذلك الإنسان، وما حرص عليه من المناظرة لديه والتبيان، رغب أن يكون انقدح له من الدعوة شيء، أو نشر له من الحق طيّ، وربما يبدو من إياب وفي، بعد فرط صدود وامتناع ولي، ويقصي من شاء عن القرب لذلك الجنان، وأيضاً فالهداية والتوفيق قد يكونان في أوقات دون أوقات، ولله في دهره نفحات، كما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في بعض الروايات، وكان من حسن سيرة عبد العزيز وفطنته، وبديع هديه وسنته، وعظيم فضل الله ومنته، أنه يدعو إلى الله بالتي هي أحسن وأحكم، ويرشد العباد للتي هي أقوم، فرأى إسعافه بذلك المرام، وإسعاده واختاره أن ينيله مأموله ومراده، فعسى أن يكون له سبب للسعادة، فعند ذلك أرسل إليه من أهل الدين من يكشف عنه شبه المبطلين، ويوضح له سبيل المهتدين، وهم أناس من أهل المنير والتبيين، وحسن المحاضرة في المناظرة بالبراهين، وكبيرهم حمد بن ناصر بن معمر وكان هو المرأس عليهم والمؤمر، فجهزهم بأحسن الجهاز وأتمه، وخولهم من معروفه أعمه، فجردوا للمسير الهمة، وقطعوا تلك المهامة المدلهمة، حتى أتم الله تعالى عليهم الفضل والنعمة، وصرف عنهم البؤس والنقمة، فوصلوا بعد انضاء الأعوجيات، وارقال تلك المهريات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 في سباسب الفلاة، ومواصلة السرى في الدجنات، بلد الله الحرام، ومحلة الحج الذي هو أحد أركان الإسلام، فدخلوها معتمرين فطافوا وسعوا وأتوا بالعمرة على التمام، ونحروا الجزر التي أرسلها الأمير سعود إلى بيت مولاه في المروة التي تراق فيها دماء شعائر الله أوصل الله تعالى تعالى إليه أجر ذلك وثوابه، وإنا له على ذلك القبول وأثابه، وبلغه في الدارين مقصوده وطلابه، فقابلهم الشريف بالإقبال، وأبدى لهم طلائع الإجلال، وتلقاهم بطلاقة وجه واستهلال، وأنزلهم منزل التوقير والسلامة، ووالى عليهم حشمته وإكرامه، وأحضرهم لديه مع علمائهم ليال، وعقدوا للمناظرة مجال، وتجارت الأذهان فيه للجدال، وشرعوا سنة المقال، وراموا سنة الحق بالمحال، ولم يأتوا ولله الحمد على كل بما يثلج لهم وهج البال، من النصوص السالمة من الضعف والاعتلال، ولم يجلبوا من البراهين المؤيدة للشرك والضلال، سوى موضوعات الملحدة والضلال، وأكاذيب الزنادقة وغلاة العباد الجمال، التي أعفت منار الحنيفية وما لها من معالم وإطلال، حين جرت على مباهج مناهج محاها الأذيال، فلما تحققوا ذلك وعلموه وتيقنوا أنهم لم يجدوا في الدفع وفهموه، أجمعوا رأيهم وأحكموه في النضال على المغالطة في اللفظ اللحن في اللفظ والقال، لما تبين منهم الخذلان والإذلال، فلم يعثروا في سرد صحيح السنة القامعة لهم والألقال، على ما فيه لبس لدى مصنف وأشكال، سوى لفظه جرى اللسان فيها على اللحن في الإعراب والأشكال، فارتفع من بعضهم عند ذلك التحطيئة بالمبادرة والاعتجال، وناهيك بهذا من نقص في اللب والاختلال، وسخافة في العقل وخيال، ووسوسة من الشيطان أبرز هاله في الخيال، وحسبك له كونه في الفلج بالحجة لم يبال، ولم يبد منه فضيحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 واعتجال، مع أنهم بذلك الإلزام والفلج لم يذعنوا ويجحدونه وهم به مستيقنون، {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وصفة ما جرى منهم أنهم حضروا بيت الشريف، تجاه بيت الله المنيف، وجالت خيول الأذهان لدى غالب، والكل جرى في ذلك المضمار لإدراك المآرب فأول ما افتتحوا به التكلم والتخاطب وأجمعوا عليه في المطالب قصدر منهم البدأة والتنافس. ووقع منهم بتلك المجالس، وجرى منهم التحاور والمفاوضة والتخاطب فيه والمراوضة مسألة قتال الموحدين الناس والكشف عن وجهها حجب الالتباس. فطلب من حمد بيان الحجة والدليل، والبرهان السالم من الأعاليل والنص القاطع للاحتمال والتأويلز والقامع لسائر الأقاويل على ذلك المنهج والسبيل، فأتى لهم جزاه الله تعالى الثواب الجزيل من النص القاطع القامع لكل أذن واعية وسامع. وأصل لهم من الأصول فيها، ما يؤدي بالمراد ويكفيها وجلب من الأحاديث الصحيحة الراجحة والأدلة الباهرة اللائحة ما شفى وكفى، وصيرهم من قطع اللسان والحجة على شفا وأزاح عن محياهم القتام، ونفا فعصفت على بيت عنكبوتهم نسيم الحق فهفا، وفرق آثارهم ومنارهم بعدما هب عليهم وسفا، وأوقفهم على المنصوص فأقروا وسلموا لتلك النصوص وصدر منهم الإذعان بعد بعدما حملهم الشيطان على كون تلك لم تكن في الكتب مسطرة. ولا موصلة فيها ومقررة. وتفوهوا بحضرة الشريف بذلك حتى أوقفهم أحمد على ما هنالك، ونقل من الكتب التي عندهم ما ضعضع وجدهم، وجلب عليهم علتهم وجهدهم فوطفت جباههم من العرق لما داخلهم من الخجل والفرق فلم يكن حينئذٍ بد ولا حيلة حين قرأوا حجته ودليله، ولم يستطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 منهم إنسان على جحود ذلك البرهان، بل صدر منهم إقرار بذلك وإعلان ولم يكترثوا بما صدر قبل من الكتمان وما ابتدأوا به من الزور والبهتان فأمسوا بذلك يقرون وبمضمونه يصدقون {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ثم تفاوضوا بعد ذلك في مجالس عديدة، في دعوة الأموات فأبدى لهم من النصوص العادلة السديدة والآثار الراجحة المفيدة، والأقوال الصحيحة العديدة، ممن له الفكرة بالتحقيق من أقوال الأئمة الكبار، والاتباع المتقدمين الأخيار، ما أدهش العقول والأفكار، مما لا يسمع له إنكار، ولكنهم جحدوا وقوع ذلك في الوجود، وأنكروا أن يكون ذلك في الأقطار موجود وذلك عندهم واقع مشهود، وهم على ذلك كل ساعة شهود، والعياذ بالله تعالى عن هذه الأفكار باللسان، مع أنهم متيقنونه في الجنان، ويشاهدونه الخلق عندهم بالأعيان، فنقول سبحانك هذا بهتان، ولا بدع فيما جرى وصدر، فقد قال كبيرهم أول من حضر، وتأهب للمناظرة واتزر، وجر ذيول الخيلاء وافتخر، واختال من الكبر والأشر، اعلم أني أقول ولا أماري، ولا أخاصمك ولا أناظرك، ولا أباري، أن تأتيني بالدليل من الكتاب، أو سنة النبي التي هي خصم لكل كذاب، ولا أجاريك ولا أطالب بما قاله علماء المذاهب، سوى ما قاله به إمامي أبو حنيفة لأني مقلد له فيما قال فلا أسلم لسوى قوله من قال، ولو قلت قال رسول الله أو قال الله ذو الجلال، لأنه أعلم مني ومنك بأولئك، وأدل انتهاج تلك المسالك، والأخذ بغير أقوال الأئمة هو عين اقتحام جراثيم المهالك، فليقف العاقل على هذا المقال ويقضي منه العجب، حيث صدر من هذا المدعي للعلم مع الله سوء هذا الأدب، فيا بئس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ما اقترفه من الإثم واكتسب، لم يخف الله ولم يراقب ولم يخش سوء العواقب وحاول بذلك في الدنيا المراتب، حتى يكون من الجاه والرياسة فيها متوسط الكاهل والغارب، فلما انقضت تلك الأيام والليال، وتقضت ساعات المناظرة والجدال. طلبوا من حمد بن ناصر بن معمر. تأصيل ما برهن به واحتج به وقرر، وكتب ما سجله عليهم وسطر، فانتدب لذلك أدام الله نفعه وكثر، من الفوائد جمعه فحرر، من الكتب الذي عندهم في ذلك المكان، ما أراده من ذلك الأمر والشان يعد طلبه منهم تلك الكتب وتسميتها بالأعيان. فجمع لديهم عجالة وعجل لهم في سوحهم رسالة، أوجز مقاله وأتى فيها بما فيه كفاية في الحجة والدلالة يذعن بعد سماعها كل منصف عاقل، ويشهد بفضل قائلها كل فاضل، وتقر بصدقها وصحة مضمونها الأماثل. ولا لعبرة بمنافق أو غبي جاهل. بنى للحق المبين على أساسها صرحاً وأجاد فيها أحكمه من التحرير إيضاحاً وشرحاً. فأفاد فيما نحا، من التحير صدعاً وصدحاً، وترك مناظريه يعاينون في الجواب عنها كدحاً، فلم يدركوا من سعيهم ريحاً، بل زاد وفيما زخرفوه من الصواب بعد أو نزحا، وهي عليك مجلؤة وحججها مقروءة متلوة محيطة لوضئ حسنها النقاب، سافرة الوجه للنقاد خالية من شين الإسهاب، والإطناب، جالية دجى الرين والارتياب، ولكن عيبها سلامتها من الإعجاب. وهذا نص الرسالة المزبور، والعجالة المنقحة المسطور، وأتيت بها على تأصيلها ووضعها ولم أغير بديع منوالها وصنعها، الرسالة. بسم الله الرحمن الرحيم "المسألة الأولى" ما قولكم فيمن دعا نبياً أو ولياً أو استغاث به في تفريج الكربات، وكقوله يا رسول الله أو يا بن عباس أو يا محجوب أو غيرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 من الأولياء والصالحين. الجواب: الحمد لله وأستعينه وأستغفره وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله –صلى الله عليه وسلم، وعلى آله ومن اتبعهم بإحسان واقتفى آثارهم إلى آخر الزمان. أما بعد فإن الله تعالى قد أكمل لنا الدين، ورسوله قد بلغ البلاغ المبين، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} ، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} . وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى , وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية روى مالك في الموطأ أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله" وعن أبي الدرداء –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "ما تركت من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا شيء يقرب إلى النار إلا وقد حدثتكم به"، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ضلالة" فمن أصغى إلى كتاب الله وسنة رسوله وجد فيها الهدى والشفاء وقد ذم الله تعالى من أعرض عن كتابه ودعا عند التنازع إلى غيره. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} إذا عرفت هذا فنقول الذي شرعه لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عند زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة والإحسان إلى الميت بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية كما في صحيح مسلم عن بريدة قال كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا حرج إلى المقابر يقول: "السلام عليكم يا أهل الديار"، وفي لفظ "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية"، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" وعن عائشة –رضي الله عنها- عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه" رواه مسلم، فإذا كنا على جنازته ندعو له لا ندعوا به ونشفع له لا نستشفع به فبعد الدفن أولى وأحرى فبدل أهل الشرك قولاً غير الذي قيل لهم بدلوا الدعاء له بدعائه والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسوله الله –صلى الله عليه وسلم- إحساناً إلى الميت سؤال الميت وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة بنص رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وعن أنس –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء مخ العبادة" رواه الترمذي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ومن المحال أن يكون دعاء الموتى مشروعاً ويصرف عن القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم يوفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 له الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فهذه سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهذه طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان هل نقل عن أحدهم نقل صحيح أو حسن؟ أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها فضلاً عن أن يسألوا أصحابها جلب الفوائد وكشف الشدائد، ومعلوم أن مثل هذا مما تتوافر لهم الدواعي على نقله وقد كان من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبر ولا دعاه ولا استشفى به ولا انتصر به ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي –صلى الله عليه وسلم- من بعد موته ولا بغيره من الأنبياء ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا الصلاة عندها فإن كان عندكم في هذا أثر صحيح أو حسن فأوقفونا عليه بل الذي صح عنهم خلاف ما ذهبتم إليه، ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب استسقى الناس بالعباس وتوسل بدعائه، وقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ونحن نتوسل إليك بعم نبيك فأسقنا" فيسقون كما ثبت ذلك في صحيح البخاري ذكره في كتاب الاستسقاء من صحيحه ونحن نعلم بالضرورة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يشرع لأمته أن يدعو أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرم الله ورسوله قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ , وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ , إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً , أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . قال مجاهد: يبتغون إلى ربهم الوسيلة، هو عيسى وعزير والملائكة، وكذا قال إبراهيم النخعي قال كان ابن عباس يقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} هو عزير والمسيح والشمس والقمر. وعن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: عيسى وأمه والعزير. وعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذي كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنزلت هذه الآية، ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري، ذكره التفسير وهذه الأقوال كلها في معنى الآية حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابداً لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً وذلك المدعو يبتغي إلى ربه الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين فقد تناولته هذه الآية، ومعلوم أن المشركين يدعون الصالحين بمعنى أنهم وسائط بينهم وبين الله، ومع هذا فقد نهى الله تعالى عن دعائهم وبين أنهم لا يملكون كشف الضر من الداعين ولا تحويله ولا يدفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغير صفته أو قدره ولهذا قال {وَلا تَحْوِيلاً} فذكر لتعم أنواع التحويل من دعا نبياً من الأنبياء أو الصالحين أو دعا الملائكة أو دعا الجن، فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ولا تحويلاً وهؤلاء المشركون اليوم منهم من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلى شيخه ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه فإذا تعسر أحدهم قال يا ابن عباس أو يا محجوب، ومنهم من يحلف بالله ويكذب ويحلف بابن عباس أو غيره ويصدق ولا يكذب، فيكون المخلوق في صدره أعظم من الخالق، فإذا كان دعاء الموتى يتضمن هذا الاستهزاء بالدين وهذه المحادة لله ولكتابه، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء وبالمحادة لله من كان يدعو الموتى ويستغيث بهم أو من كان لا يدعو إلا الله وحده لا شريك، كما أمرت به به رسله ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به ونحن بحمد الله من أعظم الناس إيجاباً لرعاية جانب الرسول –صلى الله عليه وسلم- تصديقاً له فيما أخبر وطاعة له فيما أمر واعتناء بمعرفة ما بعث به واتباع ذلك دون ما خالفه عملاً بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ومعنا ولله الحمد أصلان عظيمان أحدهما: أن لا نعبد إلا الله، فلا ندعو إلا هو ولا نذبح النسك إلا لوجهه ولا نرجو إلا هو ولا نتوكل إلا عليه. الأصل الثاني: أن لا نعبده بعبادة مبتدعة وهذان الأصلان هما شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإن شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن إخلاص الإلهية فلا يتأله القلب ولا اللسان ولا الجوارح غيره تعالى لا بحب ولا بخشية ولا إجلال ولا رغبة، ولا رهبة وشهادة أن محمداً رسول الله تتضمن تصديقه في جميع فيما أخبر به وطاعته واتباعه في كل ما أمر به فما أثبته وجب إثباته وما نفاه وجب نفيه، وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" فقالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" إذا عرف هذا فالذي نعتقده وندين به الله أن دعا نبياً أو ولياً أو غيرهما وسأل منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، أن هذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا أولياء وشفعاء يستجلبون بهم المنافع ويستدفعون بهم المضار بزعمهم قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فمن جعل الأنبياء أو غيرهم كابن عباس أو المحجوب أو أبي طالب وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس بقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك أو لكونهم أقرب إلى الملك، فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك حلال الدم والمال، وقد نهص العلماء –رحمهم الله- على ذلك وحكموا عليه الإجماع قال في الإقناع وشرحه: من جعله بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر إجماعاً؛ لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي –رحمه الله تعالى- لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تنظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها وإلزامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا وأخذ تربتها تبركاً وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. انتهى. قال الإمام البكري الشافعي –رحمه الله- في تفسيره عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وكانت الكفار إذا سألوا من خلق السماوات الأرض قالوا الله فإذا سألوا عن عبادة الأصنام قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى؛ لأجل طلب شفاعتهم عند، وهذا كفر منهم. انتهى كلامه. فتأمل ما ذكره صاحب الإقناع وكذلك ما ذكره ابن عقيل من تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وهو كفر. وقال الحافظ العماد بن كثير –رحمه الله- في تفسيره عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي إنما يحملهم على عبادتهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم في أمور الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به. قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد إلا ليقربونا إلى الله زلفى؛ أي: ليشفعوا لنا ويقربونا عنده، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما لك، وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه وجاءتهم الرسول –صلوات الله وسلامه عليهم- بردها والنهي عنها والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به بل أبغضه ونهى عنه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} فأخبر أن الملائكة التي في السماوات من المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون لله لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أحبه الملوك أو أبغضوه فلا تضربوا لله الأمثال تعالى الله عن ذلك. انتهى. وقال الإمام البكري –رحمه الله- عند قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} الآية فإن قلت: إذا أقروا فكيف عبدوا الأصنام قلت كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله والتقرب إليه لكن بطرق مختلفة، ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته فعبدنا لتقربنا إليه زلفى؛ وفرقة قالت الملائكة ذو وجاهة ومنزلة عند الله فاتخذنا لنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى، وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله ولا أصابه شيطانه بنكبة بأمر الله. انتهى كلامه. فانظر إلى كلام هؤلاء الأئمة وتصريحهم بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله وتأمل ما ذكره ابن كثير وما حكاه عن زيد بن أسلم وزيد وابن زيد ثم قال: وهذه الشبهة التي اعتقد المشركون في قديم الدهر وحديثه وجاءتهم الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم- بردها والنهي عنها، وتأمل ما ذكره البكري –رحمه الله- عند آية الزمر أن الكفار ما أرادوا إلا الشفاعة ثم صرح بأن هذا كفر، فمن تأمل ما ذكره الله في كتابه تبين له أن الكفار ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله فإنهم لم يعتقدوا فيها أنها تخلق الخلائق وقال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ , سَيَقُولُونَ اللهُ} الآيتين إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر الله فيها أن المشركين معترفون أن الله هو الخالق الرازق وإنما كانوا يعبدونهم ليقربوهم ويشفعوا كما ذكره سبحانه في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فبعث الله الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يجعل معه إلهاً آخر، وأخبر أن الشفاعة كلها له وأنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه وأنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله وأنه لا يرضى إلا التوحيد، فالشفاعة مقيدة بهذه القيود قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ , قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} ، وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} ، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، وقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، وفي الصحيحين من غير وجه عتن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو سيد ولد آدم وأكرم الخلق على الله أنه قال: "آتي تحت العرش فأخر لله ساجداً ويفتح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم قال يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع قال فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أدعوا" فذكر أربع مرات –صلوات الله وسلامه عليه- وعلى سائر الأنبياء وقال الإمام البكري الشافعي –رحمه الله- عند قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} نفى الشفاعة وإن كانت واقعة في الآخرة لأنها من حيث إنها لا تقع إلا بإذنه كأنها غير موجودة من غيره وهو كذلك، لكن جعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ذلك لتبين الرتب، وجملة النفي حال من ضمير يحشروا وهي محل الخوف والمراد به المؤمنون العاصون. انتهى. وقال عند قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} دل على أن الشافعة تكون للمؤمنين فقط قال الإمام الحافظ عماد الدين بن كثير عند قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو لأنهم معترفون أنه هو الذي خلق السماوات والأرض وهو ربها ومدبرها ومع هذا فقد اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم وإنما عبد هؤلاء المشركون مع الله آلهة هم يعترفون أنها مخلوقة عبيد له كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، وكما أخبر عنهم قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فأنكر تعالى ذلك عليهم حيث اعتقدوا ذلك وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا تنفع الشافعة عنده إلا لمن أذن له، ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك وتنهاهم عن عبادة من سوى الله فكذبوهم. انتهى. والمقصود بيان شرك المشركين الذين قاتلهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فإنهم ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله وبيان أن طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد أنه من الشرك الذي كفر الله به المشركين وبيان أن الشفاعة كلها لله ليس لأحد معه من الأمر شيء وأنه لا شفاعة إلا بعد إذن الله وأنه تعالى لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله وأنه لا يرضى إلا التوحيد كما تقدمت الأدلة الدالة على ذلك ومعلوم أن أعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عند الله هم الرسل والملائكة المقربون وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وأمرهم فيأذن سبحانه لمن شاء أن يشفعوا فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له تعالى والذي شفع عنده إنما شفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته أن يرحم عبده وهذا ضد الشافعة الشركية التي أثبتها المشركون ومن وافقهم وهي التي أبطلها سبحانه في كتابه بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد كما صرحت بذلك النصوص فروى البخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"، وعن عوف بن مالك –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً" رواه الترمذي وابن ماجه فأسعد الناس بشفاعة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد وأخلصوه من التعلقات الشركية وهم الذين ارتضى الله سبحانه. قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} فأخبر سبحانه أنه لا يحصل شفاعة تنفع إلا بعد رضاه قول المشفوع له وإذنه للشافع وأما المشرك فإنه لا يرتضيه ولا يرضى قوله ولا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه، فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع وإذنه للشافع فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه فإنه هو الذي أذن والذي قبل والذي رضي عن المشفوع له والذي وفقه لفعل ما يستحق من الشفاعة، فمتخذ الشفيع مشرك لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه ومتخذ الرب إلهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وحده ومعبوده هو الذي يأذن للشافع فيه، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} إلى قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . فبين الله المتخذين شفعاء مشركون وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم وإنما تحصل بإذنه سبحانه للشافع ورضاه عن المشفوع له كما تقدم بيانه، والمقصود أن الكتاب والسنة دلا على أن من جعل الملائكة والأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب أو المحجوب وسائط بينه وبين الله يشفعون له عند الله لأجل قربتهم من الله كما يفعل عند الملوك، أنه كافر مشرك حلال الدم والمال إن قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وصلى وصام وزعم أنه مسلم، بل هم من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحبون أنهم يحسنون صنعاً، ومن تأمل القرآن العزيز وجده مصرحاً بأن المشركين الذين قاتلهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم-كلهم مقرون بأن الله هو الخالق الرازق وأن السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع، ومن فيهن كلهم عبيده وتحت قهره وتصرفه كما حكاه تعالى عنهم في سورة يونس وسورة المؤمنين وسورة العنكبوت وغيرهم من السور، وجده مصرحا بأن المشركين يدعون الصالحين كما ذكر الله تعالى ذالك عنهم في سورة سبحان والمائدة وغيرهما من السور، وكذلك أخبر عنهم أنهم يعبدون الملائكة كما ذكر ذلك عنهم في سورة الفرقان وسبأ والنجم، وجده مصرحا أيضا بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا الشفاعة والتقرب إلى الله تعالى كما ذكر عنهم في سورة يونس والزمر وغيرهما من السور، فإذا تبين لكم أن القرآن قد صرح بهذه المسائل الثلاث أعني اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية وأنهم يدعون الصالحين وأنهم ما أرادوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 منهم إلا الشفاعة، تبين لكم أن هذا الذي يفعل عند القبور من سؤالهم جلب الفوائد وكشف الشدائد أنه الشرك الأكبر كفر الله به المشركين، فإن هؤلاء المشركين شبهوا الخالق بالمخلوق؛ وفي القرآن العزيز وكلام أهل العلم من الرد على هؤلاء ما لا يتسع له هذا الموضع، فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس تكون على أحد وجوه ثلاثة إما لإخبارهم من أحوال الناس مما لا يعرفونه. ومن قال إن الله لا يعرف أحوال العباد حتى يخبره بذلك بعض الأنبياء أو غيرهم من الأولياء والصالحين فهو كافر، بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. الثاني: أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رغبته ودفع أعدائه إلا بأعوان من الذل فلا بد له من أعوان وأنصار لذله وعجزه، والله سبحانه ليس له ولي ولا ظهير من الذل، وكلما في الوجود من الأسباب فهو سبحانه ربه وخالقه، فهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم والله سبحانه ليس له شريك في الملك بل لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، ولهذا لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهما، فإن من شفع عنده بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب أثر فيه بشفاعته حتى يفعل ما يطلب منه؛ والله لا شريك له بوجه من الوجوه. الثالث: أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم إلا بمحرك يحركه من خارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه أو يعظه، أو من يدل عليه بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته، والله تعالى رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه إذا أجرى نفع العباد بعضهم على يد بعض، فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع له فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي إلى إرادة الإحسان والدعاء، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلمه، والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون عنده إلا بإذنه كما تقدم بيانه بخلاف الملوك، فإن الشافع عندهم يكون شريكا لهم في الملك، وقد يكون مظاهرا لهم معاونا لهم على ملكهم، وهم يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك والملك يقبل شفاعتهم تارة لحاجته إليهم وتارة لجزاء إحسانهم ومكافأتهم حتى انه يقبل شفاعة ولده وزوجته، لذالك فإنه محتاج إلى الزوجة والولد حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة مملوكه فإنه إذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه، ويقبل شفاعة أخيه مخافة أن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس، فلا أحد يقبل شفاعة أحد إلا لرغبة أو لرهبة والله تعالى لا يرجو أحدا ولا يخافه ولا يحتاج إلا أحد، بل هو الغني سبحانه عما سواه وكل ما سواه فقير إليه والمشركون يتخذون شفعاء مما يعبدونه من الشفاعة عند المخلوق. قال تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعَهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤلَاءِ شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللهِ} إلى قوله سبحانه وتعالى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقال تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً , أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} فأخبر سبحانه انما يدعى من دونه لا يملك كشف الضر ولا تحويله، وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 إليه، فقد نفى سبحانه ما أثبتوه من توسط الملائكة والأنبياء وفيما ذكرناه كفاية لمن هداه الله. وأما من أراد الله فتنته فلا حيلة فيه، ومن يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وأما المسألة الثانية وهي من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ولم يصل ولم يزك هل يكون مؤمناً؟ فنقول أما من قال لا إله إلا الله محمد رسول وهو مقيم على شركه يدعو الموتى ويسألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، فهذا مشرك كافر حلال الدم والمال، وإن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم كما تقدم بيانه، وأما إن وحد الله تعالى ولم يشرك به شيئا ولكن ترك الصلاة والزكاة، فإن كان جاحداً للوجوب فهو كافر إجماعاً، وأما إن أقر بالوجوب ولكنه ترك الصلاة تكاسلاً عنها، فهذا اختلف العلماء في كفره، والعلماء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة لا يجتمعوا على ضلالة، وإذاتنازعوا في شيء رد ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى الرسول، إذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال العلماء الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو إلى سنته بعد وفاته قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} وقد ذم الله من أعرض عن كتابه ودعا عند التنازع إلى غيره فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} إذا عرف هذا فنقول: اختلف العلماء –رحمهم الله- في تارك الصلاة كسلاً من غير جحود فذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ومالك إلى أنه لا يحكم بكفره، واحتجوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بما رواه عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن كان له عند عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" وذهب إمامنا أحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي والحاكم وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وغيرهم من كبار الأئمة والتابعين إلى أنه كافر، وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعاً ذكره عن الشيخ أحمد بن حجر في شرح الأربعين، وذكره في كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر عن جمهور الصحابة –رضي الله عنهم- ومن بعدهم من التابعين يكفرون تارك الصلاة مطلقاً ويحكمون عليه بالارتداد منهم أبو بكر وعمر وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة وأجابوا عن قوله –صلى الله عليه وسلم-: "من لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له"، وأن المراد عدم المحافظة عليهن في وقتهن بدليل الآيات والأحاديث الواردة فيها وفي تركها، واحتجوا على كفر تاركها بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"، وعن بريدة بن الحصيب قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" رواه الإمام أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حديث حسن صحيح إسناده على شرط مسلم، وعن ثوبان مولى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "بين العبد والكفر والإيمان الصلاة فإذا تركها فقد أشرك" وإسناده صحيح على شرط مسلم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ذكر الصلاة يوماً فقال: "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً وبرهاناً ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف" رواه الإمام أحمد وأبو حاتم بن حبان في صحيحة، وعن عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- قال: أوصانا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا تشركوا بالله شيئاً ولا تتركوا الصلاة عمداً فمن تركها عمداً خرج من الملة" رواه ابن أبي حاتم في سننه، وعن معاذ بن جبل –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله" رواه الإمام أحمد، وعن أبي الدرداء –رضي الله عنه- قال: "أوصاني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن لا أترك الصلاة متعمداً فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة" رواه ابن أبي حاتم، وعن معاذ بن جبل عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة ... الحديث" وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: "كان أصحاب محمد –صلى الله عليه وسلم- لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" رواه الترمذي، فهذه الأحاديث كما ترى صريحة في كفر تارك الصلاة مع ما تقدم من إجماع الصحابة كما حكاه إسحاق بن راهويه وابن حزم وعبد الله بن شقيق، وهو مذهب الجمهور من التابعين ومن بعدهم، ثم إن العلماء كلهم مجمعون على قتل تارك الصلاة كسلاً إلا أبا حنيفة ومحمد بن شهاب الزهري وداود فإنهم قالوا: يحبس تارك الصلاة المفروضة حتى يموت أو يتوب، ومن احتج لهذا القول بقوله –صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فقد أبعد النجعة، فإن هذا الحديث لا حجة فيه، بل هو حجة لمن يقول بقتله كما سيأتي بيانه إن شاء الله واحتج الجمهور على قتله بالكتاب والسنة، أما الكتاب قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فشرط الكف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 التوبة من الشرك وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإذا لم توجد الصلاة لم يكف عن قتالهم؛ قال ابن ماجه حدثنا نصر بن علي، حدثنا أبو حاتم، حدثنا الربيع بن أنس، عن أنس –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض" قال أنس وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل {فَإِنْ تَابُوا} قال خلع الأوثان وعبادتها {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} و {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} وقال في آية أخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وأما السنة فثبت في الصحيحين عن ابن عمر –رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فعلق العصمة على الشهادتين والصلاة والزكاة وقد بعث النبي –صلى الله عليه وسلم- كتاباً فيه: "من محمد رسول الله إلى أهل عمان أما بعد: فأقروا بشهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله والزكاة وخطوا المساجد وإلا غزوتكم" خرجه الطبراني والبزار وغيرهما ذكره الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح الأربعين، وروى ابن شهاب عن حنظلة عن علي بن الأشجع أن أبا بكر الصديق –رضي الله عنه- بعث خالد بن الوليد وأمره أن يقاتل الناس على خمس، فمن ترك واحدة منهن قاتله عليها كما تقتل على الخمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. وقال سعيد بن جبير: قال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- لو أن الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 تركوا الحج قاتلناهم على تركه كما نقاتل على الصلاة والزكاة، وبالجملة فالكتاب والسنة دالان على أن القتال ممدود إلى الشهادتين والصلاة والزكاة، وقد أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة من شريعة من شرائع الإسلام فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله كالمحاربين وأولى. انتهى. وأما حديث أبي هريرة عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فهذا الإشكال فيه بحمد الله، وليس لكم فيه حجة، بل هو حجة عليكم، قال علماؤنا –رحمهم الله- إذا قال الكافر لا إله إلا الله فقد شرع في العاصم له فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت ويكون النبي –صلى الله عليه وسلم- قد قال حديثاً في وقت فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كف عنه وصار ماله ودمه معصوماً، ثم بين النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين، فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" فبين أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك، ولأن لا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام كما وقعت لبعض الصحابة حتى جلاها أبو بكر الصديق –رضي الله عنه-، ثم وافقوه –رضي الله عنهم-. انتهى. ومما يبين فساد قولكم وخطأ فهمكم في معنى حديث أبي هريرة أن الصحابة –رضي الله عنهم- أجمعوا على قتال مانعي الزكاة بعد مناظرة حصلت بين أبي بكر الصديق وعمر –رضي الله عنهما-، واستدل على أبي كب بحديث أبي هريرة، فبين صديق الأمة –رضي الله عنه- أن الحديث حجة على قتال من منع الزكاة فوافقه عمر وسائر الصحابة وقاتلوا مانعي الزكاة وهم يشهدون أن لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلون، ونحن نسوق الحديث ثم نذكر كلام العلماء عليه ليتبين لكم أن فهمكم الفاسد لم يقل به أحد من العماء وأنه فهم مشوم مذموم مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة. فنقول ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: لما توفي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فقال أبو بكر: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق للمال، فوالله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لأقاتلهم على منعه، قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق، وهذا الحديث خرجه البخاري في كتاب الزكاة ومسلم في كتاب الإيمان وهو من أعظم الأدلة على فساد قولكم، فغن الصديق –رضي الله عنه- جعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد تكلم النووي –رحمه الله تعالى- في شرح صحيح مسلم، فقال: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم- وأن من قال ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله تعالى، وقتال من منع الزكاة أو غيرها من حقوق الإسلام واهتمام الإمام بشرائع الإسلام، ثم ساق الحديث ثم قال: قال الخطابي في شرح هذا الكلام كلام حسن لا بد من ذكره لما فيه من الفوائد قال –رحمه الله-: مما يجب تقديمه في هذا أن يعلم أن أهل الردة كانوا إذ ذاك صنفين صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر هم، وهم الذين عنى أبو هريرة بقوله من كفر من العرب والصنف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الآخر فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر –رضي الله عنه- فراجع أبا بكر –رضي الله عنه- وناظره واحتج عليه بقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم نفسه وماله" وأن هذا كان من عمر تعلقاً بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره ويتأمل في شرائطه، فقال أبو بكر: الزكاة حق المال يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم ثم قايسه بالصلاة وردوا الزكاة إليها وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعاً من الصحابة –رضي الله عنهم-، ولذلك ردوا المختلف فيه إلى المتفق عليه، فلما استقر عندهم صحة رأي أبي بكر –رضي الله عنه- وبان لعمر صوابه تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، عرفت أنه الحق، يريد انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها والبرهان للقتال، عرفت أنه الحق، يريد انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها والبرهان الذي أقامه نصاً ودلالة. انتهى. فتأمل هذا الباب الذي ذكره النووي –رحمه الله تعالى- وهو إمام الشافعية على الإطلاق تجده صريحاً في رد شبهتكم أن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله يباح دمه وماله، وأن ترك الصلاة والزكاة فالترجمة نفسها صريحة في قولكم، فإنه صرح بالأمر بالقتال على ترك الصلاة، ومنع الزكاة، وتأمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ما ذكره الخطابي أن الذين منعوا الزكاة منهم من كان يسمح بها ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم كبني يربوع فإنهم أرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وأنه عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر في هؤلاء، ثم أن غمر وافق أبا بكر على قتالهم، وتأمل قوله واحتج عمر بقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وكان هذا من عمر تعلقاً بظاهر الكلام قبل أن ينظر إلى آخره ويتأمل شرائطه، وتأمل قوله: إن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعاً من الصحابة، وقد أشار الخطابي إلى أن حديث أبي هريرة مختصر. قال النووي –رحمه الله- قال الخطابي: ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر أن عبد الله بن عمر وأنس –رضي الله تعالى عنهما- روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة ففي حديث ابن عمر عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وفي رواية أنس "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" انتهى. قلت: وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب من طريق أبي هريرة وروايته أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا قالوا ذلكط عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"، وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر –رضي الله عنهما-، دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 هؤلاء الثلاثة سمعوا الزيادة في رواياتهم في مجلس آخر، فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف ولما احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليهم، ولو سمع أبي بكر هذه الزيادة لاحتج بها ولما احتج بالقياس والعموم، والله أعمل. انتهى كلام النووي. فتأمل ما ذكره عن الخطابي تجده صريحاً في رد قولكم، وتأمل قوله فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف ولما احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليهم، وبالجملة فحديث أبي هريرة حجة عليكم لا لكم ولو لم يكن فيه إلا قوله إلا بحقها لكان كافياً في بطلان شبهتكم، فإن الصلاة والزكاة من أعظم حقوق لا إله إلا الله، بل هما أعظمهما على الإطلاق، ومما يدل على بطلان قولكم وفساد فهمكم في معنى هذا الحديث، أعني حديث أبي هريرة "أمرت أن أقاتل حتى يقولوا لا إله إلا الله" أن جميع الشراح والمحشين لم يؤولوه على هذا التأويل الذي ذهبتم إليه، فإنه حديث صحيح مخرج في الصحاح وهؤلاء شراح البخاري ومحشوه نحو أربعين كما نبه عليه القسطلاني في خطبة شرح البخاري، وكذا شراح مسلم هل أحد منهم استدل به على ترك قتال من ترك الفرائض، بل الذي ذكروه خلاف ما ذهبتم إليه ولم يكن إلا احتجاج عمر به على أبي بكر ثم موافقته لأبي بكر على قتال مانعي الزكاة لكان كافياً ونحن نذكر لكم كلام الشراح عذراً ونذراً، قال النووي –رحمه الله تعالى- قوله –صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله تعالى". قال الخطابي: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف، قال: ومعنى حسابه على الله تعالى فيما يسرونه ويخفونه قال: ففيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 يقبل إسلامه أي في الظاهر، وهذا قول أكثر العلماء، وذهب مالك أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكي ذلك عن أحمد بن حنبل، هذا كلام الخطابي، وذكره القاضي عياض –رحمه الله تعالى- معنى هذا وزاد عليه وأوضحه، فقال: اختصاص عصمة المال والنفس ممن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركوا العرب وأهل الأوثان من لا يوحدون وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقربا بالتوحيد فلا يكفي في عصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، فلذلك في الحديث الآخر "وإني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة" هذا كلام القاضي، قلت ولا بد من الإيمان بما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به" انتهى كلام النووي. فتأمل ما ذكره الخطابي وما ذكره القاضي عياض أن المراد بقول لا إله إلا الله التعبير عن الجائه إلى الإيمان واستدل بذلك الحديث الآخر الذي فيه: "وإني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة" وتأمل قوله أن المراد بحديث أبي هريرة مشركو العرب وغيرهم ممن لا يوحدون، وأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقول "لا إله إلا الله" إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، وتأمل قول النووي ولا بد من الإيمان بما جاء به رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وبالجملة فقوله –صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" لم نعلم أحداً من أهل العلم أجراه على ظاهره، وقال إن من قال لا إله إلا الله يكف عنه ولا يجوز قتاله وأن ترك الصلاة ومنع الزكاة، هذا لم يقل به أحد من العلماء، ولازم قولكم إن اليهود لا يجوز قتالهم لأنهم يقولون لا إله إلا الله، وأن الصحابة مخطئون في قتالهم مانعي الزكاة لأنهم يقولون لا إله إلا الله، سبحان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الله ما أعظم هذا الجهل: كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون، ومن العجب أنكم تقرؤون في صحيح البخاري هذا الباب في كتاب الإيمان حيث قال: باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . حدثنا عبد الله بن محمد السندي قال: حدثنا شعبة عن وافد بن محمد سمعت أبي يحدث عن ابن عمر –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ويشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى" ثم بعد ذلك هذه الآية والحديث الذي ذكره البخاري وبأي شيء تدفعون به هذه الأدلة؟ وقال الإمام أبو عيسى الترمذي في سننه باب أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله: حدثنا هناد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ويشهدوا أن لا إله إلا الله" الحديث ثم أردفه بحدث أبي هريرة في قتال أبي بكر لمانعي الزكاة وساق الحديث بتمامه ثم قال: باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة، حدثنا بعد بن يعقوب الطالقاني أن ابن المبارك قال: أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ويشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وليستقبلوا قبلتنا ويأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماءهم وأموالهم إلا بحقها ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"، وفي الباب عن معاذ بن جبل وأبي هريرة هذا حديث حسن صحيح. والمقصود بيان فساد هذه الشبهة التي زيفها من يدعي أنه من العلماء على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الجهلة من الناس أن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو مسلم لا يجوز قتله ولو ترك فرائض الإسلام، وهذا كلام الله؛ وهذا كلام رسوله وهذا كلام العلماء صريحاً في رد هذه الشبهة، بل قد دلّ الكتاب والسنة والإجماع على أن الطائفة الممتنعة تقاتل على ترك الصلاة ومنع الزكاة وإن أقروا بالوجوب كما تقدمت النصوص الدالة على ذلك، بل قد صرح العلماء أن أهل البلد إذا تركوا الأذان والإقامة يقاتلون كما يأتي، وصرحوا أيضاً بأنهم لو تركوا إقامة صلاة الجماعة يقاتلون، وكذلك لو تركوا صلاة العيد، وعلماء حرم الله الشريف يقولون: من قال لا إله إلا الله فقد عصم ماله ونفسه وإن لم يصل ولم يزك. فسبحان مقلب القلوب والأبصار، وهل هذا إلا معارضة لكلام الله ورسوله وكلام أئمة المذاهب؟ وهذا كلامهم موجود في كتبهم يصرحون بأن من ترك الصلاة قتل وأن الطائفة الممتنعة من الصلاة والزكاة والحج تقاتل حتى يكون الدين كله لله ويحكون عليه الإجماع كما صرح بذلك أئمة الحنابلة في كتبهم فإذا كانوا يصرحون أن من ترك بعض شعائر الإسلام كأهل القرية إذا تركون الأذان أو تركوا صلاة الجماعة أو تركوا صلاة العيد فإنهم يقاتلون، فكيف بمن ترك الصلاة رأساً؟ وهؤلاء يقولون: من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد عصم نفسه ودمه وإن كانوا طائفة ممتنعين من فعل الصلاة والزكاة، بل لا يؤذنون ولا يصلون ولا يزكون، بل الظاهر عندهم أنهم كافرون بالشرائع وينكرون البعث بعد الموت سبحان الله ما أعظم هذا الجهل؛ وقد ذكرنا من كلام الله وكلام رسوله وكلام شراح الأحاديث ما فيه الهدى لمن هداه الله وبينا أن العصمة شرطها التوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فمن لم يأت بهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الثلاث لم يكف عنه ولم يخل سبيله وقد قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله". وأما كلام الفقهاء في كتبهم فنذكره على التفصيل، أما كلام المالكية، فقال الشيخ على الأجهوري في شرح المختصر: من ترك فرضاً أخر لبقاء ركعة بسجدتها من الضروري وقتل بالسيف حداً على المشهور، وقال ابن حبيب وجماعة خارج المذهب: كافر واختاره ابن عبد السلام. انتهى. وقال في فصل الأذان: قال المازري في الأذان معنيان: "أحدهما" إظهار الشعائر والتعريف بأن الدار دار إسلام وهو فرض كفاية يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه إن عجز عن قهرهم على إقامته إلا بالقتال. والثاني: الدعاء للصلاة والإعلام بوقتها. وقال الآبي في شرح مسلم والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إن لم يسمع الأذان أغار وإلا أمسك. وقول المصنف يقاتلون عليه ليس القتال من خصائص القول بالوجوب لأنه نص عن عياض في قول المصنف والوتر غير واجب إلا أنهم اختلفوا في التمالي على ترك السنن هل يقاتلون عليها؟ والصحيح قتالهم وإكراههم لأن في التمالي على تركها إماتتها. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وقال في فصل صلاة الجمعة قال ابن رشد صلاة الجماعة مستحبة للرجل في نفسه فرض كفاية في الجملة، ويعني بقوله في الجملة أنها فرض كفاية على أهل المصر ولو تركوها قوتلوا كما تقدم. انتهى. وعبارة غيره وإن تركها أهل بلد قوتلوا وأهل دار أجبروا عليها. انتهى كلام الشيخ –رحمه الله- على الأجهوري، فانظر تصريحهم أن تارك الصلاة يقتل باتفاق أصحاب مالك وإنما اختلفوا في كفره، وأن ابن حبيب وابن عبد السلام اختاروا أنه يقتل كافراً وتأمل كلامهم في الطائفة الممتنعة عن الأذان وعن إقامة الجماعة في المساجد أنهم يقاتلون، فأين هذا من قولكم إن من ترك الفرائض مع الإقرار بوجوبها لا يحل قتالهم؟ لأنهم يقولون لا إله إلا الله، وأما كلام الشافعية فقال الإمام العلامة أحمد بن حمدان الأذرعي –رحمه الله- في كتاب "قوت المحتاج في شرح المنهاج" من ترك الصلاة جاحداً وجوبها كفر إجماعاً، وذلك جارياً في كل جحود مجمع عليه معلوم من الدين ضرورة، فإن تركها كسلاً قتل جداً على الصحيح المشهور، أما قتله فلأن الله تعالى أمر بقتل المشركين ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فدل على أن القتل لا يرفع إلا بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولما في الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" ثم قال إشارات منه قتله ردة ووجد لشرذمة منهم منصور التميمي وابن خزيمة، وقضية كلام الرونق أنه كلام منصوص حيث قال: وإذا قتل ففي ماله ودفنه بين المسلمين قولان: أحدهما ما رواه الربيع عن الشافعي أن ماله يكون فيئاً ولا يدفن بين المسلمين، والثاني ما رواه المازني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 عن الشافعي أن ماله لورثته ويدفن في مقابر المسلمين وقال في المستعمل سألت الربيع ما يصنع بماله إذا قتله؟ قال يكون فيئاً ومنها قول في الروضة تارك الوضوء يقتل على الصحيح جزم به الشيخ أبو حامد، وفي البيان لو صلى عرياناً مع القدرة للستر أو الفريضة قاعداً بلا عذر قتل، وكذلك لو ترك التشهد أو الاعتدال حكاه ابن الأستاذ عن البحر فإن صح طرد في سائر الأركان والشروط، ويجب أنيكون لمحله فيما أجمع عليه، ومنها لوم امتنع عن الصوم والزكاة وحبس ومنع من المفطرات، وقال إمام الحرمين يجوز أن يجعل الممتنع مما يضيق عليه كالممتنع من الصلاة يجبر عليه فإن أبى ضربت عنقه، قال المصنف والصحيح قتله بصلاة واحدة بشرط إخراجها عن وقت الضرورة. انتهى كلام الأذرعي، فانظر في قتل من ترك الصلاة كسلاً وأن الربيع روى عن الشافعي أن ماله يكون فيئاً ولا يدفن في مقابر، وتأمل كلام أبي حامد وكلام صاحب الروضة في قتل تارك الوضوء وكلام صاحب البيان فيمن صلى عرياناً مع القدرة على السترة أو صلى الفريضة قاعداً بلا عذر أنه يقتل فأين هذا من قولكم أن من قال لا إله إلا الله كف عنه ولا يجوز قتاله بوجه من الوجوه؟ وقال الشيخ أحمد بن حجر الهيثمي في التحفة في باب حكم تارك الصلاة أن ترك الصلاة جاحداً وجوبها كفر بالإجماع، أو تركها كسلاً مع اعتقاده وجوبها قتل لآية {فَإِنْ تَابُوا} وخبر "أمرت أن أقاتل الناس" لأنهما شرطان وفي الكف عن القتل والمقاتلة الإسلام وإيتاء الزكاة لأن الزكاة يمكن الإمام أخذها ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا وقاتلوا، فكانت فيها على حقيقتها بخلافها في الصلاة، فإنه لا يمكن فعلها بالمقاتلة، وقال في باب صلاة الجماعة: وقيل هي فرض للرجل فيجب بحيث لا يظهر بها الشعار في ذلك المحل ببادية أو غيرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وإن لم يظهر الشعار بأن امتنعوا كلهم أو بعضهم كأهل محل من قرية كبيرة ولم يظهر الشعار إلا بهم قوتلوا يقاتلهم الإمام لإظهار هذه الشريعة الكبيرة وقال في باب الأذان: والإقامة سنة وقيل فرض كفاية فيقاتل أهل بلد تركوها أو أحدهما بحيث لم يظهر الشعائر، وفي باب صلاة العيدين، هي سنة وقيل هي فرض كفاية فعليه يقاتل أهل بلد تركوها. انتهى كلامه في التحفة. فانظر إلى كلامه في قتل تارك الصلاة كسلاً، وتأمل قوله إن الآية والحديث شرطان في الكف عن القتل والمقاتلة في الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن الإمام يأخذ الزكاة ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا، بل كلامه في الأذان والإقامة وأن الإمام يقاتل على تركهما وعلى ترك أحدهما على القول بأنهما فرض كفاية، وتأمل كلامه في الطائفة إذا امتنعوا من صلاة العيدين، فأين هذا من كلام من يقول إن أهل البلد والبوادي إذا قالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله لم يجز قتالهم وإن لم يصلوا ولم يزكوا؟ فسبحان الله ما أعظم هذا الجهل، وأما كلام الحنابلة فقال في الإقناع وشرحه في كتاب الصلاة من جحد وجوبها كفر، فإن تركها تهاوناً وتكاسلاً لا جحوداً يهدد، فإن أبى أن يصليها حتى تضايق وقت الذي بعدها وجب قتله لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فمتى ترك الصلاة لم يأت بشرط التخلية فيبقى على إباحة القتل، ولقوله –صلى الله عليه وسلم- لمن ترك الصلاة متعمداً، فمتى ترك الصلاة لم يأت بشرط التخلية فيبقى على إباحة القتل، ولقوله –عليه السلام: "من ترك الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله" رواه الإمام أحمد عن مكحول وهو مرسل جيد، ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام كالمرتد نصاً فإن تاب بفعلها وإلا قتل بضرب عنقه، لما روى جابر عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بين الرجل وبين الكفر وترك الصلاة" رواه مسلم، وروى بريدة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "من تركها فقد كفر" رواه الخمسة وصححه الترمذي. انتهى. وفي باب الأذان والإقامة فغن تركهما أي الأذان والإقامة أهل بلد قوتلوا أي: قاتلهم الإمام أو نائبه حتى يفعلوها لأنهما من أعلام الدين الظاهرة, فيقاتلوا على تركهما كسلاً كصلاة العيد، وقال –رحمه الله- في باب صلاة الجماعة وهي واجبة وجوب عين فيقاتل تاركها وإن أقامها غيره لأن وجوبها على الأعيان بخلافه، وقال في باب صلاة العيدين: وهي فرض كفاية إن تركها أهل بلد يبلغون الأربعين بلا عذر قاتلهم الإمام كالأذان فإنه من شعائر الإسلام الظاهرة وفي تركهما تهاون بالدين. وقال في باب إخراج الزكاة. ومن منعهما؛ أي: الزكاة بخلاً بهما وتهاوناً أخذت منه قهراً كدين الآدمي وإن غيب ماله أو كتمه وأمكن أخذها بأن كان في قبضة الإمام أخذت منه من غير زيادة وإن لم يمكن أخذها استتيب ثلاثة أيام وجوباً فإن تاب وأخرج كف عنه وإلا قتل لاتفاق الصحابة على قتال مانعهما. وإن لم يكن أخذها إلا بالقتل وجب على الإمام قتاله وإن وضعهما موضعهما. انتهى كلامه في الإقناع وشرحه. فتأمل كلامه فيمن ترك الصلاة كسلاً من غير جحود أنه يستتاب فإن وإلا قتل كافراً مرتداً، وتأمل كلامه في أهل البلدان إذا تركوا الأذان والإقامة أو صلاة العيد أنهم يقاتلون بمجرد ترك ذلك، فهذا كلام المالكية، وهذا كلام الشافعية، وهذا كلام الحنابلة، الكل منهم قد صرح بما ذكرناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فإذا كانوا مصرحين بقتال من التزم شرائع الإسلام إلا أنهم تركوا الأذان وتركوا صلاة الجماعة وتركوا صلاة العيد فكيف بمن ترك الصلاة رأساً كالبوادي؟ ولا يزكون ولا يصومون، بل ينكرون الشرائع وينكرون البعث بعد الموت هذا هو الغالب عليهم إلا من شاء الله وهم القليل، وإلا فأكثرهم ليس معهم من الإسلام إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله، ومع هذا يجادل علماء مكة ويقولون إنهم مسلمون، وأن دماءهم وأموالهم حرام بحرمة الإسلام وإن لم يصلوا ولم يزكوا ولم يصوموا لأنهم لا يقولون لا إله إلا الله، وهل هذا إلا رد على الله؟ حيث يقول: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وهؤلاء يقولون يخلى سبيلهم وإن لم يصلوا ولم يزكوا، وفي الصحيحين عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام" وهؤلاء يقولون من قال لا إله إلا الله فقد عصم دمه وماله وإن لم يصل ولم يزك كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون، فهذا كتاب الله وسنة رسوله، وهذا إجماع الصحابة على قتل من ترك الصلاة أو منع الزكاة، قال صديق الأمة أبو بكر –رضي الله عنه-: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-" وفي رواية "عناقاً لقاتلتهم على منعها" وهذا إجماع العلماء. قال في شرح الإقناع: أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة من شريعة من شرائع الإسلام، فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة كالمحاربين وأولى. انتهى. قال أبو العباس –رحمه الله تعالى-: القتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب، فأي طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضة أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا والميسر أو نكاح ذوات المحارم أو من التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها التي لا يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء، وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر والأذان والإقامة عند من لا يقول بوجوبها ونحو ذلك من الشعائر فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركهما أم لا؟ فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها. انتهى. فتأمل كلام الحنابلة وتصريحه بأن من امتنع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة كالصلوات الخمس أو الصيام أو الزكاة أو الحج أو ترك المحرمات كالزنا أو شرب الخمر أو المسكرات أو غير ذلك فإنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك حتى يكون الدين كله لله ويلتزموا جميع شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائع الإسلام، وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف من الصحابة فمن بعدهم، فأين هذا من قولكم إن من قال لا إله إلا الله فقد عصم ماله ودمه وأن ترك الفرائض وارتكب المحرمات؟ بل من تأمل سيرة النبي –صلى الله عليه وسلم- وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، عرف أن قولكم هذا مضاد لما فعله النبي –صلى الله عليه وسلم- وما فعله الخلفاء الراشدون من بعده، فيا سبحان الله! ما علمتم أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قاتل اليهود وهم يقولون لا إله إلا الله، وسبى نساءهم واستحل دماءهم وأموالهم، أما علمتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أراد أن يغزو بني المصطلق عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} أما علمتم أن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- حرّق الغالية مع أنهم يقولون لا إله إلا الله، أما علمتم أن الصحابة قاتلوا الخوارج بأمر نبيهم –صلى الله عليه وسلم-، مع أنه –صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم وقراءتهم مع قراءتهم، وقال: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" أما علمتم أن الصحابة قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويؤذنون ويصلون، أما علمتم أن الصحابة قاتلوا بني يربوع لما منعوا الزكاة مع أنهم مقرون بوجوبها، وكانوا قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة، وفي أمر هؤلاء عرضت الشبهة لعمر –رضي الله عنه- حتى جلاها الصديق أبو بكرن وقال والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لقاتلهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق وقد تقدم ذلك مبسوطاً، وذكرنا لفظه في شرح مسلم في باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. أما علمتم أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعث البراء إلى رجل تزوج امرأة أبيه، حدثنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا حفص بن غياث عن أشعث عن عدي بن ثابت عن البراء –رضي الله عنه- قاتل: مر بي خالي أبو بردة ومعه لواء، فقلت إلى أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه حديث حسن غريب. انتهى. ولو تتبعنا الآيات والأحاديث والآثار وكلام العلماء في قتال من قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لا إله إلا الله وترك بعض حقوقها لطال الكلام جداً فكيف بمن ترك الإسلام كله؟ وكذب واستهزأ على عمد ألا إنهم يقولون لا إله إلا الله كهؤلاء البوادي، وفما ذكرناه كفاية لمن طلب الإنصاف، فقد ذكرنا الأدلة من كلام الله وكلام رسوله وإجماع الصحابة وإجماع أهل العلم بعدهم فإن كان هذا الذي ذكرنا له معنى آخر ما فهمناه بينوه لنا من كلام الله وكلام رسوله وكلام العلماء، ورحم الله امرأً نظر لنفسه وعرف أنه ملاق الله الذي عنده الجنة والنار. وأما المسألة الثالثة وهي مسألة البناء على القبور فنقول ثبت في الصحيح والسنن عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن البناء وأمر بهدمه كما رواه مسلم في صحيحه، حيث قال: حدثنا يحيى، حدثنا وكيع بن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي ليلى عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن ابن الزبير عن جابر –رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه، وقال أيضاً حدثنا هارون الأيلي قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا عمر بن الحارث أن ثمامة بن شفي حدثه قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره يسوى ثم قال سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها، وقال الترمذي باب ما جاء في تسوية القبور، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل أن علياً –رضي الله عنه- قال لأبي الهياج الأسدي ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن لا تدع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته قال وفي الباب عن جابر، وقال ابن ماجه: باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها، حدثنا أزهر بن مروان قال: حدثنا عبد الرزاق عن أيوب، عن أبي الزبير عن جابر قال: نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن تجصيص القبور، حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر، قال: نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يكتب على القبر شيء، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدثنا وهب، حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن القاسم بان مخيمرة عن أبي سعيد عن النبي –صلى الله عليه وسلم- نهى أن يبنى على القبر. قال النووي –رحمه الله- في شرح مسلم قال الشافعي في الأم رأيت الأئمة في مكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويؤيد الهدم قوله ولا قبراً مشرفاً إلا سويته، وقال الأذرعي –رحمه الله تعالى- في قوت المحتاج ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره النهي عن الكتابة، قال القاضي: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها، والوصية عليها باطلة، قاله الأذرعي، ولا يبعد الجزم بالتحريم في ملكه وغيره من غير حاجة على من علم النهي بل هو القياس الحق؛ والوجه في البناء على القبور المباهاة ومضاهاة الجبابرة والكفار، والتحريم يثبت بدون ذلك، وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة وإنفاق الأموال الكثيرة عليه فلا ريب في تحريمه، والعجب كل العجب! ممن يلزم بذلك الورثة من حكام العصر ويعمل الوصية بذلك. انتهى كلام الأذرعي –رحمه الله-، ومن جمع بين سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما أنتم عليه من فعلكم مع قبر أبي طالب والمحجوب وغيرهما، وجد أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 البناء على القبور كما تقدم ذكره، وانتم تبنون عليها القباب العظيمة والذي رأيته في المعلاة أكثر من عشرين قبة، ونهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يزاد عليها غير ترابها، وأنتم تزيدون عليها غير التراب التابوت الذي عليه لباس الجوخ وما فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص، وقد روى أبو داود من حديث جابر أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه، أو يزاد عليه، ونهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن الكتابة عليها كما تقدم من صحيح مسلم، وقال أبو عيسى الترمذي، باب ما جاء في التجصيص والكتابة عليها، حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، أخبرنا محمد بن ربيعة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها، وإن توطأ. هذا حديث حسن صحيح، وهذه القبور عندكم مكتوب عليها القرآن والأشعار، وقال أبو داود: باب البناء على القبر، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرني ابن جريج قال: حدثني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- "نهى أن يقعد على القبر وأن يجصص وأن يبنى عليه". انتهى، ولعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أسرجها، والذي رأيته ليلة دخولنا مكة شرفها الله تعالى في المقبرة أكثر من مائة قنديل، هذا مع علمكم أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لعن فاعله، فقد روى ابن عباس عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "لعن الله زورات القبور والمتخذين عليها السرج" رواه أهل السنن، وأعظم من هذا كله وأشد تحريماً الشرك الذي يفعل عندها هو ودعوة القبور وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، لكن تقولون لنا أن هذا لا يفعل عندها وليس عندنا أحد يدعوها ويسألها، ونقول اللهم اجعل ما ذكروا حقاً وصدقاً نسأل الله أن يطهر حرمه من الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ولا ريب أن دعاء الموتى وسؤالهم جلب الفوائد وكشف الشدائد أنه من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين كما تقدم بيانه في المسألة الأولى، وقد قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} ، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} الآية، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} إلى آخره، وقد روى الترمذي عن أنس أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "الدعاء مخ العبادة" وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} رواه أحمد وأبو داود والترمذي، قال العلقمي في شرح الجامع الصغير حديث الدعاء مخ العبادة قال شيخنا في النهاية مخ الشيء خالصه وإنما كان مخها لأمرين أحدهما: أنه امتثالاً لأمر الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فهو محض العبادة، وخالصها، والثاني: إذا رأى نجاح الأمور من الله تعالى قطع عمله عما سواه ودعاه لحاجته وحده، وهذا هو أصل العبادة ولأن الغرض من الثواب عليها وهذا هو المطلوب من الدعاء، وقوله "الدعاء هو العبادة" قال شيخنا قال الطيالسي أتى بالخبر المعرف باللام ليدل على الحصر وأن العبادة ليست غير الدعاء، وقال شيخنا قال البيضاوي: لما حكم أن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة من حيث إن فاعلها مقبل على الله معرض عمن سواه ولا يرجو ولا يخاف إلا منه واستدل عليه بالآية يعني قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فإنها تدل على مأمور به إذا أتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 به المكلف قبل منه لا محالة وترتب منه المقصود ترتب الجزاء على الشرط والسبب على المسبب، وما كان كذلك كان أتم العبادة وأكملها. انتهى كلام العلقمي –رحمه الله تعالى-. وليكن هذا آخر الكلام على هذه المسائل الثلاث فإن وافقتمونا على أن هذا هو الحق فهو المطلوب وإن زعمتم أن الحق خلافه فأجيبونا بعلم بالكتاب والسنة فإنهما بين الناس فيما تنازعوا فيه كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وقد ذكرنا لكم الأدلة من الكتاب والسنة وكلام الأئمة فإذا أجبتم على هذه المسائل الثلاث أجبناكم عن بقية المسائل إن شاء الله تعالى، ولنختم الكلام بقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ , الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} والحمد لله أولاً وآخراً كما يحب ربنا ويرضى وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. وأما قوله: وسلط عليهم إبراهيم باشا المصري فكاد يفنيهم ويقطع دابرهم لكن لله إرادة في بقاء جرثومة من هذه الطائفة في بلاد نجد، فالجواب أن يقال: نعم قد الله المسلمين بهذه الطائفة المصرية لما لله في ذلك من الحكمة، ومن ذلك قوله تعالى: {الم , أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ , وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وقال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ , وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ , أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} والآيات في هذا المعنى كثيرة وأما تسلط أعداء الله ورسوله على المسلمين فلأسباب أحدها: ما تقدم بيانه والثاني ما ذكره شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن في مقاماته فقال –رحمه الله تعالى-: وأما الدولة التركية المصرية فابتلى الله بهم المسلمين لما ردوا حاج الشامي عن الحج بسبب أمور كانوا يفعلونها في المشاعر، فطلبوا منهم أن يتركوها وأن يقيموا الصلاة جماعة، فما حصل ذلك فردهم سعود –رحمه الله تعالى تديناً فغضبت تلك الدول التركية وجرى عندهم أمور يطول عدها ولا فائدة في ذكرها فأمروا محمد علي صاحب مصر أن يسير إليهم بعسكره وبكل ما يقدر عليه من القوة والكيد، فبلغ سعوداً ذلك فأمر ابنه عبد الله أن يسير لقتالهم وأمرهم أن ينزل دون المدينة؛ فاجتمعت عساكر الحجاز على عثمان بن عبد الرحمن المضايفي وأهل بيشة وقحطان وجميع العربان فنزلوا بالجديدة. فاختار عبد الله بن سعود القدوم عليهم والاجتماع بهم وذلك أن العسكر المصري في ينبع فاجتمع المسلمين في بلد حرب وحفروا في مضيق الوادي خندقاً وعبأوا الجموع فصار في الخندق من المسلمين أهل نجد وصار عثمان ومن معه من أهل الحجاز في الجبل فوق الخندق فحين نزل العسكر أرزت خيولهم وعلموا أنه لا طريق لها إلى المسلمين فأخذوا يضربون بالقبوس فدفع الله شر تلك القبوس الهائلة عن المسلمين أن رفعوها مرت ولا ضرت وأن خفضوها اندفنت في التراب فهذه عبرة وذلك من أعظم ما معهم من الكيد أبطله الله في الحال ثم مشوا على عثمان ومن معه في الجبل فتركهم حتى قربوا منه فرموهم بما احتسبوهم به وما أعدوه لهم حين أقبلوا عليهم؛ فما أخطأ لهم بندق.؟ فقتلوا العسكر قتلاً ذريعاً؛ وهذه أيضاً من العبر لأن العسكر الذين جاءهم أكثر منهم بأضعاف؛ ومع كل واحد من الفرود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 والمزندات فما أصابوا رجلاً من المسلمين؛ وصار القتل فهم. وهذه أيضاً عبرة عظيمة؛ هذا كله وأنا شاهده، ثم مالوا إلى الجانب الأيمن من الجبال بجميع عسكرهم من الرجال وأما الخيل فليس لها فيه مجال فانهزم كل من من كان على الجبل من أهل بيشة قحطان وسائر العربان أيضاً عبرة عظيمة؛ هذا كله وأنا شاهده، ثم مالوا إلى الجانب الأيمن من الجبال بجميع عسكرهم من الرجال وأما الخيل فليس لها فيه مجال فانهزم كل من من كان على الجبل من أهل بيشة قحطان وسائر العربان إلا ما كان من حرب فلم يحضروا فاشتد على المسلمين لما صاروا في أعلى الجبل فصاروا يرمون المسلمين من فوقهم فحمي الوطيس آخر ذلك اليوم ثم من غد فاستنصر أهل الإسلام ربهم الناصر لمن ينصره، فما قرب الزوال من اليوم الثاني، نظرت فإذا برجلين قد أتيا فصعدا طرف ذلك الجبل فما سمعنا لهم بندقاً ثارت إلا أن الله كسر ذلك البيرق ونحن ننظر فتتابعت الهزيمة على جميع العسكر فولوا مدبرين وجنبوا الخيل والمطرح وقصدوا طريقهم الذي جاءوا معه، فتبعهم المسلمون يقتلون ويسلبون هذا، ونحن ننظر إلى تلك الخيول قد حارت وخارت، وظهر عليهم عسكر من الفرسان من جانب الخندق ومعهم بعض الرجال فولت تلك الخيو مدبرة، وتبعتهم خيول المسلمين في أثرهم وليس معهم زاد ولا مزاد، فانظر إلى هذا النصر العظيم من الإله الحق رب العباد لأن الله هزم تلك العساكر العظيمة برجلين، فهذه ثلاث عبر ولكن أين من يعتبر؟ فأخذوا بعد ذلك مدة من السنين، ثم بعد ذلك سار طوسون كبير ذلك العسكر الذي هزمه الله فقصد المدينة فوراً، وأمر سعود علي عبد الله ومن معه من المسلمين أن ينهضوا لقتالهم فوجدوهم قد هجموا على المدينة ودخلوها وأخرجوا من كان بها من أهل نجد وعسير، فجمع المسلمون تلك السنة فأقبل ذلك العسكر ونزل رابغ، ونزل المسلمون وادي فاطمة، فحان لهم شريف مكة وضمهم إليه، وجاءوا مع الخبث على غفلة من المسلمين، فعلم المسلمون أنه لا مقام لهم مع ما جرى من الخيانة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فرجعوا إلى أوطانهم فخاف عثمان وهو بالطائف أن يكون الحرب منهم ومن الشريف عليه، لما يعلم من شدة عداوتهم، فخرج بأهله وترك لهم الطائف فخافه أن يجتمعوا على حربه وليس معه إلا القليل من عشيرته ولا يأمن أهل الطائف أيضاًَ فنزل المسلمون بتربة بعد ذلك نحواً من شهر ثم رجعوا حين أكلوا ما معهم من الزاد فجرى بعد ذلك وقعات بينهم وبين المسلمين لا فائدةفي الإطالة بذكرها والمقصود من استيلائهم على المدينة ومكة والطائف كان بأسباب قدرها الملك الغلاب: فيريك عزته ويبدي لطفه ... والعبد في الغفلات عن ذا الشأن وفيها من العبرات أن الله أبطل كيد العدو وحمى الحوزة، وعافى المسلمين من شرهم وصار المسلمون يغزونهم فيما قرب من المدينة ومكة في نحو من ثلاث سنين أو أربع فتوفى الله سعود –رحمه الله- وهم غزاه على من كان معيناً لهذا العسكر من البوادي، فأخذوا وغنموا فبقي لهم من الولاية ما كانوا عليه أولاً إلا ما كان من مكة والطائف وبعض الحجاز، وبعد وفاة سعود تجهزوا للجهاد على اختلاف كان من أولئك الأولاد، فصار المسلمين جانبين جانباً مع عبد الله وجانباً مع فيصل وأخيه، فنزل الحناكية عبد الله ونزل فيصل تربة باختيار وأمر من أخيه له فوافق أن محمد علي حج تلك السنة فواجه فيصل هناك، فطلب منه يصالحه على الحرمين فأبى وغلظ له الجواب وفيما قال: لا أصلح الله منا من يصالحكم ... حتى يصالح ذئب المعز راعيها فأخذت محمد علي العزة والأنفة فسار إلى بسل، الظاهر أنه كان حريصاً على الصلح فاستعجل فيصل بمن معه فساروا إليه في بسل وقد استعد لحربهم خوفاً مما جرى منهم فأقبلوا وهم في منازله، فسار عليهم العساكر والخيول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فولوا مدبرين لكن الله أعز المسلمين فحبس عنهم تلك الدول والخيول حتى وقفوا على التلول فسلم أكثر المسلمين من شرهم واستشهد منهم القليل، ولا بد في القتال من أن ينال المسلم أو ينال منه، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} الآيات، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} الآيات، وقد قال هرقل لأبي سفيان: فما الحرب بينكم وبيه؛ قال سجال ينال منا وننال منه، فهذه سنة الله في العباد وزيادة للمؤمنين في الثواب، وتغليظ على الكافرين في العقاب، وأما عبد الله فرجع بمن معه لم يلق كيداً دون المدينة، فتفكر في حماية الله لهذه الطائفة مع كثيرة من عاداهم وناوأهم ومع كثرة من أعان عليهم ممن ارتاب في هذا الدين وكرهه وقبل الباطل وأحبه، فما أكثر هؤلاء! لكن الله قهرهم بالإسلام، ففي هذا المقام عبرة، وهو أن الله أعزهم وحفظهم من شر من عاداهم، فلله الحمد والمنة، وبعد ذلك رجع محمد علي إلى مصر، وبعث الشريف غالب إلى اسطنبول وأمر ابنه طوسون أن ينزل الحناكية دون المدينة، وأمر العطاس أن يسعى بالصلح بينهم وبين عبد الله بن سعود ويركب له من مكة وأراد الله أن أهل الرس يخافون لأنهم صاروا في طرف العسكر واستلحقوا لهم نفراً قليلاً من المغاربة، وطوسون على الحناكية، وصار في أولاد سعود نوع من العجلة في الأمور، فأمروا على الرعايا بالمسير إلى الرس فنزلوا الرويضة فتحصنوا بمن عندهم، فأوجبت تلك العجلة أن استفزعوا أهل الرس أهل الحناكية، فلما جاء الخبر بإقبالهم نصرة لأهل الرس ارتحل المسلمون يلتمسون من أعانهم من حرب ما بينهم وبين المدينة فصادفوا خزانة العسكر فقتلوهم وأخذوا ما معهم، فهذا مما يسره الله لهم من النصر من غير قصد ولا دراية، فرجع المسلمون إلى عنيزة والعسكر نزلا الشبيبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قريباً منهم، ويسر الله للمسلمين سبباً آخر وذلك من توفيق الله ونصره وجهزوا جيشاً فأغاروا على جانب العسكر فخرجوا عليهم فهزمهم الله وقتل المسلمون فيهم قتلاً كثيراً، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرة من أعانهم وقوة أسبابهم، وذلك من نصر الله لهذا الدين فرجعوا إلى الرس فتبعهم المسلمون ونزلوا الحجناوي خوفاً من هجوم المسلمين عليهم فقدم العطاس على الأمر الذي عمده عليه محمد علي فوجد الحال قد تغير قصدهم ابتداء فمنعوه مما جاء له ثم أنهم سعوا في الصلح والمسلمoأخذوأخأخاون على الحجناوي، وكل من يجري بين الخيل طراد فمل بعض المسلمين من الإقامة فلم يبق منهم إلا شرذمة قليلة، فجاء منهم أناس يطلبون الصلح فأصلحهم عبد الله –رحمه الله تعالى- وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلاً من أهل بيته خوفاً أن يعرض لهم أحد من المسلمين في طريقهم، فمشى معهم محمد بن حسين بن مشاري إلى المدينة والقصود أن الله سبحانه أذلهم وألقى الرعب في قلوبهم وحفظ المسلمين من شرهم بل غنمهم مما بأيديهم من حيث بذلهم المال في شراء الهجن، فاشتروا من المسلمين الذلول بضعفي ثمنها، وهذا كله مما يفيد صحة هذا الدين وأنه الذي يحبه الله ويرضاه وهو الذي يسر أسباب نصر من تمسك به وخذلان من ناوأهم وعاداهم في هذا الدين، فتفكر يا من له قلب، ولولا ما صار في أهل هذا الدين من مخالفة المشروع في بعض الأحوال لصار النصر أعظم مما جرى لكن الله تعالى عفى عن الكثير وحمى دينه عمن أراد إطفاءه، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى؟؟؟؟ في بييته وفوق ما يثني عليه خلقه، فتدبر هذه الوقائع وما فيها من ولاذ بل منهم شيئاً والدلالات الظاهرة على صدق هذه الدعوة إلى التوحيد؟؟؟ باشا حسين بك الذي والتجريد وإنكار الشرك والتنديد والاهتمام بإقامة حقوق هم محمد علي قبل هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الله تعالى ورسوله والنهي عما حرمه الله ورسوله من الشرك والبدع والفساد الذي وقع في آخر هذه الأمة لكن خفي على أهل الشقاق والعناد، فلو ساعد القدر وتم هذا الصلح لكان الحال غير الحال لكن ما أراده الله تعالى وقع على كل حال، لكن جرى من عبد الله بن سعود –رحمه الله تعالى- ما أوجب نقض ذلك الصلح، وهو أنه بعث عبد الله بن كثير لغامد وزهران بخطوط مضمونها أن يكونوا في طرفه وفي أمره فبعثوا بها إلى محمد علي فلم يرض بذلك وقال إنهم من جملة ما وقع عليهم الصلح، فهذا هو سبب النقض وأنشأ عسكراً إبراهيم باشا ونزل الحناكية ودار الرأي عند عبد الله بن سعود وأهل الرأي يقولون اضبط ديرتك واحتسب بالرهبة كذلك كذلك أهل البلدان واتركوه على هيئته، فإن مشى تبين لكم الرأي وربما أن الله يوفقكم لرأي يصير سبب كسره، وجاء حباب وغصاب يريدان أن يخلوا بعبد الله في السفر وملازمته في مجلسه ومأكله ومشربه ونومه ويقظته فأدركاه على الخروج بالمسلمين والعربان فوصلوا المادية وفيها عسكر فضربوهم بالريز في المدفع ووقع هزيمة وقى الله شرها وغدا فيها قليل من المسلمين وبعدها جسر إبراهيم باشا على القدوم فنزل القصيم وحربهم قدر شهرين وأيدهم الله بالنصر لما كانوا مستقيمين صابرين، وعزم على الرجوع عنهم لكن قوى عزمه فيصل الدويش وطعمه وخوفه وبعد هذا صالحوه أهل الرس وعبد الله بمن معه على غيره، وأقفى لبلده وأشار عليه مبارك؟ أنه يجئ بثلاثة آلاف من الإبل عند ابن جلهم ويجعل عليها الأشدة إن استفزعوا أمر ما كان له ولا يخلي في الدرعية له طارفة ويصعد مع عربان الرس ارتحل المسلم من كان مروة من بدوي أو حضري راح معه كذلك فصادفوا خزنة العسكر القدر لم يظفر به عدوه وتبرأ منهم من أعانهم بالرحل من النصر من غير قصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 مطير وغيرهم والله فيما جرى حكمة فقد ظهر بعضها لمن تدبر وتفكر، وهذا الرأي أسلم له، والذي يريد القعود ويكون ظهره على السعة ويذكر له أنك يا عبد الله إذا صرت كذلك صار لك في العسكر مكائد منها قطع سائلة ما بينه وبين المدينة، وهذا رأي سديد ولكن لم يريد الله قبوله لأن الأقدار غالبة، ولو قدر هذا لكان، فنزل الدرعية وأخذ قدر ثمانية أشهر متحصنين عنه وهو يضربهم بالقنابر والقبوس فوقى الله شره وأراد الله بعد ذلك أنه يرحمهم مع أماكن خالية ما فيها أحد؛ لأن البلد مطاول وليس فيها سور ينفع، والمقاتلة قليلة وانتهى الأمر إلى الصلح فأعطاهم العهد والميثاق على ما في البلد من رجل أو مال حتى الثمرة على النخل لكن لم يف لهم بما صالحهم عليه لكن الله تعالى وقى شره عن أناس معهم عليهم حنانة بسبب أناس من أهل نجد يكثرون فيهم عنده فكف الله يده ويد العسكر، وغدروا بسليمان بن عبد الله وآل سويلم وابن كثير عبد الله بسبب البغدادي الخبيث حداه عليهم فاختار الله لهم، وبعد هذا شتت أهل البلد عنها وقطع النخيل وهدم المساكن إلا القليل وانتقل للرجوع بعسكره وروح من روح لمصر بعد روحة عبد الله بن سعود –رحمه الله- تبعه عياله وإخوانه وكبار آل شيخ وبعد ذلك حج فسلط الله على عسكره الفناءء ولا وصل مصر إلا بالقليل، فلما وصل مصر حل بهم عقوبات أهل الإسلام، فمشى على السودان ولا أظفره الله فرجع مريضاً ثم إن محمد علي بعث ابنه إسماعيل وتمكن منهم بصلح فلما رأوا منه الخيانة بأخذ عبيد وجوار أحرقوه بالنار في بيته ومن معه من العسكر، ثم بعده روح لهم دفتردار ولاذ بل منهم شيئاً وأما عساكر الحجاز التي وصلت مصر قبل إبراهيم باشا حسين بك الذي صار في مكة وعابدين بك الذي صار في اليمن فسيرهم محمد علي قبل هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 لحرب لموره وجريد لما خرجوا على السلطان فاستمده السلطان على حربهم فأمده بهذين العسكرين فهلكوا عن آخرهم ولم يفلت منهم عين تطرف وذلك أن موره وجريد في الأصل ولاية للسلطان فخرجوا عليه فهلك من عسكر السلطان والعساكر المصرية في حربهم ما يحصي وهذه عقوبة أجراها الله عليهم بسبب ما جرى منهم على أهل الإسلام حتى الأرناؤوط في جبلهم عصوا على السلطان قبل حادثة موره وجريد وبعد هذا اشتد الأمر على السلطان وبعث يستنصر محمد علي فبعث لهم عسكراً كبيرهم قار علي فهلكوا في البحر قبل أن يصلوا، ثم إن السلطان بعث نجيب أفندي لمحمد يطلب منه أن يسير بنفسه فبعث إليه يعتذر بالمرض، وأن إبراهيم باشا يقوم مقامه وقبل ذلك بعث حسين بيه، الذي سبأ أهل نجد وقتل منهم البعض في ثرمداء وفزع للسلطان قبل روحة إبراهيم باشا بعسكره الذي كان معه في نجد وتبعه إبراهيم باشا يمده ونزلوا موره لحرب أهلها فأذلهم الله فقتلوا فيهم قتلاً عظيماً. فأما عسكر حسين بيه فلا قدم مصر منه إلا صبي، أما إبراهيم باشا فاشترى نفسه منهم بالأمور، فانظر إلى هذه العقوبة العاجلة التي أوقعها الله على الأمر والمأمور وأكثر الناس لا يدري بهذه الأمور، فهذا الذي ذكرناه فيه عبرة عظيمة وشاهد لأهل هذا الدين أن الله لما سلط عليهم عدوهم ونال منهم ما نال صار العاقبة السلامة والعافية لمن ثبت على دينه واستقام على دين الإسلام، ثم إن الله تعالى أوقع بعدوهم ما ذكرنا وأعظم لكن ذكرنا الواقع على سبيل الاختصار لقصد الاعتبار فاعتبروا يا أولي الأبصار، ثم إن الله أجرى على من أعانهم من أهل نجد ممن شك منهم في هذا الدين وكثر الطعن على المسلمين أن الله تعالى أفناهم وهذه أيضاً من العبر لم يبق أحد ممن ظهر شره وإنكاره وعداوته للمسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 إلا وعوجل بالهلاك والذهاب، ولا فائدة في الإطالة بعدهم ومن سألنا أخبرناه عنهم بأعيانهم، وأما ظهور خالد وإسماعيل فإنهم لما جاء الخبر بأنهم وصلوا المدينة وخرجوا منها استشار فيصل –رحمه الله- في الغزو أو الإقامة فأشرت بأن يخرج بالمسلمين ويكون في البطينيات من الدجاني إلى ما دونه وينزل قريباً من العربان لأن أكثر رعبتهم من الدهنا ويؤلف كبارهم بالزاد ويقنل الحب من سدير والوشم وزاد الحسا والقطيف من تمر وعيش ويقرب منه كبار العربان بالزاد كذلك من معه من المسلمين ويصير له رجاجيل في القصيم عند من ثبت وينظر، فلو ساعد القدر وتم هذا الرأي لم يقدر العسكر أن يتعدي القصيم للوشم والعارض وخافوا من قطع سابلتهم ولهم لهم قدرة على حرب فيصل وهو في ذلك المكان فلو قدرنا أن يصير بعض عسكرهم يبون يقصدونه هلكوا في الدهنا والصمان إذا ماج عن وجوههم يوم أو يومين، فلو قدر أن يفعل هذا الرأي لما ظفروا به ولا وصلوا إلى بلده لأسباب معروفة لكن لما أراد الله خيانة أهل الرياض في الإمام فيصل وهم معه في الصريف قدم الرياض وخلاها لهم خوفاً منهم، فمشوا على الفزع هم والذين معهم من البادية والحاضرة وصار هلاكهم أن هجموا على الحلوة على غفلة وأخلى أهل الحلوة البلد لهم وأراد الله أن تركي الهزاني وبعض أهل الحوطة يفزعون وكسر الله تلك العساكر العظيمة ما بين قتل وهلاك وصاروا يتبعونهم موتى تحت الشجر يأخذون السلاح والمال والذي فزع عليهم ما يجي عشيرهم، فصارت آية عظيمة ورجع أقلهم إلى الرياض وساعدهم من ساعدهم والله حسبهم وتصلبوا معهم إلى أن جاءهم خورشيد فزاع ونزل فيصل الدلم وأشير عليه أنه ما يعقد فيه ويتحصن بمن معه من المسلمين في بعض الشعبان التي بين الحوطة ونعام ويجعل ثقلته وراءه، فإن حصل منهم ممشا جاهدهم بأهل القرايا ولا أراد الله أنه يفعل فلما تمكنوا من فيصل وأخذوه أرسلوه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 مصر وصار عسكرهم في ذهاب وعذاب وفساد، فأوقع الله الحرب بين السلطان ومحمد علي ورد الله الكرة لأهل نجد فرجعوا كما كانوا أولاً على ما كانوا عليه قبل حرب هالدولة، كما قال تعالى في بني إسرائيل: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً , إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} نسأل الله أن يمكن بالإحسان وينفي عنا أسباب التغيير إنه ولينا وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والمقصود بما ذكرنا الاعتبار بأن الله حفظ هذا الدين ومن تمسك به وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم وأوقع بأسه بهذه الدولة على قوتهم وكثرتهم وأسباب كيدهم، ثم إن الله تعالى أهلك تلك الدول بما أجرى عليهم من حرب النصارى في بلاد الروم فكل دولة مشت على نجد والحجاز لم يبق منهم اليوم عين تطرف وكانوا لا يحصي عددهم إلا الله فهلكوا في حرب النصارى فصارت العاقبة والظهور لما جاهدهم في الله من الموجدين، فجمع الله لهم بعد تلك الحوادث العظيمة من النعم والعز والنصر ما لا يخطر بالبال ولا يدور في الخيال، فلا يشك في هذا الدين بعد ما جرى مما ذكرناه إلا من أعمى الله بصيرته وجعل على قلوبهم أكنة عن فهم أدلة الكتاب والسنة ولم يعتبروا بما جرى لهذين الدين من ابتدائه إلى يومنا هذا وكل من ذكرنا من الدول والبادي والحاضر رام إطفاءه وكلما أرادوا إطفاءه استضاءت أنواره وعز أنصاره فهذا ما جرى على الدول الذي زعم ابن منصور أن شيخنا جرها على أهل نجد وما جرى بسبب تلك الدول من ظهور هذا اليدين والعز والتمكين وذهاب من ناوأهم من هذه الدول وغيرها فلله الحمد لا نحصي ثناءً عليه وهو المرجو أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا من هذا الدين الذي رضيه لعباده وخص به المؤمنين، ومن عجيب ما اتفق لأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 هذه الدعوة أن محمد بن سعود عفا الله عنه لما وفقه الله لقبول هذا الدين ابتدأ بعد تخلف الأسباب وعدم الناصر شمر في نصرته ولم يبال بمن خالفه من قريب أو بعيد، حتى أن بعض الناس ممن له قرابة به عذله عن هذا المقام الذي شمر إليه فلم يلتفت إلى عذل عاذل ولا لوم لائم ولا رأي مرتاب بل جد في نصرة هذا الدين فملكه الله تعالى في حياته كل قرى من عاداه من أهل القرى، ثم بعد وفاته صار الأمر في ذريته يسوسون الناس بهذا الدين يجاهدون فيه كما جاهدوا في الابتداء فزادت دولتهم وعظمت صولتهم على الناس بهذا الدين الذي لا شك فيه ولا التباس، فصار الأمر في ذريته لا ينازعهم فيه منازع، ولا يدافعهم عنه مدافع وأعطاهم الله القبول والمهابة، وجمع الله عليهم من أهل نجد وغيرهم ممن لا يمكن اجتماعهم على إمام واحد إلا بهذا الدين وظهرت آثار الإسلام في كثير من الأقاليم النجدية وغيرها مما تقدم ذكره وأصلح الله بهم ما أفسدت تلك الدول التي حاربتهم ودافعتهم عن هذا الدين ليطفئوه فأبى الله ذلك وجعل لهم العز والظهور كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، نسأل الله أن يديم ذلك وأن يجعلهم أئمة هدى وأن يوفقهم لما وفق به الخلفاء الراشدين الذين لهم التقدم في نصرة هذا الدين وعلينا وعلى المسلمين أن ندعوا لمن ولاه الله أمرنا من هذه الذرية أن يصرف عنا وعنهم كل محنة وبلية، وأحيى الله بهم ما درس من الشريعة المحمدية، وأصلح لهم القلوب وغفر لنا ولهم الذنوب، اللهم اغفر لنا ولهم لنتوب وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين وأما قوله: لكن لله إرادة في بقاء جرثومة من هذه الطائفة في بلاد نجد. فأقول: نعم إن الله في ذلك إرادة وحكمة في بقاء جرثومة هذه الطائفة التي اختصها الله بإظهار دينه وإعلاء كلمته واتباع رسوله فيما أمر به ونهى عنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وتقديم قوله على قول كل واحد كائناً من كان، وتجديد ما اندرس من معالم الدين بعد أفول شموسه ونسيان آياته، فلما ابتلاهم الله بهذه الدول المصرية بسبب ما اقترفوه من الذنوب ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، جعل لهم العاقبة وجمع شملهم بعد تشتتهم، ولم شعثهم، فكان لهم ولله الحمد وله المنة حوزة واجتماع على دين الله ورسوله يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة جمعة وجماعة، ويجاهدون في سبيل الله فهم المتحققون بقول لا إله إلا الله والمعتصمون بها لأنها هي كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها، وقد أصبح أهل جزيرة العرب بدعوتهم إليها وإلى العمل بمقتضاها والجهاد في ذلك متمسكين بجذر عراها، كما قال قتادة –رحمه الله- عن حال أول هذه الأمة أن المسلمين لما قالوا لا إلا الله أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم، وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيها ويظهرها ويفلجها وينصرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها، فلج، ومن قاتل بها نصره إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها، فأهل نجد ولله الحمد هم المتمسكون بها وغيرهم من سائر أهل الأقطار والأمصار إلا من شاء الله إنما يقولون بأفواههم ويخالفونها بأهوائهم، فيقولون لا إله إلا الله وهم يدعون غير الله بأصوات عالية مجتمعة وقلوب محترقة خاشعة "عبد القادر يا جيلان يا ذا الفضل والإحسان صرت في خطب شديد من إحسانك لا تنسان"، وقولهم: يا رفاعي إني ... أنا المحسوب أنا المنسوب رفاعي لا تضيعني ... أنا المحسوب أنا المنسوب وقول الآخر: يا عيدروس شيء لله يا محيي النفوس، ويقول بلهجة قلب واحتراق كثير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 يا أهل الشرك والإبلاس، وذوي الفقر والإفلاس، اليوم على الله وعليك ابن عباس، ويسألونه الحاجات ويسترزقون {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} . وقد ذكر الإمام حسين بن محمد النعيمي اليمني في بعض رسائله: أن امرأة كف بصرها، فنادت وليها، أما الله فقد صنع ما ترى، ولم يبق إلا حسبك، انتهى. واجتمع جماعة من الموحدين من أهل الإسلام في بيت رجل من أهل مصر وبقربه رجل يدعي العلم، فأرسل إليه صاحب البيت فسأله بمسمع من الحاضرين، فقال له كم يتصرف في الكون؟ قال يا سيدي سبعة قال منهم قال فلان وفلان وعد له أربعة من المعبودين بمصر، فقال صاحب الدار لمن بحضرته من الموحدين: إنما بعثت لهذا الرجل وسألته لأعرفكم قدر ما أنتم فيه من نعمة الإسلام أو كلاماً نحو هذا إلى غير هذا مما معلوم مشهور مما لا يشك فيه شاك، إنه من صريح الإشراك الذي يأباه الدين الحنيف ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولى إلى هذه الغاية، فأي ملة صان الله ملة الإسلام لا تمانع ولا تدافع هذه الكفريات، فهذا ونحوه أعظم منه مما لم نذكره من كفريات هؤلاء الملاحدة الذين يزعم هذا الملحد أنهم المسلمون وهذا نموذج من دياناتهم واعتقاداتهم يطلعك على قناطير مقنطرة من كفرياتهم التي خرجوا من ربقة الإسلام. وأما الوهابية فهم يعلمون ويعتقدون أن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وتعظيماً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً واستغاثة واستعانة واستعاذة ورغبة ورهبة وإنابة وذلاً وخضوعاً وخشوعاً وذبحاً ونذراً إلى غير ذلك من هذه العبادات التي من صرفها لغير الله كان مشركاً بالله الشرك الأكبر الذي من أتى به فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار. فالوهابية يعلمون ويعتقدون أن هذه العبادات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 محض حق الله، لا يصلح منها شيء لغير الله فيدعون الله وحده لا شريك له، ولا يدعون معه أحداً سواه، ويستغيثون به ولا يستغيثون بغيره، ويتوكلون عليه لا غيره، ويستغيثون به ويستعيذون به لا بغيره، ولا يخافون إلا الله ولا يرجون إلا إياه ولا يخضعون ولا يخشعون إلا له، ولا يذبحون ولا ينذرون إلا له ولا ينيبون ويتوبون إلا إليه، فمنهم المتحققون بقول لا إلا إلا الله، المخلصون له في جميع عباداتهم لا يشركون به أحداً من المخلوقات لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً فضلاً عن غيرهما، فبقاء جرثومة هذه الطائفة الوهابية مما حفظ الله به الإسلام، يجددون ما اندرس من أعلامه العظام ويظهرون دين الله ورسوله بين الأنام، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته، وتقوم بهم حجة الله على خلقه، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". وأما قوله: وقد تصدى لتحرير مذهبهم وتقرير مقولاتهم والرد عليهم جمهور من علماء الحجاز منهم السيد أحمد بن زيني الملقب بدحلان إلى آخر كلامه. فالجواب أن نقول: لم يكن هؤلاء الملاحدة أعداء الله ورسوله يعرفون من دين الله ورسوله إلا ما عرفه جهال الكفار من الإقرار بتوحيد الربوبية فقط، وهو الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأرضين ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره. وأما توحيد الألوهية فهو الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون وقاتلهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليكون الدين كله لله وأن يخلصوا العبادة لله وحده كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وكما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} فهم لا يعرفونه وإذا كان ذلك كذلك فكيف يحررون مذهب أهل الملة الحنيفية أو يقررون ذلك بالأدلة الواضحة السنية ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً ولا على تحرير ما نقلوه مما لفقوه من مقولاتهم دليلاً وليس عندهم والله إلا الأكاذيب المخترعة الموضوعة والترهات المجترحة الباطلة المصنوعة وأما الرد عليهم فنعم لكن بالباطل ليدحضوا به الحق وقد أجابهم على ذلك علماء أهل السنة والجماعة وبينوا ما في كلامهم من الأوضاع والأكاذيب وما في كلامهم من الكفر الذي لا يشك فيه عاقل ولا يستريب فلله الحمد وله المنة، وأما قوله: ومن أعجب ما رأيت انتساب أناس لهذا المذهب حماقة وجهلاً ولو عرفوا حقيقته وأصوله لتبرأوا منه وقالوا كما نقول إسلام ووهابية لا يجتمعان. فالجواب أن يقال: قدمنا حقيقة مذهب الوهابية وبينا أصوله بالأدلة الشرعية والبراهين العقلية وأنهم كانوا على مثل ما كان عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وما كان عليه التابعون والأئمة المهتدون من بعدهم من انتسب إليهم فإنما هو لأجل ما تحققه وعرفه من صحة ما هم عليه من الدين القويم والصراط المستقيم المخالف لما عليه أصحاب الجحيم، وإنما الحماقة والجهل المركب المريض ما تدعو إليه وتنتحله من الكفر بالله والشرك به الذي هو أمرض من كل مريض، فالعجب حينئذٍ غير عجيب، والحماقة والجهالة أقرب إليك من كل قريب، لأنك من هذا الدين وصحته في شك مريب، وعلى معادته ومعاداة أهله مجداً مجاهداً في التخريب عليهم والتأليب، ومن عرف صحة الدين كان حقيقاً أن يقول كما نقول إسلام ووهابية لا يفترقان: رضيعا لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا يتفرق بل إسلام وعباد القبور الوثنية لا يجتمعان إلا كما يجتمع في قلب عبد مؤمن أن محمداً –صلى الله عليه وسلم- صادق وأن أبا جهل صادق. والله لن يجتمعا ولن يتلاقيا ... حتى تشيب مفارق الغربان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فصل: ترجمة الشيخ محمد رحمة الله قال الملحد: مؤسس هذا المذهب هو محمد بن عبد الوهاب التميمي من يمامة نجد ولد في سنة 1115 هجرية ومات في سنة 1206 كان أبوه عالماً فاضلاً ورعاً كان يتفرس في ابنه هذه الشقاوة إلى آخر كلامه. والجواب أن نقول: نعم كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- مؤسس هذه الدعوة المحمدية والملة الإبراهيمية؛ وكان الناس قبل دعوته في جهالية جهلاء لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه كما قد بينا ذلك فيما مضى مقرراً موضحاً لا يخفى ذلك إلا على من أعمى الله بصيرة قلبه، وقد اشتهرت دعوة الشيخ في جميع الأقطار والأمصار، واستجاب له من شرح الله صدره للإسلام، وأقربها كما قال الشيخ الإمام محمد بن أحمد الحفظي اليمني –رحمه الله تعالى- في منظومته التي صنفها وبين فيها حقيقة ما دعا إليه الشيخ محمد –رحمه الله- فقال فيها: أحمده مهللا مسبحلاً ... محوقلاً محيعلاً محسبلاً مصلياً على الرسول الشارع ... وآله وصحبه والتابع في البدء والختم وأما بعد ... فهذه منظومة تعد حركني لنظمها الخير الذي ... قد جاءنا في آخر العصر القذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 لما دعا الداعي من المشارق ... بأمر رب العالمين الخالق وبعث الله لنا مجدداً ... من أرض نجد عالماً مجتهداً شيخ الهدى محمد المحمدي ... الحنبلي الأثري الأحمدي فقام والشرك الصريح قد سرى ... بين الورى وقد طغى واعتكرا لا يعرفون الدين والتهليلا ... وطرق الإسلام والسيلا إلا أساميها وباقي الرسم ... والأرض لا تخلو من أهل العلم وكل حزب فلهم وليجه ... بدعوته في الضيق للتفريجة وملة الإسلام والأحكام ... في غربة وأهلها أيتام دعا إلى الله وبالتهليلة ... يصرخ بين أظهر القبيلة مستضعفاً وماله مناصر ... ولا له معاون مؤازر في ذلة وقلة وفي يده ... مهفة تغنيه عن مهنده كأنها ريح الصبا في الرعب ... والحق يعلو بجنود الرب قد أذكرتني درة لعمر ... وضرب موسى بالعصا للحجر ولم يزل يدعو إلى دين النبي ... ليس إلى نفس دعا أو مذهب يعلم الناس معاني أشهد ... أن لا إله غير فرد يعبد محمد نبيه وعبده ... رسوله إليكمو وقصده أن تعبدوه وحده لا تشركوا ... شيئاً به والابتداع فاتركوا ومن دعا دون الإله أحدا ... أشرك بالله ولو محمداً وأن قلتموا نعبدهموا للقربه ... أو للشفاعات فتلك الكذبة وربنا يقول في كتابه ... هذا هو الشرك بلا تشابه هذي معاني دعوة الشيخ لمن ... عاصره فاستكبروا عن السنن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فانقسم الناس فمنهم شارد ... مخاصم محارب معاند ما بين خفاش وبين جعل ... شاهت وجوه أهل هذا المثل وبعد ما استجيب لله فمن ... وجادل في الله تردى وافتتن ومن أجاب داعي الله ملك ... ومن تولى معرضاً فقد هلك في أبيات كثيرة لا نطيل ذرها فهذا تأسيس دعوة الشيخ محمد –رحمه الله- لدين الإسلام كما ذكره العلماء الأعلام، وكان مشهوراً معلوماً عند الخاص والعام لا ينكره إلا أشباه سائمة الأنعام أو الغاغة النوكاء الطغام، وأما مولده –رحمه الله تعالى- فكان سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية في بلد العيينة من أرض نجد ونشأ بها وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر، وكان حاد الفهم سريع الإدراك والحفظ يتعجب أهله من فطنته وذكائه، وبعد حفظ القرآن اشتغل وجد في الطلب وأدرك بعض الأرب قبل رحلته، فطلب العلم، وكان سريع الكتاب ربما كتب الكراسة في المجلس، قال أخوه سليمان: كان والده يتعجب من فهمه ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه ووالده هو مفتي تلك البلاد وجده مفتي البلاد النجدية آثاره وتصنيفه وفتاواه تدل على علمه وفقهه، وكان جده إليه المرجع في الفقه والفتوى، وكان معاصراً للشيخ منصور البهوتي الحنبلي خادم المذهب اجتمع به بمكة، وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام، قدمه والده في الصلاة ورآه أهلاً للائتمام، ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام فأجابه والده إلى ذلك المقصد والمرام، وبادر إلى قضاء فريضة الإسلام وأداء المناس على التمام ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام قريباً من شهرين ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة في الفقه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 رسالة من الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في قبوله الدعوه السلفية ... وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء الكبار، ورحل إلى البصرة والحجاز مراراً، واجتمع بمن فيها من العلماء والمشايخ والأخيار وأتى إلى الأحساء وهي إذ ذاك آهلة بالمشايخ والعلماء فسمع وناظر وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد، وروى عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني، وأجازه من طريقين، وأول ما سمع منه الحديث المسلسل بالأولية كتب السماع بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "الراحمون يرحمهم الله ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" وسمع مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله" قالوا كيف يستعمله؟ قال: "يوفقه لعمل صالح قبل موته" وهذا الحديث من ثلاثيات الإمام أحمد –رحمه الله- وطالت إقامة الشيخ ورحلته بالبصرة، وقرأ بها كثيراً من الحديث والفقه والعربية، وكتب من الحديث والفقه واللغة ما شاء الله في تلك الأوقات وكان يدعو إلى التوحيد ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه ويستدل عليه ويظهر ما عنده من العلم وما لديه، وكان يقول إن الدعوة كلها لله لا يجوز صرف شيء منها لسواه، وربما ذكروا بمجلسه إشارات الطواغيت أو شيئاً من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم ويلجأون إليهم في المهمات فكان ينهي عن ذلك ويزجر ويورد الأدلة من الكتاب والسنة ويحذر ويخبر أن محبة الأولياء والصالحين إنما هي متابتعتهم فيما كانوا عليه من الهدى والدين وتكثير أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين؛ وأما دعوى المحبة والمودة مع المخالفة في السنة والطريقة فهي دعوى مردودة غير مسلمة عند أهل النظر والحقيقة، ولم يزل على ذلك –رحمه الله- ثم رجع إلى وطنه، فوجد والده قد انتقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 إلى بلدة حريملاء واستقر معه فيها يدعو إلى السنة المحمدية ويبديها ويناصح من خرج عنها ويفشيها، حتى رفع الله شأنه ورفع ذكره ووضع له القبول وشهد له بالفضل، ذووه من المعقول والمنقول وصنف كتابه المشهور في التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى الله العزيز الحميد، وقرأ عليه هذا الكتاب المفيد وسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد، وشاعت نسخه في البلاد وطار ذكره في الفور وأنجاد وقاز بصحبته واستفاد من جرد القد وسلم من الأشر والبغي والفساد، وكثر بحمد الله محبوه وجنده، وصار معه عصابة من فحول الرجل وأهل السمت الحسن والكمال، يسلكون معه على الطريق ويجاهدون كل فاسق وزنديق وإذا أبوه عالماً فاضلاً ورعاً، وكان يتفرس فيه الشقاوة لأي شيء لم يحجزه علمه وورعه عن تقديمه في الصلاة، ورويته أهلاً للإمامة والاستفادة منه، فعلم أن هذا من الأكاذيب الموضوعة على الشيخ تنفيراً للناس عن الدخول في هذا الدين، وإذا كانت هذه صفته وكان والده يتفرس فيه، فهذه الفراسة مع سائر العلماء الذين أخذ عنهم العلم، فقول هذا المفتري مجرد ظلم وتعمد للكذاب والبهتان. وأما قوله: وكان يميل إلى مطالعة أخبار من ادعوا النبوة ويكتم هذا الكفر في نفسه. فالجواب: أن قول ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً، فإن هذا معلوم كذبه بالاضطرار، لا يمتري فيه من له أدنى معرفة بمقادير الأئمة الأخيار، ومن طالع كتب الشيخ ومصنفاته ورسائله، وتأمل حال نشأته ودعوته إلى الله تبين له أن هذا من الكذب والافتراء، وأنه من وضع أعداء الله ورسوله، الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 يصدون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجاً ويسعون في الأرض فساد والله لا يحب المفسدين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافر ون. ولو تأمل أعداء الله ورسوله مصنفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وتكلموا بعلم وإنصاف لوجدوا فيه ما نياقض ما لفقوه من الأكاذيب والمفتريات وما موهوا به من الزخارف والخرافات ولو زعمهم ذلك من الوقوف في المحرمات، فقد ذكر –رحمه الله تعالى- في كتاب التوحيد ما رواه مسلم في صحيحه عن ثوبان أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن الله لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكتهم بسنة عامة وأن أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً" رواه البرقاني في صحيحة، وزاد "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع على يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعد، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى"، ثم قال –رحمه الله- بعد ذلك في مسائل هذا الباب الثامنة العجب العجاب خروج من يدعي النبوة مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه أنه من هذه الأمة وأن الرسول حق وأن القرآن حق وفيه أن محمداً خاتم النبيين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ومع هذا يصدق في هذا كله من التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة وتبعه فئام كثير، فهل يقول بعد هذا البيان أحد يؤمن بالله واليوم الآخر، أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- قد يميل إلى مطالعة أخبار من ادعوا النبوة ويكتم هذا الفكر في نفسه، كما قال ذلك إمام كفرهم وضلالهم من استحوذه الشيطان وزجه في بحر الضلالة والطغيان أحمد بن زيني دحلان، حيث زعم أن الشيخ محمداً كان يدعي النبوة في باطن الأمر ويخفيه من العامة، فهل يقول هذا عالم يخاف الله ويتقيه ويخشى سطوته يوم يلاقيه، وإنما يخشى الله من عباده العلماء، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما قوله: فلما مات أبوه في نحو سنة 1143 ابتدأ بإظهار مذهبه حتى سنة 1151 فأشهر أمره وأظهر دعوته وعقيدته في نجد وأطرافها إلى آخر كلامه. فأقول: قد قدمنا في بيان دعوة الشيخ إلى دين الله ورسوله حقيقة ما كان عليه وما كان يعتقده ويدين الله به وأنه كان على ما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول فأغنى من إعادته ها هنا. وأما قوله: وكان يسمي جماعته من أهل بلده الأنصار، ويسمي من يتبعه من غيرهم المهاجرين. فالجواب أن يقال نسبة هذا الكلام إلى الشيخ كذب ظاهر وفرية معلومة فإن الشيخ لم يكن يسمي أهل بلده ولا من هاجر إليه بهذه التسمية على أن هذا لا يعاب به الشيخ لأنه جار على قانون العلم وأصوله فلا غرو من هذا ولا بدع فإن هذا من نصر الله ورسوله ودينه وشرعه حقيق أن يسمى بهذا الاسم وكذلك من هاجر إلى الله ورسوله، فإن من ترك بلداً يظهر فيه الشرك أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 البدع أو الفسوق وهجرها لذلك فهو مهاجر شاء الشيطان أم أبى، وقد خرج من المدينة خلق لما حصر عثمان ووقعت الفتنة والفقهاء ذكروا وجوب الهجر على من لم يقدر على إظهار دينه أو خالف الفتنة، وقد سأل بعض الصحابة فقيل أين أنت أيام الفتنة؟ يعني فتنة مقتل عثمان وما بعده فأنشد: هوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير وأما قوله: فلما مات قام بالدعوة ابنه عبد الله فلما مات قام ابنه سليمان بن عبد الله فقتله إبراهيم باشا سنة 1233. فالجواب أن يقال: نعم قد كان القائم بعد الشيخ محمد رحمه الله بهذه الدعوة ابنه عبد الله لما خصه الله تعالى به من العلم والمعرفة, وكان اخوانه من أولاد معاضدون له وكان لهم من العلم والمعرفة ما ظهر به فضلهم ونبلهم وكان الشيخ عبد الله –رحمه الله- هو الإمام الذي ترجع له الأمور في وقته، ثم لما نقل إبراهيم باشا آل سعود وآل الشيخ إلى مصر مكث الشيخ عبد الله بها مدة طويلة، ثم مات بمصر، وأما مقتل سليمان فكان في سنة ثلاث وثلاثين بعد المائتين والألف قبل موته أبيه بسنين عديدة، وليس الأمر كما ذكر هذا الملحد لأنه لا خبرة له بأخبار المسلمين وأحوالهم لا في دينهم ولا في دنياهم، وكان كحاطب ليل وحاطن سي. وأما قوله: وممن تصدى للرد على محمد المذكور ومناظرته أخوه سليمان بن عبد الوهاب حتى خاف منه فهاجر إلى المدينة المنورة. فالجواب أن يقال: نعم قد سليمان بن عبد الوهاب ممن تصدى للرد على الشيخ قبل أن يتوب من ضلاله وعمايته من الحق، فلما قذف الله في قلبه الإسلام وشرح الله صدره بنور الإيمان تبين له ما كان عليه من الضلالة وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 كان ينتحله من السفسطة والجهالة. كان شيخنا الشيخ عبد اللطيف –رحمه الله- في حال سليمان وقد اشتهر ضلاله ومخالفته لأخيه مع جهله ومع إدراكه لشيء من فنون العلم وقد رأيت له رسالة يعترض فيها على الشيخ وتأملتها فإذا هي رسالة جاهل بالعلم والصناعة مزجي التحصيل والبضاعة لا يدري ما طحاها ولا يحسن الاستدلال بذلك على من فطرها وسواها هذا، وقد من الله وقت تسويد هذا بالوقوف على رسالة لسليمان فيها البشارة برجوعه عن مذهبه الأول وأنه قد استبان له التوحيد والإيمان وندم على ما فرط من الضلال والطغيان وهذا نصها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 رسالة من الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في قبوله الدعوه السلفية بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن عبد الوهاب إلى الأخوان أحمد بن محمد التويجري وأحمد ومحمد ابنا عثمان بن شبانة سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأذكركم ما من الله به علينا وعليكم من معرفة دينه ومعرفة ما جاء به رسوله –صلى الله عليه وسلم- من عنده وأبصرنا به من العمى وأنقذنا به من الضلالة وأذكركم بعد أن جئتمونا في الدرعية من معرفتكم الحق على وجهه وابتهاجكم به وثناءكم على الله الذي أنقذكم، وهذا دأبكم في سائر مجالسكم عندنا وكل من جاءنا من حمد الله يثني عليكم، والحمد لله على ذلك، وكتبت بعد ذلك كتابين غير هذا، أذكركم وأحضكم، ولكن يا إخواني معلوكم ما جرى منا من مخالفة الحق الحق واتباع سبل الشيطان ومجاهدتنا في الصد عن اتباع سبل الهدى، والآن معلوكم لم يبق من أعمالنا إلا اليسير، والأيام المعدودة والأنفاس محسوبة والمأمول منا أن نقدم لله ونفعل مع الهدى أكثر مما فعلنا مع الضلال، وأن يكون ذلك لله وحده لا شريك له لا لما سواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 لعل الله أن يمحو عنا سيئات ما مضى وسيئات ما بقي ومعلومكم عظم الجهاد في سبيل الله وما يكفر من الذنوب، وأن الجهاد بالبدن واللسان والقلب والمال وتفهمون أجر من هدى الله به رجلاً واحداً، والمطلوب منكم أكثر مما تفعلون الآن، وأن تقوموا لله قيام صدق، وأن تبينوا الحق على وجهه، وأن تصرحوا لهم تصريحاً بيناً مما أنتم عليه أولاً من الغي والضلال. فيا إخواني: الله، الله، فالأمر أعظم من ذلك، فلو خرجنا نجأر إلى الله في الفلوات وعدنا الناس من السفهاء والمجانين في ذلك لما كان ذلك بكثير منا، وأنتم رؤساء الدين والدنيا في مكانكم أعز من الشيوخ والعوام كلهم تبع لكم، فاحمدوا على ذلك، ولا تعلثوا بشيء من الموانع وتفهمون أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يرى ما يكره، ولكن أرشدكم في ذلكم إلى الصبر، كما حكى عن العبد الصالح في وصيته لابنه، فلا أحق من أن تحبوا لله وتبغضوا لله وتوالوا لله وتعادوا لله، وترى يعرض في هذا أمور شيطانية، وهي أن من الناس من ينتسب إلى هذا الدين، وربما يلقي الشيطان لكم أن هذا مهوب صادق وأن له ملحظ دنيوي، وهذا أمر ما يطلع عليه إلا الله، فإذا أظهر أحد الخير فاقبلوا منه ووالوه، فإذا ظهر من أحد شر وإدبار عن الدين فعادوه واكرهوه، ولو أحب حبيب، وجامع الأمر في هذا أن الله خلقنا لعبادته وحده لا شريك له ومن رحمته بعث لنا رسولنا يأمرنا بما خلقنا له ويبين لنا طريقه، وأعظم ما نهانا عنه الشرك بالله وعداوة أهله وبغضهم وتبيين الحق وتبيين الباطل، فمن التزم ما جاء الرسول فهو أخوك ولو أبغض بغيض، ومن نكب عن الصراط المستقيم فهو عدوك ولو هو والدك أو أخوك، وهذا شيء أذكركموه مع أني بحمد الله أعلم أنكم تعلمون ما ذكرته، ومع هذا فلا عذر لكم عن التبيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الكامل الذي لم يبق معه لبس وأن تذاكروا في مجالسكم ما جرى منا ومنكم أولاً، وأن تقوموا مع الحق أكثر من قيامكم مع الباطل، فلا أحق من ذلك ولا لكم عذر لأن اليوم الدين والدنيا ولله الحمد مجتمعة في ذلك فتذاكروا ما أنتم فيه أولاً في أمور الدنيا من الخوف والأذى واعتلاء الظلمة والفسقة عليكم ثم رفع الله ذلك كله بالدين وجعلكم السادة والقادة، ثم أيضاً ما منّ الله به عليكم من الدين. انظروا إلى مسألة واحدة، فمن ما نحن فيه من الجهالة كون البدوي نجري عليه أحكام الإسلام مع معرفتنا أن الصحابة قاتلوا أهل الردة وأكثرهم متكلمين بالإسلام، ومنهم من أتى بأركانه ومع معرفتنا أنه من كذب حرف من القرآن كفر ولو كان عابداً، وأن من استهزأ بالدين أو شيء منه فهو كافر، وأن من جحد حكماً مجمعاً عليه فهو كافر إلى غير ذلك من الأحكام المكفرات، وهذا كله مجتمع في البدون وأزيد ونجري عليه أحكام الإسلام اتباعاً لتقليد من قبلنا بلا برهان. فيا إخواني: تأملوا وتذكروا في هذا الأصل يدلكم على ما هو أكثر من ذلك، وأنا أكثرت عليكم الكلام لوثوقي بكم، أنكم ما تشكون في شيء فيما تحاذرون ونصيحتي لكم ولنفسي والعمدة في هذا أن يصير دأبكم في الليل والنهار أن تجأروا إلى الله تعالى أن يعيذكم من شرور أنفسكم وسيئات أعمالكم وأن يهديكم إلى الصراط المستقيم الذي عليه رسله وأنبياؤه وعباده الصالحون، وأن يعيذكم من مضلات الفتن، فالحق وضح وابلولج وماذا بعد الحق إلا الضلال، فالله الله ترى الناس الذي في جهاتكم تبع لكم في الخير والشر، فإن فعلتوا ما ذكرت لكم ما قدر أحد من الناس يرميكم بشر وصرتوا كالأعلام هداية للحيران، فالله سبحانه وتعالى هو المسؤول ن يهدينا وإياكم سبل السلام، والشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وعياله وعيالنا طيبين ولله الحمد، ويسلمون عليكم وسلموا لنا على من يعز عليكم، والسلام، وصلى الله على محمد، اللهم اغفر لكاتبها ولوالديه ولذريته ولمن نظر فيه فدعا له بالمغفرة والمسلمين والمسلمات أجمعين، فأجابوه برسالة ينبغي أن تذكر، ونصها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا سيد المرسلين من كاتبه الفقير إلى الله أحمد التويجري وأحمد بن عثمان وأخيه محمد إلى من منّ الله علينا وعليه باتباع دينه واقتفى هدي محمد –صلى الله عليه وسلم- نبيه وأمينه الأخ سليمان بن عبد الوهاب زادنا الله وإياه من التقوى والإيمان وأعاذنا وإياه من نزغات الشيطان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعد إبلاغ الشيخ وعياله وعبد الله وإخوانه السلام وبعد، فوصل إلينا نصيحتكم جعلكم الله من الأئمة الذين يهدون بأمره الداعين إليه وإلى دين نبيه –صلى الله عليه وسلم- فنحمد الله الذي فتح علينا وهدانا لدينه وعدلنا عن الشرك والضلال وأنقذنا من الباطل والبدع المضلة، وبصرنا بالإسلام الصرف الخالي من شوائب الشرك، فلقد من الله علينا وعليكم وله الفضل والمنة بما نور لنا من اتباع كتابه وسنة نبيه ورسوله –صلى الله عليه وسلم- وعدلنا عن سبيل من ضل وأضل بلا برهان ونسأله أن يتوب علينا وعليكم ويزيدنا من الإيمان فلقد خضنا فيما مضى بالعدول عن الحق ودحضناه وارتكبنا الباطل ونصرناه جهلاً منا وتقليداً لمن قبلنا فحق علينا أن نقوم مع الحق قيام صدق أكثر مما قنا مع الباطل على جهلنا وضلالنا، فالمأمول والمنبغي منا ومنكم وجميع إخواننا التبيين الكامل لئلا يغتر بأفعالنا الماضية من يقتدي بجهلنا وأن نتمسك بما اتضح وابلولج من نور الإسلام، وما بين الشيخ محمد –رحمه الله- من شريعة النبي –صلى الله عليه وسلم- فلقد حاربنا الله ورسوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 واتبعنا سبيل الغي والضلال ودعونا إلى سبيل الشيطان ونكبنا كتاب الله وراء ظهورنا جهلاً منا وعداوة، وجاهدنا في الصد عن دين الله ورسوله واتبعنا كل شيطان تقليداً وجهلاً بالله فلا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين لا إله إلا الله أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، فالواجب منا لما رزقنا الله معرفة الحق أن نقوم معه أكثر وأكثر من قيامنا مع الباطل نصرح بالتبيين للناس بأننا على باطل فيما فات ونقوم له مثنى وفرادى، ونتوكل على الله عسى الله أن يتوب علينا ويعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن يهدينا سبل السلام وأن يجعلنا من الداعين إلى الهدى لا من الدعاة إلى النار فنحمد الله الذي لا إله إلا هو، حيث منا علينا بهذا الشيخ في آخر هذا الزمان وجعله بإذنه وفضله هادياً للتائه الحيران، نسأل الله العظيم أن يمتع المسلمين به ويعيذه من شر كل حاسد وباغ ويبارك في أيامه وأن يجعل جنة الفردس مأواه وإيناه وأن ينفعنا بما بينه فلقد بين دين محمد –صلى الله عليه وسلم- رغم أنف كل جاحد وصار علماً للحق حين طمس ومصباحاً للهدى حين درست أعلامه ونكس وأطفأ الله به الشرك بعد ظهوره حين عبدت الأوثان صرفاً بلا رمس ولم يزل من الله عليه برضاه ينادي أيها الناس هلموا إلى دين نبيكم الذي بعث به كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ثم لم ينقم منه وعليه إلا أنه يقول أيها الناس اعبدوا ربكم وأعطوه حقه، الذي خلقكم لأجله وخلق لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنْسَ إِلالِيَعْبُدُونِ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، وقال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} وفسر إسلام الوجه بالقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 في العبادة فإن دعا غير الله، أو قصد غير الله، أو نذر لغير الله، أو استغاث بغير الله، أو توكل على غير الله، والتجأ إلى غيره فهذه عبادة لمن قصد بذلك هذا والله الشرك الأكبر وأنا نشهد بذلك وقمنا مع أهله ثلاثين سنة وعادينا من أمر بتجريد التوحيد العداوة البينة التي ما بعدها عداوة فالواجب علينا اليوم نصر الله ودينه وكتابه ورسوله والتبري من الشرك وأهله وعداوتهم وجهادهم باليد واللسان لعل الله أن يتوب علينا ويرحمنا ويستر مخازينا وأكبر من هذا البدو الذين لا يدينون دين الحق، لا يصلون ولا يزكون ولا يورثون ولا لهم نكاح صحيح ولا حكم عن الله ورسوله يدينون به صريح ونقول هم إخواننا إسلام سبحانك هذا بهتان عظيم ومكابرة لما جاء به رسول الله رب، فنقول لا خلاف، أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فإن اختل من هذا شيء لم يكن الرجل مسلماً فإذا عرف التوحيد ولم يعمل به فهو معاند كفرعون وإبليس وإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق شر من الكافر أعاذنا الله وإياكم من الخزي {يَوْمَ تُبْلَى الْسَرَائِرُ} فالواجب علينا وعلى من نصح نفسه أن يعمل العمل الذي يحصل به فكاك نفسه وأنيعبد الله ولا يعبد غيره فالعبادة حق الله على العبيد ليس لأحد فيها شرك لا ملك مقرب ولا يعبد غيره فالعبادة حق الله على العبيد ليس لأحد فيها شرك لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن السفلة والشياطين وحق الله أن نجأ إليه بالليل والنهار والسر والعلانية في الخلوات والفلوات عسى أن يتوب علينا ويعفو عنا ما فات ويعيذنا من مضلات الفتن فالحق بحمد الله وضح وابلولج، وماذا بعد الحق إلا الضلال ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 بعض مفتريات أعداء الدعوة ... فصل وأما قوله: وما ظفر اللعين وأولاده بأحد ممن رد عليهم إلا قتلوه وأفرطوا في قتل العلماء سيما في مدة استيلائهم على الحرمين. فالجواب أن يقال: هذا كله كذب وبهت بحت ما قتل الشيخ -رحمه الله- وأولاده أحداً ممن رد عليهم صبراً بل هذا من الكذب الظاهر الذي لا يمتري فيه عاقل ثم لو فرض أنهم ظفروا بأحد من هؤلاء المرتدين الذي نصبوا أنفسهم للسعي في إطفاء دين الله ورسوله والصد عن سبيله ودعوة الناس إلى عبادة الأولياء والصالحين والدخول في دين المشركين بعد إذ أنقذهم الله منه بدعوة شيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام فأي مانع يمنع من قتل هؤلاء الزنادقة الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويصدون الناس عن الدخول في دين الإسلام والقيام بشعائره العظام، لو فرضنا صدور ذلك من الشيخ وأولاده وأما تسمية الشيخ باللعين فلو كان هذا الملحد من أهل العلم الممارسين وله أدنى إلمام بالعلوم لعلم أن العلماء قد منعوا من لعن المعين ولكن هذه الوقاحة حاصل ما عنده وما لديه وسباب أهل الإسلام غاية مطلوبة وما ينتهي إليه ولم يجعل الله السب شرعاً ينسب غليه وإلى دينه ورسله، بل ذلك حرفة الفارغين ومحاصل الجاهلين ومعول أهل البغي والغي والظلمة الفاسقين وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما قوله: وكانوا إذا جاءهم من يريد اتباعهم أمروه بأن يشهد على نفسه وعلى أبويه أنهم كانوا مشركين فهذا من نمط ما قبله من الكذب والبهتان فما صدر هذا ولا كان ولا نقله أحد من أهل العلم والعرفان عن أهل الدين والإيمان بل كان ذلك منكراً من القول وزوراً وتحكماً بالباطل وفجوراً وتسويلاً من الشيطان لأوليائه وغروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون بل هم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 في سكوتهم يعمهون وفي ريبهم يترددون وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون. وأما قوله: وأن الناس كلهم منذ ستمائة سنة على شرك ويأمرونه بلعن جماعة من العلماء والأشراف يسمونهم له فإن فعل قبلوه ولقنوه مذهبهم وأمروه بإعادة حجه أن كان حج قبل لأنه حج على طريقة المشركين وأن امتنع عن هذه الأمور قتلوه فالقادم عليهم لا يخلص من الموت إلا بالكفر ونهبوا الحجرة الشريفة أخذوا كل ما فيها فاستعاد إبراهيم باشا ما وجده عندهم وأعاده للحجرة وما قد كانوا أعطوه لأتباعهم. فالجواب أن نقول: وهذا أيضا من جنس ما قبله من المفتريات والأقوال المنكرة المخترعة الموضوعات فما صدر ذلك ولا كان بنقل العدول الإثبات بل نقول سبحانك هذا بهتان عظيم. وأما قوله: وكانوا يتأولون في تكفير المسلمين آيات نزلت في حق المشركين ويفسرونها لأتباعهم بما ينطق على مذهبهم. فالجواب أن نقول هذا كذب وافتراء على الشيخ فانه رحمه الله ما تأول الآيات النازلة في المشركين فجعلها في المسلمين وإنما استدل بالآيات القرآنية النازلة في المشركين وجعلها لمن أشرك بالله وعدل به سواه وبدل دينه وفعل كما فعل المشركون من صرف خالص حق الله لمن أشركوا به واتخذوهم شفعاء من دونه ومن منع تنزيل القرآن وما دل عليه من الأحكام على الأشخاص والحوادث التي تدخل تحت العموم اللفظي فهو من أضل الخلق وأجهلهم بما عليه أهل الإسلام وعلماؤهم قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل ومن أعظم الناس تعطيلا للقرآن وهجرا له وعزلا عن الاستدلال به في موارد النزاع وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته وقد قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} وقال تعالى {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فنصوصه وأحكامه عامة لا خاصة بخصوص السبب وما المانع من تكفير من فعل كما فعل المشركون وتنزيل الآيات التي وردت في تكفيرهم على من احتذا حذوهم واقتفى آثارهم واتبع سبيلهم ولو كنت تعرف الكتاب العزيز وما دل عليه من الأحكام والاعتبار لا حجمت عن هذه العبارات التي لا يقولها إلا أفلس الخلق من العلم والإيمان. فصل قال المعترض أصول مذهبهم, قال الشيخ ـ رحمه الله ـ،كانوا يتسترون بالدعوة إلى التوحيد وما هم منه على شيء يدعون الانتساب إلى مذهب الإمام أحمد ابن حنبل وهو بريء منهم يصرحون بتكفير كل من يخالف مذهبهم وان المسلمين كلهم مشركون ويستحلون دم كل مسلم وما له وعرضه ويصرحون بأن لا إيمان إلا بإتباعهم ولا يتحاشون من الطعن بالرسول عليه الصلاة والسلام بكل بذاءة. والجواب أن يقال: معاذ الله وحاشا لله ما هذه الأوضاع التي افتعلها أعداء الله ورسوله أصول مذهب الوهابية بل هذا من التهور في المقال وتعمية وتدليسا على أعين الجهال ومن لا معرفة لديه بحقيقة الحال وقد قدمنا فيما مضى من جوابنا هذا حقيقة مذهب الوهابية وأصوله بما أغنى عن إعادته ها هنا ومن نظر في كلام هؤلاء الزنادقة علم وتحقيق أنهم ما عرفوا من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه. والله ما شموا روائح دينه ... يا زكمة أعيت طبيب زمان وأما ما نقله عن امام كفرهم وضلالتهم أحمد بن دحلان وقد كان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المعلوم عند أهل العلم والإيمان أنه هو الذي تولى كبر هذا الهذيان وزرعه في قلوب إخوانه وأوليائه من ذوي الكفر والطغيان وليس هذا ببدع ممن اتبع هواه واستحوذ عليه الشيطان. فأما قوله: كانوا يتسترون بالدعوة إلى التوحيد وما هم منه على شيء فهذه دعوى مجردة عن الدليل وام بكن فيما يحكيه على أهدى منهج وسبيل وإلا فقد كان من المعلوم أن الشيخ دعا الناس إلى توحيد الله بعد أن كانوا مطبقين على دعوة الأموات والغائبين والأولياء والصالحين، وأنهم كانوا قبله في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء فدعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك وترك عبادة ما سواه وجاهدهم على ذلك حتى دخلوا في دين الله أفواجاً ولم ينكر هذا إلا من طبع الله على قلبه وران عليه سوء عمله وكسبه، وأما انتساب الوهابية إلى مذهب أحمد فنعم، وقد كان ذلك وهو حق على حقيقة وليس بأيديهم إلا كتب الحنابلة ولا يفتي علماؤهم ويحكم قضاتهم إلا بما اشتملت عليه من الفروع والأصول وليس يضرنا تهور من زعم أن ذلك منا دعوى مع وجود الحقيقة والسلوك على الطريقة ومن تأمل أقوالهم وسبر أحوالهم واستقرأ أخبارهم وتحقق أنهم هم المتمسكون بمذهب الإمام أحمد على الحقيقة لا على الانتساب والدعوى. وأما براءة الإمام أحمد منا فأنى لك بهذا وأنت لا تعرف مذهب أحمد على الحقيقة إلا ما كان يعتقده ويدين الله به من الحق ولا ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها بل لست من الإسلام في شيء إنما أنت من عباد الأوثان وإخوان عبدة الصلبان. وتزعم مع هذا بأنك عارف ... كذبت لعمري في الذي أنت تزعم وما أنت إلا جاهل ثم ظالم ... وإنك بين الجاهلين مقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 إذا كان هذا نصح عبد لنفسه ... فمن ذا الذي منه الهدى يتعلم وفي مثل هذا الحال قد قال من مضى ... وأحسن فيما قاله المتكلم إذا كنت تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم بل سوف تدري حين ينكشف الغطا ... ويبدو لك الأمر الذي كنت تكتم وأما قوله: يصرحون بتكفير كل من يخالف مذهبهم وأن المسلمين كلهم مشركون. فجوابه أن يقال: قد كذب هذا الملحد وافترى فإن الوهابية لا يكفرون أحداً خالفهم في رأيهم وهواهم وجميع ما يقولونه، وإنما يكفرون بالشرك بالله وعبادة غيره واتخاذ الوسائط والأنداد في المسألة والتوكل والإنابة، والتكفير لا يضاف إليه بل هو حكم يضاف إلى كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- وما جاءت به الرسل عن الله. وأما قوله: ويصرحون بأن لا إيمان إلا باتباعهم. فالجواب أن يقال: هذه دعوى مجردة يكفي ردها ومنعها واطراحها ومعاذ الله أن يوجبوا على أحد متابعتهم أو متابعة غيرهم إلا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهذه رسائل الشيخ ومصنفاته ينهى عن ذلك ويشدد فيه ويأمر بتجريد المتابعة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- وينكر ما اعتاده الناس من الغلو في رأي العلماء واجتهادهم وتنزيل ذلك منزلة النصوص النبوية وقد عقد باباً في كتاب التوحيد لهذه المسألة. قال –رحمه الله تعالى- "باب من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله، واستدل بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِنْ دُونِ اللهِ} وذكر حديث عدي بن حاتم، وذكر من الآثار عن أهل العلم ما يقضي بدرايته ويشهد بعلمه، وأن هذا المعترض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 لا يتحاشى عن قول الزور وشهادته، وقد قضى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- في شاهد الزور أن يسود وجهه ويطاف به {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} فإذا عرفت وتحققت أن هذه طريقة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في أقواله وجميع شؤونه وأحواله، فكذلك كانت طريقة أتباعه على دين الله ورسوله لا يوجبون إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا يأمرون إلا بأمر الله ورسوله ولا ينهون إلا بما ينهي الله عنه ورسوله ولله في ذلك الحمد وله المنة. وأما قوله: ولا يتحاشون من الطعن بالرسول –عليه الصلاة والسلام- بكل بذاءة. فالجواب أن يقال: سبحانك هذا بهتان عظيم ومن افترى علينا هذا ونسبه إلينا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً وفضحه على رؤوس الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. فصل وأما قوله: ومن قواعد مذاهبهم وأصوله التي لا خلاف بين المسلمين بأنها من المكفرات أولاً قولهم الله أرسل محمداً وأنزل عليه القرآن ليبلغه للناس وما أذن له بأن يشرع للناس شيئاً من عنده فالدين كله في القرآن وكلما جاء في الحديث ويسميه المسلمون سنة واجبة فهو باطل ولا يجوز التعبد والعمل به. ثانياً: قولهم حيث إن محمداً بلغ القرآن ومات فعند نزول آخر آية من القرآن انتهت رسالة محمد وسقطت حقوق الرسالة، وهذا معنى تسمية طارشاً، ومعناه عندهم مرسل جاء برسالة فبلغها وذهب، فلا علاقة للناس فيه والالتفات إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 شرك. ثالثا قولهم: أن الرسل والأنبياء كسائر الناس لا فرق ولا تفاضل بينهم. رابعا قولهم: البذاءة في حقه عليه الصلاة والسلام. منها قولهم: أن العصا خير من محمد لأنها ينتفع بها، ومحمد قد مات، فأي نفع منه. ويحرمون الصلاة والتسليم عليه ولو في التشهد، ويقولون انه شرك بالله ويقتلون من يتلفظ بها. ومنها قولهم: أن الربابة في بيت الزانية أقل إثما من الصلاة والتسليم على محمد واحترقوا كل ما وقع بأيديهم من نسخ دلائل الخيرات والصلوات والأدعية وكتب التفسير والفقه وكتب الأئمة الأربعة وغيرهم. فالجواب: أن نقول: هذا كله كذب وافتراء على الشيخ ما تكلم بهذا ولا قاله ولا نقله احد يعتد بنقله، بل هذا من الموضوعات الملفقة وصريح الإفك والزندقة، وهذه رسائل الشيخ ومصنفاته موجودة مشهورة ليس فيها شيء من هذه النزهات والأقاويل الباطلة والتلفيقات، أن هي إلا أوضاع وضعتموها من عند أنفسكم لتموهوا بها على أعين الناس ونفروا بها عن الدخول في دين الله ورسوله بغيا وعدوانا. بل الذي في كتبه ومصنفاته الأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة. قال -رحمه الله تعالى- في الكتاب الذي صنفه في أصول الأيمان: باب الوصية بكتاب الله عز وجل وقول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} . عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد: أيها الناس انما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي وفي لفظ: كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على هدى ومن تركه كان على الضلالة". رواه مسلم وله في حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 جابر الطويل أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفة "وقد تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله". وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت قال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس "اللهأصبعم اشهد ثلاث مراتب" وعن علي –رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنها ستكون فتن"، فقلنا ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع من العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" رواه الترمذي وقال غريب وعن أبي الدرداء مرفوعاً قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال حلا وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فإن الله لم يكن ينسى شيئاً وما كان ربك نسياً" رواه البزار وابن أبي حاتم والطبراني إلى آخر الباب. ثم قال –رحمه الله تعالى-: باب تحريضه –صلى اله عليه وسلم- على لزم السنة والترغيب في ذلك وترك البدع والتفرق والاختلاف والتحذير من ذلك، عن العرباض بن سارية –رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في موعظة وجلت منه القلوب وذرفت منها العيون، فقال رجل يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ضلالة" صححه الترمذي، ولمسلم عن جابر –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" وللبخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه- رفعه: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قيل ومن يأبى قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" إلى آخر الباب، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً كقوله –صلى الله عليه وسلم-: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يبلغه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيتُ عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي في "دلائل النبوة"، وعن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "الا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله" الحديث بتمامه رواه أبو داود، وعن العرباض بن سارية قال: قام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن ألا وإني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر" الحديث رواه أبو داود فإذا عرفت أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- جعل الاعتصام بالسنة والتحريض والترغيب فيها وترك البدع والتفرق والاختلاف من أصول الإيمان التي لا يستقيم الإسلام ولا يتم بناؤه إلا عليها فمن كان يعتقد هذا ويرى أنه من الأصول الإيمانية، كيف يقال فيه إنه يقول كلما جاء في الحديث ويسميه المسلمون سنة واجبة فهو باطل ولا يجوز التعبد والعمل به؟ فهل يقول هذا أو يحكيه عن الشيخ عارف أو عاقل أو مجنون؟ بل لا يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أنه موقوف بين يدي الله وأنه مسؤول عن ذلك، ولكن أعداء الله ورسوله يضعون من عند أنفسهم أوضاعاً وينسبونها لأهل الملة الحنيفية والطريقة المحمدية ظلماً وعدواناً {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ، ثم إنه قد كان من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يشرع لأمته شرعاً من عند نفسه لم يأذن الله فيه؛ ولم يأمر به بل كل ما شرعه الرسول وسنه وأوجبه وأحله وحرمه وأمر به ونهى عنه فهو كله وحي أنزل الله عليه وأمره بتبليغه، كما قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى , مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى , وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى , إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وقال تعالى {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} إذا علمت ذلك فالوهابية يعتقدون ويعلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن على نبيه –صلى الله عليه وسلم- وأن الرسول بلغ القرآن عن الله وأن مما أخبر الله به في القرآن أن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وأنه أمر أزواج نبيه –صلى الله عليه وسلم- أن يذكرن ما في بيوتهن من آيات الله والحكمة، وأنه امتن على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ومن المعلوم أن ما يذكر في بيوت أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- إما القرآن وأما ما يقوله من غير القرآن وذلك هو الحكمة وهو السنة فثبت أن ذلك مما أنزله الله وأمر بذكره وقد أمر الله تعالى بطاعته في القرآن في آيات كثيرة، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقال عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى , مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى , وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى , إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فهذا وأمثاله يبين أن الله عز شأنه أوجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 اتباعه فيما يقوله وإن لم يكن من القرآن، وأيضا فرسالته اقتضت صدقه فيما يخبر به عن الله تعالى من القرآن، وغير القرآن فوجب بذلك تصديقه فيما أخبر به وإن لم يكن ذلك من القرآن وإذا كان هذا هو معتقد الوهابية فأي عيب يوجه إليهم وأي بيان أوضح من هذا البيان؟ فقد وضح الحق واستبان وما بعد الحق إلا الضلال. وأما قوله: ثانياً قوله حيث إن محمداً بلغ القرآن ومات فعند نزول آخر آية من القرآن انتهت رسالة محمد وانقطعت عنه حقوق الرسالة، وهذا معنى تسميته طارشاً ومعناه عندهم مرسل جاء برسالة فبلغها وذهب فلا علاقة للناس فيه، والالتفات إله شرك. فالجواب أن يقال: أما دعواه أنا نسمي النبي –صلى الله عليه وسلم- طارشاً وأن معناه عندنا مرسل جاء برسالة إلى آخره فهذه كذب وزور وفجور ما تكلم أحد من الوهابية بهذا الكلام الذي لا يحكيه إلا أشباه الأنعام ومن المعلوم أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- بلغ القرآن ومات وقد أكمل الله به الدين وبلغ البلاغ المبين، وأن دينه باقي إلى يوم القيامة، وأن الصحابة –رضي الله عنهم- قاموا بهذا الدين بعد نبيهم وكذلك التابعون لهم بإحسان، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وأنه لا خير إلا دل أمته عليه ولا شر إلا حذرها عنه، فحقوقه –صلى الله عليه وسلم- ورسالته لم تنقطع بل هي باقية إلى يوم القيامة، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} الآية والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى رسوله هو الرد إلى سنته، وقال تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية فطاعته –صلى الله عليه وسلم- واجبة باقية إلى يوم القيامة فكل ما أمر به وشرعه لأمته وأوجبه وسنه وأحله وحرمه، وكل ما نهى عنه وحذر عنه أمته فهو باقٍ لم ينقطع بموته –صلى الله عليه وسلم- وهذا هو زبدة الرسالة ولبها، ولذلك لم يخل الله الأرض من قائم بحججه لئلا تنقطع آياته وبيناته التي أرسل بها رسوله فالالتفات إلى الغيمان بحقوق النبي –صلى الله عليه وسلم- التي أوجبها الله على خلقه واجب باقٍ ببقاء الدنيا، وأما حقوق الله سبحانه وتعالى التي اختص به دون سائر خلقه، فليس لأحد فيها شركه لا لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهما، وهي إفراده سبحانه وتعالى بالعبادة كالدعاء والحب والخوف والرجاء والتوكل والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة والذبح والنذر والخضوع والخشوع والرغبة والرهبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادة التي من صرفها لغير الله كان مشركاً فالالتفات إلى غير الله تعالى فيها شرك فمن دعا غير الله في طلب حاجة أو كشف كربة والتجأ إليه فيها فقد أشرك بالله غيره في هذه العبادة ومن استغاث بالله في إزالة شدة واستغاث بغيره فيها فقد أشركه مع الله في هذه العبادة وكذلك الحب والخوف والرجاء وسائر أنواع العبادة التي تقدم ذكرها فإذا تحققت هذا فالوهابية قائمون بحقوق النبي –صلى الله عليه وسلم- من الحب له والتعظيم والتعزير والتوقير والإيمان بما جاء به وتقديم قوله على قول كل أحد كائناً من كان، وكذلك قائمون بحقوق الله سبحانه وتعالى المتقدم بيانها ولا يجعلون فيها تعلقاً والتفاتاً لأحد من الخلق إلا الرسول –صلى الله عليه وسلم- ولا غيره من الأنبياء فضلاً عن غيرهم، لأن ذلك إشراك بالله في إلهيته وهم في ذلك متمسكون بما كان عليه العلماء من أهل السنة والجماعة وسلف الأمة وأئمتها كما قال ابن القيم –رحمه الله تعالى- في الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يا من له عقل ونور وقد غدا ... يمشي به في الناس كل زمان لكننا قلنا مقالة صارخ ... في كل وقت بينكم بأذان الله الرب رب والرسول فعده ... حقاً وليس لنا إله ثان فلذاك لم نعبده مثل عبادة الر ... حمن فعل المشرك النصراني كلا ولم نغلو الغلو كما نهى ... عنه الرسول مخافة الكفران لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق هما حقان لا تجعلوا الحقين حقاً واحداً ... من غير تمييز ولا فرقان فالحج للرحمن دون رسوله ... وكذا الصلاة وذبح ذي قربان وكذا السجود ونذرنا ويميننا ... وكذا متاب العبد من عصيان وكذا التوكل والإنانة والتقى ... وكذا الرجاء وخشية الرحمن وكذا العبادة واستعانتنا به ... {إياك نعبد} ذان توحيدان وعليهما قام الوجود بأسره ... دنيا وأخرى حبذا الركنان وكذلك التسبيح والتكبير والته ... ليل حق الهنا الديان لكنما التعزير والتوقير حق لل ... رسول بمقتضى القرآن والحب والإيمان والتصديق لا ... يختص بل حقان مشتركان هذي تفاصيل الحقوق ثلاثة ... لا تجعلوها يا أولي العدوان حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك للشيطان من غير إشراك به شيئاً هما ... سببا النجاة فحبذا السببان ورسوله فهو المطاع وقوله ال ... مقبول إذ هو صاحب البرهان والأمر منه الحتم لا تخيير في ... ـه عند ذي عقل وذي إيمان وهو المقدم في محبتنا على الأ ... هلين والأزواج والولدان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وعلى العباد جمعيعهم حتى على النفس ... التي قد ضمها الجنبان وهو المطاع وأمره العالي على ... أمر الورى وأوامر الشيطان إلى آخر الفصل. وقال شيخ الإسلام –رحمه الله-: وجماع الدين أصلان وأن لا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع، ولا نعبده بالبدع كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وذلك تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، ففي الأولى أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية أن محمداً هو رسوله المبلغ عنه، فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره وقد بين لنا ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبرنا أنها ضلالة، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} كما أنا مأمورون أن لا نخاف إلا الله ولا نتوكل إلا على الله ولا نرغب إلا إلى الله ولا نستعين إلا بالله وأن لا تكون عبادتنا إلا لله، فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فجعل الإيتاء لله والرسول كما تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وجعل التوكل على الله وحده بقوله: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} ولم يقل ورسوله كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ومثل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي حسبك وحسب المؤمنين كما قال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ثم قال: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} فجعل الإيتاء لله والرسول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقد ذكر الفضل لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين، وقال: {إ ِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فجعل الرغبة إلى الله وحده كما في قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ , وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وقال النبي –صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع، فجعل العبادة والخشية والتقوى لله وجعل الطاعة والمحبة لله ورسوله كما في قول نوح –عليه السلام-: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} وأمثال ذلاك، فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه والطاعة لهم فأضل الشيطان النصارى وأشباههم فأشركوا بالله وعصوا الرسول فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، فجعلوا يرغبوا إليه ويتوكلون عليهم ويسألونهم مع معصيتهم لأمرهم ومخالفتهم لسنتهم وهدى الله المؤمنين المخلصين لله أهل الصراط المستقيم الذين عرفوا الحق واتبعواه فلم يكون من المغضوب عليهم ولا الضالين فأخلصوا دينهم لله وأسلموا وجوهم لله وأنابوا إلى ربهم وأحبوه ورجوه وخافوه وسألوه ورغبوا إليه وفوضا أمورهم إليه وتوكلوا عليه وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم، وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، وهو الدين الذي لا يقبل من أحد ديناً إلا إياه وهو حقيقة العبادة لرب العالمين فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليه ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسملين. انتهى، هذا والذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه شمس الدين ابن القيم –رحمهما الله تعالى- هو الذي نعتقده وندين الله به لأنه صريح ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- وصريح ما عليه أئمة السلف والمحققون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 من أهل العلم في كل مكان وزمان وما سوى ذلك مما عليه المخالفون لهم من أهل البدع والكفر والفسوق والعصيان فباطل وضلال وهذيان وما يوحيه الشيطان إلى أوليائه من عبدة الأوثان، وهؤلاء يزعمون أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حي في قبره يأكل ويشرب وينكح وأنه يتصرف في الكون مع الله وأنه يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء عن من لاذ بحماه، وأنه يغيث اللهفان ويفرج الكربات، وأن يلجأ إليه في جميع الطلبات ويقضي لهم الحاجات ويعافي أولي العاهات ويزيل عنهم جميع المكروهات والبليات، إلى غير ذلك مما هو من حقوق الله مختص به عن سائر المخلوقات، وأن هذا التعلق به والالتفات إليه فيه بعد موته –صلى الله عليه وسلم- من متقضيات رسالته لا ينقطع بموته ومن أنكر هذا وقال إنه من خصائص الله وحقوقه ومن صرفها لغيره كان مشركاً أو نفاه عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان كافراً وهابياً، فنعوذ بالله من رين الذنوب وانتكاس القلوب كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون. وأما قوله: ثالثاً قولهم إن الرسل والأنبياء كسائر الناس لا فرق بينهم ولا تفاضل بينهم. فالجواب أن يقال: إن أراد أن الرسل والأنبياء لهم تصرف في الكون بعد موتهم وأنهم يجيبون الدعوات ويغيثون اللهفات ويفرجون الكربات عن من تعلق عليهم ودعاهم والتجأ إليهم واستغاث بهم في جميع الطلبات وقضاء الحاجات وأنهم متميزون بهذا عن سائر البشر من المخلوقات، فهذا كذب، فأنه قد كان من المعلوم أنهم يدعون ويستغيثون ولائجهم من دون الله فيستغيثون بهم ويدعونهم في مشاهدهم وعند قبورهم وفي حال الغيبة، يا عبد القاد يا أحمد البدوي يا رفاعي يا عيدروس يا محيي النفوس، وغير هؤلاء ممن يدعونهم ويستغيثون بهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ويتعلقون عليهم من سائر الأولياء والصالحين، ويسوون بينهم وبين الرسل والأنبياء فسائر الأولياء والصالحين عندهم كالأنبياء والمرسلين لا فرق، وهذا هو محض حق الله لا شركة فيه لأحد من الخلق مع الله، وإن أراد أن الرسل والأنبياء متميزون عن سائر الخلق بما فضلهم الله بهم من الرسالة والنبوة ووجوب الإيمان بهم وبما جاءوا به من عند الله ووجوب طاعتهم وامتثال ما أمروا به والاجتناب ما نهوا عنه وتعزيرهم وتوقيرهم وتقديم محبتهم على النفس والأهل والمال والناس أجمعين، وأن هذا لا ينقطع بموتهم فهذا حق والوهابية ينكرون هذا بل يعتقدونه ويدينون الله به. وأما قوله: رابعاً أقوالهم البذيئة في حقه –عليه الصلاة والسلام-، منها قولهم إن العصا خير من محمد لأنها ينتفع بها ومحمد قد مات، فأي نفع منه؟ فالجواب أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم ما قال هذا أحد من الوهابية قديماً ولا حديثاً هذا من الأوضاع المكذوبة عليهم. وأما قولهم: ويحظرون الصلاة والتسليم عليه ولو في التشهد ويقولون إنه شرك ويتقولن من يتلفظ بها، ومنها قولهم إن الربابة في بيت الزانية أقل إيماً من الصلاة والتسليم على محمد. فالجواب أن نقول: وهذا أيضاً من الكذب والبهتان وقول الزور والهذيانه فمن نسب عنا هذا وافتراه علينا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً وفضحه على رؤوس الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، بل الوهابية يعتقدون وجوب الصلاة على النبي ويرون فرضيته في الصلاة، وأنه ركن لا تصح الصلاة بدونها ويقرأون هذا ويعلمونه أبناءهم ونساءهم وعامتهم وخاصتهم كما هو مذكور في الأصول التي يسألون عنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 جميع الناس في المشاهد والمساجد لا يخفى ذلك على أحد ممن له أدنى مسكة من عقل ودين، ويرون أن من شروط الجمعة تقدم خطبتين ومن شرط صحتهما حمد الله والصلاة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقراءة آية والوصية بتقوى الله عز وجل، ويقول الخطيب منهم في الخطبة الأخيرة: واعلموا أن الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وإذا كان هذا مذهبهم واعتقادهم، فكيف يقولون إنه شرك بالله ويقتلون من يتلفظ بها، وأن الربابة في بيت الزانية أقل إثماً من الصلاة والتسليم على محمد، فهل يقول هذا أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ ومن كان لا يستحي قال ما يشتهي، وفي الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وقد ذكر الشيخ الإمام حسين بن غنام في تاريخه روضة الأفكار جواباً لبعض المعترضين على الشيخ محمد –رحمه الله- لما قال ومن ذلك أنه كان يكره الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- ويتأذى من سماعها، وينهى عن الجهر بها على المنابر ويؤذي من يفعله، ومنه الإتيان بها على المنابر ليلة الجمعة، فقال -رحمه الله-: وأما قوله: وأبطل الصلاة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في يوم الجمعة وليلتها فهذا الكلام على بشاعة لفظه فيها إبهام وإيهام وتشنيع بظاهره عند العوام وتنفير لهم عن توحيد الملك العلام، فإن الشيخ –رحمه الله- لم ينه عن ذلك ولم يبطله، لا الفعل الذي يفعل في كثير من البلدان، وقد أبطله جماعة من الأعيان، وأنكره جمع من نقاد هذا الِشأن، وقالوا: لا يتقرب به إلى الله تعالى ولا يدان؛ لأنه بدعة محضة أظهرها في مقام العبادة الشيطان، وأشرب حبها من هو في الحماقة والتعصب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 كالولدان، فخير الهدي هدي الرسول وما ورد عن خلفائه مقبول، وما حدث بعد القرن السابع وكان بعده متوالياً شائع، حتى صيروه واتخذوه ديناً ومنهجاً جاء به الشارع، وكان للنفوس إليه أعظم داع ووازع، فلن يسوغ لذوي العقول من حملة الشرع ممارسة المنقول أن يسكتوا عنه فلا ينتهروا صاحبه ولا يزجروه، ولا يزيلوه فوراً ويغيروه ويعترضوه وينكروه، فضلاً عن كونهم يرتضون فعله، ويقرون أربابه وأهله، وليت من دان الله تعالى به عرف دين من أصله ووضعه حتى يعترض على من أنكره ومنعه، فقد ذكر السيوطي في كتابه الوسائل إلى معرفة الأوائل، أن أول من أحدث التذكير يوم الجمعة ليتهيأ الناس لصلاتها بعد الستمائة في زمن الناصر بن قلاوون، ولا شك أن ما كان من الدين إذ ذاك متخذاً مجعول ومؤسساً شرعه منحول، ليس مأخوذاً به ولا معمول أما يخاف المعترض سوء ذنبه وسخطه لمولاه وربه في توسله وتوصله إليه وقربه بعمل لم يشرعه ولم يأذن به، فويل لمن يحرف الكلم عن مواضعه وينتحل ما ليس واضعه، ويحس ذلك في مواقعه ويضلل من قام حسبة لله في تهيئة موانعه، ما جوابه إذا قام بين يدي مولاه فيما أسداه من الدين وأبداه، وزاد على ما جاء به الر سول وأتاه، أظن أن دين نبيه ناص فكمله ومحياه قبيح فحسنه وجمله، نعوذ بالله مما تقوله الغلاة، ونسأله أن يجنبنا طريق الغواة ولا حول ولا قوة إلا بالله. وليعلم القارئ لهذا الكتاب والواقف على الخطاب أن خلاصة البيان عن ذلك في الجواب الذي أنكره من غير شك ولا ارتياب هو ما يفعل في غالب الأمصار ويعمل في كثير الأقطار لا سيما الحرمين كما صح بالمشاهدة والأخبار، وذلك أن يصعد ثلاثة أو أكثر على رؤوس المنابر ويقرؤون آيات من القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ويصلون على النبي بأرفع صوت وإعلان، ويأتون بقبيح الألحان وأصوات تحاكي غناء القيان، ويمططون آيات الله الكريمة ويغيرون حرمة أسمائه العظيمة، وينقولونها عن معناها إلى معنى وكفى بذاك إثماً ووهناً وتغييراً لما أراده الله بأسمائه الحسنى، لقد خسر والله من ضل سعيه وهو يحسب أنه يحسن صنعاً. انتهى. وأما قوله: وأحرقوا كل ما بأيديهم من نسخ دلائل الخيرات والصلوات والأدعية وكتب التفسيرات والفقه وكتب الأئمة الأربعة وغيرهم. فالجواب أن يقال: قد أجاب عن هذا كله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى- في رسالته التي كتبها إلى عبد الرحمن بن عبد الله فقال في جوابه: وأما دلائل الخيرات فله سبب وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- بأي لفظ كان فهذا من البهتان، وأما إحراقه لكتب التفسير والفقه وكتب الأئمة الأربعة. فالجواب: أنه قد ذكر –رحمه الله- في بعض أجوبته فقال ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة والمعتبرة ومن أجلها لدينا تفسير محمد بن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي وكذلك البيضاوي والبغوي والخازن والجلالين والنووي على مسلم والمناوي على الجامع الصغير ونحوهم على كتب الحديث خصوصاً الأمهات الست وشروحها ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولاً وفروعاً وقواعد وسيراً وصرفاً ونحواً وجميع علم الأئمة ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات، فإذا عرفت ذلك فكيف يقول أعداء الله ورسوله أنه أحرق كتب الفقه، وقد صنف في ذلك مصنفات واختصر الشرح الكبير والإنصاف وصنف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 في الحديث ككتاب التوحيد وأصول الإيمان وكتاب مجموع في الحديث وله مصنفات ورسائل عديدة مفيدة، وبهذا تعلم أنهم إنما يتعبون أهواءهم وما يضعه الواضعون من أعداء الدين من الأكاذيب فالله المستعان. فصل ثم قال المعترض قال -رحمه الله-: زعم هؤلاء الكفرة أنهم أخذوا الدين من القرآن العظيم، لكنهم في الحقيقة نبذوه كما نبذوه غيره لأنهم أباحوا لكل إنسان منهم تفسيره بما يريد، وأن يعمل بما يفهم منه، وأطلقوا لأتباعهم الإرادة في الحكم بين الناس برأيهم. والجواب أن يقال: قد تقدم الجواب عن ذلك، وأن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- قد ذكر أن الاعتصام بالسنة من أصول الإيمان وذكر في ذلك أحاديث وأنه يستعين على فهم القرآن بكتب التفسير وعلى فهم السنة بشروح الحديث وعلى الأحكام بكتب الفقه كما تقدم قريباً فأعنى عن إعادته، فتبين بهذا كذبهم وافترائهم على الشيخ وعلى أتباعه بأنهم لا يأخذون الدين إلا من القرآن فقط، بل يأخذونه ولله الحمد من القرآن ومن السنة ويأخذون من كلام العلماء ما وافق الكتاب والسنة ويرددون من كلامهم ما خالفهما. وأما قوله: وحرموا الدعاء بعد الصلاة وقالوا إنه بدعة، فالجواب أن نقول نعم قد حظر الشيخ محمد وأتباعه ومنعوا الدعاء بعد الصلاة على الوجه الذي يفعله الناس اليوم في غالب الأمصار، لأن ذلك بدعة لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يكن يفعل ذلك ولا أحد من الصحابة بعده ولا التابعون ولا الأئمة المهتدون، وبيان ذلك بما ذكره شيخ الإسلام –رحمه الله- لما سئل عما يفعله الناس بعد الصلوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الخمس، فقال الجواب الحمد لله لم يكن النبي –صلى الله عليه وسلم- يدعو هو ولا المأمومون عقيب الصلوات الخمس كما يفعله الناس عقيب الفجر والعصر ولا نقل ذلك عن أحد ولا استحب ذلك أحد من الأئمة، ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك لكن طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر، قالوا لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما فتعوضا بالدعاء عن الصلاة، واستحب طائفة من أصحاب الشافعي وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس، وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه ومن أنكر عليه فهو مخطئ باتفاق العلماء، فإن هذا ليس مأموراً به لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب في هذا الموطن، بل الفاعل أحق بالإنكار فإن المداومة على ما لم يكن النبي –صلى الله عليه وسلم- يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعاً بل مكروهاً كما لو داوم على الدعاء عقيب الدخول في الصلوات أو داوم على القنوت في الركعة الأولى في الصلوات الخمس أو داوم على الجهر بالاستفتاح في كل صلاة ونحو ذلك فإنه مكروه، وإذا كان القنوت في الصلوات الخمس قد فعله النبي –صلى الله عليه وسلم- أحياناً، وجهر رجل خلف النبي –صلى الله عليه وسلم- بنحو ذلك فأقره عليه، فليس كلما شرع فعله أحياناً تشرع المداومة عليه، ولو دعا الإمام والإمام أحياناً عقيب الصلاة لأمر عارض لم يعد هذا مخالفة للسنة كالذي يداوم على ذلك، والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يدعو دبر الصلوات قبل السلام ويأمر بذلك كما قد بسطنا الكلام على ذلك، وذكرنا ما في ذلك من الأحاديث وما يظن أن فيه حجة للمنازع في غير هذا الموضوع، وذلك لأن الداعي يناجي ربه فإذا انصرف مسلماً انصرف عن مناجاته، ومعلوم أن سؤال السائل لربه حال مناجاته هو الذي يناسب دون سؤاله بعد انصرافه كما أن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 يخاطب ملكاً أو غيره فإن سؤاله له وهو مقبل على مخاطبته أولى من سؤاله بعد انصرافه عنه، انتهى. وأما قوله: وقالوا عن الأئمة واتباعهم أنهم ضلوا وأضلوا حيث كانت الشريعة واحدة فجعلوها أربعة، فجوابه أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم بل هذا من الأوضاع التي وضعها أعداء الله ورسوله والذي عليه الوهابية هو ما ذكره الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الرسالة التي كتبها بعد دخول المسلمين مكة المشرفة سنة ثمانية عشر بعد المائتين والألف قال فيها ونحن أيضاً في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله-، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم، فلا نقرهم على شيء من مذاهبهم الفاسدة بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة. انتهى. فهذا صريح قول الوهابية ومضمون كلامهم وإذا كان ذلك كذلك فكيف يسوغ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفتري عليهم ما لم يقولوه من هذا الهذيان البارد السمج ومن له أدنى مسكة من عقل ودين وقوله: وفي كل جمعة يقول الخطيب أن كل من يتوسل بالرسول محمد يكفر ويتلو قول الله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} فأقول لا أصل لهذه الدعوى الكاذبة الخاطئة فإنها من جنس أخواتها الماضية فلا يعول عليها ولا يُلتفت إليها إلا بالمنع والرد واطراحها ولفظ التوسل لفظ مشترك يطلق ويراد به دعاء الأنبياء والصالحين بعد موتهم ويطلق ويراد به التوسل بذوات الأنبياء والصالحين ويجاهدهم ويطلق ويراد به طلب به طلب الدعاء من الحي الحاضر القادر وبالدعوات الصالحات والإيمان والإيمان وفعل ما يحبه الله ويرضاه وسيأتي الكلام على بيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ذلك وتفصيله في محله إن شاء الله تعالى، وكذلك قوله: وكانوا إذا ظفروا بالعائدين من زيارة الرسول –عليه الصلاة والسلام- يحلقون لحاهم ويركبونهم مقلوبين ويشهرونهم فأقول هذا من نمط ما تقدم من الأكاذيب التي لا أصل لها فما صدر هذا ولا كان بل هو من أوضاع أهل الكفر والطغيان وهذيان أهل الفسوق والعصيان الذين أشربت قلوبهم بعداوة أهل التوحيد والإيمان. وأما قوله: والخبيث رئيسهم كان يسند مذهبه وكل ما يدعيه إلى الوحي فأقول: بل الخبث والكفر والجحود منكم بدأ وإليكم يعود، وأما ما يسنده الشيخ من مذهبه إلى الوحي فنعم وقد تقدم بيانه بأدلته في عقيدته. وأما ما ينسبه طاغيتكم وإمام كفركم وضلالكم من هذه الأوضاع التي وضعها والأكاذيب التي جمعها فقد بينا براءة الشيخ منها وأنها من إفككم وأكاذيبكم التي تصدون بها الناس من الدخول في دين الله بغياً وعداوناً وتزعمون ببغيكم أن الشيخ ينسب ما وضعتموه إلى الوحي ومعاذ الله من ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فصل: التجسيم وبراءة السلفية منه وأما قوله: ومن مذهبهم القول بالتجسيم للباري جل وعلا وقرروه في دروسهم. فالجواب أن نقول: اعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً فيكون له الإثبات ولا نفياً فيكون له النفي فمن أطلقه نفياً وإثباتاً سئل عما أراد به فإن قال أردتُ بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه فلا يقال للهوا جسم لغة ولا للنار ولا للماء هذه اللغة وكتبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 بين أظهرنا فهذا المعنى منفي عن الله سبحانه عقلاً وسمعاً وإن أرتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر المفردة فهذا منفي عن الله سبحانه قطعاً والصواب نفيه من الممكنات أيضاً فليس لجسم المخلوق مركباً من هذه ولا هذه وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب فهذه المعاني ثابتة للرب تعالى وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصب ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبرياً ولا نرد ما أخبر به الصادق المصدوق عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث متبعيها حشوية ولا نجد صفات خالقنا من علوه على خلقه واستوائه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مشبهاً: فإن تجسيماً ثبوت استوائه ... على عرشه إني إذاً لمجسم وإن كان تشبيهاً ثبوت صفاته ... فمن ذلك التشبيه لا أتلعثم وإن كان تنزيهاً جحود استوائه ... وأوصافه أو كونه يتكلم فمن ذلك التنزيه نزهت ربنا ... بتوفيقه والله أعلى وأكرم ورحمة الله على الشافعي حيث فتح للناس هذا الباب في قوله المشهور: يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي وهذا كله مأخوذ من قول الشاعر الأول: وعيرني الواشون أني أحبها ... وذلك ذنب لست منه أتوب ومن هذا الوادي قول مجنون بني عامر لما ذهب به أبوه إلى البيت الحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وأراد أن يدعو عند الملتزم بزوال حب ليلى فالتزم بالملتزم وقال: يا رب لا تسلبني حبها أبداً ... ويرحم الله عبداً قال آمينا وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق بالله تعالى بأصبعه رافعاً لها إلى السماء بمشهد الجمع الأعظم مستشهداً له لا للقبلة وإن أردتم بالجسم ما يقال له أين فقد سأل أعلم الخلق بأين منهباً على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه ولم يقل هذا السؤال إنما يكون عن الجسم وأنه ليس بجسم وإن أردتم بالجسم ما يلحقه من والى فقد نزل جبريل –عليه السلام- من عنده تعالى وعرج برسوله –صلى الله عليه وسلم- إليه وإليه يصعد الكلم الطيب وعبده عيسى ابن مريم المسيح رفعه إليه وإن أردتم بالجسم ما يتميز عنه من أمر غير أمر فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال منعوت بنعوت الجلال والجمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة والإرادة وهذه صفات متميزة متغايرة من قال إنها صفة واحدة فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء. وقد قال أعلم الخلق به "أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منه" والمستعاذ به غير المستعاذ منه، وأما استعاذته –صلى الله عليه وسلم- به منه فباعتبارين مختلفين فغن الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوف واحد ورب واحد والمستعيذ بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذ بالموصوف بهما منه وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى، وبيده وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه المقدسة أو أطلقها رسوله –صلى الله عليه وسلم- وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستوياً على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستوٍ على عرشه وكذلك إن أردتم بالتشبيه والتركيب هذه المعاني فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى وجناية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 على ألفاظ الوحي أما الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك مركباً مؤلفاً مشبهاً بغيره وتسميتكم هذه الصفات وتركيبها وتشبيهاً، فكذبتم على القرآن وعلى الرسول وعلى اللغة ووضعتم لصفاته ألفاظاً منكم بدأت وإليكم تعود وأما أخطاؤكم في المعنى فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب فنفيتم المعنى الحق وسميتموه بالاسم المنكر وكنتم في ذلك بمنزلة من سمع أن في العسل شفاء لم يره فسأل عنه فقيل له مانع رقيق يشبه القذرة يتقيؤها الزنابير ومن لم يعرف العسل ينفر منه بهذا التعريف ومن عرفه وذاقه لم يزد هذا التعريف عنده إلا محبة ورغبة فيه ولله در القائل: تقول هذا جناء العسل تمدحه ... وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما ... والحق قد يعتريه سوء تعبير وأشد ما جادل به أعداء الرسول من التنفير عنه هو سوء التعبير عما جاء به وضرب الأمثال القبيحة له والتعبير عن تلك المعاني التي لا أحسن منها بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين توصلت إلى قلوبهم فنفرت عنه وأكثر العقول كما عهدت يقبل القول بعبارة، ويردها بعبارة أخرى وكذلك إذا قال الفرعوني: لو كان فوق السماوات رب وعلى العرش إله كان مركباً قيل له لفظ المركب في اللغة هو الذي ركبه غيره في محله لقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} وقولهم ركبت الخشبة والباب أو ما يركب من أخلاط وأجزاء بحيث كانت أجزاء متفرقة فاجتمعت وركبت حتى صارت شيئاً واحداً كقولهم ركبت الدواء من كذا وكذا فإن أردتم بقولكم لو كان فوق العرش كان مركباً هذا التركيب المعهود وأنه كان متفرقاً فاجتمع فهو كذب وفرية وبهت على الله وعلى الشرع وعلى العقل وإن أدرتم أنه لو كان فوق العرش لكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 عالياً على خلقه بائناً من مخلوقاته مستوياً على عرشه ليس فوقه شيء فهذا المعنى حق فكأنك قلت لو كان فوق العرش لكان فوق العرش، فنفيت الشيء بنفسه بتغيير العبارة عنه وقلبها إلى عبارة أخرى وهذا شأنكم في أكثر مطالبكم وإن أردت بقولك كان مركباً يتميز منه شيء عن شيء فقد وصفته أنت بصفات يتميز بعضها عن بعض فهل كان عندك هذا تركيباً فإن قلت هذا لا يقال وإنما يقال لمن أثبت شيئاً من الصفات، وأما أنا فلا أثبت له صفة واحدة فراراً من التركيب قيل لك العقل لم يدل على نفي المعنى الذي سميته أنت مركباً وقد دل الوحي والعقل والنظر على ثبوته أتنفيه لمجرد تسميتك الباطلة؟ فإن التركيب يطلق ويراد به خمسة معان. الأول تركيب الذات من الوجود والماهية عند من يحمل وجودها زائداً على ماهيتها فإذا نفيت هذا التركيب جعلته وجوداً مطلقاً إنما هو في الأذهان لا وجود له في الخارج والأعيان. الثاني تركيب الماهية من الذات والصفات، فإذا نفيت هذا التركيب جعلته ذاتاً مجردة من كل وصف لا يبصر ولا يسمع ولا يعلم ولا يقدر ولا يدبر ولا حياة ولا مشيئة ولا صفة له أصلاً فكل ذات في المخلوقات أولى من هذه الذات فاستفدت بنفي هذا التركيب الجسيمة كفر بالله وجحدك لذاته وصفاته، وأفعاله. الثالث تركيب الماهية الجسيمة من الهيولي والصورة كما يقول الفلاسفة. الرابع تركيبها من الجواهر الفردة كما يقوله كثير من أهل الكلام. الخامس: تركيب الماهية من أجزاء متفرقة اجتمعت وركبت، فإن أردت بقولك لو كان فوق العرش لكان مركباً كما يدعيه الفلاسفة والمتكلمون، قيل لك جمهور العقلاء عندهم أن الأجسام المحدثة المخلوقة ليست مركبة من هذا ولا من هذا، فلو كان فوق العرش جسم مخلوق محدث لم يلزم أن يكون مركباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 بهذا الاعتبار، فكيف يلزم ذلك في حق خالق المركب الذي يجمع المفرق ويفرق المجتمع ويؤلف بين الأشياء فيركبها كما يشاءون والعقل إنما دل على إثبات الله واحد ورب واحد لا شريك له ولا شبيه له لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ولم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له ولا صفة ولا وجه ولا يدين ولا هو فوق خلقه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء، فدعوى ذلك على العقل كذب صريح عليه كما هي كذب صريح على الوحي، وكذلك تنزيهه عن الجهة إن أردتم أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف بالمظروف، فنعم هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى، ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى، وإن أردتم بالجهة أمراً يوجب مباينة الخالق للمخلوق وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه، فنفيكم لهذا المعنى باطل وتسميته جهة اصطلاح منكم توسلتم به إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل والفطرة، فسميتم ما فوق العالم جهة، وقلتم منزه عن الجهات، وسميتم العرش حيزاً، وقليتم ليس بمتحيز، وسميتم الصفات أعراضاً، وقلتم الرب منزه عن قيام الأعراض به، وسميتم حكمه غرضاً، وقلتم الرب منزه عن الأغراض، وسميتم كلامه بمشيئته ونزله إلى سمائه الدنيا ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء وإرادته المقارنة لمرادها وإدراكه المقارن لوجود المدرك وغضبه إذا عصي ورضاه إذا أطيع وفرحه إذا تاب إليه العباد، ونداه موسى حين أتى الشجرة ونداه للأبوين حين أكلا من الشجرة ونداه لعباده يوم القيامة ومحبته لمن يبغضه حال كفره ثم صار بحبه بعد إيمانه وربوبيته التي شملت كل مخلوق وكل يوم هو في شأن حوادث، وقلتم هو منزه عن حلول الحوادث وحقيقة هذا التنزيه أنه منزه عن الوجود وعن الماهية وعن الربوبية وعن الملك وعن كونه فعالاً لما يريد، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 من الحياة والقيومية، فانظر ماذا تحت تنزيه المعطلة النفاة بقولهم ليس بجسم ولا جوهر ولا مركب، ولا تقوم به الأعراض، ولا يوصف بالأبعاض، ولا يعقل بالأعراض، ولا تحله الحوادث، ولا تحيط به الجهات، ولا يقال في حقه أين وليس بمتحيز. كيف كسوا حقائق أسمائه وصفاته وعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه وتكليمه لخلقه ورؤيتهم له بالأبصار في دار كرامته، نحو هذه الألفاظ، ثم توسلوا إلى نفيها بواسطتها وكفروا وضللوا من أثبتها واستحلوا منه ما لم يستحلوه من أعداء الله، اليهود والنصارى، فالله الموعد وإليه التحاكم وبين يديه التخاصم، نحن وإيماهم نموت ولا أفلح يوم الحساب من ندم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. انتهى من الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لشمس الدين ابن القيم –رحمه الله تعالى-. وأما قوله: ولهم مطاعن بالرسل والأنبياء والأولياء تنفر منها النفوس. فأقول: لو ذكر هذه المطاعن لأمكن الجواب عنها، ولكن لا يخلو إما أن تكون مما ظنوا أنه من المطاعن والمثالب وهو في الحقيقة عند ذوي الإيمان بالله ورسله من الفضائل والمناقب، وإما أن تكون من الأوضاع والأكاذيب التي وضعوها ولفقوها من عند أنفسهم ظلماً وعدواناً وما هي من الظالمين ببعيد. وأما قوله: وفي مدة تسلطهم على الحرمين نبشوا قبور آل البيت والصحابة ودثروها وقالوا أن لا فرق بين الرسل والأنبياء وسائر الناس، بل كل رسول ونبي كسائر الناس. انتهى كلام الشيخ. فالجواب: أن نقول: أما نبش قبور آل البيت والصحابة وتدثيرها فلا أصل له، وإنما هدموا بيت السيدة خديجة وقبة المولد وبعض الزوايا المنسوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 لبعض الأولياء حسماً لمادة الشرك وتنفيراً عن الوقوع فيه ما أمكن، لعظمة شأنه فإنه لا يغفر، وهو أقبح من نسبة الولد إلى الله تعالى إذ الولد كمال في حق المخلوق، وأما الشرك فنقص حتى في حق المخلوق، لقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية فالهدم إنما وقع على القباب ولم ينبشوا من قبور آل البيت ولا غيرهم من قبور الأولياء والصالحين، واحداً، ولكن هذه عادة أعداء الله ورسوله يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون. ثم إن هذا الملحد لما فرع من نقل ما ذكره إمام كفرهم وضلالهم أخذ يفرع عليه ويقرر ما ذهب إليه طاغيتهم من الأكاذيب والهذيان، ولكن زاد عليه هذا بالوقاحة والطغيان وتحذير من يعلم بحقيقة الحال عن الدخول في زمرة أهل الإيمان وحملة السنة والقرآن، ليزرع في قلوبهم عداوة أهل الإيمان بما لفقه من هذه المخرقة وصريح الكفر والزندقة، وبالكلام على ما ذكرهم إمامهم من التأصيل يبطل ما ذكره هذا الملحد من التفريع والتذييل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ولنختم الكلام على ما ذكره هذا المعترض من الأكاذيب الموضوعة على الشيخ بما ذكره الشيخ الإمام ملا عمران، نزيل لنجة، جواباً لمن اعترض على الشيخ بنحو من هذه الأكاذيب الموضوعة والترهات المصنوعة، فقال –رحمه الله تعالى-: جاءت قصيدتهم تروح وتغتدي ... في سب دين الهاشمي محمد قد زخرفوها للعوام بقولهم ... إن الكتاب هو الهدى فيه اقتد لو أن ناظمها تمسك بالذي ... قد قال فيها أولاً إذ يبتدي لهدي ووفق ثم حاز سعادة ... لا شك فيها عند كل موحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 لكنه قد زاغ عما قاله ... متأولاً فيها بتأويل ردي فأنت كشهد فيه سم ناقع ... من ذاق منه ففي الهلاك المبعد إذ شبه الشيخ الإمام المهتدي ... بأخي مسيلمة الكفور المعتدي فهو الذي إن مات معتقداً بذا ... يا ويله ماذا يلاقي في غد ماذا يجيب وما يقول ومن له ... يوم القيامة وهو خصم محمد؟ قد شبه التوحيد بالكفر الذي ... شهد الكتاب به وسنة أحمد الشيخ شاهد بعض أهل جهالة ... يدعون أصحاب القبور الهمد تاجاً وشمسان ومن ضاهاهما ... من قبة أو تربة أو مشهد يرجون منهم قربة وشفاعة ... ويؤملون كذاك أخذاً باليد ورأى لعباد القبور تقرباً ... بالنذر والذبح الشنيع المفسد ما أنكر القراء والأشياخ ما ... شهدوا من الفعل الذي لم يحمد بل جوزوه وشاركوا في أكله ... من كان يذبح للقبور ويفتدي فأتاهم الشيخ المشار إليه بالنصح ... المبين وبالكلام الجيد يدعوهم لله أن لا تعبدوا ... إلا المهيمن ذا الجلال السرمد لا تشركوا ملكاً ولا من مرسل ... كلا ولا من صالح أو سيد فتنافروا عنه وقالوا ليس ذا ... إلا عجيب عندنا لم يعهد ما قاله آباؤنا أيضاً ولا ... أجدادنا أهل الحجى والسؤدد إنا وجدنا جملة الآباء على ... هذا فنحن بما وجدنا نقتدي فالشيخ لما أن رأى ذا الشأن من ... أهل الزمان اشتد عليه غير مقلد ناداهمو يا قوم كيف جعلتم ... لله أنداداً بغير تعدد قالوا له بل إن قلبك مظلم ... لم تعتقد في صالح متعبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 قد عيروه بأنه قد كان في ... وادي حنيفة دار من لم يسعد قلنا لهم ما ضر مصر بأنها ... كانت لفرعون الشقي الأطرد وكذا النماردة الفراعنة الأولى ... كانوا بأرض الله أهل تردد ذا قال أنا رب وذا متنبئ ... هم في بلاد الله أهل تردد يمناً وشاماً والعراق ومصرها ... من كل طاغ في البرية مفسد فبموتهم طابت وطار غبارها ... وزهت بتوحيد الغله المفرد إن المواطن لم تشرف ساكناً ... فيها ولا تهديه إن لم يهتد من كان لله الكريم موحد ... لو مات في جوف الكنيف المرد وبعكسه من كان يشرك فهو لم ... يفلح ولو قد مات وسط المسجد خرج النبي المصطفى من مكة ... وبقي أبو جهل الذي لم يهتد إن الأماكن لا تقدس أهلها ... إن لم يكونوا قائمين على الهدى لو أنصفوا لرأوا له فضلاً على ... إظهار ما قد ضيعوه من اليد ودعوا له بالخير بعد مماته ... ليكافئوه على وفاق المرشد لكنهم قد عاندوا وتكبروا ... ومشوا على منهاج قوم حسد ورموه بالبهتان والإفك الذي ... هم يعملون به ومنهم ييبتدي كمقالهم هو للمتابع قاطع ... بدخول جنات وحور خرد حاشا وكلا ليس هذا شأنه ... بل إنه يرجو بها لموحد قالوا له أشقى الورى مع كونه ... ينهي عن الأنداد للمتفرد قالوا له يا سالكاً طرق الردى ... لم لا تسير على الطريق الأرشد وهمو يرون الشمس ظاهرة لهم ... لن أعمى القلب ليس بمهتد قالوا له يا كافراً يا فاجراً ... ما ضره قول العداة الحسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قالت قريش قبلهم للمصطفى ... ذا سحر ذا كاهن ذا معتدي قد اتهموه بأنه يحتال في ... تأذينه ليجئ أهل المسجد فإذا أتوا قتلوا بغير جناية ... تالله هذا إفك أفاك ردي قالوا يعم المسلمين جميعهم ... بالكفر قلنا ليس ذا بمؤكد بل كل من جعل العديل لربه ... ونهى فصد فذاك كالمتهود قالوا له غشاش أمة أحمد ... وهو النصيح بكل وجه يبتدي هل قال إلا وحدوا رب السما ... وذروا عبادة ما سوى المتفرد وتمسكوا بالسنة البيضاء ولا ... تنطعوا بزيادة وتردد هذا الذي جعلوه غشاً وهو قد ... نطقت به الرسل الكرام لمن هدي من عهد آدم ثم نوح هكذا ... تترى إلى عهد النبي محمد وكذلك الخلفاء بعد نبيهم ... والتابعون وكل حبر مهتدي منهاجهم هذا عليه تمسكوا ... من كان مستناً بهم فليقتد عجباً لمن يتلو الكتاب ويدعي ... علم الحديث مسلسلاً في المسند ويقول للتوحيد غشاً أن ذا ... خطر على من قال فليتشهد ويجدد الإسلام والإيمان معتقداً ... بأن الشيخ خير مجدد ما ذنبه في الناس إلا أنه ... هدم القباب وتلك سيرة أحمد ما صح عند ثقيف لما عاهدوا ... إلا بهدم اللات لو لم يعبد ما اللات إلا كان عبداً صالحاً ... لت السويق لطائف متعبد لما توفي عظموا لضريحه ... كصنيع عباد القبور النكد إذ كان حياً قادراً قاموا بإطعام ... له وبكسوة وتفقد وإذا توارى عنهمو في قبره ... جعلوه نداً للإله السيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ولقد رأى الفاروق يوماً قبة ... نصبت على قبر تشد بأعمد فأشار نحوها دعوه يظله ... عمل له إن لم يكن عمل ردي وحديث أبي الهياج فيه كفاية ... لذوي البصائر والعقول النقد في طمس تمثال وقبر مشرف ... جاء الحديث به صحيح المسند لما نفى الإطراء عنهم والغلو ... قالوا أتيت بذا الجفاء المبعد لو كان حبك للنبي محقق ... لفعلت فعلتنا لعلك تهتدي أما الدلائل فهو لم ينكر بها ... صلوات أزكى العالمين الأمجد إلا التظاهر بالغلو وجعلها ... درساً يكرر في كتاب مفرد فترى لهم حرصاً على تجويدها ... خطاً وتزويقاً وحسن محلد لا يعتنون بمصحف لهم كما ... هم يعتنون براتب وبمولد لكفاه كل مؤونة وتكلف ... ومشى على النهج القويم الأرشد سأل النبي من الصحابة سائل ... كيف الصلاة عليك كالمسترشد؟ فأجاب يرشده بما قد جاء في ... قول المصلي دبر كل تشهد لوحت فيه ولم أصرح حيث لم ... يدخل على وزن القريض المنشد هذا الكلام على الدلائل ليس ما ... قد قاله من شذ عن ذا المقصد وكذا في روض الرياحين الذي ... فيها الغلو بصالح وبسيد والله قد ذم الغلو فقال يا ... أهل الكتاب بغلظة وتهدد إذ قال لا تغلو بنهي لازم ... في دينكم في الحكم لم يتردد عجباً لهم لو كان فيهم منصف ... لرأي المحب محمداً لمحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 من حيث إن الاتباع مقارن ... للحب في نص الكتاب الأمجد قالوا صبأتم قلنا لهم ... الحق شمس للبصير المهتدي ما بيننا نسب نميل له ولا ... حسب يقربنا له بتودد أيضاً ولا هو جارنا الأدنى الذي ... تمتاز نعمته ولم نسترفد لكنها شمس الظهيرة قد بدت ... لذوي البصائر فاهتدى من يهتدي فالعالمون العاملون المنصفون ... له أقروا بالفضائل واليد لكن قليل منهموا في عصرنا ... كالشعرة البيضا يجلد أسود والله قد ذم الكثير وقال في ... حق القليل مقالة لم تجحد بسبأ، وص فاتلها متدبراً ... تلق الصحيح بها فخذه تهتد فإن اعتراكم في الذي قد قاله ... شك وريب واختلاف يبتدي فزنوا بميزان الشريعة قوله ... تجدوه حقاً ظاهراً للمقتدي ولئن وجدتم فاسقاً أو جافياً ... أو جاهلاً في العلم كالمتردد قد زل يوماً أو هفا لا تنسبوا ... هفواته لجناب ذاك المرشد فالآل والأصحاب ماذا ضرهم ... من بعدهم تكدير صافي المورد من بعد ذاك الاجتماع على الهدى ... ظهروا ذوي فرق وأهل تبدد ماذا يضر السحب نبح الكلب أم ... ماذا يضر الصحب سب الملحد ثم الصلاة على النبي محمد ... أزكى الورى أصلاً وأطيب محتد والآل والأصحاب جمعاً كلما ... قد ذب عن ذا الدين كل موحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فصل: التقليد والاجتهاد ثم إن المعترض بعد أن فرغ من تلفيق هذه الموضوعات وتقرير ما حرره من المخرقة والترهات بما لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من العلماء المحققين الذين لهم قدم صدق في العالمين وغنما اعترض على الوهابية بأقوال أعداء الله ورسوله الذين ما عرفوا دين الإسلام ولا ما ينبني عليه من الأحكام لأنهم نشأوا في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء وقد ألفوا ما كان عليه أسلافهم وطواغيتهم من الشرك بالله وما اعتادوه من تعظيم قبور الأنبياء والأولياء والصالحين ودعائهم والاستغاثة بهم في الشدائد والالتجاء إليهم في جميع الطلبات والرغبات والتعلق عليهم في جميع المهمات والملمات فلما أظهر الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ودعا الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه من الأنبياء والأولياء والصالحين والأشجار والأحجار وبين لهم أن هذه العبادات التي صرفوها لغير الله هي محض حق الله لا يصلح منها شيء لغير الله لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما أنكروا ذلك عليه وكفروه وضللوه وبدعوه ورموه بهذه الأكاذيب التي يستحي العاقل من ذكرها ولا تتفق إلا عند من أعمى الله بصيرة قلبه والخصومة بينهم وبينه عند الملك الحق العدل الذي لا يظلم أحداً وما ربك بظلام للعبيد. إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم قال المعترض: ولنرجع إلى المقصود من هذه الرسالة وبالله الاستعانة، المسألة الأولى: في الاجتهاد وقد تبين لك ما تقدم أن من أصول الوهابية إباحة التعبد بالاجتهاد بشرط الاستنباط من القرآن العظيم فقط وإنكار الإجماع الذي اتخذه علماؤنا أصلاً من الأصول التي تبني عليها الأحكام وحيث إن هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الأصل من أصول مذهب دعاة الاجتهاد في هذا الزمان فإيضاحاً لفساد قولهم هذا التكلم إن شاء الله عن كل فرع منه على حدة. والواجب وبالله التوفيق أن نقول: قد بينا فيما تقدم أن هذا ليس من أصول الوهابية وأنه من الكذب الموضوع عليهم ونذكر هاهنا أيضا ما ذكره الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد دخول مكة المشرفة لما سأله بعض المسلمين عن غالب هذه الموضوعات فأجابه عن هذه المسألة فقال رحمه الله تعالي: ونحن أيضا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم لا نقرهم ظهرا على شيء من مذاهبهم الفاسدة بل بخبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة ولا نستحق بمرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد منا يدعبها إلا أنا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من الكتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة فإنا نقدم الجد بالإرث وإن خالف مذهب الحنابلة ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه إلا إذا اطلعنا على نص جلي مخالف لمذهب أحد الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعائر ظاهرة كإمام الصلاة فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح دليل ذلك بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره بالإسرار وشتان ما بين المسألتين فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص وإن خالف المذهب وذلك يكون نادراً جداً ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض ولا مناقضة لعدم الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من أئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 المذاهب الأربعة لاختيارات لهم في بعض المسائل مخالفة لمذهب الملتزمين تقليد صاحبه، ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ومن أجلها لدينا تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذلك البغوي والبيضاوي والخازن والجلالين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين كالعسقلاني والقسطلاني على البخاري والنووي على مسلم والمناوي على الجامع الصغير ونحرص على كتب الحديث خصوصاً الأمهات الست وشروحها، ونعتبر بسائر الكتب في سائر الفنون أصولاً وفروعاً وقواعداً وسيراً ونحواً وصرفاً وجميع علوم الأمة ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلاً إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك كروض الرياحين إلى آخر كلامه، فانظر أيها المنصف أولاً ما ذكره الشيخ –رحمه الله- حيث قال: ونحن في الفروع على مذهب أحمد وليسوا منه في شيء وأنه يرى منهم بالدعوى المجردة والتحكم بالباطل، ثانياً قوله: ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم إلى آخره وهؤلاء يزعمون أنا نحرم التقليد ولا نرى إلا الاجتهاد، ثالثاً قوله: ولا نستحق بمرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد منا يدعيها، وهذا يبطل دعوى هؤلاء المفترين حيث قالوا: إنهم يتعبدون بالاجتهاد بشرط الاستنباط من القرآن العظيم فقط، رابعاً قوله: إلا أنا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه إلى آخره، وهذا هو الحق الذين ندين الله به لإجماع العلماء على ذلك. قال الإمام الشافعي –رحمه الله- أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان، وهؤلاء يوجبون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 تقليد أحد الأئمة المقلدين وإن خالف قوله كتاب الله وسنة رسوله والأئمة الأربعة منعوا من تقليدهم مع وجود النص بخلاف ما قالوا، خامساً قوله ثم إن نستعين على فهم كتاب الله بالتفسير إلى آخره، وهذا يبطل دعوى هؤلاء الزنادقة حيث زعموا أنا نبيح التعبد بالاجتهاد بشرط الاستنباط من القرآن العظيم فقط، وأنا نفسر القرآن من عند أنفسنا وبما نهواه وأنا لا نلتفت إلى السنة ولا نعمل بها، وأنا نتلف كتب الحديث وسائر كتب أهل السنة إلى غير ذلك مما نسبوه إلينا وافتروه علينا ظلماً وعدواناً وتنفيراً للناس عن الدخول في دين الله ورسوله بهذا الهذيان والزور والبهتان. فإذا تبين لك أيها المنصف أنا لا ندعي أنا نستحق بمرتبة الاجتهاد وأنه لا أحد منا يدعيها، فلا لوم علينا ولا عيب يتوجه إلينا بعد هذا البيان فنضرب عن الكلام في هذه المسألة صفحاً ونطوي عليها كشحاً، اللهم إلا وقفنا على بعض الخطأ الواضح والكلام المتناقض مما عثر به قدمه وزل به قلم من هذه المباحث التي لا يسع السكوت لمسلم عندها ننبه عليها بعض التنبيه، فإن أبى أهل الشقاق والنفاق إلا إلزامنا ما لا يلزمنا والتحكم بالباطل على ما يهضمنا فلا عجب من ذلك، فقد زعموا أنا ننتقص الرسل والأنبياء والصالحين والأولياء لما جردنا التوحيد وأخلصنا العبادة لله وحده لا شريك له ولم نجعل فيها شركة لأحد سواه كائناً من كان وتجريدنا متابعة الرسول فلم نقدم على قوله قول أحد كائناً من كان وبالله المستعان وعليه التكلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فصل قال المعترض في الفصل الأول في الإجماع، أما الوهابية وإخوانهم الذينسول لهم الشيطان التكبر عن الأئمة العظام وأفاضل العلماء كما سولت له نفسه التكبر على آدم إلى آخر كلامه. والجواب أن نقول: قد قدمنا قريباً أنا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله-، وبينا أنا لا نستحق بمرتبة الاجتهاد ولا أحد منا يدعيها، فدعوى هؤلاء الزنادقة أنا نتكبر عن تقليد الأئمة العظام كذب وافتراء علينا ولله الحمد والمنة على صراط مستقيم ومنهج قويم، بل نحن أحق بالأئمة وأولى بهم منهم وقد امتثلنا على ما أمرنا به أئمتنا العظام وانتهينا عما نهونا عنه من هذا المرام، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يجوز دعاء الخلق إلى طاعة رجل معين في كل ما يأمر به وينهى عنه ويبيحه إلا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وهؤلاء الأئمة أنفسهم قد نهوا الناس على اتباعهم إلا بحجة إلا إذا ظهرت الحجة في غير قولهم، فقال أبو حنيفة: هذا رأي فمن جاءنا برأي خير منه قبلنا، وقال مالك: إنما أنا بشر فأعرضوا قولي على الكتاب والسنة أو كما قال، وقال أيضاً: ما منا إلا راد أو مردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقال الشافعي: إذا رأيتم الحجة ملقاة على الطريق فاعلموا أني آخذ بها، وقال إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط. وحكي المزني عنه أنه نهى الناس عن تقليده وتقليد غيره من العلماء وله كلام كثير في هذا المعنى ذكره ابن القيم في الإعلام، وقال أحمد لا تقلد دينك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الرجال فإنهم لن يسملوا من أن يغلطوا وقال تقلد دينك أحداً وعليك بالأثر وقال لا تكتب رأيي ولا رأي إسحاق ولا سفيان ولا الشافعي ولا مالك وعليك بالأصل، وقال عجب لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبوا إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك لعله أن يرد بعض قوله فيهلك. فإذا كان هؤلاء الأئمة ينهون من تقليدهم مطلقاً فمن قلدهم مطلقاً فعليه أن يقلدهم في أن لا يقلدهم في وذلك جمع بين الضدين، وإذا كنا لا نستحق بمرتبة الاجتهاد ولا أحد منا يدعيها ولسنا نقلدهم مطلقاً، فالواجب علينا وعلى كل مسلم أنه إذا صح الدليل واستنبانت السنة أن لا نقلد أحداً مع سنة سنها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له السنة فليس له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان، وإذا لم يتبين لنا مثلاً نص من الكتاب والسنة ساغ لنا أن نقلد فيها إمامنا أحمد لما تقدم بيانه من الأدلة، ولما كان عليه أئمتنا، وما ذكر هذا الملحد سوى ما أجبنا عليه من هذيانه فلا نجيب عنه ولا حاجة بنا إلى المناقشة فيما لا طائل تحته لأنه جعجعة بلا طحن وهذيان بارد ولا يستفز به كل ذي قلب سليم ولا ينخدع به إلا الخب اللئيم، ومن كان لا يستحي قال ما يشتهي، والله المستعان. وأما ما ذكره في الفصل الثاني في أسباب اختلاف الأئمة فالذي نعتقده وندين الله به أن الأئمة الأربعة وسائر علماء أهل السنة والجماعة لم يختلفوا في أصل دينهم بل كلهم متفقون على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه وعلى تقديم قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على قول كل أحد كائناً من كان ولا شك أنهم قد اختلفوا في الفروع وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يقول إلا الحق، فمن وافق قوله ما في الكتاب والسنة فقوله مقبول على الرأس والعين، ومن خالف قوله ما في الكتاب والسنة فقوله مردود، وقد كان من المعلوم أنهم رضي الله عنهم قد بذلوا الوسع في الجد والاجتهاد وبذلوا النصح لنفع العباد واجتهدوا في ذلك غاية الاجتهاد، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر لأجل اجتهاده، وهم معذورون فيما لم تبلغهم فيه سنة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فعلينا أن نتولاهم ونعتقد فيهم ما ينبغي أن يعتقد وتكون محبتنا لمن نحب منهم تبعاً لمحبة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ونكون في ذلك على عدل وعلم ونعتقد أنهم كانوا على الصراط المستقيم، فعلينا أن نحقق قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ , صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فإن المغضوب عليهم اليهود والضالين والنصارى وقد ذمهم الله بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} وإذا كان العلماء ورثة الأنبياء وقد أمرنا الله أن لا نفرق بين أحد من رسوله فنؤمن ببعض ونكفر ببعض، ونهانا النبي –صلى الله عليه وسلم- عن التفضيل بين الأنبياء إذا كان فيه انتقاص لمفضول فعلينا أن لا نفعل في ورثتهم كذلك، فإيثار بعض أو روايته بلا برهان من الله تفريق بينهم كما فعله أهل الكتاب في الأنبياء، فالواجب علينا أن نجتهد في طاعة الله ورسوله وندعو إلى سبيله على بصيرة ونتعاون على البر والتقوى ولا نتعاون على الإثم والعدوان، وأيضاً فإن الله فرض علينا طاعته وطاعة رسوله والمقصود من الأئمة أن يدلونا على طاعة الله وطاعة رسوله، فلو أطعنا أحدهم فيما قاله لا لأن الله أمر بذلك لم نثب على ذلك بل ربما عوقبنا عليه، ولو اجتهدنا في طاعة الله ورسوله فأخطأنا أئمتنا على ذلك فكم ممن ينصر قولاً صحيحاً وهو آثم بنصره لق0صيده الفاسد وخروجه عن الدليل الشرعي، ومن ينصر قولاً ضعيفاً وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 مثاب لقصده الصالح وسلوكه الطريق المرشد لمثله. انتهى. فهذا الذي نعتقده وندين الله به وما سوى ذلك مما لفقه هذا الملحد وألزمنا به مما لا يلزمنا أو انتحل فيه طريقة أو مقالة تخالف ما عليه أهل السنة والجماعة فنحن نبرأ إلى الله من ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونعتقد أن الإجماع حق وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة وأن القياس منه حق وباطل وصحيح وفاسد فما وافق الحق منه فهو صحيح وما خالفه فهو من قسم الفاسد وقد ذكر ذلك العلماء، ومن أحسن من تكلم فيه من العلماء شمس الدين ابن القيم في "إعلام الموقعين" فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فصل: حقيقة الفرقة الناجية ومن خطئه الواضح وخزيه الفاضح ما قاله في الفصل الأول في الإجماع حيث قال: ولو نصحتم أنفسكم لعرفتم أن الإجماع الذي أنعم الله به علينا معشر أهل السنة لم يكن مثله لأمة من الأمم أو نحلة من النحل، نحن أهل السنة البالغ عددنا نحو مائتين وخمسين مليوناً منتشرين في كل جهة من كرة الأرض لم نزل متفقين على أخذ أصول ديننا وفروعه عن الأئمة الأربعة العظام وبواسطتهم إلى نبينا –عليه الصلاة والسلام- إلى آخر كلامه. والجواب أن نقول: قد كان من المعلوم بالضرورة عند من له أدنى مسكة من عقل أن هذه الدعوى التي ذكرها هذا الملحد من أمحل المحال وأضل الضلال فإن أحداً من الناس لا يستطيع أن يضبط هذا العدد من اتباع الأئمة المنتشرين في كل جهة من كرة الأرض وأنهم جميعهم مائتين وخمسين مليوناً، وأنهم كلهم متفقون على أخذ أصول دينهم وفروعه عن الأئمة الأربعة العظام وبواسطتهم إلى نبينا -عليه الصلاة والسلام-، ومن ادعى هذا فهو من أحمق الخق وأقلهم عقلاً وأفسدهم مزاجاً، فإن هذا ليس في العقل ولا في الممكن ضبطه بهذا العدد المحصور بل يكذبه الحس والعقل والشرع، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ الْنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الْشَّكُورُ} وقال تعالى: {إِلا الّّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الْصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} وفي الحديث الصحيح أنه –صلى الله عليه وسلم- قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 إلا واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" فبين أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين إلا فرقة واحدة وهي أهل السنة والجماعة، ومن المعلوم أن الثنتين والسبعين فرقة من أمة محمد كلهم أو أكثرهم من أهل الأهواء والبدع ومن المتفقهة والمتكلمين والمنتسبين إلى العبادة من المتصوفة والمتفقرة ونحو ذلك منهم أو المتعصبون لطائفة على طائفة، بل وسائر أهل الأهواء أنهم كلهم على الحق لم يزالوا متفقين على أخذ أصول دينهم وفروعه عن الأئمة الأربعة العظام وبواسطتهم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام على زعم هذا الملحد، ولو سلمنا ذلك لهذا الملحد لكانت الأهواء والبدع مأخوذة عن الأئمة الأربعة وبواسطتهم إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-، وهذا لا يقوله إلا من هو من أكفر الخلق وأضلهم عن سواء السبيل، قال شيخ الإسلام في أثناء كلام له: ولهذا اختلف الناس في الفقهاء هل هم من أولي الأهواء؟ فأدرجهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني والقاضي أبو يعلى بن الفراء وغيرهم في أهل الأهواء لما في نفوس كثير منهم من الهوى في الأحكام، وأخرجهم جماعة منهم ابن عقيل من أهل الأهواء وكلاهما صادق فإن الأصل فيهم أنهم ليسوا من ذوي الأهواء، ثم قد فشا فيهم الهوى فصار لهم نصيب من ذلك حتى يظهر فيهم من البغضاء لغير طائفتهم وإن كانوا من أهل العلم والإيمان ومن الموالاة لذوي طائفتهم وإن كانوا من أهل العلم والإيمان ومن الموالة لذوي طائفتهم وإن كانوا بخلاف ذلك ما يكرهه الله ورسوله وحتى إن المسائل التي اتفقوا فيها على الجواز وإنما اختلفوا في الاستحباب أو الكراهة كمسألة الترجيح في الأذان وشفع الإقامة والاستفتاح والبسملة والقنوت ونحو ذلك لما صارت شعار أظهر فيها من الهوى ما لم يظهر في غيرها، وحتى إن الرجل يحرص على ضبط مقالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 طائفة ويعرض عن الآخرين كأنهم أهل صلة أخرى وإن كانوا قد يكونون أولى بالله ورسوله في كثير مما يعرض عنهم فيه هذا وكتابهم واحد ودينهم واحد ونبيهم واحد. انتهى. فتبين أن الاختلاف الواقع إنما كان بين اتباع الأئمة الأربعة أما في اختلاف التنوع ويكون سببه تارة فساد النية لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض ونحو ذلك فيجب لذلك ذم قول غيره أو فعله أو غلبته التميز أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة ونحو ذلك لما في قيام قوله من حصول الشرف لهما لهما والرياسة، وما أكثر هذا في بني ىدم "وهذا ظلم" ويكون سببه تارة جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعون فيه والجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر أو جهل أدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم أو في الدليل، وإن كان عالماً بما مع نفسه من الحق حكماً ودليلاً والجهل والظلم هما أصل كل شر، كما قال سبحانه وتعالى: {وَحمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومَاً جَهُولاً} انتهى. فهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر أو من له أدنى معرفة أو إلمام بالعلوم الشرعية أن ما وقع في نفوس بعضهم من الجهل بين المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه والجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر وجهل أحدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم أو في الدليل، أن أصل هذا الاختلاف كله مأخوذ عن الأئمة الأربعة وبواسطتهم إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- سبحانك هذا بهتان عظيم وأما اختلاف التضاد فلم يقع ذلك بين الأئمة الأربعة فيما نعلم، وإنما يقع بين اتباع الأئمة، كما يكون ذلك مثلاً في أوصاف الله سبحانه وأفعاله القائمة بذاته، فبعضهم يثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 استواء الله على عرشه ويثبت كلامه وسمعه وبصره وإرادته وحبه وبغضه وسخطه ومقته ورضاه ونزوله إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً إلى غير ذلك من أوصافه وأفعاله الثابتة في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، وبعضهم ينكر هذا كله ويرى أن ذلك مما ينزه الله عنه وهذا يكون بين اتباع الأئمة الأربعة وقد يكون بين أهل المذهب الواحد منهم، وهذا معلوم مشهور مذكور في الكتب المدونة لا ينكره أحد، فهل يقول أحد أن هذا الاختلاف بينهم مأخوذ عن الأئمة الأربعة وأن من أصول دينهم الذي أخذوه بواسطة الصحابة عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، هذا لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس وأجرأهم على الكذب على الله ودينه وشرعه ثم اعلم أن الصحابة –رضوان الله عنهم- لم يختلفوا في شيء من قواعد الإسلام لا في الصفات ولا في القدر ولا في مسائل الأحكام، بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه، نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين، مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله، مثبتين للأمر والنهي والوعد والوعيد، مثتبتين لحكوة الله في خلقه وأمره، مثبتين لقدرة العبد واستطاعته ولفعله مع إثباتهم للقدر، ثم لم يكن في زمنهم ومن يحتج للمعاصي بالقدر، ويجعل القدر حجة لمن عصى أو كفر ولا من يكذب بعلم الله ومشيئته الشاملة وقدرته التامة وخلقه لكل شيء، وينكر فضل الله وإحسانه وخصهم بهذه النعمة ومنه على أهل الإيمان والطاعة وأنه هنو الذي أنعم عليهم بالإيمان والطاعة وخصهم بهذه النعمة دون أهل الكفر والمعصية، ولا يمن ينكر افتقار العبد إلى الله في كل طرفة عين وأنه لا حول ولا قوة إلا به في كل دق وجل، ولا من يقول إن الله يجوز أن يأمر بالكفر والشرك وينهى عن عبادته وحده، ويجوز أن يدخل إبليس وفرعون الجنة ويدخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الأنبياء النار وأمثال ذلك، فلم يكن فيهم من يقول بقول القدرية النافية ولا القدرية الجبرية، ولا كان فيهم من يقول بتخليد أحد من أهل القبلة في النار، ولا من يكذب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، في أهل الكبائر ولا من يقول إيمان الفساق كإيمان الأنبياء بل ثبت عنهم بالأقوال الصحيحة، القول بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار، وأن إيمان الناس يتفاضل، وأن الإيمان يزيد وينقص إلى غير ذلك من هذه القواعد الدينية التي اختلف فيها من بعد الصحابة، لم يختلفوا فيها بالقول ولا بالخطوبات كما اختلف فيها من بعدهم، وكثير من أتباع الأئمة الأربعة قد خاضوا في هذه الأحداث التي خالفوا فيها السلف، ودخلوا بها في جملة أهل الأهواء والبدع فهل يقول من له عقل أو دين أو أدنى ممارسة للعلوم أنهم إنما أخذوها عن الأئمة الأربعة والأئمة الأربعة أخذوها من الصحابة والصحابة أخذوها عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، سبحان الله ما أعظم شأنه كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون، ونزيد هذا المقام أيضاً بما ذكره شمس الدين ابن القيم في ديباجة كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين ليتبين لك ضلال هذا المتنطع الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها، قال –رحمه الله تعالى-: ولما كان التلقي عنه –صلى الله عليه وسلم- على نوعين نوع بواسطة ونوع بغير واسطة، وكان التلقي بلا واسطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق واستولوا على الأمد لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم واقتفى منهاجهم القويم والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، وذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال، فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها، وأي خطة رشد لم يستولوا عليها "تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذباً صافياً زلالاً، وأيدوا قواعد الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً، فتحوا القلوب بعد لهم بالقرآن والإيمان والقرى بالجهاد بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصاً صافياً، وكان سندهم فيه عن نبيهم –صلى الله عليه وسلم- عن جبرائيل عن رب العالمين سنداً صحيحاً عالياً، وقالوا هذا نبينا وقد عهدنا إليكم وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد، وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد، وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخَرِينَ} ثم جاء الأئمة من القرن الرابع المفضل في إحدى الروايتين كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وعمران بن حصين فسلكوا على آثارهم اقتصاصاً واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباساً وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليه رأياً أو معقولاً أو تقليداً أو قياساً، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرعيل الأول ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم زاهدين في التعصب للرجال واقفين مع الحجة والاستدلال يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه وينقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحداناً وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألون على ما قال برهاناً ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس أو يعارضوها برأي أو قياس، ثم خلف من بعدهم خلوف فرقوا وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون، وتقطعوا أمرهم بينهم زبراً وكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 إلى ربهم راجعون جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون ورؤوس أموالهم التي بها يتجرون، وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد وقالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، والفريقان بمعزل عما ينبغي اتباعه من الصواب ولسان الحق يتلو {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال الشافعي –رحمه الله تعالى-: أجمع المسلمون أن من استبانت سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، قال أبو عمر وغيره من العلماء: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم وأن العلم معرفة الحق بدليله، وهذا كما قال ابن عمر –رحمه تعالى- فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد فقد تضمن هذا أن الإجماعان إخراج المتعصب بالهوى والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء. وسقوطهما باستكمال من فوقهما الفروض من وراثة الأنبياء فإن العلماء هم ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما وروثا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر وكيف يكون من ورثة الرسول –صلى الله عليه وسلم- من يجهد ويكدح في رد ما جاء به إلى قول مقلده ومتبوعه ويضيع ساعات عمره في التعصب والهوى ولا يشعر بتضييعه تالله إنها فتنة عمت فأعمت ورمت القلوب فأصمت ربا عليها الضمير وهرم فيها الكبير واتخذ لأجلها القرآن مهجوراً وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطوراً ولما عمت بها البلية وعظمت بسببها الرزية بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها ولا يعدون العلم إلا إياها فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون ومؤثرة على ما سواه عندهم مغبون نصبوا لمن خالفهم في طريقهم الحبائل وبغواله الغوائل ورموه عن قوس الجهل والبغي والفساد وقالوا لإخوانهم إنا نخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد فحقيق بمن لنفسه عنده قدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقيمة أن لا يلتفت إلى هؤلاء ولا يرضى لهم بما لديهم وإذا رفع له علم السنة النبوية شمر إليه ولم يحبس نفسه عليهم فما هي إلا ساعة حتى يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدر وتساوي أقدام الخلائف في القيام لله وينظر كل عب ما قدمت يداه ويقع التمييز بين المحقين والمبطلين ويعلم المعرضون عن كتاب ربهم وسنة نبيهم أنهم كانوا كاذبين. انتهى. فتأمل ما ذكره ابن القيم –رحمه الله تعالى- في شأن الخلوف الذين خلفوا الرعيل الأول من أصحاب الأئمة الأربعة وأنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون إلى آخر كلامه ليتبين لك ما في كلام هذا الملحد من الخطأ الواضح والخزي الفاضح الذي لم يسبقه إليه سابق فنعوذ بالله من رين الذنوب وانتكاس القلوب وقد تبين لك الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 تحذير الأئمة لاربعة من تقليدهم ... فصل: تحذير الائمة لاربعة من تقاليدهم ثم قال الملحد: المبحث الخامس في ترجمة الأئمة الأربعة وغيرهم. والجواب أن نقول لقد حكيت ولكن فاتك الشنب وذكر وذكرت من فضلهم ما لا يفي بالمقصود من مناقب ذوي الفضائل والرتب وإنما ذكرت قليلاً من كثير ولم تأت من ذاك إلا باليسير وقد ذكر العلماء من ذلك ما يشفي ويكفي ولكن العجب أنك ذكرت الأئمة الأربعة عموماً وذكرت من فضلهم ما كان مشهوداً معلوماً وأغفلت عن ذكر الإمام أحمد فلا أدري ما الموجب لذلك حيث لم تذكره بشيء من الفضائل فيما هنالك إذ لك جهل بفضائله ومناقبه ومقداره أم لشيء مما حاك في صدرك من أنبائه وأخباره وأنه عندك من أئمة المحدثين الذين لهم قدم صدق في العالمين وهم فيما لديك قاصرون مقصورن عن درك درجة الأئمة الثلاثة المبرزين الذين هم في الغاية والنهاية عند المحققين فلا جرم أن نذكر من فضائله ومزاياه نزراً يسيراً ونذكر من ذلك ما كان معلوماً شهيراً من فضائله ومزاياه أنك استحق الإمامة بدلالة قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوْقِنُونَ} وأنه أظهر السنة لما اضطرب أمر الدين في شرق الأرض وغربها قريباً من؟ حتى كاد أن يذهب وصار العلماء بين منقلب ومرتاب ومداهن وشاك فأظهر وشاك فأظهر الحق وبين أعلامه حتى استقر الدين كما أظهر أبو بكر الحق لأهل الردة حتى قيل هو الصديق وقال أبو يعلى: سمعت علي بن المديني يقول إن الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة، وقال الخلال: حدثني الميموني سمعت علي بن المديني يقول: ما أقم أحد بأمر الإسلام بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما قام أحمد بن حنبل قلت يا أبا الحسن ولا أبو بكر الصديق؟ قال: ولا أبو بكر الصديق إن أبا بكر الصديق كان له أعوان وأصحاب وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب، وأعطي من الصبر على أمر الله في الضراء والسراء حيث تداوله أربعة خلفاء بعضهم بالضراء ولا مخافة وبعضهم بالسراء والكرامة فلم يتغير عن دينه لا مخافة له. وإذ هم له ولا لموافقة هؤلاء وإكرامهم له هذا شيء لم يبتل أحد من الأئمة به فكان استحقاقه لمنصب الإمامة بنص القرآن أقوى من غيره ولهذا ألهم الله الأمة خاصتها وعامتها وهم شهداء الله في الأرض على ما تلقيبه بالإمامة فيقال قال فلان: قال فلان: وقال فلان وقال الإمام أحمد يقول ذلك المصنفون وإن لم يكونوا من أتباعه وأيضاً فإنه قد اشتهر عند جميع الأمة أنه إمام السنة حتى رضيه عامة أهل السنة إماماً في السنة الاعتقادية وإن خالفوه في بعض مسائل الأحكام فتجد خلقاً كثيراً من أئمة أصحاب مالك والشافعي وأهل الحديث يقول أحدهم إنا على اعتقاد أحمد بن حنبل وإنا في الفروع على مذهب فلان. ومن لم يقل ذلك منهم فإنه لا يخالفه وإن لم ينتسب إليه بل قد يقول القول مالك والشافعي والأظهر لأحمد بن حنبل حتى إن المتكلمين الذين انتسبوا إلى الذب عن السنة كأبي محمد بن كلاب وأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الأشعري إنما صار لهم قول عند من اتبعهم باتباعهم لمقالته وذبه عنها وانتسابهم إليه وإلى أصحابه كما ذكره الأشعري في كتابه الإبانة وفي كتاب المقالات وكما تدل عليه مصنفاتهم فإنه قال في الإبانة، لما قيل له قد أنكرت ما قاله الجهمية والروافض والخوارج ونحوهم، فيقول من تقولون وبدين من تدينون؟ فقال: نأخذ بكتاب الله وسنة نبيه وإجماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 المسلمين وبما كان عليه شيخنا وإمامنا أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالفه مخالفون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي بان الله به الحق ودفع به الضلالة وأوضح به المنهاج وقمع به المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهم وحتى إنه استفاض عند أهل اليمن أن جماعة من الفقهاء من أصحاب الشافعي وغيره تحيروا في الاعتقاد فصلوا ودعوا الله دعاء المضطر إلى أن يهديهم فرأوا النبي –صلى الله عليه وسلم- في المنام فأمرهم باعتقاد أحمد وقد رأوا في ذلك من المنامات ما يضيق هذا الموضع إحصائها، ومنامات المؤمنين إذا تواطأت على وجه واحد لم تكن إلا حقاً كما دل عليه قول النبي –صلى الله عليه وسلم- وحتى أن جماهير الأولياء والصالحين وأئمتهم لا يميلون إلا إلى طريقته لا سيما في الأصول حتى روى الإمام يحيى بن يوسف الصرصري عن الإمام أبي الحسن علي بن إدريس ذي الكرامات الظاهرة قال قلت للشيخ عبد القادر: هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ قال: لا، لا، كان لا يكون وتحقيق ذلك أنه انتهى له من نصوص النبي –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعين في مسائل الأصول ما لم ينته إلى غيره يقيناً وله في ذلك من الكلام الكثير والدعاء إليه ما ليس لغيره فإذا كان إماماً في السنة الأصلية ومقاله راجح على غيره فيها والناس بعده تبع له كان هذا مرجحاً له في السنة الفرعية لأن العلم بالأصول يقوى على العلم بالفروع وأيضاً فإنه كان آخر الأئمة وجمع طرائقهم وطرائق غيرهم فإنه جالس أبا يوسف ومحمد أو كتب كتب الرأي وحفظها وجالس سفيان بن عيينة والشافعي وغيرهما من فقهاء الحجاز وفقهاء الحديث وجالس يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح وكلهم في الفقه على طريق أهل الحديث واطلع من نصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 النبي –صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين على ما لم يطلع عليه غيره مع شهادة الشافعي وغيره له فإنه لم يكن في بغداد أفقه منه وإنه لم يكن في الدنيا مثل بغداد وهو شاب له بضع وثلاثون سنة فمن كان بهذه المثابة كان قد اجتمع عنده علوم الناس مع فقهه وتقواه فيكون اختياره أقرب من اختيار غيره فعلوم مالك والشافعي اجتمعت له إلى غير ذلك مما ذكره العلماء من فضائله ومزاياه التي امتاز بها على من سواه، ثم ذكر الملحد كلاماً لا لفائدة في الجواب عنه. ثم قال المعترض: ولا خلاف بين المسلمين بأن اختلاف الأئمة في الفروع هو عين الرحمة من الله تعالى إلى آخر كلامه. والجواب أن يقال: هذا الكلام لا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه وعمومه بل يقتصر به في اختلاف التنوع مما قد شرع جميعه لكن المكروه المحرم المذموم من ذلك المعاداة فيه والموالاة فيه والتحاسد والتدابر والتقاطع والبغي والحسد وإرادة العلو في الأرض والاختلاف المذكور ربما قد يكون منه طريقتان مشروعتان ورجل أو قوم قد سلكوا هذا الطريق وآخرون سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين ثم الجهل والظلم يحمل على ذم أحدهما أو تفضيلهما بلا قصد صالح أو بلا علم أو بلا نية أو بلا علم وأما الاختلاف المذموم مطلقاً فهو اختلاف التضاد. وهو القولان المتنافيان إما في الأصول وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون لمصيب واحد ولا فمن قال إن كل مجتهد مصيب فعده هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد لأن القولين يتنافيان لكن تجد كثير من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق أو معه دليل يقتضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 حقا ما فيرد الحق في الأصل هذا كله حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل وتمام الكلام في هذا مذكور مبسوط في "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام بن تيمية قدس الله روحه، فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه هناك وبالله التوفيق، وأما ما ذكره عن الشيخ عبد الغني النابلسي عن والده من الحديث الذي رواه البيهقي في المدخل بسنده عن بن عباس فلم يذكر له اسنادا واذا لم يذكر له إسناداً فلا يعتمد عليه ولا يعول عليه ومثل هذا لا تثبت به الأحكام الشرعية إلا بعد ذكر روايته وأنهم عدول أثبات ليس فيهم مجروح ولا مغمور والله أعلم بصحته. وأما ما ذكر بعد ذلك من قوله: أن الأئمة الأربعة ضبطوا في كتبهم التفسير والحديث بقصد العمل بهما فلذا تحروا وجه صحة ما دونوه وما اتفق عليه الصحابة وما اختلفوا فيه وما كان عليه التابعون بعد الصحابة وأئمة الحديث ما دونوه بهذا القصد ولا تتبعوا فيه أحوال الصحابة والتابعين بل دونوه لأجل حفظه فلذا ما كان مقصدهم تحري ما تحراه الأئمة سيما أن الأربعة سبقوهم لبيان ما يجوز التعبد والتعامل فيه وما لا يجوز إلى آخره. فالجواب: أن يقال هذا من الخطأ الواضح والإفك الفاضح ومن أعظم الكذب والجرأة على منصب أئمة الحديث واهتضامهم بهذا القصد الخبيث ومن المعلوم بالضرورة أن أئمة الحديث إنما دونوا ما دونوه من الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- إنما هو لقصد العمل به وقصد حفظه ضبطه كما قصد ذلك أو الأئمة الأربعة وكان أيضاً من المعلوم بالضرورة أن أئمة الحديث كانوا في العلم بالناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمقيد والمطلق والمجمل والمفصل والظاهر والمضمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 كالأئمة الأربعة بل الأئمة الأربعة من آحاد الألوف المؤلفة من أئمة الحديث إلا أنهم من أفضلهم وأشدهم اهتماماً وكان اهتمامهم جميعاً بما يصلح الأمة وينفيها ويدفع عنهم الحرج في ذلك معلوماً مشهوراً عند من اصطفى الله سريرته ونور بصيرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فصل: الناس بالنسبة إلى الهدى ثلاث طبقات ومن أبشع خطئه الواضح وسوء قصده الفاضح ما ذكره بقوله: فهذه كلها أحاط الأئمة الأربعة وأصحابهم بأطرافها وما تركوا فيها زيادة لمستزيد حال كون أئمة الحديث ما تعرضوا لشيء منها البتة بل سردوا الأحاديث سرداً في أبوابها على علاتها فإذا وجدتم حديثاً في البخاري أو غيره في مسألة مثله في موطأ مالك مثلاً أحدهما فيه تشديداً والثاني فيه ترخيص لكم في معرفة الناسخ فترجحوه على المنسوخ وهكذا في سائر الأقسام التي تتوقف صحة الحكم على معرفتها وأنتم لا تجدون في كتب الحديث بياناً ولا إشارة تهديكم إلى الصواب، إلى آخره، وهذه فيه من الجرأة والظلم والكذب ما يفيده شدة غباوة هذا المعترض وعداوته لأئمة الحديث وتنقصه لهم واهتضامه لمقامهم الأسنى ومنصبهم الأعلى الذي يتقاصر عنه المتطاول ويخسر دونه في مهامه الغي كل غوي وجاهل ولعمري إن أئمة الحديث قد أحاطوا بها علماً وفصلوا أحكامها حكماً فحكماً وبيان ذلك بما ذكره شمس الدين ابن القيم –رحمه الله- فقال في كتابه "الوابل الصب في الكلم الطيب" وفي الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منهاطائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به"، فجعل النبي –صلى الله عليه وسلم- الناس بالنسبة إلى الهدى والعلم ثلاث طبقات الطبقة الأولى ورثة الرسل والأنبياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 عليهم الصلاة والسلام وهم الذين قاموا بالدين علماً وعملاً ودعوا إلى الله عز وجل ورسوله –صلى الله عليه وسلم- فهؤلاء أتباع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه حقاص وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فزكت في نفسها وزكى الناس بها وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة ولذلك كانوا ورثة الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- الذين قال الله تعالى فيهم {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} الإبصار في دين الله عز وجل فبالبصائر يدرك الحق ويعرف وبالقوى يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر بالتأويل ففجرت من النصوص أنهار العلوم واستنبطت منها كنوزها وزرعت فيها فهماً خاصاً كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- وقد سئل: هل خصكم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية فإنها حفظت النصوص وكان همها حفظها وضبطها فوردها الناس وتلقوها منهم فاستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها وغوامضها وأسرارها واتجروا فيها وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات ووردوها كل بحسبه قد علم كل أناس مشربهم وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم- "نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" وهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن مقدار ما سمعه من النبي –صلى الله عليه وسلم- نحو العشرين حديثاً الذي يقول فيه سمعت ورأيت وسمع الكثير من الصحابة وبورك له في فهمه والاستنباط منه حتى ملأ الدنيا علماً وفقهاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 قال أبو محمد بن حزم وجمعت فتاويه في سبعة أسفار كبار وهي بحسب ما بلغ جامعها وإلا فعلم ابن عباس كالبحر وفقهاً قال أبو محمد بن حزم وجمعت فتاويه في سعة أسفار كبار وهي بحسب ما بلغ جامعها وإلا فعلم ابن عباس كالبحر وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس وقد سمع كما سمعوا وحفظ القرآن كما حفظ ولكن أرضه كانت من أطيب الاراضي وأقبلها للزرع فبذر فيها النصوص فأنبتت من كل زوج كريم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسير واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره وأبو هريرة أحفظ منه بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها؟ وهكذا الناس بعده قسمان: قسم حفاظ معتنون بالضبط والحفظ والأداء كما سمعوا ولا يستنبطون ولا يستخرجون كنوز ما حفظوه، وقسم معتنون بالاستنباط واستخراج الأحكام من النصوص والتفقه فيها فالأول كأبي زرعة وأبي حاتم وابن دارة وقبله كبدار محمد بن بشار وعمرو الناقد وعبد الرزاق وقبلهم كمحمد بن جعفر غندر وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم من أهل الحفظ والإتقان والضبط لما سمعوه من غير استنباط في تصرف واستخراج الأحكام من ألفاظ النصوص والقسم الثاني كمالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق والإمام أحمد بن حنبل والبخاري وأبي داود ومحمد بن نصر المروزي وأمثالهم ممن جمع الاستنباط والفقه إلى الرواية فهاتان الطائفتان وهما أسعد الخلق بما بعث الله تعالى به رسوله –صلى الله عليه وسلم- وهم الذين قبلوه ورفعوا به رأساً، وأما الطائفة الثالثة وهم أشقى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الخلق الذين لم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأساً ولا حفظ ولا فهم ولا رواية ولا دراية ولا رعاية، فالطبقة الأولى أهل رواية ودراية، والطبقة الثانية أهل رواية وعاية ولهم نصب من الدراية بل حظهم من الرواية أوفر، والطبقة الثالثة الأشقياء لا رواية ولا دراية ولا رعاية إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وهم الذين يضيقون الديار ويغلون الأسعار إن همة أحدهم إلا بطنه وفرجه فإن ترقت همته فوق كان همه مع ذلك لباسه وزينته فإن ترقت همته فوق ذلك كان في داره وبستانه ومركوبه وإن ترقت همته لما فيه رياسة والانتصار للنفس الغضبية قد ارتفعت همته عن نصرة النفس الكلبية إلى نصرة النفس السبعية فلم يعطها أحد من هؤلاء فإن النفوس ثلاثة كلبية وسبعية وملكية فالكلبية تقنع بالعظم والكسرة والجيفة والعذرة، والسبعية لا تقنع بذلك، بل لقهر النفوس تريد الاستعلاء عليها بالحق والباطل، وأما الملكية فقد ارتفعت عن ذلك وشمرت إلى الرفيق الأعلى فهمتها العلم والإيمان ومحبة الله تعالى والإنابة إليه والطمأنينة به والسكون إليه وإيثار محبته ومرضاته وإنما تأخذ من الدنيا ما تأخذ لتستعين به على الوصول إلى فاطرها وربها ووليها لا لتنقطع به عنه. انتهى. فتأمل ما ذكره ابن القيم –رحمه الله تعالى- حيث جعل من القسم الذين اعتنوا بالاستنباط واستخراج الأحكام من النصوص والتفقه من أئمة الحديث كالأوزاعي وإسحاق بن راهوية والبخاري وأبي داود ومحمد بن نصر المروزي وأمثالهم ممن لا يحصي عددهم إلا الله وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في كتابه "الانتصار لأهل الأثر" بعد أن ذكر كلاماً طويلاً قال: فنقول من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما ينتحلون به من صفات الكمال ويمتازون عنهم بما ليس عندهم فإن المنازع لهم لا بد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقاً آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 مثل المعقول والرأي والمحاجة والمكاشفة ونحو ذلك وكل هذه لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها فهم أكمل الناس عقلا وأعدلهم قياسا وأصوبهم رأيا وأسدهم كلاما وأصحهم نظرا وأهداهم استدلالا وأقومهم جدلا وأتمهم فراسة وأصدقهم إلهاما واحدهم بصرا أو مكاشفة وأصوبهم سمعا ومخاطبة وأعظمهم وأحسنهم وجد، وذوقا وهذا للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل فمن استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين احد واسد عقلا وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أصناف ما يناله غيرهم في قرون واجبال وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك وذلك لأن إعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} وغير ذلك وهذا يعلم تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم فلا تجد مسألة خولفوا فيها إلا تبين الحق معهم وتارة بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم وتارة بشهود المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض وتارة بأن كل طائفة تعتصم بهم فيما خالفت فيه الأخرى وتشهد بالضلال على من خالفها أعظم مما تشهد به عليهم فإما شهادة المؤمنين فهذا ظاهر معلوم بالحس والتواتر لا تجد في الأمة أحدا أعظم مما عظموا به ولا تجد غيرهم يعظم إلا بقدر ما وافقهم فيه كما لا ينقص إلا بقدر ما خالفهم فيه حتى إنك تجد المخالفين لهم كلهم وقت الحقيقة يقر بذلك كما قال الإمام أحمد: آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز، فإن الحياة سبب اشتراك الناس في المعاش يعظم الرجل طائفته فإما وقت الموت فلابد من الاعتراف بالحق من عموم الخلق ولهذا لم يعرف في الإسلام مثل جنازته وإنما نبل عند الأمة بإتباع الحديث والسنة وكذلك الشافعي واسحق ومالك والشورى والبخاري وغيرهم إنما نبلوا عند الأمة وقبل قولهم بذلك، وما تكلم فيمن تكلم فيه منهم إلا بسبب المواضع التي لم يتفق له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ما بتعتها من الحديث والسنة وكذلك المسائل الاعتقادية لم ينل أحد من الطوائف عند الأمة إلا بما معه من الإثبات والسنة، فالمعتزلة أولا هم فرسان الكلام، إنما يحمدون ويعظمون عند إتباعهم ومن يغض عن مساويهم بما والقوا فيه من مذهب أهل السنة وردهم على الرافضة بعض ما خرجوا فيه عن السنة من إمامة الخلفاء وعدالة الصحابة وقبول الأخبار وتحريف الكلم عن مواضعه والغلو في علي ونحو ذلك، وكذلك الشيعة المتقدمون كانوا يرجحون على المعتزلة بما خالفوهم فيه من إثبات الصفات والقدر والشفاعة ونحو ذلك وكذلك كانوا يستحمدون بما خالفوا فيه الخوارج من تكفير عثمان وعلي وغيرهما وما كفروا به من المسلمين من الذنوب ويستحمدون بما خالفوا فيه المرجئة من إدخال الواجبات في الإيمان ولهذا قالوا بالمنزلة وإن لم يهتدوا إلى السنة المحضة وكذلك متكلمة أهل الإثبات مثل الانباتية والكرامية والأشعرية إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة بما أثبتوه من أصول الإيمان من إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة والرد على أهل التناقض النفاة وبيان تناقض حججهم وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية وغيرهم من أنواع المقالات التي يخالفون فيها السنة فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل الحديث وإما الرد على مخالفهم، ولم يتبع أحد مذهب الأشعرية ونحوه غلا لهذين وكلاهما وكل من انتصر له إنما ينتصر له بذلك لا يحتجون له عند الأمة وعلمائها وأمره بها إلا بهذين الوصفين كالبيهقي والقشيري وابن عساكر ولولا أنه كان من أقرب بني جنسه بذلك لألحق بطبقته الذين لم يكونوا كذلك كشيخة أبي علي ورفيقه أبي هاشم لكن له من موافقة أهل الحديث في الصفات والقدر والشفاعة والحوض والصراط والميزان وله من الردود على المعتزلة وغيرهم وبيان تناقضهم ما أوجب أن يمتاز بذلك عن أولئك ويعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 له قدره فقد جعل الله لكل شيء قدرا لكن الموافقة التي فيها قهر المخالف وإظهار فساد قوله هي من جنس المجاهد المنتصر فالراد على أهل البدع مجاهد حتى كان يحي بن يحي يقول: الذب عن السنة أفضل من الجهاد، والمجاهد قد يكون عدلا في سياسته وقد لا يكون وقد يكون فيه فجور كقوله أن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم، ولهذا مضت السنة أن يغزا مع كل أمير برا كان أو فاجرا، والجهاد عمل مشكورا لصاحبه في الظاهر ومع النية الحسنة مشكور باطنا وظاهرا ووجه شكره نصره للسنة والدين فهكذا المنتصر للإسلام والسنة يشكر على ذلك من هذا الوجه فحمد الله رجال عند الله ورسوله والمؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين الله إذ الحمد أنما يكون على الحسنات وهي ما وافق طاعة الله ورسوله من التصديق بخبر الله والطاعة لأمره وهذا هو السنة فالخير كله باتفاق الأمة فيما جاء به الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وكذلك ما يذم من يذم من المنحرفين عن الشريعة إلا بمخالفة ذلك ولهذا ذم السلف أهل الكلام من الصفاتية كابن كلاب والأشعري لخفائه عليهم أو أعراضهم عنه أو اقتضاء أصل قياس مهدوه رد ذلك كما يقع نحوه في المسائل العملية فإن مخالفة المسلم الصحيح الإيمان إنما يكون لعدم علمه به أو لاعتقاد صحة ما عارضه لكن هو فيما ظهر من السنة وعظم أمره يقع بتفريط في المخالف وعدوان فيستحق من الذم ما لا يستحقه في الرد الخفي وكذلك فيما يوقع الفرقة والاختلاف يعظم أمر المخالفة للسنة ولهذا لما اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة فلعنوا الكلابية والأشعرية، كما كان في مملكة محمود بن سبكتكين وفي دولة؟ وكذلك الخليفة القادر بما اهتم بذلك ورفعوا إليه أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 القاضي أبي بكر ونحوه وهموا به حتى كان يختفي وإنما تستر بمذهب أحمد ثم ولى النظام وسعوا في رفع اللعنة واستفتوا من استفتوه من فقهاء العراق كالدمغاني والحنفي وأبي اسحق الشيرازي وفتواهما حجة على من بخراسان من الحنفية والشافعية وقد قيل أن أبا اسحق استعفى من ذلك ولزموه وأفتوا بأنه لا يجوز لعنتهم. وعلل الدمغاني بأنهم طائفة من المسلمين وعلل أبو اسحق بأن لهم ذبا وردا على أهل البدع فلم يكن المفتي أن يعلل رفع الذم إلا بموافقة الحديث ولهذا كان أبو إسحاق الشيرازي يقول إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الجبائية وهذا ظاهر عليهم وعلى أئمة أصحابه في كتبه قبل وقوع الفتنة القشيرية ببغداد، ولهذا قال ابن عساكر في مناقبه: ما زالت الجبائية والأشاعرة في قديم الدهر متفقين حتى حدثت فتنة بين القشيري ثم بعد حدوث الفتنة وقبلها لا تجد من يمدح الأشعرية إلا إذا وافق الحديث ولا يذمه من يذمه إلا بمخالفة السنة والحديث وهذا إجماع من جميع هذه الطوائف على تعظيم السنة والحديث واتفاق شهادتهم على أن الحق في ذلك ولهذا تجد أعظمهم موافقة لأئمة السنة والحديث أعظم عند جميعهم ممن هو دونهم فالأشعري نفسه لما كان أقرب إلى قول أحمد ومن قبل كان عندهم أعظم من أتباعه والقاضي أبو بكر الباقلاني لما كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم من غيره، وأما مثل أبي المعالي وأبي حامد ونحوهما ممن خالفوا أصوله في مواضع فلا تجدهم يعظمون إلا بما وافقوا فيه السنة والحديث وبما ردوه مما يخالف السنة والحديث وبهذا القدر ينتحلون السنة وينحلونها وإلا لم يصح ذلك إلى آخر ما ذكر –رحمه الله-، فهذا ما ذكره العلماء العارفون بالله وبدينه وسنة نبيه ومقادير العلماء الأفاضل والأئمة الأماثل الذين حفظ الله بهم دينه وحموا حماه من تلاعب هؤلاء الزنادقة جعلوا فقهاء أئمة الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 حملة السنة والقرآن وأئمة أهل العلم والإيمان لا يعرفون شيئاً من الأحكام وما يستنبطونه من نصوص الكتاب السنة ولا بينوا في كتبهم للناس ما يتعبدون الله به ويتعاملون فيه بل كان همتهم حفظ الحديث وضبطه من غير معرفة لعلله وناسخه ومنسوخه ومقيده ومطلقه ومجمله ومفصله وغير ذلك ثم ما سمحت نفس هذا الملحد حتى عمد إلى إمام أهل الحديث وفقيههم ومقدمهم في الجرح والتعديل محمد بن إسماعيل البخاري وإلى أبي داود السجستاني فزعم أنهم لم يبينا في كتابهما الناسخ والمنسوخ وأما غيره من أئمة أهل الحديث فلم يبينوا ذلك بل سردوا الحديث سرداً وهذا لا يقوله إلا من أعمى الله بصيرة قلبه وقد كان في إبراز كلامه هذا وتحريره بلفظه لأهل العلم بالله وبدينه وشرعه كفاية في بيان خزيه الفاضح وخطئه الواضح لكن ما سمحت نفسي إلا بذكر هذه الإشارة اليسيرة ليتنبه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد معظم جناية هؤلاء الزنادقة الذين يتطلعون بالدخول في جملة أهل العلم وهم في الحقيقة من أعداء علماء الشريعة المحمدية وحملتها أهل الملة الحنيفية الذين هم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وهم المعنيون بقوله –صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" قال الإمام أحمد –رحمه الله- إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري منهم وكذلك أيضاً ما ذكره بعد ذلك بقوله ورأيت في كثير من أبواب البخاري أحاديث قد أجمعت الأمة على أن الحكم بها منسوخة ولا تجد في البخاري حديثاً يشير الشيخ واحد منها وأمثال يكاد لا يحصى إلى آخر كلامه وهذا أيضاً من المخازي التي؟ وهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 المخرقة سابق ولم يتفوه بها قبله مشاقق ولا منافق بل جميع أهل السنة والجماعة يشهدون له بالصحة التي لم يشاركه في شروطها أحد من الخلائق وأجمع العلماء على أنه ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من صحيح البخاري فكيف يماحل هذا المشاقق بالشقاشق ويماري، ثم نقول: من هؤلاء الأمة التي أجمعت على ما ذكرته من الأحكام المنسوخة في صحيح البخاري، وقد اعتنى أئمة أهل الحديث من أهل الجرح والتعديل ومن بعدهم بالنظر في أحكامه غاية الاعتناء فما وجدوا إلا ما ذكرته –أيها الملحد- سبيلاً ولا على ما مخرقت به من الانتقاد ليلاً فكيف تجد ذلك، وأنت لست من أهل العلم في شيء ولا تعرف الحي من الميت؟ فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو سودت وجهك بالمداد وقال آخر: وقل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطلع وسامت نفوساً أطفأ الله نورها ... بأهوائها لا تستفيق ولا تعي وما ذنب أئمة أهل الحديث عند هؤلاء الملاحدة إلا أنهم اعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله ولم يقدموا عليها قول أحد من الخلق كائن من كان وتركوا لأجلها زي فلان وفلان ولذلك لم يكونوا عنده على ثقة من المعرفة والإتقان فليس لهم قوة على استنباط الأحكام من النصوص على أصح استنباط وأتم بيان ولعمري أن النصوص ضامنة بذلك وقد فاز بقصب السبق إليها حملة السنة والقرآن، قال ابن القيم -رحمه الله-: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فاعجب لعميان البصائر بصروا ... ورأوه بالتقليد أولى من سواه ... وعموا عن الوحيين إذ لم يفهموا معناهما عجباً لذي الحرمان ... قول الشيوخ أتم تبياناً من الوحيين لا الرحمن ... النقل نقل صادق والقول من ذي عصمة في عناية التبيان ... وسواه إما كاذب أو صح لم يك قول معصوم وذي تبيان ... أفيستوي النقلان يا أهل النهى والله لا يتماثل النقلان ... هذا ألقى العداوة بيننا في الله نحن لأجله خصمان ... نصروا الضلالة من سفاهة رأيهم لكن نصرهم موجب القرآن ... ولنا سلوك ضد مسلكهم فما فما رجلان مثل قط يلتقيان ... إنا أبينا أن ندين بما به دانوا من الآراء والبهتان ... إنا عزلناها ولم نعبأ بها يكفي الرسول ومحكم القرآن ... من لم يكن يكفيه ذان فلا كفاه الله شر حوادث الأزمان ... من لم يكن يشفيه ذان فلا شفاه الله شر حوادث الأزمان ... من لم يكن يغنيه ذان رماه رب العرش بالإعدام والحرمان ... من لم يكن يهديه ذان فلا هداه الله من الحق والإيمان ... إن الكلام مع الكبار وليس مع تلك الأراذل سفلة الحيوان ... أوساخ هذا الخلق بل أنتانه جيف متقدمين منهم من اعلام الفقهاء وأجلاء المحدثين والأحكام من أهل السنة وإذا كان الفلاسفة وحكامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الأئمة الأربعة فقد سقط الكلام معه لأنه قد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن هؤلاء لم يكونوا من أهل الإسلام فضلا عن أن يكونوا من أهل السنة ولا أدري ما مراده بالمذهب الخامس؟ يعني بهم من أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له وتركوا عبادة ما سواه من الأنبياء والأولياء والصالحين والأحجار والأشجار والطواغيت فلم يشركوا بالله شيئا وجردوا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يقدموا على قوله قول أحد من البشر كائنا من كان؟ فإن كان هذا هو المذهب الخامس عنده فليشهد الثقلان انا على هذا المذهب وإن سماه أعداء الله ورسوله مذهبا خامسا عليه نحيا وعليه نموت وعليه نبعث إن شاء الله تعالى: فإن كان ديناً خامساً دين محمد ... شفيع الورى الهدي إلى منهج الرشد لديكم ومن يأتي به متوهب ... على غير دين المصطفى كامل المجد بدعوى ذوي الإشراك والكفر والردى ... وتلقيبهم أهل الهدى بالذي يردي فنشهدكم أنا على ذلك الذي ... أتانا به المعصوم أفضل من يهدي وإن كان قد سماه أعداء دينه ... ليشناه ديناً خامساً قول ذي اللد فذلك لا يجدي لدى كل منصف ... عليم بما يجدي وما ليس بالمجدي ومن كان لا يدري وليس بعالم ... فقوله مردودة عند ذي النقد وما ضرنا أن قد تجارى بسبنا ... ذوو الغي والإشراك من كل مرتد فليس يضر السحب كلب نبحه ... كذلك سب المعتدي لذوي الرشد ودونك ما بداه "عمران" ذو التقى ... وذو العلم والإنصاف في كل ما يبدي فقد قال ما يشفي الأوام من الصدى ... ويكمد أكباد الغواة ذوي الجحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قال الشيخ ملا عمران بن رضوان أسكنه الله الجنان: إن كان تابع "أحمد" متوهباً ... فأنا المقر بأنني وهابي أنفي الشريك عن الإله فليس لي ... رب سوى المتفرد الوهاب لا قبة ترجى ولا وثن ولا ... قبر له سبب من الأسباب كلا ولا شجر ولا حجر ولا ... عين ولا نصب من الأنصاب أيضاً ولست معلقاً لتميمة ... أو حلقة أو ودعة أو ناب لرجاء نفع أو لدفع بلية ... الله ينفعني ويدفع ما بي والابتداع وكل أمر محدث ... في الدين ينكره أولو الألباب أرجو باني لا قاربه ولا ... أرضاه ديناً وهو غير صواب وأمر آيات الصفات كما أتت ... بخلاف كل مؤول مرتاب والاستواء فإن حسبي قدرة ... فيه مقال السادة الأقطاب كالشافعي ومالك وأبي حنيفة ... وابن حنبل التقي الأواب وكلام ربي لا قول عبارة ... كمقال ذي التأويل في ذا الباب بل إنه عين الكلام أتى به ... جبريل ينسخ حكم كل كتاب هذا الذي جاء الصحيح بنصه ... وهو اعتقاد الآل والأصحاب وبعصرنا من جاء معتقداً به ... صاحوا عليه مجسماً وهابي جاء الحديث بغربة الإسلام فلا ... يبك المحب لغربة الأحباب هذا زمان من أراد نجاته ... لا يعتمد إلا حضور كتاب خير له من صاحب متجهم ... ذي بدعة يمشي كمشي غراب مهما تلي القرآن قال عبارة ... أي أنه كمترجم لخطاب وإذا تلي آي الصفات يخوض في ... تنزيله خوضاً بغير حساب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فالله يجمعنا ويحفظ ديننا ... من شر كل معاند سباب ويزيد الدين الحنيف بعصبة ... متمسكين بسنة وكتاب لا يأخذون برأيهم وقياسهم ... ولهم إلى الوحيين خير مآب لا يشربون من المكدر إنما ... لهم من الصافي لذ شراب قد أخبر المختار عنهم أنهم ... غرباء بين الأهل والأصحاب في معزل عنهم وعن شطحاتهم ... وعن الغلو وعن بناء قباب سلكوا طريق السابقين على الهدى ... ومشوا على منهاجهم بصواب من أجل ذا أهل الغلو تنافروا ... منهم فقلنا ليس ذا بعجاب نفر الذين دعاهم خير الورى ... إذ لقبوه بساحر كذاب مع علمهم بأمانة وديانة ... وصيانة فيه وصدق جواب صلى عليه الله ما هب الصبا ... وعلى جميع الآل والأصحاب انتهى، ولا شك عند من أصفى الله سريرته ونور بصيرته أنهم كانوا على الحق على ما كانت عليه الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وأنهم إن شاء الله تعالى سيحشرون لواء محمد –صلى الله عليه وسلم- لأنهم، ولله الحمد والمنة، هم أتباعه على الحقيقة القائمون بدينه والمعتصمون بكتاب الله وسنة رسوله ولو كره الكافرون ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وما ذكره من الوقاحة وما موه به من القباحة لأنك فيه على ذلك بل نقول حسبنا الله ونعم الوكيل {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فصل: التوسل وزيارة القبور قال الملحد: المسألة الثانية في التوسل والزيارة ثم ذكر مخرقة لا فائدة في الجواب عنها، ثم قال: وقد يرمي الإنسان في شرك الشرك من طريق الطاعة كما رمى الوهابين وإخوانهم بإغوائهم على أن التوسل بجباه الرسول عليه الصلاة والسلام وزيارة قبره الشريف شرك بالله ومناف للتوحيد وأغواهم بما جاء في القرآن العظيم بحق المشركين فذهب بأيمانهم تحت ستار العبادة وغرس في قلوبهم بغض رسول الله ومعاداته بتعطيل الطاعة ففسروا الزيارة بمعاني عبادة الأوثان وشبهوا التوسل بما يفعله مشركو العرب وغيرهم، فانظر ما أشقاهم وأحمقهم وأبعدهم عن الحق ولو صح لهم هذا التأويل الباطل لكانوا هم أشد الناس شر، لأنهم يزورون الأمراء والحكام ويتزلفون إليهم ويتوسلون ببعضهم في حوائجهم بكل قول وعمل وربما خاب أملهم بما يرجون إلى آخر كلامه. والجواب: ومن الله استمد الصواب، أن يقال لهذا الملحد الضال المضل الذي ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة فوقع في شرك الشرك العظيم ونهج منه المنهج الوخيم وسلك في طريق أصحاب الجحيم ونكب عن طريقة أهل الدين القويم والصراط المستقيم فبعدا للقوم الظالمين: قد كان من المعلوم أن الوهابية لا يقولون أن التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه وحقه وزيارة قبره الشريف شرك بالله بل هذا من الكذب الموضوع على الوهابية وهم، ولله الحمد، فيما يقولونه وينتحلون على صراط مستقيم ولا يقولون بجهل الجاهلين وانتحال المبطلين الزائغين عن الدين القويم بل يقولون إن التوسل بجاه النبي –صلى الله عليه وسلم- من البدع المحرمة المحدثة في الإسلام لأنه لم يرد نص عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا من بعدهم من سلف الأمة وأئمتها المهتدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وإذا كان ذلك كذلك فنقول لفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال بما فيه إجمال واشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة يراد به التسبب به لكونه داعيا وشافعا مثلا أو لكون الداعي محبا له مطيعا لأمره مقتديا به فيكون بالتسبب إما بحجة السائل له وأتباعه له وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته ويراد به الأقسام به والتوسل بذاته فلا يكون التوسل لا بشيء عنه ولا بشيء من السائل بل بذاته أو بمجرد الأقسام به على الله، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه وكذلك لفظ السؤال بالشيء قد يراد به المعنى الأول وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب وقد يراد به الأقسام إذا تبين لك هذا فأعلم أن معنى التوسل في لغة الصحابة رضي الله عنهم وعرفهم أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه به في الحقيقة بدعائه وشفاعته وهذا لا محذور فيه بل هذا هو المشروع كما في حديث الثلاثة الذين آووا إلى الغار وهو حديث مشهور في الصحيحين، فإنهم توسلوا إلى الله بصالح الأعمال لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله تعالى ويتوجه به إليه ويسأله به لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله، وقال ربكم أدعوني أستجب لكم، وهؤلاء دعوه بعبادته وفعل ما أمر به من العمل الصالح وسؤاله والتضرع إليه فمن جعل دعاء الأولياء والصالحين سببا لنيل المقصود كان يطلب من الولي والصالح في حال الحياة أن يدعو الله له لكونه مطيعا لله محبا له فيشفع له عند الله بدعاء الله له فهذا حق، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون إلى الله سبحانه برسوله فيدعو لهم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "اللهم إنا كنا إذا اجد بنا نتوسل إليك بنبينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فاستسقوا به" كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 في حياته وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم فيدعو لهم ويدعون معه كالإمام والمأمومين من غير أن يقسمون على الله بمخلوق كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق، فإذا تحققت ذلك فاعلم أن التوسل في عرف أهل هذا الزمان من عباد القبور واصطلاحهم هو دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين وصرف خالص حق الله تعالى بجميع أنواع العبادات من الدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر والالتجاء إليهم والاستغاثة بهم والاستعانة والاستشفاع بهم وطلب الحوائج من الولائج في المهمات والملمات لكشف الكربات وإغاثة اللهفات ومعافات أولي العاهات والبليات إلى غير ذلك من الأمور التي صرفها المشركون لغير فاطر الأرض والسموات، فمن صرف من هذه الأنواع شيئا لغير الله كان مشركا فهذا هو الذي تكره الوهابية ويقولون أنه شرك بالله ومناف للتوحيد وبذلك قال أهل العلم من سلف الأمة وأئمتها، وأما زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه المشروع فالوهابية لا ينكرونها بل هي من أفضل الأعمال وإنما ينكرون شد الرحال إلى ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" وأما قوله: وغرس في قلوبهم بغض الرسول ومعاداته إلى آخره، فالجواب أن يقال: ليس في اتباع ما أمر الله به ورسوله من طاعته وطاعة رسوله واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله وحذر أمته من ذلك ما يوجب البغض للنبي –صلى الله عليه وسلم- معاداته بل ذلك عين تعظيم الله ورسوله وتعظيم اتباعه كما ذكر ذلك أهل العلم في كل مصنف وكتاب قال شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه- ونور ضريحه في الجواب الباهر. الوجه الثالث: أن يقال لا ريب أن أهل البدع يحجون إلى قبور الأنبياء والصالحين ولا يقصدون الدعاء لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 كالصلاة على جنائزهم بل الزيارة عندهم والسفر لذلك من باب تعظيمهم لعظم جاههم وقدرهم عند الله ومقصودهم دعاؤهم والدعاء بهم أو عندهم طلب الحوائج منهم وغير ذلك مما يقصد بعبادة الله تعالى، ولهذا يقولون: إن من نهى عن ذلك فقد تنقص بهم، فهذا القول مبني على ذلك الاعتقاد والقصد والظن، والنصار يحجون إلى الكنائس لأجل ما فيها من التماثيل ولأجل من بنيت لأجله كما يحجون إلى موضع قبر المسيح عندهم الكنيسة التي يقال إنها بنيت على قبره موضع الصلب بزعمهم، وهم يبنون الكنائس على من يعظمونه مثل جرجس وغيره، فيتخذون المعابد على القبور على القبور ممن لعنهم النبي –صلى الله عليه وسلم- على ذلك تحذيراً لأمته وقال لأمته "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" رواهن مسلم، والكنيسة التي بنيت موضع ولادته المسماة بيت لحم وكنائس أخر التي يسمونها القيامة وكان صاحب الفيل قد بني كنيسة باليمن وأراد أن يصرف حج العرب عن الكعبة إليها فدخلها وبعض العرب وأحدث فيها فغضب وجمع الجنود وسار بالفيل ليهدم الكعبة حتى فعل الله به ما فعل، وكذلك كان بالطائف "اللات" وكانوا يحجون إليه وفي حديث أبي سفيان عن أمية بن أبي الصلت لما أخبر عن العالم الراهب أنه قد أظل زمان نبي يبعث من العرب طمع أمية بن أبي الصلت أن يكون إياه وقال له ذلك العالم: أنه من أهل بيت تحجه العرب، فقال: إنا معشر ثقيف فينا بيت تحجه العرب قال إنه ليس منكم إنه من إخوانكم من قريش وذلك البيت هو بيت اللات المذكور في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الْثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} والطائف ومكة هما القريتان اللتان قالوا فيهما {لَوْلَا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتِيْنِ عَظِيمٌ} وآخر غزوات النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 -صلى الله عليه وسلم- من غزوات القتال هي غزوة الطائف ولم يفتحها ثم إن أهلها أسلموا وطلبوا من النبي أن يمنعهم باللات حولاً فامتنع من ذلك وهدمها وأمر ببناء المسجد موضعها واستعمل عليهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، وهذا معروف عند أهل العلم، والمقصود أنهم كانوا يسمون السفر إلى مثل ذلك حجاً ويقولون إن بيت اللات يحج كما تحج الكعبة وكانوا يحجون إلى "العزى" وكانت عند "عرفات" ويحجون إلى مناة الثالثة الأخرى وهي حذو "قديد" فكان لكل مدينة من مدائن الحجاز وثن يحجون إليه، فاللات بالطائف، والعزى عند مكة، ومناة لأهل المدينة، كانوا يهلون لها، وهؤلاء الذين يحجون إلى القبور يقصدون ما يقصده المشركون الذين يقصدون بعبادة المخلوق ما يقصده العابدون لله منهم من قصده قضاء حاجته وإجابة سؤاله يقول هؤلاء أقرب إلى الله مني فأنا أتوسل بهم فهم يتوسلون لي في قضاء حاجتي كما يتوسط خواص الملوك لمن يكون بعيداً عنهم، وقد ينذرون لهم أو يأتي بقربان بلا نذر ويتقربون إليهم بما ينذرونه ويهدونه إلى قبورهم كما يتقرب المسلمون بما يتقربون به إلى الله من الصدقات والضحايا وكما يهدون إلى مكة أنواع الهدي، ومنهم من يجعل لصاحب القبر نصيباً من ماله أو بعض ماله أو يجعل ولده له كما كان المشركون يفعلون بآلهتهم ومنهم من يسيب لهم السوائب فلا يذبح ولا يركب ما يسيب لهم من بقر وغيرها كما كان المشركون يسيبون لطواغيتهم فهذا صنف وصنف ثان يحجون إلى قبورهم لما عندهم من المحبة للميت والشوق إليه أو التعظيم والخضوع له فيجعلون السفر على قبره أو إلى صورته الممثلة تقوم مقام السفر إلى نفسه لو كان حياً ويجدون بذلك أنساً في قلوبهم وطمأنينة وراحة كما يحصل لكثير من المحبين إذا رأى قبر محبوبه كما يحصل للقريب والصديق إذا رأى قبر قريبه وصديقه لكن ذاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 حب وتعظيم ديني فهو أعظم تأثيراً في النفوس ولهذا يجد كل قوم عند قبر من يحبونه ويعظمونه ما لا يجدونه عند قبر غيره وإن كان أفضل وكثير من أتباع المشائخ والأئمة لا يجد عند قبر شيخه وإمامه ما لا يجده عند قبور الأنبياء لا نبياً ولا غيره، وذلك لأن الوجد الذي يجدونه ليس سببه نفس فضيلة المزور بل سببه ما قام بنفوسهم من حبه وتعظيمه وإن كان هو لا يستحق ذلك، بل قد يكون المزور كافراً مشركاً أو كتابياً، والمحبون له المعظمون يجدون مثل ذلك وهذا كما أن عباد الأوثان الذين جعلوهم أنداداً يحبونهم كحب الله يجدون عند الأوثان مثل ذلك، وكذلك عباد العجل، قال الله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} أي حب العجل، هذا قول الأكثرين وموسى حرقه ثم نسفه فإنه كان قد صار لحماً وقيل بل أشربوا برادته التي كانت في الماء، وأن موسى برده لكونه كان ذهباً والأول عليه الجمهور وهو أصح، وقد سئل سفيان بن عيينة عن أهل البدع والأهواء أن عندهم حباً لذلك، فأجاب السائل: بأن ذلك كقوله: {وَمِنَ الْنَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادَاً يُحِبُونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَاً للهِ} وقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} والله تعالى قد ذكر حب المشركين آلهتهم وبين أن من الناس من يتخذ إلهه هواه أي يجعل ما يألهه ويعبد ما يهواه فالذي يهواه ويحبه هو الذي يعبده، ولهذا ينتقل من آله إلى أله كالذي ينتقل من محبوب إلى محبوب إذا كان لم يحب بعلم، وهذا ما يستحق أن يحب ولا عبد من يستحق أن يعبد بل أحب وعبد ما أحبه من غير علم ولا هدى ولا كتاب منزله، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} إلى قوله: {سَبِيلاً} وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس ذلك الكافر اتخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 دينه بغير هدى من الله ولا برهان، وقال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه ورماه وعبد الآخر، قال الحسن البصري: ذاك المنافق نصب هواه فما هوى من شيء ركبه، وقال قتادة: أي والله كلما هوي شيئاً وكلما اشتهى شيئاً أتاه لا يحجزهن عن ذلك ورع ولا تقوى رواهن ابن أبي حاتم وغيره، وقد قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكُرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} الآية، وقال تعالى: {فَأْتُوْا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إلى قوله: {بِغَيْرِ هُدَىً من الله} وقال تعالى عن المشركين: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} ، إلى قوله {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} فالذين يحجون إلى القبور من جنس الذين يحجون إلى الأوثان، والمشركون كان يدعون مع الله آلهاً آخر يدعونه كما يدعون الله وأهل التوحيد لا يدعون إلا الله لا يدعون مع الله إلهاً آخر لا دعاء سؤال وطلب ولا دعاء عبادة وتأله والمشركون يقصدون هذا وهذا وكذلك الحجاج إلى القبور يقصدون هذا وهذا ومنهم من يصور مثال الميت ويجعل ذلك دعاءه ومحبته والأنس به قائماً مقام صاحب الصورة سواء كان نبياً أو رجلاً صالحاً أو غير صالح، وقد يصور المثال له أيضاً كما يفعل النصارى، وكثيراً ما يظنون في قبر أنه قبر نبي أو رجل صالح ولا يكون ذلك قبره بل قبر غيره أو لا يكون قبراً وربما كان قبر كافر يحسنون الظن بمن يظنونه رجلاً صالحاً ولياً لله ويكون كافراً أو فاجراً كما يوجد عند المشركين وأهل الكتاب وبعض الضلال من أهل القبلة وهذا الجنس من الزيارة ليس مما شرعه الرسول لا إباحة ولا ندباً ولا استحبه أحد عن أئمة الدين بل هم متفقون على النهي عن هذا الجنس كله؛ وقد لعن رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة المستفيضة ما هو أقرب من هؤلاء وهم الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وأخبر أن من كان من قبلنا كانوا يتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وقال: "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" فإذا كان قد نهى ولعن من يتخذها مسجداً يعبد الله فيه ويدعي لأن ذلك ذريعة ومظنة إلى دعاء المخلوق صاحب القبر وعبادته فكيف بنفس الشرك الذي سد ذريعته ونهى عن اتخاذها مساجد لئلا يفضي ذلك إليه فمعلوم أن صاحبه أحق باللعنة والنهي وهذا كما أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وقال: "فإنها تطلع بين قرني شيطان" وحيئنذٍ يسجد لها الكفار ونهى عن تحري الصلاة في هذا الوقت لما فيه من مشابهة الكفار في الصورة وإن كان المصلي يقصد السجود لله لا للشمس لكن نهتى عتن المشابهة في الصورة لئلا يفضي إلى المشاركة في القصد فإذا قصد الإنسان السجود للشمس وقت طلوع الشمس ووقت غروبها كان أحق بالذم والنهي والعقاب، ولهذا يكون هذا كافراً كذلك من دعا غير الله وحج إلى غير الله هو أيضاً مشرك والذي فعله كفر لكن قد لا يكون عالماً بأن هذا شرك محرم كما أن كثيراً من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم وعندهم أصنام لهم صغار من لبد وغيره وهم يتقربون إليها ويعظمونها ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضاً ولا يعلمون أن ذلك محرم فكثيرا من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك فهذا ضال عمله وعلمه الذي أشرك فيه باطل لكن لا يستحق العقوبة حتى تقوم عليه الحجة قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوْا لِلهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وفي صحيح أبي حاتم وغيره عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" فقال أبو بكر: يا رسول الله فكيف ننجو منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 قال: "قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم" وكذلك كثير من الداخلين في الإسلام يعتقدون أن الحج إلى قبر بعض الأئمة والشيوخ أفضل من الحج أو مثله ولا يعلمون أن ذلك محرم ولا يجوز وقد بسطنا الكلام في هذا في مواضع والمقصود هنا أن هؤلاء المشركين الذين يجعلون أصحاب القبور وسائط يشركون بهم كما يشركون أصحاب الأوثان بأوثانهم يدعونهم ويستغيثون بهم ويرجونهم ويخافونهم وقد جعلوهم أنداداً يحبونهم كحب الله هم الذي يقولون لمن نهى عن هذا الشرك وأمر بعبادة الله وحده أنه تنقصهم وعاداهم وعاندهم كما يزعم النصارى أن من جعل المسيح عبداً لله لا يملك ضراً ولا نفعاً أنه قد تنقص المسيح وعاداه وسبه وعانده وأما من عرف أن الأنبياء نهوا عن هذا الشرك فأطاعهم واتبع سبيلهم وعبد الله وحده فهذا يمتنع أن يقول هذا تنقص ومعاداة فهذا الفرقان الذي يفصل بين عباد الرحمن وعباد الشيطان والأنبياء تجب محبتهم وموالاتهم وتعزيرهم وتوقيرهم لا سيما خاتم الرسل صلوات الله عليهم أجمعين وقد ثبت في الصحيحين عن أنس عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم ... الحديث" وفي البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "الآن يا عمر" وفي الصحيحين عن أنس عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار" وفي بعض طرق البخاري "لا يجد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا الله" وذكر الحديث وتصديق هذه الأحاديث في كتاب الله قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ ... } الآية ومحبة الرسول هي من محبة الله فهي حب لله وفي الله ليست محبة ومحبوب مع الله كالذين قال الله فيهم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} والحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان كما جاء في الحديث وحب ند مع الله شرك لا يغفره الله فأين هذا من هذا والمحبة التي أوجبها الله لرسوله وللمؤمنين لا يختص ببقعة لا تختص بقبورهم ولا غيرها وكذلك سائر حقوقهم من الإيمان بهم وما يدخل في ذلك فغن ذلك واجب في كل موضع وكذلك الصلاة والسلام على الرسول وغير ذلك فمن يجد قلبه عند الرسول أكثر محبة له وتعظيماً ولسانه أكثر صلاة عليه وتسليماً مما يجده في سائر المواضع كان ذلك دليلاً على أنه ناقص الحظ مبخوس النصيب من كمال المحبة والتعظيم وكان فيه من نقص الإيمان وانخفاض الدرجة بحسب هذا التفاوت بل المأمور به أن تكون محبته وتعظيمه وصلاته وتسليمه عند غير القبر أعظم فإن القبر قد حيل بين الناس وبينه وقد نهى أن يتخذ عيداً ودعا الله أن لا يجعل قبره وثناً فإن لم يجد إيمانه به ومحبته له وتعظيمه له وصلاته عليه وتسليمه عليه إذا كان في بلده أعظم مما يكون لو كان في نفس الحجرة من داخل لكان ناقص الحظ من الدين وكما الدين واليقين فكيف إذا لم يكن من داخل بل من خارج فهذا هذا والله أعلم. والوجه الرابع: أن يقال عداوة الأنبياء وعنادهم هو بمخالفتهم لا بموافقتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 كمن نهى عما أمروا به من عبادة الله وحده وأمر بما نهوا عنه من الشرك بالمخلوقات كلها بالملائكة والأنبياء والشمس والقمر والتماثيل المصورة لهؤلاء وغير ذلك ومن كذبهم فيما أخبروا به من إرسال الله لهم وما أخبروا به عن الله من أسمائه وصفاته وتوحيده وملائكته وعرشه وما أبخروا به من الجنة والنار والوعد والوعيد فلا ريب أن من كذب ما أخبروا به ونهى عما أمروا به وأمر بما نهوا عنه فقد عاداهم وعاندهم وأما من صدقهم فيما أخبروا به وأطاعهم فيما أمروا به فهذا هو المؤمن ولي الله الذي والاهم واتبعهم وإذا كان كذلك فننظر فيما جاء عن نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- وغيره من الأنبياء إن كانوا أمروا بالسفر إلى القبور كما يسافر المسافرون لزيارتها يدعونها ويستغيثون بها ويطلبون منها الحوائج ويتضرعون لها أي لأصحابها ويرون السفر إليها من جنس الحج أو فوق أو قريب منه فمن نهى عما أمر به الرسول ورغب فيه يكون مخالفاً له وقد يكون بعد ظهور قوله إصراره على مخالفته معادياً ومعانداً كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} الآية وإن كان الرسول لم يأمر بشيء من ذلك ولكن شرع السفر إلى المساجد الثلاثة، وقال: "لا تشد الرحال إلى إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي ومسجد هذا، والمسجد الأقصى"، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد ولعن من فعل ذلك وهو أهون من الحج إليها ومن دعا أصحابها من دون الله فإن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء دون ذاك فالممخالف للرسول الأمر بما نهى عنه من شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة الأمر بالسفر إلى زيارة القبور قبور الأنبياء والصالحين وهذا السفر قد علم أنه من جنس الحج وعلم أن أصحابه يقصدون به الشرك أعظم مما يقصد الذين يتخذون القبور مساجد الذي لا ينهى عما نهى عنه الرسول من اتخاذ القبور مساجد واتخاذها عيداً وأوثاناً المعادي لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وافق الرسول فأمر بما أمر ونهى عما نهى المكفر لمن وافق الرسول المستحل دمه وهو أحق بأن يكون معادياً للرسول معانداً له مجاهراً بعداوة أولياء الرسول وحزبه ومن كان كذلك كان هو المستحق لجهاده وعقوبته بعد إقامة الحجة عليه وبيان ما جاء به الرسول دون الموافق للرسول الناصر لسنته وشريعته وما بعثه الله به من الإسلام والقرآن ولكن هذا من جنس أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويعادون من خالفها وينسبونها إلى الرسول افتراءً وجهلاً كالرافضة الذين يقولون إن المهاجرين والأنصار عادوا الرسول وارتدوا عن دينه وأنهم هم أولياء الله والخوارج المارقين الذيبن يدعون أن عثمان وعلياً ومن والاهما كفار بالقرآن الذي جاء به الرسول ويستحلون دماء المسلمين بهذا الضلال ولهذا أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بقتالهم وأخبر بما سيكون منهم وقال فيهم: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ويمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله، وقال لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد" والأحاديث فيهم كثيرة وعظم ذنبهم بتكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وإلا فلا لم يفعلوا ذلك لكان لهم أسوة أمثالهم من أهل الخطأ والضلال ومعلوم أن الشرك بالله وعبادة ما سواه أعظم الذنوب والدعاء إليه والأمر به من أعظم الخطايا ومعاداة من ينهي عنه ويأمر بالتوحيد وطاعة الرسول أعظم من معاداة من هو دونه ولولا بعد عهد الناس بأول الإسلام وحال المهاجرين والأنصار ونقص العلم وظهور الجمل واشتباه الأمر على كثير من الناس لكان هؤلاء المشركون والآمرون بالشرك مما يظهر كفرهم وضلالهم للخاصة والعامة أعظم مما يظهر ضلال الخوارج والرافضة فإن أولئك تشبثوا بأشياء من الكتاب والسنة وخفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 عليهم بعض السنة اللهم إلا من كان منافقاً زنديقاً في الباطن مثل بعض الرافضة ويقال إن أول من ابتدعه كان منافقاً زنديقاً فإن قال هؤلاء من جنس أمثالهم من الزنادقة والمنافقين بخلاف الخوارك فإنهم لم يكونوا زنادقة منافقين بل كان قصدهم اتباع القرآن لكن لم يكونوا يفهمونه كما قال فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم- يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم فالمبتدع العابد الجاهل يشبههم من هذا الوجه وأما الحجاج إلى القبور والمتخذون لها أوثاناً ومساجداً وأعياداً فهؤلاء لم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم منهم طائفة تعرف ولا كان في الإسلام قبر ولا مشهد يحج إليه بل هذا إنما ظهر بعد القرون الثلاثة والبدعة كلما كانت أظهر مخالفة للرسول يتأخر ظهورها وإنما تحدث أولاً ما كان أخفى مخالفة للكتاب والسنة كبدعة الخوارج ومع هذا فقد جاءت الأحاديث الصحيحة فيهم بذممهم وعقابهم وأجمع الصحابة على ذلك، قال الإمام أحمد: صح فهم الحديث من عشرة أوجه وقد رواها صاحبه مسلم كلها في صحيحه وروى البخاري قطعة منها وأما بدع أهل الشرك وعباد القبور والحجاج إليهم فهذا ما كان يظهر في القرون الثلاثة لكل أحد مخالفة لرسول فلم يتجرأ أحد أن يظهر ذلك في القرون الثلاثة وبسط هذا له موضع آخر ولكنها نبهنا على ما به يعرف ما وقع فيه مثل هذا المعترض وأمثاله من الضلال والحمل ومعاداة سنة الرسول ومتبعيها وموالاة أعداء الرسول وغير ذلك مما يبعدهم عن الله ورسوله ثم من قامت عليه الحجة استحق العقوبة وإلا كانت أعماله البدعية المنهي عنها باطلة لا ثواب منها وكانت منقصة له خافضة له بحسب بعده عن السنة فإن هذا حكم أهل الضلال وهو البعد عن الصراط المستقيم وما يستحقه أهله من الكرامة ثم قامت عليه الحجة استحق العقوبة وإلا كان بعده ونقصه وانخفاض درجته وما يلحقه في الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 والآخرة من انخفاض منزلته وسقوطه حرمته وانحطاط درجة جزائه والله حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة وهو عليم حكيم لطيف لما يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون. انتهى. فرد من كلام الشيخ أعذب منهل ... وذقة تجد طعماً ألذ من الشهد يريك صراطاً مستقيماً على الهدى ... وسالكه حقاً يسير على القصد دلائله كالشمس تغدو شهيرة ... ولا تختفي إلا على الأعين الرمد فخذ بكلام الشيخ إن كنت عالماً ... محقاً وخذ بالعلم عن كل ذي نقد ودع عنك تلفيقات كل مموه ... يصد عن الدين الحنيفي والرشد ويسعى بأن لا يعبد الله وحده ... بإشراكهم بالله من كان في اللحد ودعوتهم غير الإله لحاجة ... وكشف مهما تجل عن العد وإن يتسغيث المشركون بغيره ... تعالى عن الإشراك والجعل للند وكدحلان ذي الكفران والشرك والردى ... ويوسف من يدعى لنبهان ذي الجحد وكالكسم من قد كان بالله مشركاً ... وأشباههم من كل غاو ومرتد فليسوا على نهج من الحق والهدى ... ولكنهم عن مهيع الحق في بعد أضلوا وأضلوا واستزلوا عن الهدى ... غرة طغاة معتدين ذي حقد يعادون أهل الحق من حنق بهم ... وبغي وعدوان وظلم بلا حد وقد صدقوا المعصوم في كل أمره ... وقد جانبوا من نهيه كل ما يردي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وغيرهموا في مهمه الغي والهوى ... غواة حيارى زائغين عن القصد فأما ذوي الإسلام من أهل "نجدنا" ... واتباعهم من كل ندب وذي نقد فقد سلكوا نهجاً من الدين واضحاً ... على سنة المعصوم أكمل من يهدي فمن كان هذا شأنه وطريقه ... ونحلته في الدين من غير ماصد يكون بهذا مبغضاً ومعادياً ... ومستنقصاً للمصطفى الكامل لمجد لعمري لقد أخطأتوا طرق الهدى ... وجانبتموها يا ذرى الغي والطرد وعاديتموا الإسلام جهلاً يبغيكم ... وأحزابه من كل هاد ومستهدي فتباً لهاتيك العقول التي غوت ... وحادت عن التقوى وعن ميع الرشد لقد نكرت دين النبي محمد ... وعادته جهراً واجتراء على عمد فظنوا غباء من سفاهة رأيهم ... بأنهم أهل الهدى وذو الجد وأنهموا أولى بدين "محمد" ... وتلك الأماني لا تفيد ولا تجدي وقد خرجوا عن منهج الحق والهدى ... إلى دين عباد القبور ذرى الطرد فليس اتباع المصطفى يا ذوي الردى ... يكون معاداة وبغضاً لذي المجد ولكنه عين الكمال لأنه ... على وفق ما قد قال في كل ما يبدي وتعظيم أمر المصطفى باتباعه ... وترك الذي يأباه من كل ما يردي فيأتي الذي يرضاه من كل مطلب ... وتجتنب المنهي إذ كان لا يجدي فمن شد رحلاً للزيارة قاصداً ... إلى قبره لا للصلاة على عمد بمسجده الأسنى، فقد خالف الذي ... أراد به المعصوم في القصد بالشد وخالف أقوال الأئمة كلهم ... وأقوال أصحاب النبي ذوي المجد وعادى رسول الله بل كان مبغضاً ... لدين المصطفى خير من يهدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ومن شد رحلاً قاصداً بمسيره ... بمسجده الأسنى الصلاة ليستجدي ويطلب غفراناً من الله وحده ... وأجراً وإحساناً من المنعم المسدي ومن بعد أن صلى يزور "محمداً" ... فيدعو له لما هدانا إلى الرشد ولا يدعه بل يذل الجهد في الثنا ... عليه بما أبدى من الخير والحمد وإرشاد أهل الأرض بعد ضلالهم ... إلى كل ما يدني إلى جنة الخلد فهذا هو المشروع وهو الذي أتى ... به النص عن أزكى الورى خير من يهدي عليه صلاة الله ما انهل وابل ... وما هبت النكبا وقهقه من رعد وأصحابه والآل مع كل تابع ... وتابعهم في الدين من كل مستهد وأما قوله: "وأغواهم بما جاء في القرآن العظيم بحق المشركين". فالجواب أن نقول: ليس الاستدلال بالقرآن غواء من الشيطان، ولكنه صينع أهل العلم من حملة السنة والقرآن، وأما كونه جاء في القرآن فنعم فمن فعل كما فعل المشركون من الشرك بالله بصرف خالص حقه لغير الله من الأنبياء والأولياء والصالحين ودعاهم مع الله واستغاث بهم كما يستغيث بالله وطلب منهم ما لا يطلب إلا من الله وتعلق عليهم ولجأ إليهم في جميع مهماته ومسلماته، فما المانع من تنزيل الآيات على من فعل المشركون وتكفيره، وقد ذكر أهل العلم العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولكن إذا عميت قلوبكم عن معرفة الحق وتنزيل ما أنزله الله في حق المشركين على من صنع صنيعهم واحتذى حذوهم فلا حيلة فيه، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً، ولم يجعل الله له نوراً فما له من نور. وأما قوله: "فذهب بإيمانهم تحت ستار العبادة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وقوله: "معاذ الله ما هذا بالذي يذهب بالإيمان بل هو محض الإيمان بالله ورسوله وامتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه وذلك لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرة قلبه وقد تقدم بيان ذلك بحمد الله منته وذلك لا يكون مبغضاً لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولا معاداة له، وإنما المبغض لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- والمعادي له من عصاه وخالف أمره وأشرك بالله في خالص حقه وإنما بعث النبي –صلى الله عليه وسلم- لتكفير من فعل هذا وقتله واستحلال ماله ودمه وأن يكون الدين كله ولا يكون فيه شركة لأحد سواه {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} . وأما قوله "ففسروا الزيارة بمعنى عبادة الأوثان وشبهوا التوسل بما يفعله مشركو العرب وغيرهم". فأقول: نعم من زار قبور الأنبياء والأولياء والصالحين وفعل كما فعل مشركو العرب من دعائهم الأنبياء والأولياء والصالحين وما يفعلونه عند الأشجار كالعزى والأحجار كاللات ومناة الثالثة الأخرى واستغاث بهم كما استغاث المشركون بأوثانهم وطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وذبح لهم الذبائح ونذر لهم النذور كما كان يفعله المشركون عند تلك الأشجار والصخور وكما كان يفعله اليوم عباد القبور فهذا هو معنى عبادة الأوثان وما الفارق بين من فعل هذا وهذا إن كنتم تعلمون؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} . وأما قوله: فانظر ما أشقاهم وأحمقهم وأبعدهم عن الحق ولو صح لهم هذا التأويل الباطل لكانوا هم أشد الناس شركاً لأنهم يزورون الأمراء والحكام ويتزلفون إليهم ويتوسلون ببعضهم في حوائجهم بكل قول وعمل وربما خاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أملهم بما يرجون". فالجواب أن نقول: من نظر بعين البصيرة وجدهم من أهدى الناس وأرشدهم وأقربهم إلى الحق الذي بعث الله به نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم- وأنهم بذلك على الصراط المستقيم والدين القويم ووجدكم أشقى الخلق وأحمقهم وأبعدهم عن الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وأنكم بذلك على الكفر الوخيم والشرك الذميم الموافق لما عليه أصحاب الجحيم لا يمتري في ذلك من كان ذا قلب سليم وعقل مستقيم. وقوله: "ولو صح لهم هذا التأويل الباطل لكانوا هم أشد الناس شركاً لأنهم يزورون الأمراء والحكام" إلى آخره. فأقول هذا من أفسد القياس وأبطل الباطل وأمحل المحال وأضل الضلال فإن هذا لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل أو دين ويفرق بين دين المسلمين ودين المشركين وبين ما يجوز من الأسباب العادية وما لا يجوز من الأمور والأفعال الشركية فإن زيارة الأمراء والحكام والتزلف إليهم والتوسل ببعضهم في حوائجهم فيما كان بأيديهم وداخل تحت قدرتهم وملكهم وتصرفهم من الأمور الدنيوية التي لا يعجزون عنها وهي تحت مقدورهم وفي طوقهم ليس بشرك بل هو من الأسباب العادية التي أجرى الله نفع العباد بعضهم ببعض بها فإن ذلك كله مما لا نزاع في جوازه لدى الموحدين وقد ذكر ذلك أهل العلم في مصنفاتهم، قال الشيخ صنع الله الحلبي –رحمه الله تعالى-: "والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسبة في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة" انتهى. وهذا كما يقول الرجل لصاحبه في السفر أعني على حمل دابتي وعلى حمل متاعي وأعطني ما يرد علي هذا الشارد أو ادفع عني هذا السبع الصائل أو كمن يقول لبعض الأمراء والحكام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 إذا وفد إليهم أعطني هذا أو تفضل علي بكذا مما هو اخل تحت قدرته ونحو ذلك فهذا جائز ولا نزاع فيه بين العلماء فإن هذا سؤال من حي حاضر قادر على ما ينفع به أخاه المسلم من الأمور الدنيوية ومن زعم أن هذا من الشرك المخرج من الملة فهو أضل من حمار أهله. وأما قوله: "فماذا علينا إذا توسلنا بجاه من فضله الله على كل خلقه في طلب نعيم دائم ورضى كريم لا يمن ولا يمنع أو بقضاء حاجة دنيوية". فالجواب أن يقال: نعم إن عليك من الإثم ما قد يستحقه من فعل أحد هذين الذنبين العظيمين فإن كان قصدك بالتوسل أنك تطلب من الله بجاه نبيه وبحرمته وحقه على الله أن يتفضل الله عليك بنعيم دائم ورضاء كريم لا يمن ولا يمنع أو بقضاء حاجة دنيوية فهذا التوسل بدعة مكروهة محرمة وعليك في ذلك إثم من ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله ولا شرعه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لأمته ولا فعله الصحابة والتابعون ولا الأئمة المهتدون وقد ذم العلماء البدع وأهلها وذكروا إثم من عمل بها أو سنها وأنهم ملعونون على لسان محمد –صلى الله عليه وسلم- قال الإمام الحافظ محمد بن وضاح: أخبرنا غير واحد أن سد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: "اعلم يا أخي أن ما حملني على الكتاب إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس وحسن حالك مما أظهرت من السنة وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة وقواك عليهم عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم فأذلهم الله بك وصاروا ببدعتهم مستترين فأبشر يا أخي بثواب ذلك واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسوله، وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " من أحيا شيئاً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وضم بين أصبعيه"، وقال: "أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة" فمتى يدك هذا أجر شيء من عمله؟ وذكر أيضاً أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً لله يذب عنها وينطق بعلامتها فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه قال: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من كذا وكذا" وعظم القول فيه فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكن لك بذلك إلفه وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء في الأثر فاعمل على بصير ونية وحسبة فيرد الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر فتكون خلفاً عن نبيك –صلى الله عليه وسلم- فإنك لن تلقى الله بعمل شبهه وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب فإنه جاء في الأثر: من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام، وجاء: ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى، وقد وقعت اللعنة من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على أهل البدع وأن الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ولا فريضة ولا تطوعاً وكلما ازدادوا اجتهاداً وصوماً وصلاة ازدادوا من الله بعداً فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأئمة الهدى من بعده" انتهى. ثم قال محمد بن وضاح بإسناده عن الحسن قال: لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك، ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال: من جالس صاحب بدعة لم يسلم من ثلاث إما أن يكون فتنة لغيره وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخل النار، وإما أن يقول والله ما أبالي بما تكلمون وإني واثق بنفسي فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه، ثم ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بإسناده عن بعض السلف قال: من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام. انتهى وقد أخبر –صلى الله عليه وسلم- أن أهل البدع هم شرار الخلق عند الله ولعن –صلى الله عليه وسلم- وهو في السياق من فعل ذلك ففي الصحيحين عن عائشة –رضي الله عنها- أن أم سلمة –رضي الله عنها- ذكرت لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح والعبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين فتنة القبور وفتنة التماثيل ولهما عنها قالت لما نزل برسول الله –صلى الله عليه وسلم- طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا" ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. أخرجاه وقال –صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" رواه أهل السنن، وإن كان قصدك –أيها الملحد- بالتوسل طلب النبي –صلى الله عليه وسلم- ودعاؤه والاستغاثة به أن يتفضل عليك بنعيم دائم ورضاء كريم لا يمن ولا يمنع أو بقضاء حاجة دنيوية فهذا هو الشرك العظيم والذنب الجسيم الذي من أتى به فقد حرم الله عليه الجنة لأنه محض حق الله، ومن صرف ذلك لغير الله كان مشركاً قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية فمن استغاث بغير الله في طلب حاجة أو كشف كربة أو سأل من غيره نعيماً دائماً فهو مشرك كافر بالله بنص كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وكلام أهل الله بالعلم وبدينه وشرعه، قال شيخ الإسلام –رحمه الله- في "الرسالة السنية" فإذا كان على عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب منها الغلو في بعض المشائخ بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح –عليه السلام- فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول يا سيد فلان انصرني أو أغثني وارزقني أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له ولا يدعى معه إله والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} ويقولون {هَؤلَاء شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللهِ} فبعث الله سبحانه رسله تنهي عن أن يدعى من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. انتهى. وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً نقله عنه صاحب "الفروع" وصاحب "الإنصاف" وصاحب "الإقناع" وغيرهم وقال ابن القيم –رحمه الله-: ومن أنواعه –يعني الشرك- طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسهنفعاً ولا ضراً فضلاً عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي –رحمه الله- في رده على السبكي "قوله إن المبالغة في تعظيمه، أي الرسول –صلى الله عليه وسلم- واجبة إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الضر والنفع وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من شاء فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين وفي "الفتاوى البزازية" من كتب الحنفية قال علماؤنا: من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم الغيب يكفر، وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي –رحمه اله- في كتابه في الرد على من ادعى أن لأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: هذا وأنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم ويستغاث بهم في الشدائد والبيلات وبهمهم تكشف المهمات فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات مستدلين أن ذلك منهم كرامات وقالوا منهم أبدال ونقباء ونجباء وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة والقطب والغوث للناس وعليه المدار بلا التباس وجوزوا لهم الذبائح والنذور وأثبتوا لهم فيهما الأجور قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لما فيه من روائح الشرك المحقق ومصادمة الكتاب العزيز المصدق ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة، وفي التنزيل {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} ولله در الشيخ ملا عمران حيث وشح قول النصراني بهذه الأبيات الآتي ذكرها لما نفي النصراني الشركة في حقه فكيف بحق الله سبحانه وتعالى قال النصراني: تركت حبيب القلب لا عن ملالة ... ولكن جنا ذنباً يؤول إلى الترك أراد شريكاً في المحبة بيننا ... وإيمان قلبي لا يميل إلى الشرك وذلك أنه كان له زوجه فاتخذت خدناً فاطلع زوجها على ذلك ففارقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وأنشد البيتين المذكورين، فقال "ملا عمران" توشيحاً على كلامه: إذا كان ذا المخلوق عن نفسه نفا ... شراكة ند في المحبة والصفا وأعلن للمحبوب بالترك والجفا ... فكيف بأن يرضي إله قد اصطفا له رسلاً تدعوا إليه بلا شك ... فهل كان أهل الشرك فيما تقدما يرجون من أوثانهم مطر السماء ... ولم يجعلوا زرقاً لمن كان معدماً فما كان ذا منهم ولا بعضه كما ... أتى وحي رب العالمين بذا يحكي ولكنهم يرجون منهم شفاعة ... تقربهم زلفى إليه وطاعة وعند اشتداد الكرب حيناً وساعة ... يردون لله الرؤوس ضراعة إليه يريدون النجاة من الهلك ... وبالعكس عباد القبور فإنهم إذا اشتد خطب ساء في الله ظنهم ... وإن هاجت الأمواج ما زال فنهم ينادون أصحاب القباب كأنهم ... يهلون في البيداء تلبية النسك فلما أتى الشيخ الحكم منبهاً ... على الملة البيضاء بالنور والبها وقال ذروا هذي القباب ومن بها ... وسنة خير الخلق منتصراً بها تلقوه بالبهتان والزور والإفك ... فقالوا بسب الصالحين ويعتدي ويقدح فيهم وهو ليس بمهتدي ... وبالعلما في دينه غير مقتدي ويطنب في تكفير كل موحد ... ويحكم في الإسلام بالنهب والسفك فحاشاه مما يفترون عليه بل ... أتى نصاحاً يدعو إلى صالح العمل يوحد رباً قد تفرد في الأزل ... وينهى عن الشرك المؤدي إلى الزلل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ومن محدثات العرب والعجم والترك ... وقد قال قول الحق محض صريحه على علمهم أن قد أتى بصحيحه ... ولكنهم لم ينشقوا طيب ريحه فيا رب نزل رحمة في ضريحه ... وأتحفه بالغفران يا مالك الملك ويا من على العرش استوى سرمداً ... وسلم على من جاء بالنور والهدى وآل وصحب جاهدوا مصر العدا ... وبارك زد ما ناح طير وغردا وما فاح نشر الورد والند والمسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فصل: مشركوا هذا الزمان كمشركي العرب الاقدمين ثم قال الملحد: فالمؤمن لا يعتقد أن المخلوق فعلاً أو تأثيراً، وقد بسط العلماء الجواب عما يفعله العوام مما يظن أن فيه شبهة شرك وما هي فيه ونحن وإياهم ما نقصد بذلك إلا اتباع الله تعالى باتخاذ الوسائل وابتغاء الأسباب التي منها السعي والكسب والدعاء واتخاذ الوسائط والتوسل بجاه أحبائه إلى آخره. والجواب أن نقول: هكذا كان مشركو العرب من الجاهلية حذو النعل بالنعل كانوا يدعون الصالحين والأنبياء والمرسلين طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين ويلجأون إليهم ويسألونهم على وجه التوسل بجاههم وشفاعتهم ويعلمون أن الله تعالى هو النافع الضار وأن الله سبحانه هو المؤثر وأن غيره لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لما جعلوا بعض المخلوقين وسائط بينهم وبين الله تعالى فلم ينفعهم إقرارهم بتوحيد الربوبية وأما ما يفعله العوام مما يظن أن فيه شبهة شرك فما أجابهم علماء السوء إلا بما أرداهم فأصبحوا من الخاسرين، وأنتم وإياهم في ميدان الكفر كفرسي رهان ولعمري لقد ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل والألفاظ التي يقولها العوام وينطقون بها دالة دلالة مطابقة على اعتقاد التأثير من غير الله تعالى فما معنى الشبهة ثم لو سلم هذا الجهل لاستحال الارتداد وانسد باب الردة الذي يعقده الفقهاء في كل مصنف وكتاب من كتب أهل المذاهب الأربعة وغيرها فإن المسلم الموحد فمتى صدر منه قول أو فعل موجب للكفر يجب حمله على المجاز العقلي والإسلام والتوحيد قرينة على ذلك المجاز وأيضاً يلزم على هذا أن لا يكون المشركون الذين نطق كتاب الله بشركهم مشركين فإنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الخالق الرازق الضار النافع وأن الخير والشر بيده لكن كانوا يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، فالاعتقاد المذكور قرينة على أن المراد بالعبادة ليس معناه الحقيقي بل المراد هو المعنى المجازي أي التكريم مثلاً، فما هو جوابكم فهو جوابنا أيضاً أنكم هؤلاء أولتم عنهم في تلك الألفاظ الدالة على تأثير غير الله فما تفعلون في أعمالهم الشركية من دعاء غير الله والاستغاثة والنذر والذبح فإن الشرك لا يتوقف على اعتقاد تأثير غير الله بل إذا صدر من أحد عبادة من العبادات لغير الله صار مشركاً سواء اعتقد ذلك الغير مؤثراً أم لا. انتهى. فإذا عرفت أن هذا هو اعتقاد كفار قريش وغيرهم من العرب فإنهم كانوا معترفين بأن الله هو الفاعل لهذا الأشياء وأنه لا مشارك له في إيجاد شيء ولا أدخلهم ذلك في الإسلام بل قاتلهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- واستحل دماءهم وأموالهم إلى أن يخلصوا العبادة لله ولا يشركوا في عبادته أحداً سواه كان دعوى هؤلاء أن هذا من الألفاظ الموهمة من الأوهام الموبقة. وأما قوله: ونحن وإياهم ما نقصد بذلك إلا اتباع أمر الله تعالى باتخاذ الوسائل وابتغاء الأسباب التي منها السعي والكسب والدعاء. فالجواب أن نقول لهذا المفتري على الله وعلى رسوله ودينه وشرعه {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، وقال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على من اتخذ الملائكة والأنبياء والأولياء وسائل يدعونهم من دون الله فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً , أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} وأخبر تعالى أن هؤلاء المدعوين عبيده كما أن الداعين عبيده وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه فكيف تدعونهم من دون الله وقد أخبر تعالى أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، أي القربة، وقيل الوسيلة الدرجة العليا، أي يتضرعون إلى الله في الدرجة العليا، وقيل الوسيلة كلما يتقرب به إلى الله عز وجل فتبين أن الذي أمر الله به عباده المؤمنين دعاءه والتقرب إليه بالأعمال الصالحة فالوسيلة التي تطلب من الله هي التقرب إليه بطاعته والعمل بما يرضيه قال البغوي على قوله: {وَابْتَغُوْا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} : أي: ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا إذا تقرب إليه. انتهى، فهذا الذي ذكره المفسرون في الوسيلة التي تبتغي وتطلب وأما التوسل بدعاء الأنبياء والأولياء والصالحين والاستغاثة بهم في المهمات والملمات فهو الكفر البواح الذي نهى الله عنه ورسوله وأجمع المسلمون على كفر من فعله وأتى به، والله سبحانه وتعالى لا يأمر بالكفر ولا يرضاه لعباده وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون، وأما قوله وابتغاء الأسباب التي منها السعي والكسب والدعاء فالجواب أن نقول: وهذا هو قول الجاهلية الكفار فإنهم ما عهدوا الأنبياء والأولياء والصالحين إلا لكونهم أسباباً ووسائل لنيل المقصود ولا فهم يعتقدون أن الله هو النافع الضار وأنه المتفرد بالإيجار والإعدام وأن الله هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الخالق للأشياء وأنه هو رب كل شيء ومليكه ولا يعتقدون أن آلهتهم يدعونها من دون الله من الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا في خلق السماوات والأرض واستقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد وإنما دعوهم والتجأوا إليهم واستغاثوا بهم على سبيل التسبب والتوسل بهم فكفرهم الله بذلك وقاتلهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على ذلك واستحل دماءهم وأموالهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "الخامس" أن يقال نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم والحكم، لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سبباً في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر أو غير، كان ذلك سبباً في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين إحداهما أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها فإنه ليس كلما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه فإن المسافر قد يكون سفره سبباً لأخذ ماله وكلاهما محرم والدخول في دين النصارى قد يكون سبباً لمال يعطونه وهو محرم وشهادة الزور قد تكون سبباً لنيل المال يؤخذ من المشهود له وهو محرم وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سبباً لنيل مطلب وهو محرم والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب وهو محرم وكذلك الشرك كدعوة الكواكب والشياطين بل وعبادة البشر قد يكون سبباً لبعض المطالب وهو محرم فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته كالخمر وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحياناً وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقاً وأمر فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية. انتهى. فتبين أن الأسباب التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 يظن هؤلاء المشركون أنها أسباباً شركية لم يأمر الله بها ولا رسوله ولا شرعها الله ورسوله لا في القرآن ولا في السنة ولا عمل بها الصحابة –رضي الله عنهم- ولا من بعدهم من التابعين والأئمة والمهتدين، بل هي من الأوضاع الشركية التي ابتدعوها في الدين ويحسبون أنهم مهتدون. وأما قوله: واتخاذ الوسائط والتوسل بجاه أحبائه إلى آخره. فالجواب أن نقول: أن اتخاذ الوسائط بين الله وبين خلقه كفر بإجماع المسلمين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً نقله عنه صاحب "الفروع" وصاحب "الإنصاف" وصاحب "الإقناع" وغيرهم وهؤلاء الذين نقلوا كلام شيخ الإسلام من أئمة الحنابلة وساداتهم وهم ممن أخذ عن الأئمة الأربعة أصول دينهم وفروعه وبواسطتهم إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-، فإن كان حقاً وصواباً فقد ذكروا الإجماع على كفر من اتخذ الوسائط من دون الله وأنت من جملة من تتخذ الوسائط وإن كان باطلاً فقد عدت على تأصيلك بالهدم والرد والتزمت مذهب أهل التلفيق الذي ترمي به وتلزمه أهل التحقيق وأنت به أليق من ذلك الفرق وعلى نفسها تجني براقش، وأما التوسل بجاه أحبائه فقد تقدم الجواب عنه وأما صراحته في القرىن العظيم والسنة فمن الكذب على الله ورسوله بل تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ففي أي آية وفي أي سنة ذكر الله ذلك ورسوله إن كنتم صادقين ولن تجدوا إلى ذلك سبيلاً بلفظ صريح أو نص صحيح ولو ذكرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ذلك لفصلنا لك الجواب تفصيلاً. وقولك لكن إذا سبق الشقاء عميت الأبصار وضلت البصائر، فأقول: نعم، قد سبق عليك الشقاء وعميت عينك عن معرفة الحق والهدى وضلت وبصيرتك عن إدراك حقائق الأمور التي يحبها الله ويرضاها من الإيمان بالله بالله ورسوله وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه وأمرتك نفسك الأمارة بالسوء إلى اتخاذ الوسائط والشفعاء من دون الله واتبعت نفسك هواها ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ثم قال الملحد: وحيث إن هذه المسألة ذات فروع ويتعلق بها مسائل أخر فاقسمها إلى مباحث إن شاء الله تعالى وما توفيقي إلا بالله. البحث الأول: في حياة الرسول –عليه الصلاة والسلام- أن هذه المسألة هي من أهم المسائل التي اختلف فيها علماؤنا ببعضهم وهم والمعتزلة وغيرهم وسببه وعدم وجود نص في القرآن العظيم يبين كيفية حياته –عليه الصلاة والسلام- بعد وفاته يؤيد الأحاديث الدالة على حياته الجسدية بعد وفاته إلى آخر كلامه. والجواب أن نقول: قد أطنب هذا الملحد في هذا المبحث وذكر مخرقة وأقوالاً لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا قول أحد من العلماء الراسخين الذين لهم قدم صدق في العالمين، وإنما ذكر اختلاف علمائه الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام ولا دراية لهم بعلوم أهل الإسلام الذين لهم في هذه المباحث أعظم اهتمام وأحكموا البحث فيها غاية الأحكام وحيث ذكر في هذه المسألة ما تستك عند سماعه اسماع الموحدين وتنفر عنه طباع المؤمنين وتعرض فيها التأويل آيات الكتاب العظيم وسنة نبيه الكريم بما لم يذكره المحققون من أئمة التفسير وشراح الحديث الذين لهم في الدراية والرواية والرعاية ما ليس لغيرهم بأتم تبيان وحسن تعبير، وذكر في هذه المسألة أقوالاً وأبحاثاً ليست من أقوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أهل الإسلام ولا أبحاثهم فلذلك ضربنا عن جوابه صفحاً وطوينا عليه كشحاً ومن أراد الاطلاع على حقيقة هذه المسألة وتنقيحها وتقرير الأدلة وتحرير أقوال العلماء بتوضيحها وذكر ما ورد في حياة الأنبياء والشهداء والأحاديث الواردة في ذلك فعلية بمطالعة كتاب "الروح" في الكلام على أرواح الأموات والأحياء لابن القيم –رحمه الله- ونذكرها هنا كلامه في "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية"، والمقصود بذلك أن يعلم من أراد الحق تحقيق الكلام فيها بأوضح بيان بأدلته عن أهل العلم والإيمان، وأما هؤلاء الملاحدة الزنادقة فلا يزيدهم ذلك إلا عتواً ونفوراً وتكبراًَ عن قول الحق تعنتاً وفجوراً، وكان ذلك تسويلاً من الشيطان لهم وغروراً، قال ابن القيم –رحمه الله تعالى-: فصل في الكلام في حياة الأنبياء في قبورهم: ولأجل هذا رام ناصر قولهم ... ترقيعه يا كثرة الخلقان قال الرسول بقبره حي كا ... قد كان فوق الأرض والرجمان من فوق أطباق ذاك التراب ... واللبنات قد عرضت على الجدران لو كان حياً في الضريح حياته ... قبل الممات بغير ما فرقان ما كان تحت لأرض بل من فوقها ... والله هذي سنة الرحمن أتراه تحت الأرض حياً ثم لا ... يتفيهموا بشرائع الإيمان ويريح أمته من الآراء والخلف ... العظيم وسائر البهتان أم كان حياً عاجزاً عن نطقه ... وعن الجواب لسائل لهفان وعن الحراك فما الحياة اللاء قد ... أثبتموها أوضحوا ببيان هذا ولما جاءه أصحابه ... يشكون بأس الفاجر الفتان إذ كان ذلك دأبهم ونبيهم ... حي يشاهدون شهود عيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 هل جاءكم أثر بأن أصحابه ... سألوه فتيا وهو في الأكفان فأجابهم بجواب حي ناطق؟ ... فأتوا إذا بالحق والبرهان هلا أجابهمو جواباً شافياً ... إن كان حياً ناطقاً بلسان هذا ما شهدت ركائبه عن ... الحجرات للقاصي من البلدان مع شدة الحرص العظيم له على ... إرشادهم بطرائق التبيان أتراه يشهد رأيهم وخلافهم ... ويكون للتبيان ذا كتمان إن قلتمو صدق البيان صدقتموا ... قد كان بالتكرار ذا تبيان هذا وكم من أمور أشكل بعده ... أعني على العلماء كل زمان أو ما ترى الفاروق ود بأنه ... قد كان منه العهد ذا تبيان بالجد في ميراثه وكلالة ... وببعض أبواب الربا الفتان قد قصر الفاروق عند فريقكم ... إذا لم يسله وهو في الأكفان أتراهمو يأتون حول ضريحه ... لسؤال أمهم أعز حصان ونبيهم حتى يشاهدهم ... ويسمعهم ولا يأتي ببيان؟ أفكان يعجز أن يجيب بقوله ... إن كان حياً داخل البنيان يا قومنا استحيوا من العقلاء ... والمبعوث بالقرآن والرحمن والله لا قدر لرسول عرفتموا ... كلا ولا للنفس والإنسان من كان هذا القدر مبلغ علمه ... فليستتر بالصمت والكتمان ولقد أبان الله أن رسوله ... ميت كما قد جاء في القرآن أفجاء أن الله باعثه لنا ... في القبر قبل قيامة الأبدان أثلاث موات تكون لرسله ... ولغيرهم من خلقه موتان إذ عند نفخ الصور لا يبقى امرؤ ... في الأرض حياً قط بالبرهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 أفهل يموت الرسل أم يقوا إذا ... مات الورى هل لكم قولان؟ فتكلمو بالعلم لا بالدعوى ... وجيشوا بالدليل فنحن ذو الأذهان أو لم يقل من قبلكم للرافعي الأ ... صوات حول القبر بالنكران لا ترفعوا الأصوات حرمة عبده ... ميتاً كحرمته لدى الحيوان قد كان يمكنهم يقولوا أنه ... حي فغضوا الصوت بالإحسان لكنهم بالله أعلم منكموا ... ورسوله وحقائق الإيمان ولقد أتوا يوماً إلى العباس يستسقون ... من قحط وجدب زمان فصل فيما احتجوا به على حياة الرسل في القبور فإن احتججتم بالشهيد بأنه ... حي كما قد جاء في القرآن والرسل أكمل حالة منه بلا ... شك وهذا ظاهر التبيان فلذلك كانوا بالحياة أحق من ... شهدائنا بالعقل والإيمان وبأن عقد نسائه لم ينفسخ ... فنساؤه في عصمة وصيان ولأجل هذا لم يحل لغيره ... منهن واحدة مدى الأزمان أفليس في هذا دليل أنه ... حي لمن كانت له أذان؟ أو لم يرى المختار موسى قائماً ... في قبره لصلاة ذي القربان؟ أفميت يأتي الصلاة وإن ذا ... عين المحال وواضح البطلان أو لم يقل إني أرد على الذي ... يأتي بتسليم مع الإحسان أيرد ميت السلام على الذي ... يأتي به هذا من البهتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 هذا وقد جاء الحديث بأنهم ... أحياء في الأجداث ذا تبيان وبأن أعمال عليه ... تعرض دائماً في جمعة يومان يوم الخميس ويوم الاثنين الذي ... خص بالفضل العظيم الشأن فصل في الجواب عما احتجوا به في هذه المسألة فيقال أصل دليلكم في ذاك ... حجتنا عليكم وهي ذات بيان إن الشهيد حياته منصوصة ... لا بالقياس القائم الأركان هذا مع النهي أننا ... ندعوه مبتاً ذاك في القرآن ونساؤه حل لنا من بعده ... والمال مقسوم على السهمان هذا وإن الأرض تأكل لحمه ... وسباعها مع أمة الديدان لكنه مع ذاك حي فارح ... مستبشر بكرامة الرحمان فالرسل أولى بالحياة لديه مع ... موت الجسوم وهذه الأبدان وهي الطرية في التراب وأكلها ... فهو الحرام عليه بالبرهان ولبعض أتباع الرسول يكون ذا ... أيضاً وقد وجدوه رأي عيان فانظر إلى قلب الدليل عليهموا ... حرفاً بحرف ظاهر التبيان لكن رسول الله خص نساؤه ... بخصيصة عن سائر النسوان خيرن بن رسوله وسواه ... فاخترن الرسول لصحة الإيمان شكر الإله لهن ذاك وربنا ... سبحانه للعبد ذو شكران قصر الرسول على أولئك رحمة ... منه بهن شكر ذي الإحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وكذاك أيضاً قصرهن عليه ... معلوم بلا شك ولا حسبان زوجاته في هذه الدنيا وفي الأ ... خرى يقيناً واضح البرهان فلذا حرمن على سواه بعده ... إذ ذاك صون عن فراش ثان لكن أتين بعدة شرعية ... فيها الحدود وملزم الأوطان هذا ورؤيته الكليم مصلياً ... في قبره أثر عظيم الشأن في القلب منه حسيكة هل قاله ... فالحق ما قد قال ذو البرهان ولذاك أعرض في الصحيح محمد ... عنه على عمد بلا نسيان والدارقطني الإمام أعله ... برواية معلومة التبيان أنس يقول رأى الكليم مصلياً ... في قبره فاعجب لذا الفرقان بين السياق إلى السياق تفارقاً ... لاتطرحه فيما هما سيان لكن تقلد مسلم وسواه ... ممن صح هذا عنده ببيان فرواته الأثبات أعلام الهدى ... حفاظ هذا الدين في الازمان لكن هذا ليس مختصاً به ... والله ذو فضل وذو إحسان فروى ابن حبان الصدوق وغيره ... خبراً صحيحاً عنده ذا شان فيه صلاة العصر في قبر الذي ... قد مات وهو محقق الإيمان فتمثل الشمس الذي قد كان ير ... عاها لأجل صلاة ذي القربان عند الغروب يخاف فوت صلاته ... فيقول للملكين هل تدعاني حتى أصلي العصر قبل وفاتها ... قالا: ستفعل ذاك بعد الآن هذا مع الموت المحقق لا الذي ... حكيت لنا بثبوته القولان هذا وثابت البناني قد دعا ... الرحمان دعوة صادق الإيقان أن لا يزال مصلياً في قبره ... إن أعطي ذاك من إنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 لكن رؤيته لموسى ليلة المعراج ... فوق جميع ذي الأكوان يرويه أصحاب الصحاح جميعهم ... والقطع موجبه بلا نكران ولذاك ظن معارضاً لصلاته ... في قبره إذ ليس يجتمعان وأجيب عنه بأنه أسري به ... ليراه ثم مشاهداً ببيان فرآه ثم وفي الضريح وليس ذا ... يتناقض إذ أمكن الوقتان هذا ورد نبينا لسلام من ... يأتي بتسليم مع الإحسان ما ذاك مختصاً به أيضاً كما ... قد قاله المبعوث بالقرآن من زار قبر أخ له فأتى ... بتسليم عليه وهو ذو إيمان رد الإله عليه حقاً روحه ... حتى يرد عليه رد ببيان وحديث ذكر حياتهم بقبورهم ... لما يصح وظاهر النكران فانظر إلى الإسناد تعرف حاله ... إن كنت ذا علم بهذا الشأن هذا ونحن نقول هم أحياء لا ... كن عندنا كحياة ذي الأبدان والترب تحتهم وفوق رؤوسهم ... وعن التماثل ثم عن أيمان مثل الذي قلتوه معاذنا ... بالله من إفك ومن بهتان بل عند ربهمو تعالى مثلما ... قد قال في الشهداء في القرآن لكن حياتهمو أجل وحالهم ... أعلى وأكمل عند ذي الإحسان هذا وأما عرض أعمال العبا ... د عليه فهو الحق ذو إمكان وأتى به أثر فإن صح الحديث ... به فحق ليس ذا نكران لكن هذا ليس مختصاً به ... أيضاً بآثار روين حسان فعلى أبي الإنسان يعرض سعيه ... وعلى أقاربه مع الإخوان إن كان سعياً صالحاً فرحوا به ... واستبشروا يا لذة الفرحان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أو كان سعياً سيئاً حزنوا وقا ... لوا رب راجعه إلى الإحسان ولذا استعاذ من الصحابة من روى ... هذا الحديث عقيبه بلسان يا رب إني عائذ من خزيه ... أخزى بها عند القريب الداني ذاك الشهيد المرتضى ابن رواحة ... المحبوب بالغفران والرضوان لكن هذا ذو اختصاص والذي ... للمصطفى ما يعمل الثقلان هذي نهايات لإقدام الورى ... في إذا المقام الضنك صعب الشان والحق فيه ليس تحمله عقو ... ل بني الزمان الغلظة الأذهان ولجهلهم بالروح مع أحكامها ... وصفاتها للألف بالأبدان فارض الذي رضي الإله لهم به ... أتريد تنقص حكمة الديان؟ وترد أوقات السلام عليه من ... أعلى الرفيق مقيمه بجنان وكذاك إن زرت القبور مسلماً ... ردت لهم أرواحهم للآن فهموا يردون السلام لا ... ركن لست تسمعه بذي الأذنان هذا وأجواف الطيور الخضر ... مسكنها لدى الجنات والرضوان من ليس يحمل عقله هذا فلا ... تظلمه واعذره على النكران للروح شأن غير ذي الأجسام لا ... تهمله شأن الروح أعجب شان وهو الذي حار الورى فيه فلم ... يعرفه غير الفرد في الأزمان فلذاك أمسكت العنان ولو أرى ... ذاك الرفيق جريت في الميدان هذا وقولي أنها مخلوقة ... وحدوثها المعلوم بالبرهان هذا وقولي أنها ليست كما ... قد قال أهل الإفك والبهتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 لا داخل فينا ولا هي خارج ... عنا كما قالوه في الديان والله الرحمان أثبتم ولا ... أرواحكم يا مدعي العرفان عطلتموا الأبدان من أرواحها ... والعرش عطلتم من الرحمن فصل قال الملحد: البحث الثاني في الزيارة، اعلم يا أخي شرح الله قلبي وقلبك بنور الإخلاص إن لنا معشر المؤمنين وجداً في حب نبينا –عليه الصلاة والسلام- يكفينا عن الاستدلال والاستشهاد وعلى كل ما نحن في صدده، فمن شاء فليتبعنا فيتذوق بما ذقنا ولا ينازع لكن لما رأينا أناساً منا أغواهم الشيطان بواسطة زمرة من جنوده المتدلسين بالعلم والدين فاتبعوهم عن جهل فقمنا امتثالاً لأمر بنا واقتداءً بنبينا وأصحابه –عليه وعليهم الصلاة والسلام- رجاء أن ننال شيئاً من الفلاح بالذب عن الشريعة المطهرة والأئمة الأعلام، وأنبهك بشيء لا دليل عليه غير الذوق والوجدان وهو أن الداخل للحرمين الشريفين والواقف بعرفات إذا لم يكن متزوداً بأوفر نصيب من الإخلاص والاعتبار فلا يشعر بشيء ولا يدرك شيئاً ولا يجد له لذة في عمل ولا همة باغتنام أجر ولا رغبة بزيادة فضل أما من أنعم الله عليه بهذا الزاد فإنه يشعر ويدرك كليات وجزئيات أمور ويجد لذة وهمة لا يجد اللسان ألفاظاً يعبر بها عنها فلا تلمه إن رأيته في عرفات تارة يرقص وتارة يتمرغ في الرمل غير حاس بحرارته إلى آخر كلامه. والجواب أن نقول: وهذا أيضاً من جنس ما قبله من المخرقة التي يمخرق بها هؤلاء الأنجاس الأرجاس، ويموهون بها على أعين كثير من الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ليوهموهم أنهم بذلك من أهل الذوق والفناء في العبادة من غير شك ولا التباس، وهم من أكثر خلق الله وأبعدهم عن سلوك طريقة أهل التعبد من الأفاضل الأكياس، بما غرهم به الشيطان من المكر والخداع والتلاعب بالدين، وسلوك على غير سبيل المؤمنين، فإنه قد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أنه لم يكن من هدي نبينا –عليه أفضل الصلاة وأتم السلام-، ولا كان هذا يوجد من أحد من أصحابه الأفاضل الكرام، ولا من التابعين لهم بإحسان ولا فعله أحد من الأفاضل الكرام، ولا من التابعين لهم بإحسان ولا فعله أحد من أفاضل الائمة الأعيان، فما هو إلا من تلاعب الشيطان وإغوائه لأوليائه من ذوي الكفر والفسوق والعصيان، فنعوذ بالله من ريب الذنوب وانتكاس القلوب ومن كان هذا سبيله فلا حاجة بنا إلى الجواب عنه لأنه مخرقة وزندقة لا طائل في إتعاب القلم بردها واشتغال الذهن بهدم أصولها وهدها، ولكن نشير بعض الإشارة إلى ما قد يعرض لبعض أهل التصوف من الشطحات والغيبة عن أنفسهم بمحبوبهم فيبقى قلب أحدهم متعلقاً بمحبوبه غائباً عن نفسه منطرحاً ببابه مشاهداً لمحبوبه الحق بخلاف ما قد يعرض لهؤلاء الزنادقة الملاحدة من الذهول والغيبة عن أنفسهم فإنهم لما كانوا غير مؤمنين بالله ورسوله كانوا مشركين بالله غير مخلصين له في عبادته بما يصرفون من خالص حق الله لغيره من الدعاء والمحبة والخوف والرجاء والتوكل والاستغاثة وسائر أنواع العبادة التي اختص الله بها دون غيره فلذلك تختلط بهم الشياطين وتستولي على قلوبهم فيظل أحدهم يرقص ويتمرغ كما تتمرغ الدابة وهذا ليس من العبادة في شيء بل هو من تلاعب الشيطان بعقولهم ولما كان يظن بعض الجهال أن حال هؤلاء كحال أولئك ويغتر به من لا تمييز له بأحوال القوم أشرنا بعض الإشارة إلى ما ذكره شمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الدين ابن القيم –رحمه الله- بعد أن ذكر من أحوال المحبين وأنه قد يغيب أحدهم بحبوبه عن نفسه أو يتمكن من جميع أجزائه قلبه قال في أثناء كلام له: ثم يلطف شأنها بغيرها ويقهر سلطانها حتى يغيب المحب بمحبوبه عن نفسه فلا يشعر إلا بمحبوبه ولا يشعر بنفسه ومن ها هنا نشأت الشطحات الصوفية التي مصدرها عن قوة الوارد وضعف التمييز فحكم صاحبها فيها الحال وجعل الحكم له وعزل علمه عن التمييز وحكم المحققون فيها حاكم العلم على سلطان الحال وعلموا أن كل حال لا يكون العلم كما عليه فإنه لا ينبغي أن يعبر به ولا يسكن إليه كما لا يساكن المغلوب المقهور لما يرد عليه بما يعجز عن دفعه وهذه حال أكمل القوم الذين جمعوا بين نور العلم وأحوال المعاملة فلم تطفئ عواصف أحوالهم نور أعمالهم ولم يقصر به علمهم عن الترقي إلى ما وراءه من مقامات الإيمان والإحسان فهؤلاء حكام على الطائفتين ومن عذلهم فمحجوب بعلم لا نفوذ له فيه أو مغرور بحال لا علم له بصحيحه من فاسده، والله المسؤول من فضله إنه قريب مجيب، فالكامل من يحكم العلم على الحال فيتصرف في حاله بعلمه ويجعل العلم بمنزلة النور الذي يميز به الصحيح من الفاسد من لا من لا يقدح في العلم بالحال ويجعل الحال معياراً عليه وميزاناً فما وافق حاله من العلم قبله وما خالفه رده ونفاه فهذا أصل الضلال في هذا الباب بل الواجب تحكيم العلم والرجوع إلى حكمه وبهذا أوصى العارفون من شيوخ الطريق كلهم وحرضوا على العلم أعظم تحريض لعلمهم بما في الحال المجرد عنه من الغوائل والمهالك والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. انتهى. فتأمل ما ذكره ابن القيم –رحمه الله- وانظر إلى قوله: حتى يغيب المحب بمحبوبه عن نفسه فلا يشعر إلا بمحبوبه فكيف من يغيب بالرقص والتمرغ في الرمل عن محبوبه وانظر إلى قوله: فحكم صاحبها فيها الحال على العلم وجعل الحكم له له وعزل علمه عن التمييز وهذا بخلاف المحققين الكمل الذين يحكمون العلم على الحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فصل : إتخاذ القبور مساجد ثم ذكر الملحد كلاماً من جنس ما تقدم من المخرقة مما لا طائل تحته، ثم قال: تتبعت المظان من الكتب لأعرف أول قائل بهذه الضلالة وادع إليها فما وجدت لها أثراً عن أحد من علماء أهل السنة قبل الشيخ أحمد بن تيمية فتعقبت ما عرفت من مؤلفاته لأقف على نص صريح له فوجدته ذكر هذه المسألة في موضعين من كتابه "الجواب الصحيح" فالأول في صحيحة 121من الجزء الأول والثاني في صفحة 55 من الجزء الثاني، نقل في الأول حديث "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وحديث "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" وحديث "لا تجلسوا إلى القور ولا تصلوا إليها" ثم قال: إلى أمثال ذلك مما فيه تجريد التوحيد لله رب العالمين –ثم استطرد في تشبيه ما جاء في هذه الأحاديث بعبادة الشمس والقمر والأوثان والصور والسجود لها والاستشفاع لها وبأصحابها، إلى أن قال: وإن كان يذكر عن بعض الأنبياء تصوير صورة لمصلحة فإن هذا من الأمور التي تتنوع فيها الشرائع بخلاف السجود لها والاستشفاع بأصحابها فإن هذا لم يشرعه نبي من الأنبياء ولا أمر قط أحد من الأنبياء أن يدعى غير الله عز وجل لا عند قبره ولا في مغيبه ولا يستشفع به في مغيبه بعد موته بخلاف الاستشفاع بالنبي –صلى الله عليه وسلم- في حايته ويوم القيامة وبالتوسل به بدعائه والإيمان به فهذا من شرع الأنبياء –عليهم السلام-. انتهى. فانظر ما في هذا الكلام من التلاعب والتقلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 والقياس الفاسد والتهور الذي أدخله في زمرة محرفي كلام رسول الله عن مواضعه والأحاديث التي استدل بها وحرفها صريحة في النهي عن الجلوس على القبور كما يفعله أهل زماننا نساء ورجالاً والصلاة إليها كما يفعله الوثنيون ليس فيها نهي عن الزيارة ولا تشبيه من يزور قبر نبي أو غيره بعابد الشمس والقمر وغيرهما، وسيأتي حديث النهي عن الزيارة ثم إباحتها وأنه –عليه الصلاة والسلام- كان يزور أهل البقيع ويستغفر لهم، نعوذ بالله من الغلو المؤدي إلى خرق إجماع الأمة من عهد الرسول إلى اليوم وتشبيه كافة المسلمين بعباد الشمس والقمر والأوثان. ولا يغرنك ما رأيته من استثناء الرسول عليه الصلاة والسلام فانه حصر الاستثناء في حياته ويوم القيامة ومن هذا الحصر تفهم اعتقاده بتحريم زيارة القبر الشريف والتمويه بعدم إنكاره ما جاء في كلام الله وإنكار الأحاديث الواردة بحق الزيارة والتوسل والاستشفاع فهل بعد هذا الضلال ضلال والعياذ بالله. والجواب أن نقول: لولا قصر باعك وعدم اطلاعك لوجدت ما ذكره من الحق في الكتب المدونة مذكوراً وفي مظانه مسطراً مزبوراً ولكن لما انتكست قلوبكم وقصر عن معرفة الحق مطلوبكم عميت عن ذلك أبصار بصائركم وكشفت عن إدراك ذلك طباعكم، وإلا فقد ذكر ذلك شمس الدين ابن القيم –رحمه الله- في كتابه "إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان" ذكر الزيارة البدعية الشركية والزيارة الدينية الشرعية في صفحة 115 وذكر ذلك شيخ الإسلام في رده على ابن الأخنائي والإمام الحافظ محمد بن عبد الهادي في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" فأما ما ذكره الملحد عن شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في "الجواب الصحيح في الرد على عباد المسيح" في صفحة 121 إحدى وعشرين ومائة فلم يكن من هذا الباب ولم يتعرض للزيارة في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الخطاب وإنما ذكر في ذلك ما ابتدعته الأمم قبلنا فجرها ذلك الابتدع والغلو إلى الوقوع في الشرك بالله وعبادة الأوثان وذلك أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الأنبياء والصالحين فذكر –رحمه الله- أن الأمم قبلنا ممن كان يعبد الشمس والقمر والكواكب ويعبدون الانبياء والصالحين لما كان في زعمهم واعتقادهم أن تلك الأجرام الفلكية العلوية لها أرواح تدبر وتتصرف في الكائنات بطباعها وقواها وأن لها تأثير في ذلك تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور فبنوا لها الهياكل والبيوت وزخرفوها وصوروا فيها الصور وجعلو لها أستاراً وعكفوا عليها وجعلوا لها السدنة والخدام وذبحوا لها الذبائح وقربوا لها القرابين وعبدوها من دون الله وقد أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأمة تأخذ مآخذ الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في هذه الأمة من يفعل ذلك وثبت في الصحيحين أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"، وفي "ومن الناس أولئك؟ " وقد وقع ما أخبر به النبي –صلى الله عليه وسلم- من أن هذه الأمة ستفعل كما فعلت الأمم قبلها فكان من غلاة هذه الأمة من زعم أن الأنبياء والأولياء والصالحين أحياء في قبورهم وأن لأرواحهم قرباً ومنزلة ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيهم الألطاف من الله تعالى وتفيض على أرواحهم الخيرات فإذا علق الزائر روحه بهم وأدناها منهم فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له وغير ذلك فلذلك بنوا على قبورهم القباب وزخرفوها وجعلوا لها الستور والحجاب والسدنة المجاورين عندها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وعكفوا عند قبورهم وذبحوا لهم الذبائح وقربوا لهم القرابين ودعوهم والتجأوا إليهم واستغاثوا بهم في المهمات والملمات لكشف الكربات وإغاثة اللهفات وطلبوا منهم قضاء الحاجات إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي صرفها المشركون لغير فاطر الأرض والسماوات فهذا هو حقيقة ما ذكره شيخ الإسلام في "الجواب الصحيح في الرد على عباد المسيح" من المشابهة فإذا تحققت ذلك وعرفته فتذكر لك أنموذجاً من معتقد عباد القبور والصالحين وحقيقة ما هم عليه من الدين ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن، وإن كان الواقف ممن اختصه الله بالفضل والمن، لئلا يلتبس الأمر عليه بتسميتهم لكفرهم ومحالهم تشفعاً وتوسلاً ونذكر قبل ذلك ما ذكره شمس الدين ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" مما شابهت فيه زنادقة هذه الأمة من قبلها من عباد الكواكب والشمس والقمر وأنهم ساروا على آثارهم واقتفوا مناهجهم كما أخبر به الصادق المصدوق -عليه الصلاة والسلام-، قال -رحمه الله تعالى-: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فصل: نفي تمسك الخليل بعلم النجوم وأما ما ذكره عن إبراهيم خليل الرحمن أنه تمسك بعلم النجوم حين قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} فمن الكذب والافتراء على خليل الرحمن –صلى الله عليه وسلم- فإنه ليس في الآية أكثر من أنه نظر نظرة في النجو ثم قال لهم إني سقيم فمن ظن من هذا أن علم أحكام النجوم من علم الأنبياء وأنهم كانوا يراعونه ويعانونه فقد كذب على الأنبياء ونسبهم إلى ما لا يليق وهو من جنس من نسبهم إلى الكهانة والسحر وزعم أن تلقيهم الغيب من جنس تلقي غيرهم وإن كان فوقهم في ذلك لكمال نفوسهم وقوة استعدادها وقبولها لفيض العلويات عليها وهؤلاء لم يعرفوا الأنبياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ولا آمنوا بهم وإنما هم عندهم بمنزلة أصحاب الرياضات الذين خصوا بقوة الإدراك وزكاء النفوس وزكاة الأخلاق ونصبوا أنفسهم لإصلاح الناس وضبط أمورهم لا ريب أن هؤلاء أبعد الخلق عن الأنبياء وأتباعهم ومعرفتهم ومعرفة مرسلهم وما أرسلهم به هؤلاء في شأن آخر بل هم ضدهم في علومهم وعمالهم وهديهم وإرادتهم وطرائقهم ومعادهم وفي شأنهم كله ولهذا تجد أتباع هؤلاء ضد أتباع الرسل في العلوم والأعمال والهدي والإرادات ومتى بعث الله رسولاً يعاني التنجيم والنيرجات والظلمات والأوفاق والتدخين والنجورات ومعرفة القرانات والحكم على الكواكب بالسعود والنحوس والحرارة والبرودة والذكورة والأنوثة وهل هذه إلا صنائع المشركين وعلومهم وهل بعثت الرسل إلا بالإنكار على هؤلاء ومحقهم ومحق علومهم وأعمالهم من الأرض وهل للرسل أعداء بالذات إلا هؤلاء ومن سلك سبيلهم وهذا معلوم بالاضطرار لكل من آمن بالرسل –صلوات الله وسلامه عليهم- وصدقهم فيما جاءوا به وعرف مسمى رسول الله وعرف مرسله وهل كان لإبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- عدو مثل هؤلاء المنجمين الصائبين و "حران" كانت دار مملكتهم والخليل أعدى عدو لهم وهم المشركون حقاً والأصنام التي كانوا يعبدونها كانت صور وتماثيل للكواكب وكانوا يتخذون لها هياكل وهي بيوت العبادات لكل كوكب منها هيكل فيه أصنام تناسبه فكانت عبادتهم للاصنام وتعظيمهم لها تعظيماً منهم للكواكب التي وضعوا الأصنام عليها وعبادة لها وهذا أقوى السببين في الشرك الواقع في العالم وهو الشرك بالنجوم وتعظيماً واعتقاد أنها أحياء ناطقة ولها روحانيات تتنزل على عابديها ومخاطبيها فصوروا لها الصور الأرضية ثم جعلوا عبادتها وتعظيمها ذريعة إلى عبادة تلك الكواكب واستنزال روحانياتها وكانت الشياطين تتنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 عليهم وتخاطبهم وتكلمهم وتريهم من العجائب ما يدعوهم إلى بذلك نفوسهم وأولادهم وأموالهم لتلك الأصنام والتقرب إليها وكان مبدأ هذا الشرك تعظيم الكواكب وظن السعود والنحوص وحصول الخير والشر في العالم منها وهذا هو شرك خواص المشركين وأرباب النظر منهم وهو شرك قوم إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- والسبب الثاني عبادة القبور والإشراك بالأموات وهو شرك قوم نوح –عليه الصلاة والسلام- وهو أول شرك طرق العالم وفتنته أعم وأهل الابتلاء به أكثر وهم جمهور أهل الإشراك وكثيراً ما يجتمع السببان في حق المشرك يكون مقابرياً نجومياً قال تعالى عن قوم نوح {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} وقال البخاري في "صيحيحه" قال ابن عباس كان هؤلاء رجالاً صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا على مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت ولهذا لعن النبي –صلى الله عليه وسلم- الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ونهى عن الصلاة إلى القبور وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وقال: "لقد كان من قبلكم كانوا يتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" وأخبر أن هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة وهؤلاء هم أعداء نوح كما أن المشركين بالنجوم هم أعداء إبراهيم، فنوح عاداه المشركون بالنجوم والطائفتان صوروا الأصنام على صور معبوديهم ثم عبدوها وإنما بعثت الرسل بمحق الشرك من الأرض ومحق أهله وقطع أسبابه وهدم بيوته ومحاربة أهله فكيف يظن بإمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 كان يتعاطى علم النجوم ويأخذ منه أحكام الحوادث سبحانك هذا بهتان عظيم وإنما كانت النظرة التي نظرها في علوم النجوم من معاريض الأفعال كما كان قوله {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وقوله {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله عن امرأته "سارة" هذه أختي من معاريض المقال ليتوصل بها إلى غرضه من كسر الأصنام كما توصل بتعريضه بقوله "هذه أختي" إلى خلاصها من يد الفاجر ولما غلظ فهم هذا عن كثير من الناس وكشفت طباعهم عن إدراكه ظنوا أن النظرة في النجوم ليستنبط منها علم الأحكام وعلم أن نجمه وطالعه يقضي عليه بالسقم وحاشا لله أن يظن ذلك بخليله –صلى الله عليه وسلم- أو بأحد من أتباعه وهذا من جنس معارض يوسف الصديق –صلى الله عليه وسلم- حين تفتيش أوعية أخيه عن الصاع فإن المفتش بدأ بأوعيتهم مع علمه أنه ليس فيها وأخر وعاء أخيه مع علمه أنه فيها تعريضاً بأنه لا يعرف فيها أي وعاء وهي ونفياً للتهمة عنه بأنه لو كان عالماً في أي أوعية هي لبادر إليها ولم يكلف نفسه تعب التفتيش لغيرها فلهذا نظر الخليل –صلى الله عليه وسلم- في النجوم نظر تورية وتعريض محض ينفي به عنه تهمة قومه ويتوصل به إلى كيد أصنامهم. انتهى. فهذا ما ذكره شمس الدين ابن القيم –رحمه الله تعالى- في مشابهة زنادقة هذه الأمة لمن قبلها من الأمم من عبادة الأجرام العلوية واعتقاد التأثيرات منها في العلوم السفلية، وأما ما ذكره في الزيارات من الاعتقادات التي ضاهوا بها اليهودية والنصرانية فنذكر شيئاً يسيراً منه قال ابن القيم –رحمه الله تعالى- في "إغاثة اللهفان" فمن مفاسد اتخاذها أعياداً للصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترباتها وعبادة أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً وقد نزلوا عن الأكوار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج ورأوا أنهم أربوا في الربح على الحجيج فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد ونادوا ولكن من مكان بعيد حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسراناً لغير الله بل للشيطان ما يرق ههلك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وأغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولي العاهات والبليات ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد بيت الله الحرام ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود الذي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق وقربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير لله رب العالمين فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضهم ويقول أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثوب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام فيقول لا ولو بحجك كل عام؟ وهذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم إذ هي فوق ما يخطر بالبال ويدور في الخيال وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم وكل من شم أدنى رائحة العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه وأن الهدي والخير في اتباعه وطاعته والشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 والضلال في معصيته ومخالفته، ثم ذكر –رحمه الله- كلاماً طويلاً، وأما ما ذكر الملحد من المخرقة وصريح الإفك والزندقة بقوله فانظر ما في هذا الكلام من التلاعب والتقلب والقياس الفاسد والتهور الذي أدخله في زمرة محرفي كلام رسول الله عن مواضعه، فنقول معاذ الله وحاشا لله أن يكون في كلامه تلاعب وتقلب وقياس فاسد أو تهور بل هو كلام إمام عالم بالله ورسوله ودينه وشرعه وإنما التهور والكلام الباطل والتلاعب بدين الله ورسوله والقياس الفاسد منكم بدأ وإليكم يعود لأنكم أهله ومقره ومحله ومستقره ويل لك من خانع‍ ما أقل عنايتك ودرايتك وما كشف طبعك وما أشد غباوتك‍ أي تلاعب في كلامه وجوابه وأي تهور وتقلب في خطابه وأي قياس فاسد أورده ليس بصحيح وأي كلام ذكره في كتابه غير صريح؟ ذلك في قوله –صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، وقوله –صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"، وقوله –صلى الله عليه وسلم-: "لا تجلسوا على القبور ولاتصلوا إليها" فأي تحريف في هذا وأي تلاعب؟ {هَاتُوْا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتْبِعُونَ إِلَّا الْظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} ، أما ثبت في الصحيحن أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " أما وقع مصداق ما أخبر به –صلى الله عليه وسلم- فبنوا تلك القباب على القبور وجعلوا لها السدنة وقربوا لها القرابين وأوقدوا فيها السرج وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وفعل فيها وعندنا من الأمور الشركية التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 تقدم بيانها آنفاً ولم تعرف من ذلك إلا التصريح بالنهي عن الجلوس على القبور والصلاة إليها وهو من الوسائل والذرائع المفضية إلى محظورات الشرائع وبأبعد ما بينهما فإن هذه وسائل وتلك غايات. وأما زعمه أنه ليس فيها نهي عن الزيارة ولا تشبيه من يزور قبر نبي أو غيره بعابد الشمس والقمر وغيرهما. فأقول: بل هذا من سوء فهمك وقصور علمك أليست العلة المحذورة المشبه بها من عباد الكواكب والشمس والقمر وهي اعتقادهم أن أرواح تلك الأفلاك العلوية إذا تعلقت بها النفس الناطقة تفيض عليه الأنوار فلما اعتقدوا ذلك ورجوه منها واعتقدوا فيها بنوا لها الهياكل والبيوت وصوروا فيها تلك الصور وجعلوا لها السدنة والحجاب وقربوا له القرابين وكذلك اليهود والنصارى لما اعتقدوا ما اعتقدوه في أنبيائهم وغلوا فيهم وصرفوا لهم من حق الله ما صرفوه اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصوروا فيها تلك الصور وجعلوا لها السدنة والحجاب وقربوا الهم القرابين والنذور، فلما علم نبينا –صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأمة تأخذ مآخذ الأمم قبلها نهى عن ذلك وهذه العلة المذكورة موجودة في هذه الأمة من عباد قبور الأنبياء والصالحين حتى بنوا عليها القباب وجعلوا عندها سدنة وقصدها المجاورون وأقدوا عندها السرج وعكفوا عندها واعتقدوا أن لأرواح الأنبياء والأولياء والصالحين تصرفات في الحياة وبعد الممات استغاثوا بهم في الشدائد والبليات واعتقدوا أن بهممهم تكشف المهمات فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات مستدلين أن ذلك منهم كرامات وقد نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- أمته أن تفعل كما فعلت اليهود والنصارى وحذرهم من ذلك غاية التحذير فجاء ورثة الأنبياء والرسل الذين هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى فنهوها ما نهى عنه نبيهم –صلى الله عليه وسلم- وجردوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 التوحيد لله رب العالين فزعم هؤلاء الزنادقة أن هذا تلاعب بالدين وأن ذلك تهور وقياس فاسد فبعداً للقوم الظالمين. فصل قال الملحد: وأما كلامه الثاني فإنه بعد ما نقل آيات نزلت في حق المشركين، قال: وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} فالمسيح –صلوات الله عليه ومن قبله من الرسل- إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وبالتوراة من ذلك ما يعظم وصفه لم يأمر أحد من الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كوكب ولا وثن ولا تسأل الشفاعة إلا من الله لا ميت ولا غائب لا نبي ولا ملك، فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعوا الملائكة ويقولوا اشفعوا لنا إلى الله. انتهى فانظر ما في هذا الكلام من الخلط والضلال "أولاً" قياسه التوسل والاستشفاع والتوسل بهذا على عبادة النصارى والوثنيين للصور والأوثان. "ثانياً" جعل الاستشفاع والتوسل بهذا القياس من المكفرات. "ثالثاً" استثناء الأحياء والحاضرين وحصر الحريم بالأموات والغائبين وإدخال الملائكة مع الأموات والغائبين مع أن الملائكة ليسوا أمواتاً ولا غائبين والتوسل والاستشفاع بالحي أقرب لمظنة الشرك من الميت وجميع الفرق المشركة ما قالوا بألوهية حدثت لميت بعد موته بل كلهم قالوا بألوهية وكلهم ينكرون موت آلهتهم، وسيأتي في البحث الثالث إن شاء من كلام الله تعالى وكلام رسوله ما يثبت به ضلال هذا المضل ويدحض افتراءه على الله وأنبيائه، فلعمر الحق أن كلام هذا الرجل إن لم يكن عن فسق وزيغ فهو أجدر بالجنون واختلال العقل إلى آخر كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 والجواب: أن يقال لهذا الملحد نظرنا في كلامه فوجدنا على أقوم منهج وطريق وقد سلك فيه مسلك أحق والتحقيق ووجدنا كلامك واعتراضك هو الخبط والهمط والتخليط الواضح المشتمل على أنواع من الإفراط والتفريط فقصر بك الجهل والغباوة المفرطة عن غدراك حقائق العلوم النافعة الدينية وانحسرت بك في مهامه الغي والضلال فلم تلحق بأهل الملة الحنيفية وتجارى بكل الغلو والإفراط حتى أوغلت في الشر والاختلاط فكان ما أنت بصدده هو الخلط والضلال لاهل الإيمان بالله ورسوله من ذوي الفضل والكمال. فأما قوله: "أولاً قياس التوسل والاستشفاع على عبادة النصارى والوثنيين للصور والأوثان" فأقول نعم ن قياس التوسل والاستشفاع على عبادة النصارى والوثنيين للصور والأوثان هو القياس الصحيح الموافق للنص الصريح قال الله تعالى: {وَيَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَيَنْفَعُنَا وَيَقُولُونَ هُؤلَاءِ شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللهِ} الآية وقد بينا فيما تقدم أن التوسل على عرف عباد القبور اليوم هو دعاء الأنبياء والأولياء والتشفع بهم في قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وبينا أن هذا هو محض حق الله وأن من صرفه لغير الله كان مشركاً كما ذكر ذلك أهل العلم وإذا كان المشركون الأولون إنما عبدوا من عبدوه من دون الله بصرف هذه العبادة لغير الله وسموه تشفعاً وتقرباً إلى الله فكفرهم الله بذلك ولم تنفعهم ذلك تشفعاً وتقرباً مع وجود الحقيقة فإن الحقائق لا تتغير بتغيير أسمائها، وقد ذكر أهل العلم أشياء من دين النصارى كقول بعضهم: يا والدة المسح اشفعي لنا إلى الإله أو يا عيسى أعطني كذا وافعل بي كذا فإذا كان هو حقيقة الشرك بالله الذي كفر الله به النصارى وكان من غلاة هذه الأمة من يقول كما تقول النصارى وكما يقوله المشركون الأولون كمن يقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 يا علي، أو يا حسين، أو يا عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو يا أحمد البدوي، أو فلان وفلان أعطني كذا وأجرني من كذا وأنا في حسبك أو نحو ذلك من الألفاظ الشركية التي تتضمن العدل بالله والتسوية به تعالى وتقدس فهذا لا تأتي شريعة ولا رسالة بإباحته فقط بل هو من شعب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار ومقت العزيز الغفار، فكان من قياس شيخ الإسلام ما فعله غلاه الأمة على ما فعلته النصارى والمشركون الأولون من أصح القياس المطابق له في اللفظ والمعنى فلا عيب عليه ولا لوم يتوجه إليه، وأما قوله: ثانياً جعل الاستشفاع والتوسل بهذا القياس من المكفرات فأقول: نعم وجوابه ما تقدم وتأويل الجاهلين والميل إلى شبه المبطلين هو الذي أوقع هؤلاء وأسلافهم الماضين من أهل الكتاب والأميين في الشرك بالله ورب العالمين فبعضهم يستدل على شركه بالمعجزات والكرامات وبعضهم برؤيا المنامات وبعضهم بالقياس على السوالف والعادات وبعضهم بقول من يحسن به الظن وكل هذه الأشياء ليست من الشرع في شيء وعند رهبان النصارى وعباد الصليب والكواكب من هذا الضرب شيء كثير وما أشبه الليلة بالبارحة فإنا لله وإنا له راجعون {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . وأما قوله: ثالثاً استثناء الأحياء والحاضرين وحصر التحريم بالأموات والغائبين والتوسل والاستشفاع بالحي أقرب لمظنة الشرك من الميت وجميع الفرق المشركة ما قالوا بألوهية حدثت لميت بعد موته بل كلهم قالوا بألوهية أحياء وكلهم ينكرون موت آلهتهم. فالجواب أن نقول: أما استثناؤه الأحياء والحاضرين وحصره التحريم بالأموات والغائبين فلقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} فإن الطلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 والاستشفاع من الحي الحاضر القادر على ما يقدر عليه من الأمور الظاهرة العادية التي أجرى الله على أيدي العباد أن ينفع بها بعضهم بعضا جائز لا نزاع فيه بين العلماء وأما الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله وليست في مقدور البشر فلا يجوز أن تطلب إلا من الله ومن طلبها من الأموات والغائبين والأحياء فقد أشركهم بالله فيما لا يقدر على فعله إلا الله وهذا هو الشرك بإجماع العلماء وأما حصره التحريم بالأموات والغائبين فإن الميت قد انقطع عمله بنص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال "إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث. فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة أو نقصان فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة {قُلْ أََأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} هذا ملخص ما ذكره الإمام صنع الله الحلبي الحنفي، وأما الملائكة فلا يقول عاقل أنهم حاضرون وإن كانوا أحياء فهم في حكم الغائبين إلا ما كان من الملائكة الموكلين ببني آدم جائز. وأما قوله: والتوسل والاستشفاع بالحي أقرب لمظنة الشرك من الميت فقد تقدم الجواب عنه قريباً، وأما وأما قوله: وجميع الفرق المشركة ما قالوا بألوهية حدثت لميت بعد موته بل كلهم قالوا بألوهية أحياء وكلهم ينكرون موت آلهتهم. فالجواب أن نقول: من جعل في مخلوق نوعاً من الإلهية مثل أن يقول يا سيد فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو أنا في حسبك ونحو ذلك كان مشركاًَ سواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 كان ذلك المدعو حياً أو ميتاً فقد اتخذه إله وهؤلاء النصارى عليهم لعائن الله يعبدون عيسى بن مريم ويتخذونه إله مع الله وهو حي قد رفعه الله إليه والمشركون الأولون كانوا يعبدون وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً وهم أموات ولا يعتقدون أن الإلهية حدثت لهم بعد موتهم ولكن كانوا يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله وأن يقربوهم إليه زلفى وكذلك النماردة والفراعنة الأولى كان قومهم يعبدونهم وهم أحياء ويدعون فيهم الإلهية بل الربوبية والسبئية قد ادعوا الإلهية في علي بن أبي طالب فاستتابهم ثلاثاً فلما لم يتوبوا ولم يرجعوا خدّ لهم الأخاديد عند باب كندة فقذفهم فيها وقال: لما رأيت الأمر أمراً منكراً ... أججت ناري ودعوت قنبرا فالمشركون كانوا يعبدون آلهتهم أحياء وأمواتاً فلا أدري ما هذه المخرقة التي يمخرق بها هذا الضال المضل. فصل ثم قال الملحد: وسيأتي في البحث الثالث إن شاء الله تعالى من كلام الله تعالى وكلام رسوله ما يثبت به ضلال هذا المضل ويدحض افتراء على الله وأنبيائه فلعمر الحق إن كلام هذا الرجل إن لم يكن عن فسق وزيغ فهو أجدر بالجنون واختلال العقل إلى ما آخر ما هذي به. والجواب أن نقول: وسيأتي الكلام على كلامه إن شاء الله تعالى بما يدحض ضلاله ويبين سفاهته وجهالته، وأما تسمية شيخ الإسلام والضال المضل فأين هذا من قوله لما ذكر كلام شيخ الإسلام في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" قال فانظر رحمك الله إذا كان حال الخلفاء الراشدين وأجلاء الصحابة –رضي الله عنهم- على ما سمعت وشهادة عن عشر شهادات من إمام جليل مقتدى به عند السادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الحنابلة عموماً ولوهابيين وأتباعهم وخصوصاً لما كان موافقاً لهواه مع أن الذي ذكره شيخ الإسلام في حق الأئمة الأعلام هو الحق الذي ندين الله به وذكر في هذا البحث لما كان مخالفاً لما يهواه وقد كان هو الحق والصواب الموافق لنصوص السنة والكتاب أنه هو الضال المضل المفتري على الله والصواب الموافق لنصوص السنة والكتاب أنه هو الضال المضل المفتري على الله وعلى أنبيائه وأن كلامه إن لم يكن عن فسق وزيغ فهو أجدر بالجنون واختلال العقل فإن لم يكن هذا من التلفيق الذي شنع على من سلكه ورمى به أهل التحقيق فليس على وجه الأرض تلفيق وفعلى وجهه التباب والعفا {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} ثم ذكر كلاماً بعد هذا في ذكر من رد على شيخ الإسلام ومن رد على الوهابية ولا فائدة في الجواب ولا عن ما ذكره بعده من المخرقة إذ لو تتبعنا جميع زلاتهن وهفواته ورعونات جهله وضلالاته لخروج بنا عما قصده من الاختصار، ويسأله عن ذلك {يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الْظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الَّلعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الَّدارُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الاحاديث الموضوعة في زيارة قفبر النبي صلى الله عليه وسلم ... فصل: الاحاديث الموضوعة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال الملحد: قال الأستاذ الفاضل يوسف النبهاني في كتابه "الفضائل المحمدية" ما نصه: ألف العلماء في زيارة الرسول –عليه الصلاة والسلام- كتباً مستقلة منهم الإمام السبكي وابن حجر فمن الأحاديث التي نقلاها وبسط السبكي الكلام عليها الأول قوله –صلى الله عليه وسلم-: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" الثاني قوله "من جاءني زائرا لا يعلمه حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة " الثالث قوله "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي " الرابع قوله " من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني" الخامس قوله "من زار قبري كنت له شهيدا، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 القيامة" السادس قوله "من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة" السابع قوله "ما من أحد من أمتي له سعة لم يزرني فليس له عذر" انتهى. والجواب أن نقول: قد ذكر الإمام الحافظ محمد بن عبد الهادي المقدسي في كتابه "الصارم المنكي" الجواب عن هذه الأحاديث فنذكر من ذلك نزراً يسيراً تقوم به الحجة فقال: هذا الحديث الذي ابتدأ المعترض بذكره حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن ضعيف الإسناد عندهم لا يقوم بمثله حجة ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم، وقد بين أئمة هذا العلم والراسخون فيه والمعتمد على كلامهم والمرجوع إلى أقوالهم ضعف هذا الخبر ونكارته كما سنذكر بعض ما بلغنا عنهم في ذلك إن شاء الله تعالى، وجميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب، وزعم أنها بضعة عشر حديثاً ليس فيها حديث صحيح بل كلها ضعيفة واهية، وقد بلغ الضعف إلى أن حكم عليها الأئمة الحفاظ بالوضع كما أشار إليه شيخ الإسلام، ولو فرض أن هذا الحديث المذكور صحيح ثابت لم يكن فيه دليل على مقصود هذا المعترض ولا حجة على مراده كما سيأتي بيانه يصلح الاحتجاج بمثله ولم يصححه أحد من الحفاظ المشهورين ولا اعتمد عليه أحد من الأئمة المحققين، ثم ذكر –رحمه الله- من روى هذا الحديث من العلماء الذين يذكرون في كتبهم الحديث الصحيح والحسن والضعيف بل والموضوع ويبينون في كتبهم صحته أو ضعفه أو نكارته وغير ذلك مثل الدارقطني وأبي جعفر العقيلي وأبي أحمد بن عدي، ومثله البيهقي وكل هؤلاء الأئمة الحفاظ ذكر أنهم قد بينوا ضعف هذا الحديث ونكارته وأنه لا يحتج به فبطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الاستدلال به والاعتماد عليه ولا نطيل بذكر ما ذكر على هذا الحديث من كلام العلماء وبيان ما فيه لأجل الاختصار ومن أراد الوقوف على ذلك، وعلى ما يأتي من كلامه على هذه الأحاديث فليراجعه في محله وبالله التوفيق. ثم قال الملحد الحديث الثاني قوله: من جاءني زائراً لا يعلمه حاجة إلا زيارتي كان حقاً على أن أكون له شقياً يوم القيامة. والجواب أن نقول: قال الحافظ محمد بن عبد الهادي: قلت: هذا الحديث ليس فيه ذكر زيارة القبر ولا ذكر الزيارة بعد الموت مع أنه حديث ضعيف الإسناد منكر المتن لا يصلح الاحتجاج به ولا يجوز الاعتماد على مثله ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا رواه الإمام أحمد في مسنده ولا أحد من الأئمة المعتمد على ما أطلقوه في روايتهم ولا صححه إمام يعتمد على تصحيحه، وقد تفرد به هذا الشيخ الذي لم يعرف بنقل العلم ولم يشتهر بحمله، ولم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبره، وهو مسلمة بن سالم الجهني الذي لم يشتهر إلا برواية هذا الحديث المنكر، وحديث آخر موضوع ذكره الطبراني بالإسناد المتقدم ومتنه. "الحجامة في الرأس أمان من الجنون والجذام والبرص والنعاس والضرس"،قال: تفرد مثل هذا الشيخ المجهول الحال القليل الرواية بمثل هذين الحديثين المنكرين عن عبيد الله بن عمر أثبت آل عمر بن الخطاب في زمانه، وأحفظهم عن نافع عن سالم: عن أبيه عبد الله بن عمر من بين سائر أصحاب عبيد الله الثقات المشهورين والأثبات المتقنين علم أنه شيخ لا يحل الاحتجاج بخبره ولا يجوز الاعتماد على رواية ثم ذكر كلاماً طويلاً. ثم قال الملحد: الحديث الثالث قوله: "من حج فزار قبري بعد وفاتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فكأنما زارني في حياتي". والجواب أن نقول: قال الحافظ: واعلم أن هذا الحديث، لا يجوز الاحتجاج به ولا يصلح الاعتماد على مثله، فإنه حديث منكر المتن ساقط الإسناد، لم يصححه أحد من الحفاظ، ولا احتج به أحد من الأئمة بل ضعفوه وطعنوا فيه، وذكر بعضهم أنه من الأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة ولا ريب في كذب هذه الزيادة فيه، وأما الحديث بدونها فهو منكر جداً ورواية حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي الكوفي البزار القاري الغازي، وهو صاحب عاصم بن أبي النجود في القراءة وابن امرأته، وكان مشهوراً بمعرفة القراءة ونقلها، وأما الحديث فإنه لم يكن من أهله، ولا ممن يعتمد عليه في نقله، ولهذا جرحه الأئمة وضعفوه وتركوه واتهمه بعضهم، قال عثمان بن سعيد الدارمي وغيره عن يحيى بن معين ليس بثقة، وذكر العقيلي عن يحيى أنه سئل عنه فقال: ليس بشيء، وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: حفص بن سليمان القاري متروك الحديث، وقال البخاري: تركوه. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: قد فرغ منه من دهر. وقال مسلم بن الحجاج متروك، وقال علي بن المديني: ضعيف وتركته على عمد، وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه، وقال مرة متروك الحديث، ثم ذكر كلام الحفاظ فيه وأطال الكلام، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى. قال الملحد: الحديث الرابع: قوله: "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني" قال الإمام الحافظ: واعلم أن هذا الحديث المذكور حديث منكر جداً لا أصل له بل هو من المكذوبات والموضوعات، وهو كذب موضوع على مالك مختلق عليه، ولم يحدث به قط، ولم يروه إلا من جمع الغرائب والمناكير والموضوعات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ولقد أصاب الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في ذكره في الموضوعات، والحمل في هذا الحديث على محمد بن محمد ابن النعمان لا على جده كما ذكره الدارقطني في الحواشي على كتاب "المجروحين لأبي حاتم بن حبان البستي، ثم ذكر كلاماً إلى أن قال: ولقد صدق الحافظ في هذا القول فإن النعمان ابن شبل إنما يعرف برواية هذا الحديث عن محمد بن الفضل بن عطية المشهور بالكذب ووضع الحديث عن جابر الجعفي عن محمد بن علي عن علي بن أبي طالب هكذا رواه الحافظ أبو عمرو بن خرزاد عن النعمان بن شبل كما تقدم ذكره هذا الحديث الموضوع لا يليق أن يكون إسناده إلا مثل هذا الإسناد الساقط ولم يروه عن النعمان بن شبل عن مالك عن نافع عن ابن عمر إلا ابن ابنه محمد بن محمد ابن النعما، وقد هتك محمد في رواية هذا الحديث شره وأبدى عن غورته وافتضح بروايته حيث جعله عن مالك عن نافع عن ابن عمر، ومن المعلوم عند من أدنى له علم ومعرفة بالحديث أن تفرد مثل محمد بن محمد بن النعمان بن شبل المتهم بالكذب والوضع عن جده النعمان بن شبل الذي لم يعرف بعدالة ولا ضبط ولم يوثقه إمام يعتمد عليه، بل اتهمه موسى بن هارون الحمال أحد الأئمة الحفاظ المرجوع إلى كلامهم في الجرح والتعديل الذي قال فيه عبد الغني بن سعيد المصري الحافظ: هو أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في وقته عن مالك عن نافع عن ابن عمر بمثل هذا الخبر المنكر الموضوع من أبين الأدلة وأوضح البراهين على فضيحته وكشف عورته، وضعف ما تفرد به وكذبه ورده، وعدم قبوله، ونسخة مالك عن نافع عن ابن عمر محفوظة معروفة ومضبوطة، رواها عنه أصسحابه رواة الموطأ وغير رواة الموطأ، وليس هذا الحديث منها بل لم يروه مالك قط ولا طرق سمعه، ولو كان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 حديثه لبادر إلى روايته عند بعض أصحابه الثقات المشهورون بل لو تفرد بروايته عنه ثقة معروف من بين سائر أصحابه لأنكره الحفاظ عليه ولعدوه من الأحاديث المنكرة الشاذة فكيف وهو حديث لم يروه عنه ثقة قط ولم يخبر به عنه عدل. انتهى المقصود منه. ثم قال الملحد: الحديث الخامس قوله: "من زار قبري كنت له شهيداً ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم القيامة". والجواب أن يقال: ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم فيه، قال وهو حديث واحد ساقط الإسناد لا يجوز الاحتجاج به ولا يصلح الاعتماد على مثله كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى، وقد خرجه البيهقي في شعب الإيمان وفي كتاب السنن الكبير، وقال في كتاب "السنن" بعد تخريجه هذا إسناد مجهول. قلت: وقد خالف أبا داود وغيره في إسناده لفظه وسوار بن ميمون شيخه يقبله بعض الرواة، ويقول ميمون بن سوار وهو شيخ مجهول لا يعرف بعدالة ولا ضبط ولم يشتهر بحمل العلم ونقله، وأما شيخ سوار في هذه لرواية أبي داود فإنه شيخ مبهم وهو أسوأ حالاً من المجهول، وبعض الرواة يقول فيه عن رجل من آل عمر كما في هذه الرواية، وبعضهم يقول عن رجل من ولد حاطب، وبعضهم يقول عن رجل من آل الخطاب، ثم ذكر الحافظ كلاماً طويلاً في سوار بن ميمون فاقتصرنا على ما سبق، والله أعلم. قال الملحد: الحديث السادس بعينه هو الحديث الخامس، وهو عند الحافظ الحديث السابع، وهو السابع فجعل المعترض له حديثين بل ثلاثة أحاديث وهو حديث واحد ضعيف مضطرب مجهول الإسناد من أوهى المراسيل وأضعفها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وهو من باب التمويل والتكثير بما لا يحتج به وما كفاه هذا حتى أخذ يقويه ويناقش من رده وتكلم فيه وقد علم أن ضعفه حصل بأمور متعددة وأشياء مختلفة وهي الاضطراب والاختلاف والجهالة والإرسال والانقطاع وبعض هذه الأمور تكفي في ضعف الحديث ورده وعدم الاحتجاج به عند أئمة هذا الشأن فكيف باجتماعها في خبر واحد إلى آخر ما ذكره الحافظ والحديث المذكور من رواية سوار بن ميمون. قال الملحد: الحديث السابع "قوله" "ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر". انتهى. والجواب أن نقول: قد ذكر الحافظ محمد بن عبد الهادي أن هذا هو الحديث الثاني عشر من كتاب السبكي قال الحافظ هكذا ذكر المعترض هذا الحديث وخرس بعد ذكره فلم ينطق بكلمة وهو حديث موضوع مكذوب مختلق مصنوع من النسخة الموضوعة المكذوبة المصلقة بسمعان المهدي –قبح الله واضعها! وإسناده إلى سمعان ظلمات بعضها فوق بعض، وأما سمعان فهو من الحيوانات التي لا تدري هل أو جد أم لم وهذا المعترض إن كان لا يدري هذا الحديث من أقبح الموضوع فهو من أجهل الناس وإن كان إنه موضوع ثم يذكره في معرض الاحتجاج يتكثر به ولا يبين حاله فهو داخل في قوله –صلى الله عليه وسلم- "من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" فهو إما جاهل مفرط في الجهل أو معاند صاحب هوى متبع لهواه نعوذ بالله من الخذلان. انتهى ما ذكره الحافظ مختصراً، ومن كان لله عناية علم أن هذه الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هي غاية ما يعتمدون عليه وهي مستندهم وقدر رأيت ما ذكره الحفاظ أئمة هذا الشأن فيها ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 نذكر من ذلك إلا عشر معشار ما ذكره الحافظ طلباً للاختصار، وإذا بطل الأصل الذي يعتمدون عليه بطل الفرع الذي يتفرع عليه من الأقوال المخترعة والمذاهب المبتدعة ثم ذكر هذا الملحد بعد هذا كلاماً لبعض العلماء الذي لا يعتمد على أقوالهم ولا يعول عليها في فروع الدين فكيف بأصوله؟! فلا نطيل بردها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 دحض فرية القول باجماع المسلمين على جواز شد الرحال للقبور ... فصل: دحض فرية القول باجماع المسلمين عبى جواز شد الرحال القبور ثم قال الملحد: وجماع القول في هذه المسألة التي وقع إجماع المسلمين من أهل السنة والشيعة على فضلها ووجوبها هي من جملة الأمور التي خرق الوهابيون وإخوانهم الإجماع بحظرها وإنكارها ومرقوا بهذا الخرق من الإجماع وخلعوا ربقة الإسلام من عنقهم والعياذ بالله تعالى. والجواب أن نقول: دعوى إجماع المسلمين من أهل السنة بدع الشيعة فإنهم إخوانهم ولم تتصل هذه البدع والشرك بالله إليه وإلى حزبه منالمشركين إلا من جهتهم دعوى مجردة عن الدليل فإنه لم يجمع العلماء على جواز شد الرجال إلى قبره عليه الصلاة ولا إلى قبور الأنبياء والأولياء والصالحين ومشاهدهم بقصد السلام ولا ابتغاء الفضيلة بدعاء الله عندها من غير أن يدعوهم ويتشفعوا بهم ويطلبوا منهم قضاء الحاجات وإغاثة اللهفات فضلاً عن أن يجمعوا على شد الرحال إليها لقصد دعاء أربابها والشرك بهم والطواف بقبورهم وتقريب القرابين والنذور لها فإن هذا مجمع على المنع منه وعلى أنه بهذا القصد شرك بالله ومخالفة لما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة المهتدون فخرق إجماع من هذا دينه وهذه نحلته هو الحق الذي ندين الله به وعليه أئمة أهل السنة المحققون ودعوى هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الملحد إجماع المسلمين من أهل السنة والجماعة على استحباب شد الرحال بزيارة قبور الأنبياء والصالحين دعوى باطلة فإن العلماء لم يجمعوا على هذه الدعوى الخاطئة وإذا كان كذلك فنذكر من كلام أئمة الإسلام خصوصاً أئمة المالكية الذي ينسب هذا الملحد إليهم ويزعم أنه يعتمد على أقوالهم قال الشيخ تقي الدين في "الجواب الباهر" قال في "المدونة" ومن قال لله علي أن آتي المدينة أو بيت المقدس أو المشي إلى المدينة أو بيت المقدس فلا يأتيها أصلاً إلا أن ينوي الصلاة في مسجديهما أو يسميهما فيقول إلى مسجد الرسول إلى مسجد إيليا وإن لم ينو الصلاة فليأتهما راكباً ولا هدي وكأنه لما سماها قال لله علي أن أصلي فيهما ولو نذر الصلاة في غيرهما من مساجد الأمصار صلى في موضعه ولم يأته فقد تبين أنه نوى الصلاة في المسجدين وفى بنذره وكذلك إن سمى المسجد إنما يؤتى للصلاة وأما إذا نذر إتيان نفس البلد فليس عليه أن يأتيه وهذا متناول إتيانه لزيارة قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- وقبور الشهداء وأهل البقيع وإتيان مسجد قباء كما يتناول النهي عن السفر إلى بيت المقدس لزيارة القبور والآثار التي هناك من آثار الإتيان وإتيان المسجد لغير الصلاة كالتمسح بالصخرة وتقبيلها أو إتيانه للوقوف عشية عرفة والطواف بالصخرة أو لغير ذلك مما يظنه بعض الناس عبادة وليس بعبادة، ومما هو عبادة للقريب ولا يسافر لأجله كزيارة قبور المسلمين والدعاء لهم والاستغفار فإن هذا مستحب لمن خرج إلى المقبرة من البلد ولمن اجتاز به ولا يشرع السفر لذلك فمالك وغيره نهواه عن السفر إلى المدينة أو إلى بيت المقدس لغير العبادة المشروعة في المسجدين سواء كان المسافر يسافر لأمر غير مشروع بحال أو لما هو مشروع للقريب ولا يشرع السفر لأجله وكذلك مذهب مالك أنه لا يسافر إلى المدينة لشيء من ذلك بل هذا السفر منهي عنه والسفر المنهي عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 عنده لا تقصر فيه الصلاة لكن بعض أصحابه وهو محمد بن مسلمة استثنى مسجد قباء وابن عبد البر جعل السفر مباحاً إلى غير الثلاثة مساجد ولا يلزم بالنذر لأنه كما يقول بعض أصحاب الشافعي وأحمد وأما جمهور أصحاب مالك فعلى قوله أن السفر لغير المساجد الثلاثة محرم لا يجوز أن يفعل ولو نذر، فلا يستحب عند أحد منهم، وقال القاضي عياض: لا يباح السفر لغير المساجد الثلاثة لا الناذر ولا المتطوع، وقال أبو الوليد الباجي قبله في السفر إلى مسجد قباء أنه منهي عنه، قال القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي في "الفروق" فرق بين مسألتين يلزم نذر المشي إلى البيت الحرام ولا يلزم ذلك إلى المدينة ولا المقدس، والكل مواضع يتقرب بإتيانها إلى الله قال: والفرق بينهما أن المشي إلى بيت الله طاعة تلزمهوالمدينة وبيت المقدس الطاعة الصلاة في مسجديهما فقط فلا يلزم نذر المشي لأنه لا طاعة فيه ألا ترى أن من نذر الصلاة في مسجديهما فقط فلم يلزم نذر ولو نذر أن يأتي المسجد لغير صلاة لم يلزمه أن يأتي فقد صرح بأن المدينة وبيت المقدس لا طاعة في المشي إليهما إنما الطاعة في مسجديهما فقط، وأنه لو نذر أن يأتي المسجد لغير صلاة لم يلزمه ذلك بناءً على أنه ليس بطاعة فتبين أن من أتى مسجد الرسول لغير الصلاة أنه ليس بطاعة ولا يلزم بالنذر، فتبين أن السفر غليه وإتيانه لأجل القبر ليس بطاعة كما ذكر ذلك مالك وسائر أصحابه، ولا يرد على هذا الاعتكاف فإن المعتكف عنده لابد أن يصلي، وكذلك من دخله لتعلم العلم أو تعليمه، فإنه يصلي فيه أولاً والمقصود أن هذه المسألة مذكورة في المختصرات ذكرها أبو القاسم بن الجلاب في التصريع قال: ومن قال عليّ المشي إلى المدينة وبيت المقدس فإن أراد الصلاة في مسجديهما لزمه إتيانهما راكباً، والصلاة فيهما، وإن لم ينو ذلك فلا شيء عليه، ولو قال لله علي المشي إلى مسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 المدينة أو مسجد بيت المقدس لزمه إتيانهما راكباً والصلاة فيهما، وإن نذر السفر إلى مسجد المدينة سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس فإن كان قريباً لا يحتاج إلى راحلة مضى إليه، وصلى فيه وإن كان بعيداً لا ينال إلا براحلة صلى في مكانه ولا شيء عليه، وهذا الفرق الذي ذكره ابن الجلاب في سائر المساجد من القريب والبعيد ذكره قبله محمد بن المواز في "الموازنة" وغيره قال: أما السفر إلى المدينتين مدينة الرسول وبيت المقدس لغير الصلاة في المسجد فإنه لا يستحب أن تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وقد ذكر ذلك ابن بشير في "تنبيهه" والقيرواني في "تقريبه" وغيرهما من أصحاب مالك فهذا نص مالك وأصحابه على أن من نذر إتيان المدينة لغير الصلاة في مسدها ولو أنه لزيارة أهل البقيع وشهداء أحد، وزيارة قبر النبي –صلى الله عليه وسلم-، فإنها لا يأتيها ولا يوف بنذر بل السفر لذلك منهي عنه، لقوله "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد"، بل السفر إلى ما يظن أنه زيارة لقبر النبي –صلى الله عليه وسلم- وليس بزيارة لقبره أولى بالنهي عن السفر لزيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد ومسجد قباء هذه الأماكن يستحب لأهل المدينة إتيانها وإن لم يقدموا من سفر اقتداء بالنبي –صلى الله عليه وسلم- حيث كان يخرج إلى القبور يدعو لهم وكان يأتي قباء كل سبت راكباً أو ماشياً. وأما ما يظن أن زيارة قبره مثل الوقوف خارج الحجرة للسلام والدعاء فهذا لا يستحب لأهل المدينة بل ينهون عنه لأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان والخلفاء الراشدون وغيرهم كانوا يدخلون إلى مسجده للصلوات الخمس وغير ذلك، والقبر عند جدار المسجد ولم يكونوا يذهبون إليه، ولا يقفون عنده، فإذا كان السفر لما شرع لأهل المدينة غير المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 منهياً عنه النهي عن السفر لما ليس بمشروع مما يسمى زيارة لقبره وليس زيارة أولى وأحرى، وقد ذكر هذا مالك وغيره من العلماء ذكروا أنه لا يستحب بل يكره للمقيمين بالمدينة والوقوف عند القبر للسلام أو غيره، لأن السلف من الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك إذا دخلوا المسجد للصلوات الخمس وغيرها، على عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر وعثمان وعلي، فإنهم كانوا يصلون بالناس في المسجد أبو بكر وعمر فصليا بالناس إلى حين ماتا وعثمان إلى أن حصر وعلي صلى فيه مدة مقامه بالمدينة على أن خرج إلى العراق وكان الناس يقدمون عليهم من الأمصار يصلون معهم ومعلوم أنه لو كان مستحباً لهم لم يقفوا حذو القبر ولم يسلموا أو يدعوا ويفعلوا غير لفعلوا ذلك ولو فعلوه لكثر وظهر واشتهرلكن مالك وغيره خصوا من ذلك عند السفر لما نقل عن ابن عمر، قال القاضي عياض: قال مالك في "المبسوط": وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف للقبر وغير ذلك للغرباء وقال فيه أيضاً: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على النبي –صلى الله عليه وسلم- فيصلي عليه ويدعو له ولأبي وعمر: قيل له فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة أو المرتين أو أكثر من ذلك عند القبر يسلمون ويدعون ساعة فقال لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك فقد أخبر مالك أن صدر هذه الأمة وأئمتها لم يبلغه عن أحد منهم أنه كان يقف بالقبر وذكر أن ذلك يكره إلا لمن جاء من سفر وأراده وإنما اشتهر هذا عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر أتى القبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فقال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه وممن رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في "كتاب الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم-" قال حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر كان إذا قدم من سفر أتى المسجد ثم أتى القبر فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر: السلام عليك يا أبتاه فإن قيل مالك وغيره استحبوا للغرباء كلما دخلوا المسجد أن يأتوا القبر وهذا يناقض ما ذكر عنهم من النبي عن السفر لأجل القبر فإنهم خصوا الغرباء المسافرين بقصد القبر فيكون لهم في المسألة روايتان قيل ليس الأمر كذلك بل هم استحبوا للغرباء الذين قدموا لأجل الصلاة في المسجد أن يقفوا بالقبر ويسلموا كما استحبوا لهم أن يأتوا مسجد قباء وأن يزوروا أهل البقيع وشهداء أحد، وهم لو قصدوا السفر لأجل أهل البقيع والشهداء أو لموضع غير مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان ضلك منهياً عنه عندهم لكن إذا سافروا لأجل المسجد والصلاة فيه أتوا القبر وزاروا قبور الشهداء وأهل البقيع ومسجد قباء ضمناً وتبعاً كما أن الرجل ينهى أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة فلو سافر إلى بلد لتجارة أو طلب علم أو نحو ذلك كأن يأتي مسجد ويزور قبره وإن كان لم يسافر لأجل ذلك وإنما الرخصة في هذا للغرباء دون أهل المدينة فأهل المدينة يفعلون ذلك عند السفر فيحصل مقصودهم والغرباء إنما يقيمون بالمدينة أياماً وصار هذا مثل صلاة التطوع في مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفي المسجد الحرام فإنهم يستحبون للغرباء أن يتطوعوا فيه، وأما أهل البلد فتطوعهم في البيوت أفضل، قال مالك التنفل فيه للغرباء أحب إلي من التنفل في البيوت وحجتهم في ذلك أن الصلاة فيه بألف صلاة في غيره من المساجد وأهل البلد يصلون فيه دائماً لغرض فيحصل مقصودهم بذلك وتطوعهم في البيوت أفضل لما ثبت في الصحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أيها الناس أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، وقال في النساء: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن"، وأما الغرباء فلا يمكنهم أن يصلوا الفريضة فيه دائماً لأن الفرائض لها أوقات محدودة فيستكثروا من التنفل فيه وكذلك المسجد الحرام ولهذا استحبوا في جواز شد الرحال إلى غير الثلاثة المساجد: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، فيجوز بعض العلماء ذلك كأبي حامد الغزالي وأبي الحسن بن عبدوس الحراني وأبي محمد بن قدامة المقدسي ومنعه بعض العلماء كأبي عبد الله ابن بطة وأبي الوفاء ابن عقيل وطوائف كثيرة من المعلماء المتقدمين، وحجة هؤلاء ما ثبت في الصحيحين عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تشد الرحال إلا إلا ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل فلو نذر الرجل أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة، ولو نذر أن يأتي المسجد الحرام لحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق العلماء، ولو نذر أن يأتي مسجد النبي –صلى الله عليه وسلم- أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد، فإنهم يوجبون الوفاء بكل طاعة كما ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" الحديث رواه البخاري. وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليها إذا نذره حتى نص بعض العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة لأن ذلك ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 بشد رحل كما ثبت في الصحيح "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة" قالوا: ولأن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهذا مخالف للسنة وإجماع الأمة، وبهذا يظهر حجة أبي محمد فإن زيارة النبي –صلى الله عليه وسلم- للمسجد قباء لم تكن بشد رحل وهو يسلم لهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر. وقوله: أن قوله لا تشد الرحال محمول على نفي الاستحباب يجاب عنه من وجهين: أحدهما أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة وطاعة ومن اعتقد في السفر لزريارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلا لذلك وأما إذا قدر أن شد الرحال إليها لغرض مباح فهذا جائز من هذا الباب. الوجه الثاني: أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة ولم يحتج أحد من الأئمة منها بشيء بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذي هو أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل زرت قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- ولو كان هذا اللفظ مشروعاً أو مأثورا عن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يكرهه عالم المدينة، والإمام أحمد –رضي الله عنه- أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك إلا حديث أبي هريرة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من رجل يسلم عليّ إلا ردّ الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه، وكذلك مالك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 "الموطأ" روى عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف في سنن أبي داود عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا عليّ أينما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" وفي سنن سعيد بن منصور عن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه رأى رجلاً يختلف إلى قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- ويدعوا عنده فقال يا هذا أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي أينما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء. وأما حجة المجوزين لشد الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء والصالحين فحجتهم عموم قوله –صلى الله عليه وسلم- "كنتم نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة" وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- كقوله: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي" رواه الدارقطني وابن ماجة. وأما ما ذكر بعض الناس من قوله: "من حج فلم يزرني فقد جفاني" فهذا لم يروه أحد من العلماء وهو مثل قوله: "من زارني ضمنت له على الله الجنة" فإن هذا أيضاً باطل باتفاق العلماء، لم يروه أحد ولم يحتج به أحد، والجواب عن هذا ما تقدم بيانه في حجة من منع شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، والمقصود أن هذا الملحد ذكر الإجماع على ذلك من عهد الصحابة إلى يومنا، وأن الوهابية خرقوا هذا الإجماع، وقد بينا فيما تقدم قريباً اختلاف العلماء، وأنهم لم يجمعوا على ما ادعاه الملحد بل هذا من الكذب على العلماء، خصوصاً وعلى الأمة عموماً ولم يجمع على ذلك إلا الغلاة من أهل البدع الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله واتبعوا غير سبيل المؤمنين فنعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الضلالة بعد الهدى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فصل: الشيخ ابن تيمية لم يحرم زيارة القبور مطلقا إذا تحققت هذا، فاعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه ونور ضريحه- لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه ولم ينه ولم يكرهها بل استحقها وحظ عليها في مصنفاته، ومناسكه طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- وسائر القبور قال –رحمه الله تعالى- في بعض مناسكه، باب زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا أشرف على مدينة النبي –صلى الله عليه وسلم- قبل الحج أو بعده، فيقول ما تقدم فإذا دخل استحب له أن يغتسل نص عليه الإمام أحمد فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ثم يأتي الوضة بين القبر والمنبر فيستقبل جدار القبر ولا يمسه ولا يقبله ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاء النبي –صلى الله عليه وسلم- ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخضوع وسكون منكوس الرأس غاض الطرف مستحضراً بقبله جلالة موقفه ثم يقول السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك فجزاك الله أفضل ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته يغبطه الأولون والآخرون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم احشرنا في زمرته وتوفنا على سنته وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشروباً روياً لا نظمأ بعده أبداً، ثم يأتي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فيقول: السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا حبي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وضجيعيه ورحمة الله وبركاته جزاكم الله تعالى على صحبة نبيكما وعن الإسلام خيراً سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار قال ويزور البقيع وقبور الشهداء إن أمكن" هذا كلام الشيخ بحروفه وكذلك سائر كتبه ذكر فيها استحباب زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- وسائر القبور ولم ينكر زيارتها في موضع من المواضع. انتهى. فإذا تبين لك هذا عرفت أن مراد هؤلاء الزنادقة الملاحدة لما ينسبونه من التشنيع بأن شيخ الإسلام يحرم الزيارة وأنه ينهى عنها إنما يريدون بذلك تنفير الناس عن الدخول في دين الله وعن اتباع ما أمر الله ورسوله مما هو مناف ومضاد لما عليه غلاة المشركين مما يفعلونه ويقولونه عند حضرة النبي –صلى الله عليه وسلم- من الأفعال والأقوال الشركية والألفاظ المخترعة البدعية وما يقولونه عند حضرة النبي –صلى الله عليه وسلم- من الأفعال والأقوال الشركية والألفاظ المخترعة البدعية وما يقولونه ويفعلونه عند قبور الأولياء والصالحين من ذلك وكذلك ما ينسبونه عن الوهابية من الأكاذيب التي يشنعون بها وينفرون بها الناس عن الدخول في دين الله ورسوله ظلماً وعدواناً وهم يقولون في الزيارة ما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية مما تقدم بيانه وكما يقوله إمامهم الإمام أحمد وسائر علماء السلف ومن نسب عنهم خلاف ذلك فقد افترى عليهم وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 فصل: التوسل والاستشفاع قال الملحد: البحث الثالث في التوسل التوسل والاستشفاع والاستغفار كلها ألفاظ مختلفة معناها واحد عند العلماء، لكن لما كان يتطرق لفهم العوام من التوسل ما لا يتطرق الفهم من الاستغفار والاستشفاع فذكرته في بحث على حدة وبالله أستعين إذا نظرت بعين البصيرة رأيت أن التوسل بمعييه اللغوي والمصطلح ناموس جعله الله في الكون لصالح الإنسان في أمور حياته ومعاشه في الدنيا لا يستغني عنه إلا من عصمهم الله، والشرع ما أنكره كما أنكره هؤلاء الحمقاء مع تلبيسهم فيه وعدم استغنائهم عنه ولا حسبه شركاً كما حسبوه بل أباحه، لكن المنكر اعتقاد التأثير من غير الله وهو الشرك الخفي، ومع أنك ترى أكثر الناس واقعين في هذا الشرك الخفي سيما المعتقدون خلق الأفعال ومنهم من يعتقد يقيناً بأن الإنسان يتصرف ويضر وينفع كما يعتقد بتأثير الأمراض كالعدوى والأدوية وأمثالها لكنك لا تجد مؤمناً يعتقد بالرسول –عليه الصلاة والسلام- هكذا اعتقاد بل غاية اعتقاده التوسل بجاهه مع التفويض لله تعالى وإن سمعت من عامي كلاماً يفهم منه اعتقاد التأثير فما هو إلا من عجزه عن التعبير الشرعي لكن قلبه غير زائغ وإن رأيته يقبل الأعتباب والأبواب لا يتطرق لقلب مسلم بل لا قصد له إلا التبرك بها، إلى آخر ما هذي به. والجواب أن يقال: قد بينا فيما تقدم معنى التوسل والاستشفاع وما يراد به في عرف عباد القبور واصطلاحهم وما هو المبتدع المحرم من ذلك فأغنى عن إعادته ها هنا وبيننا فيما تقدم أن التوسل والاستشفاع على معتقد عباد القبور وعرفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 واصطلاحهم أنه هو الشرك الذي حرمه الله ورسوله وإن لم يعتقد من دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين، واستغاث بهم في مهماته وقضاء حاجاجته وتفريج كرباته وشداته تأثير منهم فإن هذا معتقد جهال الكفار الذين قاتلهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليكون الدين كله لله واستحل بذلك دماءهم وأموالهم ودعوى أنها موهمة بشرك دعوى مجردة كما قد بيناه فيما مضى وبينا أن هذا هو من الشرك الخفي تلبيس وتمويه على من لا معرفة له بمدارك الأحكام ولا يفرق بين الكفر والإسلام. فالجواب أن نقول: إذا كان قصده بهذه الأفعال والأقوال الشركية التبرك فما الفرق بين هذا وبين قول من قال من الصحابة كما في حديث أبي واقد الليثي –رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسحلتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم" رواه الترمذي فقوله: وينوطون بها أسلحتهم أي يعلقونها عليها للبركة فأخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أن هذا الأمر الذي طلبوه منه وهو اتخاذ شجرة للعكوف عندها وتعليق الأسلحة بها تبركاً بها كالأمر الذي طلبه بنو إسرائيل من موسى –عليه السلام- حيث قالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فمن طلب من غير الله شيئاً أو تعلق عليه لأجل البركة فقد اتخذه إلهاً مع الله بنص كتاب الله وسنة رسوله وإن تغيرت الألفاظ واختلفت فإن الأمور بحقائقها ولا تتغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 بتغير الأسماء. فإن قيل إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك وكذلك الذين قالوا للنبي –صلى الله عليه وسلم- اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا. فالجواب أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا، وكذلك الذين سألوا النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا وكذلك لا خلاف أن الذين نهاهم النبي –صلى الله عليه وسلم- لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا وهذا هو المطلوب وإذاتبين لك هذا فلا فرق بين هذا وهذا والله ولي التوفيق. وأما قوله: فانظر ما أقبح تناقض الوهابية وإخوانهم فمن جهة تراهم يعتقدون تأثير الأعراض ومن جهة يمنعون التوسل بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فالجواب أن نقول: هذا كذب على الوهابية فإنهم لا يعتقدون أن للأعراض تأثيراً بطباعها لقوله –صلى الله عليه وسلم- "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" لأن هذا قد كان من أمور الجاهلية فنفاه –صلى الله عليه وسلم-، وأما التوسل بالأنبياء على اصطلاح عباد القبور والأنبياء والصالحين فإنه هو الشرك الجلي الذي من فعله كان مشركاً متخذاً معه إله وإن سموه توسلاً وتشفعاً كما قد بينا ذلك مراراً فيما تقدم. وأما قوله: في توسله بالأبيات التي ذكرها من قبله فهي بكلام المجانين والطغام أشبه بها من كلام أهل المعرفة بالنظام فلا نتكلف الجواب عنها، ثم ذكر كلاماً هذا لا فائدة بالجواب عنه لأنه قد تقدم الجواب عنه فيما مضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وأما قوله فإذا علمت هذا وفهمت كيف دخولا بالتحريف والمغالطة على العوام فاعلم أن علماءنا ما قالوا بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء وندبوا غليه من تلقاء أنفسهم وحاشاهم من ذلك وهم أمناء الدين وخلفاء الرسل بل أخذوه من كلام الله تعالى وكلام رسوله أمراً وفعلاً كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وماذا عليهم إذا لم تفهم وعول نجد وجواميس مصر وبقر الشام مقاصدهم ومآخذ أقوالهم. فالجواب أن نقول: وإذا علمت أيها المنصف ما بيناه من معنى التشفع والتوسل وأنه هو المعني والمطبق على أقوالهم وأفعالهم تبين أن التحريف والمغالطة على العوام بهم أليق وبحالهم ألصق لا أهل التوحيد والإيمان بالله المخلصين له في عبادته التاركين لعبادة ما سواه ومن أجاز هذا من علمائهم فقد أجاز الشرك بالله وقال على الله وعلى كتابه ورسوله من تلقاء نفسه ما لم يأذن به الله ولا شرعه رسول الله ولا فعله الصحابة ولا التابعون والمجيزون لهذا الشرك ليسوا بأمناء الله على دينه ولا خلفاء الرسل لو لم يأخذوه من كلام الله تعالى وكلام رسوله أمراً وفعلاً كما سنبينه إن شاء الله تعالى وماذا علينا إذا لم تفهم حشرات الشام وخشاشه ومن نحا نحوهنم من القرود والخنازير والهمج والرعاع الذين يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق من الفهم إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وكلامنا إنما هو مع المنصف الذي يخاف الله ويتقيه: إن الكلام مع الكبار وليس مع ... تلك الأراذل سفلة الحيوان أوساخ هذا الخلق بل أنتانه ... جيف الوجود وأخبث الأنتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فصل ثم ذكر الملحد كلاماً قد تقدم الجواب عن مثله فيما سبق وذكر في هذا أن أقرب الخلق إلى الله وسيلة نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- ثم قال أما هو الذي الذي الله له {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ما هو الذي قال عنه النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم أما هو الذي قال الله عنه: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ} . فأقولك وهذا كله حق ندين الله به ولكن لا يوجب ذلك دعاه والاستشفاع به وطلب قضاء الحوائج منه بعد موته –عليه الصلاة والسلام- لأن ذلك لم يرد به كتاب ولا سنة ولم يقل به أحد من الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين. ثم قال الملحد: أما هو الذي أمرنا الله على لسانه بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فانظروا يا من خذلهم الله أي مقام أعظم من هذا المقام الذي علق الله تعالى محبته تعالى ومغفرته على اتباعه –عليه الصلاة والسلام- {أَفَتُؤمِنُونَ بِبَعَضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فانظر ما جاء بحقكم في هذه الآية. والجواب أن نقول: قد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن المخذول الذي خذله الله وختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة هو الذي خالف أمر الله وعصى رسوله واتبع ما نهى عنه وتجنب ما أمر الله به ورسوله فهذا هو المخذول أما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أما قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَنْ مِنَ الْظَّالِمِينَ} أما قال {وَأّنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدَاً , قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِي لَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدَاً , قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدَاً} أما قال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدَاً} أما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأقْرَبِينَ} قال: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً" فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين وآمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق ثم نظر فيما وقع في وقع في قلوب خواص الناس تبين له التوحيد وغربة الدين أما الذي قال لما قال بعض أصحابه: قوموا بنا نستغيب برسول الله –صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق فقال –صلى الله عليه وسلم-: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله" إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي أمر الله باتباع نبيه فيها فخالف هؤلاء الملاحدة ما أمر الله به ورسوله وتبعوا ما نهى الله عنه ورسوله فإن من دعا غير الله والتجأ إليه واستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله أو تشفع به في جلب منفعة أو دفع مضرة فقد أشرك بالله في عبادته غيره واتخذه إلهاً مع الله شاء المشرك أم أبى فانظر يا عدو الله من الذي آمن ببعض وكفر ببعض ومن الذي هو أحق بهذه الآية لو أن أهل الشرك يعلمون. ثم قال الملحد: أما هو الذي قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم جَاءَوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الْرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيمَاً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وجوابه أن يقال هذه الآية نزلت في حق المنافقين وكان هذا في حياته عليه الصلاة والسلام، فأما بعد موته فلم ينقل أحد من العلماء أن من أذنب من الصحابة أو غيرهم كأن يأتي إلى قبر النبي فيطلب منه ويسأله أن يستغفر له وهو أعلم الناس به وأعظمهم قياماً بحقه وأشدهم تعظيماً له فكيف رغب الصحابة عن هذه الفضيلة ولم يعملوا بها وعلم بها من جاء بعدهم ممن لا يحاذيهم في العلم والفضيلة فعلموها وعملوا بها وحرمها أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سبحان الله ما أعظم شأنه كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون. ثم قال الملحد بعد ذلك أما هو الذي قال الله له {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَر بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً} . فأقول هذه الآية وكلام القسطلاني عليها لا ينكره إلا من أعمى الله بصيرة قلبه وهو الحق الذي ندين الله به فأي لوم علينا وأي عيب يتوجه إلينا إذا لم يكن منا من يجحد ذلك وينكره وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما قوله: فهذه البشرى أزفها لكم يا وهابيين لتكونوا على يقين أن إيمانكم بالله وبالقرآن لا يفيدكم شيئاً ما زلتم معادين رسوله ومتمردين عليه فأقول: ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل ولله در ابن القيم حيث يقول: ما وافق الحكم والمحل ولا هو اس ... توفى الشروط فصار ذا بطلان {إِنِ الْحُكُمُ إِلَّا لِلهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} ، {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةَ رَبِّي إِذَاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكَانَ الإِنسَانُ قَتُورَاً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 فصل : أحاديث ضعيفة أوردها المعترض وبيان بطلانها قال الملحد: اعلم يا أخي أنه لما كانت الرسالة تبليغاً بالأمر والعمل فالرسول عليه الصلاة والسلام كطما بلغ الأمة كل أمر شفاهي كذلك بلغهم بالعمل ليكون اقتداؤهم به وأخذهم عنه جامعاُ بين الأمر والعمل إلا ما كان من تخصصاته الذاتية فكان ينهاهم عما فيه مشقة عليهم إذا قلدوه فيه ويسكت عن ما لا مشقة فيه ومن ذلك ما نحن بصده وإليك بيان ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في معنى التوسل وإليه استند علماؤنا به اقتدرا الأول في البخاري في باب تعاون المؤمنين عن محمد بن يوسف عن سفيان عن يزيد عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- جالساً إذ جاء يسأل أو طالب حاجة فأقبل علينا صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال "اشفعوا فلتؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء" انتهى. والجواب أن نقول: قد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين ونصح الأمة وأدى الأمانة وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه فصلوات الله وسلامه عليه وجزاه عن أمته أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته فأما ما ذكره هذا الملحد بقوله ومن ذلك ما نحن بصدده وإليك بيان ما جاء عنه –عليه الصلاة والسلام- في معنى التوسل وإليه استند علماؤنا وبه اتقدوا فذكروا ما رواه البخاري في باب تعاون المؤمنين وهذا مما لا شك فيه ولا ارتياب أنه هو محض الحق والصواب ولا ينكر هذا إلا من أعمى الله بصيرة قلبه وران على قلبه سوء عمله وكسبه فإن هذا من الأسباب الظاهرة العادية أجرى الله على أيدي العباد نفع بعضهم بعضاً بها وهذا جائز لا نزاع فيه بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 العلماء لأنه من حي حاضر قادر وإنما النزاع في التوسل والاستشفاع بالموتى والغائبين وهذا لم يقل بجوازه أحد من الأئمة المهتدين ولا العلماء المحققين بل هذا مما ابتدعه الغلاة من المتأخرين الذين ليس لهم قدم صدق في العالمين وقياس الأموات بالأحياء قياس فاسد قال الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} الآية وقد تقدم بيان ذلك من كلام العلماء فيما مضى. وأما قوله الثاني وفي هذا الباب قال القسطلاني في قوله: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِِيب منها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} ان الله بين في هذه الآية جواز الشفاعة في جلب نفع أو دفع ضرر لم يكن فيه ابطال حق ولا منع حد شرعي ولا نفع ذاتي فإن كانت في خير كان له ثواب ذلك وإن كانت في شر كان عليه من وبالها انتهى. فالجواب أن نقول: هذا أيضاً من جنس ما قبله فإن هذا استشفاع بحي حاضر قادر على ما ينفع به المسلم أخاه مما هو قادر عليه وليس في كلام القسطلاني أن هذا استشفاع بالأموات والغائبين وما لا يقدر عليه إلا الله بل هذا من الأسباب العادية المقدور عليها وهذا مما لا نزاع في جوازه فالإستدلال به على جواز دعاء الأموات والغائبين مما لا يقدر عليه إلا الله من باب المغالطة والتمويه وهذا لا خفاء به. وأما قوله الثالث أخرج ابن ماجة والحافظ والبيهقي عن أبي سعيد الخدري والسيوطي في الجامع الكبير عنه أيضاً وابن السني عن بلال قال كان إذا خرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة قال بسم الله آمنت بالله وتوكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق مخرجي هذا إليك فإني لم أخرج لشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وابتغاء مرضاتك أسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. والجواب أن يقال هذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف، قال شيخ الإسلام "لكن بقدر ثبوته هو من هذا الباب فإن حق السائلين عليه سبحانه أن يجيبهم وحق المطيعين له أن يثبتهم، فالسؤال له والطاعة له سبب لحصول إجابته وإثابته فهو من التوسل به والتوجه والتسبب به ولو قدر أنه قسم لكان قسماً بما هو من صفاته فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله فصار هذا كقوله –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح "أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" والاستعاذة لا تصح بمخلوق كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة إلى آخر كلامه، فتبين من كلام الشيخ أن السؤال بحق السائلين هو إجابتهم وسؤاله بحق الطائعين إثابتهم فيكون السائل بهاتين الصفتين سائلاً بصفات الله فإن الإجابة والإثابة من أفعاله وأقواله سبحانه وتعالى، وسؤاله بأسمائه وصفاته والتوسل بها ثابت بالكتاب والسنة قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وفي الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سمع رجلاً يقول: "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" فقال: "دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب" رواه الترمذي وأبو داود إلى غير ذلك من الأحاديث وكذلك التوسل بالأعمال الصالحة كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة، كما روي عن ابن عمر عن النبي –صلى الله عليه وسلم- "بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أعمالاً عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها" الحديث متفق عليه، وهو في الصحيحين، فليس في حديث أبي سعيد الخدري ما يدل على ما ادعاه هذا الملحد من التوسل بذوات الأنبياء والأولياء والصالحين فضلاً عن دعائهم والاستغاثة بهم والالتجا إليهم وبهذا يتبين عدم معرفتهم بمعاني ما أنزل الله على رسوله ومعاني كلام رسوله وأن هذا المعترض وأشباهه أجانب من ذلك لا عهد لهم به ولا تمييز عندهم فالله المستعان. وأما قوله في هذا الحديث: ثلاثة أدلة لنا الأول توسله –عليه الصلاة والسلام- بالمؤمنين المعبر عنهم بالسائلين وهو أفضل الخلق فكيف لا نتوسل بجاهه ونحن أفقر الخلق إلى جاهه وبهذا نص صريح بجواز التوسل بالأنبياء وما دونهم من كل مؤمن. الثاني، وهو أبلغ بالتجوز توسله –عليه الصلاة والسلام- بشيء مجازي وهو المخرج بنصب المميم والراء والمخرج برفع الميم وكسر الراء. الثالث إيراد التوسل بصيغة القسم أي قوله بحق فهذا أبلغ وأعظم في التدلل على الله تعالى من صيغة الرجاء. فالجواب أن يقال: قد كان من المعلوم عند من له أدنى ممارسة بالعلوم أنه ليس لهذا المبطل متعلق في هذا الحديث بوجه من الوجوه ولا فيه ما يدل على مطلوبه فإنه –صلى الله عليه وسلم- لم يتوسل بالمؤمنين وإنما توسل بحق السائلين وحق السائلين هو الإجابة والإجابة صفة من صفات الله وكذلك حق المشاة والطائعين لله الإثابة والإثابة من صفاته تعالى فلا يكون متوسلاً بأحدِ من الخلق. وأما قوله: الثاني وهو أبلغ بالتجوز توسله –عليه الصلاة والسلام- بشيء مجازي وهو المخرج بنصب الميم والراء أو المخرج برفع الميم وكسر الراء. فالجواب: أن المخرج والممشى بمعنى واحد وهو المخرج والممشى هو الإثابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وهي من صفات الله وقد كان من المعلوم أن مخرجه إلى الصلاة وممشاه إليها حقيقي لا مجازي وهذا مما يدلك على غباوته وقله معرفته بالعلوم الشرعية والأحاديث النبوية واللغة العربية. وقوله: الثالث إيراد التوسل بصيغة القسم أي قوله بحق فهذا أبلغ وأبلغ في التدلل على اله تعالى من صيغة الرجاء. فأقول لو كان قسماً لكان قسماً بما هو من صفات الله فلا متعلق لهؤلاء المحرفين لكلام الله وكلام رسوله بشيء من هذا الحديث فيكون ما فهموه باطلاً مردوداً ونزيد ذلك إيضاحاً بما ذكره شمس الدين ابن قيم الجوزية في "بدائع الفوائد" قال –رحمه الله- في أثناء كلام له ومنه قوله: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} فهذا حق على نفسه فهو طلب وإيجاب على نفسه بلفظ الحق ولفظ على ومنه قول النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح لمعاذ "أتدري ما حق الله على عباده" قلت الله ورسوله أعلم قال "حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار" ومنه قوله –صلى الله عليه وسلم- في غير حديث من فعل كذا وكذا كان حقاً على الله أن يفعل به كذا وكذا في الوعد وفي الوعيد فهذا الحق الذي أحقه على نفسه ومنه الحديث الذي في السنن من حديث أبي سعيد عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في قول الماشين إلى الصلاة "أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك" فهذا حق السائلين عليه هو أحقه على نفسه لا أنهم هم أوجبوه ولا أحقوه بل أحق على نفسه أنه يجيب من سأله كما أحق على نفسه في حديث معاذ أن لا يعذب من عبده فحق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم والحقان هو الذي أحقهما وأوجبهما لا السائلون ولا العابدون:- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع ومنه قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} فهذا الوعد هو الحق الذي أحقه الله على نفسه وأوجبه. انتهى. وأما قوله: الثالث إيراد التوسل بصيغة القسم أي قوله بحق فهذا أبلغ وأعظم في التدلل على الله من صيغة الرجاء. فالجواب أن يقال هذا الكلام لا ينبغي أن يقال في جناب النبي –صلى الله عليه وسلم- لأن التدلل على الله من الاعتداء قال ابن القيم –رحمه الله- في "بدائع الفوائد" ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع بل دعاء مدل كالمستغني بما عندة المدل على ربه وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته فما يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد ومن الاعتداء أن يعبده بما لا يشرعه ويثني عليه بما لا يثني به على نفسه ولا أذن فيه من الاعتداء ي دعاء الثناء والعبادة وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين أحدهما محبوب للرب تعالى مرضاة له وهو تضرعاً وخفية والثاني مكروه له مبغوضاً مسخط وهو الاعتداء فأمر بما يحبه وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ الزجر والتحذير وأنه لا يحب فاعله ومن لم يحبه الله فأي خير يناله. فصل قال الملحد الحديث الرابع أخرجه الطبراني وابن ماجه والحاكم وأبو نعيم والسيوطي في الجامع الكبير وكلهم عن أنس –رضي الله عنه- وابن عبد البر عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ابن عباس –رضي الله عنهما- حديث حضوره –عليه الصلاة والسلام- دفن فاطمة بنت أسد والدة سيدنا علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- ونزوله في قبرها وقوله: "اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي" فهذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يتوسل بنفسه والأنبياء كلهم وكانوا أمواتاً إلى آخر كلامه. والجواب أن يقال: في سنده روح بن صلاح المصري ضعه ابن عدي وتصحيح الحاكم له لا يجدي شيئاً فغنه جمع في مستدركه من الأحاديث الضعيفة والمنكرة والموضوعة جملة كثيرة وقد روي فيه لجماعة من المجروحين في كتابه يخالف هذا ويدل على وجوب التوسل بأسمائه وصفاته وإنابة الوجوه إليه فما أعمى عينك عنها هل شيء أعماها سوى الجهل والهوى! وقد تكلم في هذا الحديث غير واحد، وقال شيخ الإسلام قد بالغت في البحث والاستقصاء فما وجدت أحداً قال بجوازه إلا ابن عبد السلام في حق نبينا –عليه أفضل الصلاة والسلام- أترى هذا الحديث يخفى على علماء الامة لم يعلموا ما دل عليه ثم لو سلمنا صحته أو حسنه ففيه ما سيأتي في حديث الأعمى أن المراد بدعاء نبيك الله آخره وأي وسيلة بذوات الأنبياء لمن عصى أمرهم وخرج عما جاءوا به من التوحيد والشرع قال شيخ الإسلام فإذا قال الداعي أسألك بحق فلان وفلان لم يدع له وهو لم يسأله باتابعه لذلك الشخص او محبته او طاعته بل نفس ذاته وما جعله له ربه من الكرامة لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب. انتهى. وأما قولهك فهذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- توسل بنفسه والأنبياء كلهم وكانوا أمواتاً فيقال قد ذكر هذا الملحد فيما تقدم من كلامه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- والأنبياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 كانوا أحياء حياة جسمانية وأنهم ليسوا بأموات وفي هذا يقول وكانوا أمواتاً فما أقبح هذا التناقض. فصل وقوله: "الخامس" خرج الترمذي والنسائي والبيهقي والطبراني عن عثمان بن حنيف –رضي الله عنه- أن رجلاً ضريراً أتى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال ادع الله أن يعافني فقال له: "إن شئت دعوت الله وإن شئت صبرت وهو خير لك" قال الرجل: فادعه فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه ويدعو الله بقوله: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في هذا لتقضى اللهم شفعه في فعاد الرجل وقد أبصر. انتهى. وأخرج هذا الحديث البخاري في تاريخه وابن ماجه والحاكم في المستدرك والسيوطي في الجامعين وشاع هذا الدعاء بين الصحابة حتى استعملوه فيما بينهم. والجواب ان يقال: هذا الحديث –أعني حديث الأعمى- غير محفوظ فيه مقال مشهور وفي سنده ابن جعفر عيسى بن ماهان الرازي التيمي قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" الأكثرون على ضعفه، وقال أحمد: والثاني ليس بالقوي، قال أبو حاتم صدوق وقال ابن المديني ثقة كان يخلط، وقال مرة يكتب حديثه إلا أنه يخطئ وقال القلانسي سيئ الحفظ وقال ابن حبان ينفرد بالمناكير من المشاهير وقال أبو زرعة يهم كثيراً وقال الحافظ في "التقريب" أيضاً في ترجمة الرازي التميمي ابن جعفر الرازي التميمي مولاهم مشهور بكنيته واسمه عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان وأصله من مرو وكان يتجر إلى الري صدوق سيء الحفظ خصوصاً عن مغيرة من كبار السابعة مات في حدود الستين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 انتهى. وعلى قدر صحته وثبوته فلا يدل على ما توهمه هذا الملحد وبيان معنى الحديث يعلم أن هؤلاء الغلاة غير صحيح. فقوله: اللهم إني أسألك أي أطلب منك وأتوجه إليك بنبيك محمد صرح باسمه مع ورود النهي عن ذلك تواضعاً منه لكون التعليم من قبله وفي ذلك قصر السؤال الذي هو أصل الدعاء على الله تعالى الملك المتعال، ولكنه توسل بالنبي –صلى الله عليه وسلم- بدعاه ولذا قال في آخره "اللهم شفعه في" إذ شفاعته لا تكون إلا بالدعاء لربه قطعاً ولو كان المراد التوسل بذاته فقط لم يكن لذلك التعقيب معنى إذ التوسل بقوله نبيك كاف في إفادة هذا المعنى، وقوله: يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي قال الطيبي: الباء في بك للاستعانة وقوله: "إني توجهت بك" بعد قوله: "أتوجه إليك" فيه معنى قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} فيكون خطاباً لحاضر معاين في قلبه مرتبطاً بما توجه به عند ربه من سؤال نبيه بدعائه الذي هو عين شفاعته ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية المفيدة كل ذلك أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه في دعائه فكأنه استحضره وقت ندائه، وقال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم": الميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره وكذلك حديث الأعمى فإنه طلب من النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يدعو له أن يرد عليه بصره فعلمه النبي –صلى الله عليه وسلم- شفع فيه وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته وأن قوله: "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي بدعائه وشفاعته كما قال عمرك كنا نتوسل إليك بنبينا فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال يا محمد يا رسول الله إني أتوجه إليك إلى ربي في حاجتي ليقضيها اللهم فشفعه في طلب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 من الله أن يشفع فيه وقوله يا محمد يا نبي الله هذا وامثاله نداء يطلب به استحضار المنادي في القلب فيخاطب المشهود في القلب كما يقول المصلي "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" والإنسان يفعل مثل هذا كثير يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به فيه إجمال واشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة يراد به التسبب لكونه داعياً وشافعاً مثلاً أو يكون الداعي محباً له ومطيعاً لأمره مقتدياً به فيكون التسبب أو بمحبة السائل له واتباعه له وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته فلا يكون التوسل لا بشيء منه ولا بشيء من السائل بل بذاته أو بمجرد الغقسام به على الله فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه وكذلك لفظ السؤال بالشيء قد يراد به المعنى الأول وهو التسبب لكونه سبباً في حصول المطلوب وقد يراد به الإقسام إلى آخر ما قال –رحمه الله- إذا عرفت هذا فليس في حديث الأعمى ما يدل على التوسل به ودعائه والالتجاء إليه بعد وفاته وإنما فيه أنه توسل بدعائه كما كان الصحابة يتوسلون بذلك ويسألونه الاستغفار والدعاء، وأما دعوى هذا الملحد أنه شاع هذا الدعاء بين الصحابة حتى استعملوه فيما بينهم. فالجواب: أن هذا مما يعلم بالضرورة أنه الكذاب على جميع الصحابة –رضي الله عنهم- ولو كان هذا الاستعمال صحيحاً لتوفرت الهمم والدواعي على نقله ولما عدل الفاروق إلى التوسل بدعاء العباس ومعاوية بيزيد بن الأسود الجرشي ولكان يمكنهم لو كان هذا الحديث صحيحاً معروفاً عندهم أن يتوسلوا بالنبي –صلى الله عليه وسلم- ولا يطلبون من العباس أن يدعو لهم، ومما يوضح لك الأمر أن هذا الحديث غير صحيح أن رواته مختلفون في متنه وسنده مع أنه لم يذكر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 شيء من الكتب المعتمدة وغنما ذكره مثل البيهقي والطبراني والترمذي وأبو نعيم وهؤلاء يذكره مثل هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة على وجه التنبيه وقد رأى علماء الإسلام الجهابذة النقاد ظلمات الوضع لائحة عليه فأعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه والله أعلم ثم لو كان الحديث ثابتاً صحيحاً عن عثمان بن حنيف لكان قول صحابي خالفه غيره من الصحابة وإذا خالفه غيره لم يكن قوله حجة على من خالفه فدعوى استعمال الصحابة له من الكذب عليهم والله أعلم. فصل قال الملحد: السادس روى البيهقي وابن أبي شيبة أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر –رضي الله عنه- فجاء بلال إلى قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم هلكوا فسقاهم الله في الحال. والجواب أن نقول قد كفانا مؤنة إيضاح عدم الاعتبار بالمنامات وأنه لا يثبت بها حكم شرعي لكن نقول هذا الحديث فيه مقال مشهورن قال الحافظ في "الفتح" وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري وكان خازن عمر –رضي الله عنه- قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر –رضي الله عنه- فجاء إلى قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- في المنام فقيل له ائت عمر الحديثن وقد روى سيف في "الفتوح" ان الذي رأى في المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة فعلم إنما روي بإسناد صحيح ليس فيه أن الجائي أحد الصحابة وما فيه أن الجائي أحد الصحابة ضعيف غاية الضعفز قال الذهبي في "الميزان" سيف بن عمر الضبعي الأسدي ويقال التميمي البرحمي ويقال السعدي الكوفي مصنف الفتوح والردة وغير ذلك كالواقدي يروي عن هشام بن عرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وعبد الله بن عمرو جابر الجعفي وخلق كثير ممن المجهولين كان إخبارياً عارفاً روى عنه عبادة بن المفلس وأبو معمر القطيعي والنظر بن حماد العتكي وجماعة قال عباس عن يحيى ضعيف وروى مطين عن يحيى فليس خير منه قال أبو داود ليس بشيء وقال أبو حاتم متروكن وقال ابن حبان اتهم بالزندقة وقال ابن عدي عامة حديثه منكر، وقال السيروتي سمعت ابن نمير يقول: سيف الضبعي تميمي كان جميع ما يقول حدثني رجل من بني تميم كان سيف يضع الحديث وقد اتهم بالزندقة. انتهى ملخلصاً. قال الحافظ في "التقريب" سيف بن عمر التميمي صاحب الردة ويقال له الصبي ويقال غير ذلك الكوفي ضعيف في الحديث عمدة في الأخبار أفحش ابن حبان القول فيه. انتهى. وقال الذهبي في "الكاشف" قال ابن معين وغيره ضعيف وقال في الخلاصة سيف بن تميم الأسدي الكوفي صاحب الردة عن جابر الجعفي وأبي الزبير وعن محمد بن عيسى الطباع وابو معمر الهذلي ضعفوه. انتهى. فهذا ما قيل في حديث بلال بن الحارث الذي رواه البيهقي وابن أبي شيبة وإن كان غير حديث بلال فغاية ما فيه أنه رأى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في المنام وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس وهذا ليس من هذا الباب الذي نحن بصدد الكلام فيه فإن هذا قد يقع كثيراً لمن هو دون النبي –صلى الله عليه وسلم- قال شيخ الإسلام وأيضاً ما يروى أن رجلاً جاء إلى قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- فشكى إليه الجدب عام الرمادة فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس فإن هذا ليس من هذا الباب ومثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون النبي –صلى الله عليه وسلم- وأعرف من هذا وقائع وكذلك سؤال بعضهم للنبي –صلى الله عليه وسلم- أو لغيره من أمته حاجة فتقضى له فإن هذا قد وقع كثيراً وليس مما نحن فيه وعليك أن تعلم أن إجابة النبي –صلى الله عليه وسلم- أو غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 لهؤلاء السائلين ليس هو مما يدل على استحباب السؤال فإنه هو القائل –صلى الله عليه وسلم-: "إن أحدهم ليسألني المسألة فاعطيه إياها فيخرج يتأبطها ناراً" فقالوا يا رسول الله فلم تعطهم قال: "يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل" وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم يه من ضيق الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين في الحياة كانوا كذلك وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا وفرق بين هذا وهذا. انتهى. فتبين من كلام العلماء أن الجائي إلى قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- ليس هو بلال بن الحارث كما زعمه المعترض لأنه اعتمد على أن هذا فعل صحابي وحاشا لله من ذلك فإنهم كانوا أعلم بالله وبدينه ورسوله وهم أبعد الناس عن سلوك ما يتوهمه الغلاة فبطلت الشبهة الشامية ولله الحمد والمنة. فصل قال الملحد: السابع روى البخاري في الاستسقاء عن أنس –رضي الله عنه- أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر –رضي الله عنه- وهو عام الرمادة وأخذ عمر بيد العباس –رضي الله عنهما- والناس خلفهما فوقف توسل إلى الله تعالى بحرمة عم نبيه –عليه الصلاة والسلام- فما قفلوا حتى سقاهم الله. قال القسطلاني في شرح هذا الحديث أن عمر –رضي الله عنه- قال: "يا أيها الناس إن رسول الله كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا به في عمه واتخذوه وسيلة إلى الله تعالى. والجواب أن نقولك قد ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن عمر استسقى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 بالعباس بن عبد المطلب وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فيسقون، قال شيخ الإسلام فاستسقوا الله كما كانوا يستسقون بالنبي –صلى الله عليه وسلم- وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته فيدعو لهم ويدعون معه كالإمام والمأمومين من غير أن يكون يقسمون الله على بمخلوق ولما مات –صلى الله عليه وسلم- توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به، ولهذا قال الفقهاء يستحب الاستسقاء بأهل الخير والدين والأفضل أن يكونوا من أهل النبي –صلى الله عليه وسلم- قد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: اللهم إنا نستسقي بيزيد بن الأسود يا يزيد ارفع يديكن فرفع يديه ودعا الناس حتى مطروا وذهب الناس ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده ولا به. انتهى. فهذا هو التوسل المشروع وهذا هو المنقول عن الصحابة لا كما يلفقه هؤلاء الغلاة من الأحاديث الموضوعة أو المعلولة التي لا تثبت بها الأحكام الشرعية وما ذكره عن القسطلاني في "المواهب اللدنية" فلا شك أنه من الموضوعات لأنه لم يذكر بسند يعتمد على مثله وفي "المواهب اللدنية" من الموضوعات والأحاديث المعلولة المردودة ما لا يحصى فلا يعتمد على مثل هذا النقل والله أعلم. فصل قال الملحد: الثامن حديث استغاثة آدم بالرسول –عليهما الصلاة والسلام- وهذا الحديث من نوع المتواتر عند جمهور المفسرين والمحدثين بطرق عديدة عن عمر –رضي الله عنه- والحجة البالغة في هذا الحديث هي أن الرسول –عليه الصلاة والسلام- في عالم الغيب فهذا أبلغ في الحجة مما بعد وفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 والجواب أن يقال: هذا الحديث ضعيف بل موضوع فلا يعتمد عليه ولا يعول عليه قال الذهبي في "الميزان" روى عبد الله بن مسلم أبو الحارث الفهري عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً فيه: "يا آدم لولا محمد ما خلقتك" رواه البيهقي في "دلائل النبوة" قال في مجمع الزوائد رواه الطبراني في "الأوسط" و "الصغير" ويه من لا أعرفهم. انتهى وذكر الحافظ ابن عبد الهادي عن الإمام مالك –رضي الله عنه- أنه قال: اهذب إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يحدثك عن أبيه عن نوحن وقال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي يقول سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حدثك ابوك عن أبيه عن جده أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت ركعتين قال: نعم وقال ابن خزيمة عبد الرحمن بن زيد ليس ممن يحتج أهل العلم بحديثه، وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني حدث عن أبيه لا شيء وقال أيضاً في "الصارم المنكي" وإني لأتعجب منه كيف قلد الحاكم فيما صححه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الذي رواه في التوسل وفيه قول الله لآدم: "لولا محمد ما خلقتك" مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث ضعيف الإسناد جداً وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بن زيد صحيحاً بل هو مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه ولو كان صحيحاً إلى عبد الرحمن لكان ضعيفاً غير محتج به لأن عبد الرحمن في طريقه وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه وتناقض تناقضاً فاحشاً كما عرف له ذلك في غير موضع فإنه قال في كتاب "الضعفاء" بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم وقال ما حكيت عنه فيما تقدم أنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه في آخر الكتاب فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به فأن الجرح لا أستحله تقليداً والذي اختاره لصاحب هذا الشأن أن لا يكتب حديثاً واحداً من هؤلاء الذين سميتهم فإن الراوي لحديثهم داخل في قوله –صلى الله عليه وسلم- "من حدث بحديث عني وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" هذا كله كلام الحاكم أبي عبد الله صاحب "المستدرك" وهو متضمن أن عبد الرحمن بن زيد قد ظهر له جرحه بالدليل وأن الراوي لحديثه داخل في قوله –صلى الله عليه وسلم- "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" انتهى. فتبين من كلام العلماء حملة السنة وأهل الجرح والتعديل الذين حفظ الله بهم الدين عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الزائغين أن هذا الحديث موضوع مكذوب لا يعتمد عليه وأقل أحواله أن يكون ضعيفاً ولا نقول على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حديث لا نجزم بصحته وثبوته وإن كان قد صححه الحاكم فالجرح مقدم على التعديل مع أنه قال في عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما قال فنأخذ بقوله مع أقوال أئمة هذا الشأن ولا نأخذ بغلطه وخطئه فإذا عرفت هذا وتحققته فالصحيح المأثور عن أئمة التفسير على قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} أن هذه الكلمات هي المفسرة بقوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} وهذا مروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي وخالد بن معدان وعطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد وعن ابن عباس قال علم شأن الحج وعن عبد الله بن عمر أنه قال: قال يا رب خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل كتبته عليك قبل أن أخلقك، قال فكما كتبته عليّ فاغفر لين قال فذلك قوله {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} وعن ابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قال آدم –عليه السلام- ألم تخلقني بيدك؟ قيل له بلى ونفخت في من روحك قيل بلى وعطست فقلت رحمك الله وسبقت رحمتك وكتبت علي أن أعمل هذا؟ قيل له بلى قال أفرأيت أن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال نعم، وكذا رواه العوفي وسعيد بن مبعد ورواه الحاكم في مستدركه إلى ابن عباس وروى ابن أبي حاتم حديثاً مرفوعاً شبيهاً بهذا وعن مجاهد قال الكلمات "اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك إني ظلمت نفسي فتب عليّ أنت التواب الرحيم، هذا ما عليه المفسرون لا ما قاله هذا الأحمق فإن كان بعض من لا بصيرة له قد ذكره فالحجة فيما ثبت عن الصحابة وعن سلف الأمة وأئمتها ولا يجوز تفسير القرآن بأقوال شاذة أو موضوعة لا تثبت عند أهل العلم والحديث وأئمة التصحيح والتجريح. انتهى. وقد روي في بعض طرقه هذا الحديث الموضوع أنه لما خرج آدم من الجنة رأى مكتوباً على ساق العرش وعلى كل موضع في الجنة محمد –صلى الله عليه وسلم- مقروناً باسمه تعالى فقال يا رب هذا محمد هو قول الله ولدك الذي لولاه ما خلقتك فقال يا رب بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد فنودي يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفعناك ذكر هذا في "المواهب اللدنية" وجوابه أن يقال هذا من غلط ما قبله من الموضوعات المكذوبات التي لا أصل لها في الكتاب والسنة ولا رواها أحد ممن يعتمد عليه من الأئمة فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه في الحكم والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فصل قال الملحد: التاسع ما رواه البخاري وجمهور أهل الحديث في حديث الشفاعة أن الخلق بينما هم في هول القيامة استغاثوا بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى كلهم يعتذرون فيقول عيسى اذهبوا إلى محمد فيأتون إليه فيقول "أنا لها" الحديث وقد سلم ابن تيمية بهذا الحديث وما كابر بإنكاره. والجواب أن نقولك قال بعض المحققين من أهل العلم في جوابه: إن استغاثة الناس بالنبي –صلى الله عليه وسلم- قبله بآدم ثم بنوح إلى آخر حديث الشفاعة فهذه شفاعة بالدعاء والاستغاثة بما يقدر عليه المستغاث مستحسنة عقلاً وشرعاً ومن ذلك الوقفة يستغيث بعضهم بعضاً أي في مهماتهم التي يقدرون عليها وكذلك ما طلب الناس وهي الشفاعة التي هي الدعاء ولذلك يقول سيد الشفعاء –صلى الله عليه وسلم- في آخر الحديث "فأجئ فأسجد وأنه يلهمه الله من الثناءؤ والدعاء شيئاً لم يفتحه لغيره –صلى الله –عليه وسلم- فعند ذلك يأذن الله في الشفاعة ويقول له كما ورد في الحديث: يا محمد "ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع" وهذا ظاهر جداً. فصل قال الملحد: العاشر روى الطبراني عن زيد بن عقبة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ضل أحدكم شيئاً أو أراد عوناً وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل يا عباد الله أعينوني فإن لله عباداً لا يراهم". انتهى. والجواب أن نقول: قد روي من طرق أخرى منها ما رواه ابن مسعود عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا انفلتت دابة أحدكم في أرض فلاة فليناد يا عباد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 احبسوها" وفي رواية "إذا أعيت فليناد يا عباد الله أعينوا" وفي رواية "فإن الله حاضر سيحبسها" وكل أسانيد هذه الروايات لا تخلو من مقال وعلى تقدير صحتها فليس فيه إلا نداء الأحياء والطلب منهم ما يقدر هؤلاء الأحياء عليه وذلك مما لا يجحد أحده، وأين هذا من الاستغاثة بأصحاب القبور من الأولياء والصالحين؟ وكون المراد بعباد الله رجال الغيب كما زعم بعض المتصوفة فهو مردود بل هو من الخرافات ومثله زعم وجود الأوتاد والأقطاب والأربعين وما أشبه ذلك، فإن قيل إن عباد الله المذكورين غائبون وأنتم تمنعون من دعاء الأموات والغائبين. فالجواب أن نقول: هؤلاء ليسوا بغائبين وعدم رؤيتهم لا يستلزم غيبتهم فإنا لا نرى الحفظ ومع ذلك فهم حاضرون ولا نرى الجن ومع ذلك فهم حاضرون وكذلك الشياطين والهواء ونحو ذلك فإن علة الرؤية ليس هو الوجود فقط وأيضاً فإن الأسباب الظاهرة العادية ولا خلاف بين أهل العلم في جوازها فلا حجة لهم في هذا الحديث ولا متعلق لهم فيه بوجه من الوجوه والله أعلم. وهذه الاحاديث التي ذكرها هذا الملحد التي وعد بها في فصل لزيارة أنه يدحض بها حجة شيخ الإسلام ويرد بها ضلالة على زعمه وهي كما ترى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاء لم يجده شيئاً وهذه حال حجة كل مشبه لا يعتمد فيها على كتاب الله وعلى ما صح من سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وإنما يعتمدون على مثل هذه الأحاديث الموضوعة والأكاذيب المصنوعة وعلى ما يتناولونه من الأقوال التي تأولها بعض المحرفين لمعاني كلام الله ورسوله وذلك لا يجديهم شيئاً عند التحقيق إذ لا قوام له على منهج الطريق التي سلكها المحققون من أهل الكمال والعلم والتدقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 بطلان جواز التوسل من الناحية العقلية ... فصل: بطلان التوسل من الناحية العقلية قال الملحد: فهذه عشرة من مئات وفي كل واحد من هذه العشرة معنى من معاني التوسل. وأزيدك إقناعاً إن شاء الله بمثل أضربه لك من نفسك وهو لو قال لك سلطان قد أمرت وزيري فلاناًَ أن يرفع لك حوائجك فأقضي ما أريد وأرد ما أريد فارفع أنت حوائجك وهو يرفعها إليّ فهل ترى من الأدب والطاعة والحزم امتثال أمره وطاعة مرسومه أم رده مخالفته بقولك لا أفعل ذلك ولا يكون بيني وبينك واسطة لأني أعتقد أن فيه شركاً بسلطانك؟ إخالك تدرك ما في هذا الرد من الفتح لأنك خالفت الأمر وتمردت عن الطاعة واستحقرت مقام وما لا يحسب ولعمرك إن فعلت ذلك وقعت في مثل الحفرة التي وقع فيها إبليس وأنت تحسب انك أحسنت صنعاً فتأمل أرشدني الله وإياك والحمد لله على إحسانك. والجواب أن نقول: قد بينا فيما تقدم أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً ولما ذكر شيخ الإسلام والمنع والتوسل والتشفع بغير الله وأن ذلك هو الذي أوقع الأمم السابقة في الشرك وذكر من الآيات والأحاديث الثابتة في الصحيحين ما يدل على ذلك أنكر عليه هذا الملحد وزعم أن هذا ضلال وتحريف لكلام الله ورسوله وزعم أنه سيدحض حجة شيخ الإسلام ويبين ضلاله وتحريفه لكلام الله ورسوله فذكر هذه الأحاديث الضعيفة التي لا يستدل بها إلا الضعفاء المنتسبين إلى العلم من الغلاة المحرفين لكلام الله ورسوله ثم أردف هذه الأحاديث بهذا المثل الذي ضربه لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 مثلاً وقد قال الله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا للهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وسوى بين الله وبين خلفه فيما لا يقدر عليه إلا الله، وقد حكى الله سبحانه وتعالى عن المشركين المتخذين أولياء من دونه أنهم يقولون في النار لمن يعبدونهم {تَالْلهِ إِنْ كُنَّا ضَلالٍ مُبِينٍ , إِذْ نُسَوِيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ , وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ , فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ , وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} الآية فصار بما ذكر أنه يرد قول شيخ الإسلام ضحكة للساخرين وأعجوبة للمتعجبين سبحان من طبع على قلوب أعدائه للمتعجبين سبحان من طبع على قلوب أعدائه فأضلهم وأعمى أبصارهم فبعداً للقوم الظالمين! وقد سبقه إلى هذا المثل أناس قبله ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم أنهم يحسنون صنعاً فأجابهم على ذلك خلفاء الرسل وورثة الأنبياء ومصابيح الدجى فجزاهم الله عن الإسلام وأهله خيراً قال شيخ الإسلام وهؤلاء المشبهون شبهوا الخالق بالمخلوق وجعلوا لله أنداداً وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس على أحد وجوه ثلاثة أما لأخبارهم من أحوال الناس ما لا يعرفون ومن قال إن الله لا يعرف أحوال العباد حتى يخبره بذلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين. الوجه الثاني: أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته ودفع أعاديهم إلا بأعوان يعينونه فلا بد له من أعوان وأنصار لذله وعجزه والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الذين زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي الْسَّمَاوَات وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ظَهِيرٍ} وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكَاً فِي الْمُلْكِ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الْذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرَاً} وكل ما في الوجود من الأسباب فهو سبحانه خالقه وربه ومليكه فهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم والله سبحانه ليس له شريك في الملك لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولهذا لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لا ملك ولا نبي ولا غيرهما فإن من يشفع عند غير بغير إذنه فهو شريك في حصول المطلوب لأنه أثر فيه بشفاعته حتى جعله يفعل ما يطلب منه والله سبحانه وتعالى لا شريك له بوجه من الوجوه ويسمى الشفع شفيعاً لأنه يشفع غيره أي يصير له شفعاً قال الله تعالى: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} وكل من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه. الوجه الثالث: أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليه ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظ أو من يدل عليه بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته إما لما يحصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير وإما لما يحصل له من الرغبة والرهبة من كلام المدلول عليه والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو إذا أجرى نفع العباد بعضهم على أيدي بعض فنجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك فهو الذي خلق ذلك كله وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي والشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أو يعلمه ما لم يكن يعلمه أو من يرجوه الرب ويخافه، ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فالله لا مكره له" والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَ} وقال تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الْشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} بخلاف الملوك فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك وقد يكون شركه لهم في الملك وقد يكون مظاهراً لهم معاوناً على ملكه وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك لهم والملك يقبل شفاعتهم تارة على إنعامهم عليه حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك ويقبل شفاعة مملوكه فإنه إن لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه أو أن يسعى في ضرره وشفاعة العبادة بعضهم عند بع كلها من هذا الجنس فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة والله تعالى لا يرجو أحداً ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد بل هو الغني قال تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلهِ مَنْ فِي الْسَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الْظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} إلى قوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآية وقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ} استفهام إنكار، أي ليس متبع الذين يدعون من دون الله شركاء حجة ولا برهاناً ما يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون بين الله تعالى أن من دعا من دون الله شركاء فليس معه علم، ليس معه إلا الظن والخرص، والظن المقرون بالخرص هو ظن باطل غير مطابق للحق، فإن الخرص هنا معني الكذب، كقوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} ومن ظن أن "ما" هنا نافية فقد فسر الآية بما هو خطأ كما قد بسط في غير هذا الموضع، والمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الشفاعة عند المخلوق. قال تعالى: {وَيَعْبُدُنَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤلَاءِ شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللهِ , قُلْ أَتُنَبِئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلمُ فِي الْسَّمَاوَاتَ وَلَا فِي الْأَرَضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} وقال عن صاحب يس {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ , أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ , إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} الآية وقال {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ، وأخبر عن المشركين أنهم قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً , أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} فأخبر أن من يدعي من دونه لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه فقد نفى سبحانه ما أثبتوه من توسط الملائكة والأنبياء إلى أن قال: والمقصود هنا أن من أثبت بين الله تعالى وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك بل هذا دين المشركين عباد الأوثان وكانوا يقولون إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وأنها وسائط يتقربون بها إلى الله تعالى وهو الشرك الذي أنكره الله تعالى على النصارى حيث قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} ثم ذكر آيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 في المعنى، وهذا الذي قاله الشيخ لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنما اشتبه الأمر على هؤلاء الضلال لما قدم العهد ونسي العلم واعتادوا سؤال غير الله فيما يختص به تعالى ونشأوا على ذلك وبما ذكره شيخ الإسلام كفاية لمن أراد الله هدايته، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً. فصل ثم ذكر هذا الملحد بعد هذا المثل الذي ضربه كلاماً لا فائدة في جوابه، ثم قال: البحث الرابع في الاستغفار والاستشفاع وأن كان فيما تقدم عن التوسل كفاية لإثبات جواز الاستغفار والاستشفاع لكني رأيت في كلام الله تعالى وكلام رسوله -عليه الصلاة والسلام- ما نفرد معناه عن معنى التوسل الذي يذهب إليه العوام كما تقدم فأفردته في هذا البحث وبالله المستعان "سؤال": هل جاء في القرآن العظيم والحديث الشريف وقوع الاستشفاع والاستغفار لا مع الأنبياء وغيرهم لأحد من الناس؟ فإن قلت نعم قلنا حيث إن الوهابية وإخوانهم لا ينكرون هذا النوع لكنهم يحظرون طلبة بواسطة أحد فهل جاء في القرآن العظيم والحديث الشريف ما يبيح الطلب؟ والجواب: أن كلا النوعين وارد في القرآن العظيم والحديث الشريف وفي وفي بعض ما جاء فيها ليس إباحة فقط بل أمر بالطلب ولا يخفاك أن كل ما جاء بصيغة الأمر قد يكون فرضاً وقد يكون واجباً، وإليك بيان كل نوع من الترتيب النوع الأول: الشاهد الأول قال الله تعالى في سورة المؤمن {الَّذِِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيسْتَغَفِرُونَ للَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر الآيات الثلاث، ففي هذه الآيات جمع أمور الثلاثة التوسل بقوله {رَبَّنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وَسِعْتَ كُلَّ شَيْئٍ} وطلب المغفرة بقولهم {فَاغْفِرْ} والشفاعة بقولهم {وَأَدْخِلْهُمْ وَقِهِمُ الْسَّيِّئَاتِ} فهخذا ما أخبر الله به عن حملة عرشه وغيرهم ومثل هذا في أول سورة الشورى. والجواب: أنا قد بينا فيما تقدم الدلائل الشرعية والبراهين العقلية على بطلان دعوى هذا الملحد من جواز طلب التوسل والاستشفاع والاستغفار من الأموات والغائبين ولكن ننبه على ما ذكره في هذا البحث بعض التنبيه والإشارة على بطلان ما افتراه وادعاه على كتاب الله وسنة رسوله على جواز ذلك والأمر به. أما قوله: النوع الأول الشاهد الأول قال الله تعالى في سورة المؤمن {الَّذِِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} إلى آخر كلامه فجوابه أن استغفار الملائكة للذين آمنوا أمر لهم من الله سبحانه وتعالى بهذا الطلب والسؤال وهو من أفضل العبادات وأشرفها فإن الملائكة يسألون الله ويطلبونه بفعل ما أمرهم به من الاستغفار للمؤمنين ولم يطلبوا من الله سبحانه ويسألوه أن يغفر لهم بحق أحد من خلقه أو بجاهه من الأموات ولا من الغائبين فقياس طلب الملائكة الأحياء المأمورين بهذا الطلب من أفسد القياس وأبطل الباطل وأضل الضلال ولا يقول مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن طلب الملائكة المأمورين بالاستغفار للمؤمنين إذا كان جائزاً أو مأموراً به أنه يدل على جواز طلب الأحياء من البشر والاستغفار من الأموات والغائبين من الأنبياء والأولياء وغيرهم هذا لا يقوله أحد يؤمن بالله واليوم الآخر فبطل ما موه به هذا الملحد من الاستشهاد بالآية لأن هذا طلب من حي قادر على ذلك مأمور به، وأما الطب من الأموات والغائبين فلم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة والا التابعبين لأنه أمر غير مقدور عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ولا مأمور به ومن أجاز ذلك فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ولا شرعه رسوله –صلى الله عليه وسلم- لأمته فيكون باطلاً مردوداً والذي ذكره المفسرون على هذا الآيات على قوله تعالى: {الَّذِِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر الآيات يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حملة العرش الأربعة ومن حوله من الملائكة الكروبيين أنهم يسبحون بحمد ربهم أي يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح ويؤمنون به أي خاشعون له أذلاء بين يديه وأنهم يستغفرون للذين أي من أهل الأرض ممن آمن بالغيب فقيض الله تعالى ملائكته المقربين يدعون للمؤمنين بظهر الغيب ولما كان هذا من سجايا الملائكة –عليهم الصلاة والسلام- كانوا يؤمنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب كما ثبت في صحيح مسلم إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله إلى أن قال ولهذا يقولون إذا استغفروا للذين آمنوا {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمَاً} أي رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك أي فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا فيه واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات وترك المنكرات وقهم عذاب الجحيم –أي وزحزحهم عن عذاب الجحيم وهو العذاب الموجع الأليم- ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلاح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم –أي اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة كما قال تبارك وتعالى {والَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَتُهُمْ بِإيمَانِ أَلْحَقْنَا ذُرِّيَتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْئٍ} أي ساوينا بين الكل في المنزلة لتقر أعينهم، وما نقصنا العالي حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 يساوي الداني، بل رفعنا ناقص العمل فساريناه بكثير العمل، تفضلاً منا ومنة، وقال سعيد بن جبير: أن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه أين هم؟ فيقال إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل، فيقول: إني إنما عملت لي ولهم فيلحقون به في الدرجة، ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية {رَبَّنَا وَأدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلُحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ إِنَّكَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: انصح عباد الله للمؤمنين الملائكة، ثم تلا هذه الآية {رَبَّنَا وَأدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} الآية، واغش عباده للمؤمنين الشياطين. وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي الذي لا يمانع ولا يغالب وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الحكيم في أقوالك وأفعالك من شرعك وقدرك {وَقِهِمُ الْسَّيِّئَاتِ} أي فعلها، ووبالها ممن وقعت منه {وَمَنْ تَقِ الْسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أي لطفت به ونجيته من العقوبة {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} انتهى من تفسير العماد بن كثير الشافعي –رحمه الله تعالى-، وليس فيما ذكره المفسرون شيء مما ذكره هذا الملحد ولا فيه إذا سأل الملائكة ربهم للمؤمنين الاستغفار أنه يجوز قياساً على هذا سؤال الأموات والغائبين من الأنبياء والأولياء والصالحين الاستغفار والاستشفاع بهم، هذا لم يقله أحد من المفسرين، وإنما يقوله أمثال هؤلاء الغلاة المحرفين لكلام الله ورسوله، فلا يعتمد على قوله وعلى نقلهم بل هو من البدع المحدثة في الإسلام فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه والله أعلم. ثم قال الملحد: الثاني: قال الله تعالى في سورة الشعراء عن لسان خليله إبراهيم –عليه السلام- {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْضَّالِينَ , وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 فهذا الخليل –عليه السلام- مع علمه بإصرار أبيه على الشرك ما ترك الإلحاح على ربه بنجاة أبيه، وهذا الطلب من الخليل جاء في بضع مواضع من القرآن. والجواب أن يقال: هذا من جنس ما قبله فغن الخليل –عليه السلام- إنما طلب الله وسأله، ولم يسأله بأحد من الأموات والغائبين، ثم لماتبين أنه عدو لله تبرأ منه، فأي دليل في هذا على طلب الاستغفار من الأنبياء والأولياء من الأموات والغائبين لو كان أهل الشرك يعلمون؟ وكذلك ما ذكره بقوله في سورة هود قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} ، بل أثنى عليه بقوله {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} وهذه المدافعة تكررت منه أيضاً –عليه السلام-، فيقال لهذا الملحد: أي دليل في هذا على دعاء الأموات والغائبين؟ غاية ما في هذه الآية دعاء إبراهيم ربه أن يدفع عنهم العذاب، وإلحاحه في ذلك، وليس فيه أنه توسل بأحد من الخلق إلى الله أن يدفع عنهم العذاب ولا أنه إذا كان دعاء الله جائزاً مأموراً به مشروعاً طاعة لله وعبادة أنه يجوز للمخلوق أن يسأل الأموات والغائبين فيما لا يقدرون عليه قياساً على دعاء إبراهيم ربه، فإن هذا من أفسد القياس، فإن إبراهيم دعا إلهاً حياً قادراً بيده الأمر وإليه يرجع الأمر كله، والمخلوق الميت ليس بيده شيء من الأمر، ولا قدرة له على شيء بعد موته، فسبحان الله ما أعظم شأنه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وكذلك قوله في الاستشهاد والرابع في سورة التوبة قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية إلى آخر كلامه. فيقال: وهذا من جنس ما قبله فإن رسول –صلى الله عليه وسلم- إنما سأل الله فأي دليل في هذا دليل على سؤال غير الله والطلب منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ثم قال: الخامس في سورة الأعراف {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} فهذا موسى –عليه السلام- يطلب لقومه مغفرة ذنب طلبهم رؤية لله تعالى وعبادتهم العجل، وما أنكر الله عليه ذلك بل أجاب على الشروط المذكورة بعد هذه الآية. فيقال لهذا الذي أعمى الله بصيرة قلبه: وهذا من جنس ما قبله ليس فيه إلا دعاء الله، وطلبه المغفرة للمذنبين من قومه، وهذا من أفضل العبادات وأجلها، ولا مانع من ذلك فإن هذه عبادة مأمور بها، وإذا كان، وإذا كان هذا عبادة لله مأموراً بها فكيف يقاس عليها سؤال المخلوق الميت العاجز الذي قد انقطعت حركته وعمله وهو لم يكن طاعة لله ولا عبادة له ولا مأموراً بها، بل هي معصية لله مخالفة ما أمر الله به ورسوله؟ وكذلك قوله: السادس في سورة نوح {رَبِّ اغْفِرْ لِي} الآية وجوابه في هذا ما تقدم، وكذلك قوله: السابع في آخر سورة المائدة قول المسيح –عليه السلام- {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية فهذا المسيح –عليه السلام- يطلب المغفرة لقومه، فهذا شفقة الأنبياء والرسل ورحمتهم بأممهم، عظيم ما يفعلون، وقبيح، وقبيح ما يعتقدون، وأي خسران أقبح ممن يجيد عن سنتهم ولا يجعلهم وسيلة إلى ربه، وجوابه، عن هذه ما تقدم الأجوبة، نقول: أي خسارة أخسر من خسارة من سوى بين الله وبين خلقه وجعلهم وسيلة ووسائط فيما لا يقدر عليه إلا الله وقد أمر الله بدعائه واستغفاره ونهى أن يدعى معه أحد غيره، فكيف يقاس ما نهى عنه على ما أمر به، فإن هذا طاعة، وهذه معصية، ثم ذكر آيات في النوع الثاني المؤمنين على نحو ما سبق، ثم قال هذا استنباط ألقاه الله في روعي ولم أره في كلام أحد فهذا يكفي في جوابه أنه مما ألقي في روعه ولم يقله أحد قبله فكان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وحي الشيطان وإلقائه، قال الله تعالى، قال الله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} الآية ولو كان هذا الاستنباط مما يذكره العلماء ويجوز الاستدلال به لسبقه إلى ذلك سابق، ولو واحداً، فكيف ولم يسبقه إليه أحد، وهذا يكفي في بطلانه وعدم إدراكه للعلوم الشرعية، والأقوال المرضية، ثم ذكر من الأحاديث ما رواه مسلم –رحمه الله- عن عمر –رضي الله عنه- حديثاً طويلاً أن الرسول –عليه الصلاة والسلام- قال لعمر وعلي –رضي الله عنهما- "إذا لقيتما أويس القرني فاسألاه أن يستغفر لكما" الحديث بتمامه، وكذلك ما ذكر من السير وأخبار الصحابة ووفود المسلمين، وسؤالهم من النبي –صلى الله عليه وسلم- الاستغفار فهذا كله لا حجة فإنه سؤال من حي قادر، على الدعاء وعلى ما ينفع المسلم به أخاه المسلم، وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك، وتقول ادع الله، كما كان الصحابة يسألونه في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا إنهم سألوه ذلك، بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسهن وكذلك ما ذكره عن البزار وأبي منصور البغدادي وابن سعد عن ابن مسعود –رضي الله عنه- والسيوطي في "الجامع الصغير" عن جماعة حديث "حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا أنا مت كانت فآتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فإن رأيت خيراً حمد الله تعالى، وإن رأيت شراً استغفرت لكم" وجوابه أن يقال هذا الحديث لم يذكر له إسناداً ولا بد من ذكر إسناده، ومعرفة رواته، وإذا لم يذكر ذلك فلا حجة فيه، ولا يعتمد على مثله إلا بعد ذكر رواته، وأنهم عدول أثبات لا مطعن فيهم ولا مغمز، فلا يعتمد على مثله، وعلى تقدير صحته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وثبوته فليس فيه إلا أنه –صلى الله عليه وسلم- إذا رأى شراً استغفر لأمته، ولم يأمر –عليه الصلاة والسلام- من أذنب أن يسأله الاستغفار، ولا أن يتوسل به ويستشفع به، فلا يكون فيه حجة على طلب ما لم يأمر به، ومن زعم ذلك فقد افترى على الله وعلى رسوله، وقال ما لا علم له به لأن ذلك لم ينقل عن أحد من أصحابه، ولو كان ذلك مشروعاً مطلوباً لكانوا أسبق النار إليه، وأرغبهم فيه، وإذا لم يكن ذلك منقولاً عن أحد منهم كان ذلك دليلاً على عدم مشروعيته والله أعلم، وكذلك ما ذكر في الحديث الرابع من أن امرأة أتت النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال له يا رسول الله صل عليّ وعلى زوجي، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "صلى الله عليك وعلى زوجك" فهذا ليس فيه إلا الدعاء، لها ولزوجها، وهذا لا ينكره أحد، ولا نزاع في جوازه في حياته، وأما بعد وفاته فممنوع لما تقدم من الأدلة المانعة من ذلك، وهذه الآيات التي ذكرها هذا الملحد كذلك، والأحاديث التي تقدم ذكرها على تقدير صحتها وثبوتها ليس فيها ما يدل على مطلوبه، ولكن من يرد الله فتنته فلن تملك من الله شيئاً ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور, قال الله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ , وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وهذا الضرب من الناس قد انتكست قلوبهم وعمي عليهم مطلوبهم وغلظ من معرفة الله ودينه وشرعه حجابهم، وكثر في باب العقائد الديانات اضطرابهم، ولا عجب من ذلك فإنهم قد كانوا من الهمج الرعاع، اتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق من الفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فصل : الصلاة على النبي صلى الله علية وسلم وحكمها ثم قال الملحد: البحث الخامس في الصلاة على الرسول –صلى الله عليه وسلم- قد علمت مما تقدم أن الوهابيين وإخوانهم قالوا بتحريم الصلاة على الرسول –صلى الله عليه وسلم-، وتكفير من يفعل ذلك، وهذا كفر صريح منهم، لأنه إنكار أمر واجب في محكم القرآن إلى آخر ما هذي به. والجواب أن تقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} وقد بينا فيما تقدم أن هذا من الكذب الموضوع على الوهابية، وأنه مما افتراه عليهم أعداء ورسوله، الذي ينفرون الناس عن الدخول في دين الله {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} وإذا كان ذلك وتحققت أن الوهابية لا يحرمون الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- بل يوجبونها، ويرون أن خطبة الجمعة لا تنعقد لا بذكر الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم-، وأنها عندهم ركن في الصلاة لا تتم الصلاة ولا تستقيم بدنها فاعلم أن من العلماء من يوجبها، ومنهم من لا يجوبها، ومن أوجبها منهم لم يكفر من لم يوجبها، ولم يقل إن ذلك معاداة للنبي –صلى الله عليه وسلم-، وبغض له، أو تنقض بحقه، وسنذكر من كلام العلماء ما يبين ذلك يوضحه. قال في "الجواب الباهر" الوجه الخامس: أن الكلام في الأحكام الشرعية مثل كون الفعل واجباً أو مستحباً أو محرماً أو مباحاً لا يستدل عليه إلا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، والإجماع والاعتبار، والأدلة الشرعية كلها مأخوذة عن الرسول –صلى الله عليه وسلم-، فالمتكلمون فيها سواء اتفقوا أو اختلفوا كلهم على الإيمان بالرسول وبما جاء به ووجوب اتباعه، وأن الحلال ما حلله، والحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ما حرمه، والدين ما شرعه فالكلام فيها يستلزم الإيمان بالأنبياء وموالاتهم، ووجوب تصديقهم، واتباعهم فيما أوجبوه وحرموه، والقائل منهم عن فعل أنه حرام أو مباح أو اجب إنما يقول أن الرسول حرمه أو أباحه أوجبه، ولو أضاف الإيجاب والتحريم والإباحة إلى غير الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يلتفت إليه، ولم يكن من علماء المسلمين، وأهل الإسلام متفقون على هذا الأصل سنيهم وبدعيهم كلهم متفقون على وجوب ما بلغه الرسول عن الله وعلى الاستدلال بالقرآن والسنة المعلومة المفسرة لمجمل القرآن، وأما المخالفة لظاهر القرآن فمن الخوارج من نازع فيها، وهو فاسد من وجوه كثيرة، ومن رد نصاً إنما يرده أما كونه لم يثبت عنده عن الرسول أو لكونه غير دال عنده على محل النزاع، أو لاعتقاده أنه منسوخ، ونحو ذلك كما قد بسطت الكلام على ما كتبته في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" وبينت أعذارهم في هذا الباب، وإن كان الواجب هو اتباع علم من الصواب مطلقاً، والكلام في ذلك سواء تعلق بحقوق الرب أو حقوق رسوله أو غير ذلك لا يدخل شيئاً من ذلك في مسائل سب الأنبياء وتنقصهم رسوله أو غير ذلك لا يدخل شيئاً من ذلك ي مسائل سب الأنبياء وتنقصهم ومعاداتهم، وإن كان المتكلم من هؤلاء مخطئاً فإن مصيبهم ومخطئهم إنما مقصوده اتباع الرسول، وتحريم ما حرمه، وإيجاب ما أوجبه، وتحليل ما حلله، وهذا مستلزم الإيمان بالرسول، وموالاته وتعظيمه فكيف يتصور مع ذلك أن يكون قاصداً لمعاداته أو سبه أو التنقص به أو غير ذلك، هذا ممتنع ولهذا لم يكن في المسلمين من جعل أحداً من هؤلاء سباباً للأنبياء، معادياً، وإن قدر لم يكن في المسلمين من جعل أحداً من هؤلاء سباباً للأنبياء، معادياً لهم، وإن قدر أنهم أخطأوا، وهذا أمر واضح يعرفه آحاد الطلبة فإذا تكلم العلماء في الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- هل هي واجبة في الصلاة أو غير واجبة في الصلاة كقول الجمهور لم يقل أحد أن من لم يوجبها فقد تنقص الرسول أو سبه أو عاداه والذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 لم يوجبوها في الصلاة منهم من أوجبها خارج الصلاة، ومنهم من لم يوجبها يحال، وجعل الأمر في الآية أمر ندب، وحكحى الإجماع على ذلك، وقد بالغ القاضي عياض في تضعيف قول الشافعي بإيجابها في الصلاة وقال حكى الإمام أبو جعفر الطبري والطحاوي وغيرهما إجماع جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- وغيرهما إجماع جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- في التشهد غير واجبة، وقال وشذ الشافعي في ذلك فقال: من لم يصل على النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد الأخير وقبل السلام فعلاته فاسدة، وإن صلى عليه قبل ذلك لم يجره، قال: ولا سلف له في هذا القرآن، ولا سنة يتبعها قال: وقد بالغ في إنكار هذه المسألة عليه مخالفته فيها من تقدمه جماعة، وشنعوا عليه الخلاف لحاصل فيها، منهم الطبري والقشيري وغير واحد، وشنعوا عليه الخلاف الحاصل فيها، منهم الطبري والقشيري وغير واحد، قال: وقال أبو بكر بن المنذر يستحب أن لا يصلي أحد صلاة إلا صلى فيها على النبي –صلى الله عليه وسلم-، فإن ترك تارك ذلك فصلاة مجزئة في مذهب مالك وأهل المدينة والثوري وأهل الكوفة من أهل الرأي وغيرهم، وهو قول جملة أهل العلم، وحكي عن مالك سفيان أنها في التشهد لا خير مستحبة وأن تاركها في التشهد مسيء قال وشذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة، وأوجب استحقاق الإعادة مع تركها دون النسيان، قلت: وأحمد عنه في المسألة ثلاثة روايات كالأقوال الثلاثة اختار كل رواية طائفة من أصحابه، وذكر محمد بن المواز قولاً له كقول الشافعي قال: وقال الخطابي ليس بواجبه في الصلاة، وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، قال: ولا أعلم له فيها قدوة، وحكى الوجوب عن أبي جعفر الباقر وأنه قال لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي –صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته لرأيت أنها لم تتم، وقال القاضي عياض: اعلم أن الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- فرض على الجملة، مرغب فيه غير محدود بوقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 لأمر الله تعالى بالصلاة عليه، وحمل الأئمة والعلماء له على الوجوب وأجمعوا عليه، وحكى أبو جعفر الطبري أن محمل الآية عنده على الندب، وادعي فيه الإجماع فهذا بعض كلام العلماء في مثل هذه وحكايات إجماعات متناقضة، ومع هذا فلم يقل أحد أن من لم يوجب الصلاة عليه فقد تنقصه أو سبه أو عاداه ونحو ذلك، فإنهم كلهم قصدهم متابعته كل بحسب اجتهاده –رضي الله عنهم أجمعين-، وكذلك تنازعوا هل تكره الصلاة عليه عند الذبح فكره ذلك ما لك وأحمد وغيرهما. قال القاضي عياض: وكره ابن حبيب ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- إلا على طريق وكره سحنون الصلاة عليه عند التعجب قال: ولا يصلى عليه إلا على طريق الاستحباب، وطلب الثواب، وقال أصبغ عن ابن القاسم: موطنان لا يذكر لا يذكر فيهما إلا الله الذبح والعطاس، فلا يقال فيهما بعد ذكر الله محمد رسول الله، ولو قال بعد ذكر الله محمد رسول الله لم يكره تسميته له مع الله، وقال أشهب: لا ينبغي أن تجعل الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- استناناً قلت: والشافعي لم يكره ذلك، بل قال هو من الإيمان، وهو قول طائفة من أحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا. انتهى. وأما ما ذكر من الأحاديث الواردة في فضل الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- فلا ننكر ما ثبت بالأسانيد الصحيحة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه، بل نؤمن بها ونصدق بها وقد ألف شمس الدين بن قيم الجوزية –رحمه الله تعالى- في ذلك مؤلفاً سماه "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام" وفيه ما يشفى المؤمن ويكفيه عما صنفه الغلاة ممن لا معرفة لديه بصحيح الأخبار وضعيفها، وذكروا فيها من الأحاديث والأخبار التي لا يصح منها شيء، ولا يعتمد على نقل رواتها لأنهم ليسوا من أهل العلم المحققين فلا حاجة بنا إلى شيء ويكفينا ما ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 خلفاء الرسل ورثة الأنبياء الذين هم معالم الهدى ومصابيح الدجى، الذين أزال الله بهم عن سنته تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين وتحريف الغالين، فهم الأسرة وبهم القدوة. وأما ما ذكر من المؤلفات كدلائل الخيرات وغيرها مما ذكر فدلائل الخيرات قد ذكر كثير من العلماء أن أكثر ما فيها من الموضوعات والمكذوبات وأن فيها من الغلو والإطراء ما لا ينبغي للمؤمن أن يقوله أو يعتمد عليه لعدم صحته وثبوته، ولمخالفته ما كان عليه العلماء المحققون من أهل السنة والجماعة وقد نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن إطرائه والغو فيه، قال –صلى الله عليه وسلم- "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" والأحاديث في ذلك كثيرة. وأما قوله وكذلك شروح الصلاة المشيشية وعده الرسائل التي للإمام السيوطي، فقد كفانا عن النظر فيها ما ألفه شمس الدين بن القيم لأنه من العلماء المحققين، والجهابذة المتقنين الذابين عن دين الله ورسوله ما انتحله المبطلون وحرفه الغالون ممن لا يوثق بنقلهم ولا يعتمد على مثلهم في العلوم الشرعية والمباحث الدينية. وأما قوله: وللشيخ يوسف النبهاني حفظه الله فمن شاء فليراجع إليها فليستضيء من أنوارها ويرتوي من رحيقها. فالجواب: أن يقال من يوسف النبهاني وما يوسف؟ لا أكثر اله في الناس أمثاله، وقطع دابره وشتت أوصاله، ومن كان على طريقته ونحلته من أحزابه وإخوانه وأهل ملته، لأنهم من الغواة الصعافقة المتعلمين، ومن أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الجهالة المتمردين الغالين، المتبعين غير سبيل المؤمنين، والسالكين على طريق الغلاة من المشركين {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً , إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} وكان هذا الرجل المسمى بيوسف النبهاني من أهل فلسطين، من أنباط قرية أجذم من أهل حيفا ثم سكن في بيروت، وكان قاضياً فيها يحكم بالقانون، ويدع الحكم بكتاب الله وسنة رسوله؛ ومن العجب العجاب أن هذا الرجل يدعى محبة النبي –صلى الله عليه وسلم- ووضع فيه مدائح تجاوز فيها الحد وأفرط فيها، والحد، ومع ذلك يحكم بالقانون المخالف، لشريعة الرسول، لمأخوذ عن حكم الإفرنج من النصارى ويدع حكم الله ورسوله، وهذا من أشنع التناقض وأبشعه، وصنف كتاباً في الاستغاثة بالنبي –صلى الله عليه وسلم-، ورد عليه أئمة أهل الإسلام وبينوا ما في كتابه من الأغلاط والأوهام والغلو المفرط الذي خرج به من دين المسلمين إلى دين عباد القبور من المشركين، وكان في عقيدته على طريقة أهل الاتحاد كابن عربي وأمثاله من أهل الكفر والعناد {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ , فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} وهم من أكفر خلق الله على الإطلاق، ومن أهل الزندقة والنفاق، وكان يجحد علو الله على خلقه واستوائه وعلى عرشه، وأنه ليس فوق السماء إله يعبد، ولا يصلى له ويسجدج، بل ليس فوقه عندهم إلا العدم المحض وبيان ذلك بقوله في رائيته الصغرى: وهم باعتقاد الشرك أولى لقصرهم ... على جهة للعلو خالقنا قصرا هو الله رب الكل جل جلاله ... فما جهة بالله من جهة أخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 تأمل تجد هذي العوالم كلها ... بنسبة وسع لله كالذرة الصغرى فحينئذٍ أين الجهات التي بها ... على الله من حمق بهم حكموا الفكرا وإن اختلافاً للجهات محقق ... فكم ذا من الأقطار قطر علا قطرا وكل علو فهو سفل، وعكسه ... وقل نحو هذا في اليمين وفي اليسرى فمن قال علو كلها فهو صادق ... وذلك قد يقضي بآلهة أخرى فمن يا يرى باشرك أولى اعتقادهم ... أولئك أم أصحاب سنتنا الغراء وقد أجبته على رائيته بنحو من أربع مائة بيت ونيفاً فأدحضت حجته وبينت ضلالته، ولله الحمد والمنة، فهل يسوغ لمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن ينتقل عمن هذه حاله وهذا دينه وطريقته ونحلته أو يحرض على النظر في كتبه المشتملة على الكفر بالله والشرك به؟ ولكن هذا الرجل الذي ألف هذه الرسالة إن لم يكن أسوأ حالاً منه فليس دونه وهذا الرجل وأمثاله من الغلاة والضالين والغواة المبطلين من الذين قال الله فيهم {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوابِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ , وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 فصل : احمد بن زيني دحلان من أئمة الضلال وأما ما ذكر عن طاغيتهم وإمام كفرهم كفرهم وضلالهم أحمد بن زيني دحلان بقوله: قال السيد أحمد دحلان –رحمه الله-: وحاصل مذهب أهل السنة والجماعة والشيعة أيضاً صحة التوسل وجوازه النبي –صلى الله عليه وسلم- في حياته وبعد وفاته، وكذا بغير من الأنبياء والأولياء والصالحين كما دلت عليه الآيات والأحاديث التي لا تحصى، لأنا معاشر أهل السنة لا نعتقد تأثيراً ولا خلقاً ولا نفعاً ولا ضراً لغير الله وحده، لا شريك له، ولا فرق عندنا في التوسل بالنبي –صلى الله عليه وسلم- وغيره كما لا فرق بين كونهم أحياء أو أمواتاً، لأنا نعلم أن لا أثير لهم بشيء، وتوسلنا بهم لكونهم مقربين عند الله، مكرمين لديه، ولا نرتاب بأن جاههم عند الله محفوظاً بعد موتهم كما كان في حياتهم وهذا ليس فيه من الشرك، لكن الشرك المحض هو عند من يجوزون التوسل بالأحياء دون الأموات، ويعتقدون أن لهم تأثيرهم وبيدهم نفع وضر بل يعتقدون تأثير الأعراض والجمادات كالعدوى وأمثالها والتوسل والتشفع والاستعانة كلها عندنا بمعنى واحد، والفاعل المطلق هو الله تعالى. والجواب: أن يقال: أولاً تسمية عباد القبور أهل سنة وجماعة جهل عظيم بحدود ما أنزل الله على رسوله، وقلب للمسميات الشرعية وما يراد من الإسلام والإيمان والشرك والكفر، قالله تعالى {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} وهذا وأمثاله أجدر من أولئك بالجهل وعدم العلم بالحدود، لغربة الإسلام، وبعد العهد بآثار النبوة، وأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 السنة والجماعة هم أهل الإسلام والتوحيد، المتمسكون بالسنن الثابتة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-في العقائد والنحل والعبادات الباطنة والظاهرة الذين لم يشوبوها ببدع أهل الأهواء وأهل الكلام في أبواب العلم والاعتقادات، ولم يخرجوا عنها في باب العلم والإرادات، كما عليه جهال أهل الطرائق والعبادات فإن السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وما سنة أو أمر به من أصول الدين وفروعه حتى الهدى والسمت، ثم خصت في بعض الإطلاقات بما كان عليه أهل السنة من إثبات الأسماء والصفات، خلافا للجهمية المعطلة النفاة، وخصت بإثبات القدر ونفي الجبر، خلافا للقدرية النفاة، وللقدرية الجبرية العصاة، وخصت أيضاً على ما كان عليه السلف الصالح في مسائل الإمامة والتفضيل، والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهذا من إطلاق الاسم على بعض مسمياته لأنهم يريدون بمثل هذا الإطلاق التنبيه على على أن المسمى ركن أعظم وشرط أكبر، كقوله "الحج عرفة" أو لأنه وصف الفارق بينهم وبين غيرهم ولذلك سمى العلماء كتبهم في هذه الأصول كتب السنة ككتاب السنة للالكائي، والسنة لأبي بكر الأثرم، والسنة للخلال، والسنة لابن خزيمة والسنة لعبد الله بن أحمد، ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم، وغيرهم، وإذا كان الحال كما ذكرنا فقوله: وحاصل مذهب أهل السنة والجماعة والشيعة أيضاً صحة التوسل وجوازه بالنبي –صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته، وكذا بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، يريد به هذا الملحد ما سيأتي في كلامه من أن دعاء الصالحين والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله، يسمى توسلاً عنده وتشفعاً، وهذا فرار منه أن يسمى شركاً وكفراً، وهذا من جنس جهله بالأسماء والمسميات، وسيأتيك رد كلامه هنا، وأن التوسل صار مشتركاً في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 عرف كثيرين، وأن العبرة بالحقائق لا بالأسماء، وأن الله سمى هذا شركاً وعبادة لغيره في مواضع من كتابه، فإياك أن تغتر بالإلحاد، وتغيير الأسماء، فقف مع الحدود الشرعية، واعتبر بالحقائق تعرف أن هؤلاء مشركون وثنيون عباد قبور، ولا يستريب في ذلك جاهل بأصل الإسلام لم يدر ما جاءت ما جاءت به الرسل الكرام وهذا الضرب من الناس أعني عباد القبور يحسنون الظن بأنفهم ويرون أنهم أهل سنة وجماعة وهكذا أهل كل ملة ونحلة وبدعة وقد قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً , الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} ، وقال تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وما أحسن قوله في قضائه بين إبراهيم وقومه {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ومن عادة هؤلاء الزنادقة الملحدين إذا رأوا عبارة في مدح أهل السنة والجماعة وعدم تكفيرهم ادعوها لأنفسهم وشيعتهم من عباد القبور والصالحين والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور. فإذا تبين لك ما ذكرنا فاعلم أن التوسل في عرف عباد القبور اليوم واصطلاحهم هو دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين لكونهم أسبابً ووسائل لنيل المقصود وإلا فهم يعتقدون أن الله هو النافع الضارة وأنه المتفرد بالإيجاد والإعدام وأن الله هو الخالق للأشياء وأن الله هو رب كل شيء ومليكه لا يعتقدون أن آلهتهم التي يدعونها من دون الله من الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السماوات والأرض ولا استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد فمن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك بل هذا دين عباد الأوثان، وأما قوله ولا فرق عندنا في التوسل بالنبي –صلى الله عليه وسلم- وغيره كما لا فرق بين كونهم أحياء وأمواتاً لأنا نعلم أن لا تأثير لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 بشيء إلى آخره. فالجواب: أن يقال هذا تخليط وهذيان فإن الله لم يجعل للعباد قدرة على ما يختص به من الإغاثة المطلقة وأما الإغاثة بالأسباب العادية وما هو في طوق البشر وقدرتهم فهذا ليس الكلام فيه، والأموات لا قدرة لهم على الأسباب العادية وما هو في طوق البشر وقدرتهم والمسلمون متفقون على قول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن يؤمنون بقوله: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} خلق في الحي اختياراً ومشيئة بها يثاب وبها يعاقب بها يكلف والميت ليس له قدرة الحي ولا يكلف بل ينقطع عمله بموته وتُطوى صحيفته ولا يسأل ولا يستفتى ولا يرجع إليه شيء مما للعباد عليه قدرة وسائر الحيوان يفرقون بين الحي والميت وهؤلاء الملاحدة لا يفرقون بين الحي والميت، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} واستغاثة الميت ليست سبباً كاستغاثة المخلوق فيما لا يقدر عليه ولم يجعل هذا سبباً إلا عباد الأصنام الذين هم أضل خلق الله يجعلون الأموات سبباً ووسيلة والميت ليس في شرع الله وما جاءتنا به رسله أن يدعو لمن لمن دعاه والكرامة ليست فعله بل هي فعل الله والمكرم لا يدعى ولا يستغاث به ولا يُرجى لشيء من الشدائد بل هذا فعل المشركين حذو النعل بالنعل كانوا يدعون الصالحين والأنبياء والمرسلين طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤلَاءِ شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللهِ} وقال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} على أن القول بإسناد الغوث إلى الله تعالى إسناد حقيقة باعتبار الخلق والإيجاد وأن الله هو الفاعل حقيقة وغلى الأنبياء والصالحين إسناد مجازي باعتبار التسبب والكسب بديهي البطلان بيانه من وجوه الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 أنه لو كان مناط الإسناد الحقيقي اعتبار الخلق والإيجاد وأن الله هو الفاعل حقيقة كما توهم صاحب الرسالة لزم أن يكون إسناد أفعال العباد كلها إلى الله تعالى حقيقياً فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الخالق لأفعال العباد هو الله تعالى وهذا يقتضي أن يتصف الله تعالى حقيقة بالإيمان والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وصلة الرحم وغير ذلك من الأعمال الحسنة؛ وكذلك يتصف حقيقة بالأعمال السيئة من الكفر والشرك والفسق والفجور والزنا والكذب والسرقة والعقوق وقتل النفس وأكل الربا وغيرها، فإنه تعالى هو الخالق لجميع الأفعال حسنها وسيئها والتزام هذا فعل من لا عقل له ولا دين فإنه يستلزم اتصاف الله تعالى بالنقائص وصفات الحدوث واجتماع الأوصاف المتضادة المتناقضة والثاني لو كان مناط الإسناد المجازي اعتبار التسبب والكسب كما زعم هذا الزاعم لزم أن لا يكون الإنسان حقيقة مؤمناً ولا كافر ولا براً ولا فاجراً ولا مصلياً ولا مزكياً ولا صائماً ولا حاجاً ولا مجاهداً ولا زانياً ولا سارقاً ولا قاتلاً ولا كاذباً، فبطل الجزاء والحساب وتلغو الشرائع والجنة والنار، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين. والثالث: أن دعوى كون الأنبياء والصالحين سبباً للغوث وكسباً، محتاج إلى إقامة الدليل ودونه لا تسمع بالجملة فهذه شبهة داحضة ووسوسة زاهقة تنادي بصوت على صاحبها بالجهل والسفة فتبين مما تقدم الفرق بين الحي والميت وأن الميت لا يقدر على شيء مما يقدر عليه الحي من الأسباب العادية، فإن الأسباب العادية التي يقدر عليها الحي وفي وسعه فهي وإن حصلت من العب فهي حقيقة لا مجاز، ولا ينازع في هذا من عرف شيئاً من اللغة والعبد يفعل حقيقة فيأكل حقيقة ويشرب حقيقة وينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً حقيقة، والله سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 خلق العبد وما يعمل، وهذا معروف من عقائد أهل السنة والجماعة، والمقصود أن هذا الملحد زعم أن طلب المشركين ممن يعبدونه من دون الله ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ليس بشرك لأن الله تعالى هو الفاعل لذلك حقيقة والله سبحانه يعطي لأجلهم إكراماً لهم وهكذا كان المشركون السابقون الذين بعث الله إليهم رسوله –صلى الله عليه وسلم- فإنهم كانوا يعلمون أن الله تعالى هو الخالق الموجد وأما الأصنام وسائر المعبودين من دون الله فيقولون إنها أسباب وسائر عادية فمن أجل ذلك كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم ويعبدونهم وهذا هو دأب عبدة الصالحين في هذا الزمان يدعونهم ويستغيثون بهم وينحرون لهم وينذرون. والدعاء والاستغاثة والنحر والنذر كلها من أقسام العبادة على معناها المجازي فكذلك فليحمل لفظ العبادة الواقع في كلام المشركين الأولين الذين حكى الله تعالى عنهم حيث قال سبحانه وتعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} فما وجه الفرق؟ وأما قوله: ثم أطال الكلام في الرد على ما ينسب للغواء من الأقوال والأعمال التي يتوهمها الخصم من المكفرات وما هي من ذلك بشيء إلى آخر كلامه. فالجواب أن نقول: قد بينا فيما تقدم أن ما يفعله عوام هؤلاء المشركين وخواصهم الغلاة من الأفعال والأقوال الشركية أنه هو عين الشرك المخرج من الملة ولا ينفعهم مع ذلك اعتذار هؤلاء الملاحدة عنهم أن هذا مجازي لأن معهم حقيقة التوحيد والإيمان وذلك أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلون ويزكون ويحجون البيت الحرام وهذا لا ينفعهم مع وجود الحقيقة الكفر بالله ورسوله كما لا ينفعهم المنافقين الذين كانوا على عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- وقد كانوا يتلفظون بالشهادتين ويصلون ويزكون ويجاهدون مع النبي –صلى الله عليه وسلم- وهم مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ذلك في الدرك الأسفل من النار وكذلك بنو عبيد القداح ملوك مصر كانوا يتلفظون بالشهادتين ويصلون الجمعة والجماعة وينصبون القضاة ويتظاهرون بالشغسلام فلما أظهروا أشياء تخالف الشرع دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين. وبينا فيما تقدم أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر إجماعاً. وفيما ذكرناه كفاية لمن أراد الله هدايته ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً، والمقصود بما كتبناه أن يتبين لمن هداه الله وكان خلياً من التعصب وليس له قصد إلا بيان الحق ووضوحه ضلال هؤلاء وتحاملهم على عباد الله الموحدين بمجرد الظلم والعدوان ومحض الأكاذيب والبهتان وأما هؤلاء الذين أعمى الله بصائرهم وختم على قلوبهم فهم كما قال فيهم {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ونحن نعلم أنه لا يزيدهم هذا إلا تكبراً وعناداً وتمادياً في الباطل وارتداداً لأنه قد انتكست عن معرفة الحق قلوبهم وتمادت في الباطل وعمي عليهم ملطوبهم فهم في سكرتهم يعمهون وفي تربيتهم يترددون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 مسائل هامة مدخل ... مسائل هامة عن: 1- التكفير والتفسيق. 2- الحب والبغض في الله. 3- الهجران على المعاصي. 4- حكم لبس العمائم والعصائب. من تأليف العالم العلامة، الحبر الفهامة الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله من مطبوعات حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم سعود بن عبد العزيز آل سعود أيده الله تعالى 1377هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وعليه نتوكل الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فقد تأملت ما ذكره الأخ من المسائل التي ابتلي بالخوض فيها كثير من الناس من غير معرفة ولا إتقان ولا بينة ودليل واضح من السنة والقرآن، وقد كان غالب من يتكلم فيها بعض المتدينين من العوام الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام ولا خبرة لهم بمسالك مهالكها المظلمة العظام، وليس لهم اطلاع على ما قرره أئمة الإسلام ووضحوه في هذه المباحث التي لا يتكلم فيها إلا فحول الأئمة الأعلام، وهذه المسائل قد وضحها أهل العلم وقرروها، وحسبنا أن نسير على منهاجهم القديم ونكتفي بما وضحوه من التعظيم والتفهيم ونعوذ بالله من القول على الله بلا علم، وهذه المسائل التي أشرت إليها لا يتلكم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب ونحن وإن كنا لسنا من أهل هذا الشأن ولا ممن يجري الجواد في مثل هذا الميدان فإنما نسير على منهاج أهل العلم ونتكلم بما وضحوه في هذا البابل، ولولا ما ورد عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في ذلك بقوله: "من سئل عن علم وهو يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار" لضربت عن الجواب صفحاً ولطويت عن ذلك كشحاً ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولا بد من ذكر مقدمة نافعة ليعلم من نصح نفسه وأراد نجاتها أن المبادرة بالتكفير والتفسيق من غير اطلاع على كلام العلماء لا يتجاسر عليه إلا أهل البدع الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 مرقوا من الإسلام ولم يحققوا تفاصيل ما في هذه المسائل المهمة العظام مما قرروه وبينوه من الأحكام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه- في "منهاج السنة" بعد أن ذكر أقوال أهل البدع كالمعتزلة والخوارج والمرجئة، وذكر كلاماً طويلاً ثم قال: "وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية، وربما يعاقبون لما ابتعوا أهواءهم بغير هدى من الله لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه. ولهذا قال الشافعي لئن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيها كفرت. فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً ومن ممادح أهل السنة أنهم يخطئون ولا يكفرون وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفراً وقد يكون كفراً لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق والآخر لم يتبين له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله" إلى آخر كلامه. والمقصود أن من مذاهب أهل البدع وطرائقهم أنهم يكفر بعضهم بعضاً ومن ممادح أهل السنة أنهم يخطئون ولا يكفرون فإذا تحققت هذا وجعلته نصب عينيك أفادك الحذر كل الحذر من الغلو والتعمق ومجاوزة الحد في هذه المسائل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فصل: الكفر الذي يخرج من الملة قال السائل: المسألة الأولى: ما نكفر الذي يخرج من الملة والذي لا يخرج في قولهم: الكفر كفران وكذا الفسق فسقان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 والجواب أن نقول: هذه المسألة قد أجاب عنها شيخنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في رسالته للخطيب وذكر ما ذكر شمس الدين ابن القيم –رحمه الله تعالى- في كتابه "الصلاة" فقال رحمه الله تعالى-: "الأصل الرابع: أن الكفر نوعان: كفر عمل وكفر جحود وعناد وهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله مجرداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له وهذا مضاد للإيمان من كل وجه وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وتقل النبي وسبه، وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر لا كفر اعتقاد وكذلك قوله: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" وقوله: "من أتى كاهناً أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد –صلى الله عليه وسلم-" فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر وقد سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه وترك العمل بالبعض مؤمناً بما عمل كافراً بما ترك العمل به قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ , ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} الآية فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه وهذا يدل على تصديقهم ببه وأخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقاً آخرين وأخرجوهم من ديارهم وهذا كفر بما أخذ عليهم ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب وكانوا مؤمنين بما أخذ عليهم في الكتاب وكانون مؤمنين بما أعملوا من الميثاق كافرين لما تركوه منه فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي، وفي الحديث الصحيح "سباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 المسلم فسوق وقتاله كفر" وجعل أحدهما فسوقاً لا يكفر به والآخر كفراً ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان، وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمها فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقاً أخرجوا عن الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقاً جعلوه مؤمنين كاملي الإيمان فأولئك غلوا وهؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى، والقول الوسط، الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل، للطريقة المثلى، فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم فعن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: ليس هذا هو الكفر الذي تذهبون إليه رواه عنه سفيان وعبد الرزاق، وفي رواية أخرى: كفر لا ينقل عن الملة، وعن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا بين في القرآن لمن تأمله، فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافراً وسمى الكافر ظالماً في قوله {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً وقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وقال يونس –عليه السلام- {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، وقال آدم {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} وقال موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم، وسمى الكافر فاسقاً في قوله {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} ، وقال {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وسمى العاصي فاسقاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وقال في الذين يرمون المحصنات {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقال {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وليس الفسوق كالفسوق، وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة وهوالشرك بالله الأكبر، وشرك لا ينقل عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء وقال تعالى في الشرك الأكبر {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} وقال {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} الآية وقال في الشرك والرياء {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ، وفي الحديث "من خلف بغير الله فقد أشرك" ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار ومنه هذا قوله –صلى الله عليه وسلم- "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" فانظر كيف انقسم الكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة وإلى ما ينقل عنها، وكذلك النفاق نفاقان. نفاق اعتقاد ونفاق عمل، ونفاق اعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع، وأوجب لهم عقاب الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل جاء في قوله –صلى الله عليه وسلم- "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإذا ائتمن خان" وكقوله –صلى الله عليه وسلم-: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذاب وإذا اؤتمن خان وإذ وعد أخلف" قال بعض الأفاضل: وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 خالصاً. انتهى. فانظر رمك الله إلى ما ذكره العلماء من أن الكفر نوعان كفر اعتقاد، وجحود وعناد فأما كفر الجحود والعناد فهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه، وأما النوع الثاني فهو كفر عمل، وهو نوعان أياً كان: مخرج من الملة وغير مخرج منها، فأما النوع الأول فهو يضاد الإيمان كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه، والنوع الثاني كفر عمل لا يخرج من الملة كالحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة، فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد، وكذله قوله: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقوله: "من أتى كاهناً فصدقه وأتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل الله على محمد –صلى الله عليه وسلم-" فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف –رحمه الله-، لكن ينبغي وإن كان الكل يطلق عليه الكفر إلى آخر –رحمه الله-، لكن ينبغي أن يعلم أن من تحاكم إلى الطواغيت أو حكم بغير ما أنزل الله، واعتقد أن حكمهم أكمل وأحسن من حكم الله ورسوله، فهذا ملحق الكفر الاعتقادي المخرج عن الملة كما هو مذكور في نواقض الإسلام العشرة، وأما من لم يعتقد ذلك لكن تحاكم إلى الطاغوت وهو يعتقد أن حكمه باطل فهذا من الكفر العملي. فإذا تبين لك هذا فاعلم أن الإيمان أصل له شعب متعددة كل شعبة منها تسمى إيماناً فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق فمنها ما يزل الإيمان بزواله إجماعاً كشعبة الشهادتين ويكون إليها أقرب، ومنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ما يلحق شعبة إماطة الأذى عن الطريق، ويكون إليها أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وكذلك الكفر أيضاً ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلياً من شعب الإيمان ولا يسوى بينها في الأسماء والأحكام، وفرق بين من ترك الصلاة والزكاة والصيام والشرك بالله واستهان بالمصحف، وبين من سرق أو زنى أو شرب أو انتهب أو صدر منه نوع من موالاة كما جرى لحاطب، فمن سوى بين الإيمان في الأسماء والأحكام أو سوى بين شعب الكفر في ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن السبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء، وقد تبين مما قدمناه من كلام ابن القيم وكلام شيخنا الشيخ عبد اللطيف أن الكفر كفران، وأن الفسق، والشرك شركان، والظلم ظلمان، والنفاق نفاقن، على ما ذكراه من التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم إلا عنهم، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقاً أخرجوا من الله بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار وفريقاً جعلوهم مؤمنين كاملي والإيمان فأولئك غلوا وجفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 فصل: حكم التحاكم إلى الطاغوت وأما المسألة الثانية وهو قول السائل: ما التحاكم إلى الطاغوت الذي يكفر به من فعله من الذي لا يكفر: فالجواب أن نقول: قد تقدم الجواب عن هذه المسألة مفصلاً في كلام شمس الدين بن القيم وكلام شيخنا فراجعه، واعلم أن هذه المسألة مزلة أقدم ومفضلة أفهام، فعليك بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. فصل وأما المسألة الثالثة وهي قول السائل: ما الأعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام ما حكمه هل يطلق على معرض أم لا؟ فالجواب أن نقول: هذه المسألة هي مسألة الجاهل المعرض، وقد ذكر أهل العلم أن الأعراض نوعان نوعان يخرج من الملة، فأما الذي يخرج من الملة فهو الأعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، كما هو مذكور في نواقض الإسلام العشرة، وهذا المعرض هو الذي لا إرادة له في تعليم الدين، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه بل هو راض بما هو من الكفر بالله والإشراك به لا يرثره غيره، ولا تطلب نفسه، وأما الذي لا يخرج من الملة فهو المعرض العاجز عن السؤال والعلم الذي يتمكن به من العلم والمعرفة مع إرادته للهدى وإيثاره له، ومحبته له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 لكنه غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم المرشد وقد ذكر ابن القيم –رحمه الله تعالى- "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" وفي طبقات المكلفين من كتاب "طريق الهجرتين" أن القسم الثاني من العاجزين عن السؤال والعلم الي يتمكن به من العلم والمعرفة قسمان أيضاً، أحدهما مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم المرشد، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، وممن لم تبلغه الدعو، الثاني معرض لا إرادة ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي، والثاني راض بما هو عليه لا يؤثره غيره ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز وهذا لا يجب أن ييحلق بالأول لما بينهما من الفرق، فالأول كمن طلب الدين في الفترة فلم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغه الوسع في طلبه عجز الطالب وعجز المعرض، وهذا ملخص ما ذكره ابن القيم وقد ذكرنا بتمامه في جواب المسألة التي سأل عنها أحمد بن دهش فراجعه فيها، لكن ينبغي أولاً أن يعلم أن العوام من المسلمين، وكذلك البوادي ممن كان ظاهره الإسلام لا يكلفون بمعرفة تفاصيل الإيمان بالله ورسوله، وتفاصيل ما شرعه الله من الأحكام، لأن ذلك ليس في طاقتهم ولا في وسعهم، بل يكتفي منهم بالإيمان العلم المجمل كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه- في كتابه "الإيمان" وقال في "منهاج السنة" لا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول –صلى الله عليه وسلم- إيماناً عاماً مجملاً ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول –صلى الله عليه وسلم- التفصيل فرض على الكفاية، فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث به رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب والحكمة وحفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الذكر والدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين فهو واجب على الكفاية منهم، وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع قدرتهم وحاجتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو فقه دقيق ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوص وفهمها على التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المعنى والمحدث والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك انتهى والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 فصل: الحب والبغض مسألة الرابعة قول السائل: ما الشخص الذي يحب جملة ومن الذي يحب من وجه ويبغض من وجه والذي يبغض جملة؟ والجواب أن نقول: الشخص الذي يحب جملة هو من آمن بالله ورسوله وقام بوظائف الإسلام ومبانيه العظام علماً وعملاً واعتقاداً وأخلص أعماله وأقواله، وانقاد لأوامر الله وانتهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأحب في الله ووالى في الله، وأبغض في الله، وعادى في الله، وقدم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على قول كل أحد كائناً من كان إلى غير ذلك من القيام بحقوق الإسلام وشرائعه، وأما الذي يحب من وجه ويبغض من وجه آخر فهو المسلم الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير، ويبغض ويعادى على قدر ما معه من الشر، ومن لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 يتسع قلبه لهذا كان يفسد أكثر مما يصلح وهلاكه أقرب إليه من أن يفلح وإذا أردت الدليل على ذلك فهذا عبد الله "حمار" وهو رجل من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يشرب الخمر فأتي به إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" مع أنه لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة، وما فيها من الفوائد فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومسير لجهادهم ليتخذ بذلك يداً عندهم، يحمي بها أهله وما له بمكة، فنزل الوحي بخبره، وكان قد أعطي الكتاب ضعينة جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- علياً والزبير في طلب الظعينة وأخبرهما أنهما يجدانها في روضة خاج فكان ذلك فتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتيا به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال: له "ما هذا؟ " فقال يا رسول الله لم أكفر بعد إيمان، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد أحمي بها أهلي ومالي، فقال –صلى الله عليه وسلم-: "صدقكم خلوا سبيله" واستأذن عمر في قتله فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأنزل الله في ذلك صدر صورة الممتحنة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآيات فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة وأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أبلغ بالمودة فإن كل فعل ذلك قد ضل سواء السبيل" لكن قوله: "صدقكم خلوا سبيله" ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذ كان مؤمناً بالله ورسوله، غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قيل: خلو سبيله لا يقال قوله –صلى الله عليه وسلم- لعمر: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" هو المانع من تكفيره لأنا نقول لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من إلحاق الكفر وأحكامه فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} ، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع، فلا يظن هذا ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا –إلى قوله- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم وكان مسطح بن أثاثة من المهاجرين والمجاهدين مع رسول –صلى الله عليه وسلم-، وكان ممن سعى بالإفك فأقام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الحد عليه وجلده، وكان أبو بكر –رضي الله عليه وسلم- ينفق عليه لقرابته وفقره، فآلى أبو بكر أن لا ينفق عليه بعدما قال لعائشة ما قال فأنزل الله {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} فقال أبو بكر: بلى والله، إني أحب أن يغفر الله لي فأعاد عليه نفقته، وأمثال هذا كثير لو تتبعناه لطال الكلام، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإذا كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه فإن الظلم لايقطع الموالاة الإيمانية، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا – إلى قوله- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإن الله بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب له ولأوليائه، والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه، فإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وبر وفجو وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبا الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى ما يكفيه من بيت المال لحاجته، وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس إلا مستحقاً للثواب فقط أو مستحقاً للعقاب فقط، وأهل السنة يقولون: إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة، بفضله ورحمته كما استفاضت بذلك السنة من النبي –صلى الله عليه وسلم- والله أعلم. وقال –رحمه الله- في موضع آخر، ومن سلمك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد يكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويجب من وجه، ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم، كما بسط هذا في موضعه والله أعلم. انتهى. فانظر رحمك الله إلى ما قرره شيخ الإسلام في مسألة الهجران الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الواحد قد يجتمع فيه خير وشر، وبر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة فليستحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ويستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبان الإكرام والأهانة، إلى آخر كلامه، فمن أهمل هذا ولم يراع حقوق المسلم التي يستحق بها الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، وكذلك لم يراع ما فيه من الشر والمعصية والفجور والبدعة وغير ذلك فيعامله بما يستحقه من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فمن ترك هذا وأهمله، سلك مسلك أهل البدع من الخوارج والمعتزلة ومن هذا حذوهم ولا بد. وتأمل قوله هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس إلا مستحقاً للثواب فقط، أو مستحقاً للعقاب فقط فإن هذا مخالفه لما قاله أهل السنة والجماعة، ثم نظر إلى ما يفعله غالب يستعمل الهجر من الناس هل هو متبع لما عليه أهل السنة والجماعة أو متبع لما عليه أهل البدع من الخوارج وغيرهم، وكذلك تأمل قوله –رضي الله عنه- ومن سلك طريق الاعتدال إلى قوله: ويعلم أن الرجل ويبغض من وجه آخر إلى آخر كلامه. يتبين لك معنى ما قدمته لك مما عليه أهل السنة والجماعة ومن خالفهم. وأما الذي يبغض جملة فهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ولم يؤمن بالقدر خيره وشره وأنه كله بقضاء الله وقدره وأنكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 البعث بعد الموت وترك أحد أركان الإسلام الخمسة والشرك بالله سبحانه في عبادته أحداً من الأنبياء والأولياء والصالحين وصرف لهم نوعاً من أنواع العبادة كالحب والدعاء والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر والإنابة والذل والخضوع والخشوع والخشية والرغبة والرهبة والتعلق على غير الله في جميع الطلبات وكشف الكربات وإغاثة اللهفات وجميع ما كان يفعله عباد القبور اليوم اليوم عند ضرائح الأولياء والصالحين وجميع المعبودات وكذلك من ألحد في أسمائه وصفاته واتبع غير سبيل المؤمنين وانتحل ما كان عليه أهل البدع والأهواء المضلة وكذلك من قامت به نواقض الإسلام والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 فصل: الهجر المشروع وغير المشروع "المسألة الخامسة" قول السائل: والهجر هل هو في حق الكافر أو المسلم وإذا كان في حق المسلم العاصي فما القدر الذي ينبغي أن يهجر لأجله وهل يفرق بين الأحوال والأشخاص والأزمات وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والجواب أن نقول: اعلم يا أخي أولاً أن الهجر إن لم يقصد به الإنسان بيان الحق وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحاً وإذا غلظ في ذم بدعة أو معصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيراً والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام كما هجر النبي –صلى الله عليه وسلم- أصحابه الثلاثة الذين خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ثم تاب الله عليهم لبركة الصدق إذا تحققت هذا فالهجر المشروع إنما هو في حق العصاة المذنبين لا في حق الكافر فإن عقوبته على كفره أعظم من الهجر وهجر العصاة المذنبين من أهل الإسلام إنما هو على وجه التأديب فيراعي الهاجر المصلحة الراجحة في الهجر أو الترك كما سيأتي بيانه وهذه المسألة قد كفانا الجواب عنها شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه- فقال الهجر الشراعي نوعان: أحدهما بمعنى الترك للمنكرات والثاني بمعنى العقوبة عليها فالأول هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} الآية فهذا يراد به أنه لا يرى المنكرات بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم أو حضر بغير اختياره ولهذا يقال حاضر المنكر كفاعله وفي الحديث من كان يؤمن بالله اليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه لفعل المنكرات قال النبي –صلى الله عليه وسلم- "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" ومن هذا الباب الهجر من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به ومن هذا قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات فيهجر حتى يتوب منها كما هجر النبي –صلى الله عليه وسلم- والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين من غير عذر ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقاً فهذا الهجز بمنزلة التعزير والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والمتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدعة وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة أن الدعاة إلى البدعة لا تقل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون فهذا عقوبتهم حتى ينتهوا ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم ولهذا جاء في الحديث أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت ولم تنكر أضرت العامة وذلك لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفته كان مشروعاً وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ولهذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- ولهذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يتألف أقواماً ويهجر آخرين وقد يكون المؤلفة قلوبهم أشر حالاً في الدين من المهجورين كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قولهم لكن أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثيرون فكان في هجر عز الدين وتظهيرهم من ذنوبهم ولهذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب المصالح والأحوال وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتجهم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كطذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم وإذا عرف مقصود الريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه وإذا عرف فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله والطاعات لا بد أن تكون خالصة وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صواباً فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به كان خارجاً عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله والهجر لأجل حظ النفس لا يجوز أكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا عن هذا ويصد هذا عن هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث، وفي الصحيح عنه –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تفتح أبواب الجنة كل يوم اثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا" فهذا لحق الإنسان حرام وإنما رخص في بعضه كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت وكما رخص في هجر الثلاث فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق النفس فالأول مأمور به، والثاني منهي عنه لأن المؤمنين إخوة وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً" وقال –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي في السنن "ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 عن المنكر قالوا: بلى يا رسول الله قال "إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" وقال في الحديث الصحيح "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل الله وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإذا كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي وأمر بالإصلاح بينهم فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك فإن الله بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب له ولأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه فإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وبر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبا الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى ما يكفيه من بيت المال لحاجته هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم والخوارج والمعتزلة ومن وافقهم فلم يجعلوا الناس إلا مستحقاً للثواب فقط أو مستحق للعقاب فقط وأهل السنة يقولون إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذب ثم يخرجهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة وبفضله ورحمته كما استفاضت بذلك السنة عن النبي –صلى الله عليه وسلم والله أعلم. انتهى. وأما قول السائل: وإذا كان في حق المسلم المعاصي فما القدر الذي ينبغي أن يهجر لأجله. فنقول: القدر الذي ينبغي أن يهجر لأجله هو ما تقدم ذكره من هجر من يظهر المسكرات حتى يتوب منها لكن ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي متفاوتة في الحد والمقدار فمنها ما هو من قسيم الكبائر ومنها ما هو من قسيم الصغائر فيهجر العاصي على قدر ما ارتكبه من الذنب {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} ولا يسوى بين الذنوب في الهجر ويجعل ذلك باباً واحداً إلا جاهل لأن الهجر من باب التأديب والمقصود به بيان الحق ورحمة الخلق والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره وإذا أفضى ذلك إلى التقاطع والتدابر والتباغض والتحاسد لم يكن الهجر مشروعاً لأن مفسدته أرجح من مصلحته وقد بلغني أن بعض هؤلاء الهاجرين لمن يرتكب شيئاً من الذنوب والمعاصي إذا قال لهم المهجور أستغفر الله وأتوب إليه وأقر على نفسه بالذنب وتاب إلى الله منه لم يقبلوا ذلك منه بل يستمرون على هجره ومعاداته وهذا خلاف ما شرعه الله ورسوله بل هذا من باب التشفي والانتقام لا من باب الرحمة والإحسان بالمسلم والواجب أن ينصح الرجل أخاه المسلم عن هذا الذنب فإن تاب منه فهو المطلوب وإن لم يتب واستمر على معصية هجره حتى يتوب منها إن كانت المصلحة في حقه أرجح وإن لم ينزجر عنها وكانت المفسدة في حقه أرجح من المصلحة لم يكن الهجر مشروعاً كما ذكر ذلك شيخ الإسلام. وقوله: وهل يفرق بين الأحوال والأشخاص والأزمان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 فأقول نعم يفرق بين الأزمان فزمان يهجر فيه وزمان لا يهجر فيه وذلك إذا كان الناس حدثاء عنهد بجاهلية فينبغي أن يراعي في حقهم الأصلح وهو التأليف وترغيبهم في الإسلام ودخولهم فيه وعدم تنفيرهم وليعلموا أن هذه الملة المحمدية حنيفية في الدين سمحة في العمل كما قال –صلى الله عليه وسلم- لما جاء الحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد فقام ينظر إليهم وقال "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني بعثت بحنيفية سمحة" ففي مثل هذه الأزمان لا يستعمل الهجر مع كل أحد لئلا يحصل بذلك عدم رغبة في الدخول في الإسلام وتنفير عنه وكذلك الأشخاص شخص يهجر وشخص لا يهجر كما قال شيخ الإسلام وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قولهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفته كان مشروعاً وإن كان لا المهجو ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجعة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف إلى آخر كلامه وإذا كان ذلك كذلك فهجر القادرات والأكابر الذين يخاف من هجرهم عدم قبول وانقياد ويرون أن في ذلك غضاضة عليهم ونقصاً في حقهم وربما يحصل بذلك منهم تعد بيد أو لسان فلا ينبغي هجرهم لأن من القواعد الشرعية أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وكذلك الأحوال يراعى فيها الأصلح كما يراعى في الأزمان والأشخاص كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا كما كان المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب المصالح والأحوال إلى آخر كلامه فتأمله يزل عنك إشكالات طال ما أعشت عيون كثير من خفافيش الأبصار الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام ولا اطلاع لهم على ما ذكره أئمة أهل الإسلام والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 فصل: اتخاذ بعض الطبقات البسة خاصة تميزهم عن غيرهم إذا تحققت هذا وعرفت ما ذكره شيخ الإسلام من الهجر المشروع وغير المشروع فاعلم يا أخي أن كثيراً من الناس يهجرون على غير السنة وعلى غير ما شرعه ورسوله ويحبون ويوالون ويبغضون ويعادون على ذلك وذلك أن بعض الناس ممن ينتسب إلى طلب العلم والمعرفة أحدث لمن يدخل في هذا الدين شعاراً لم يشرعه الله ولا رسوله ولا ذكره المحققون أهل العلم لا في قديم الزمان ولا في حديثه وذلك أنهم يلزمون من دخل في هذا الدين أن يلبس عصابة على رأسه ويسمونها العمامة وأن ذلك من سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فمن لبسها كان من الإخوان الداخلين في هذا الدين ومن لم يلبسها فليس منهم لأنه لم يلبس السنة وهذا لم يقل به أحد من العلماء ولا شرعه الله ولا رسوله بل هذا استحسان وهذا لم يقل به أحد من العلماء ولا شرعه الله ولا رسوله بل هذا استحسان منهم وظن أنه من السنة وليس هذا من السنة في شيء وبيان ذلك من وجوه: الوجه الأول: أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مكث قبل النبوة أربعين سنة ولباسه لباس العرب المعتاد من الأزر والسراويل والأردية والعمائم وغيرها، ولما أكرمه الله بالرسالة والنبوة ورحم الله الخلق ببعثته ودخل الناس في دين الله أفواجاً وشرع الشرائع وسن السنن لأمته لم يشرع لهم لباساً غير لباسهم المعتاد ولا جعل للمسلمين شعاراً يتميز به المسلمون من الكفار بل استمروا على هذا اللباس المعروف المعتاد إلى انقراض القرون الأربعة وما شاء الله بعدها لم يحدثوا لباساً يخالف لباس العرب ولم يكن من عادتهم لبس المحارم والغتر والمشالح والعبي كما هو لبس العرب اليوم من الحاضرة والبادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الوجه الثاني: ان هذه العصائب على المحارم والغتر وغيرها التي يسمونها العمائم ان كان المقصود بجعلها على الرؤوس وعلى المحارم الاقتداء برسول الله –صلى الله عليه وسلم- في لباسه فهذه لم تكن هي العمائم التي كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وسائر العرب يلبسونها بل تلك كانت ساترة لجميع الرأس وعلى القلانس كما قال –صلى الله عليه وسلم- "فرق ما بيننا وبين الأعاجم العمائم على القلانس" والقلنسوة هي الطاقية في عرفنا وعادة العرب في العمامة أنهم يجلعونها محنكة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في "اقتضاء الصراط المستقيم" قال الميموني: رأيت أبا عبد الله عمامته تحت ذقنه ويكره غير ذلك وقال العرب أعمتها تحت أذاقانها وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد يكره أن لا تكون العمامة تحت الحنك كراهة شديدة وقال إنما يتعمم يمثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس انتهى. فذكر -رحمه الله- ان العمامة من غير تحنيك من زي اليهود والنصارى والمجوس وقد أمرنا بمخالفتهم وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم – يلتحي بها تحت الحنك كما ذكر ذلك ابن القيم – رحمه الله – في "الهدى النبوي" فلإي شيء لم يقتدوا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هذا اللباس على هذا الوضع ان كان المقصود الإقتداء برسول الله – صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثالث: ان يقال لمن أحدث هذه العصائب لو كانت العمائم المعروفة على ما وضعنا ما وجه تخصيص هذه العمائم بالسنية من بين سائر لباس النبي – صلى الله عليه وسلم – من الاردية والقمص والسراويل والازر وغيرها واللائق بالمقتدي ان يلبس جميع ما يلبسه –صلى الله عليه وسلم – ولا يجعل بعضه مسنوناً وبعضه مهجوراً متروكاً؟. الوجه الرابع: انه لما أحدث بعض الفقهاء من الحنابلة وغيرهم شعاراً يتميز به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 المصاب من غيره فيعزى أنكر ذلك المحققون من أهل العلم الذين لهم قدم صدق في العالمين. قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – في "عدة الصابرين": وأما قول كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا بأس لمعرفته يعزى ففيه نظر وأنكره شيخنا ولا ريب أن السلف لم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك ولا نقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين والآثار المتقدمة كلها صريحة في رد هذا القول وقد كره إسحاق بن راهويه أن يترك الرجل لبس ما عادته لبسه وقال هو من السلب وبالجملة فعاداتهم أنهم لم يكونوا يغيرون شيئاً من زيهم قبل المصيبة ولا يتركون ما كانوا يعملونه فهذا منافٍ للصبر والله أعلم. انتهى. فتبين مما ذكره ابن القيم أن أحداث هذا الشعار عند المصيبة لم يكن السلف يفعلون شيئاً من ذلك ولا نقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين فكذلك هذه العصائب المحدثة التي زعموا أنه يتميز بها من دخل في هذا الدين عن من لم يدخل فيه إحداث شعار في الإسلام لم يفعله الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم من العلماء ومن زعم ذلك فعليه الدليل وليبين لنا من ذكره من العلماء في أي زمان وفي أي كتاب وفي أي باب من أبواب العلم. الوجه الخامس: أن لبس العمائم الأردية والأزر وغيرها هو من العادات التي هي من قسيم المباحات التي لا يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها وقد أنكر بعض الجهمية من أهل "عمان" على المسلمين لبس المحارم وشرب القهوة وزعم أن هذه بدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فأجابه به شيخنا الشيخ عبد اللطيف بقوله. وهذا من أدلة جهله وعدم ومعرفته للأحكام الشرعية والمقاصد النبوية فإن الكلام في العبادات لا في العادات والمباحث الدينية نوع والعادات الطبيعية نوع آخر فما اقتضته العادة من أكل وشرب ومركب ولباس ونحو ذلك ليس الكلام فيه والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة ولم يرد بها دليل شرعي من هديه –صلى الله عليه وسلم- وهدي أصحابه وأما ما له أصل كإرث ذوي الأرحام وجمع المصحف والزيادة في أحد الشارب وقتل الزنديق ونحو ذلك فهذا وإن لم يفعل في وقته –صلى الله عليه وسلم- فقد دل عليه الدليل الشرعي وبهذا التقريب تنحل إشكالات طال ما عرضت في المقام: وقال –رحمه الله- في رده على البولاقي "صاحب مصر" في قوله: وها أنتمو قد تفعلون كغيركم ... حوادث قد جاءت عن الأب والجد كحرب ببارود وشرب لقهوة ... وكم بدع زادت عن الحد والعبد قال –رحمه الله تعالى-: واعجب شيء إن عددت القهوة ... مع الحرب بالبارود في بدع الضد وقد كان في الأعراض ستر جهالة ... غدوت بها من أشهر الناس في البلد فما بدع في الدين تلك وإنما ... يراد بها الأحداث في قرب العبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 قد تبين بما ذكره الشيخ أن العادات الطبيعية كالمآكل والمشارب والملابس والمراكب وغيرها والمباحث الدينية والمقاصد النبوية نوع آخر فلا يجعل ما هو من قسيم العادات الطبيعية من العبادات الشرعية الدينية إلا جاهل مفرط في الجهل وأما ما يوردونه من الأحاديث في فضل العمائم فلا يصح منها شيء ولو صحت لكانت محمولة على غير ما توهموه وعلى غير ما فهموه وقد بلغني عن بعض الإخوان أنهم ينكرون ما كان يعتاده المسلمون من لبس العقال سواء كان ذلك العقال أسود أو أحمر أو أبيض ويهجرون من لبسه ويعللون ذلك بأنه لم يلبسه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه ولم يكن ذلك يلبس في عهدهم ولا هو من هديهم وإذا كانت هذه العلة هي المانعة من لبسه فيكون حراماً ولابسه قد خالف السنة فيقال لهم: وكذلك لم يكن الرسول –صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان يلبسون هذه "المشالح" الأحمر منها ولا الأبيض ولا الأسود والعبي على اختلاف ألوانها والكل من هذه الملابس صوف طاهر، وكذلك لم يكون يلبسون الغتر الشمغ على اختلاف ألوانها فلأي شيء كانت هذه الملابس حلالاً مباحاً لبسها وهذه العقل محرمة أو مكروهة لا يجوز لبسها والعلة في الجميع واحدة على زعمهم مع أن هذا لم ينقل عن أحد من العلماء تحريمه ولا كراهته وقد أظهر الله شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب" فدعا الناس إلى توحيد الله وعبادته وقد كانوا قبل ظهوره في أمر دينهم على جهالة جهلاء وضلالة ظلماء فدعاهم إلى الله وإلى توحيده وكانوا قبل دعوته يعبدون الأولياء والصالحين والأحجار والأشجار والغيران وغير ذلك من المعبودات التي كانوا يعبدونها من دون فدعا الناس إلى توحيده وعبادته وبين لهم الأحكام والشرائع والسنن حتى ظهر دين الله وانتشر في البلاد والعباد ولم يكن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وقته أحد يلبس هذه العصائب ولا أمر الناس بلبسها ولا ذكر أنها من السنن ولا أنكر على الناس ما كانوا يعتادونه من هذه الملابس كالعقل وغيرها لأنها من العادات الطبيعية لا العبادات الدينية: فخير الأمور السالفات على الهدى ... وشر الأمور المحدثات البدائع الوجه السادس: أن السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وما سنه أو أمر به من أصول الدين وفروعه حتى الهدي والسمت وعلى هذا فيكون الأصل في موضوعها هو ابتداء فعل أو قول لم يكن قبل ذلك مقولاً ولا مفعولاً ثم صار بعد الأمر بذلك مسنوناً مشروعاً لأن العبادات مبناها على الأمر وبيان ذلك أن الصحابة –رضي الله عنهم- كانوا إذا فات أحد منهم بعض الصلاة مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قضاها قبل السلام فجاء معاذ –رضي الله عنه- وقد فاته بعض الصلاة مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفرغ من الصلاة فقام معاذ فقضى ما فاته منها فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "إن معاذ قد سن لكم سنة فاتبعوها" هذا هو المعروف من لفظ السنة وموضوعها وهذا بخلاف العمائم فإن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يسن لأمته لبسها بل كانت هي عادة العرب قبل الإسلام وبعده فما وجه تسميتها بالسنة وتخصيصها لو كانوا يعلمون وإذا كانوا لا يعلمون أنها ليست سنة فهلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما دواء العي السؤال والله أعلم. وأما قول السائل: وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فنقول: الكلام فيه كالكلام في الأزمان والأشخاص والأحوال يراعي فيه ما هو الأصلح وهو على المراتب الثلاث باليد فإن عجز عن ذلك فباللسان فإن عجز فبالقلب وذلك أضعف الإيمان ولكن ينبغي للآمر والناهي أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 يكون عليماً فيما يأمر به عليماً فيما ينهي عنه حليماً فيما يأمر به حليماً فيما ينهي عنه رفيقاً فيما يأمر به رفيقاً فيما ينهي عنه فمن أهمل كان فساده أكثر من صلاحه، والله أعلم. فصل وأما قوله: "وهل إذا خرج بعض من نزل في دار الهجرة إلى البادية لأجل غنمه في وقت من الأوقات وهو يريد الرجوع يقع عليه وعينه من تغرب بعد الهجرة أم لا؟ ". فالجواب أن يقال: إذا خرج بعض من نزل في دار الهجرة إلى البادية لأجل غنمه ومن نيته الرجوع إلى مسكنه وداره التي هاجر إليها لا يقع عليه وعيد من تعرب بعد الهجرة لأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر" وهذا الذي خرجه إلى غنمه ليصلحها ويتعاهد أحوالها ثم يرجع إلى مهاجره ليس من نيته التعرب بعد الهجرة ولا رغبة عن الإسلام وأهله فلا يدخل في الوعيد وقد اعتزل سعد بن أبي وقاص –رضي الله عنه- أيام الفتنة التي كانت بين علي ومعاوية –رضي الله عنهما- في قصر له في البادية فقيل له في ذلك فقال: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ولا قال له أحد أنك تعربت بعد الهجرة وتركت داره الهجرة لأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد أذن في مثل هذا كما هو مذكور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 في محله في غير هذا الموضع وهذا الذي ذكرناه عن بعض الإخوان لم يكن منا رجماً بالغيب بل قد جاءوا إلينا وسألوا الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف عن هذه المسائل وعن هذه العصائب بخصوصها فأخبرهم أنها ليست من السنة في شيء وإنما هي من العادات الطبيعية لا من العبادات الدينية الشرعية وأغلظ لهم القول لما سألوه عن بعض هذه المسائل وأمرهم أن يتعلموا أصل دينهم الذي يدخلهم الله به الجنة وينجيهم به من النار فإذا تمكن هذا الدين من قلوبهم والجواب عن هذه المسائل وغيرها ممكن سهل وقد نفع الله كثيراً من الإخوان الداخلين في هذا الدين فانزجروا عن تلك الورطات التي من سلكها أفضت به إلى مفاوز الهلكات ولولا ما دفع الله بإغلاظه لهم عنها لا تسمع الخرق على الواقع فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فصل: ابن تيمية لم يقل بفضل العامة ولما انتهينا إلى هذا الموضع من تسويد هذه الأمورات قدم إلينا بعض الإخوان وافداً إلى الأمام ومعه ورقة في فضل العمامة يزعم أنها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس على روحه- فلما تأملتها لم أجد فيها من كلام شيخ الإسلام لفظاً صريحاً إلا ما نقله شارح "الإقناع" عن شيخ الإسلام أنه قال إطالتها – أي الذؤابة بلا إسبال وإن أرخى طرفها فحسن فإن كان فيها من كلام شيخ الإسلام شيء غير هذا فهو لم يعينه ولم يفصله عن غيره حتى يعلم ذلك، نحن نبين إن شاء الله تعالى ما في هذا الكلام من الخطأ وما يناقضه من كلام شيخ الإسلام وهذا نص ما نقله في هذه الورقة قال فيها فائدة: في فضل العمامة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- وقد روحه في أن الاقتداء بأفعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الرسول –صلى الله عليه وسلم- من الأمور المشروعة مقرر في علم الأصول ولاسيما فيما يظهر فيه قصد القربة كما ورد في إرسال الذؤابة في الحديث الذي رواه مسلم عن جعفر بن عمر بن حريث عن أبيه قال كأني أنظر إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه. والجواب عن هذه من وجوه: الوجه الأول: أن هذا الكلام ما يدل على فضل العمامة وإنما فيه أن الاقتداء بأفعال الرسول –صلى الله عليه وسلم- من الأمور المشروعة مقرر في علم الأصول لا سيما فيما يظهر فيه قصد القربة كما ورد في إرسال الذؤابة في الحديث الذي رواه مسلم وهذا لا إشكال فيه فإن إرسال الذؤابة في العمامة مما سنه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وشرعه فالاقتداء به في إرسال الذؤابة لمن كان يعتاد لبسها مسنون مشروع وهذا يدل على فضل إرخاء الذؤابة بين الكتفين لا على فضل العمامة لأن لبس العمامة من العادات الطبيعية لا من العبادات الدينية الشرعية وقد كان رسول –صلى الله عليه وسلم- يلبسها هو وسائر العرب قبل أن ينزل عليه الوحي وقبل أن يشرع الشرائع ويسن السنن. الوجه الثاني: أن لابس هذه العصائب على الغير وغيرها لم يكن مقتدياً برسول الله –صلى الله عليه وسلم- لأن العمامة التي كان يلبسها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كانت ساتر لجميع الرأس وكان يلتحي بها تحت الحنك وهذا بخلاف هذه العصائب واسم العمامة لا يقع إلا على ما وصفنا. الوجه الثالث: أن لبس العمائم والأزر والأردية وغيرها لم يكن من خصائص الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بل كان هذا لباسه مع سائر العرب كما ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ذلك شيخ الإسلام فأي قربة أو فضيلة في الاقتداء فيما كان فعله مشتركاً بين –صلى الله وبين سائر العرب مسلمهم وكافرهم؟ الوجه الرابع: أنا لا ننكر جعل هذه العصائب على الغتر مطلقاً وإنما أنكرنا زعمهم أنها سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- التي سنها لأمته وشرعها وجعل ذلك شعاراً يتميز من دخل في هذا الدين عن من لم يدخل فيه كما بينا بطلان ذلك فيما تقدم وسنبينه فيما بعد إن شاء الله. وأما قوله: وفي "الشمائل" عن هارون الهمداني بإسناده إلى ابن عمر –رضي الله عنهما- قال كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه قال نافع وكان ابن عمر يفعل ذلك قال عبيد الله رأيت سالماً والقاسم يفعلانه. فأقول وهذا ليس فيه إلا إرخاء الذؤابة بين كتفيه –صلى الله عليه وسلم- وهذا حق ولا شك فيه ولا ارتياب أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يفعله والفضيلة إنما هي في الاقتداء به في إرسال العمامة بين الكتفين. وأما قوله: وعن عبد الرحمن بن عوف –رضي الله عنه- قال عمني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم غدير "خم" بعمامة فسدل طرفها على كتفي وقال إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معتمين بهذه العمة وإن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين. فأقول: هذا الحديث فيه ألفاظ تخالف ما ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وتخالف ما ذكره شيخ الإسلام وغيره من العلماء وهي قوله "إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معتمين بهذه العمة وأن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين قال ابن القيم –رحمه الله- في "الهدي النبوي" لما ذكر ما رواه مسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 في صحيحه عن عمر بن حريث قال: رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه وفي مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- دخل مكة وعليه عمامة سوداء ولم يذكر في حديث جابر ذؤابة فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه وقد يقال أنه دخل مكة وعليه هبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية –قدس الله روحه- يذكر في سبب الذؤابة أمراً بديعاً وهو أن النبي –صلى الله عليه وسلم- إنما اتخذها صبيحة المنام الذي رآه في المدينة لما رأى رب العزة تبارك وتعالى فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أدري فوضع يده بين كتفي فعلمت ما بين السماوات والأرض الحديث وهو في الترمذي وسئل عنه البخاري فقال صحيح قال فمن تلك الحال أرخى الذؤابة بين كتفيه وهذا من العلم الذي ينكره ألسنة الجهال وقلوبهم ولم أر هذه الفائدة في شأن الذؤابة لغيره. فذكر –رحمه الله تعالى- أن سبب إرخاء الذؤابة كان صبيحة المنام الذي رآه في المدينة لما رأى رب العزة تبارك وتعالى وفيه فوضع يده بين كتفي قال فمن تلك الحال أرخى الذؤابة وهذا الناقل ذكر وفي الحديث الذي ذكره عن عبد الرحمن بن عوف أن سبب إرخاء الذؤابة لما عممه بها أنها كانت عمة الملائكة الذين أمده الله بهم يوم بدر ويوم حنين ولو كان كان هذا هو السبب في إرخاء الذؤابة لذكره ابن القيم –رحمه الله تعالى- مع أن هذا الحديث لم يعزه إلى كتاب ولا بد من عزوه إلى كتاب من دواوين أهل الحديث المعروفة المشهورة مع تعديل رواته وتوثيقهم وإلا فلا نسلم صحته وذكر في هذا الحديث أن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين فلا أدري ما أراد بهذا الكلام وهل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ثابت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ ثم قال ابن وضاح وساق بسنده عن عاصم بن محمد عن أبيه قال: رأيت على بن الزبير عمامة سوداء قد أرخاها من خلفه قدر ذراع، وهذا الحديث فيه العمامة التي رآها على ابن الزبير عمامة سوداء وهؤلاء لا يلبسون العمائم السود ولا يعصبونها رؤوسهم وغاية ما فيه أنه أرخاها قدر ذراع وهذا لا ينكره أحد ثم قال وقال عثمان بن إبراهيم رأيت ابن عمر يحف شاربه ويرخي عمامته من خلفه، إلى أن قال: وقال بعضهم بين الكتفين وهو قول الجمهور ونص مالك أنها تكون بين اليدين ثم قال لا لون أنها تكون قدر أربع أصابع وقيل إلى نصف الظهر وقيل القعدة. انتهى. وهذا الذي ذكره عن ابن وضاح إن كان النقل عنه ثابتاً بذلك ليس فيه إلا إرخاء الذؤابة وفضيلة إلا الاقتداء برسول الله –صلى الله عليه وسلم- في إرخائها لا في سنية العمامة. وأما قوله قال في "الإقناع" وشرحه: ويسن إرخاء الذؤابة خلفه نص عليه قال الشيخ إطالتها أي الذؤابة بلا إسبال وإن أرخى طرفيها بين كتفيه فحسن. فأقول هذا حق ولا نزاع فيه فإنه لم يذكر في "الإقناع" ولا في شرحه إلا أن إرخاء الذؤابة سنة لقوله ويسن إرخاء الذؤابة أما العمامة فلم يذكر في شأنها شي لأنه قد كان من المعلوم عندهم أن الرسول لم يشرعها لأمته ولا سنها لهم بل كان عادة العرب لبسها في الجاهلية والإسلام. وأما قوله: قال الآجري: وأرخاها ابن الزبير من خلفه قدر ذراع وأنس نحوه ذكره في الأدب ويسن تحنيكها أي العمامة لأن عمائم المسلمين كانت كذلك على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وعدد لف العمامة كيف شاء فإنه في "المبدع" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وغيره وروى ابن حيان في كتاب "أخلاق النبي –صلى الله عليه وسلم-" من حديث عمر كان رسول اله –صلى الله عليه وسلم- يقيم فيدير كور العمامة على رأسه ويعززها من ورائه ويرخي لها ذؤابة بين كتفيه. انتهى. فالجواب أن نقول: وهذا كله إنما هو في سنية إراخاء الذؤابة من خلفه وهذا لا نزاع فيه ولا ينكره منا أحد وليس في جميع ما أورده ها هنا من الأحاديث وكلام العلماء حرف واحد يدل على مشروعية لبس العمامة وأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سنها لأمته قبل أن لم تكن قبل ذلك بل فيه ما ذكرنا آنفاً ولما بلغني خبر هذه الورقة وأنها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ضنت أنه قد جاء بما يناقض ما عندنا في ذلك فلما تأملتها إذ هو قد جاء بكلام لا أدري أهو من كلام شيخ الإسلام أم لا وبأحاديث لا تدل على ما فهمه منها فأخطأ في مفهومه حيث وضع الأحاديث وكلام العلماء في غير موضعها واستدل بها على غير ما تدل عليه فلم يأت الأمر من بابه ولا أقر الحق في نصابه فجعل ما ورد من الأحاديث في الذؤابة وما ذكره العلماء في ذلك نصاً في مشروعية العمامة ولبسها وهم لم يقتدوا برسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيما كان يعتاده من لباسه في العمامة وأنها ساترة لجميع الرأس وأنه كان يلتحي بها تحت الحنك ويتعمم بها على القلنسوة وقد قال –صلى الله عليه وسلم- "فرق ما بيننا وبين الأعاجم العمائم على القلانس" ولم يقتدوا به في لبس الرداء والإزار وغير ذلك مما كان يعتاده من لباسه هو وأصحابه رضي الله عنهم وتركوا هذا كله وعدلوا إلى وضع عصابة على غتر زعموا أنها هي العمامة التي كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يلبسها هو وأصحابه وجعلوا ذلك شعاراً يتميز به من دخل في هذا الدين عن من لم يدخل فيه وهذا هو الذي أنكرناه وقد ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 شيخ الإسلام في "الاختيارات" ما نصه: أن اللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً كما أمر أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في شعورهم وملابسهم فيه مسألتان: المسألة الأولى هل يشرع ذلك استحباباً لتميز الفقير والفقيه من غيره فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التميز عن الأمة وبثوب الشهرة إلى أن يقال: وأيضاً فالتقيد بهذه اللبسة بحيث يكره اللابس غيرها أو يكره أصحابه أن لا يلبسوا غيرها هو أيضاً منهي عنه. فذكر – رحمه الله – أن اللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً إلى آخره أن أكثر الأئمة لا يستحبونه بل كانوا يكرهونه لما فيه التميز عن الأمة وذكر أيضاً أن التقيد بهذه اللبسة بحيث يكره اللابس غيرها أو يكره أصحابه أن لا يلبسوا غيرها هو أيضاً منهي عنه. وهؤلاء ينكرون ما كان يعتاده المسلمون من اللباس كالعقال وغيره ويعللون ذلك لأنه لباس الجند في هذه الأزمان كما ذكروا ذلك في نظمهم وزعموا أنه لا يلبس ذلك إلا أهل الطغيان من الجند الذين هم المجاهدون اليوم في سبيل الله ويسمونهم "الزكرت" ظلماً وعدواناً وتجاوزاً للحد في المقال بغير بينة من الله ولا برهان ثم أوهموا من سمع هذا الكلام أن هذه الأبيات اللاتي ذكرها من كلام بعض العلماء الذين تقدم ذكرهم بقولهم وقال بعضهم هذا تدليس وتلبيس منهم وإيهام لمن لا معرفة لديه ولو أنهم قالوا: وقال بعض الشعراء أو قال فلان ابن فلان شعراً لكان هذا هو الحق وسلموا بذلك عن التلبيس والإيهام. ثم ذكر أبياتاً متكسرة واهية المباني ركيكة المعاني لا تليق إلا بعقل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 أنشأها لقصر باعه وعدم اطلاعه وقد قال الخليل بن أحمد: الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به تحت الحضيض قدمه فلو أنه اقتصر على النثر لكان استزله، وهذا نص الأبيات التي ذكرها: يا منكراً فضل العمامة إنها ... من هدي من قد خص بالقرآن وكذاك كان الصحابة بعده ... والتابعون لهم على الإحسان وكذاك كانت للأفاضل ... بعدهم وسما وزيا سائر الأزمان والله ما في لبسها من ريبة ... لم تبتدع يا معشر الإخوان ليست كلبس الجند في أزماننا ... حاشا وربي كيف يستويان هذي شعار ذوي التقى وذا ... ك للزك وكل ذي طغيان والجواب أن نقول: يا ذاكراً فضل العمامة إنها ... من هدي من قد خص بالقرآن لم تأت بالتحقيق فيما قلته ... في فضلها بل جئت بالنكران إن العمامة لبسها من هديه ... في العادة المعلومة التبيان مثل الرداء وكالإزار وغيره ... من هديه الموصوف بالإحسان والفضل تلك الأحاديث التي ... أوردتها معلومة البرهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 إرخاؤها أعني الذؤابة خلفه ... لا في اعتياد عمامة الإنسان إن العمامة لبسها متقدم ... فيما مضى من سالف الأزمان قبل النبوة ثم فيما بعدها ... لا يختفي إلا على العميان والمصطفى سن الذؤابة بعد ذا ... فيما حكاه العالم الرباني أعني أبا العباس أحمد ذي التقى ... من فاق في علم وفي إتقان لكنكم لم تقتدوا بنبيكم ... في لبسها يا معشر الإخوان ليست محنكة وليست كلها ... للرأس ساترة وذا الوصفان لا بد في لبس العمامة منهما ... في العادة المعلومة التبيان أنتم جعلتم "غترة" من فوقها ... تلك العصابة يا ذوي العرفان والمصطفى والصحب كان معهم ... فوق "القلانس" ليس ذا نكران فتركتموا هذا وجئتم غيره ... بعصابة زياً بلا برهان وجعلتموا هذا شعاراً فارقاً ... بين الأفاضل عن ذوي الطغيان كالمسلمين ذوي الجهاد وغيرهم ... اللابسي زياً من الألوان مثل "العقال" وغيره من زيهم ... مما أبيح لسائر الإنسان يا ويلكم من قال هذا قبلكم ... من كل ذي علم وذي عرفان هذا كلام الشيخ فيما قد مضى ... في النهي عن هذا عن الأعيان من كل ذي فقه وعلم بالذي ... قد قاله من خص بالقرآن هذا ولم ننكر عليكم لبسها ... أعني العصائب معشر الإخوان لكنما الإنكار منا جعلكم ... هذا شعاراً عن ذوي الطغيان أن لا يصيروا مثل هذا الجند في ... هذا اللباس بغير ما برهان بل بالتعمق والتعسف منكمو ... بالرأي تشريعاً من الشيطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 إن لم يكن هذا ابتداعاً منكمو ... في الدين لم يشرع فيا إخواني هاتوا دليلاً واضحاً من سنة ... أو من كلام أئمة العرفان فالحق مقبول وليس يرده ... من كان ذا علم وذا إتقان هذي الروافض والأعاجم كلهم ... يتعممون أهم ذوو إيمان؟ وكذا اليهود فإن تلك شعارهم ... من غير تحنيك لذي الأذقان أفعندكم من كان هذا زيه ... وشعاره من أمة الكفران من خير خلق الله من أهل التقى ... إن كان هذا الزي ذا فرقان والمسلمون التاركون للبسها ... هم أهل هذا الشر الطغيان إذ لم يكن هذا الشعار لباسهم ... مع سائر الإخوان في البلدان والله ما هذي مقالة منصف ... أو خائف من ربه الديان ولقد علمتم أن من إخواننا ... أهل التقى والعلم والعرفان والمنتمين لكل خير في الورى ... في سائر الأوطان والبلدان جم غفير لم يكن ذا زيهم ... من قبل هذا الآن والأزمان حتى أتيتم فابتدعتم هذه ... من غير تحقيق ولا برهان والله ما هذي العصائب سنة ... قد سنها المبعوث بالقرآن كلا ولا هذا الشعار بسنة ... عن فاضل أو عالم رباني فأتوا بحجتكم على ما قلتموا ... أو فارعووا يا معشر الإخوان هذا الذي أدى إليه علمنا ... وبه ندين الله كل أوان ثم الصلاة على النبي "محمد" ... أزكى الورى المولود من "عدنان" والآل والصحب الكرام جميعهم ... والتابعين لهم على الإحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 فصل: المعترض نقل من مجموع المنقور ماله وترك ماعليه ولما فرغنا من تسويد هذه الأوراق وكنا في حال تسديدها قد أحسنا الظن بمن نقلها وبقي في النفس إشكال وتردد هل هذا النقل كله من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه- أم لا حتى بلغني أنه إنما نقل هذه الورقة من مجموع المنفور في مجموعة وقابلنا بينه وبين هذين الورقة المنقولة بمحضر من الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق فإذ هو كتب عن "مجموع المنقور" ما ظن أنه له وحذف منه ما تيقن أنه عليه لا له وهذا بخلاف ما عليه أهل السنة والجماعة قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي –رحمه الله- أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل البدع لا يكتبون إلا ما لهم. وهذا نص ما ذكره "المنقور" في مجموع قال: ومما انتقاه القاضي من خط أبي حفص البرمكي بإسناده إلى أنس بن مالك رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يسجد على كور عمامته، وبإسناده إليه إذا سمعت النداء فأجب وعليك السكينة فإن أصبحت فرجة وإلا فلا تضييق على أخيك وأقر ما تسمع أذنيك وأقر ما تسمع أذنيك ولا تؤذ جارك وصل صلاة مودع ومنها أيضاً سئل ابن تيمية عمن يقرأ وهو يلحن، فأجاب إن قدر على التصحيح صحح وإن عجز فلا بأس بقراءته حسب استطاعته ومن كلام له أيضاً: وبعد فالاقتداء بأفعال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الأمور المشروعة كما هو مقرر في علم الأصول لا سيما فيما يظهر فيه قصد القربة كما ورد في إرسال الذؤابة في الحديث الذي رواه مسلم عن جعفر وابن حريث عن أبيه: كأني أنظر إلى رسول الله –عليه وسلم- على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه وفي "الشمائل" عن هارون الهمداني بإسناده إلى ابن عمر كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا اعتم سدل عمامته بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 كتفيه قال نافع وكان ابن عمر يفعل ذلك قال عبيد الله رأيت سالماً والقاسم يفعلانه وعن عبد الرحمن بن عوف عممني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فسدلها بين يدي ومن خلفي وعن علي قال: عممني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم غدير خم بعمامة فسدل طرفيها على منكبي ثم قال إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معتمين بهذه العمة وأن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين. قال ابن وضاح حدثني موسى حدثنا وكيع حدثنا عاصم بن محمد عن أبيه قال رأيت على ابن الزبير عمامة سوداء قد أرخاها من خلفه قدر ذراع قال عثمان بن إبراهيم رأيت عمر يحف شاربه ويرخي عمامته من خلفه إلى أن قال فهذه الآثار متعاضدة مع ما تقدمها من الأحاديث وهي دالة على استحباب الرسم بالذؤابة لذي الولايات والمناصب والمشار غلبيهم من أهل العلم ليكون ذلك شعاراً لهم ولا يستحب ذلك لآحاد الناس ولهذا ألبسها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- علياً يوم غدير خم وكان فيما بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوداع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فخطب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قائماً وعلي إلى جانبه واقفاً وبرأ ساحته مما كان نسب إليه من معاشرة إمارة اليمن فإن بعض الجيش نقم عليه أشياء تعاطاها هنا من أخذه تلك الجارية من الخمس ومن نزعه الحلل من اللباس لما صرفها إليه نائب فتكلموا فيه وهم قادمون إلى حجة الوداع فلم يفرغ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أيام الحج لإزاحة ذلك من أذهانهم فلما قفل راجعاً إلى المدينة ومر بهذا الموضع ورآه مناسباً لذلك خطب الناس هنالك وبرأ ساحة علي مما نسبوه إليه وهكذا عبد الرحمن ألبسه الذؤابة لما بعثه أميراً على تلك السرية وهكذا يستحب هذا للخطباء وللعلماء شعاراً وعلماً عليهم في صفتها قال بعضهم: تكون بين الكتفين وهو قول الجمهور ونص مالك أنها تكون بين اليدين قال الأولون قدر أربع أصابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 بين الكتفين وقيل إلى نصف الظهر قيل القعدة. انتهى ما ذكره المنقور في مجموعه. ونحن نبين ما في روقته من التدليس والتلبيس والإيهام وما فيها من الغلط والكذب على الأئمة الأعلام وننبه على ما حذفه وتركه مما نقله من مجموع المنقور مما هو عليه لأنه فأما ما ذكره من التدليس والتلبيس والإيهام فهو قوله فائدة في فضل العمامة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى- وقدس روحه وهذا لم يذكره الشيخ "أحمد بن محمد المنقور" في مجموع فأوهم السامع لهذا الكلام أن شيخ الإسلام ذكر هذا في فضل العمامة وهو إنما قاله من تلقاء نفسه وليس هو من كلام شيخ الإسلام ولا من كلام المنقور تدليساً وتلبيساً على خفافيش الأبصار وكذلك أوهم السامع أن هذه الورقة كلها من أولها إلى آخرها من كلام شيخ الإسلام وهو كذب عليه لم تكن هذه الورقة كلها من كلام شيخ الإسلام والذي ذكره أحمد بن محمد إلى أنس بن مالك فذكره ثم قال ومنها أي مما انتقاه القاضي أيضاً سئل ابن تيمية عمن يقرأ وهو يلحن فأجاب: إن قدر على التصحيح صحح إلى آخره ثم قال: ومن كلام له أيضاً وبعد فالاقتداء بأفعال الرسول –صلى الله عليه وسلم- من الأمور المشروعة إلى آخره والظاهر من سياق الكلام أن هذا كله مما انتقاه القاضي من خط أبي حفص البرمكي وليس فيه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية شيء صريح إلا قوله: ومنها أيضاً سئل ابن تيمية عمن يقرأ وهو يلحن إلى آخره فإن كان ما ذكره بقوله ومن كلامه أيضاً من كلام شيخ الإسلام لا من كلام القاضي الذي انتقاه من خط أبي حفص البرمكي فهو إنما يدل على فضيلة الذؤابة بين كتفيه على فضل العمامة ومشروعية لبسها ويكون منتهى ذلك النقل عنه إلى قوله. قال عبد الله رأيت سالماً والقاسم يفعلانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وأما قوله: وفي الشمائل عن هارون الهمداني بإسناده على ابن عمر كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا اعتم إلى آخره، فهذا الحديث قد ذكره الترمذي في الشمائل وليس فيه إلا مشروع إرسال الذؤابة كما تقدم بيانه، وأما قوله: وعن عبد الرحمن بن عوف عممني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فسدلها بين يدي ومن خلفي وهذا الحديث لم نجده في الشمائل في باب ما جاء في عمامة النبي –صلى الله عليه وسلم- إلا أن يكون في غير هذا الموضع فلا أدري. وأما قوله وعن علي قال: عمني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم غدير خم بعمامة فسدل طرفها على منكبي ثم قال إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة متعممين بهذه العمة وأن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين. فأقول: وهذا أيضاً لم نجده في الشمائل على هذا الوضع الذي ذكره والذي ذكره الترمذي –رحمه الله- في جامعه في أبواب اللباس في باب ما جاء في العمامة السوداء فذكر حديث جابر في دخوله مكة يوم الفتح قال وفي الباب عن عمرو بن حريث وابن عباس وركانة حديث حسن صحيح ثم ذكر حديث هارون ثم قال: وفي الباب عن علي ولا يصح حديث علي هذا من قبل إسناده. فذكر –رحمه الله- أن حديث علي هذا لا يصح من قبل إسناده وقد نسبه هذا الناقل في ورقته عن عبد الرحمن بن عوف إما غلطاً وأما تدليساً وتلبيساً على من لا معرفة لديه ومثل هذا الحديث لا يعتمد عليه ولا يذكر إلا مع بيان عدم صحته وأما بدون ذلك فلا يجوز كما ذكره شيخ الإسلام وغيره من العلماء وهؤلاء إنما ذكروه من أجل أن فيه مقالاً لا أن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين، وهذا مع أن الحديث لا يصح ولا يعتمد عليه قد كان من المعلوم بالاضطرار أن المشركين كانوا يلبسون العمائم كما أن المسلمين يلبسونها وكذلك الأئمة، فأي فرق وحاجز بين المشركين والمسلمين وحينئذٍ يتميز به هؤلاء لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 كانوا يعلمون؟ فصل وأما ما حذفه مما نقله من "مجموع المنقور" لما ذكر كلام ابن وضاح إلى قوله قال عثمان بن إبراهيم: رأيت ابن عمر يحف شاربه ويرخي عمامته قال إلى أن قال: فهذه الآثار متعاضدة مع ما تقدمها من الأحاديث وهي دالة على استحباب الرسم بالذؤابة لذي الولايات والمناصب والمشار من أهل العلم ليكون ذلك شعاراً لهم ولا يستحب ذلك لآحاد الناس، ولهذا لبسها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- علياً يوم غدير خم وكان فيما بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوداع في اليوم الثامن عشرين من ذي الحجة فخطب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قائماً إلى جانبه واقفاً وبرأ ساحته مما كان نسب إليه في مباشرته امرأة من اليمن فإن بعض الجيش نقم عليه أشياء تعاطاها هذا من أخذ تلك الجارية الخمس ومن نزعه الحلل من اللباس لما صرفها إليهم نائب فتكلموا فيه وهم قادمون إلى حجة الوداع فلم يفرغ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أيام الحج لإزاحة ذلك من أذهانهم فلما قفل راجعاً إلى المدينة ومر بهذا الموضع ورآه مناسباً لذلك خطب الناس هنالك وبرأ ساحته مما نسبوه إليه وهكذا يستحب هذا للخطباء وللعلماء شعاراً وعلماً عليهم في صفتها. انتهى. وهذا كله خوفه من كلام ابن وضاح الذي ذكره "المنقور" في مجموعة وهذه هي طريقة داود بن جرجيس فيما ينقله من كلام الإسلام ابن تيمية ويتصرف فيه وكذلك عثمان بن منصور فيما ينقله فنعوذ بالله من هذه الطريقة الضالة الكاذبة الخاطئة. ثم ذكر قول ابن وضاح حيث قال: وقال بعضهم بين الكتفين وهو قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الجمهور ونص مالك أنها تكون بين اليدين ثم قال الأولون أنها تكون قدر أربع أصابع وقيل على نصف الظهر وقيل القعدة. انتهى. وهذا آخر ما ذكره المنقور في مجموعه وقد زعم صاحب الورقة أن كلام ابن وضاح هذا مما نقله شيخ الإسلام عنه فذكر منه ما ظن أنه موافق له وأنه لا عليه وحذف منه ما يخالف رأيه حيث قال فهذه الآثار متعاضدة مع ما تقدمها من الأحاديث وهي دالة على استحباب الرسم بالذؤابة لذي الولايات والمناصب المشار إليهم من أهل العلم ليكون ذلك شعاراً لهم ولا يستحب ذلك لآحاد الناس إلى آخر فلو كان هذا النقل ثابتاً عند شيخ الإسلام لكان مناقضاً لمنا ذكره في "الاختيارات" حيث قال إن اللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً كما أمر أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في شعورهم وملابسهم فيه مسألتان، المسألة الأولى هل يشرع ذلك استحباباً بالتمييز للفقير والفقيه من غيره فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة بثوب الشهرة. أقول هذا فيه تفصيل في كراهته وإباحته واستحبابه فإنه يجمع من وجه ويفرق من وجه، ثم ذكر المسألة الثانية: أن لبس المرقعات والمصبغات والصوف إلى آخرها وهذه المسألة ليس النزاع فيها فلا حاجة إلى ذكرها هنا. فذكر –رحمه الله- أن هذا استحباب طائفة من المتأخرين وأما أكثر الأئمة فإنهم لا يستحبون ذلك بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وبثوب الشهر وقد أعاذ الله شيخ الإسلام من التناقض في أقواله وأن ذلك لا يليق بإمامته وجلالته ومكانته من العلم، ثم تأمل ما تركه هؤلاء وحذفوه من كلام ابن وضاح حيث ذكر أن استحباب الرسم بالذؤابة لذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الولايات والمناصب والمشار إليهم من أهل العلم ليكون ذلك شعاراً لهم ولا يستحب ذلك لآحاد الناس فذكر أن هذا خاص بهؤلاء وأنه لا يستحب ذلك لآحاد الناس ثم أخذوا المعنى مما حذفوا وجعلوه رسماً وشعاراً لكل أحد ممن يدخل في هذا الذين وإن لم يكونوا من أهل الولايات والمناصب والعلماء والخطباء فلم يتقيدوا من أهل الولايات والمناصب والعلماء والخطباء فلم يتقيدوا بما ذكره أهل العلم من المتأخرين وإن كان مرجوحاً ولم يقتدوا برسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وسائر العرب في لباسهم من الأردية والعمائم الساترة لجميع الرأس وكونها محنكة بل جعلوا مكاناً ذلك عصائب جعلوا لها ذؤابة وظنوا أنهم قد أخذوا بالسنة في ذلك وليس هذا من السنة في شيء وقد تبين لك أن شيخ الإسلام ابن تيمية مع أكثر الأئمة لا يستحبون هذا الزي وهذا الشعار بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وتبين لك أيضاً من سياق الأحاديث وكلام العلماء أن هذا في إرسال الذؤابة لا في مشروعية العمامة لأنه قد كان من المعلوم عندهم أن لبس العمائم من عادة العرب في الجاهلية والإسلام وليست شعاراً لهم لأهل الولايات والمناصب والمشار إليهم من أهل العلم وإنما الشعار الخاص بهم الرسم بالذؤابة فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 فصل: سنية التحنيك وذؤابة وأما قوله: قال في "الإقناع"، وشرحه إلى آخر ما نقل فهذا كله ليس من كلام شيخ الإسلام الذي نقله لمنقور، وفيه، ويسن تحنيك العمامة إلى آخر ما ذكره عن ابن مفلح وهؤلاء لا يحنكون العصائب وقد ذكر أهل العلم أن تحنيك العمائم مسنون لأن عمائم المسلمين كانت كذلك على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقد تقدم ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" أنه قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 قال الميموني: رأيت أبا عبد الله عمامته تحت ذقنه ويكره غير ذلك وقال العرب أعمتها تحت أذقانها وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد يكره أن لا تكون العمامة تحت الحنك كراهة شديدة وقال إنما يتعمم بمثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس. انتهى. فتبين لك من صنيع هؤلاء أنه لو كان المقصود منهم الاقتداء برسول الله –صلى الله عليه وسلم- في هديه وفي لباسه لفعلوا كما فعل ولم يبتدعوا زياً وشعاراً يخالف هديه فهذا ما تيسر لي من الجواب مع تكدر البال وكثرة الاشتغال والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين الحمد لله وحده. تنبيه: ذكر الشيخ صديق بن حسن في كتابه "الدين الخالص" في صفحة سبع وأربعين وستمائة على قوله –صلى الله عليه وسلم- في حديث ركانة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس" رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب إسناده وليس بالقائم. انتهى. وفيه دلالة على أن الكفار والمشركين يستعملون العمائم بلا قلنسوة وأن المسلمين زيهم أن يلبسوها عليها وليس فيه أن لبس القلانس ممنوع بل فيه فضيلة العمامة عليها وأن لا يكون الاقتصار على واحد منهما أبداً بل يجمع بينهما ويتميز عن أقوام لا يلبسون العمائم أصلاً ويقنعون على القلانس فقط كالنصارى ومن ضاهاهم من أجيال أخرى وعن أرهاط لا يلبسون القلانس بل يستعملون العمائم فقط كالهنود ومنهم من لا يلبس قلنسوة ولا عمامة بل يبقى مكشوف الرأس أبداً كأناس بنجالة في الهند ومنهم من يجمع بينهما لكن على زي الأعاجم دون العرب ومراده –صلى الله عليه وسلم- بالعمائم في هذا الحديث هي التي كان يلبسها هو وأصحابه وتابعوهم وهي مضبوط مصرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 بها في كتب السنة المطهرة طولاً وعرضاً مع بيان شأن الربط وما يتصل به قال المجزي: قد تتبعت الكتب لأقف على قدر عمامة النبي –صلى الله عليه وسلم- فلم أقف حتى أخبرني من أثق به أنه وقف على كلام النووي أنه كان له –صلى الله عليه وسلم- عمامة قصيرة هي سبعة أذرع وعمامة طويلة ومقدارها اثنا عشر ذراعاً قال في "المرقاة" فتعمم على القلانس وهم يكتفون بالعمائم. انتهى. وأما اليوم فإني رأيت العرب ومن يساكنهم في الحرمين الشريفين أدام الله شرفهما أحدثوا لها أشكالاً غير الشكل المأثور وأفرطوا فيها وفي غيرها من اللباس والثياب حتى خرجوا عن زي الإسلام السالف واختاروا ما شاءوا من القلانس والعمائم قال علي القاري في حق أهل مكة في زمنه: عمائم كالأبراج وكمائم كالأخراج. انتهى. وما أصدقه في هذه المقالة فقد وجدناهم كذلك بل وجدناهم فوق ذلك لأنه مضى على زمنه مئون وللدهر في عصر فنون وشئون كما قيل في كل بلد من بلادهم مائة مشيئة ومائة لسان ولا يقف عند حد أحد من نوع إنسان وما شاء الله كان. انتهى. فبين –رحمه الله- أن اسم العمامة لا يقع إلا على ما كان يلبسه رسوله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعون وغير ذلك المحدث من العمائم التي أحدثت بعد ذلك وجعل لها أشكالاً غير الشكل المأثور فهي من المبتدعات المحدثة التي تخالف زي العرب وما كان عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين والحمد لله رب العالمين. "تم بحمد الله" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 باب فهارس ... الفهرس صفحة 3 مقدمة الكتاب 7 مبدأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب 10 شيء من سيرة الشيخ –رحمه الله- 23 بعض المناوئين للدعوة السلفية 28 حالة البلاد الدينية قبل ظهور الشيخ 31 قصيدة للشيخ حسين بن غنام عن انكسار ثويني السعدون 34 مناظرة مع علماء مكة. 41 رسالة الشيخ ابن معمر "الفواكه العذاب" 78 خبر حرب إبراهيم باشا 94 ترجمة الشيخ محمد رحمه الله 102 رسالة عن الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في قبوله للدعوة السلفية 108 بعض مفتريات أعداء الدعوة 119 حقيقة التوحيد 131 التجسيم وبراءة السلفية منه 138 قصيدة الشيخ ملا عمران عن حقيقة الدعوة السلفية 144 التقليد والاجتهاد 152 حقيقة الفرقة الناجية 160 تحذير الأئمة الأربعة من تقليدهم 166 الناس بالنسبة إلى الهدى ثلاث طبقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 صفحة 178 قصيدة للشيخ ملا عمران في الثناء على الدعوة السلفية 180 التوسل وزيارة القبور 193 قصيدة للمؤلف في حق الدعوة السلفية 203 قصيدة للشيخ ملا عمران في التوحيد 205 مشركو هذا الزمان كمشركي العرب الأقدمين 209 حكم اتخاذ الوسائط 211 فصل من كلام ابن القيم في النونية عن حياة الأنبياء 221 اتخاذ القبور مساجد 224 نفي تمسك الخليل بعلم النجوم 236 الأحاديث الموضوعة في زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- 243 دحض فرية القول بإجماع المسلمين على جواز شد الرحال للقبور. 247 الأحاديث الواردة في كيفية الزيارة الشرعية 252 الشيخ ابن تيمية لم يحرم زيارة القبور مطلقاً 254 التوسل والاستشفاع 261 أحاديث ضعيفة أوردها المعترض وبيان بطلانها 280 بطلان جواز التوسل من الناحية العقلية 293 الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- وحكمها 297 يوسف النبهاني من دعاة الضلال 300 أحمد بن زيني دحلان من أئمة الضلال 307 فهرس إرشاد الطالب 310 الكفر الذي يخرج من الملة 316 حكم التحاكم إلى الطاغوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 صفحة 318 الحب والبغض 323 الهجر المشروع وغير المشروع 330 اتخاذ بعض الطبقات ألبسة خاص تميزهم عن سواهم 333 قصيدة "البولاقي" ورد الشيخ عبد اللطيف عليها 334 ليس هناك من الأحاديث ما يدل على فضل "العمامة" الرد على من زعم ذلك. 337 ابن تيمية لم يقل بفضل العمامة 342 سنية إرخاء الذؤابة 344 قصيدة للمعترض بفضل العمامة وقصيدة للمؤلف يرد بها عليها. 347 المعترض نقل من "مجموع المنقور" ما له وترك ما عليه. 353 سنية التحنيك والذؤابة 354 كلام السيد صديق حسن خان عن العمائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358