الكتاب: كتابة الحديث النبوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين النهي والإذن المؤلف: حسناء بنت بكري نجار الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- كتابة الحديث النبوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين النهي والإذن حسناء بنت بكري نجار الكتاب: كتابة الحديث النبوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين النهي والإذن المؤلف: حسناء بنت بكري نجار الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ال مقدمة : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد: فإن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، فهي تلي كتاب الله تعالى في المكانة والتشريع ولا غنى عنها لمعرفة دين الله ومقاصده في كتابه الكريم، فهي إما موافقة لما جاء فيه أو مبينة له، أو موجبة لما سكت عنه. لذلك كانت غرضاً لأعداء الدين من عرب ومستشرقين، فتارة يدخلون عليها من باب المكانة ويحاولون الانتقاص منها، وتارة يدخلون عليها من باب التوثيق، يريدون أن يلحقوا بها الزيف والبطلان، لكن الله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد، فقد وعد -ووعده الحق- بحفظ هذا الدين وحفظ دعائمه وهما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد تكفل الله بحفظ القرآن، وهذا يستلزم تكفله بحفظ بيانه وهو السنة قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] فحفظ الله السنة قولاً وعملاً وتقريراً في صدور الصحابة رضي الله عنهم وفي سطورهم حتى دونت وصنفت فيها المصنفات، إلا أن هناك ممن سبق ذكرهم من ادعى بأن السنة لم تكتب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من ادعى بأنها بقيت طوال قرن أو أكثر يتناقلها العلماء حفظاً دون أن يكتب منها شيء، وحملهم على ذلك اشتهار حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة غير القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وبعض هؤلاء اعترف بكتابة الحديث في العصر النبوي، بعد اطلاعه على ما رواه الخطيب البغدادي في كتابه (تقييد العلم) من الأدلة على ذلك، ومنها: إذن النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة وأمره بها وكتابة الصحابة رضوان الله عليهم بين يديه، إلا أنه حاول أن يدس السم بالعسل، ففرض خلافا بين أهل الحديث وأهل الرأي حول كتابة الأحاديث أدى إلى وضع كل مذهب لأحاديث تناسب رأيه مما أسفر عن وجود نوعين من الأحاديث المتضاربة، منها الذي ينهى عن الكتابة، ومنها ما يأذن بها وبذلك نسب وضع الأحاديث لكلتا الطائفتين، وغيَّب الحكمة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة وإذنه بها، وعرَّض ما كتب من الحديث للتهمة بسبب نزاع هذين الفريقين والحقيقة أنه ليس هناك صراع بين أهل الرأي وأهل الحديث على كتابة الحديث، فمن هؤلاء من كره الكتابة ومنهم من كتب، ومن الفريق الثاني أيضا مثل ذلك وقد تصدى العلماء للرد على هذه الافتراءات رداً مدعما بالحجة والدليل (1) . أما الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن كتابة الحديث والأحاديث التي وردت عنه في الإذن في ذلك فكان لي معها هذه الوقفات من خلال هذه المفصول بعد المقدمة المذكورة: الفصل الأول: الكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيه مبحثان: المبحث الأول: الكتابة عند العرب قبل الإسلام.   (1) انظر تصدير يوسف العش لكتاب " تقييد العلم "، 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 والمبحث الثاني: الكتابة عند العرب بعد الإسلام. الفصل الثاني: الأحاديث الواردة في النهي عن الكتابة والإذن فيها، وفيه مبحثان: المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي. المبحث الثاني: الأحاديث الواردة في الإذن. الفصل الثالث: التوفيق بين أحاديث النهي والإذن. وفيه مباحثان: المبحث الأول: منهج التعليل. المبحث الثاني: دفع التعارض. ثم الخاتمة، وفهرس المصادر والمراجع، وفهرس الموضوعات. هذا وأسأل الله سبحانه أن أكون وفقت في تجلية غموض هذا الموضوع الذي بحث فيه العلماء قديماً وحديثاً، فإن كان ذلك فبفضل الله، وإن كانت الأخرى فأسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الفصل الآول: الكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم المبحث الأول: الكتابة عند العرب قيل الإسلام. ... الفصل الأول: الكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيه مبحثان: المبحث الأول: الكتابة عند العرب قبل الإسلام. المبحث الثاني: الكتابة عند العرب بعد الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 المبحث الأول: الكتابة عند العرب قبل الإسلام أثبتت الدراسات الحديثة للنقوش والبرديات الجاهلية أن العرب عرفوا الكتابة وكتبوا بالخط العربي الذي عرف فيما بعد بالخط الكوفي منذ مطلع القرن الرابع الميلادي أي قبل الإسلام بثلاثة قرون تقريباً، كما عرفوا النقط والإعجام (1) . وقد انتقلت الكتابة إلى العرب عن طريق "الأنبار" وهم تعلموها من أهل "الحيرة" التي عرفت فيما بعد "بالكوفة"؛ فقد كانت مركزاً ثقافياً منذ زمن بعيد، واستخدمت فيها اللغة العربية في بلاط الحكام العرب. وانتقلت الكتابة إلى الحجاز عن طريق "حرب بن أمية" وكان له صحبة مع "بشر بن عبد الملك" أخو "أكيدر" صاحب "دومة الجندل" بسبب تجارته إلى "العراق" فتعلم منه الكتابة، ثم سافرا معاً إلى مكة فتزوج "بشر" "الصهباء" أخت "أبي سفيان"، وتعلم منه الكتابة جماعة من أهل مكة (2) . ويذكر أنه ممن كان يكتب في تلك الفترة:"عبد المطلب" جد النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك جده الأكبر "قصي" (3) . ومن الطبيعي أن تنتشر الكتابة في "مكة" بعد ذلك بوصفها مركزاً دينياً وتجارياً، ولابد أن يكون هذا الانتشار عن طريق التعليم، إذ وجدت أماكن   (1) مصادر الشعر الجاهلي، 619. (2) مناهل العرفان 1/362. (3) تاريخ الطبري 1/1084، طبقات ابن سعد 1/1/38، عن دلائل التوثيق المبكر للسنة، د. امتياز أحمد، 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 للتعليم في مكة (1) ، والمدينة (2) ، ودومة الجندل (3) ، وغيرها. كما كانت تعقد في مكة مجالس للعلم تتدارس فيها الأخبار والأشعار والأنساب، وكان منها مجالس أبي بكر رضي الله عنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كانت قريش تألف منزل أبي بكر لخصلتين: العلم والطعام، فلما أسلم أسلم عامة من كان مُجالسه" (4) . وقد أدرك العرب قيمة الكتابة والكاتبين فأطلقوا صفة الكمال على من أتقن أمورا ثلاثة، أحدها: الكتابة. قال ابن سعد: "كان الكامل عندهم في الجاهلية وأول الإسلام الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي" (5) . قال في " مختار الصحاح: "والكاتب عند العرب العالم" (6) . أما الموضوعات التي أثر عن عرب الجاهلية كتابتها: فهي تشمل كل شؤون حياتهم الخاصة والعامة، فكانوا يكتبون أنسابهم (7) ، وأشعارهم (8) ، ومآثرهم، وحكم بلغائهم (9) ، وأيام حروبهم (10) ، وعهودهم ومواثيقهم،   (1) فتوح البلدان 579. (2) فتوح البلدان 583. (3) المحبر 475. (4) البيان والتبيين 4/76. (5) طبقات ابن سعد 3/2/91. (6) مختار الصحاح 562. (7) طبقات ابن سعد 4/1/32. (8) مصادر الشعر الجاهلي 107 - 123. (9) تاريخ الطبري 1/1208، عن دلائل التوثيق المبكر للسنة 159. (10) طبقات ابن سعد 4/1/1/32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وأحلافهم (1) ، ومراسلاتهم الشخصية (2) ، وديونهم فقد جاء في كتاب رسول صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف: "وما كان لثقيف من دَين في صحفهم اليوم الذي أسلموا عليه في الناس فإنه لهم" (3) . على أن هذه المعرفة للقراءة والكتابة لم تكن عامة عند الجميع، فهي تختلف باختلاف البيئات والمواطن تطوراً وازدهاراً، فالقبيلة الواحدة قد يكون قسم منها ضارباً في جوف الصحراء، وقسم تحضَّر واستقرَّ، وسكن المدن والقرى، وقسم بين هذين القسمين يبتعد في جوف الصحراء، ولكنه لا ينزل قلب المدن والقرى، وإنما يستوطن باديتها، وظاهرها، وعلى ذلك كانت قريش، والأوس، والخزرج وهذيل، وأكثر قبائل العرب (4) . وعن ذلك يقول "ابن فارس" -بعد أن عرض لذكر بعض الأعراب ممن كان لا يحسن الكتابة- " ... فأما من حكي عنه من الأعراب الذين لم يعرفوا الهمز والجر والكاف والدال فإنا لم نزعم أن العرب كلها مدرا ووبرا قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها، وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة ... " (5) . كما أن هذا لا ينافي ما وصفهم الله به في كتابه الكريم من أنهم أمة أمية وذلك في ثلاث آيات هي: قوله تعالى {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} [آل عمران:20] ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ   (1) مصادر الشعر الجاهلي 166. (2) صبح الأعشى 6/468. (3) الوثائق السياسية، محمد حميد الله، 181، فقرة 10. (4) مصادر الشعر الجاهلي 618. (5) عن مصادر الشعر الجاهلي 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75] ، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:2] . لأن الأمية بهذا المعنى كانت غالبة على كثرتهم والكتابة فيهم قليلة نادرة (1) . وقد ادَّعى البعض أن وصف العرب بالأمية لا ينافي معرفتهم بالقراءة والكتابة، وأن المراد بالأمية هي الأمية الدينية أي الجهل بالشريعة؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، وما كان محمد صلى الله عليه وسلم أمياً إلا لأنه نبي هؤلاء الأميين لتعليمه إياهم شريعة الله (2) . وهو حمل لظاهر معنى النص القرآني على غير المراد منه من غير قرينة، وذلك لأنه يقتضي التفريق بين تفسير الأميين -وهم العرب- بأنهم جهلة الدين والشريعة، وبين تفسير ما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمية في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف:157] بأنه الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وهو الأصل المراد من ظاهر النص والذي فهمه جمهور المفسرين، وبيَّنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" (3) .   (1) فتح الباري 4/127. (2) انظر علوم الحديث صبحي الصالح 16، والسنة قبل التدوين 296. (3) أخرجه البخاري في كتاب الصوم 4/127، بشرحه فتح الباري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 المبحث الثاني: الكتابة عند العرب بعد الإسلام رأينا في المبحث السابق كيف أن الكتابة كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام، لذلك نعجب لما ذكره بعض المؤرخين (1) من أسماء سبعة عشر رجلا من قريش هم فقط الذين يعرفون الكتابة عند دخول الإسلام. وقد استبعد بعض الباحثين أن تكون هذه الإحصائية دقيقة لما تتمتع به " مكة " من موقع جغرافي وتجاري وديني وخاصة أنه لم يذكر فيها بعض من اشتهر بالكتابة والعلم أمثال " أبي بكر الصديق " و" سفيان بن حرب " وغيرهم، إضافة إلى أنه ذكرت أسماء بعض النساء المسلمات الكاتبات، منهن أم المؤمنين "حفصة" رضي الله عنها و" الشفاء بنت عبد الله القرشية " رضي الله عنها وغيرهن (2) . وهذا يدل على أن ما ذكره بعض المؤرخين يفيد في قلة عدد الكاتبين حين ذاك دون حصرهم جميعاً. وقد أحصى أحد الباحثين المعاصرين عدد المتعلمين في مكة عند ظهور الإسلام وجزم بأنه نحو سبعين متعلماً (3) . أما في المدينة فلم يتجاوز عدد الذين يعرفون الكتابة على ما ذكره بعض المؤرخين أحد عشر رجلا، وما قيل في مكة يقال في المدينة. على أن هذه الحالة وإن كانت دقيقة إلا أنها لم تدم طويلا بعد انتشار الإسلام وما نزل من القرآن في الأمر بالقراءة في أول سورة منه، والأمر   (1) انظر فتوح البلدان 660، وابن سعد 3/1/448. (2) انظر دراسات في الحديث 47، والسنة قبل التدوين 296. (3) دلائل التوثيق المبكر، د. امتياز أحمد 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بكتابة ما يخص المسلم من أموال ومعاملات، إلى غير ذلك من الآيات التي جعلت الكتاب حجة، والآيات التي بينت فضل العلم والعلماء، وفي حث الرسول صلى الله عليه وسلم على طلب العلم وما قام به من أعمال من شأنها أن تأخذ بأيدي الناس نحو حب العلم والمعرفة، من ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بتعليم الكتابة للرجال (1) والنساء (2) ، وإرسال المعلمين في كل جهة لنشر العلم حتى كان التعليم في البيوت وفي المساجد، ومن هذه الأماكن "دار الأرقم" في "مكة" و "دار القراء" في "المدينة" (3) وغيرهما. كما شجع بعض الصحابة على تعلم لغات أخرى فطلب من زيد بن ثابت أن يتعلم العبرية والسريانية فتعلمهما في خمسة عشر يوماً، فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كتب ويقرأ له إذا كُتب إليه (4) . وقد أثمرت سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية أينع الثمار، فأضحى بين يديه صلى الله عليه وسلم خمسون كاتباً يكتبون الوحي، والصدقات والمغانم وسائر العقود والمعاملات والمداينات والمعاهدات وكل ما يَهُمُّ الدولة الإسلامية في شؤونها السياسية والاجتماعية، اختصَّ كل كاتب منهم بكتابة نوع من هذه الأنواع (5) .   (1) كما في أسرى بدر حيث جعل فداء كل أسير تعليم القراءة لعشرة من صبيان المدينة. (2) حيث طلب من الشفاء أن تعلم حفصة رضي الله عنها الكتابة، كما في مسند أحمد 6/372، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة 178) . (3) طبقات ابن سعد 4/2/150. (4) سنن أبي داود 3/318. (5) التراتيب الإدارية 1/115، وانظر كُتَّاب الوحي د. أحمد عيسى ص 64 - 71، فقد أحصى منهم 46 كاتباً، وأحصى الأعظمي خمسين منهم في " كُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم " وانظر كتابه دراسات في الحديث 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وانتشرت الكتابة حتى اشتهرت بإتقانها بعض القبائل كقبيلة ثقيف في الطائف، مما دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يجعل كتبة المصحف من قريش وثقيف، ودعا عثمان إلى أن يقول: " اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف (1) . وهذا يشير إلى كثرة عدد الكاتبين، الأمر الذي جعل الخليفة يتخير منهم من يراه صالحاً لهذا الأمر الجليل. وبذلك تبين لنا أن الصحابة عرفوا الكتابة وأتقنوها، فهل قاموا بكتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كتبوا القرآن؟ لا شك أن هذا يحتاج إلى أمر وتكليف من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو الحال في أمره بكتابة القرآن. فهل أمرهم بذلك أو نهاهم عنه؟ وهل كتب الصحابة شيئاً من الحديث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بدون أن يأمرهم بذلك؟ هذا ما ستجيب عنه الفصول التالية إن شاء الله، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما سنتحدث عنه هو كتابة الحديث لا تدوينه أو تصنيفه، وأرى أن أعَرِّف بهذه المصطلحات كما عرفها علماء اللغة حتى يتضح المراد للقارىء الكريم. فالكتابة هي: قال في اللسان: "كَتَبَ الشيء يكتبه كَتْباً وكِتاباً وكِتابة، وكَتَبه: خَطَّه، فكتابة الشيء: خَطُّه" (2) .   (1) مصادر الشعر الجاهلي 50. (2) لسان العرب، مادة كتب، 3/216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والتدوين هو: قال في اللسان: "والديوان مجتمع الصحف" (1) ، وقال في تاج العروس (2) : "وقد دوَّنه تدويناً جمعه". وعليه فالتدوين هو: جمع الصحف المفرقة في ديوان ليحفظها. أما التصنيف: فقال في اللسان (3) : "والتصنيف تمييز الأشياء بعضها من بعض، وتصنيف الشيء جعله أصنافاً". فالتدوين هو جمع المتفرق المشتت في ديوان أو في كتاب ليحفظ من الضياع، وهو أوسع من التقييد بمعناه المحدود، والتصنيف أدق من التدوين، فهو ترتيب ما دوِّن في فصول محددة وأبواب مميزة. والمقصود في بحثنا هو الكتابة فقط.   (1) مادة دون، 1/139. (2) المصدر السابق فصل الدال باب النون، 9/204. (3) مادة صنف، 2/483. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الفصل الثاني: الأحاديث الواردة في النهي عن الكتابة والإذن فيها المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي ... الفصل الثاني: الأحاديث الواردة في النهي عن الكتابة، والإذن فيها وفيه مبحثان: المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي. المبحث الثاني: الأحاديث الواردة في الإذن . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي عن كتابة الحديث النبوي أولاً: الأحاديث المرفوعة وهي مروية عن ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم هم: أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت أخرج رواياتهم الخطيب البغدادي في "تقييد العلم" سأذكرها بإيجاز ومن أخرجها من أصحاب الكتب المشهورة وأتبعها بما روي عن الصحابة من الأحاديث الموقوفة في هذا الموضوع. أولاً: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في النهي: أخرج الخطيب البغدادي في "تقييد العلم" بإسناده إلى عفان قال: ثنا همام أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن -قال (الصاغاني) غير القرآن- ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وقال: حدثوا عني ولا تكذبوا علي، ومن كذب علي - قال همام: أحسبه قال: متعمداً - فليتبوأ مقعده من النار " (1) . وفي رواية من طريق همام أيضاً زاد: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" (2) . قال الخطيب بعد رواية هذا الحديث: "تفرد همام برواية هذا الحديث عن زيد بن أسلم هكذا مرفوعا. وقد روي عن سفيان الثوري أيضاً عن زيد، ويقال إن المحفوظ رواية هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري من قوله غير   (1) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الزهد، 18/129. (2) تقييد العلم 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم". قلت: نسب ابن حجر هذا القول إلى البخاري فقال: "ومنهم من أعلَّ حديث أبي سعيد وقال الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره" (1) . - وأخرج بسنده من طريق ابن عيينة عن ابن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي سعيد قال: "استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن أكتب الحديث، فأبى أن يأذن لي". وفي رواية: " استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب، فأبى أن يأذن لنا " (2) . ثانياً: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه في النهي: روى الخطيب بسنده من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نكتب الأحاديث فقال: "ما هذا الذي تكتبون؟ " قلنا: أحاديث سمعناها منك، قال: " أكتاباً غير الله تريدون؟ ما أضلَّ الأممَ من قبلكم إلا ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله ". قال أبو هريرة: فقلت أنتحدث عنك يا رسول الله؟ قال: "نعم تحدَّثوا عني ولا حرج، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وفي رواية قلنا: فنتحدث عن بني إسرائيل؟ قال: "حدثوا ولا حرج،   (1) فتح الباري 1 / 208. (2) تقييد العلم 30، وأخرجه الترمذي في كتاب العلم 5/41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فإنكم لم تحدثوا عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه ". قال أبو هريرة: "فجمعناها في صعيد واحد فألقيناها في النار". وفي رواية: " أكتاب مع كتاب الله؟ أمحضوا كتاب الله وأخلصوه" (1) . وفي رواية: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً قد كتبوا حديثه، فصعد المنبر، فحَمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: "ما هذه الكتب التي بلغني أنكم قد كتبتم، إنما أنا بشر من كان عنده منها شيء فليأت به"، فجمعناها فأحرقت. فقلنا: يا رسول الله نتحدث عنك؟ قال: "تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (2) . كل هذه الروايات من طريق عبد الرحمن بن زيد عن أبيه (3) . ثالثاً: ما رواه زيد بن ثابت رضي الله عنه في النهي: وأخرج الخطيب من طريق كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث فأمر إنساناً يكتبه، فقال له زيد: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نكتب شيئا من حديثه" فمحاه. وفي رواية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يكتب حديثه" (4) .   (1) تقييد العلم 30، وأخرجه أحمد في مسنده (3/12) . (2) تقييد العلم 35. (3) وهو ضعيف، انظر: الجرح والتعديل (2/233) ، ميزان الاعتدال 2/564، فكل هذه الروايات ضعيفة لضعفه. (4) التقييد 35، ورواه أبو داود في السنن، كتاب العلم 3 / 318 باللفظ الأول، وأحمد في المسند (5/182) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/271) ، والقاضي عياض في الإلماع: (148) ، وهو منقطع، لأن المطلب لم يسمع من زيد كما في تهذيب التهذيب (10/179) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ثانياً: الأحاديث الموقوفة عن الصحابة -رضي الله عنهم- في النهي عن كتابة الحديث وهي مروية عن سبعة من الصحابة رضي الله عنهم سأذكر لكل واحد منهم رواية أو أكثر بحيث تشتمل الرواية عنه على معظم المقاصد والأحكام التي أراد هؤلاء الصحابة إبلاغها لمن بعدهم، بخاصة أنه وردت عن بعضهم روايات مقرونة بالعلة التي ورد لأجلها النهي عن كتابة الحديث، وهي التي ستثري البحث أثناء التوفيق بين أدلة النهي عن الكتابة وأدلة الإذن. وهؤلاء الصحابة هم: أبو سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، والذين ذكرت رواياتهم علة النهي هم: عمر بن الخطاب، وأبو موسى الأشعري، وابن مسعود. 1 - الرواية عن أبي سعيد الخدري: روى الخطيب من طريق أبي نضرة قال: قلنا لأبي سعيد "لو كتبتم لنا فإنا لا نحفظ"، قال: "لا نُكتبكم ولا نجعلها مصاحف؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا عنا كما كنا نحفظ عن نبيكم" (1) . وفي رواية: وكان أبو سعيد يقول: "تريدون أن تجعلوها مصاحف، فإن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يحدثنا، فاحفظوا منا كما حفظنا" (2) . وفي رواية: "قال أتتخذونه قرآناً، اسمعوا كما كنا نسمع". وفي رواية قال: " قلنا لأبي سعيد إنا اكتتبنا حديثا من حديث رسول الله   (1) رواه بهذا اللفظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم: (1/273) ، والرامهرمزي في المحدث الفاصل: (379) . (2) تقييد العلم: 38، وبنحوه رواه الدارمي في سننه 1/133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 صلى الله عليه وسلم " قال: " امحه ". وفي رواية: قلت لأبي سعيد: " إنك تحدثنا بأحاديث معجبة، وإنا نخاف أن تزيد أو تنقص، فلو أنا كتبنا "، قال: " لن نكتبكم، ولن نجعله قرآناً، ولكن احفظوا عنا كما حفظنا " (1) . 2 - الرواية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: وأخرج الخطيب من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: كنا نسمع الشيء فنكتبه، ففطن لنا عبد الله، فدعا أم ولده، ودعا بالكتاب وبإجَّانة (2) من ماء فغسله ". وفي رواية من طريق مسروق قال: حَّدث ابن مسعود بحديث فقال ابنه: " ليس كما حدثت " قال: " وما علمك؟ " قال": كتبته "، قال: " فهلم الصحيفة "، فجاء بها فمحاها (3) . 3 - الرواية عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: وروى الخطيب من طريق أبي بردة قال: كتبت عن أبي كتباً كثيرة فمحاها وقال: "خذ عنا كما أخذنا" (4) .   (1) تقييد العلم 38، ورواه أبو خيثمة في كتاب العلم 24 بمثله. (2) الإجانة: إناء تغسل فيه الثياب. (3) التقييد 39. (4) تقييد العلم 39، ورواه الدارمي في سننه 1/133، وابن عبد البر في جامع يبان العلم 1/282، وإسناده صحيح. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/156 بنحوه، وقال: (رواه الطبراني في الكبير والبزار بنحوه، إلا أن البزار قال: احفظ كما حفظنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجاله رجال الصحيح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 4 - الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه: وروى الخطيب بإسناده إلى سعيد بن أبي الحسن قال: لم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أبي هريرة حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن مروان زَمَنَ هو على المدينة، أراد أن يُكتبه حديثه، فأبى وقال: " ارووا كما روينا " فلما أبى عليه، تغفله فأقعد له كاتباً لَقِناً ثَقِفاً، ودعاه، فجعل أبو هريرة يحدثه، ويكتب الكاتب، حتى استفرغ حديثه أجمع، قال ثم قال مروان: "تعلم أنا قد كتبنا حديثك أجمع؟ " قال: " وقد فعلتم؟ " قال: نعم قال: " فاقرأوه عليّ إذاً " قال فقرأوه عليه، فقال أبوهريرة: " أما إنكم قد حفظتم، وإن تطعني تمحه " قال فمحاه (1) . وفي رواية عن أبي كثير قال سمعت أبا هريرة يقول: " لا نكتم ولا نُكتب" (2) . 5 - الرواية عن عبد الله بن عباس: عن طاووس قال: إن كان الرجل يكتب إلى ابن عباس يسأله عن الأمر، فيقول للرجل الذي جاء: " أخبر صاحبك أن الأمر كذا وكذا، فإنّا لا نكتب في الصحف إلا الرسائل والقرآن " (3) . وعن سعيد بن جبير: أن ابن عباس رضي الله عنهما كان ينهى عن كتاب العلم، وأنه قال: " إنما أضل من قبلكم الكتب " (4) .   (1) تقييد العلم 41. (2) تقييد العلم 42، ورواه الدارمي في سننه 1/133، وإسناده صحيح، وابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/282. (3) تقييد العلم 42، وبنحوه في مصنف عبد الرزاق 11/258. (4) تقييد العلم 43، ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/280. وإسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 6 - الرواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: عن سعيد بن جبير قال: " كنا إذا اختلفنا في الشيء كتبته حتى ألقى به ابن عمر، ولو يعلم بالصحيفة معي، لكان الفيصل بيني وبينه " (1) . العلة في كراهة كتابة الحديث كما وردت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم 1 - الرواية عن عمر بن الخطاب: أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ثم أصبح وقد عزم الله له، فقال: "إني كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبُّوا عليها، وتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا" (2) . 2 - الرواية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال: " إنما أهلك من كان قبلكم باتباعهم الكتب وتركهم كتابهم " (3) .   (1) تقييد العلم 44، وفي مصنف عبد الرزاق 9/54 واسناده صحيح. وابن عبد البر في جامع بيان العلم0 1/281) . (2) تقييد العلم 49، وفي مصنف عبد الرزاق 11/257 - 258، وجامع بيان العلم 1/274 ورجاله ثقات، إلا أن عروة لم يسمع من عمر كما في تهذيب التهذيب 7/158، وقد رواه الخطيب من طريق آخر عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن عمر، عن عمر رضي الله عنه، أي بزيادة عبد الله (ص 50) من تقييد العلم بنحوه، وإسناده صحيح. (3) تقييد العلم 53، ورواه الدارمي في سننه (1/133) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وقال: " إنما هذه القلوب أوعية فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره" (1) . ووردت عن الصحابة روايات أخرى وكلها تدور حول هذه العلة. 3 - الرواية عن أبي موسى رضي الله عنه: قال ": إن بني إسرائيل كتبوا كتاباً واتبعوه، وتركوا التوراة " (2) .   (1) تقييد العلم 54. (2) تقييد العلم 57، ورواه الدارمي في سننه (1/135) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 المبحث الثاني: الأحاديث الواردة في الإذن ... المبحث الثاني: الأحاديث الواردة في إباحة الكتابة وهي واردة عن تسعة من الصحابة رضي الله عنهم، منها ما هو مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو موقوف على الصحابة رضي الله عنهم، وبعضٌ من هؤلاء الصحابة قد روى الأحاديث في النهي عن الكتابة، وهم أبو سعيد الخدري، وعمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم. منهم من روى رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتابة، وهو في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم وهو ابن عباس، ومنهم من روى أمره بالكتابة لأحد الصحابة وهو أبو هريرة، ومنهم من روى إذنه وهو بالكتابة لمن استأذنه في ذلك، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص، ومنهم من روى إذناً عاماً بالكتابة، وهو رافع بن خديج. كما أن هذه الروايات بينت من كتب مِن الصحابة، وهم أبو بكر، وعلي، وابن عباس، وأنس، وأبو سعيد الخدري، ومن استحسن الكتابة وهو أبو أمامة، ومن أمر بها وهما عمر بن الخطاب، وأنس، ومن شجع عليها، وهو علي رضوان الله عليهم أجمعين، فإلى هذه الروايات: 1 - الرواية عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده". قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللغط، قال: " قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع"، فخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه" (1) . وأخرج الخطيب من طريق عبيد الله بن أبي رافع قال: كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا؟ ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها (2) . 2 - الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه: أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: "ما مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب". وفي رواية " ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب بيده فاستأذن رسول الله في أن يكتب ما سمع منه، فأذن له، فكان يكتب بيده ويعي بقلبه، وإنما كنت أعي بقلبي " (3) . وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسمع من النبي الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث   (1) صحيح البخاري، كتاب العلم 1/208، بشرحه فتح الباري. (2) تقييد العلم 91، ورواه ابن سعد في الطبقات 2/2/123. (3) صحيح البخاري، كتاب العلم 1/206، بشرحه فتح الباري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فيعجبني ولا أحفظه، فقال صلى الله عليه وسلم: "استعن بيمينك" وأومأ بيده للخط (1) . - وروى أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال: لما فتحت مكة قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الخطبة - خطبة النبي صلى الله عليه وسلم - قال: فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال: يا رسول الله اكتبوا لي، فقال: "اكتبوا لأبي شاه" (2) . 3 - الرواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: وأخرج أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو قال: " كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنَهَتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق" (3) . وعن عبد الله بن عمرو قال: " هذه الصادقة، هذه ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد، إذا سلمت لي هذه وكتاب الله   (1) جامع الترمذي، كتاب العلم 5/38، من طريق الخليل بن مرة، عن يحيى بن أبي صالح. وقال: هذا حديث إسناده ليس بذلك القائم، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: الخليل بن مرة منكر الحديث. (2) سنن أبي داود، كتاب العلم 3/319، والبخاري في العلم 1/205، (والفتح) بأطول منه. (3) سنن أبي داود، كتاب العلم3/318،وأحمد في مسنده (2/162،192) والخطيب في تقييد العلم80، والحاكم في المستدرك (1/105-106) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/85) ، والقاضي عياض في الإلماع 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 تبارك وتعالى فما أبالي ما كانت عليه الدنيا " (1) . وعنه قال: " قلت: يا رسول الله أقيد العلم؟ قال: "نعم" (2) . 4 - الرواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه: وعن هبيرة بن عبد الرحمن قال: " كانوا إذا كثروا على أنس بن مالك في الحديث أتاهم بمجالّ فقال:" هذه كتبتها ثم قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال أنس: " كنا لا نعد علم من لم يكتب علمه علماً " (3) . وعن ثمامة قال: " حدثني أنس أن أبا بكر كتب له فرائض الصدقة الذي سَنَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4) . وكان يقول لبنيه: " قيدوا العلم بالكتاب " (5) . 5 - الرواية عن أبي أمامة رضي الله عنه: وعن الحسن بن جابر أنه سأل أبا أمامة عن كتابة العلم فقال:" لا بأس بذلك" (6) . 6 - الرواية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: وعن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري قال: " ما كنا نكتب غير   (1) تقييد العلم 84. والدارمي في السنن 1/127، وابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/86 بنحوه، وفيه ليث ابن أبي سليم، قال الحافظ في التقريب 464: (صدوق اختلط جدا، ولم يتميز حديثه فترك) . (2) تقييد العلم 68، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/157، وقال: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن معين وابن حبان، وقال ابن سعد: ثقة قليل الحديث. وقال الإمام أحمد: أحاديثه مناكير) . وصححه الألباني بمجموع طرقه (السلسلة الصحيحة 2026) . (3) تقييد العلم 96. (4) تقييد العلم 87، وأخرجه البخاري في كتاب الزكاة (3/312) بشرح فتح الباري، بنحو هذا اللفظ. (5) تقييد العلم 96، وصححه الألباني برقم 2026 في السلسلة الصحيحة (1/42) . (6) تقييد العلم 98، ورواه الدارمي في سننه 1/137-138، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/317) وفي إسناده معاوية بن صالح، قال الحافظ في التقريب 538: (صدوق له أوهام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 القرآن والتشهد" (1) . 7 - الرواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وعن عمرو بن أبي سفيان قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: " قيدوا العلم بالكتاب " (2) . 8 - الرواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أخرج البخاري عن أبي جحيفة قال قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة، قال فقلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: " العَقْل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر ". وعن طارق قال: رأيت علياً على المنبر وهو يقول: " ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا كتاب الله عزوجل وهذه الصحيفة، وصحيفة معلقة في سيف عليه حلقة من حديد وبكراته من حديد، فيها فرائض الصدقة قد أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم " (3) . وعن المنذر بن ثعلبة عن علي رضي الله عنه قال: "من يشتري مني علماً بدرهم؟ قال أبو خيثمة: "يقول يشتري صحيفة بدرهم يكتب فيها العلم" (4) . 9- الرواية عن رافع بن خديج رضي الله عنه: عن رافع بن خديج عن رافع رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها قال: " اكتبوا ولا حرج" (5) .   (1) تقييد العلم 93، وفي سنن أبي داود، كتاب العلم (3/318) . (2) تقييد العلم 88، وأخرجه الدارمي في سننه 1/138، والحاكم في المستدرك (1 / 106) . (3) صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب العلم (1 / 204) . (4) تقييد العلم 90، وإسناده صحيح. ورواه أبو خيثمة في العلم 34. (5) تقييد العلم 72، ورواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل 369، وذكره الهيثمي في المجمع 1/156، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو مدرك، روى عن رفاعة بن رافع، وعنه بقية، ولم أر من ذكره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الفصل الثالث: التوفيق بين أحاديث النهي والإذن المبحث: منهج التعليل ... الفصل الثالث: التوفيق بين أحاديث النهي والإذن وفيه مبحثان: المبحث الأول: منهج التعليل. المبحث الثاني: دفع التعارض . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 التوفيق بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن نستطيع أن نقول إننا أمام منهجين للتوفيق بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن وهما: 1- منهج التعليل. 2 - ومنهج دفع التعارض. وهذا ما سنتناوله في المبحثين التاليين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 المبحث الأول: منهج التعليل وهو القول بأن أحاديث النهي عن الكتابة كانت لعلة، ومن المعلوم أن الأحكام تدور مع العلل وجوداً وعدماً، فمتى وجدت العلة وجد الحكم، ومتى انعدمت العلة انعدم الحكم. والذي يدقق النظر في أحاديث النهي يجدها أشارت إلى التعليل، كما في رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نكتب الأحاديث فقال "ما هذا الذي تكتبون؟ " قلنا: أحاديث سمعناها منك، قال: "أكتابَ غير الله تريدون؟ ما أضل الأمم من قبلكم إلا أنهم اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله". قال أبو هريرة: فقلت: أنتحدث عنك يا رسول الله؟ قال: "نعم، تحدَّثوا ولا حرج، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" (1) . واستنبط العلماء عللا أخرى عبروا عنها في كتبهم بما يلي: قال الخطابي: ".. وقد قيل: إنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارئ" (2) . وقال ابن القيم: " وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلط الوحي الذي يتلى بالوحي الذي لا يتلى " (3) . وذكر الصنعاني: أن النهي عن الكتابة إنما كان في أول الأمر " بسبب أنه لم يكن قد اشتد إلف الناس بالقرآن ولم يذكر حفاظه والمتقنون له، فلما ألفه   (1) تقييد العلم 33. (2) معالم السنن مطبوع مع مختصر سنن أبي داود للمنذري 5/246. (3) زاد المعاد 3/457. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الناس وعرفوا أساليبه وكمال بلاغته ... فلم يخش اختلاطه بعد ذلك " (1) . وقال ابن عبد البر: " من كره كتابة العلم إنما كرهها لوجهين: أحدهما ألا يتخذ مع القرآن كتابا يضاهى به، ولئلا يتكل الكاتب على ما كتبه فلا يحفظ، فيقلَّ الحفظ " (2) . وذكر الخطيب البغدادي:" ... لئلا يضاهى بكتاب الله غيره أو يشتغل عن القرآن بسواه " (3) . وقال ابن الصلاح: ".. ولعله أذن في الكتابة لمن خشي عليه النسيان، ونهى عن الكتابة عنه من وثق بحفظه مخافة الأتكال عن الكتاب" (4) . ومن خلال أقوال العلماء هذه نستطيع أن نجمل العلل التي من أجلها نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن كتابة الأحاديث فيما يلي: أولاً: خوف انكباب الناس على كتابة غير القرآن: فالغرض من منع كتابة الأحاديث هو الحفاظ على الاهتمام النشط من جانب الذين هداهم الله إلى القرآن، فالقرآن لا يزال في مرحلة الوحي ولم يجمع بعد، فكان ينبغي أن يُعطى مزيداً من الاهتمام عن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فخوفاً من احتمال أن يصرف اهتمام المسلمين عن المصدر الأول للتشريع منع الرسول صلى الله عليه وسلم كتابة الأحاديث. يؤيد ذلك التعليل: أننا إذا تأملنا أقوال الصحابة الذين امتنعوا عن الكتابة وحظروها نجدهم يصرحون بذلك، فهذا أبو نضرة يقول: قلنا لأبي سعيد: لو   (1) توضيح الأفكار 2 / 218. (2) جامع بيان العلم 1 / 82. (3) تقييد العلم 57. (4) مقدمة ابن الصلاح 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 كتبتم لنا فإنَّا لا نحفظ قال: "لا نكتب ولا نجعلها مصاحف، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا عنا كما كنا نحفظ عن نبيكم" (1) . حيث فسر رواة الحديث (النهي عن الكتابة) بخشية أن يجعل الحديث موضع القرآن، وراوي الحديث أعلم بما روى كما يقرر العلماء (2) . وأيضا عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: " إني كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبُّوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً " (3) . وقد أعلن عمر هذا على ملأ من الصحابة رضوان الله عليهم، وأقروه، مما يدل على استقرار أمر هذه العلة في نفوسهم. ثانياً: الخوف من مضاهاة الحديث للقرآن الكريم: فالنهي عن كتابة السنة حتى لا تكون مثل القرآن، فالقرآن مكتوب متداول بين الصحابة متعبد بتلاوته وقراءته، فخشي أن يكتب الحديث فيكون مصحفاً يقرأ ويتلى كما يقرأ القرآن الكريم. يؤيد ذلك التعليل: ما ذكر عن الصحابة عموما أنّهم كانوا يرون أن بني إسرائيل إنما ضلوا بكتب ورثوها، ولذلك قال الخطيب البغدادي: " فقد ثبت أن كراهة الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يُضاهى بكتاب الله تعالى   (1) تقييد العلم 57. (2) منهج النقد في علوم الحديث 43. (3) تقييد العلم 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 غيرُه، أو يشتغل عن القرآن بسواه " (1) . ثالثاً: المحافظة على النص القرآني خشية اختلاطه بالسنة. إن من أسباب النهي عن كتابة الحديث النبوي: خوف اختلاط بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن سهواً من غير عمد (2) ، ويؤيد ذلك التعليل ما ذكره البغدادي بقوله: ".. ونهى عن كتب العلم في صدر الإسلا م وجدته لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين الوحي وغيره، لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يُؤْمَنْ أن يُلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن" (3) . رابعاً: الحفاظ على ملكة الحفظ عند المسلمين: قال ابن حجر: "النهي في حَقِّ مَنْ خشي الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن عليه ذلك" (4) . فالنهي عن كتابة الأحاديث، كان للحفاظ على ملكة الحفظ عند المسلمين؛ إذ الاتكال على الكتابة يضعفها؛ ولذلك كانوا يحتفظون بمعلوماتهم في خزائن القلوب الآمنة (5) ، والمعرفة عندهم ليست ما تحتويه الكتب، ولكن ما وقر في الصدر، فكانوا يرون أن المعلومات التي تُدَوَّن تكون عرضة للنسيان والضياع، وقد منحهم الله ذاكرة حافظة قوية صقلتها كثرة محفوظاتهم واعتمادهم عليها في كل ما يودون الاحتفاظ به، يقول الخطيب: "ونهي عن   (1) تقييد العلم 57. (2) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: (ص 76 – 77) (3) تقييد العلم 57. (4) فتح الباري 1/208. (5) دلائل التوثيق المبكر 220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الاتكال على الكتاب؛ لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب الحفظ حتى يكاد يبطل، وإذا عدم الكتاب قوي لذلك الحفظ الذي يصحب الإنسان في كل مكان" (1) . يؤيد ذلك التعليل أن بعض الصحابة كانوا يكتبون ثم يمحون ما كتبوا (2) ، ولولم يكن النهي عن الكتابة مستقراً عندهم لما كتبوا ابتداء. خامساً: الحرج في الكتابة: لقد اهتم الصحابة بكتابة القرآن الكريم، وكانت الوسائل الكتابية بدائية وغير ميسرة منها: رقاق الحجارة والعظام وسعف النخل وجلود الحيوانات، وكانت الأحاديث النبوية أكثر من أن يحصوها؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم آتاه الله العلم والحكمة والنبوة فكان له في كل حادثة قول، وفي كل مسألة جواب، وفي كثير من الوحي تفسير وبيان، استمر ذلك النور النبوي ثلاثاً وعشرين سنة بين أظهر الصحابة رضوان الله عليهم. فأنى لهم الوسائل الكتابية، ومن أين لهم الوقت الكافي لتدوين حديثه كله تدويناً كاملا، وليسوا مضطرين أن يعتمدوا على الكتابة، وقد منحهم الله سبحانه وتعالى حافظة في صدورهم تعوض لهم ما فاتهم من الكتابة تدوينا وتقييدا؟ ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشق عليهم فيأمرهم بكتابة السنة، وإنما اكتفى بكتابة القرآن الكريم (3) .   (1) تقييد العلم 58، وانظر المحدث الفاصل بين الراوي والواعي 377. (2) الإلماع 149. (3) معالم السنة النبوية 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المبحث الثاني: دفع التعارض ... المبحث الثاني: منهج دفع التعارض بين أحاديث النهي والإذن اختلف العلماء ولا سيما الأصوليين في دفع التعارض بين الأدلة الشرعية، فذهب الجمهور إلى أن منهج دفع التعارض هو النسخ أولا، وذلك بأن يُعْلَمَ تاريخ ورود كل من الدليلين المتعارضين فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم. فإن عجزنا عن معرفة تاريخ ورود الدليلين المتعارضين لجأنا إلى الجمع، وذلك بالتأليف بينهما وإزالة الاختلاف، فإن عَجَزْنا عن الجمع بين المتعارضين لجأنا إلى الترجيح؛ وذلك بتقوية أحد الدليلين المتعارضين بناء على قواعد الترجيح المعمول بها عند المحدثين والأصوليين. وذهب الحنفية إلى أن منهج دفع التعارض بين الدليلين المتعارضين يكون بالجمع أولا ثم بالنسخ ثانيا، ثم بالترجيح ثالثا (1) . والخلاف بين الجمهور والحنفية في تقديم الجمع على النسخ. وتجدر الإشارة إلى أنه ليس ثمة تعارض حقيقي في الواقع ونفس الأمر بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن، وإنما التعارض في الذهن فقط بحسب ما يبدو لذهن المجتهد لسبب من الأسباب التي تجعل الأدلة متعارضة في نظره. وأود أن أنوه إلى أنني سأسير وفق منهج الجمهور في دفع التعارض بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن. أولاً: النسخ والنسخ في اللغة هو الإزالة والنقل.   (1) الإحكام للآمدي 3/182، تيسير التحرير 3/160، شرح مختصر ابن الحاجب 2/166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ أي: أزالته ويقال: نسخت الكتاب أي نقلته (1) . وفي الاصطلاح: اختلف العلماء في تعريف النسخ بين كونه رفعا للحكم أو بياناً له. وأشهر ما قيل في تعريف النسخ هو: "رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متراخ عنه " (2) . ومن خلال تعريف النسخ نستطيع أن نقول: لا بد أن نعرف تاريخ ورود النهي عن الكتابة وتاريخ ورود الإذن بالكتابة حتى يمكننا القول بأن المتأخر ناسخ للمتقدم. ويرى بعض العلماء أن أحاديث النهي منسوخة؛ لأنها متقدمة وأحاديث الإذن ناسخة لأنها متأخرة فهو من باب نسخ السُّنة بالسُّنة. ومال إلى هذا الرأي كثير من العلماء كابن قتيبة (3) ، وابن حجر (4) ، والنووي (5) ، وابن الصلاح (6) وغيرهم، والقول بالنسخ لابد أن يستند إلى دليل محقق. واستدل العلماء على كون النهي المتقدم هو المنسوخ بما يلي: أن الإذن بالكتابة متأخر عن النهي عنها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم   (1) مختار الصحاح 656، المصباح المنير 2/271. (2) نهاية السول 226، دراسات في النسخ د. نادية العمري 28. (3) تأويل مختلف الحديث 193. (4) فتح الباري 1/208. (5) صحيح مسلم بشرح النووي 18/130. (6) المحدث الفاصل 386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قال في غزوة الفتح:"اكتبوا لأبي شاه". يعني خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها. وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة وحديثه متأخر عن النهي؛ لأنه لم يزل يكتب ومات وعنده كتابته وهي الصحيفة التي كان يسميها الصادقة. ولو كان النهي عن الكتابة متأخراً لمحاها عبد الله. وذكر الشيخ رشيد رضا (1) : أن النهي هو المتأخر وليس هو المتقدم، وبالتالي فالإذن بالكتابة هو المنسوخ. واستدل على ذلك بدليلين: الأول: استدلال مَنْ رُوي عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها وذلك بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. ورد على ذلك بما يلي: " لم يثبت استدلال أحد منهم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم فالمرويُّ عن زيد بن ثابت متفق على ضعفه. وعن أبي سعيد روايتان: إحداهما فيها الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيها امتناع أبي سعيد، ولم نقل في هذا إنه منسوخ، إنما قلنا إنه إما خطأ والصواب عن أبي سعيد من قوله موقوفاً عليه، كما قال البخاري وغيره، وإما محمول على أمر خاص. والرواية الثانية عن أبي نضرة عن أبي سعيد في امتناعه هو، وليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى، وقد بقيت صحيفة عليّ عنده إلى زمن خلافته، وكذلك بقيت صحيفة عبد الله بن عمرو عنده، ثم عند أولاده.   (1) مجلة المنار 10/767، عن السنة ومكانتها في التشريع 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فلو كان هناك نسخ لكان بقاء الصحيفتين دليلاً واضحاً على أن الإذن هو المتأخر. وأن عمر رضي الله عنه عزم على الكتابة وأشار عليه الصحابة بها ثم تركها لمعنى آخر ولم يذكروا نهيا كان من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك صريح فيما أثبتناه" (1) . فلا يمكن القول بأن حديث أبي سعيد هو المتأخر فيكون ناسخا لها؛ لأن الكتاب الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه إنما كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم (2) ولا يعقل أن حديث أبي سعيد كان بعد ذلك. ويعلق الدكتور الأعظمي على رأي رشيد رضا هذا بقوله: " ... وفي الواقع هذا الرأي هو وليد نظرته إلى السنة؛ لأنه في رأيه لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون أحاديثه دينا عاما كالقرآن " (3) . ثانياً: عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره، ولو دونوا ونشروا لتواتر ما دونوا. رُدَّ على ذلك بما يلي: " أما نشر الحديث فقد نشروا والحمد لله وبذلك بلغنا. وأما التدوين فيُعنى به الجمع في كتاب كما جمعوا القرآن، وأن الله سبحانه وتعالى تكفَّل بحفظ القرآن وبيانه وهو السنة. وما تكفل بحفظه لابد أن يحفظ.   (1) الأنوار الكاشفة للمعلمي 43. (2) أخرجه البخاري في صحيحه 1/208، بشرحه فتح الباري. (3) دراسات في الحديث النبوي 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقد علمنا من دين الله أنَّ على عباده مع إيمانهم بحفظ ما تكفَّل حفظه أن يعملوا ما من شأنه في العادة حفظ ذلك الشيء، وأنه لا تنافي بين الأمرين" (1) . وبعد رَدِّ دليلَيْ القائل بأن النهي هو المتأخر فهو الناسخ، والإذن بالكتابة هو المتقدم فهو المنسوخ، وأحاديث الإذن هي الناسخة، فآخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإذن بكتابة الحديث، ويؤيد ذلك ما يلي: 1- ما روي عن ابن عباس أنه قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده". فقد هَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب لأصحابه كتابا حتى لا يختلفوا من بعده، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بحق. فهذا منه صلى الله عليه وسلم نسخ للنهي السابق في حديث أبي سعيد. 2- رُوي من طرق مختلفة أن أبا هريرة قال: " ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له ". فاستئذان عبد الله بن عمرو من النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الحديث يدل على أن الكتابة كانت منهيا عنها في أول الأمر، وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالكتابة لما استأذنه، ولا خصوصية لعبد الله بن عمرو، وعليه فيمكن أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلتحق بالرفيق   (1) الأنوار الكاشفة 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الأعلى إلا وكتابة الحديث مأذون فيها (1) . وعلق الدكتور نور الدين عتر على هذا الرأي بقوله: " ... إن القول بالنسخ لا يحل الإشكال في هذه المسألة،؛ لأن النهي عن الكتابة لو نسخ نسخاً عاما لما بقي الامتناع عن الكتابة في صفوف الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأقيمت الحجة عليهم من طلبة العلم الذين كانوا على أشد الحرص على تدوين الحديث، فما زال المشكل بحاجة إلى مخلص مناسب لحله" (2) . ثانياً: الجمع بين الدليلين (أحاديث النهي - أحاديث الإذن بالكتابة) والجمع في اللغة: هو الضم والاقتران. وفي الاصطلاح: هو إزالة الاختلاف بالتأليف والتوفيق والتأويل فلا يؤدي هذا التأويل إلى التعسف الشديد (3) . وبعض العلماء يرون أنه من الممكن التوفيق والتأليف بين أحاديث النهي عن الكتابة وأحاديث الإذن فيها، ويتحقق الجمع فيها بما يلي: الطريقة الأولى: 1 - وذلك بأن تحمل أحاديث النهي على حال غير الحال التي تحمل عليها أحاديث الإذن بالكتابة، كأن تحمل أحاديث النهي في حق مَنْ وُثِقَ بحفظه، وخيف اتكاله على الكتابة، وتحمل أحاديث الإذن في الكتابة في حَقِّ مَنْ لا يُوثق بحفظه، ويُخاف عليه النسيان (4) .   (1) الحديث والمحدثون 125. (2) منهج النقد 43. (3) أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف 35، ولسان العرب 1/498، مادة جمع. (4) النووي على مسلم 16/130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وقيل: النهي في حق من خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ والإذن لمن أُمِنَ منه ذلك (1) . وقيل: بأن النهي هو في حق من لا يوثق بحفظه والإباحة في حَقِّ مَنْ يُوثق بحفظه. وهذا القول لا يقره النظر لما روي من الإذن لعبد الله بن عمرو ومثله يوثق بحفظه كما يدل عليه حديث أبي هريرة: فإنه كان يكتب بيده ويعيه بقلبه، وكنت أعيه بقلبي، ولا أكتب بيدي، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب فأَذِن له (2) . أو أن تحمل أحاديث النهي عن كتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد وأحاديث الإذن تحمل على تفريقهما (3) . يؤيد ذلك ما نقله الخطابي: " إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة" (4) . فإذا لم نقل بالنسخ فلا يكون النهي وارداً فيمن فصل بينهما فكتب القرآن في صحيفة والحديث في صحيفة أخرى (5) . أو أن تحمل أحاديث النهي على وقت غير الوقت الذي تحمل عليه أحاديث الإذن، كأن تحمل أحاديث النهي على وقت نزول القرآن الكريم خشية التباسه، وتحمل أحاديث الإذن على غير هذا الوقت (6) .   (1) ابن حجر في فتح الباري 1/802. (2) كتابة الحديث النبوي، د. يوسف عبد المقصود 311، تقييد العلم 83. (3) فتح الباري 1/208. (4) معالم السنن 5/246. (5) كتابة الحديث النبوي 306. (6) تدريب الراوي 2/67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الطريقة الثانية: وذلك بأن تكون أحاديث النهي خاصة، وأحاديث الإذن عامة، فيحمل الخاص على العام، وذلك بأن يحمل الخاص فيما ورد فيه ويبقى العام على عمومه. أو يكون بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن عموم وخصوص وجهي، وذلك بأن أحاديث الإذن أو التصريح به كان خاصا بعبد الله بن عمرو بن العاص؛ لأنه اعتاد أن يكتب بالسريانية والعربية في حين أن الصحابة الآخرين باستثناء واحد أو اثنين لم يكونوا على درجة تؤهلهم للكتابة. أو أن أحاديث النهي لم تكن دائمة ولا عامة، ومن جهة أخرى فالأحاديث المصرح بتدوينها تعطي انطباعا بأن التصريح بالكتابة منح لهؤلاء الذين شَكَوْا من ضعف ذاكرتهم، وبالتالي فالذين استطاعوا حفظ أقوال النبي في الذاكرة لم يكن مسموحا لهم بالكتابة (1) . أو تكون أحاديث النهي عامة خص منها حديث عبد الله بن عمرو؛ لأنه كان قارئا كاتبا مأمونا عليه، فكان يقرأ الكتب المتقدمة ويكتب بالسريانية والعربية، وكان غيره من الصحابة أميين فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم، ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له (2) . ثالثاً: الترجيح الترجيح في اللغة: التمييل والتغليب. يقال: رجحت الكفةُ إذا غلبت   (1) دلائل التوثيق المبكر 217. (2) تأويل مختلف الحديث 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ومالت (1) . وفي الاصطلاح: عَرَّفه الأصوليون بتعاريف كثيرة. أوضح هذه التعريفات هو: " تقوية أحد الدليلين على الآخر ليعمل به ويترك الآخر" (2) . ونستطيع أن ندفع التعارض بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن في الكتابة بترجيح أحدهما على الآخر بناء على قواعد الترجيح المعمول بها عند المحدثين والأصوليين، بأن نقول: إن أحاديث النهي عن الكتابة فيها ضعف ومعظمها لم تصحَّ؛ وذلك لما يلي: بتتبع روايات النهي عن الكتابة نجد أن ثلاثةً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتهرت عنهم أحاديث النهي عن الكتابة وهم: أبو سعيد الخدري وأبو هريرة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. 1- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وحديثه قد رُوي من طريقين: الأول: طريق همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ - قال همام: أحسبه قال: متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" (3) . وهذه الرواية تكاد تكون أصح الروايات، ومع ذلك اختلف البخاري   (1) انظر مختار الصحاح 234. (2) التمهيد في أصول الفقه 4/226. (3) صحيح مسلم بشرح النووي 18 /129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ومسلم في رفعها ووقفها. قال ابن حجر: "ومنهم َمْن أعلَّ حديث أبي سعيد، قاله البخاري وغيره" (1) ، بالإضافة إلى أن تفرد همام بن يحيى عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد. قال الخطيب: " تفرد همام برواية هذا الحديث عن زيد بن أسلم هكذا مرفوعاً، وقد روي عن سفيان الثوري أيضا عن زيد، ويقال: إن المحفوظ رواية هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري من قوله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم (2) ؛ مما يجعل أحاديث إباحة الكتابة أرجح منه لخلوها من التفرد الذي في الحديث هذا. الثاني: طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: " استأذنَّا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة، فأبى أن يأذن لنا ". وهذه الرواية ضعيفة وأجمعوا على ضعف راويها عبد الرحمن (3) . 2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أما رواية أبي هريرة فقد رويت من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً قد كتبوا حديثه فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " ما هذه الكتب التي بلغني أنكم قد كتبتم، إنما أنا بشر، من كان عنده منها شيء   (1) الفتح 1/208. (2) تقييد العلم 30. (3) الجرح والتعديل 2/233، ميزان الاعتدال 2/564. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فليأت به "، فجمعناها فأخرجت. فقلنا: يا رسول الله نتحدث عنك؟ قال: "تحدثوا عني ولا حرج، ومَنْ كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (1) . وفي رواية عن ابن سهل عن أبيه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال أبو هريرة: فجمعناها في صعيد واحد فألقيناها في النار. وهذا الحديث فيه الكلام السابق نفسه لأن راويه هو عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم فلا نحتاج إلى إعادته فهذه ساقطة الاعتبار. 3- أما حديث زيد بن ثابت فله روايتان: الرواية الأولى: عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية، فسأله عن حديث، فأمر إنسانا يكتبه. فقال له زيد: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألاَّ نكتب شيئاً من حديثه" فمحاه (2) . وهذا الحديث فيه مقال أيضا ينزله عن درجة الصحيح إلى درجة الضعيف؛ ففي سنده كثير بن زيد روى ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل أن يحيى بن معين سئل عنه. فقال: "ليس بالقوي" وقال النسائي: "ضعيف" وقال أبو زرعة: "صدوق فيه لين" كما أورد له الذهبي في ((الميزان)) حديثاً فيه نكارة (3) فلا يحتج به إذن. بالإضافة إلى أن المطلب الذي روى عنه كثير هذا الحديث، لم يدرك زيد ابن ثابت ولم يسمع منه فهو منقطع (4) . الرواية الثانية عن الشعبي: أن مروان أجلس لزيد بن ثابت رجلا وراء   (1) تقييد العلم 34. (2) تقييد العلم 35. (3) الجرح والتعديل 7/151، ميزان الاعتدال 3/404، تهذيب التهذيب 8/414. (4) تهذيب التهذيب 10/179، الأنوار الكاشفة 35، دراسات في الحديث النبوي د. الأعظمي 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الستر، ثم دعاه فجلس يسأله ويكتبون، فنظر إليهم زيد فقال: يا مروان عذراً إنما أقول برأيي. فيحتمل أن ما كتب عن زيد كانت آراءه الشخصية؛ لذا كرهها زيد. وهذا لا يدل على كراهيته لكتابة الحديث؛ لأنه ثبت أنه كتب الحديث (1) . وعلى هذا فإن أحاديث النهي عن الكتابة لم تسلم من الضعف جميعها إلا حديث واحد تفرد به رواته - واختلف في وقفه ورفعه - أما الأحاديث الأخرى فالكل متفق على ضعفها قال المعلمي: " أما الأحاديث فإنما هي حديث مختلف في صحته، وآخر متفق على ضعفه " (2) . وبالتالي فإن أحاديث الإذن في الكتابة هي الراجحة وهي التي يحتج بها واستقر الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم على إباحة الكتابة. وعلى أية حال فقد فهم الصحابة أنه لا مانع من كتابة الأحاديث وتوثيقها بها، وكتبوا قسماً كبيراً من الحديث في حياته صلى الله عليه وسلم: إما احتفاظاً به لأنفسهم وإما بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سبق في الفصل الثاني الإشارة إلى بعضها، ومن الأولى: - صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، كتب صحيفة سماها الصادقة. - كتب علي بن أبي طالب صحيفة صغيرة تشتمل على العقل وعلى أحكام فكاك الأسير (3) .   (1) دراسات، الأعظمي 108. (2) الأنوار الكاشفة 34. (3) صحيح البخاري، كتاب العلم 1/204، بشرحه فتح الباري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 - كتب أبو بكر لأنس بن مالك فرائض الصدقة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) . - كتب جابر بن عبد الله رضي الله عنها صحيفة اشتهرت بصحيفة جابر (2) . - كتب سعد بن عبادة الأنصاري صحيفة وكان يروي منها (3) . - كتب ابن عباس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأتي أبا رافع الصحابي ويقول: "ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم يوم كذا؟ " ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها (4) . وقد أحصى الأعظمي في دراساته أكثر من خمسين صحابيا كتبوا الحديث (5) . - ومن النوع الثاني: كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الإسلام، وكتبه إلى عماله ككتابه لعمرو بن حزم عامله على اليمن، وعقود الصلح والمعاهدات بين المسلمين واليهود والمشركين (6) .   (1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الزكاة، 3/316. (2) طبقات ابن سعد 5/467. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الرأي الراجح: بعد أن تعرضنا لآراء العلماء في التوفيق بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن، وقلنا: إن هناك منهجين للعلماء في التوفيق بينهما، أولهما: منهج تعليل الأحاديث الواردة في النهي والإذن، والثاني: منهج دفع التعارض: إما بالنسخ أو الجمع أو الترجيح، نستطيع أن نقول: إن الرأي الراجح هو منهج التعليل في التوفيق بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن وذلك لما يلي: أولاً: أن مسألة الكتابة لا ينهى عنها لذاتها؛ لأنها ليست من القضايا التعبدية التي لا مجال للنظر فيها، ولأنها لو كانت محظورة لذاتها لما أمكن صدور الإذن بها لأحد من الناس كائنا من كان. وعلى هذا فإنه لابد من علة يدور عليها الإذن والمنع في آن واحد. يقول الدكتور نور الدين عتر: " والعلة التي تصلح لذلك من وجهة نظرنا هي ضعف الانكباب على درس غير القرآن وترك القرآن اعتمادا على ذلك" (1) . فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث الشريف مع القرآن في صحيفة واحدة خوف الالتباس. وربما يكون ذلك أول الإسلام حتى لا ينشغل المسلمون بالحديث عن القرآن الكريم، وأراد أن يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم وعلى الألواح والصحف والعظام توكيدا لحفظه، وترك الحديث للممارسة العملية والتطبيق فكانوا يرون الرسول صلى الله عليه وسلم فيقلدونه ويسمعون منه فيتبعونه،   (1) منهج النقد، 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فكأن الحديث امتزج بأرواحهم لشدة حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعتهم له واقتدائهم بسنته. وإلى جانب هذا سمح لمن لا يختلط عليه القرآن بالسنة أن يدون السنة كعبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وأباح لمن يصعب عليه الحفظ أن يستعين بيده، حتى إذا حفظ المسلمون قرآنهم وميزوه عن الحديث جاء الإذن بالإباحة. ثانياً: إن القول بتعليل النهي والإذن لا يمنع تخصيص النهي بالسماح لبعض من لا تتحقق فيهم هذه العلة، فالنهي لم يكن عاما والإباحة لم تكن عامة، فحيثما تحققت علة النهي منعت الكتابة وحيثما زالت أبيحت الكتابة. ثالثاً: القول بالتعليل لا يمنع القول بنسخ الإباحة لأحاديث النهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الخاتمة : وتتضمن أهم نتائج البحث: 1 - أن العرب عرفوا الكتابة قبل الإسلام بثلاثة قرون ولكن غلب عليهم عدم معرفتها، وأنهم كما وصفهم الله تعالى أمة أميَّة لغلبة الأمية عليهم، وليس بمعنى أنهم ليسوا أهل كتاب. 2 - أن الكتابة انتشرت بعد الإسلام لما أمرت به الشريعة من الحث على طلب العلم حتى كثر الكاتبون من الرجال والنساء، وبلغ عدد كُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم خمسين كاتبا يكتبون له الوحي وكل ما يتعلق بشؤون الدولة. 3 - من الممكن التوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها؛ لأنها كانت معللة بعلل فلما زالت هذه العلل عاد الأمر إلى الإذن بالكتابة. 4 - من الممكن التوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها عن طريق منهج الأصوليين في دفع التعارض، وذلك عن طريق القول بالنسخ حيث إن الإذن بالكتابة كان متأخراً عن النهي عنها وحينئذ فالمتأخر ناسخ للمتقدم، فآخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإذن بالكتابة 5 - من الممكن التوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها، عن طريق الجمع بينهما بحمل كل منهما على حال غير حال الأخرى، وذلك مثلا بحمل أحاديث النهي على كتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد، وحمل أحاديث الإذن على تفريقهما. أو النهي في حق من خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ والإذن لمن أمن ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 6 - من الممكن القول بأن أحاديث الإذن في الكتابة هي الراجحة على أحاديث النهي وذلك لأن أحاديث النهي معظمها فيها ضعف. 7 - نستطيع أن نقول: إن القول الراجح في التوفيق بين أحاديث النهي والإذن هو أن أحاديث النهي كانت معللة ولا سيما أن مسألة الكتابة لا ينهى عنها لذاتها؛ لأنها من القضايا التعبدية التي لا مجال للنظر فيها؛ ولأنها لو كانت محظورة لذاتها لما أمكن صدور الإذن بها لأحد من الناس كائنا من كان. 8 - أن الحديث كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كتابات فردية للاستذكار، وكتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخص الدعوة إلى الله، وبيان أصول الإسلام وفرائضه وفيما يتعلق بشؤون الدولة الإسلامية والسياسية والاقتصادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 مصادر ومراجع ... المراجع: 1. أصول الفقه، لشمس الدين محمد مفلح المقدسي الحنبلي، تحقيق فهد محمد السدحان، ط1، مكتبة العبيكان، 1420هـ. 2. أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف، دار القلم، بيروت. 3. الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين أبي الحسن علي بن محمد الآمدي، دار الاتحاد العربي للطباعة. 4. الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وآداب السماع، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي، تحقيق السيد أحمد صقر، الطبعة الأولى، دار التراث، 1978م، القاهرة. 5. الأنوار الكاشفة، تأليف عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، الطبعة الهندية. 6. البيان والتبيين، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، دار الفكر. 7. تاريخ الطبري لأبي جعفر الطبري، ط.2، دار المعارف، مصر. 8. تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة الدينوري، دار الكتاب العربي بيروت. 9. تدريب الراوي في شرح تقريب للنووي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار التراث، القاهرة، ط2، 1972م. 10. التراتيب الإدارية، للكتاني، الرباط، 1346- 1349هـ. 11. تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، ط2، دار الرشيد، سوريا، حلب. 12.تقييد العلم، للخطيب البغدادي، ط 2، 1974م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 13.التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب محفوظ أحمد بن الحسن الكلوذاني الحنبلي، تحقيق الدكتور محمد علي إبراهيم، مؤسسة الريان، ط3، 1421هـ. 14.تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، ط1، دار الفكر العربي. 15.توثيق السنة في القرن الثاني الهجري أسسه واتجاهاته، د. رفعت فوزي عبد المطلب، ط1، مكتبة الخانجي بمصر 1981م. 16.توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، محمد بن إسماعيل الصنعاني، ط1، 1997م دا الكتب العلمية، بيروت. 17.تيسير التحرير، محمد أمين المعروف بالأمير باد شاه، دار الكتب العلمية، بيروت. 18.جامع بيان العلم وفضله، للحافظ ابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي. 19.الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم الرازي ط1، حيدر آباد الدكن. 20.الحديث والمحدثون، محمد محمد أبو زهو، ط مصر. 21.دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه، د. محمد مصطفى الأعظمي، جامعة الرياض. 22.دراسات في السنة النبوية الشريفة، د. صديق عبد العظيم أبو الحسن. 23.دلائل التوثيق المبكر للسنة والحديث، د امتياز أحمد، ط1، القاهرة، 1990م. 24.زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية. 25.سنن أبي داود، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 26.سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 27.سنن الدارقطني، دار المحاسن للطباعة، القاهرة. 28.سنن الدارمي، تحقيق محمد أحمد دهمان، دمشق، 1349هـ، والطبعة الثانية، بتحقيق فواز أحمد زمرلي، دار الكتاب العربي، بيروت. 29.السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، ط3، 1980م، دار الفكر. 30.السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، ط2، المكتب الإسلامي. 31.شرح مختصر ابن الحاجب، تصحيح د. شعبان إسماعيل، مكتبة الكليات الأزهرية. 32.صحائف الصحابة وتدوين السنة النبوية المشرفة، أحمد عبد الرحمن الصويان، ط1، 1990م. 33.صحيح مسلم بشرح النووي، دار الفكر. 34.طبقات ابن سعد، تحقيق سخاو، طبعة ليدن. 35.علوم الحديث ومصطلحه، د. صبحي الصالح، ط8، 1975م، دار العلم للملايين. 36.فتوح البلدان للبلاذري، تحقيق رضوان محمد رضوان، القاهرة، 1932م، طبعة لندن، 1866م. 37.كتاب العلم، للحافظ أبي خيثمة، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1983م، دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 38.كتابة الحديث النبوي بين الحظر والإباحة، يوسف عبد المقصود إبراهيم، حولية كلية الشريعة. 39.لسان العرب المحيط، لابن منظور، إعداد وتصنيف يوسف خياط ونديم مرعشلي، دار لسان العرب، بيروت. 40.جلة مركز بحوث السنة والسيرة، العدد 6 - 1992م. 41.المحصول، لفخر الدين الرازي، تحقيق د. طه العلواني، دار الكتب العلمية، بيروت. 42.المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، للقاضي الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي تحقيق د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، ط1 1971م. 43.مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، ط دار القلم، بيروت. 44.مسند الإمام أحمد، طبعة المكتب الإسلامي، والطبعة التي حققها الشيخ شعيب الأرنؤوط ومن معه. 45.مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، د. ناصر الدين الأسد، ط 8، 1988م دار الجيل، بيروت. 46.المصنف، عبد الرزاق بن همام، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، ط1،1972م، الهند. 47.معالم السنة النبوية، د عبد الرحمن عتر، جامعة البترول والمعادن، الدراسات الإسلامية، مكتبة المنار، الزرقاء، الأردن، ط1 - 1986م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 48.معالم السنن، لأبي سليمان الخطابي، تحقيق محمد حامد الفقي، طبع على نفقة الملك خالد رحمه الله، مطبعة السنة المحمدية 1941م. 49.المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، دار الدعوة، إستانبول، 1985م. 50.مفتاح السنة أو تاريخ فنون الحديث، محمد عبد العزيز الخولي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 1983 م. 51.مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح، منشورات دار الحكمة، دمشق. 52.مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، دار الفكر. 53.منهج النقد في علوم الحديث، د. نور الدين عتر، ط3، 1981م، دار الفكر. 54.ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي، دار المعرفة، لبنان. 55.النسخ في دراسات الأصوليين، د. نادية شريف العمري، ط 1، 1985م، مؤسسة الرسالة. 56.نهاية السول، للإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي، شرح منهاج الوصول في علم الأصول، للقاضي ناصر الدين البيضاوي، صححه عبد القادر محمد علي، ط1، 1420هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55