الكتاب: كتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين المؤلف: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي المحقق: بشير محمد عيون الناشر: مكتبة المؤيد، الطائف، المملكة العربية السعودية/ مكتبة دار البيان، دمشق، الجمهورية العربية السورية الطبعة: الأولى، 1411هـ/1990م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- كتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ الكتاب: كتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين المؤلف: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي المحقق: بشير محمد عيون الناشر: مكتبة المؤيد، الطائف، المملكة العربية السعودية/ مكتبة دار البيان، دمشق، الجمهورية العربية السورية الطبعة: الأولى، 1411هـ/1990م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... كتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء المرسلين تأليف: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بسم الله الرحمن الرحيم تقديم إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وبعد: فهذا كتاب "قرة عيون الموحدين" للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، المتوفي سنة "1285 " هـ، وقد وضع فيه بعض الحواشي المفيدة على كتاب جده شيخ الإسلام في عصره الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي التميمي المتوفى سنة "1206 " هـ، الذي دعا إلى توحيد الله عز وجل وعدم الإشراك به، وقد تبعه في ذلك حفيده الشيخ عبد الرحمن، فوضع بعض الحواشي المختصرة في كتابه هذا الذي سماه "قرة عيون الموحدين "، وإنه بحق قرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين، الذين دعوا إلى عبادة الله وحده وعدم الإشراك به، فبين الشيخ عقيدة التوحيد، وحذر مما يعد من الشرك الذي تساهل الناس فيه في عصرنا الحاضر، كالتمائم، والتبرك بالأحجار والأشجار وغيرهما، وبين أنه لا تجوز العبادة إلا لله تعالى، وأن الذبح أيضا لا يجوز إلا لله، وكذلك النذور لا تجوز إلا لله، وأن من الشرك أن يستغيث الإنسان بغير الله تعالى وأنه ينبغي أن لا يسأل غير الله تعالى، ولا يستعين إلا بالله، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: " وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " 1 وقال تعالى في القرآن الكريم: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 2. وبين رحمه الله أن سبب كفر بني آدم، الغلو في الصالحين حتى صارت كالأوثان تعبد من دون الله، وحذر الناس من السحر والكهانة، والتطير والتنجيم والاستسقاء بالأنواء، وبين أن من الشرك الحلف بغير الله تعالى، وأن على المؤمن أن يسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وبين أيضا رحمه الله أن رسول الله صلي الله عليه وسلم حمى التوحيد وسد طرق الشرك، ومن أراد في هذا شرحا وافيا فعليه أيضا بكتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" الذي هو شرح أيضا للمؤلف نفسه   1الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293 ,1/303 ,1/307) . 2 سورة يونس آية: 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 على كتاب جده "التوحيد"، فإنه قد أجاد فيه، وأفاد، جزاه الله تعالى خيرا. وإننا نقدم للناس هذه الرسالة في وقت أحوج ما نكون فيه إلى تصحيح عقائد المسلمين والرجوع بها إلى النبع الصافي من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم وهي تعطينا صورة صادقة لما كانت عليه عقيدة الأمة الإسلامية في قرونها الخيرة التي تلقوها عن أئمتهم، وهي عقيدة السلف الصالح، وهي العقيدة السليمة والطريقة المستقيمة التي ينبغي على كل مسلم أن يسلك سبيلها، وأن يسير على منهاجها، نسأل الله تبارك وتعالى أن يميتنا على عقيدة أهل السنة والجماعة، وأن يحشرنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله وكفي بالله عليما. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. كتبه خادم السنة النبوية عبد القادر الأرناؤوط مقدمة المحقق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه، وبعد، اعتمدت في تحقيق كتاب "قرة عيون الموحدين" على طبعة الأستاذ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى، الذي هو حاشية على "كتاب التوحيد" لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، المطبوعة بمطبعة المنار سنة 1346هـ، وقد رأينا أن الفائدة لا تتم من الكتاب إلا إذا كان مصدر بكتاب التوحيد كاملا فكان عملنا: 1- صدرت "كتاب التوحيد" في أعلى الصفحات. 2- جعلت "كتاب قرة عيون الموحدين" حاشية له وبحرف مغاير للأول. خرجت أحاديث الكتابين، وذلك بالرجوع إلى كتب السنة المطهرة، وإلى كتب الشيخين محمد ناصر الدين الألباني وعبد القادر الأرناؤوط، وألحقت بالكتاب فهرسا لأطراف الحديث وآخر لموضوعات الكتاب. وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب ويقر به عيون الموحدين، الذين يتبعون رسالاته ويخشونه ولا يخشون أحدا سواه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. بشير محمد عيون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم 1- باب " حق الله على العباد وحق العباد على الله " وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 1. وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2 الآية. .................................................................................................. بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن يا كريم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الكلام على البسملة بين مذكور في الشرح، والبداءة بها سنة، كما فعل البخاري وغيره من العلماء اتباعا للسنة في مراسلات النبي صلي الله عليه وسلم للملوك وغيرهم، وفي الأمر بالبداءة بها حديث معروف3. "كتاب التوحيد"المراد بالتوحيد توحيد العبادة، وكل رسول يفتتح دعوته لقومه بهذا التوحيد: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 4 كما في سورة الأعراف وهود وغيرهما. وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 5 دلت الآية على أن الله تعالى خلق الخلق لحكمة عظيمة، وهي القيام بما وجب عليهم من عبادته وحده بترك عبادة ما سواه، ففعل الأول وهو خلقهم ليفعلوا هم الثاني وهي العبادة. قال شيخ الإسلام: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وقال أيضا: والعبادة اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته، وكمال الذل لله ونهايته،   1 سورة الذاريات آية: 56. 2 سورة النحل آية: 36. 3 الحديث ضعيف لاضطراب الرواة فيه عن الزهري , وكل من رواه عنه موصولا ضعيف أو السند إليه ضعيف , والصحيح عنه مرسلا. والله أعلم. انظر الإرواء رقم (1) و"الأذكار" للنووي طبعتنا رقم (339) . 4 سورة المؤمنون آية: 32. 5 سورة الذاريات آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ .................................................................................................. فالحب الخلي عن ذل والذل الخلي عن حب لا يكون عبادة، وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين. وقال أيضا: وأما ما خلقوا له من محبة الله تعالى ورضاه فهو إرادته الدينية، فذلك مذكور في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} 1 2. وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3 الآية. يخبر تعالى أنه بعث في كل قرن وطائفة من الأمم رسولا يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وينهاهم عن عبادة ما زينه الشيطان لهم وأوقعهم فيه من عبادة ما سواه، فمنهم من هدى الله ووحده تعالى بالعبادة وأطاع رسله، ومنهم من حقت عليه الضلالة فأشرك مع الله غيره بعبادته، ولم يقبل هدى الله الذي جاءت به الرسل، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4. وهذا التوحيد الذي خلقوا له ودعوا إليه هو توحيد الإلهية، توحيد القصد والطلب. وأما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الأفعال، فهو توحيد العلم والاعتقاد، وأكثر الأمم قد أقروا به لله. وأما توحيد الإلهية فأكثرهم قد جحدوه، كما قال تعالى عن قوم هود لما قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 5 {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 6 وقال مشركو قريش: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 7، وهذه الآية وهي قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 8، هذه الآية تبين معنى الآية قبلها وكذلك الآيات بعدها، وأن المراد بالعبادة التي خلقوا لها هي العبادة الخالصة التي لم يلبسها شرك بعبادة شيء سوى الله كائنا ما كان، فلا تصح الأعمال إلا بالبراءة من عبادة كل ما يعبد من دون الله، والله تعالى خلق الثقلين ليعبدوه، فمنهم من فعل، ومنهم من أشرك وكفر، كما قال تعالى في هذه الآية: {فَمِنْهُمْ   1 سورة الذاريات آية: 56. 2 انظر: كتاب العبودية ص 454 المطبوع ضمن مجموعة التوحيد ص 454، طبعتنا. 3 سورة النحل آية: 36. 4 سورة الأنبياء آية: 25. 5 سورة اأعراف آية: 65. 6 سورة الأعراف آية: 70. 7 سورة ص آية: 5. 8 سورة النحل آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 1.وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 2 يبين أن حكمة الرب في خلقه للجن والإنس لا تقتضي أن كلا يفعل ما خلق له وأرسلت الرسل لأجله، ولهذه الحكمة أهلك الله من لم يعبده وحده، ولم يقبل ما جاءت به رسله، وشرع قتالهم لنبيه صلي الله عليه وسلم وأتباعه، فمنهم من أطاع وهم الأقلون، ومنهم من عصى وهم الأكثرون. وهذا التوحيد هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، كما قال الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف عليهم السلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 3، وهذا هو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وأمر الرسل أن يقيموه، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 4، وقال لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 5، فأمره أن يعبده وحده وأن يدعو الأمة إلى ذلك. والقرآن كله في هذا التوحيد وبيانه وجزائه والرد على من جحده، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. هْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 6 وفي حديث معاذ الذي رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال: قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال: "سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان- وذكر الحج - ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ " قلت: بلى يا رسول الله. قال: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروه سنامه الجهاد في سبيل الله " 7. فدل على أن الإسلام هو التوحيد، والفرائض من حقوقه. وقد أجمع الفقهاء على أن الإسلام شرط لصحة الصلاة وغيرها من الأعمال، وهو   1 سورة النحل آية: 36. 2 سورة النساء آية: 64. 3 سورة يوسف آية: 40. 4 سورة الشورى آية: 13. 5 سورة الرعد آية: 36. 6 سورة المائدة آية: 15-16. 7 لم يروه أبو داود , وإنما الترمذي رقم (2619) في الإيمان: باب ما جاء في حرمة الصلاة , وأحمد في "المسند" 5/ 231 و 234 و237 و 245 و 246 , وابن ماجه رقم (3973) في الفتن: باب كف اللسان في الفتنة، وصححه الحاكم 2 / 413 ووافقه الذهبي , وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح , وهو كما قالوا. انظر "الإرواء" رقم (413) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1 الآية. وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2الآيه. وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} .................................................................................................. مقتضى الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله. فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله: نفي الشرك والبراءة منه وممن فعله، وإخلاص العبادة لله وحده، والإيمان بالرسول وطاعته وهو معنى الآية الثالثة، وهي قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 3 أي أمر ووصى. فقوله: " أَلا تَعْبُدُوا " فيه معنى "لا إله" وقوله: " إِلا إِيَّاهُ " فيه معنى " إِلا اللَّهَ ". وهذا معنى كلمة الإخلاص كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} 4 فقوله: " أَلا تَعْبُدُوا " فيه معنى "لا إِلَهَ" وقوله: " إِلا اللَّهَ " هو المستثنى في كلمة الإخلاص فسبحان الله كيف خفي هذا مع بيانه ووضوحه على الأذكياء من متأخري هذه الأمة؟. وقول الله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 5 - الآية. وهذه الآية تبين العبادة التي خلقوا لها أيضا، فإنه تعالى قرن الأمر بالعبادة التي فرضها بالنهي عن الشرك الذي حرمه وهو الشرك في العبادة، فدلت هذه الآية على أن اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة، فلا تصح بدونه أصلا، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 6، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 7، فتقديم المعمول يفيد الحصر، أي بل الله فاعبد وحده لا غير، كما في فاتحة الكتاب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 8. وقرر تعالى هذا التوحيد بقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 9. والدين هو العبادة بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاؤه يوم المعاد الثاني. وتقدم أن أصله وأساسه توحيد العبادة، فلا تغفل عما تقدم. قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ   1 سورة الإسراء آية: 23. 2 سورة النساء آية: 36. 3 سورة الإسراء آية: 23. 4 سورة آل عمران آية: 64. 5 سورة النساء آية: 36. 6 سورة الأنعام آية: 88. 7 سورة الزمر آية: 65-66. 8 سورة الفاتحة آية: 5. 9 سورة الزمر آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 إِحْسَاناً} 1 أي حرم عليكم الشرك الذي نهاكم عنه بقوله: {أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2 فالشرك أعظم ذنب عصي الله به أكبره وأصغره. وقد وقع الأكثر من متأخري هذه الأمة في هذا الشرك الذي هو أعظم المحرمات، كما وقع في الجاهلية قبل مبعث النبي صلي الله عليه وسلم، عبدوا القبور والمشاهد والأشجار والأحجار والطواغيت والجن، كما عبد أولئك اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام والأوثان، واتخذوا هذا الشرك دينا ونفروا إذا دعوا إلى التوحيد أشد نفرة، واشتد غضبهم لمعبوداتهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 3، وقال تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} 4، وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 5. علموا أن لا إله إلا الله تنفي الشرك الذي وقعوا فيه، وأنكروا التوحيد الذي دلت عليه، فصار أولئك المشركون أعلم بمعنى هذه الكلمة: "لا إله إلا الله" من أكثر متأخري هذه الأمة، لا سيما أهل العلم منهم الذين لهم دراية في بعض الأحكام وعلم الكلام، فجهلوا توحيد العبادة، فوقعوا في الشرك المنافي له وزينوه، وجهلوا توحيد الأسماء والصفات وأنكروه، فوقعوا في نفيه أيضا. وصنفوا فيه الكتب لاعتقادهم أن ذلك حق وهو باطل. وقد اشتدت غربة الإسلام حتى عاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، فنشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 6.   1 سورة الأنعام آية: 151. 2 سورة الأنعام آية: 151. 3 سورة الزمر آية: 45. 4 سورة الإسراء آية: 46. 5 سورة الصافاتآية: 35-36. 6 رواه مسلم رقم (145) (146) في الإيمان: باب بيان الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما , وتمامه: " وهو يأخذ يأرز بين المسجدين , كما تأرز الحية في حجرها " , ورواه أحمد 2/ 389, وابن ماجه رقم (3987) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه , وتمامه: " فطوبى للغرباء" , وأحمد 4/73 من حديث عبد الرحمن بن سنة وتمامه: " قيل: يا رسول الله! من الغرباء؟ قال: " الذين يصلحون إذا فسد الناس" , ورواه أحمد 1 / 184 من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه , ورواه أحمد 1 / 398 , والدارمي (2758) , والترمذي رقم (2631) , وابن ماجه رقم (3988) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وللحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله رسالة في هذه الأحاديث وشرحها سماها " كشف الكربة في وصف أهل الغربة" وقد طبعت أكثر من مرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلي الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 1 إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} " الآية.2. .................................................................................................. وقد قال صلي الله عليه وسلم: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 3. وهذا الحديث قد صح من طرق، كما ذكره العماد ابن كثير وغيره من الحفاظ، وهو في "السنن" وغيرها، ورواه محمد بن نصر في "كتاب الاعتصام". وقد وقع ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم بعد القرون الثلاثة، فلهذا عم الجهل بالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام، فإن أصله أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وقد ترك هذا وصارت عبادة الأكثرين مشوبة بالشرك والبدع، لكن الله تعالى - وله الحمد - لم يخل الأرض من قائم له بحججه، وداع إليه على بصيرة؛ لكي لا تبطل حجج الله وبيناته التي أنزلها على أنبيائه ورسله، فله الحمد والشكر على ذلك. قوله: "التي عليها خاتمه " شبه هذه الوصية بوصية كتبت فختمت، أي فلم تتغير ولم تتبدل، أراد أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يزل يدعو الأمة من حين بعثه الله تعالى إلى أن توفاه - صلوات الله وسلامه عليه - إلى ما تضمنته هذه الآيات المحكمات أمرا ونهيا، كما قال تعالى عن خليله عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّى بِهَا   1 سورة الأنعام آية: 151. 2 رواه الترمذي رقم (3072) في التفسير من سورة الأنعام، والطبراني في الأوسط رقم (1208) ، وقال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب. 3 قال الألباني في " الأحاديث الصحيحة" رقم (1492) : رواه ابن ماجه رقم (3992) وابن أبي عاصم. في "السنة" (63) ، واللالكائي في " شرح السنة" (1/23/1) من طريقين عن عباد بن يوسف حدثني صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك مرفوعا قلت: وهذا إسناد جيد , رجاله ثقات معروفون غير عباد بن يوسف وهو الكندي الحمصي , وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" ووثقه غيره، وروى عنه جمع. وللحديث شواهد اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: " كنت رديف النبي صلي الله عليه وسلم على حمار فقال لي: " يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: " فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا"، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: " لا تبشرهم فيتكلوا " أخرجاه في " الصحيحين"1. .................................................................................................. قوله: " وعن معاذ بن جبل رضي عنه، قال: كنت رديف النبي صلي الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد، على الله.". فساقه المصنف - رحمه الله تعالى - هنا لتضمنه معنى الآيات التي تقدمت، وذلك قوله: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا "2. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: حق الإله عبادة بالأمر لا ... من غير إشراك به شيئا هما لم ينج من غضب الإله وناره ... والناس بعد فمشرك بالهه بهوى النفوس فذاك للشيطان ... سبب النجاة فحبذا السببان إلا الذي قامت به الأصلان ... أو ذو ابتداع أو له الوصفان "وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا"، ليس على الله حق واجب   1 البخاري رقم (2856) في الجهاد: باب اسم الفرس والحمار , ورقم (5967) في اللباس: باب حمل صاحب الدابة غيره بين يديه , ورقم (6267) في الاستئذان: باب من أجاب بـ لبيك وسعديك، ورقم (6500) في الرقاق: باب من جاهد نفسه , ورقم (7373) في التوحيد: باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى , ومسلم رقم (30) في الإيمان: باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا , والترمذي رقم (2645) في الإيمان: باب ما جاء في افتراق هذه الأمة , وأحمد في " المسند " 3/ 260 و 261 , وابن ماجه رقم (4296) في الزهد: باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة. 2 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس. الثانية: أن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه. الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 1. الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل. الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة. السادسة: أن دين الأنبياء واحد. السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت; ففيه معنى قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} 2 الآية. الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله. التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام "151-153" عند السلف، وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك. العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها الله بقوله: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} 3 وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 4، ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} 5. بالعقل كما تزعم المعتزلة، لكن هو سبحانه أحق ذلك على نفسه تفضلا وإحسانا على الموحدين المخلصين الذين لم يلتفتوا في إرادتهم ومهماتهم ورغباتهم ورهباتهم إلى أحد سواه، ولم يتقربوا بما يقولونه ويعملونه من الطاعات إلا إليه وحده، والله أعلم.   1 سورة الكافرون آية: 3 و 5. 2 سورة البقرة آية: 256. 3 سورة الإسراء آية: 22. 4 سورة الإسراء آية: 39. 5 سورة الإسراء آية: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 1 الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلي الله عليه وسلم عند موته. الثالثة عشرة: معرفة حق الله تعالى علينا. الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه. الخامسة عثرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة. السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره. الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله. التاسعة عشرة: قول المسئول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم. العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. الحادية والعشرون: تواضعه صلي الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه. الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة. الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل. الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.   1 سورة النساء آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 2- باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1 الآية. .................................................................................................. "باب فضل التوحيد " الباب هو المدخل إلى الشيء. قوله: "وما يكفر من الذنوب". "ما " مصدرية أي وتكفيره الذنوب. ويجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي والذي يكفره من الذنوب، والمراد بالتوحيد توحيد العبادة، وهو إفراد الله تعالى بأنواع العبادة الباطنة والظاهرة. كالدعاء والذبح والنذر ونحوه، كما قال تعالى:   1 سورة الأنعام آية: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " أخرجاه1. ولهما في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " 2. {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 3، وقال تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4. .................................................................................................. وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 5. واللبس الخلط. والمراد بالظلم هنا الشرك الأكبر؛ لما ثبت في حديث ابن مسعود وغيره مرفوعا: "إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " 6.   1 البخاري رقم (3435) في الأنبياء: باب قول الله تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} ، ومسلم رقم (28) في الإيمان: باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، والترمذي رقم (2640) في الإيمان: باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله , وأحمد في "المسند" 5 / 314. 2 البخاري رقم (425) في الصلاة: باب المساجد في البيوت , ورقم (1186) و (5401) و (6423) و (6938) ، ومسلم في الإيمان: رقم (33) و (263) في المساجد: باب الرخصة في التخلف عن الجماعة , وأحمد في " المسند" 4 / 44 و5 /449. 3 سورة غافر آية: 14. 4 سورة غافر آية: 65. 5 سورة الأنعام آية: 82. 6 البخاري رقم (32) في الإيمان: باب ظلم دون ظلم , ورقم (3360) في الأنبباء: باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} ورقم (3428 و 3429) باب: قول الله تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة} ورقم (4629) في التفسير سورة الأنعام: باب (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) ورقم (4776) وفي تفسير سورة لقمان: باب " لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " ورقم (6918) في استتابة المرتدين: باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة , ورقم (6937) : باب ما جاء في المتأولين , ومسلم رقم (124) في الإيمان: باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعد , والترمذي رقم (3069) في التفسير: باب ومن سورة الأنعام , وأحمد في " المسند" 1 / 424 من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أراد أن من لم يجتنب الشرك لم يحصل له أمن ولا اهتداء بالكلية. وأما من سلم منه فيحصل له من الأمن والاهتداء بحسب مقامه في الإسلام والإيمان. فلا يحصل الأمن التام والاهتداء التام إلا لمن لم يلق الله بكبيرة مصرا عليها. وأما إن كان للموحد ذنوب لم يتب منها حصل له من الأمن والاهتداء بحسب توحيده. وفاته منه بقدر معصيته، كما قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. فالظالم لنفسه هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا. فهو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء أخذه بذنبه ونجاه بتوحيده من الخلود في النار. وأما المقتصد فهو الذي عمل بما أوجب الله عليه، وترك ما حرم عليه فقط، وهذه حال الأبرار. وأما السابق فهو الذي حصل له كمال الإيمان باستفراغه وسعه في طاعة الله علما وعملا. فهذان لهم الأمن التام والاهتداء التام في الدنيا والآخرة، فالكل للكل والحصة للحصة، لأن كمال الإيمان يمنع صاحبه من المعاصي وعقوباتها، فلم يلق ربه بذنب يعاقب به، كما قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} 2. وهذا الذي ذكرته في معنى هذه الآية هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -، وابن القيم - رحمه الله - في معناها، وهو الذي دل عليه القرآن، وهو قول أهل السنة والجماعة، خلافا لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة ونحوهم. قوله: "من شهد" لا ريب أن الشهادة لا تكون شهادة إلا إذا كانت عن علم ويقين وصدق، وأما مع الجهل والشك فلا تعتبر ولا تنفع، فيكون الشاهد والحالة هذه كاذبا لجهله بمعنى الذي شهد به، وقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة نفيا وإثباتا، فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله بقولك: "لا إله"، وأثبتت الإلهية لله وحده بقولك: "إلا الله". قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. فكم ضل بسبب الجهل بمعناها من ضل وهم الأكثرون، فقلبوا حقيقة المعنى فأثبتوا الإلهية المنفية لمن نفيت عنه من المخلوقين أرباب القبور والمشاهد والطواغيت والأشجار والأحجار والجن وغير ذلك. واتخذوا ذلك دينا وشبهوا وزخرفوا واتخذوا التوحيد بدعة.   1 سورة فاطر آية: 32. 2 سورة النساء آية: 147. 3 سورة آل عمران آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وأنكروه على من دعاهم إليه، فلم يعرفوا منها ما عرف أهل الجاهلية من كفار قريش ونحوهم1 فإنهم عرفوا معناها وأنكروا ما دلت عليه من الإخلاص، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 2. والمشركون من أواخر هذه الأمة أنكروا ما أنكره أولئك على من دعاهم إلى ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله من القبور والمشاهد والطواغيت ونحوها، فأولئك عرفوا هذا المعنى وأنكروه، وهؤلاء جهلوا هذا المعنى وأنكروه، فلهذا تجده يقول لا إله إلا الله، وهو يدعو مع الله غيره. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وإنابة وإكراما وتعظيما، وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا. وقال الوزير أبو المظفر - رحمه الله تعالى - في "الإفصاح" قوله: شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأن لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} 3. قال: واسم الله مرتفع بعد إلا من حيث إنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت وعلى الإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله كنت ممن كفر بالطاغوت، وآمن بالله. وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان قدحا في إخلاصه في قول لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك. وقال البقاعي: "لا إله إلا الله"، أي انتفى نفيا عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم قال: وهذا العلم هو من أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما   1 قال الأستاذ محمد رشيد - رحمه الله تعالى -: سبب ذلك أن عرب الجاهلية هم أهل لغة القرآن الفصحاء فلا يجهلون شيئا من معنى التوحيد الذي قرره. وأما هؤلاء الذين فشا فيهم شرك العبادة فليسوا من أهل ملكة هذه اللغة , وإنما يدينون بالاصطلاحات التي تلقاها بعضهم من بعض من كلامية وعامية , وإذا كان مثل الفخر الرازي من أكبر أئمة متكلميهم وأصوليهم أخطأ في فهم معنى الإله في تفسير: " قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " , فما الظن بمن دونه من علمائهم , دع عامهم ودهماءهم؟ هل يستغرب منهم الجهل بأن من دعا ميتا أو صالحا حيا فيما لا يدعى فيه إلا الله , أو طاف بقبره ونذر له يكون عابدا له , ومتخذا له إلها اهـ. 2 سورة الصافات آية: 35-36. 3 سورة محمد آية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف. "قلت ": وهؤلاء المتأخرون جهلوا معنى الإله، وقلبوا حقيقة المعنى إلى معنى توحيد الربوبية، وهو القدرة على الاختراع فأثبتوا ما نفته "لا إله إلا الله" من الشرك، وأنكروا ما أثبتته من إخلاص العبادة لله جهلا منهم، وقد قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 1. قال محيي الدين النووي: اعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد ضيع من أزمان متطاولة، ولم يبق في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح. قوله: في هذه الأزمان يعني القرن الخامس والسادس، وإذا كان كذلك فما الظن بالقرن العاشر وما بعده، وقد استحكمت فيها الغربة، ولشيخنا محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الكلمة كلام بديع واضح لم يسبق إلى مثله، فليراجع لمسيس الحاجة إليه. قوله في الحديث: "وحده لا شريك له " تأكيد لمعنى لا إله إلا الله الذي دلت عليه ووضعت له من باب اللف والنشر المقدم والمؤخر، وهو بيان لمعنى هذه الكلمة؛ لأنها دلت بجملتها على التوحيد، فلا إله تنفي الشرك في العبادة قليله وكثيره، وبينه بقوله: "لا شريك له" في إلهيته وهي العبادة. وقوله: "وحده " هو معنى "إلا الله" فهو الإله الحق وحده دون كل ما سواه من أهل السماوات والأرض، كما دلت على ذلك الآيات المحكمات ومتواتر الأحاديث، فتدبر هذا البيان يطلعك على بطلان قول من يقول بجواز دعوة غير الله، والله تعالى يقول لنبيه: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 2 وغيرها من الآيات الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى. فقوله: " وحده" تأكيد للإثبات. وقوله: " لا شريك له " تأكيد للنفي. وقوله: "وأن محمدا عبده ورسوله " أي وشهد أن محمدا عبده ورسوله، أي بصدق ويقين، وذلك يقتضي اتباعه وتعظيم أمره ونهيه ولزوم سنته صلي الله عليه وسلم، وأن لا تعارض بقول أحد؛ لأنه غيره صلي الله عليه وسلم يجوز عليه الخطأ، والنبي صلي الله عليه وسلم قد عصمه الله تعالى وأمرنا بطاعته والتأسي به، والوعيد على ترك طاعته بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ   1 سورة الزمر آية: 2. 2 سورة الشعراء آية: 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 1 الآية. وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وقد وقع في التفريط في المتابعة وتركها وتقديم أقوال من يجوز عليهم الخطأ على قوله صلي الله عليه وسلم لا سيما من العلماء كما لا يخفى. قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله " فيه بيان الحق الذي يجب اعتقاده كما في الآيات المحكمات، وما فيه من الرد على كفار النصارى وهم ثلاث طوائف: طائفة قالوا: إن عيسى هو الله. وطائفة قالوا: ابن الله. وطائفة قالوا: ثالث ثلاثة: يعنون عيسى وأمه، فبين تعالى في كتابه الحق وأبطل الباطل فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} 3 والآيات بعدها. وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} في مواضع من المائدة 4. وأخبر تعالى عما قاله المسيح - عليه السلام - وهو في المهد فقال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً. ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 5. فبين تعالى الصراط المستقيم الذي من سلكه نجا ومن خرج عنه هلك، وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} 6 فبين تعالى الصراط المستقيم بيانا شافيا ووافيا وأقام حججه على توحيده فأحق الحق وأبطل الباطل ولو كره المشركون. قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي قوله: كن، فخلقه بكن فكان، ففيه إثبات صفة   1 سورة الأحزاب آية: 36. 2 سورة النور آية: 63. 3 سورة النساء آية: 171. 4 آية: 17، 72. 5 سورة مريم آية: 27-36. 6 سورة آل عمران آية: 59-60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الكلام لله تعالى خلافا للجهمية أيضا. قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي من الأرواح التي استخرجها من صلب آدم عليه السلام، وأخذ عليها العهد على أنه تعالى ربهم وإلههم، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1 الآيات. وروح عيسى من تلك الأرواح التي خلقها الله تعالى. وذكر ابن جرير عن وهب بن منبه قال: نفخ جبريل في جيب درع مريم حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت. وعن السدي أن النفخة دخلت في صدرها فحملت. وقال ابن جريح: يقولون إنما نفخ في جيب درعها وكمها. انتهى مختصرا. فجبريل نفخ والله خلق يقول كن فكان كما قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} 2، فسبحان من لا يخلق غيره ولا يعبد سواه، وقد أورد بعض النصارى على بعض علماء المسلمين قول الله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} ، فقال في الجواب: هذا ليس خاصا بعيسى عليه السلام بل المخلوقات كذلك كلها كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 3 أي خلقا وإيجادا، وعيسى كذلك خلقه وأوجده كسائر مخلوقاته، وفي هذا الحديث الرد على اليهود أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله فإنهم كانوا هم والنصارى في طرفي نقيض، فنسبوه إلى أنه ولد بغي قاتلهم الله فأكذبهم الله تعالى في كتابه وأبطل قولهم كما أبطل قول الغلاة من النصارى فيما تقدم من الآيات ونحوها. فالنصارى غلوا في عيسى ابن مريم عليه السلام أعظم الغلو والكفر والضلال، واليهود جفوا في حقه غاية الجفاء، وكلاهما قد ضل ضلالا بعيدا، نبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، وبين تعالى الحق والصدق ورفع قدر المسيح عليه السلام، وجعله من أولي العزم الخمسة المذكورين في سورة الأحزاب والشورى، وأمر نبيه صلي الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 4 فهم أفضل الرسل على التحقيق، والنبي صلي الله عليه وسلم أفضلهم صلوات الله وسلامه عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. قوله: "وأن الجنة حق" أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، وما فيها من القصور والثمار والفواكه والنعيم المقيم والنظر إلى وجه الله الكريم، كما قال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 5، وقال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 6. "والنار حق" أعدها الله تعالى لمن كفر به وأشرك في إلهيته وربوبيته، وألحد في أسمائه وصفاته. ومن لم يؤمن بالجنة والنار فقد كفر بالقرآن والرسل، فإن الله تعالى بين   1 سورة الأعراف آية: 172 - 174. 2 سورة الحجر آية: 29. 3 سورة الجاثية آية: 13. 4 سورة الأحقاف آية: 35. 5 سورة هود آية: 108. 6 سورة السجدة آية: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الجنة وما أعد فيها من النعيم المقيم، وذكر أنها دار المتقين، وذكر النار وما فيها من العذاب وأنه أعدها لمن كفر به وأشرك. قوله: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" جواب من الشرطية أي من شهد أن لا إله إلا الله إلى آخره أدخله الله الجنة، أي بإخلاصه وصدقه والإيمان برسوله وما أرسل به، وخالف النصارى واليهود في الغلو والجفاء في حق عيسى، وعلم يقينا أنه عبد الله ورسوله، وآمن بالجنة والنار، فمن كان كذلك أدخله الله الجنة، وإن كان مقصرا وله ذنوب فهذه الحسنة العظيمة ترجح بجميع السيئات، فتدبر هذا الحديث فإنه عظيم والله أعلم. قوله: "ولهما" أي البخاري ومسلم وهذا حديث طويل اختصره المصنف وذكر منه ما يناسب الترجمة وهو قوله: "من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"، وهذا هو حقيقة معناها الذي دلت عليه هذه الكلمة من الإخلاص ونفي الشرك، والصدق والإخلاص متلازمان لا يوجد أحدهما بدون الآخر، فإن من لم يكن مخلصا فهو مشرك، ومن لم يكن صادقا فهو منافق، والمخلص أن يقولها مخلصا الإلهية لمن لا يستحقها غيره وهو الله تعالى، وهذا التوحيد هو أساس الإسلام الذي قال الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 1. وقالت بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} 2، وقال الخليل عليه السلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 والحنيف هو الذي ترك الشرك رأسا وتبرأ معه وفارق أهله وعاداهم، وأخلص أعماله الباطنة والظاهرة لله وحده، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 4 فإسلام الوجه هو إخلاص العبادة المنافي للشرك والنفاق وهو معنى الآية ونحوها إجماعا، فهذا هو الذي ينفعه قول: "لا إله إلا الله "، ولهذا قال تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 5، وهذا بخلاف من يقولها وهو يدعو غير الله ويستغيث به من ميت أو غائب لا ينفع ولا يضر، كما ترى عليه أكثر الخلق فهؤلاء وإن قالوها، فقد تلبسوا بما يناقضها فلا تنفع قائلها إلا بالعلم بمدلولها نفيا وإثباتا، والجاهل بمعناها وإن قالها لا تنفعه لجهله بما وضعت له الوضع العربي الذي أريد منها من نفي الشرك، وكذلك إذا عرف معناها بغير تيقن له، فإذا انتفى اليقين وقع الشك. ومما قيدت به في الحديث قوله صلي الله عليه وسلم: " غير شاك" فلا تنفع إلا من قالها بعلم ويقين لقوله صدقا من قلبه خالصا من قلبه، وكذلك من قالها غير صادق في قوله، فإنها لا تنفعه لمخالفة القلب اللسان كحال المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وكذلك حال المشرك فلا تقبل من مشرك لمنافاة الشرك للإخلاص، ولما دلت عليه هذه الكلمة   1 سورة البقرة آية: 128. 2 سورة النمل آية: 44. 3 سورة الأنعام آية: 79. 4 سورة لقمان آية: 22. 5 سورة البقرة آية: 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " قال موسى: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله " رواه ابن حبان، والحاكم وصححه 1. مطابقة، فإنها دلت على نفي الشرك والبراءة منه، والإخلاص لله وحده لا شريك له مطابقة، ومن لم يكن كذلك لم ينفعه قوله لا إله إلا الله، كما هو حال كثير من عبدة الأوثان يقولون لا إله إلا الله وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص، ويعادون أهله وينصرون الشرك وأهله، وقد قال الخليل عليه السلام لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 2. وهي لا إله إلا الله، وقد عبر عنها الخليل بمعناها الذي وضعت له ودلت عليه، وهو البراءة من الشرك وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، كما تقدم تقريره، وكذلك من قالها ولم يقبل ما دلت عليه من الإخلاص كان قوله لهذه الكلمة كذبا منه، بل قد عكس مدلولها فأثبت ما نفته من الشرك، ونفي ما أثبتته من الإخلاص. فهذا الذي ذكرناه هو حال الأكثرين من هذه الأمة بعد القرون الثلاثة، وسبب ذلك الجهل بمعناها واتباع الهوى، فيصرفه عن اتباع الحق، وما بعث الله به رسله من توحيده الذي شرعه لعباده ورضيه لهم. قوله: لا إله إلا الله ف "لا" نافية للجنس نفيا عاما إلا ما استثنى، وخبرها محذوف تقديره لا إله إلا الله. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 3 فإلهيته تعالى هي الحق، وكل ما سواه من الآلهة فإلهيته باطلة، كما في هذه الآية ونظائرها فهذه كلمة عظيمة هي العروة الوثقى، وكلمة التقوى وكلمة الإخلاص، وهي التي قامت بها السماوات والأرض، وشرعت لتكميلها السنة   1 رواه النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (834) و (1141) , وقال الحافظ في " الفتح " 11 / 208: أخرجه النسائي بسند صحيح , وصححه ابن حبان رقم (2324) , والبغوي في " شرح السنة" 5 / 54 و 55 من حديث دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري , ورواية دراج عن أبي الهيثم ضعيفة , ومع ذلك فقد صححه الحاكم 1 / 528 ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في " المجمع " 10/ 82: رواه أبو يعلى ورجاله وثقوا , وفيهم ضعف. 2 سورة آية: 26-27. 3 سورة الحج آية: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 والفرض ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وبها ظهر الفرق بين المطيع والعاصي من العباد. فمن قالها وعمل بها صدقا وإخلاصا، وقبولا ومحبة وانقيادا، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، وفي الحديث الصحيح: " أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " 1. وفي حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: " يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ثم يقال: أتنكر من هذا شيئا؟. فيقول: لا يا رب فيقال: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " رواه الترمذي وحسنه2. قوله: " لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري "أي كل من في السماوات والأرض. وقوله "غيري" استثنى ممن في السماوات نفسه لأنه العلي الأعلى تعالى وتقدس كما قال تعالى {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 3 علو القهر وعلو القدرة وعلو الذات، فالثلاثة كلها صفته ودلت على كماله، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} 5 في سبعة مواضع من كتابه كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 6. وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 7 وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} 8، وقال تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 9، وأمثال هذه الآيات. فمن سلب علو الله تعالى على خلقه فقد خالف صريح الكتاب والسنة وألحد في أسمائه وصفاته، ومعنى هذه الكلمة نفي الإلهية عن كل شيء   1 رواه مالك في " الموطأ " 1 / 214 - 215 في القرآن: باب ما جاء في الدعاء , من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز وهو مرسل صحيح الإسناد , والترمذي رقم (3579) في الدعوات: باب في دعاء يوم عرفة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده , وفي سنده عند الترمذي: محمد ابن أبي حميد ابراهيم الأنصاري الزرقي أبو ابراهيم المدني , لقبه حماد وهو ضعيف كما قال الحافظ في "التقريب". فالحديث ثابت بمجموع شواهده كما قال الألباني في "الأحاديث الصحيحة". رقم (1503) . 2 الترمذي رقم (2641) في الإيمان: باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله , وأحمد في "المسند" 2/ 213 , وابن ماجه رقم (4300) في الزهد: باب ما يرجى من رحمة الله عز وجل يوم القيامة , وإسناده صحيح , وصححه ابن حبان رقم (2524) "موارد"، والحاكم 1 / 6 و 529. انظر " الأحاديث الصحيحة " رقم (135) . 3 سورة البقرة آية: 255. 4 سورة طه آية: 5. 5 سورة الفرقان آية: 59. 6 سورة فاطر آية: 10. 7 سورة النحل آية: 50. 8 سورة المعارج آية: 4. 9 سورة آل عمران آية: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 سوى ما استثنى بها وهو الله تعالى، وفيه النص على أن الأرضين سبع كالسماوات، لكن هذه الكلمة العظيمة لا يحصل رجحانها إلا في حق من أتى بقيودها التي قيدت بها في الكتاب والسنة، وقد ذكر سبحانه في سورة براءة وغيرها كثيرا ممن يقولها ولم ينفعهم قولها، كحال أهل الكتاب والمنافقين على كثرتهم وتنوعهم في نفاقهم، فلم تنفعهم مع ما قام بهم من ترك تلك القيود، "فمنهم " من يقولها جاهلا بما وضعت له وبما دلت عليه من نفي الشرك والبراءة منه والصدق والإخلاص وغيرها كعدم القبول ممن دعا إليها علما وعملا، وترك الانقياد بالعمل بما تقتضيه كحال أكثر من يقولها قديما وحديثا، ولكن في أواخر هذه الأمة أكثر. "ومنهم " من يمنعه من محبتها والعمل بها ما قام بقلبه من كبر أو هوى أو غير ذلك من الأسباب وهي كثيرة منها قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} 1 إلى قوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. وأما أهل الايمان الخلص فهم الذين أتوا بهذه الكلمة، واجتمعت لهم قيودها التي قيدت بها علما ويقينا وصدقا وإخلاصا ومحبة وقبولا وانقيادا، وعادوا فيه ووالوا فيه وأحبوا فيه وأبغضوا فيه، وقد ذكرهم تعالى في مواضع من سورة براءة وغيرها وخصهم بالثناء عليهم، والعفو عنهم، وأعد لهم جنته وأنجاهم من النار كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3، وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4 فهؤلاء ومن اتبعهم بإحسان هم أهل لا إله إلا الله وغير هذه من الآيات في الثناء عليهم وما أعد لهم في الدار الآخرة، فمن تدبر القرآن وعرف تفاوت الخلق في محبة ربهم وتوحيده والعمل بطاعته والهرب من معصيته، وإيثار ما يحبه تعالى رغبة وعملا وترك ما يكرهه خشية ورجاء، واعتبر الناس بأحوالهم وأقوالهم وأعمالهم ونياتهم وإرادتهم وما هم عليه من التفاوت البعيد تبين له خطأ المغرورين كما في الحديث الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " 5.   1 سورة التوبة آية: 24. 2 سورة التوبة آية: 24. 3 سورة التوبة آية: 71. 4 سورة التوبة آية: 100. 5 الترمذي رقم (2461) في صفة القيامة: باب رقم (26) وحسنه , وأحمد في "المسند" 4 / 124 , وابن ماجه رقم (4260) في الزهد: باب ذكر الموت والاستعداد له من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه -، وصححه الحاكم 1 / 57 , وفي سنده. أبو بكر ابن أبي مريم الغساني وهو ضعيف , وقال الذهبي: لا والله أبو بكر واه , فالحديث ضعيف كما قال الألباني في " ضعيف الجامع" رقم (4310) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وللترمذي وحسنه عن أنس: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم; لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة " 1. فيه مسائل: الأولى: سعة فضل الله. الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله. الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب. الرابعة: تفسير الآية " 82 " التي في سورة الأنعام. الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة. السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده، تبين لك معنى قول: " لا إله إلا الله" وتبين لك خطأ المغرورين. السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان. قوله: وللترمذي وحسنه عن أنس: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة " 2. في هذا الحديث ما بين معنى "لا إله إلا الله" التي رجحت بجميع المخلوقات، وجميع السيئات وأن ذلك هو ترك الشرك قليله وكثيره، وذلك يقتضي كمال التوحيد، فلا يسلم من الشرك إلا من حقق توحيده وأتى بما تقتضيه كلمة الإخلاص من العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والانقياد، وغير ذلك مما تقتضيه تلك الكلمة العظيمة كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ. إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 3.   1 الترمذي (3534) في الدعوات: باب غفران الذنوب مهما عظمت من حديث أنس وحسنه , ورواه الدارمي (2791) , وأحمد في " المسند" 5 / 172 من حديث أبي ذر , والطبراني من حديث ابن عباس , وهو حديث حسن كما قال الألباني في " الأحاديث الصحيحة" رقم (127) . 2 الترمذي: الدعوات (3540) . 3 سورة الشعراء آية: 88-89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله. التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه. العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات. الحادية عشرة: أن لهن عمارا. الثانية عشرة: إثبات الصفات، خلافا للأشعرية. الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " 1 أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان. الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوله. الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله. السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه. السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار. الثامنة عشرة: معرفة قوله" " على ما كان من العمل". التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان. العشرون: معرفة ذكر الوجه.   1 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 3- باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .................................................................................................. باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب أي ولا عذاب، وتحقيقه تصفيته وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والإصرار على الذنوب، فمن كان كذلك فقد حقق توحيده، وتحقيق التوحيد عزيز في الأمة لا يوجد إلا في أهل الإيمان الخلص الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه كما قال تعالى في يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} 1 وفي قراءة:   1 سورة يوسف آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 " المخلصين " وهم في صدر الأمة كثيرون وفي آخرها هم الغرباء وقد قلوا، وهم الأعظمون قدرا عند الله. وقال تعالى عن خليله عليه السلام: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي للذي فطر السماوات والأرض، أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق. حنيفا: أي في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2، ونظائر هذه الآية في القرآن كثير كقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 3، وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 4 قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: في الآية يقول تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل وانقاد لأوامره واتبع شرعه، ولهذا قال: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي في عمله واتباع ما أمر به وترك ما عنه زجر، فدلت هذه الآية العظيمة على أن كمال الإخلاص إنما يوجد بترك الشرك والبراءة منه وممن فعله، كما تقدم في الباب قبل هذا. وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5 قال العماد ابن كثير - رحمه الله - تعالى: يمدح الله تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء بتبرئته من المشركين ومن اليهودية والنصرانية والمجوسية. والأمة: هو الإمام الذي يقتدى به. والقانت: هو الخاشع المطيع. والحنيف: المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 6، وقال مجاهد: " كان إبراهيم أمة أي مؤمنا وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار " "قلت ": وكلا القولين حق فقد كان الخليل - عليه السلام – كذلك، وقول مجاهد- والله أعلم- لما كان الخليل كذلك في ابتداء دعوته ونبوته ورسالته عليه السلام فمدحه الله تعالى بتبرئته من المشركين كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً. إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} 7 الآيات، وقوله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ. إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 8 فهذا- والله أعلم- كان في ابتداء دعوته عليه الصلاة والسلام ولم يكن إذ ذاك على وجه الأرض مسلم غيره وبذلك جاء الحديث9.   1 سورة الأنعام آية: 78-79. 2 سورة الأنعام آية: 79. 3 سورة النساء آية: 125. 4 سورة لقمان آية: 22. 5 سورة النحل آية: 120. 6 سورة النحل آية: 120. 7 سورة مريم آية: 41-42. 8 سورة الصافات آية: 83-84. 9 البخاري رقم (2217) في كتاب البيوع: باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه , وفي كتب أخرى , ومسلم رقم (2371) في الفضائل: باب من فضائل ايراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم , وأبو داود رقم (2212) , والترمذي رقم (3165) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 1. .................................................................................................. وقوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فقد فارق المشركين بالقلب واللسان والأركان، وأنكر ما كانوا عليه من الشرك بالله في عبادته، وكسر الأصنام وصبر على ما أصابه في ذات الله، وهذا هو تحقيق التوحيد وهو أساس الدين ورأسه كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2 وأنت تجد أكثر من يقول لا إله إلا الله، ويدعي الإسلام، يفعل الشرك بالله في عبادته بدعوة من لا يضر ولا ينفع من الأموات والغائبين والطواغيت والجن وغيرهم، ويحبهم ويواليهم ويخافهم ويرجوهم، وينكر على من دعا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، ويزعم أن ذلك بدعة وضلالة، ويعادي من عمل به وأحبه وأنكر الشرك وأبغضه، وبعضهم لا يعد التوحيد علما ولا يلتفت إليه لجهله به وعدم محبته، فالله المستعان. وقوله: "وقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: أي من إحسانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله خائفون وجلون من مكره بهم كما قال الحسن البصري: " المؤمن من جمع إحسانا وشفقا. والمنافق من جمع إساءة وأمنا " {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} 3 أي يؤمنون بآيات الله الكونية والشرعية لقوله تعالى عن مريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} 4 أي أيقنت أن ما كان فهو من قدر الله وقضائه وما شرعه الله، وإن كان أمرا فهو ما يحبه الله ويرضاه وإن كان نهيا فهو ما يكرهه الله ويأباه، وإن كان خبرا فهو حق كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 5 أي لا يعبدون معه غيره بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله الأحد الصمد الذي لا يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له.. انتهى. "قلت": فترك الشرك يتضمن كمال التوحيد ومعرفته على الحقيقة ومحبته وقبوله والدعوة إليه كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 6 وتضمنت هذه الآية كمال التوحيد وتحقيقه وبالله التوفيق.   1 سورة المؤمنون آية: 57-59. 2 سورة البقرة آية: 131. 3 سورة المؤمنون آية: 58. 4 سورة التحريم آية: 12. 5 سورة المؤمنون آية: 59. 6 سورة الرعد آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة " 1 قال: قد أحسن .................................................................................................. قوله: "عن حصين بن عبد الرحمن " هو الحارثي من تابعي التابعين عن الشعبي. قال: "كنت عند سعيد بن جبير " هو الوالبي مولاهم الفقيه عن ابن عباس وخلق، قال اللالكائي: ثقة إمام حجة. قتله الحجاج بن يوسف فما أمهله الله بعده. قوله: "فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة " يعني كوكبا رجم به تلك الليلة، يقال البارحة لليلة الماضية إذا زالت الشمس، وأما قبل الزوال فيقال: الليلة. قوله "فقلت: أنا " أي أنا رأيته "ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة " قال ذلك حذرا من الشرك لئلا يظن الحاضرون أنه قام من الليل للعبادة فيكون قد ادعى لنفسه ما لم يفعله، فما أشد حذر التابعين ومن قبلهم من الشرك دقيقه وجليله، والحذر من أن يحمد بما لم يفعله. فما أعز من سلم من الشرك كما سيأتي. قوله: "ولكن حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: " حدثنا عن بريدة ابن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة " 2. هذا الحديث قد روي مرفوعا، والشعبي اسمه عامر بن شراحيل الحميري الشعبي الإمام، روى عن عمر وعلي وابن مسعود ولم يسمع منهم. وعن أبي هريرة وعائشة وجرير وابن عباس وخلق. قال الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء توفي سنة ثلاث ومائة. وبريدة هو ابن الحصيب ابن عبد الله بن الحارثي الأسلمي، أسلم قبل بدر وعمل على اليمن في أيام النبي صلي الله عليه وسلم صحابي مشهور. قوله: " لا رقية إلا من عين أو حمة " 3 هذا- والله أعلم- في أول الأمر ثم رخص في الرقى إذا كانت بحق، والله اعلم. قوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ". فيه حسن الأدب مع العلم وأهله، وأن من فعل شيئا سئل عن مستنده في فعله هل كان مقتديا أم لا، ومن لم يكن معه حجة شرعية فلا عذر له بما فعله. ولهذا ذكر ابن عبد البر الإجماع على أن المقلد ليس من أهل العلم فتفطن لهذا.   1 مسلم: الإيمان (220) , وأحمد (1/271) . 2 مسلم: الإيمان (220) , وأحمد (1/271) . 3 مسلم: الإيمان (220) , وأحمد (1/271) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم، .................................................................................................. قوله: "ولكن حدثنا ابن عباس " هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم النبيى حبر الأمة وترجمان القرآن، دعا له النبي صلي الله عليه وسلم فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " 1 وصار آية في العلم والفهم وكثرة ما روى من الأحاديث على أنه من صغار الصحابة لكن طلب الحديث من كبار الصحابة فحفظ الأكثر مما كان عندهم رضي الله عنهم أجمعين. قوله: "أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: عرضت علي الأمم ". قلت: فالله أعلم متى عرضت، وعرضها أن الله تبارك وتعالى أراه مثالها إذا جاءت الأنبياء ومن تبعهم. فمن نجا بالإيمان بالله وما بعث به أنبياءه ورسله من دينه الذي شرعه لهم، وهو عبادته وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه، والأخذ بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه كما قال تعالى عن قوم نوح: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 2 فعبادته وتوحيده وطاعته بامتثال ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه وطاعة رسوله. هذا هو الدين أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع فعلا وتركا، وأن يقدم طاعة رسوله على ما يحبه ويهواه. قوله: "فرأيت النبي ومعه الرهط " الرهط: العشره فما دون "والنبي ومعه الرجل والرجلان " أي أتباعه "والنبي وليس معه أحد " أي يبعث في قومه، فلا يتبعه منهم أحد. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ. وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 3، وفيه دليل على أن الناجي من الأمم هم القليل، والأكثر غلبت عليهم الطباع البشرية، فعصوا الرسل فهلكوا كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 4 وقال: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ   1 رواه بهذا اللفظ أحمد 1/ 266 و 314 و328 و 335 , وكذلك الطبراني وانظر "مجمع الزوائد" (9/ 276 ورواه البخاري رقم (143) في الوضوء: باب وضع الماء عند الخلاء , بلفظ: "اللهم فقه في الدين" , ومسلم رقم (2477) في فضائل الصحابة: باب فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما , دون قوله " في الدين " والبخاري رقم (75 و 3756 و 7270) بلفظ " اللهم علمه الكتاب " , والبخاري رقم (3756) بلفظ (اللهم علمه الحكمة) . 2 سورة آية: 2-3. 3 سورة الحجر آية: 10-11. 4 سورة الأنعام آية: 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا .................................................................................................. لَفَاسِقِينَ} 1وقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} 2 وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير. والناجون - وإن كانوا أقل القليل - فهم السواد الأعظم، فإنهم الأعظمون قدرا عند الله وإن قلوا. فليحذر المسلم أن يغتر بالكثرة، وقد اغتر بهم كثيرون، حتى بعض من يدعي العلم اعتقدوا في دينهم ما يعتقده الجهال الضلال، ولم يلتفتوا إلى ما قاله الله ورسوله. قوله: " إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه "فيه فضيلة أتباع موسى من بني إسرائيل ممن آمن منهم بالرسل والكتب التي أنزلها الله، التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وغيرها. وكانت بنو إسرائيل قبل التفرق كثيرين وفيهم الأنبياء، ثم بعد ذلك حدث ما حدث من اليهود، وهذا الحديث يدل على أن التابع لموسى - عليه السلام - كثيرون جدا. وقد قال تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 3 أي في زمانهم وذلك أن في زمانهم وقبله ممن كفر بالله خلقا لا يحصون، كحزب جالوت وبختنصر وأمثالهم، ففضل الله بني إسرائيل بالإيمان، فصاروا أفضل أهل زمانهم، وحدث فيهم ما ذكر الله في سورة البقرة وغيرها من معصيتهم لأنبيائهم واختلافهم في دينهم، وقد ذكره الله تعالى محتجا به على اليهود الذين كفروا بمحمد صلي الله عليه وسلم، فتدبر ما ذكره الله تعالى من أحوالهم بعد الاختلاف. قوله: "ثم نظرت فإذا سواد عظيم ". وفي رواية "قد سد الأفق "، "فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ". فيه فضيلة هذه الأمة وأنهم أكثر الأمم تابعا لنبيهم صلي الله عليه وسلم، وقد كثروا في عهد الصحابة رضي الله عنهم. وفي وقت الخلفاء الراشدين ومن بعدهم فملئوا القرى والأمصار والقفاز وكثر فيهم العلم، واجتمعت لهم الفنون في العلوم النافعة، فما زالت في هذه الأمة على السنة في القرون الثلاثة المفضلة. وقد قلوا في آخر الزمان، قال شيخنا - رحمه الله تعالى - في مسائله: وفيه فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية، فالكمية الكثرة والعدد والكيفية فضيلتهم في صفاتهم، كما في هذا الحديث بقوله: "ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ". قوله: "ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك " أي: الحاضرون في   1 سورة الأعراف آية: 102. 2 سورة الروم آية: 42. 3 سورة الجاثية آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال بعضهم: فلعلهم الذي ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن. فقال: ادع الله أن .................................................................................................. ذكرهم هذا الحديث، وفيه أيضا فضل الصحابة رضي الله عنهم في مذاكرتهم العلم وحرصهم على فهم ما حدثهم به نبيهم صلي الله عليه وسلم حرصا على العمل به. وفيه جواز الاجتهاد فيما لم يكن فيه دليل لأنهم قالوا ما قالوا باجتهادهم، ولم ينكر صلي الله عليه وسلم ذلك عليهم، لكن المجتهد إذا لم يكن معه دليل، لا يجوز له أن يجزم بصواب نفسه، بل يقال: لعل الحكم كذا وكذا كقول الصحابة - رضي الله عنهم - في هذا الحديث. قوله: " فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون "أي لا يطلبون الرقية من أحد ولا يكتوون إذا كان فيهم ما يستشفي بالكي منه، ولا يتطيرون والطيرة شرك فتركوا الشرك رأسا ولم ينزلوا حوائجهم بأحد فيسألونه الرقية فما فوقها وتركوا الكي، وإن كان يراد للشفاء. والحامل لهم على ذلك قوة توكلهم على الله وتفويضهم أمورهم إليه. وأن لا تتعلق قلوبهم بشيء سواه في ضمن ما دبره وقضاه فلا يرغبون إلا إلى ربهم، ولا يرهبون إلا منه ويعتقدون أن ما أصابهم بقدره واختياره لهم، فلا يفزعون إلا إليه وحده في كشف ضرهم، قال تعالى عن يعقوب - عليه السلام -: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} 1. قوله: "فقام عكاشة بن محصن " صحابي مشهور شهد بدرا والمشاهد كلها مع النبي صلي الله عليه وسلم وهو من بني أسد بن خزيمة قتله طليحة بن خويلد شهيدا، وكان قد سار مع خالد بن الوليد لقتال أهل الردة فقاتل بني أسد لردتهم عن الإسلام، وكان فيهم طليعة وقد ادعى النبوة وصدقوه، فأكرم الله عكاشة على يده لما كان كافرا ثم بعد ذلك هداه الله إلى الإسلام، وجاهد الفرس مع سعد بن أبي وقاص، وصار له في الفرس وقائع معروفة في السير، وكان ممن استشهد في قتالهم في وقعة الحيرة المشهورة. قوله: "فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم " فيه أن شفاعة الحي لمن سأله الدعاء إنما كانت بدعائه، وبعد الموت قد تعذر ذلك بأمور لا تخفى على من له بصيرة. فمن سأل ميتا أو غائبا فقد سأل ما لا يقدر عليه. وكل من سأل أحدا ما لا يقدر عليه إلا الله فقد   1 سورة يوسف آية: 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 يجعلني منهم. قال: " أنت منهم"، ثم قام رجل فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: " سبقك بها عكاشة "1. فيه مسائل: الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد. الثانية: ما معنى تحقيقه. الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين. الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك. الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد. السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل. جعله ندا لله كما كان المشركون كذلك، وقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2 أنه ربكم وخالقكم ومن قبلكم، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة فلا ترغبوا عنه إلى غيره بل أخلصوا له العبادة بجميع أنواعها فيما تطلبونه من قليل أو كثير. قوله: "أنت منهم " لما كان يعلمه صلي الله عليه وسلم من إيمانه وفضله وجهاده كما في الحديث " لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " 3. قوله: " ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: سبقك بها عكاشة "والظاهر أنه أراد صلوات اللة وسلامه عليه سد الذريعة، لئلا يتتابع الناس بسؤال ذلك فيسأله من ليس أهلا له. وذلك منه صلي الله عليه وسلم تعريض كما لا يخفى.   1 البخاري رقم (3410) في الأنبياء: باب وفاة موسى , ورقم (5705) في الطب: باب من اكتوى أو كوى , ورقم (5752) باب من لم يرق , ورقم (6472) في الرقاق: باب (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) , ورقم (6541) باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب , ومسلم رقم (220) في الإيمان: باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب , والترمذي رقم (2448) في صفة القيامة: باب رقم (17) وأحمد في " المسند" 1/ 271 , والدارمي رقم (2810) في الرقاق: باب يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتي بغير حساب. انظر ما قال الحافظ في "الفتح" 11/06-409. 2 سورة البقرة آية: 22. 3 البخاري رقم (3007) في الجهاد: باب الجاسوس وفي كتب أخرى , ومسلم رقم (2494) في فضائل الصحابة: باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم , والترمذي رقم (3202) , وأحمد 1/ 80 من حديث علي رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل. الثامنة: حرصهم على الخير. التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية. العاشرة: فضيلة أصحاب موسى. الحادية عشرة: عرض الأمم عليه عليه الصلاة والسلام. الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها. الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء. الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده. الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة. السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة. السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني. الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه. التاسعة عشرة: قوله: " أنت منهم" علم من أعلام النبوة. العشرون: فضيلة عكاشة. الحادية والعشرون: استعمال المعاريض. الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 4- باب الخوف من الشرك وقول الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} باب الخوف من الشرك وقول الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 قال النووي رحمه الله تعالى: أما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد   1 سورة النساء آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 1. .................................................................................................. فيها. ولا فرق بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة. ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره. ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع به لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مصرا عليها ومات على ذلك فهو تحت المشيئة فإن عفي عنه دخل الجنة أولا وإلا عذب في النار ثم أخرج منها وأدخل الجنة.. انتهى. "قلت ":هذا قول أهل السنة والجماعة لا اختلاف بينهم في ذلك، وهذه الآية من أعظم ما يوجب الخوف من الشرك لأن الله تعالى قطع المغفرة عن المشرك، وأوجب له الخلود في النار وأطلق ولم يقيد، ثم قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2 فخصص وقيد فيما دون الشرك، فهذا الذنب الذي هذا شأنه لا يأمن أن يقع فيه، فلا يرجى له معه نجاة إن لم يتب منه قبل الوفاة. قوله: "وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 3 أي إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن. والخلة أخص من المحبة، ولهذا اختص بها الخليلان إبراهيم ومحمد صلي الله عليه وسلم {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 4 وهذا أيضا يخيف العبد، فإذا كان الخليل إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة واحدة وابتلاه بكلمات فأتمهن وقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} 5 وأمر بذبح ولده فامتثل أمر ربه. وكسر الأصنام واشتد نكيره على أهل الشرك. ومع ذلك يخاف أن يقع في الشرك الذي هو عبادة الأصنام لعلمه أنه لا يصرفه عنه إلا الله بهدايته وتوفيقه لا بحوله هو وقوته وما أحسن ما قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ فهذا أمر لا يؤمن الوقوع فيه وقد وقع فيه الأذكياء من هذه الأمة بعد القرون المفضلة فاتخذت الأوثان وعبدت. فالذي خافه الخليل - عليه السلام - على نفسه وبنيه وقع فيه أكثر الأمة بعد القرون المفضلة، فبنت المساجد والمشاهد على القبور، وصرفت لها العبادات بأنواعها، واتخذ ذلك دينا وهي أوثان وأصنام كأصنام قوم نوح واللات والعزى ومناة وأصنام العرب وغيرهم. فما أشبه ما وقع في آخر هذه الأمة بحال أهل الجاهلية من مشركي العرب وغيرهم. بل وقع ما هو أعظم من الشرك في الربوبية مما يطول عده. فذكر - عليه السلام - السبب الذي أوجب له الخوف عليه وعلى ذريته بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 6 وقد ضلت الأمم بعبادة الأصنام في زمن الخليل وقبله وبعده، فمن تدبر القرآن   1 سورة إبراهيم آية: 35. 2 سورة النساء آية: 48. 3 سورة إبراهيم آية: 35. 4 سورة إبراهيم آية: 35. 5 سورة النجم آية: 37. 6 سورة إبراهيم آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه؟ فقال: " الرياء " 1. .................................................................................................. عرف أحوال الخلق وما وقعوا فيه من الشرك العظيم الذي بعث الله أنبياءه ورسله بالنهي عنه، والوعيد على فعله، والثواب على تركه، وقد هلك من هلك بإعراضه عن القرآن وجهله بما أمر الله به ونهى عنه، نسأل الله الثبات على الإسلام والاستقامة على ذلك إلى أن نلقى الله على التوحيد، إنه ولي ذلك والقادر عليه "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم "، وقال تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2 رد أمرهم إلى الله كما رد عليه السلام. وقد بين الله تعالى فيما أنزله على نبيه محمد صلي الله عليه وسلم حكمه في أهل الشرك بأنه لا يغفره لهم فلا معارضة، وقد بين حكمه فيهم في هذا الكتاب العزيز {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 3. وقوله: "وفي الحديث " لأصحابه صلي الله عليه وسلم " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال: الرياء " 4. وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي عن محمود بن لبيد، فإذا كان يخافه صلي الله عليه وسلم على أصحابه الذين وحدوا الله بالعبادة، ورغبوا إليه وإلى ما أمرهم به من طاعته، فهاجروا وجاهدوا من كفر به، وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم، وما أنزله الله في كتابه من الإخلاص والبراءة من الشرك، فكيف لا يخاف من لا نسبة له إليهم في علم ولا عمل مما هو أكبر من ذلك! وقد أخبر صلي الله عليه وسلم عن أمته بوقوع الشرك الأكبر فيهم بقوله في حديث ثوبان الآتي ذكره: " حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان " 5، وقد جرى ما أخبر به صلي الله عليه وسلم وعمت به البلوى في أكثر الأقطار حتى اتخذوه دينا مع ظهور الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة في النهي عنه والتخويف منه، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 6. وقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} 7 وهذا هو   1 رواه أحمد في " المسند " 5/ 428 و 429 من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه , والبغوي في " شرح السنة " , والطبراني في " الكبير" وهو حديث صحيح. انظر: "الأحاديث الصحيحة" رقم (951) . 2 سورة المائدة آية: 118. 3 سورة فصلت آية: 42. 4 أحمد (5/428) . 5 الترمذي: الفتن (2219) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: الفتن (3952) , وأحمد (5/278) . 6 سورة المائدة آية: 72. 7 سورة آية: 30-31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار " 1 رواه البخاري ". ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من لقي الله لا .................................................................................................. تحقيق التوحيد، كما تقدم في الباب قبله. ثم قال تعالى محذرا عباده من الشرك {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 2 ومن لم تخوفه هذه الآيات وتزجره عن الشرك في العبادة إذا تدبرها فلا حيلة فيه. قوله: "وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار " رواه البخاري ". وهذا الحديث فيه التحذير من الشرك أيضا، والتخويف منه، والند المثل والشبيه، فمن دعا ميتا أو غائبا وأقبل إليه بوجهه وقلبه رغبة إليه ورهبة منه سواء سأله أم لم يسأله، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله. ولهذا حرم الله تعالى اتخاذ الشفعاء، وأنكره على من فعل ذلك أشد الإنكار، لكونه ينافي الإخلاص الذي هو إقبال القلب والوجه على الله في كل ما يخافه العبد ويرجوه ويتقرب به ويدين به، ومن المعلوم أنه إذا التفت للشفيع يسأله، فقد أعرض بوجهه وقلبه عن الله تعالى، وذلك ينافي الإخلاص، ويأتي بيان ذلك في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى. قوله: "من لقي الله لا يشرك به شيئا "، هذا هو الإخلاص كما تقدم. وقوله: "ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ". هذا هو الشرك فمن لقي الله بالشرك دخل النار قل أو كثر. أما الشرك الأكبر فلا عمل معه ويوجب الخلود في النار، كما تقدم في معنى الآيات. وأما الأصغر كيسير الرياء، وقول الرجل ما شاء الله وشئت، وقوله: ما لي إلا الله وأنت، ونحو ذلك. فهذا لا يكفر إلا برجحان السيئات بالحسنات. قال بعض العلماء: اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك. فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به إجمالا في الإجمالي، وتفصيلا في التفصيلي اهـ.   1 البخاري رقم (1238) في الجنائز: باب من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، ورقم (4497) في تفسير سورة البقرة: باب قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) ، ورقم (6683) في الأيمان والنذور: باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى أو قرأ أو سبح أو كبر أو حمد أو هلل فهو على نيته، وأحمد في "المسند" 1/462 و464. 2 سورة الحج آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار " 1. فيه مسائل: الأولى: الخوف من الشرك. الثانية: أن الرياء من الشرك. الثالثة: أنه من الشرك الأصغر. الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين. الخامسة: قرب الجنة والنار. السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد. السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ولو كان من أعبد الناس. الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام. التاسعة: اعتباره بحال الأكثر، لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 2. العاشرة: فيه تفسير " لا إله إلا الله"، كما ذكره البخاري. الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.   1 مسلم رقم (93) في الإيمان: باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة , ومن مات مشركا دخل النار , وأحمد في " المسند " 3/ 345. 2 سورة إبراهيم آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 5- باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. .................................................................................................. قال أبو جعفر بن جرير: يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم "قل " يا محمد "هذه " الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له   1 سورة يوسف آية: 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: " إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله- وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك .................................................................................................. دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته "سبيلي " طريقتي ودعوتي {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى} 1 وحده لا شريك له {عَلَى بَصِيرَةٍ} بذلك ويقين علم مني به "أنا و " يدعو إليه على بصيرة أيضا {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وصدقني وآمن بي {سُبْحَانَ اللَّهِ} يقول - تعالى ذكره -: وقل تنزيها لله وتعظيما له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2 يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم مني اهـ. وهذه الآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله تعالى، ومن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة، وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى، قاله العلامة ابن القيم رحمه الله. وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 3 وما زال النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه يدعون إلى ما أمر الله به من الدعوة إلى توحيده في العبادة والنهي عن الشرك به ويجاهدون على ذلك. والآيات في الأمر بذلك كثيرة جدا. قوله: "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: " إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " الحديث. وأهل الكتاب المذكورون في هذا الحديث من كان في اليمن من اليهود والنصارى إذ ذاك قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " وكانوا يقولونها، لكنهم جهلوا معناها الذي دلت عليه من إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه. فكان قولهم لا إله إلا الله لا ينفعهم لجهلهم بمعنى هذه الكلمة كحال أكثر المتأخرين من هذه الأمة؛ فإنهم كانوا يقولونها مع ما كانوا يفعلونه من الشرك بعبادة الأموات والغائبين والطواغيت والمشاهد، فيأتون بما ينافيها فيثبتون ما نفته من الشرك باعتقادهم وقولهم وفعلهم، وينفون ما أثبتته من الإخلاص كذلك، وظنوا أن معناها القدرة على الاختراع تقليدا للمتكلمين من الأشاعرة وغيرهم وهذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون فلم يدخلهم في الإسلام كما قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 4 إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ   1 سورة يوسف آية: 108. 2 سورة الأنعام آية: 79. 3 سورة الرعد آية: 36. 4 سورة المؤمنون آية: 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَالأَبْصَارَ} 1. إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 2، وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير. وهذا التوحيد قد أقر به مشركو الأمم وأقر به أهل الجاهلية الذين بعث فيهم محمد صلي الله عليه وسلم فلم يدخلهم في الإسلام؛ لأنهم قد جحدوا ما دلت عليه هذه الكلمة من توحيد الإلهية، وهو إخلاص العبادة ونفي الشرك والبراءة منه كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 3، فهذا التوحيد هو أصل الإسلام، وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4، وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} 5 وقال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} 6 وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 7، وأمثال هذه الآيات في بيان التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب في القرآن كثير. وسنذكر بعض ذلك إن شاء الله تعالى في هذا التعليق. قوله: "فليكن أول " منصوب على أنه خبر يكن مقدم و "شهادة " اسمها مؤخر ويجوز العكس، وفيه دليل أن توحيد العبادة هو أول واجب؛ لأنه أساس الملة وأصل دين الإسلام. وأما قول المتكلمين ومن تبعهم: إن أول واجب معرفة الله بالنظر والاستدلال فذلك أمر فطري فطر الله عليه عباده. ولهذا كان مفتتح دعوة الرسل أممهم إلى توحيد العبادة {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 8 أي لا تعبدوا إلا الله، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 9، وقال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 10، قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: هذا يحتمل شيئين: أحدهما: أفي وجوده شك؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة "والمعنى الثاني ": أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك وهو الخالق لجميع الموجودات، فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنون أنها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى اهـ. "قلت ": وهذا الاحتمال الثاني يتضمن الأول، وروى أبو جعفر بن جرير بسنده عن عكرمة ومجاهد وعامر أنهم قالوا: " ليس أحد إلا وهو يعلم أن الله خلقه وخلق السماوات والأرض فهذا إيمانهم "، وعن عكرمة أيضا تسألهم: من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون الله، فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره. وتقدم أن لا إله إلا الله قد قيدت بالكتاب والسنة   1 سورة يونس آية: 31. 2 سورة يونس آية: 31. 3 سورة آل عمران آية: 64. 4 سورة يوسف آية: 40. 5 سورة الروم آية: 43. 6 سورة غافر آية: 12. 7 سورة آية: 2-3. 8 سورة المؤمنون آية: 32. 9 سورة الأنبياء آية: 25. 10 سورة إبراهيم آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة .................................................................................................. بقيود ثقال، منها: العلم واليقين والإخلاص والصدق والمحبة والقبول والانقياد والكفر بما يعبد من دون الله. فإذا اجتمعت هذه القيود لمن قالها نفعته هذه الكلمة، وإن لم تجتمع هذه لم تنفعه، والناس متفاوتون في العلم بها والعمل، فمنهم من ينفعه قولها ومنهم من لا ينفعه كما لا يخفى. قوله: " فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة "فيه دليل على أن المشرك لا يطالب بفعل الصلاة إلا إذا أسلم بتركه الشرك باطنا وظاهرا؛ لأن الإسلام شرط لصحة العبادة كما قال النووي - رحمه الله - ما معناه: إنه يدل على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم في الآخرة، والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه، وهذا قول الأكثرين. قوله: " فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ". فيه أن الزكاة لا تنفع إلا من وحد الله وصلى الصلوات الخمس بشروطها وأركانها وواجباتها. والزكاة قرينة الصلوات في كتاب الله تعالى، ويدل على هذه الجملة قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 1 فمن أتى بهذه الأمور أتى ببقية الأركان لقوة الداعي إلى ذلك؛ لأن ذلك يقتضي الإتيان بها لزوما. قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ} 2 قال أنس في الآية: توبتهم خلع الأوثان وعبادتهم ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وعن ابن مسعود مرفوعا " أمرت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له " 3. وقال ابن زيد:   1 سورة البينة آية: 5. 2 سورة التوبة آية: 5. 3 قال الهيثمي في "المجمع" 3 / 62: رواه الطبراني في "الكبير" وله إسناد صحيح , وهو موقوف في حكم المرفوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " أخرجاه1. و"لهما" عن سهل بن سعد - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوم .................................................................................................. " أبى الله أن تقبل الصلاة إلا بالزكاة "! وفيه بيان مصرف الزكاة. قوله: " فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم " 2 تحذيرا له من أن يتجاوز ما شرعه الله ورسوله في الزكاة، وهو أخذها من أوساط المال؛ لأن ذلك سبب لإخراجها بطيب نفس ونية صحيحة وكل ما زاد على المشروع فلا خير فيه وهذا أصل ينبغي التفطن له. قوله: "واتق دعوة المظلوم " يدل على أن العامل إذا زاد على المشروع صار ظالما لمن أخذ ذلك منه، ودعوة المظلوم مقبولة ليس بينها وبين الله حجاب يمنع قبولها3. وفيه التحذير من الظلم مطلقا فعلى العامل أن يتحرى العدل فيما استعمل فيه، فلا يظلم بأخذ زيادة على الحق ولا يحابي بترك شيء منه، فعليه أن يقصد العدل من الطرفين والله أعلم. قوله: "عن سهل بن سعد " أي ابن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبو العباس صحابي شهير، أبوه صحابي أيضا مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة. قوله: " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوم خيبر لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه "الحديث. فيه البشارة بالفتح وهو علم من أعلام النبوة وقد وقع كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.   1 البخاري رقم (1395) في الزكاة: باب وجوب الزكاة , ورقم (1458) : باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة , ورقم (1496) : باب تؤخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء , ورقم (2448) في المظالم: باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم , ورقم (4347) في المغازي: باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع , ورقم (7371- 7372) في التوحيد: باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله تبارك وتعالى , ومسلم رقم (19) في الإيمان: باب الدعاء الى الشهادتين وشرائع الاسلام , والترمذي رقم (625) في الزكاة: باب ما جاء في كراهية أخذ المال في الصدقة وأبو داود رقم (1584) في الزكاة: باب الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي , والنسائي 5/ 55 في الزكاة: باب إخراج الزكاة من بلد إلي بلد. وأحمد في " المسند" 1 / 233. 2 قوله: " وكرائم أموالهم" الكرائم جمع كريمة قال صاحب "المطالع": هي جامعه الكمال الممكن في حقها , من غزارة لبن وجمال صورة أو كثرة لحم أو صوف. 3 قوله: "فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " أي أنها مسموعة لا ترد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 خيبر: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: " أين علي بن أبي طالب؟ " فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتي به. فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم " 1 يدوكون: أي يخوضون. .................................................................................................. قوله: "يحبه الله ورسوله" قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصا بعلي ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه أو يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج، لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك لكن هذا باطل، فإن الله ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافرا. وفيه إثبات صفة المحبة لله خلافا للجهمية ومن أخذ عنهم، وفيه فضيلة أخرى لعلي رضي الله عنه بما خصه به من إعطاء الراية ودعوته أهل خيبر إلى الإسلام وقتالهم إذا لم يقبلوا، وقد جرى له رضي الله عنه في قتالهم كرامات مذكورة في السير والمغازي، وفيه مشروعية الدعوة إلى الإسلام الذي أساسه شهادة أن لا إله إلا الله؛ لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2 الآية. قوله: " فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه "قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع ومنعها عمن سعى".   1 البخاري رقم (2942) في الجهاد: باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وفي النبوة رقم (3009) باب فضل من أسلم على يديه رجل , ورقم (3701) في فضائل الصحابة: باب مناقب علي ابن أبي طالب رضي الله عنه , ورقم (4210) في المغازي: باب غزوة خيبر , ومسلم رقم (2406) في فضائل الصحابة: باب من فضائل علي ابن أبي طالب رضي الله عنه , وأحمد في "المسند" 5/ 333. قوله: " حمر النعم " هي الإبل الحمر , وهي أنفس أموال العرب , يضربون بها المثل في نفاسة الشيء , وإنه ليس هناك أعظم منه. 2 سورة آل عمران آية: 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قوله: "فأرسل إليه " أي النبي صلي الله عليه وسلم أرسل إليه من يأتيه به، وفي صحيح مسلم أن الذي جاء به سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وعن إياس بن سلمة عن أبيه أن الذي جاء به سلمة رضي الله عنه. قوله: "فبصق في عينيه " أي: تفل. قوله: "ودعا له فبرأ ". هو بفتح الراء والهمزة، أي عوفي في الحال عافية كاملة، وذلك بدعوة النبي صلي الله عليه وسلم كما في الحديث فدعا فاستجيب له عليه السلام، وفيه علم من أعلام النبوة أيضا، وذلك كله بالله ومن الله وحده، وهو الذي يملك الضر والنفع والعطاء والمنع، لا إله غيره ولا رب سواه. قوله: " أنفذ" هو بضم الفاء والهمزة. قوله: "على رسلك " أمره أن يسير إليهم بأدب وأناة "حتى تنزل بساحتهم " الساحة هي ما قرب من حصونهم. قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام " هذا هو شاهد الترجمة وهكذا ينبغي لأهل الإسلام أن يكون قصدهم بجهادهم هداية الخلق إلى الإسلام والدخول فيه، وينبغي لولاة الأمر أن يكون هذا هو معتمدهم ومرادهم ونيتهم، قال شيخ الإسلام: دين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده فأصله في القلب، والخضوع لله وحده بعبادته دون ما سواه، فمن عبده وحده وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما، ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلما، وأما الإيمان فأصله تصديق القلب وإقراره ومعرفته. وقوله: "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه "، مما أمر به وشرعه من حقوق لا إله إلا الله، وهذا يدل على أن الأعمال من الإيمان خلافا للأشاعرة والمرجئة في قولهم: إنه القول وزعموا أن الإيمان هو مجرد التصديق وتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة؛ لأن الدين ما أمر الله به فعلا، وما نهى عنه تركا. وفيه الرد على المشركين المستدلين على الشرك بكرامات الأولياء لدلالتها على فضلهم، وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقع له من الكرامات ما لم يقع لغيره، وقد خد الأخاديد وأضرمها بالنار، وقذف فيها من غلا فيه أو اعتقد فيه بعض ما كان يعتقده هؤلاء المشركون مع أهل البيت وغيرهم، فصار من أشد الصحابة رضي الله عنه بعدا عن الشرك وشدة على من أشرك حتى أحرقهم بالنار1. وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ما أعطي من الكرامات صار من أبعد الصحابة عن الشرك وذرائعه. وهؤلاء أفضل أهل الكرامات، فما زادهم ذلك إلا قوة في   1 انظر " الفتح " 12 / 267 - 273 في استتابة المرتدين: باب حكم المرتد والمرتدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فيه مسائل: الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبعه صلي الله عليه وسلم .................................................................................................. التوحيد، وشدة على أهل الشرك والتنديد، كما جرى لعمر رضي الله عنه في الاستسقاء بالعباس1 وتعمية قبر دانيال، لما وجده الصحابة في بيت مال الهرمزان، كما أن المعجزات إنما زادت الرسل قوة في الدعوة إلى التوحيد وشدة على أهل الشرك والإنكار عليهم وجهادهم، لكن قد يقع من الأحوال الشيطانية لمن استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر ربه ما قد يلتبس على الجهال الذين تلبسوا بالشرك، ويظنون أن ذلك كرامات وهي من مكر الشيطان وإغوائه لمن لم يعرف الحق من الباطل، وقد قال تعالى لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 فكذلك يجب على كل أحد أن يطلب الحق من القرآن بتدبره، فإنه الصراط المستقيم، ولا يلتفت إلى ما زخرفته الشياطين، كما اغتر به من اغتر في هذه الأمة ومن قبلهم. قوله: "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى " فيه من أداء الفرائض على الوجه الشرعي، والنهي عن تعدي الحدود التي حدها الله بين الحلال والحرام، وذلك من الإيمان، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله، فإذا أخذ بالإسلام الذي هو التوحيد والإخلاص، وأحل ما أحله الله تعالى وحرم ما حرمه الله تعالى، وأمر بذلك وجاهد عليه، فقد قام بما وجب وبالله التوفيق. قوله: "فوالله " فيه جواز الحلف على ما أفتى به. قوله: " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " حمر بسكون الميم: الإبل الحمر وهي أنفس الأموال عند العرب، وفيه الترغيب في الدعوة إلى الله وطلب الهداية لمن أراد الله هدايته ليحصل للداعي إلى الحق هذه الفضيلة العظيمة بهداية من اهتدى، فلا ينبغي التفريط في هذه المطالب العالية وبالله التوفيق. قوله: "يدوكون " أي يخوضون: بين المصنف - رحمه الله تعالى - معنى هذه اللفظة بأن المراد خوض السامعين في هذا الخير وتمني حصوله.   1 البخاري رقم (1010) في الاستسقاء: باب سؤال الناس الإمام إذا قحطوا , ورقم (3710) في فضائل الصحابة: باب ذكر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه , من حديث أنس رضي الله عنه. 2 سورة الزخرف آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الثانية: التنبيه على الإخلاص. لأن كثيرا لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه. الثالثة: أن البصيرة من الفرائض. الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: كونه تنزيها لله تعالى عن المسبة. الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله. السادسة: - وهي من أهمها- إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم ولو لم يشرك. السابعة: كون التوحيد أول واجب. الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة. التاسعة: أن معنى: " أن يوحدوا الله" معنى شهادة: أن لا إله إلا الله. العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب، وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها. الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج. الثانية عشرة: البداءة بالأهم- فالأهم. الثالثة عشرة: مصرف الزكاة. الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم. الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال. السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم. السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب. الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء. التاسعة عشرة: قوله: " لأعطين الراية" إلخ. علم من أعلام النبوة. العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا. الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه. الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم وشغلهم تلك الليلة عن بشارة الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى. الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: " على رسلك". الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال. السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا. السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة، لقوله: " أخبرهم بما يجب عليهم". الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله تعالى في الإسلام. التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد. الثلاثون: الحلف على الفتيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 6- باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 1 الآية. .................................................................................................. باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله من عطف الدال على المدلول؛ لأن التوحيد هو معنى هذه الكلمة العظيمة، وذلك يتبين بما ساقه من الآيات والحديث لما فيها من زيادة البيان وكشف ما أشكل من ذلك، وإقامة الحجة على من غالط في معنى "لا إله إلا الله " من أهل الجهل والإلحاد. قوله: "وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 2 أي أولئك الذين يدعوهم أهل الشرك ممن لا يملك كشف الضر ولا تحويله من الملائكة والأنبياء والصالحين كالمسيح وأمه والعزير، فهؤلاء دينهم التوحيد وهو بخلاف من دعاهم من دون الله، ووصفهم بقوله: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 3 فيطلبون القرب من الله بالإخلاص له وطاعته فيما أمر، وترك ما نهاهم عنه. وأعظم القرب التوحيد   1 سورة الإسراء آية: 57. 2 سورة الإسراء آية: 57. 3 سورة الإسراء آية: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الذي بعث الله به أنبياءه ورسله وأوجب عليهم العمل به والدعوة إليه، وهذا الذي يقربهم إلى الله أي إلى عفوه ورضاه، ووصف ذلك بقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 1 فلا يرجون أحدا سواه ولا يخافون غيره، وذلك هو توحيده؛ لأن ذلك يمنعهم من الشرك ويوجب لهم الطمع في رحمة الله والهرب من عقابه، والداعي لهم والحالة هذه قد عكس الأمر وطلب منهم ما كانوا ينكرون من الشرك بالله في دعائهم لمن كانوا يدعونه من دون الله، ففيه معنى قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 2 وقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 3 وفيه الرد على من ادعى أن شرك المشركين إنما هو بعبادة الأصنام، وتبين بهذه الآية أن الله تعالى أنكر على من دعا معه غيره من الأنبياء والصالحين والملائكة ومن دونهم، وأن دعاء الأموات والغائبين لجلب نفع أو دفع ضر من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وأن ذلك ينافي ما دلت عليه كلمة الإخلاص، فتدبر هذه الآية العظيمة يتبين لك التوحيد، وما ينافيه من الشرك والتنديد، فإنها نزلت فيمن يعبد الملائكة والمسيح وأمه والعزير فهم المعنيون بقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 4، ثم بين تعالى أن هؤلاء المشركين قد خالفوا من كانوا يدعونه في دينه فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 5، وقدم المعمول لأنه يفيد الحصر، يعني يبتغون إلى ربهم الوسيلة لا إلى غيره، وأعظم الوسائل إلى الله تعالى التوحيد الذي بعث الله به أنبياءه ورسله وخلق الخلق لأجله. ومن التوسل إليه التوسل بأسمائه وصفاته كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 6 وكما ورد في الأذكار المأثورة من التوسل بها في الدعوات كقوله: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام " 7. وقوله: " اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " 8وغير ذلك من الأعمال الصالحة الخالصة التي لم يشبها شرك، فالتوسل إلى الله هو بما يحبه ويرضاه لا بما يكرهه ويأباه من الشرك الذي نزه نفسه عنه بقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 9، وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 10، وقوله في الإنكار على من اتخذ   1 سورة الإسراء آية: 57. 2 سورة فاطر آية: 14. 3 سورة الأحقاف آية: 6. 4 سورة الإسراء آية: 56. 5 سورة الإسراء آية: 57. 6 سورة الأعراف آية: 180. 7 أبو داود رقم (1495) في الصلاة: باب الدعاء , والترمذي رقم (3538) في الدعوات: باب رقم 109، والنسائي 3 / 52 في السهو: باب الدعاء بعد الذكر , وأحمد 3/ 120 , وابن ماجه رقم (3858) , من حديث أنس رضي الله عنه , وصححه ابن حبان رقم (2382) " موارد "، والحاكم 1 / 503 و 504 ووافقه الذهبي وهو كما قالا. 8 أبو داود رقم (1492) في الصلاة: باب الدعاء , والترمذي رقم (2471) في الدعوات: باب ما جاء في جامع الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وابن ماجه رقم (3857) , وأحمد في "المسند " 5/ 360 وهو حديث صحيح , وصححه ابن حبان رقم (2383) والحاكم 1/ 504 ووافقه الذهبي , من حديث بريدة رضي الله عنه , ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: "اللهم إني أسألك ... " الحديث. 9 سورة الطور آية: 43. 10 سورة يوسف آية: 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 1 الآية. .................................................................................................. الشفعاء: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2 وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير، يأمر عباده بإخلاص العبادة له، وينهاهم عن عبادة ما سواه ويعظم عقوبته كما جرى على الأمم المكذبة للرسل فيما جاءوهم به من التوحيد والنهي عن الشرك، فأوقع الله تعالى بهم ما أوقع كقوم نوح وعاد وثمود ونحوهم؛ فإنهم عصوا الرسل فيما أمروهم به من التوحيد وتمسكوا بالشرك وقالوا لنوح: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} 3، وقالوا لهود: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} 4 الآيات. وقالوا لصالح: {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 5، وقالوا لشعيب: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 6. فتدبر ما قص الله تعالى في كتابه مما دعت إليه الرسل وما أوقع بمن عصاهم؛ فإن الله تعالى أقام به الحجة على كل مشرك إلى يوم القيامة، وأما ما ورد في معنى الآية عن ابن مسعود قال: " كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم. " "قلت ": وهذا لا يخالف ما تقدم؛ لأن هذه الآية حجة على كل من دعا مع الله وليا من الأولين والآخرين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في هذه الآية، وهذه الأقوال كلها حق؛ فإن الآية تعم من كان معبوده عابدا لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر. وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 7 الآيات. الكلمة هي لا إله إلا الله بإجماع أهل العلم، وقد عبر عنها الخليل عليه السلام بمعناها الذي أريد به فعبر عن المنفي بها بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 8، وعبر عما أثبتته بقوله: {إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} 9 فقصر العبادة على الله وحده ونفاها عن كل ما سواه ببراءته من ذلك، فما أحسن التفسير لهذه الكلمة وما أعظمه. قال العماد ابن كثير في قوله   1 سورة الزخرف آية: 26-27. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة هود آية: 27. 4 سورة هود آية: 53. 5 سورة هود آية: 62. 6 سورة هود آية: 87. 7 سورة آية: 26-27. 8 سورة الزخرف آية: 26. 9 سورة الزخرف آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 الآية. .................................................................................................. تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 2 أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله جعلهما في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي إليها. قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 3: يعني لا إله إلا الله لا يزال في ذريته من يقولها. وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4 الآية. الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العباد. وهذه الآية قد فسرها رسول الله صلي الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، وذلك أنه لما جاء مسلما دخل على رسول الله صلي الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الآية. قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم قال: " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " 5 رواه أحمد والترمذي وحسنه، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق6. قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 7، فصار ذلك عبادة لهم وصاروا به لهم أربابا من دون الله وقد قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 8. قوله: "وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ" أي اتخذوه ربا بعبادتهم له من دون الله، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} 9 إلى قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ   1 سورة التوبة آية: 31. 2 سورة الزخرف آية: 28. 3 سورة الزخرف آية: 28. 4 سورة التوبة آية: 31. 5 الترمذي: تفسير القرآن (3095) . 6 رواه الترمذي رقم (3094) في التفسير: باب تفسير سورة التوبة , وابن جرير الطبري 14/ 210 رقم (61632) و (61633) من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقال: "بلى , إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام , فاتبعوهم , فذلك عبادتهم إياهم " , وهو حديث حسن بشواهده , ذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 230 , وزاد نسبته لابن سعد وعبد بن حميد , وابن المنذر , وابن أبي حاتم , والطبراني وأبي الشيخ , وابن مردويه , والبيهقي في " سننه ", وهكذا (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله) , أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا , وانظر الطبري رقم (16634) عن حذيفة رضي الله عنه. 7 سورة التوبة آية: 31. 8 سورة آل عمران آية: 80. 9 سورة المائدة آية: 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 1 الآية. .................................................................................................. شَهِيدٌ} 2. فمن تدبر هذه الآيات تبين له معنى لا إله إلا الله، وتبين له التوحيد الذي جحده أكثر من يدعي العلم في هذه القرون وما قبلها من متأخري هذه الأمة، وقد عمت البلوى بالجهل به بعد القرون الثلاثة لما وقع الغلو في قبور أهل البيت وغيرهم، وبنيت عليها المساجد، وبنيت لهم المشاهد، فاتسع الأمر وعظمت الفتنة في الشرك المنافي للتوحيد لما حدث الغلو في الأموات وتعظيمهم بالعبادة، فبهذه الأمور التي وقع فيها الأكثر عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وقد قال صلي الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس " 3 وفي رواية "يصلحون ما أفسد الناس ". قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 4 الآية. الأنداد: الأمثال والنظراء كما قال العماد بن كثير وغيره من المفسرين. فكل من صرف من العبادة شيئا لغير الله رغبة إليه أو رهبة منه فقد اتخذه ندا لله؛ لأنه أشرك مع الله فيما لا يستحقه غيره. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى -: فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه أي مع الله بعبادته له، وتوحيد الحب لا يبقي في قلبه بقية حب حتى يبذلها له، فهذا الحب وإن سمي عشقا فهو في غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينة، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن لا تكون محبته لغير الله فلا يحب إلا الله كما في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه" الحديث5. ومحبة رسوله هي من محبته، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبته، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها، ويصدق هذه المحبة بأن تكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه، وهو   1 سورة المائدة آية: 117. 2 سورة البقرة آية: 165. 3 أخرجه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن " (1/ 25) , من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه , ومن طريق آخر أخرجه الآجري في "الغرباء" (1/2) , والترمذي (2630) وله شاهدان من حديث سعد ابن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما , وهو حديث صحيح. انظر " الأحاديث الصحيحة " رقم (1273) . 4 سورة البقرة آية: 165. 5 رواه البخاري رقم (16) في الإيمان: باب حلاوة الإيمان ورقم (21) في الإيمان: باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار ورقم (6041) في الأدب: باب الحب في الله , ورقم (6941) في الإكراه: باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر , ومسلم رقم (43) في الإيمان: باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان , والترمذي رقم (2926) في الإيمان: باب رقم (10) , والنسائي 8 / 96 في الإيمان باب حلاوة الإبمان , وابن ماجه رقم (4033) في الفتن: باب الصبر على البلاء , وأحمد في " المسند " 3 / 103 و 172 و 174 و 207 و 230 و 248 و 275 و 278 و288 من حديث أنس رضي الله عنه. قوله: "وجد بهن حلاوة الإيمان "قال العلماء: معنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في رضى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإيثار ذلك على عرض الدنيا , ومحبة العبد ربه سبحانه وتعالى , بفعل طاعاته وترك مخالقته , وكذلك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وفي " الصحيح " عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل " 1. .................................................................................................. الكفر، بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه شيئا، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر كان أحب إليه من نفسه، وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق من محبة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبة كما لا مثل لمن تعلقت به، وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة الانقياد ظاهرا وباطنا، وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان، ولهذا من شرك بين الله وبين غيره في المحبة الخاصة كان شركا لا يغفره الله. قال تعالى: {مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 2 الآية. والصحيح أن معنى الآية أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا كما لا يماثل محبوبهم غيره، وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته، وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته. انتهى. قوله "في الصحيح " أي صحيح مسلم: "عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلي الله عليه وسلم " فذكره، وأبو مالك اسمه سعد بن طارق كوفي ثقة مات في حدود الأربعين. قوله: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ". اعلم أن النبي صلي الله عليه وسلم علق عصمة المال والدم بأمرين في هذا الحديث: "الأول " قول لا إله إلا الله عن علم ويقين، كما هو قيد في قولها في غير ما حديث. "والثاني " الكفر بما يعبد من دون الله، لكن ذكر في هذا الحديث "وكفر " تأكيدا لما دلت عليه، لأن المقام عظيم يقتضي التأكيد.   1 رواه مسلم رقم (23) في الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأحمد في (المسند) 3/ 472 من حديث طارق بن أشيم الأشجعي والد أبي مالك رضي الله عنهما. 2 سورة البقرة آية: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وشرح هذه الترجمة، ما بعدها من الأبواب. فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد، وتفسير الشهادة، وبينها بأمور واضحة. منها آية الإسراء بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر. .................................................................................................. قوله: "حرم ماله ودمة وحسابه على الله عز وجل "، فيه دليل على أنه لا يحرم ماله ودمه إلا إذا قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، فإن قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله، فدمه وماله حلال لكونه لم ينكر الشرك ويكفر به، ولم ينفه كما نفته لا إله إلا الله، فتأمل هذا الموضع فإنه عظيم النفع. قال شيخنا: "وهذا من أعظم ما بين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك. بل ولا كونه لا يدعو الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع". انتهى. قوله: " وحسابه على الله عز وجل "، أي الله تعالى هو الذي يتولى حسابه، فإن كان صادقا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم، وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر. قوله: "وشرح هذه الترجمة وما بعدها من الأبواب "، فقد ذكر فيها - رحمه الله تعالى - ما يبين التوحيد وما ينافيه، وما يقرب منه، وما يوصل إليه من الوسائل، وبيان ما كان عليه السلف من بعدهم عن الشرك في العبادة، وشدة إنكارهم له وجهادهم على ذلك، وقد جمع هذا الكتاب على اختصاره من بيان التوحيد ما لا يعذر عن معرفته وطلبه بإقبال وتدبر، وكذلك الرد على أهل الأهواء جميعهم، فمن حفظه واستحضره وجد ذلك واستغنى به عن غيره في الرد على كل مبتدع فتدبره تجد ذلك بينا، وسيأتي التنبيه على ذلك - إن شاء الله تعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ومنها آية براءة، بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء في المعصية، لا دعاؤهم إياهم. ومنها قول الخليل – عليه السلام - للكفار: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 1 فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة: هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. ومنها آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 3 ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند حبا أكبر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده، ولم يحب الله؟! ومنها قوله صلي الله عليه وسلم: " من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله "، وهذا من أعظم ما يبين معنى " لا إله إلا الله"؛ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها! ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع.   1 سورة الزخرف آية: 26-27. 2 سورة الزخرف آية: 28. 3 سورة البقرة آية: 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 7- باب من الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} 1 الآية. .................................................................................................. باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء ودفعه أي لرفعه إذا نزل ودفعه قبل أن ينزل، يعني إذا كان هذا هو القصد فتعلق قلبه في دفع ضر مما قد نزل ومما لم ينزل، قد صرحت الأحاديث بأن هذا من الشرك بالله. قوله: وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 2 قال مقاتل: فسألهم النبي صلي الله عليه وسلم فسكتوا لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها. "قلت ": فإذا كانت آلهتهم التي يدعون من دون الله لا قدرة لها على كشف ضر أراده الله بعبده، أو تمسك رحمة أنزلها على عبده فيلزمهم بذلك أن يكون الله تعالى هو معبودهم وحده لزوما لا محيد لهم عنه. وذكر تعالى مثل هذا السؤال عن خليله إبراهيم لمن حاجه في الله فقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3، فأقام تعالى الحجة على المشركين بما يبطل شركهم بالله وتسويتهم غيره به في العبادة بضرب الأمثال وغير ذلك، وهذا في القرآن كثير كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 4، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} 5، وقال: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 6.   1 سورة الزمر آية: 38. 2 سورة الزمر آية: 38. 3 سورة البقرة آية: 258. 4 سورة الحج آية: 73. 5 سورة العنكبوت آية: 41-43. 6 سورة النحل آية: 20-21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - " أن النبي صلي الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: " ما هذا؟ " قال: من الواهنة. فقال: " انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا " 1 رواه أحمد بسند لا بأس به. .................................................................................................. ذكر العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى - في هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس مرفوعا " احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، جفت الصحف ورفعت الأقلام، واعمل لله بالشكر في اليقين، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا " 2 قوله: "عمران بن حصين " أي ابن عبيد بن خلف الخزاعي أبو نجيد بنون وجيم مصغر، صحابي ابن صحابي أسلم عام خيبر ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة. قوله: "رأى رجلا " في رواية الحاكم: " دخلت على رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر فقال ما هذه؟ " الحديث، فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث. قوله: "ما هذه؟ " الظاهر أنه للإنكار عليه. قوله: "من الواهنة " قال أبو السعادات: الواهنة عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها فيرقى منها، وقيل هو مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء، وإنما نهاه عنها لكونه يظن أنها تمنع عنه هذا الداء أو ترفعه، فأمره صلي الله عليه وسلم بنزعها لذلك وأخبر أنها لا تزيده   1 أحمد في " المسند " 4 / 445 , وابن ماجه (3531) في الطب: باب تعليق التمائم , وصححه ابن حبان (1410) (1411) " موارد "، والحاكم 4/ 216 ووافقه الذهبي. 2 الترمذي رقم (2518) في صفة القيامة: باب رقم (60) وأحمد في " المسند" 1 / 293 و 303 و 307 , والحاكم 3/ 541 و 542 من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما , وهو حديث صحيح بمجموع طرقه. انظر "جامع العلوم والحكم " لابن رجب الحنبلي ص 161- 174 , و" المقاصد الحسنة " للسخاوي في حديث: " لن يغلب عسر يسرين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا: " من تعلق تميمة فلا أتم الله .................................................................................................. إلا وهنا، فإن المشرك يعامل بنقيض قصده؛ لأنه علق قلبه بما لا ينفعه ولا يدفع عنه، فإذا كان هذا بحلقة صفر فما الظن بما هو أطم وأعظم كما وقع من عبادة القبور والمشاهد والطواغيت وغيرها كما لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل، قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "فيه شاهد لكلام بعض الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة". لقوله: "فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا "، والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة. قوله: "رواه أحمد بسند لا بأس به " هو الإمام أحمد بن محمد بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي، إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث وأشدهم ورعا، وهو الذي يقول فيه بعض أهل السنة: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها، والشبه فنفاها. روى عن الشافعي وزيد بن هارون وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان وابن عيينة وعبد الرزاق وخلق لا يحصون، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين، وله سبع وسبعون سنة - رحمه الله تعالى -. قوله: "وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: " من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له ". وفي رواية: " من علق تميمة فقد أشرك ". عقبة بن عامر صحابي مشهور ففيه فاضل، ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين، ومات قريبا من الستين. وهذا الحديث فيه التصريح بأن تعليق التمائم شرك لما يقصده من علقها لدفع ما يضره أو جلب ما ينفعه، وهذا أيضا ينافي كمال الإخلاص الذي هو معنى لا إله إلا الله؛ لأن المخلص لا يلتفت قلبه لطلب نفع أو دفع ضر من سوى الله، كما تقدم في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 1، فكمال التوحيد لا يحصل إلا بترك ذلك، وإن كان من الشرك الأصغر فهو عظيم، فإذا كان قد خفي على بعض الصحابة - رضي الله عنهم - في عهد النبوة فكيف لا يخفى على من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب بعدما حدث من البدع والشرك؟ كما في الأحاديث الصحيحة، وتقدمت الإشارة إلى ذلك. وهذا مما يبين معنى لا إله إلا الله أيضا، فإنها نفت كل الشرك قليله وكثيره، كما قال تعالى:   1 سورة النساء آية: 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له ". وفي رواية: " من تعلق تميمة فقد أشرك " 1. .................................................................................................. ولابن أبي حاتم عن حذيفة، أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3 قوله: "فلا أتم الله له " دعاء عليه، وكذلك قوله: "فلا ودع الله له " أي لا جعله في دعة وسكون. قوله: " ولابن أبي حاتم أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه "، وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4. ابن أبي حاتم هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس المرادي التميمي الحنظلي صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرها، مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. وحذيفة هو ابن اليمان واسم اليمان حسيل بمهملتين مصغر، ويقال حسل بكسر ثم سكون، العبسي بالموحدة، حليف الأنصار صحابي جليل من السابقين، ويقال له صاحب السر، وأبوه صحابي أيضا. مات حذيفة في أول خلافة علي سنة ست وثلاثين. قوله: "رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 5.   1 الأولى رواها أحمد في " المسند " 4/ 154 , وابن حبان (1413) " موارد "، والحاكم 4/ 417 وفيها ضعف. والرواية الثانية رواها أحمد في " المسند " 4/ 156 , ورواها أيضا الحاكم 4 / 417 , وهو حديث صحيح. قوله: "تعلق" أي علق وتعلق بها قلبه , وقد جاءت في ابن حبان: "علق" وكذا في " مجموعة التوحيد " طبعة المنار , وما أثبتناه موافق للمسند و "فتح المجيد". انظر "الأحاديث الصحيحة " رقم (492) . 2 سورة يوسف آية: 106. 3 سورة آل عمران آية: 18. 4 سورة يوسف آية: 106. 5 سورة يوسف آية: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فيه مسائل: الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك. الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح. فيه شاهد لكلام .................................................................................................. فيه دليل على أن هذا شرك، وأن الصحابة رضي الله عنهم يستدلون بالآيات التي نزلت في الشرك الأكبر على الأصغر لدخوله في الشرك المنهي عنه في الآيات والأحاديث عموما وخصوصا لما قد عرفت أنه ينافي كمال الإخلاص. إذا كان مثل هذا، وقد خافه صلي الله عليه وسلم على الصحابة، كما تقدم في قوله: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " 1، فإذا كان يقع مثل هذا في تلك القرون المفضلة، فكيف يؤمن أن يقع ما هو أعظم منه؟ لكن لغلبة الجهل به وقع منهم أعظم مما وقع من مشركي العرب وغيرهم في الجاهلية، مما قد تقدم التنبيه عليه حتى إن كثيرا من العلماء في هذه القرون اشتد نكيرهم على ما أنكر الشرك الأكبر، فصاروا هم والصحابة - رضي الله عنهم - في طرفي نقيض، فالصحابة ينكرون القليل من الشرك، وهؤلاء ينكرون على من أنكر الشرك الأكبر، ويجعلون النهي عن هذا الشرك بدعة وضلالة، وكذلك كانت حال الأمم مع الأنبياء والرسل جميعهم فيما بعثوا به من توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له وحده، والنهي عن الشرك به، وقد بعث الله تعالى خاتم رسله محمدا صلي الله عليه وسلم بذلك كما بعث به من قبله، فعكس هؤلاء المتأخرون ما دعا إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم مشركي العرب وغيرهم، فنصر هؤلاء ما نهى عنه من الشرك غاية النصرة، وأنكروا التوحيد الذي بعث به غاية الإنكار، فإنه صلي الله عليه وسلم لما قال لقريش: " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا "2 عرفوا معناها الذي وضعت له وأريد منها فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3 الآيات. وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} 4، وفي صحيح البخاري وغيره في سؤال هرقل لأبي سفيان عن النبي صلي الله عليه وسلم قال له: فماذا يأمركم؟ قلت: يقول: "اعبدوا الله وحده لا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم". ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة5.   1 تقدم تخريجه ص (33) . 2 أحمد (3/492) . 3 سورة ص آية: 5. 4 سورة الصافات آية: 35. 5 البخاري رقم (7) في بدء الوحي: باب رقم (6) , ورقم (51) في الإيمان: باب رقم (38) , وفي كتب وأبواب أخر , ومسلم رقم (1773) في الجهاد: باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام , والترمذي رقم (2718) في الاستئذان: باب ما جاء كيف يكتب لأهل الشرك , وأحمد في " المسند" 1 / 262 - 263 , من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الصحابة: إن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر. الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة. الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة بل تضر؛ لقوله: " لا تزيدك إلا وهنا". الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك. السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا وكل إليه. السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك. الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك. التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة. العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك. الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له، أي لا ترك الله له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 8- باب ما جاء في الرقى والتمائم في " الصحيح " عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع .................................................................................................. قوله : "باب ما جاء في الرقى والتمائم " أي من النهي عما لا يجوز من ذلك. قوله: في الصحيح " عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع النبي صلي الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت "هذا الحديث في الصحيحين واسم أبي بشير قيس بن عبيد قاله ابن سعد. وقال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين، ويقال إنه جاوز المائة. قوله: "فأرسل رسولا " هو زيد بن حارثة، روى ذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده، قال الحافظ. قوله: "أن لا يبقين " بفتح الياء والقاف ويحتمل أن يكون بضم الياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 رسول الله صلي الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت1. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك "2 رواه أحمد وأبو داود. .................................................................................................. المثناة وكسر القاف، والوتر بفتحتين واحد أوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره، وقلدوا به الدواب اعتقادا منهم بهذا أنه يدفع عن الدابة العين، ولهذا أمر صلي الله عليه وسلم بقطع الأوتار التي علقت على الإبل، لما كان أهل الجاهلية يعتقدون ذلك فيها. قوله: "أو قلادة إلا قطعت " يحتمل أن ذلك شك من الراوي، ولأبي داود "ولا قلادة" بغير شك، فعلى هذه الرواية تكون أو بمعنى الواو. قال البغوي في شرح السنة: "تأول مالك أمره عليه السلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم والقلائد ويعلقون عليها العوذ يظنون أنها تعصمهم من الآفات، فنهاهم النبي صلي الله عليه وسلم عنها وأعلمهم أن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئا". قال أبو عبيد: "كانوا يقلدون الإبل أوتارا لئلا تصيبها العين، فأمرهم النبي صلي الله عليه وسلم بإزالتها إعلاما لهم بأن الأوتار لا ترد شيئا". قوله: وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك " رواه أحمد وأبو داود " ولفظ أبي داود عن زينب امرأة عبد الله   1 رواه البخاري رقم (3005) في الجهاد: باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الابل , ومسلم رقم (2115) في اللباس والزينة: باب كراهية قلادة الوتر في رقبة البعير , وأبو داود رقم (2552) في الجهاد: باب تقليد الخيل بالأوتار , وأحمد في " المسند " 5 / 216 , ومالك في " الموطأ " 2 / 937 في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: باب ما جاء في نزع المعاليق والجرس من العنق. 2 رواه أبو داود رقم (3883) في الطب: باب في تعليق التمائم , وابن ماجه (3530) في الطب: باب تعليق التمائم , وأحمد في (المسند) 1/ 381 , والحاكم 4 / 418 وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا. انظر " الأحاديث الصحيحة " رقم (331) . قال الخطابي: التولة: ضرب من السحر , قال الأصمعي: وهو الذي يحبب المرأة إلى زوجها. وأما الرقى فالمنهي عنه ما كان منها بغير لسان العرب فلا يدرى ما هو؟ ولعله قد يدخله سحر أو كفر، فأما إذا كان مفهوم المعنى , وكان فيه ذكر الله تعالى , فإنه مستحب متبرك به , والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: " من تعلق شيئا وكل إليه " 1 رواه أحمد والترمذي. التمائم: شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن، فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه. الرقى: هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم من العين والحمى. والتولة: شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته. .................................................................................................. ابن مسعود أن عبد الله رأى في عنقي خيطا فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه، قالت: فأخذه فقطعه ثم قال: أنتم آل عبد الله الأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك "، قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود - رضي الله عنه - ". والمقصود بيان أن هذه الأمور الشركية وإن خفيت فقد نهى عنها رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه لكمال علمهم بما دلت عليه لا إله إلا الله من نفي الشرك قليله وكثيره؛ لتعلق القلب بغير الله في دفع ضر أو جلب نفع، وقد عمت البلوى بما هو أعظم من ذلك بأضعاف مضاعفة، فمن عرف هذه الأمور الشركية المذكورة في هذين البابين عرف ما وقع مما هو أعظم من ذلك كما تقدم بيانه، وفيه ما كان عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم من التحذير من الشرك والتغليظ في إنكاره، وإن كان من الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر، وقد تقدم دليله في الباب قبل هذا. وقوله: "وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا " من تعلق شيئا وكل إليه "رواه أحمد والترمذي " وعبد الله بن عكيم بضم المهملة مصغرا ويكنى أبا معبد الجهني الكوفي. قال   1 رواه أحمد في " المسند " 4/ 211 , والترمذي رقم (2073) في الطب: باب ما جاء في التعاليق وهو حديث حسن كما قال الألباني في " صحيح الترمذي رقم (1691) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم: "يا رويفع! لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدا بريء منه " 1. .................................................................................................. الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقة. قوله: " من تعلق شيئا وكل إليه " 2 التعلق يكون بالقلب وينشأ عنه القول والفعل، وهو التفاف القلب عن الله إلى شيء يعتقد أنه ينفعه أو يدفع عنه كما تقدم بيانه في الأحاديث في هذا الباب والذي قبله، وهو ينافي قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 3، فإن كان من الشرك الأصغر فهو ينافي كمال التوحيد، وإن كان من الشرك الأكبر كعبادة أرباب القبور والمشاهد والطواغيت ونحو ذلك فهو كفر بالله، وخروج من دين الإسلام، ولا يصح معه قول ولا عمل. قوله: "وكل إليه " أي وكله الله إليه، إلى ما علق قلبه به من دون الله، ومن وكله الله إلى غيره ضل وهلك، قال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن قاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت: حدثني بحديث أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: نعم، أوحى الله إلى داود - عليه السلام - " يا داود أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبيدي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن فرجا ومخرجا، أما وعزتي وعظمتي ما يعتصم عبد من عبيدي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالي بأي واد هلك "وشاهد هذا في القرآن فتدبر. قوله: وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله:صلي الله عليه وسلم " يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة، أو عظم، فإن محمدا بريء منه ". رويفع هو ابن ثابت بن السكن بن عدي بن الحارث الأنصاري نزل   1 رواه ابو داوود رقم 36 في الطهارة: باب ما ينهى عنه وما يستنجى به، والنسائي 8/135 في الزينة: باب عقد اللحية، واحمد في المسند 4/108،109، وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح الجامع رقم 7787. 2 الترمذي: الطب (2072) . 3 سورة البقرة آية: 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 مصر وولي برقة، له ثمانية أحاديث. قال عبد الغني: ولي طرابلس فافتتح أفريقية سنة سبع وأربعين. وقال ابن يونس: توفي ببرقة سنة ست وخمسين. قوله: "لعل الحياة تطول بك " فقد طالت حياته رضي الله عنه كما أخبر النبي صلي الله عليه وسلم. قوله: "فأخبر الناس أن من عقد لحيته ". قال الخطابي: "أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين: "أحدهما " ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها، قال أبو السعادات: تكبرا أو عجبا. "ثانيهما " أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد" انتهى. قلت: ويشبه هذا ما يفعله كثير من فتل أطراف الشارب فيترك أطرافه لذلك وهي بعضه، وفي حديث زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " 1رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: صحيح. وفي الصحيح: " خالفوا المشركين احفوا الشوارب واعفوا اللحى " 2. وذلك يدل على الوجوب، وذكر ابن حزم الإجماع على أنه فرض فيتعين النهي عن ذلك. قوله: "أو تقلد وترا " فيه مع ما تقدم أنه شرك لما كانوا يقصدونه بتعليقه على الدواب وغيرها. قوله: " أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه " هذا دليل على أن هذا والذي قبله من الكبائر؛ لأن قوله: "إن محمدا بريء منه " يدل على ذلك، وقال النووي رحمه الله تعالى: أي بريء من فعله فهذا التأويل بعيد لعود الضمير إلى "من "، وقد ورد النهي عن الاستنجاء بالروث والعظام في أحاديث صحيحة كما لا يخفى، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا: " لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن "3 ولما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة:" نهى أن يستنجى   1 الترمذي رقم (2762) في الأدب: باب ما جاء في قص الشارب , والنسائي 1/ 15 في الطهارة: باب قص الشارب , وأحمد في " المسند " 4 / 366 و 368 , وهو حديث صحيح كما قال الألباني في " صحيح الجامع " رقم (6409) . 2 البخاري رقم (5892) في اللباس: باب تقليم الأظفار , ورقم (5893) باب إعفاء اللحى , ومسلم رقم (259) في الطهارة: باب خصال الفطرة , وأبو داود رقم (199) في الترجل: باب في أخذ الشارب , والترمذي رقم (2764) في الأدب: باب ما جاء في إعفاء اللحية , والنسائي 1 / 16 في الطهارة: باب إحفاء الشارب وإعفاء اللحى , وأحمد في " المسند" 2 / 16 , من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. 3 مسلم رقم (450) في الصلاة: باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن , والترمذي رقم (18) في الطهارة: باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به , والنسائي 1 / 37 - 38 فيه: باب النهي عن الاستطابة بالعظم , وأبو داود رقم (39) في الطهارة: باب ما ينهى عنه أن يستنجى به , انظر روايات الحديث في " جامع الأصول " رقم (5138) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة "رواه وكيع. وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن. ........................................................................................... بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران" 1، وعنه: لا يجزي الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد. قوله: "وعن سعيد بن جبير قال: " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة "رواه وكيع " هذا عند أهل العلم له حكم الرفع؛ لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي فيكون هذا مرسلا؛ لأن سعيدا تابعي، فعلى هذا يجب النهي عن تعليق التمائم والترغيب في قطعها وأن ذلك مما يجب، وفيه مع ما تقدم أنه شرك، وبيان حال السلف - رضي الله عنهم - من تعظيم الشرك قليله وكثيره والنهي عنه، فلما اشتدت غربة الإسلام في أواخر هذه الأمة صار إنكار هذا وما هو أعظم منه أعظم المنكرات حتى عند من ينتسب إلى العلم كما لا يخفى، ووكيع هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي ثقة إمام صاحب تصانيف منها الجامع وغيره، روى عنه الإمام أحمد وطبقته مات سنه سبع وتسعين ومائة. قوله: "وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن " إبراهيم هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي يكنى أبا عمران ثقة من كبار الفقهاء مات سنة ست وتسعين وله خمسون سنة أو نحوها قوله: "كانوا يكرهون " أراد أصحاب عبد الله ابن مسعود كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خثيم وسويد بن غفلة وغيرهم وهم من سادات التابعين، وفي زمانهم كانوا يطلقون الكراهة على المحرم، وهذا القول الصحيح؛ لأن ما كان من غير القرآن قد تقدم النهي عنه بلا ريب، وأما إذا كان من القرآن فيتعين النهي عنه لأمور ثلاثة: "منها " دخوله في عموم المنهي عنه. "ومنها " كونه ذريعة إلى تعليق ما ليس من القرآن فيفضي إلى عدم إنكارها. "الثالث " أن تعليق القرآن يكون سببا في امتهانه فلا بد أن يدخل به الخلاء ونحوه. قال المصنف - رحمه الله تعالى -: والرقى هي التي تسمى العزائم وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم من العين والحمة، والتولة هي شيء يصنعونه يزعمون   1 الدارقطني 1/56 وقال: إسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فيه مسائل: الأولى: تفسير الرقى والتمائم. الثانية: تفسير التولة. الثالثة: أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء. الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمى ليس من ذلك. الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء: هل هي من ذلك أم لا؟. السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك. السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترا. الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان. التاسعة: أن كلام إبراهيم" النخعي "لا يخالف ما تقدم من الاختلاف، لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 9- باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} 1 الآيات. .................................................................................................. أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته. قال الحافظ: التولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها وهو ضرب من السحر والله أعلم. قوله: "باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما " كبقعة وقبر ومشهد ونحو ذلك، ومن اسم شرط والجواب محذوف تقديره فقد أشرك بالله. قوله: وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} الآيات. هذه الأوثان الثلاثة هي أعظم أوثان أهل الجاهلية من أهل الحجاز، فاللات لأهل الطائف ومن حولهم من العرب، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال، وقال ابن هشام:   1 سورة النجم آية: 19-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 عن أبي واقد الليثي قال: " خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى حنين ونحن .................................................................................................. كانت لهذيل وخزاعة. واللات بتخفيف التاء في قراءة الجمهور، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح ورويس عن يعقوب بتشديد التاء، فعلى الأولى قال الأعمش: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز، وقال ابن كثير: اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة، عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تبعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش. قاله ابن هشام1. وعلى الثانية قال ابن عباس: كان رجلا يلت السويق للحاج فمات فعكفوا على قبره، ذكره البخاري2. "قلت ": ولا منافاة بين ما ذكره البخاري وغيره من عبادتهم الصخرة التي كان يلت السويق عليها باسمه وعبادة قبره لما مات، وأما العزى فقال ابن جرير: كانت صخرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم "3. ومناسبة هذه الآية للترجمة أن عبادة المشركين للعزى، إنما كان بالتفات القلوب رغبة إليها في حصول ما يرجونه ببركتها من نفع أو دفع ضر، فصارت أوثانا تعبد من دون الله، وذلك من شدة ضلال أهل الشرك وفساد عقولهم كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 4، فصار عبادة القبور وعبادة الشجر والحجر هو شرك المشركين، وقد جرى ذلك وما هو أعظم منه في أواخر هذه الأمة. قوله: "عن أبي واقد " هو صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين، وله خمس وثمانون سنة قوله: "خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم " يشير إلى أهل مكة ممن إسلامه قريب إذ ذاك.   1 الذي في " تفسير القرطبي " قال هشام - يعني ابن الكلبي المؤرخ -: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار - أي اللات. 2 البخاري رقم (4859) في تفسير سورة النجم: باب قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى) دون قوله: فلما مات عكفوا على قبره. 3 البخاري رقم (3039) في الجهاد: باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب , ورقم (3986) و (4043) و (4067) و (4561) , وأحمد في " المسند " 4 / 293 من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما. 4 سورة يونس آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، قلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " الله أكبر! إنها السنن، .................................................................................................. قوله: "إلى حنين " هو اسم واد بشرقي مكة معروف قاتل فيه صلي الله عليه وسلم هوازن كما قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً} 1. والوقعة مشهورة عند أهل المغازي والسير وغيرهم، وما جرى فيها من النصر وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم كما في الآية الكريمة: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً} 2. قوله: "ونحن حدثاء عهد بكفر، يشير إلى أهل مكة الذين أسلموا قريبا، فلذلك خفي عليهم هذا الشرك المذكور في الحديث بخلاف من تقدم إسلامه. قوله: "وللمشركين سدرة يعكفون عندها " عبادة لها وتعظيما وتبركا لما كانوا يعتقدونه فيها من البركة. قوله: "يقال لها ذات أنواط " هو برفع التاء كما لا يخفى. قوله: "ينوطون بها أسلحتهم" أي يعلقونها. قوله: " فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم "3 أي للمشركين "ذات أنواط " ظنوا أن النبي صلي الله عليه وسلم لو جعل لهم ذلك لجاز اتخاذها لحصول البركة لمن اعتقدها فيها. وأنواط جمع نوط وهو مصدر سمي به المنوط. قوله: "فقال النبي صلي الله عليه وسلم الله أكبر " تعظيما لله تعالى عن أن يجعل له شريك في عبادته التي هي حقه على عباده كما قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4 وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} 5 وهو الإخلاص، والشرك ينافي ذلك، وتقدم معنى الحنيف وتضمنت هاتان الآيتان وما في معناهما التوحيد الذي دلت عليه "لا إله إلا الله " نفيا وإثباتا كما تقدم بيانه، فمن التفت قلبه إلى غير الله لطلب نفع أو دفع ضر فقد أشرك، والقرآن كله في تقدير هذا الأصل العظيم الذي هو أصل دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. قوله: "السنن " بضم السين أي الطرق يشير إلى الطرق التي تخالف دينه الذي شرعه تعالى لعباده.   1 سورة التوبة آية: 25. 2 سورة التوبة آية: 26. 3 الترمذي: الفتن (2180) , وأحمد (5/218) . 4 سورة يونس آية: 105. 5 سورة الروم آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 قلتم- والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لتركبن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه1. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النجم. الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا. الثالثة: كونهم لم يفعلوا. الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه. الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل. السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم. ................................................................................................. قوله: "قلتم- والذي نفسي بيده- " حلف على ذلك تأكيدا لهذا الخبر وتعظيما له "كما قالت بنو إسرائيل لموسى": {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 2 وإن لم يسموها آلهة، أخبر أن التبرك بالأشجار يجعلها آلهة وإن لم يسموها آلهة؛ ولذلك شبه قولهم هذا بقول بني إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 3، فظهر بهذا الحديث أن التعلق على الأشجار والأحجار وغيرها لطلب البركة بها شرك في العبادة كشرك عباد الأصنام. قوله: "لتركبن سنن من كان قبلكم " أي اليهود والنصارى، وقد وقع كما أخبر به صلي الله عليه وسلم في هذه الأمة فركبوا طريق من كان قبلهم ممن ذكرنا كما هو في الأحاديث الصحيحة كحديث: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " 4 وهو في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفي رواية: " ومن الناس إلا أولئك؟ " 5.   1 رواه الترمذي رقم (2181) في الفتن: باب ما جاء " لتركبن سنن من كان قبلكم " , وقال الترمدي: حديث حسن صحيح , وهو كما قال , ورواه أيضا أحمد في " المسند218/5 , وقال الترمذي: وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة. 2 سورة الأعراف آية: 138. 3 سورة الأعراف آية: 138. 4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94) . 5 سيأتي تخريجه ص (123) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 السابعة: أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: " الله أكبر إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم "فغلظ الأمر بهذه الثلاث. الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل لما قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} 1. التاسعة: أنه نفي هذا من معنى " لا إله إلا الله" مع دقته وخفائه على أولئك. العاشرة: أن حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة. الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر; لأنهم لم يرتدوا بهذا. الثانية عشرة: قولهم: ونحن حدثاء عهد بكفر، فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك. الثالثة عشرة: ذكر التكبير عند التعجب، خلافا لمن كرهه. الرابعة عشرة: سد الذرائع. الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية. السادسة عشرة: الغضب عند التعليم. السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: " إنها السنن ". الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة؛ لكونه وقع كما أخبر. التاسعة عشرة: أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا. العشرون: أنه مقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر. أما " من ربك؟ " فواضح، وأما " من نبيك؟ " فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما " ما دينك؟ " فمن قولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} 2 إلخ. الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين. الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة لقولهم: ونحن حدثاء عهد بكفر.   1 سورة الأعراف آية: 138. 2 سورة الأعراف آية: 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 10- باب ما جاء في الذبح لغير الله وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ} 1 الآية، وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2. .................................................................................................. قوله: "باب ما جاء في الذبح لغير الله. وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ} الآية. قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون له أنه أخلص لله صلاته وذبيحته؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى" انتهى. فالصلوات الخمس هي أعظم فرائض الإسلام بعد الشهادتين. قوله: "صلاتي " يشمل الفرائض والنوافل، والصلوات كلها عبادة. وقد اشتملت على نوعي الدعاء: دعاء المسألة ودعاء العبادة، فما كان فيها من السؤال والطلب فهو دعاء مسألة، وما كان فيها من الحمد والثناء والتسبيح والركوع والسجود وغير ذلك من الأركان والواجبات هو دعاء عبادة، وهذا هو التحقيق في تسميتها صلاة؛ لأنها اشتملت على نوعي الدعاء الذي هو صلاة لغة وشرعا. قرره شيخ الإسلام وابن القيم - رحمهما الله تعالى -. قوله: "ونسكي " قال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير "نسكي" ذبحي، وكذلك قال الضحاك. قوله: "ومحياي ومماتي " أي ما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح "لله رب العالمين " خالصا لوجهه، "لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " أي من هذه الأمة، وهذا قول أئمة التفسير، والمقصود أن هذه الآية دلت على أن أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله كائنا من كان، فمن صرف منها شيئا لغير الله فقد وقع فيما نفاه تعالى من الشرك بقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 والقرآن كله في تقرير هذا التوحيد في عبادته وبيانه ونفي الشرك والبراءة منه. قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 4 قال شيخ الإسلام: "أمره أن يجمع بين هاتين العبادتين وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته عكس أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله الذين   1 سورة الأنعام آية: 163-164. 2 سورة الكوثر آية: 2. 3 سورة الأنعام آية: 79. 4 سورة الكوثر آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلي الله عليه وسلم بأربع كلمات: " لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن .................................................................................................. لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر، ولهذا جمع بينهما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} 1 الآية" اهـ. وقد قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2 الآية. قوله: "عن علي رضي الله عنه " وعلي بن أبي طالب هو الإمام أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة الزهراء - رضي الله عنهما - كان من أسبق السابقين الأولين، ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين. قال أبو السعادات: أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله. قوله: "من ذبح لغير الله " قال شيخ الإسلام: قوله: "وما أهل به لغير الله " ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقال هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح والزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، فعلى هذا لو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم وإن قال فيه بسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال.. إلخ، ومن ذلك الذبح للجن. قوله: " لعن الله من لعن والديه "يعني أباه وأمه وإن علوا، وفي الصحيح أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه " 3. قوله: " لعن الله من آوى محدثا "وهو بفتح الهمزة ممدودة أي ضمه إليه وحماه   1 سورة الأنعام آية: 162. 2 سورة المائدة آية: 3. 3 البخاري رقم (5973) في الأدب: باب لا يسب الرجل والديه , ومسلم رقم (90) , والترمذي رقم (1903) , وأبو داود رقم (5141) , من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الله من غير منار الأرض " رواه مسلم1. وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! .................................................................................................. وأما "محدثا " فقال أبو السعادات: يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول. فمعنى الكسر من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه، والفتح هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والنصر. فإنه إذا ارتضى بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم". قوله: " لعن الله من غير منار الأرض "بفتح الميم علامات حدودها وهي التي توضع لتمييز حق الشركاء إذا اقتسموا ما بينهم في الأرض والدور، قال في النهاية: أي معالمها وحدودها "قلت " وذلك بأن يرفع ما جعل علامة على تمييز حقه من حق شريكه فيأخذ من حق شريكه بعضه فهذا ظلم عظيم، وفي الحديث: " من ظلم شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة "2 فما أجهل أكثر الخلق حتى وقعوا بجهلهم وظلمهم فيما يضرهم في دنياهم وأخراهم، وذلك لضعف الإيمان بالمعاد والحساب على الأعمال والجنة والنار نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. قوله: "عن طارق بن شهاب " البجلي الأحمسي أبو عبد الله، قال أبو داود: رأى النبي صلي الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا. قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي صلي الله عليه وسلم فهو صحابي، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح، وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنة ثلاث وثمانين، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: قال الإمام   1 رواه مسلم (1978) (43) , و (44) , و (45) في الأضاحي: باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله , والنسائي 7 / 232 في الضحايا: باب من ذبح لغير الله. 2 البخاري رقم (2453) في المظالم: باب إثم من ظلم شيئا من الأرض , ورقم (3195) في بدء الخلق: باب ما جاء في سبع أرضين , ومسلم رقم (1610) في المساقاة: باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها , وأحمد في " المسند " 6/ 64 و 79 و 252 و 259 من حديث عائشة رضي الله عنها. قوله: " طوقه" قال الخطابي: "له وجهان: أحدهما أن معناه أنه - يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر , ويكون كالطوق في عنقه , لا أنه طوق حقيقة. الثاني معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين , أي فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقا في عنقه" اهـ. (الفتح 5 / 104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 قال: " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب، قال ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة " 1 رواه أحمد. .................................................................................................. أحمد - رحمه الله تعالى -: حدثنا أبو معاوية الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال: " دخل الجنة رجل في ذباب" الحديث. قوله: "في ذباب " أي من أجله. قوله "قالوا وكيف ذلك يا رسول الله؟ " كأنهم - والله أعلم - تقالوا هذا العمل وتقريب الذباب للصنم، فبين لهم النبي صلي الله عليه وسلم أن من فعل هذا وما هو أعظم منه وجبت له النار. قوله: " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب، فقال: ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا، فخلوا سبيله فدخل النار "؛ لأنه قصد غير الله بقلبه أو انقاد بعمله فوجبت له النار، ففيه معنى حديث مسلم الذي تقدم في باب الخوف من الشرك عن جابر مرفوعا: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار " 2 فإذا كان هذا فيمن قرب للصنم ذبابا فكيف بمن يستسمن الإبل والبقر والغنم ليتقرب بنحرها وذبحها لمن كان يعبده من دون الله من ميت أو غائب أو طاغوت أو مشهد أو شجر أو حجر أو غير ذلك؟ وكان هؤلاء المشركون في أواخر هذه الأمة يعدون ذلك أفضل من الأضحية في وقتها الذي شرعت فيه، وربما اكتفى بعضهم بذلك عن أن يضحي لشدة رغبته وتعظيمه ورجائه لمن كان يعبده من دون الله، وقد عمت البلوى بهذا وما هو أعظم منه. قوله: " وقالوا للآخر: قرب قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة "ففيه معرفة قدر الشرك في قلوب أهل الإيمان ونفرتهم عنه وصلابتهم في الإخلاص كما في حديث أنس الذي في البخاري وغيره الآتي إن شاء الله   1 رواه أحمد في كتاب "الزهد" صقحة (15) عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو موقوف صحيح , وفي كتاب "الزهد" سليمان بدل سلمان وهو خطأ. 2 تقدم تخريجه ص (35) رقم (1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فيه مسائل: الأولى: تفسير {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} 1. الثانية: تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2. الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله. الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك. الخامسة: لعن من آوى محدثا، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق لله فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك. السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك من الأرض وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو بتأخير. السابعة: الفرق بين لعن المعين، ولعن أهل المعصية على سبيل العموم. الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب. التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم. العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل، ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر. الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافرا لم يقل: " دخل النار في ذباب ". تعالى: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان "وفيه " وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار " 3، وفيه تفاوت الناس في الإيمان؛ لأن هذا الرجل الذي قرب الذباب لم يكن له عمل يستحق به دخول النار قبل ما فعله مع هذا الصنم كما هو ظاهر الحديث، والله أعلم.   1 سورة الأنعام آية: 162. 2 سورة الكوثر آية: 2. 3 تقدم تخريجه ص (48) رقم (2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك "1. الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.   1 البخاري (6488) في الرقاق: باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك , من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو عند أحمد في " المسند" 1 / 387 و 413 و 442. قال ابن بطال: فيه أن الطاعة موصلة إلى الجنة , وأن المعصية مقربة إلى النار , وأن الطاعة والمعصية فد تكون في أيسر الأشياء. وقال ابن الجوزي: معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة , والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية. (الفتح 11/ 321) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 11 - باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله وقوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 1 الآية. .......................................................................................... قوله: "باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ". أشار - رحمه الله تعالى - إلى ما كان الناس يفعلونه في نجد وغيرها قبل دعوتهم إلى التوحيد من ذبحهم للجن لطلب الشفاء منهم لمرضاهم، ويتخذون للذبح لهم مكانا مخصوصا في دورهم، فنفى الله سبحانه الشرك بهذه الدعوة الإسلامية، فلله الحمد على زوال الشرك والبدع والفساد بطلعة الداعي إلى توحيد رب العالمين. قوله: "وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} الآية" أي مسجد الضرار المذكور في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} 2 وهو مسجد قباء، فقد أسس على التقوى من أول يوم قدم فيه صلي الله عليه وسلم المدينة مهاجرا، وكان أهل مسجد الضرار قد بنوه قبل خروج النبي صلي الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، فأتوه فسألوه أن يصلي فيه وذكروا له أنهم بنوه للضعفاء   1 سورة التوبة آية: 108. 2 سورة التوبة آية: 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: " نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلي الله عليه وسلم فقال: " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا: لا. قال: " فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا. فقال ......................................................................................... وأهل العلة في الليلة الشاتية فقال: "إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله"، فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه وهدمه قبل قدومه إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل الله فيه هذه الآيات. ووجه مطابقة الآية للترجمة أن هذا المسجد لما أسس على معصية الله والكفر به صار محل غضب، فنهى الله نبيه صلي الله عليه وسلم أن يقوم فيه لوجود العلة المانعة، وخرج مخرج الخصوص والنهي عام، وما كان مثله من الأمكنة فإنه يعطى حكمه؛ لأن المعصية صيرته محلا خبيثا وأثرت فيه بالنهي عن العبادة فيه، ويقابل ذلك المساجد وهي أشرف بقاع الأرض، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ. رِجَالٌ} 1 الآية. فما أحسن هذا القياس، ويأتي تقريره في الحديث في الباب إن شاء الله تعالى. قوله: "عن ثابت بن الضحاك " أي ابن خليفة الأشهلي صحابي مشهور روى عنه أبو قلابة وغيره مات سنة أربع وستين. قوله: "ببوانة " بضم الباء وقيل بفتحها. قال البغوي: موضع في أسفل مكة دون يلملم. قال أبو السعادات: هضبة من وراء ينبع. قوله: " فهل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " فيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن ولو بعد زواله قاله المصنف - رحمه الله تعالى - وهو شاهد الترجمة. قوله: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قال شيخ الإسلام: "العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحوه، والمراد به هنا الاجتماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية، فالعيد يجمع أمورا: "منها " يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة. ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقا، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا، في الزمان كقول النبي صلي الله عليه وسلم في يوم الجمعة: " إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا "2، وللاجتماع والأعمال كقول   1 سورة النور آية: 36. 2 أحمد في " المسند " 2 / 303 و 532 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه , ومالك في " الموطأ" 1/65 في الطهارة: باب ما جاء في السواك عن ابن السباق مرسلا , وقد وصله ابن ماجه رقم (1098) في إقامة الصلاة: باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -, وهو حديث حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 رسول الله صلي الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما يملك ابن آدم "1 رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما- ............................................................................................... ابن عباس:رضي الله عنه شهدت العيد مع رسول الله صلي الله عليه وسلم2 والمكان كقول النبي صلي الله عليه وسلم " لا تتخذوا قبري عيدا "3، وقد يكون لفظ العيد اسما لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب كقول النبي صلي الله عليه وسلم " دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا "4" انتهى. وقد أحدث هؤلاء المشركون أعيادا عند القبور التي تعبد من دون الله ويسمونها عيدا، كمولد البدوي بمصر وغيره، بل هي أعظم لما يوجد فيها من الشرك والمعاصي العظيمة، قال المصنف - رحمه الله تعالى -: وفيه استفصال المفتي والمنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله. "قلت" وفيه المنع من اتخاذ آثار المشركين محلا للعبادة؛ لكونها صارت محلا لما حرم الله من الشرك والمعاصي، والحديث وإن كان في النذر فيشمل كل ما كان عبادة لله،   1 أبو داود رقم (3313) في الأيمان والنذور: باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر , وإسناده صحيح , كما قال الألباني في " صحيح الجامع" رقم (2548) . انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حول هذا الموضوع في كتابه القيم الجليل "اقتضاء الصراط المستقيم " ص طبعة دار البيان بدمشق. "بوانة" هي هضبة من وراء ينبع قريبة من ساحل البحر , وقيل: إنها بفتح الباء. قال الخطابي: "في الحديث دليل على أن من نذر طعاما أو ذبحا بمكة أو في غيره من البلدان لم يجز أن يجعله لفقراء غير أهل هذا المكان , وهذا على مذهب الشافعي وأجازه غيره لغير أهل ذلك المكان". 2 البخاري رقم (98) في العلم: باب عظة الإمام النساء وتعليمهن , وفي أبواب وكتب أخرى , والنسائي 3 / 192 في صلاة العيد: باب موعظة الإمام النساء بعد الفراغ من الخطبة , وأبو داود رقم (1146) في الصلاة: باب ترك الأذان في العيد , وأحمد 1/ 242. 3 وهو حديث صحيح انظر "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم " لاسماعيل القاضي رقم (20) و (30) . 4 البخاري رقم (949) في العيدين: باب الحراب والدرق يوم العيد , ورقم (952) باب سنة العيدين لأهل الاسلام، وفي أبواب وكتب أخرى , ومسلم رقم (892) فيه: باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه , والنسائي 3 / 195- 197 فيه: باب اللعب في المسجد يوم العيد ونظر النساء إلى ذلك , من حديث عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 1 الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة. الثالثة: رد المسلة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال. الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك. الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع. السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله. السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله. الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية. التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده. فلا تفعل في هذه الأماكن الخبيثة التي اتخذت محلا لما يسخط الله تعالى، فبهذا الحديث شاهد للترجمة، والمصنف - رحمه الله تعالى - لم يرد التخصيص بالذبح، وإنما ذكر الذبح كالمثال، وقد استشكل جعل محل اللات بالطائف مسجدا، والجواب- والله أعلم- أنه لو ترك هذا المحل في هذه البلدة لكان يخشى أن تفتتن به قلوب الجهال فيرجع إلى جعله وثنا كما كان يفعل فيه أولا، فجعله مسجدا والحالة هذه ينسى ما كان يفعل فيه، ويذهب به أثر الشرك بالكلية، فاختصر هذا المحل لهذه العلة وهي قوة المعارض والله أعلم. قوله: "فأوف بنذرك " وذلك لعدم المانع. قوله: " فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله "فالحديث دل على أن اتخاذ أماكن الشرك والمعاصي لا يجوز أن يعبد الله فيها، ونذر ذلك معصية لا يجوز الوفاء به. قوله: "ولا فيما لا يملك ابن آدم". قال في شرح المصابيح: يعني إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه، بأن قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان ونحو ذلك، فأما إذا التزم في الذمة بأن قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق رقبة، وهو في تلك الحال لا يملكها ولا قيمتها، فإذا شفى الله مريضه ثبت ذلك في ذمته. قوله: "رواه أبو داود وإسناده على شرطهما " أي البخاري ومسلم. وأبو داود اسمه سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي السجستاني صاحب الإمام أحمد بن حنبل، ومصنف السنن والمراسيل وغيرها، ثقة إمام حافظ من كبار العلماء، مات سنة خمس وسبعين ومائتين - رحمه الله تعالى -.   1 سورة التوبة آية: 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 العاشرة: لا نذر في معصية. الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 12- باب من الشرك النذر لغير الله وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} 1 وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 2 .................................................................................................. "باب من الشرك النذر لغير الله " "وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} الآية ". قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "أي يتعبدون لله تعالى فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر". قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} قال ابن كثير: "يخبر الله تعالى بأنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاتهم على ذلك أوفر الجزاء للعاملين به ابتغاء وجهه". قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "وأما النذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك فهو شرك، وقال فيمن نذر للقبور ونحوها دهنا لتنور به ويقول: إنها تقبل النذر كما يقوله بعض المشركين، فهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالا للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة؛ فإن فيهم شبها من السدنة التي كانت عند العزى ومناة يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 3، فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، انتهى. وذلك لأن الناذر لله وحده علق رغبته به وحده لعلمه بأنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فتوحيد القصد هو توحيد العبادة، ولهذا ترتب عليه وجوب الوفاء فيما نذره طاعة لله، والعبادة إذا صرفت لغير الله صار ذلك شركا بالله؛ لالتفاته إلى غيره تعالى فيما يرغب فيه أو يرهب فقد جعله شريكا لله   1 سورة الإنسان آية: 7. 2 سورة البقرة آية: 270. 3 سورة الأنبياء آية: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 في العبادة، فيكون قد أثبت ما نفته "لا إله إلا الله " من إلهية غير الله ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص، وكل هذه الأبواب التي ذكرها المصنف - رحمه الله تعالى - تدل على أن من أشرك مع الله غيره بالقصد والطلب فقد خالف ما نفته "لا إله إلا الله "، فعكس مدلولها فأثبت ما نفته ونفي ما أثبتته من التوحيد، وهذا معنى قول شيخنا: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب. فكل شرك وقع أو قد يقع فهو ينافي كلمة الإخلاص وما تضمنته من التوحيد. قال الرافعي في شرح المنهاج: "وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة أو المشهد أو الزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه أو بنيت على اسمه، فهذا النذر باطل غير منعقد؛ فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع به البلاء، ويستجلب به النعماء، ويستشفى بالنذر لهما من الأدواء، حتى إنهم لينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشمع والزيت ويقولون: القبر الفلاني أو المكان الفلاني يقبل النذر، يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض أو قدوم غائب وسلامة مال وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة، فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقا، ومن ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر إبراهيم الخليل - عليه السلام -، ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء؛ فإن الناذر لا يقصد بذلك إلا الإيقاد على القبر تبركا وتعظيما ظانا أن ذلك قربة فهذا مما لا ريب في بطلانه، والإيقاد المذكور محرم سواء انتفع به منتفع أم لا". وقال الشيخ قاسم الحنفي في شرح درر البحار: "النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون لإنسان غائب أو مريض أو له حاجة فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة، ويقول: يا سيدي فلان إن رد الله غائبي أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا أو من الفضة كذا أو من الطعام كذا أو من الماء كذا أو من الشمع والزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه: "منها " أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق. ومنها أن المنذور له ميت، والميت لا يملك شيئا، ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى عز وجل واعتقاد ذلك كفر- إلى أن قال: إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ينتقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم فحرام بإجماع المسلمين"، نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق، ونقله المرشدي في تذكرته وغيرهما عنه، وزاد: "وقد ابتلي الناس بهذا لا سيما في مولد البدوي"، وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي - رحمه الله - في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء: "فهذا الذبح والنذر إن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وفي " الصحيح " عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " 1. .................................................................................................. على اسم فلان فهو لغير الله تعالى فيكون باطلا، وفي التنزيل {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2 {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 والنذر لغير الله إشراك مع الله كالذبح لغيره. انتهى. قوله: "وفي الصحيح " أي صحيح البخاري. قوله: "عن عائشة " هي أم المؤمنين زوج النبي صلي الله عليه وسلم وابنة الصديق رضي الله عنه، وأعلم النساء بحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم، تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم وهي بنت سبع ودخل بها وهي ابنة تسع، وأفضل أزواج النبي صلي الله عليه وسلم إلا خديجة ففيها خلاف، بل لا يقال خديجة أفضل ولا عائشة أفضل، والتحقيق أن لخديجة من الفضائل في بدء الوحي ما ليس لعائشة من سبقها إلى الإيمان بالنبي صلي الله عليه وسلم، وتأييده في تلك الحال التي بدئ بالوحي فيها كما في صحيح البخاري4 وغيره ما زالت كذلك حتى توفيت رضي الله عنها قبل الهجرة، ولعائشة من العلم بالأحاديث والأحكام ما ليس لخديجة لعلمها بأحوال النبي صلي الله عليه وسلم ونزول القرآن وبيان الحلال والحرام، وكان الصحابة رضي الله عنه، بعد وفاته صلي الله عليه وسلم يرجعون إليها فيما أشكل عليهم من أحوال النبي صلي الله عليه وسلم وحديثه، صلوات الله وسلامه عليه، ورضي عن أصحابه وأزواجه، توفيت سنة سبع وخمسين رضي الله عنها. قوله: " من نذر أن يطيع الله فليطعه "؛ لأنه نذره لله خالصا فوجب عليه الوفاء به فصار عبادة، وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة لشرط يرجوه كإن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا ونحو ذلك، وجب عليه إن حصل له ما علق نذره على حصوله، إلا أن أبا حنيفة قال: لا يلزمه الوفاء إلا بما جنسه واجب بأصل الشرع كالصوم وأما ما ليس كذلك فلا يوجب عليه الوفاء به.   1 رواه البخاري رقم (6696) في الأيمان والنذور: باب النذر في الطاعة , ورقم (6700) :باب النذر فيما لا يملك , وأحمد في "المسند" 6 / 36 و 41 , وأبو داود رقم (3289) في الأيمان والنذور , والترمذي رقم (1526) في النذور: باب من نذر أن يطيع الله فليطعه , والنسائي 7 /17 في الأيمان والنذور: باب النذر في المعصية , وابن ماجه رقم (2126) في الكفارات:باب النذر في المعصية. 2 سورة الأنعام آية: 121. 3 سورة آية: 162. 4 البخاري رقم (3) في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فيه مسائل: الأولى: وجوب الوفاء بالنذر الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك. الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 13- باب من الشرك الاستعاذة بغير الله وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1. .................................................................................................. قوله: " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه "2 زاد الطحاوي " وليكفر عن يمينه "، وقد أجمع العلماء أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية، واختلفوا هل تجب فيه كفارة يمين؟ على قولين هما روايتان عن أحمد "أحدهما" تجب وهو المذهب، وروي عن ابن مسعود وابن عباس، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. قوله: "باب من الشرك الاستعاذة بغير الله "، الاستعاذة الالتجاء والاعتصام، فالعائذ قد هرب إلى ربه والتجأ إليه مما يخافه عموما وخصوصا، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وما يقوم بالقلب من الالتجاء والاعتصام به والانطراح بين يدي الرب والافتقار إليه والتذلل له أمر لا تحيط به العبارة"، انتهى. وقد أمر الله عباده في كتابه بالاستعاذة به في مواضع كقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3 وقال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 4 وفي المعوذتين وغير ذلك، فهو عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله كغيرها من أنواع العبادة. قوله: وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 5 قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله تعالى - في تفسيره هذه الآية: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادهم لذلك إثما، وقال بعضهم: فزاد الإنس الجن باستعاذتهم   1 سورة الجن آية: 6. 2 البخاري: الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) . 3 سورة الأعراف آية: 200. 4 سورة النحل آية: 98. 5 سورة الجن آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وعن خولة بنت حكيم - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم .................................................................................................. بالجن باستعاذتهم بعزيزهم جرأة عليهم وازدادوا هم بذلك إثما، وقال مجاهد: فازداد الكفار طغيانا، وقال ابن زيد: وزادهم الجن خوفا، وقد أجمع العلماء على أنه لا تجوز الاستعاذة بغير الله. وقال ملا علي قاري الحنفي - رحمه الله -: "لا تجوز الاستعاذة بالجن فقد ذم الله الكافرين على ذلك وذكر الآية وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} 1 الآية. فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه واستعاذته به وخضوعه له" انتهى ملخصا، قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك". "خولة بنت حكيم " بن أمية السلمية يقال لها أم شريك، ويقال: إنها هي الواهبة، وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون، قال ابن عبد البر: "وكانت صالحة فاضلة". قوله: " أعوذ بكلمات الله التامات "شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به لا كما يفعل أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله تعالى للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته. قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: قيل معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب كما يلحق كلام البشر، وقيل معناه الكافية الشافية، قيل: الكلمات هنا هي القرآن، فإن الله أخبر عنه أنه هدى وشفاء، وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله تعالى وبأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه ويتوكل في ذلك عليه ويحضر ذلك في قلبه، فمن فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه، قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله ليس بمخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده إن لم يسم ذلك عبادة، ويسميه   1 سورة الأنعام آية: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك "1 رواه مسلم. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الجن. الثانية: كونه من الشرك. الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء استدلوا به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك. الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره. الخامسة: أن كون الشيء يحصل به مصلحة دنيوية من كف شر، أو جلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك. .................................................................................................. استخداما وصدق، هو استخدام من الشيطان له فيصير من خدم الشيطان وعابديه، ولذلك يخدمه الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو به. قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 2 قال ابن القيم: من شر كل ذي شر، في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره إنسيا أو جنيا أو هامة أو دابة أو ريحا أو صاعقة، أي نوع كان من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة، و"ما" هاهنا موصولة ليس إلا، وليس المراد بها العموم الإطلاقي بل المراد التقييدي الوصفي، والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر لا من شر كل ما   1 مسلم رقم (2708) في الذكر والدعاء: باب في التعوذ من سوء القضاء، ورواه أيضا أحمد في " المسند " 6/ 377 و 409 , والترمذي رقم (3433) في الدعوات: باب ما جاء ما يقول إذا نزل منزلا , وابن ماجه (3547) في الطب: باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه. 2 سورة الفلق آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 14- باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ .................................................................................................. خلقه الله، فإن الجنة والأنبياء والملائكة ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم وعلى ما يفضي إليه1. قوله: "باب من الشرك أن يستغيث بغير الله تعالى أو يدعو غيره " قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "الاستغاثة هي طلب الغوث وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون".اهـ. "قلت " فبين الاستغاثة والدعاء عموم وخصوص مطلق يجتمعان في مادة وهو دعاء المستغيث، وينفرد الدعاء الذي هو مطلق الطلب أو السؤال من غير المستغيث، وقد نهى تعالى عن دعاء غيره الأخص والأعم في كتابه، كما يأتي بيانه، فكل ما قصد به غير الله مما لا يقدر عليه إلا الله كدعوة الأموات والغائبين فهو من الشرك الذي لا يغفره الله، والأدلة على ذلك من القرآن والسنة أكثر من أن تحصر. وقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 2 ففي هذه الآية النهي عن أن يدعى أحد من دونه تعالى، وأخبر تعالى أن غيره لا يضر ولا ينفع. قوله: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 3 والظلم في هذه الآية هو الشرك كما قال تعالى عن لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 4 وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ   1 قال الأستاذ محمد رشيد رضا - رحمه الله تعالى -: "لا بد أن يريد بالألم الحسي والمعنوي , ولو قال الضرر لكان أعم , ولعله تفسير للشر في الحديث , لا للشر المطلق". وقال الراغب: "الشر الذي يرغب عنه كل الناس والخير ضده , وقسمهما إلى مطلق ومقيد , ويرد عليه (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) , وأطلق في القرآن على العمل وعلى المكان وعلى الكفار , وعلى الصم البكم الذين لا يعقلون الشيء , وهو أعم الألفاظ" اهـ. 2 سورة يونس آية: 106. 3 سورة يونس آية: 106. 4 سورة لقمان آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} 1 الآية {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} 2، وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 3 الآيتان، وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} 4. .................................................................................................. بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ} هذا في حق المستغيث، أخبر الله تعالى أنه هو الذي يتفضل على من سأله ولا يقدر أحد أن يمنعه شيئا من فضل الله عليه فهو المعطي والمانع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وفي هذا المعنى ما في حديث ابن عباس. وفيه: " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك "5 فمن تدبر هذه الآية وما في معناها علم أن ما وقع فيه الأكثر من دعوة غير الله هو الظلم العظيم، والشرك الذي لا يغفر، وأنهم قد أثبتوا ما نفته لا إله إلا الله من الشرك في الإلهية، ونفوا ما أثبتته من الإخلاص كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 6 والدين هو طاعة الله فيما أمر به وشرعه ونهى عنه وحرمه، وأعظم ما أمر به التوحيد والإخلاص، وأن لا يقصد العبد بشيء من عمله سوى الله تعالى الذي خلقه لعبادته، وأرسل بذلك رسله، وأنزل به كتبه {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 7، وأعظم ما نهى عنه الشرك به في ربوبيته وإلهيته. قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 8. فهذه الآية تبين وتوضح ما تقرر في الآية قبلها، فأخبر تعالى أنه لا أضل ممن يدعو أحدا من دونه كائنا من كان، وأخبر أن المدعو لا يستجيب لما طلب منه من ميت أو غائب أو ممن لا يقدر على الاستجابة مطلقا من طاغوت ووثن، فليس لمن دعا غير الله إلا الخيبة والخسران، ثم قال تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 9 كما قال في آية يونس: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} 10 إلى قوله: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} 11. ثم قال: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 12 فلا يحصل للمشرك يوم القيامة إلا نقيض قصده، فيتبرأ منه ومن عبادته، وينكر ذلك عليه أشد الإنكار، وقد صار المدعو   1 سورة آية: 106-107. 2 سورة العنكبوت آية: 17. 3 سورة الأحقاف آية: 5 – 6. 4 سورة النمل آية: 62. 5 تقدم تخريجه ص (53) رقم (2) . 6 سورة الزمر آية: 2-3. 7 سورة النساء آية: 165. 8 سورة الأحقاف آية: 5-6. 9 سورة الأحقاف آية: 5. 10 سورة يونس آية: 28. 11 سورة يونس آية: 29. 12 سورة الأحقاف آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلي الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل " 1. .................................................................................................. للداعي عدوا، ثم أخبر تعالى أن ذلك الدعاء عبادة بقوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2 فدلت أيضا على أن دعاء غير الله عبادة له، وأن الداعي له في غاية الضلال، وقد وقع من هذا الشرك في هذه الأمة ما طم وعم حتى أظهر الله من يبينه بعد أن كان مجهولا عند الخاصة والعامة إلا من شاء الله تعالى، وهو في الكتاب والسنة في غاية البيان. لكن القلوب انصرفت إلى ما زين لها الشيطان كما جرى للأمم مع الأنبياء والمرسلين لما دعوهم إلى توحيد الله، جرى لهم من شدة العداوة ما ذكره الله تعالى كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 3 ويشبه هذه الآية في المعنى {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 4 أخبر الله تعالى أن ذلك الدعاء شرك بالله وأنه لا يغفره لمن لقيه به، فتدبر هذه الآيات وما في معناها كقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 5 {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} 6 وهو في القرآن أكثر من أن يستقصى. قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 7، وهذا مما أقر به مشركو العرب وغيرهم في جاهليتهم كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 8 أخبر تعالى أنهم يخلصون الدعاء له إذا وقعوا في شدة. قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله تعالى -: يقول تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 9 يفعل هذه الأشياء بكم وينعم عليكم؟ وقوله: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} يقول تذكرا قليلا من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون وتعتبرون حجح الله عليكم يسيرا فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.   1 وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 159 , وقال الطبراني: ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث " أقول: وابن لهيعة خلط بعد احتراق كتبه". وأخرجه أحمد في "المسند" 5/ 317 ولفظه عنده: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يقام لي , إنما يقام لله تبارك وتعالى" , وفي سنده أيضا ابن لهيعة وراو لم يسم , وانظر (مجمع الزوائد) (8/ 40) . 2 سورة الأحقاف آية: 6. 3 سورة الذاريات آية: 52-53. 4 سورة فاطر آية: 13-14. 5 سورة الجن آية: 18. 6 سورة الجن آية: 20. 7 سورة النمل آية: 62. 8 سورة العنكبوت آية: 65. 9 سورة النمل آية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فيه مسائل: الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} 1. الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر. الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين. الخامسة: تفسير الآية التي بعدها. السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا. السابعة: تفسير الآية الثالثة. الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه. التاسعة: تفسير الآية الرابعة. "وروى الطبراني " هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها، روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الديري وخلق كثير، مات سنة ستين وثلاثمائة روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قوله: "فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق " الحديث، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: إن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقدر أن يغيثهم منه "قلت ": فلعله أراد أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقدر أن يترك المنافقين يفعل بهم ما يستحقونه ولكنه لم يفعل مخافة أن يفتتن بعض المؤمنين من قبيلة المنافق، وفي السنة ما يدل على ذلك كما فعل مع ابن أبي وغيره. وقيل: إن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقدر أن يغيثهم من ذلك المنافق فيكون نهيه صلي الله عليه وسلم عن الاستغاثة به حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك كنظائره مما للمستغاث به قدرة عليه مما كان يستعمل لغة وشرعا مخافة أن يقع من أمته الاستغاثة بمن لا يضر ولا ينفع، ولا يسمع ولا يستجيب من الأموات والغائبين والطواغيت والشياطين والأصنام وغير ذلك، وقد وقع من هذا الشرك العظيم ما عمت به البلوى كما تقدم ذكره حتى إنهم أشركوهم مع الله في ربوبيته وتدبير أمر خلقه، كما أشركوهم معه في إلهيته وعبوديته، والوسائل لها حكم الغايات في النهي عنها والله أعلم.   1 سورة يونس آية: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله. الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه. الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له. الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو. الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة. الخامسة عشرة: أن هذه الأمور سبب كونه أضل الناس. السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة " من سورة الأحقاف". السابعة عشرة: الأمر العجيب وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين. الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم حمى التوحيد والتأدب مع الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 15- باب "في التوحيد وغربة الدين" قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} 1 الآية. وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 2 الآية. .................................................................................................. قوله: باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 3. وهذا مما احتج به تعالى على المشركين لما وقع منهم من اتخاذ الشفعاء والشركاء في العبادة؛ لأنهم مخلوقون فلا يصلح أن يكونوا هم شركاء لمن هم خلقه وعبيده، وأخبر أنهم مع ذلك لا يستطيعون لهم نصرا أي لمن سألهم النصرة "ولا أنفسهم ينصرون"، فإذا كان المدعو لا يقدر أن ينصر نفسه فلأن لا ينصر غيره من باب الأولى، فبطل تعلق المشرك بغير الله بهذين الدليلين العظيمين، وهو كونهم عبيدا لمن خلقهم لعبادته والعبد لا يكون معبودا، "الدليل الثاني " أنه لا قدرة لهم على نفع أنفسهم فكيف يرجى منهم أن ينفعوا غيرهم، فتدبر هذه الآية وأمثالها في القرآن العظيم، وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ   1 سورة الأعراف آية: 191-192. 2 سورة فاطر آية: 13. 3 سورة آية الأعراف: 191-192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وفي " الصحيح " عن أنس قال: " شج النبي صلي الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت .................................................................................................. وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 1إلى قوله- {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2 ابتدأ تعالى هذه الآيات بقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} 3 يخبر الخبير أن الملك له وحده والملوك وجميع الخلق تحت تصرفه وتدبيره، ولهذا قال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 4 فإن من كانت هذه صفته فلا يجوز أن يرغب في طلب نفع أو دفع ضر إلى أحد سوى الله تعالى وتقدس، بل يجب إخلاص الدعاء له الذي هو من أعظم أنواع العبادة، وأخبر تعالى أن ما يدعوه أهل الشرك لا يملك شيئا وأنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لداعيهم، وأنهم يوم القيامة يكفرون بشركهم أي ينكرونه ويتبرءون ممن فعله معهم، فهذا الذي أخبر به الخبير {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} 5 وأخبر أن ذلك الدعاء شرك به وأنه لا يغفره لمن لقيه به، فأهل الشرك ما صدقوا الخبير ولا أطاعوه فيما حكم به وشرع، بل قالوا: إن الميت يسمع، ومع سماعه ينفع، فتركوا الإسلام والإيمان رأسا كما ترى عليه الأكثرين من جهلة هذه الأمة. قوله في الصحيح عن أنس قال: " شج النبي صلي الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ "6 فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 7 الآية وفيه عن ابن عمر رضي الله عنه أنه " سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد "فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 8 الآية. وفي رواية: " يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام "فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} وأسلم هؤلاء وحسن إسلامهم. قوله: "في الصحيح " أي الصحيحين علقه البخاري عن حميد عن ثابت عن أنس، ووصله أحمد والترمذي والشافعي عن حميد عن أنس، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 9، وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 10. والآيات في هذا المعنى كثيرة، والمقصود أن الذي له الأمر كله والملك كله لا يستحق غيره شيئا من العبادة، ولهذا المعنى قال لنبيه صلي الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 11، فالذي ليس له من الأمر شيء هو وخيرة الله من خلقه ما زال يدعو الناس أن يخلصوا العبادة للذي له الأمر كله وهو الله تعالى، فهذا دينه صلي الله عليه وسلم الذي بعث به وأمر أن يبلغه أمته ويدعوهم إليه، كما تقدم في باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإياك أن تتبع سبيلا غير سبيل المؤمنين الذي شرعه الله ورسوله لهم وخصهم به.   1 سورة آية: 13-14. 2 سورة فاطِر آية: 14. 3 سورة فاطر آية: 13. 4 سورة فاطر آية: 13. 5 سورة آل عمران آية: 5. 6 مسلم: الجهاد والسير (1791) , والترمذي: تفسير القرآن (3002 ,3003) , وابن ماجه: الفتن (4027) , وأحمد (3/99 ,3/178 ,3/201 ,3/206 ,3/253 ,3/288) . 7 سورة آل عمران آية: 128. 8 سورة آل عمران آية: 128. 9 سورة آل عمران آية: 154. 10 سورة الأعراف آية: 54. 11 سورة القصص آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 رباعيته، فقال: " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ "1 فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 2 3. و"فيه" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه " سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: " اللهم العن فلانا وفلانا" بعدما يقول: " سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد " "4 فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} . وفي رواية: " يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 5 و"فيه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلي الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 6 قال: " يا معشر قريش- أو .................................................................................................. قوله: "وفيه عن أبي هريرة " أي في صحيح البخاري، واختلف في اسم أبي هريرة وصححه النووي أن اسمه عبد الرحمن بن صخر، وهو دوسي من حفاظ الصحابة، حفظ من الحديث ما لم يحفظه غيره، كما في صحيح البخاري عن وهب بن منبه عن أخيه: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: " ما من أحد من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب "7 مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة. وهذا الحديث له طرق كثيرة في الصحيحين والمسند والسنن وغيرها. قوله "يا معشر قريش" أو كلمة نحوها "اشتروا أنفسكم "،   1 مسلم: الجهاد والسير (1791) , والترمذي: تفسير القرآن (3002 ,3003) , وابن ماجه: الفتن (4027) , وأحمد (3/99 ,3/178 ,3/201 ,3/206 ,3/253 ,3/288) . 2 سورة آل عمران آية: 128. 3 رواه البخاري معلقا 7/ 365 في المغازي: غزوة أحد , باب قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) , قال البخاري: قال حميد وثابت عن أنس: شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم " فنزلت (ليس لك من الأمر شيء) . أما حديث حميد فوصله أحمد والترمذي والنسائي من طرق عن حميد , وأما حديث ثابت فوصله مسلم (1791) في الجهاد والسير: باب غزوة أحد من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه. قوله: " شج: أي حصل جرح في رأسه الشريف , والجراحة إذا كانت في الوجه أو الرأس تسمى شجة. 4 البخاري: المغازي (4070) , والترمذي: تفسير القرآن (3004 ,3005) , والنسائي: التطبيق (1078) , وأحمد (2/147) . 5 البخاري رقم (4069- 4070) في المغازي: باب قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) , ورقم (4559) في التفسير: باب (ليس لك من الأمر شيء) , ورقم (7346) في الاعتصام بالكتاب والسنة: باب قول الله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) . 6 سورة الشعراء آية: 214. 7 البخاري رقم (613) في العلم: باب كتابة العلم , والترمذي (2670) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله صلي الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا " 1. .................................................................................................. أي بالإيمان بالله ورسوله واتباعه فيما جاءكم به، مما أنزل عليه من توحيد الله تعالى في العبادة، وترك ما كنتم تعبدونه من دونه من الأوثان والأصنام، فإنهم بعد ذلك الشرك صاروا عبيدا لمن لا يضر ولا ينفع، ولا يستجيب ولا يسمع إلا هو، وهم قد عرفوا أن ما كانوا يفعلونه من عبادة غير الله شرك بالله، فإنهم كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك". فسبحان الله كيف جاز في عقولهم أن المملوك يكون شريكا لمالكه، وقد قال تعالى:. {مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} قوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا" هذا هو معنى ما تقدم من أنه تعالى هو المتصرف في خلقه بما شاء مما اقتضته حكمته في خلقه وعلمه بهم، والعبد لا يعلم إلا ما علمه الله، ولا ينجو أحد من عذابه وعقابه إلا بإخلاص العبادة له وحده والبراءة من عبادة ما سواه، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 2، والنبي صلي الله عليه وسلم في هذا الحديث أنذر الأقربين نذارة خاصة، وأخبر أنه لا يغني عنهم من الله شيئا، وبلغهم وأعذر إليهم، فأنذر قريشا ببطونها وقبائل العرب في مواسمها، وأنذر عمه وعمته وابنته وهم أقرب الناس إليه، وأخبر أنه لا يغني عنهم من الله شيئا، إذا لم يؤمنوا به ويقبلوا ما جاء به من التوحيد وترك الشرك به.   1 البخاري رقم (2753) في الوصايا: باب هل يدخل النساء والأولاد في الأقارب , ورقم (3537) في الأنبياء: باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية , ورقم (4771) في تفسير سورة الشعراء: باب (وأنذر عشيرتك الأقربين) , ومسلم رقم (206) في الإيمان: باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) , والترمذي رقم (3184) في التفسير: باب ومن سورة الشعراء , والنسائي 6 / 248 , في الوصايا: باب إذا أوصى لعشيرته الأقربين. 2 سورة المائدة آية: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيتين. الثانية: قصة أحد. الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة. الرابعة: أن المدعو عليهم كفار. الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار. منها: شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم. السادسة: أنزل الله عليه في ذلك {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 1 السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} 2 فتاب عليهم فآمنوا. الثامنة: القنوت في النوازل. التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم. العاشرة: لعنة المعين في القنوت. .................................................................................................. قوله: "سليني من مالي ما شئت " لأن هذا هو الذي يقدر عليه صلي الله عليه وسلم وما كان أمره إلى الله سبحانه فلا قدرة لأحد عليه كما في هذا الحديث. ولما مات أبو طالب وكان يحوط رسول الله صلي الله عليه وسلم ويحميه ولم ينكر ملة عبد المطلب من الشرك بالله. وقال صلي الله عليه وسلم: " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك "3، فأنزل الله تعالى: {ما كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 4، فأخبر أن أبا طالب من أصحاب النار لما مات على غير شهادة أن لا إله إلا الله فلم ينفعه حمايته النبي صلي الله عليه وسلم من أن يكون من المشركين ولا الاعتراف بأن النبي صلي الله عليه وسلم على الحق بدون البراءة من الشرك؛ لأنه لم يبرأ من ملة أبيه، فكل تعلق على غير الله من طلب لشفاعة أو غيرها شرك بالله يكون عليه وبالا في الدنيا والآخرة، والشفاعة لا تكون إلا لأهل الإخلاص خاصة كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 5 والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكذلك الأحاديث.، والله أعلم، وسيأتي في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.   1 سورة آل عمران آية: 128. 2 سورة آل عمران آية: 128. 3 البخاري: الجنائز (1360) , ومسلم: الإيمان (24) , والنسائي: الجنائز (2035) , وأحمد (5/433) . 4 سورة التوبة آية: 113. 5 سورة الأنعام آية: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الحادية عشرة: قصته صلي الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 1. الثانية عشرة: جده صلي الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن. الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: " لا أغني عنك من الله شيئا حتى قال: " يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا " 2 فإذا صرح صلي الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين أنه لا يغني عن سيدة نساء العالمين، وأمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس الآن، تبين له التوحيد وغربة الدين.   1 سورة الشعراء آية: 214. 2 البخاري: الوصايا (2753) , ومسلم: الإيمان (204 ,206) , والنسائي: الوصايا (3644 ,3646 ,3647) , وأحمد (2/333 ,2/350 ,2/360 ,2/398 ,2/448 ,2/519) , والدارمي: الرقاق (2732) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 16- باب "في بيان الحجة علي إبطال الشرك" قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1 .................................................................................................. قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي زال عنها الفزع قاله ابن عباس وغيره. ذكر تعالى هذه الآية في سياق قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 2. وقال ابن جرير: قال بعضهم: الذين فزع عن قلوبهم الملائكة قالوا: وإنما فزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل بالوحي. قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه والآثار، وقال أبو حيان تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أن قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل، وأمر الله تعالى به سمعت كجر السلسلة الحديد على الصفوان فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة قال: وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} لم تتصل هذه الآية بما قبلها. وهذه الآيات تقطع عروق الشرك بأمور أربعة: "الأول " أنهم لا يملكون مثقال ذرة مع الله، والذي لا يملك مثقال ذرة في السماوات والأرض لا ينفع ولا يضر، فهو تعالى هو الذي يملكهم ويدبرهم ويتصرف فيهم   1 سورة سبأ آية: 23. 2 سورة سبأ آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وفي " الصحيح "1. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه .................................................................................................. وحده. "الثاني " قوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} 2 أي في السماوات والأرض أي وما لهم شرك مثقال ذرة من السماوات والأرض. "الثالث " قوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 3، والظهير المعين فليس لله معين من خلقه، بل هو الذي يعينهم على ما ينفعهم لكمال غناه عنهم، وضرورتهم إلى ربهم فيما قل وكثر من أمور دنياهم وأخراهم. "الرابع " قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4 فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. وأخبر تعالى أن من اتخذ شفيعا من دونه حرم شفاعة الشفعاء، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5؛ لأن اتخاذ الشفعاء شرك لقوله تعالى في حقهم {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 6، والمشرك منفية عنه الشفاعة في حقه كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 7، وقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 8 وذلك أن متخذ الشفيع لا بد أن يرغب إليه ويدعوه ويرجوه ويخافه ويحبه لما يؤمله منه، وهذه من أنواع العبادة التي لا يصرف منها شيء لغير الله، وذلك هو الشرك الذي ينافي الإخلاص. قوله: "في الصحيح " أي صحيح البخاري، ففي هذا الحديث أن من عرف الله تعالى ذل له تعظيما ومهابة وخوفا لا سيما عند سماع كلامه تعالى؛ لأن قوله "إذا قضى الله الأمر" أي بكلامه ووحيه إلى جبريل، وقوله "في السماء" يدل على العلو ففيه إثبات كلام الله وعلوه على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، وهذا الحديث ونحوه مما احتج به أهل السنة على الجهمية والأشاعرة والكلابية وغيرهم من أهل البدع ممن ألحد بالتعطيل في أسماء الله وصفاته. قوله: "خضعانا" مصدر خضع. قوله: "لقوله" صريح في أنهم سمعوا قوله، وأنه بصوت وأن ذلك ينفذ جميع الملائكة أي   1 البخاري رقم (4701) في تفسير سورة الحجر: باب (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) ، ورقم (4800) في تفسير سورة سبأ: باب (حتى إذا فزع عن قلوبهم) , ورقم (7481) في التوحيد: باب قول الله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) . 2 سورة سبأ آية: 22. 3 سورة سبأ آية: 22. 4 سورة سبأ آية: 23. 5 سورة يونس آية: 18. 6 سورة يونس آية: 18. 7 سورة المدثر آية: 48. 8 سورة الأنعام آية: 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1. فيسمعها مسترقو السمع- ومسترق السمع، هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مئة كذبة. فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا " وكذا": كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ". وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة- أو .................................................................................................. يسمعونه كلهم، قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي زال عنها الفزع. قوله: "فيسمعها مسترق السمع" أي الكلمة التي سمعتها الملائكة وتحدثوا بها، قوله: "ومسترق السمع بعضه فوق بعض هكذا وصفه سفيان" راوي الحديث وهو ابن عيينة "بكفه ". قوله: "فيسمع الكلمة " يعني مسترق السمع "فيلقيها إلى من تحته " من الشياطين "ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن " الحديث قوله: "فيكذب معها " أي الساحر أو الكاهن مائة كذبة "فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " لقبول الناس للباطل. قوله: "وعن النواس بن سمعان " وسمعان بكسر السين ابن خالد الكلابي، ويقال له الأنصاري، صحابي ويقال: إن أباه صحابي أيضا. وقوله: "إذا أراد الله تعالى " فالإرادة صفة من صفات الله عز وجل، وهي نوعان شرعية وقدرية كما قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} 2 الآية {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} 3، وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4 ونحو هذه الآيات. قوله: "أن يوحي بالأمر " فيه بيان معنى ما تقدم في الحديث قبله من قوله "إذا قضى الله الأمر". قوله: "تكلم بالوحي " فيه التصريح بأنه يتكلم بالوحي، فيوحيه إلى جبريل - عليه السلام -، ففيه الرد على الأشاعرة في قولهم إن القرآن عبارة عن كلام الله. قوله: "أخذت   1 سورة سبأ آية: 23. 2 سورة الإسراء آية: 16. 3 سورة الكهف آية: 82. 4 سورة يس آية: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قال رعدة شديدة- خوفا من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل. فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل " 1. فيه مسائل: الأولى: تفسير الآية. .................................................................................................. السماوات منه رجفة- أو قال رعدة شديدة- خوفا من الله عز وجل " في هذه معرفة عظمة الله، ويوجب للعبد شدة الخوف منه تعالى، وفيه إثبات العلو. قوله: "فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا " هيبة وتعظيما لربهم وخشية لما سمعوا من كلامه تعالى وتقدس. قوله: "فيكون أول من يرفع رأسه جبريل"؛ لأنه ملك الوحي عليه السلام. قوله: "فيكلمه الله من وحيه بما أراد " فيه التصريح بأنه تعالى يوحي إلى جبريل بما أراده من أمره كما تقدم في أول الحديث. قوله: "ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها " وهذا أيضا من أدلة علو الرب تعالى وتقدس. قوله: "ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2 فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل " وهذا دليل بأنه تعالى قال ويقول. وأهل البدع من الجهمية ومن تلقى عنهم كالأشاعرة جحدوا ما أثبته الله تعالى في كتابه، وأثبته رسوله صلي الله عليه وسلم في سنته من علوه وكلامه وغير ذلك من صفات كماله التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله والمؤمنون من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل السنة والجماعة على ما يليق بجلال الله وعظمته- تشبيهات اختلقوها ما أنزل الله بها من سلطان.   1 رواه ابن أبي حاتم والطبراني من حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال ابن كثير - رحمه الله -: وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العوفي عن ابن عباس، وعن قتادة أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم , بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى عليه السلام , ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية. 2 سورة سبأ آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك خصوصا من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب. الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1. الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك. الخامسة: أن جبريل هو الذي يجيبهم بعد ذلك بقوله: " قال كذا وكذا". السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل. السابعة: أنه يقوله لأهل السماوات كلهم؛ لأنهم يسألونه. الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم. التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله. العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله. الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين. الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا. الثالثة عشرة: إرسال الشهب. الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الأنس قبل أن يدركه. الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق في بعض الأحيان. السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة. السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء. الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟! التاسعة عشرة: كونهم يلقي بعضهم إلى بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها. العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة. الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله عز وجل. الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا.   1 سورة سبأ آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 17- باب الشفاعة وقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 1. .................................................................................................. قوله: "باب الشفاعة " الشفاعة نوعان: "النوع الأول " شفاعة منفية في القرآن، وهي الشفاعة للكافر والمشرك. قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 2، وقال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3، وقال: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 4، ونحو هذه الآيات كقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 5. يخبر تعالى أن من اتخذ هؤلاء شفعاء عند الله، أنه لا يعلم أنهم يشفعون له بذلك وما لا يعلمه لا وجود له، فنفى وقوع هذه الشفاعة، وأخبر أنها شرك بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 6. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 7 إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 8. فأبطل شفاعة من اتخذ شفيعا يزعم أنه يقربه إلى الله وهو يبعده عنه وعن رحمته ومغفرته؛ لأنه جعل لله شريكا يرغب إليه ويرجوه ويتوكل عليه ويحبه، كما يحب الله تعالى أو أعظم. "النوع الثاني " الشفاعة التي أثبتها القرآن، وهي خالصة لأهل الإخلاص وقيدها تعالى بأمرين: "الأمر الأول " إذنه للشافع أن يشفع، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 9. وإذنه تعالى لا يصدر إلا إذا رحم عبده الموحد المذنب، فإذا رحمه تعالى أذن للشافع أن يشفع له. "الأمر الثاني " رضاه عمن أذن للشافع أن يشفع فيه، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 10، فالإذن بالشفاعة له بعد الرضا كما في هذه الآية، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد. قوله: "وأنذر " الإنذار هو الإعلام بأسباب المخالفة والتحذير منها. قوله: "به " أي القرآن {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} وهم أهل الإخلاص الذين لم يتخذوا لهم شفيعا، بل أخلصوا قصدهم وطلبهم وجميع أعمالهم لله وحده، ولم يلتفتوا إلى أحد   1 سورة الأنعام آية: 51. 2 سورة البقرة آية: 254. 3 سورة المدثر آية: 48. 4 سورة البقرة آية: 48. 5 سورة يونس آية: 18. 6 سورة يونس آية: 18. 7 سورة الزمر آية: 3. 8 سورة الزمر آية: 3. 9 سورة البقرة آية: 255. 10 سورة الأنبياء آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 1. .................................................................................................. سواه فيما يرجون نفعه ويخافون ضره. قال الفضيل بن عياض: " ليس كل خلقه عاتب إنما عاتب الذين يعقلون ". قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2، قال الزجاج: موضع ليس نصب على الحال كأنه قال متخلين من ولي وشفيع، والعامل فيه يخافون. قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة، وتركوا التعلق على الشفعاء وغيرهم؛ لأنه ينافي الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد عملا بدونه. قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 3 دلت الآية أن الشفاعة له سبحانه، لأنها لا تقع إلا لأهل التوحيد بإذنه سبحانه وتعالى، كما قال تعالى في الآية السابقة. وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} 4 الآية، فلا شفاعة إلا لمن هي له سبحانه؛ ولا تقع إلا ممن أذن له فيها، فتدبر هذه الآيات العظيمة في اتخاذ الشفعاء5. وقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 6 يبطل التعلق على غيره سبحانه؛ لأنه الذي انفرد بملك كل شيء فليس لأحد في ملكه مثقال ذرة دونه سبحانه وبحمده، والإسلام هو أن تسلم قلبك وجوارحك لله بالإخلاص، كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال لرسول الله صلي الله عليه وسلم: " فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: "الإسلام" قال: وما   1 سورة الزمر آية: 44. 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة الزمر آية: 44. 4 سورة يونس آية: 3. 5 الشفاعة أنواع: منها ما هو متفق عليه بين الأمة , ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع. النوع الأول: الشفاعة الأولى , وهي العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين - صلوات الله عليهم أجمعين -. النوع الثاني والثالث: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم , فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة , وفي أقوام آخرين قد أمر به الى النار ألا يدخلوها. النوع الرابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم. النوع الخامس: الشفاعة في أقوام يدخلون الجنة بغير حساب. النوع السادس: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه. النوع السابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة. النوع الثامن: شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار فيخرجون منها. اهـ ملخصا " شرح العقيدة الطحاوية " بتحقيقنا ص 223- 231 طبعة دار البيان بدمشق. 6 سورة البقرة آية: 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 1. وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2 وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 3 الآيتين. .................................................................................................. الإسلام؟ قال: " أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة "4، والآيات في بيان الإخلاص كثيرة، وهو أن لا يلتفت القلب ولا الوجه في جميع الأعمال كلها إلا لله وحده، كما قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 5، فأمره تعالى بإخلاص الدعاء له وحده، وأخبر أنه الدين الذي تصح معه الأعمال وتقبل. قال شيخ الإسلام: "الإخلاص محبة الله وإرادة وجهه". قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 6 تقدم معنى هذه الآية. قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، فإذا كان هذا في حق الملائكة الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 7، فظهر من هذه الآيات المحكمات ما يبين حقيقة الشفاعة المثبتة في القرآن التي هي ملك لله لا يملكها غيره، وقيد حصولها بقيدين كما في هذه الآية وغيرها، كما تقدم قريبا إذنه للشافع أن يشفع، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} ، ورضاه عمن أراد رحمته ممن أذنب من الموحدين، فاختصت الشفاعة بأهل الإخلاص خاصة، وأن اتخاذ الشفعاء من دين المشركين قد أنكره الله عليهم فيما تقدم من الآيات. قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} الآيتين. قال أبو العباس: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون " ... إلخ.   1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة النجم آية: 26. 3 سورة سبأ آية: 22. 4 رواه أحمد 5 / 3 وإسناده حسن. 5 سورة غافر آية: 14. 6 سورة البقرة آية: 255. 7 سورة آية: 26-29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وقال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 1. فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم " أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع "2. وقال له أبو هريرة: " من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه "3 فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته: أن الله سبحانه وهو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه. فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيات.   1 سورة الأنبياء آية: 28. 2 هو جزء من حديث الشفاعة العظمى الطويل الذي رواه البخاري رقم (3340) في أحاديث الأنبياء: باب قول الله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) ورقم (3361) باب قوله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) , ورقم (4712) في تفسير سورة بني إسرائيل: باب قوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا) , ومسلم (194) في الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، والترمذي رقم (2436) في صفة القيامة: باب ما جاء في الشفاعة , وأحمد في "المسند" 2/ 436 و540 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 3 البخاري رقم (99) في العلم: باب عظة الإمام النساء , ورقم (6570) في الرقاق: باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب , وأحمد في " المسند" 2/ 373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الثانية: صفة الشفاعة المنفية. الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة. الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود. الخامسة: صفة ما يفعله صلي الله عليه وسلم، وأنه لا يبدأ بالشفاعة أولا، بل يسجد، فإذا أذن الله له شفع. السادسة: من أسعد الناس بها؟. السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله. الثامنة: بيان حقيقتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 18- باب " في أن الأعمال بالخواتيم، ومضرة تعظيم الأسلاف والأكابر" قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 1 الآية. وفي " الصحيح " عن ابن المسيب عن أبيه قال: " " لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه .................................................................................................. قوله: باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: يقول تعالى لرسوله صلي الله عليه وسلم وإنك يا محمد لا تهدي من أحببت، أي ليس إليك ذلك إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 3. قلت: والمنفي ها هنا هداية التوفيق والقبول، فإن أمر ذلك إلى الله وحده وهو القادر عليه. وأما الهداية المذكورة في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4. فإنها هداية الدلالة والبيان، فهو المبين عن الله والدال على دينه وشرعه. قوله: وفي الصحيح عن ابن المسيب أي في الصحيحين، وابن المسيب هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائن بن عمران بن مخزوم القرشي   1 سورة القصص آية: 56. 2 سورة البقرة آية: 272. 3 سورة يوسف آية: 103. 4 سورة الشورى آية: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 رسول الله صلي الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: " يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله"، فقالا له: أترغب عن ملة عبد .................................................................................................. المخزومي، أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين، اتفق أهل الحديث أن مراسيله أصح المراسيل، وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه، مات في التسعين وقد ناهز الثمانين، وأبوه المسيب صحابي بقي إلى خلافة عثمان رضي الله عنه وكذلك جده حزن صحابي استشهد باليمامة. قوله: "لما حضرت أبا طالب الوفاة" أي علاماتها ومقدماتها. قوله: "جاءه رسول الله صلي الله عليه وسلم" يحتمل أن يكون المسيب حضر مع الاثنين، فإنهما من بني مخزوم وهو أيضا مخزومي، وكان الثلاثة إذ ذاك كفارا، فقتل أبو جهل على كفره وأسلم الآخران. قوله: "يا عم قل لا إله إلا الله" أمره بقولها لعلم أبي طالب بأنها دلت على نفي الشرك بالله، وإخلاص العبادة له وحده، فإن من قالها عن علم ويقين وقبول، فقد أنكر الشرك وتبرأ منه، وكذلك الحاضرون يعلمون بما دلت عليه من نفي الشرك والبراءة منه، ولهذا عارضوا قول النبي صلي الله عليه وسلم بقولهم: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ لأن ملة عبد المطلب الشرك بعبادة الأوثان، كما كانت قريش وغيرهم في جاهليتهم كذلك. قوله: "كلمة " قال القرطبي بالنصب على أنه بدل من لا إله إلا الله، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: "أحاج لك بها عند الله" لأنه لو قالها في تلك الحال لقبلت منه ودخل بها في الإسلام. قوله: "فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " ذكراه الحجة الملعونة التي يحتح بها المشركون على المرسلين، كقول فرعون لموسى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} 1، وكقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 2. قوله: "فأعاد عليه النبي صلي الله عليه وسلم فأعادا" فيه مضرة أصحاب السوء والحذر من قربهم والاستماع لهم، ففيه معنى قول الناظم: إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى قوله: "فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله".   1 سورة طه آية: 51. 2 سورة الزخرف آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المطلب؟! فأعاد عليه النبي صلي الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 1 الآية. وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2 3. .................................................................................................. قال الحافظ: "هو تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب"، قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وفيه الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه". قوله: فقال النبي صلي الله عليه وسلم: " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك "اللام لام القسم. قال النووي: "فيه جواز الحلف من غير استحلاف". قال ابن فارس: "مات أبو طالب ولرسول الله صلي الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، وتوفيت خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها - بعد موت أبي طالب بثمانية أيام". قوله: فأنزل الله: عز وجل {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 4، والظاهر أن هذه الآية نزلت في أبي طالب، فإن الإتيان بالفاء المفيدة للترتيب في قوله"فأنزل الله" بعد قوله "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" يفيد ذلك، وقد ذكر العلماء لسبب نزول هذه الآية أسبابا أخر فلا منافاة، الآية الواحدة قد يتعدد نزولها، وفيه تحريم الاستغفار للمشركين وموالاتهم ومحبتهم.   1 سورة التوبة آية: 113. 2 سورة القصص آية: 56. 3 البخاري رقم (1360) في الجنائز: باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله , ورقم (3884) في مناقب الأنصار: باب قصة أبي طالب , ورقم (4675) في تفسير سورة براءة: باب قوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} , ورقم (4772) في تفسير سورة القصص ورقم (6681) في الأيمان والنذور: باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى أو قرأ ... إلخ ومسلم رقم (24) في الإيمان: باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع ... إلخ , والنسائي 4/ 90- 91 في الجنائز: باب النهي عن الاستغفار للمشركين , وأحمد في " المسند" 5 / 168 و 433 , من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه. قوله: " لما حضرت أبا طالب الوفاة. المراد قربت وفاته وحضرت دلائلها , وذلك قبل المعاينة والنزع , ولو كان في حال المعاينة والنزع لما نفعه الإيمان. 4 سورة التوبة آية: 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1. الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 2 الآية. الثالثة:- وهي المسألة الكبرى تفسير قوله صلي الله عليه وسلم: " قل: لا إله إلا الله " بخلاف ما عليه من يدعي العلم. الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلي الله عليه وسلم إذا قال للرجل: " قل لا إله إلا الله " فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام. الخامسة: جده صلي الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه. السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه. السابعة: كونه صلي الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك. الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان. التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر. العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك، لاستدلال أبي جهل بذلك. الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها لنفعته. الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته صلي الله عليه وسلم وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم، اقتصروا عليها.   1 سورة القصص آية: 56. 2 سورة التوبة آية: 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 19- باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين وقول الله: عز وجل {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1. وفي "الصحيح": عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 2. .................................................................................................. قوله: "باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين " قد أنذر صلي الله عليه وسلم أمته من الغلو، وأبلغ في الإنذار تحذيرا عما وقع من جهالة هذه الأمة كما سيأتي ذكره. قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 3 الآية. الغلو هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد، أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله، والخطاب وإن كان لأهل الكتاب فهو تحذير لهذه الأمة أن يفعلوا مع نبيهم صلي الله عليه وسلم كما فعلت النصارى مع المسيح وأمه، واليهود مع العزير، وقد وقع ذلك الشرك في العبادة في هذه الأمة نظما ونثرا كما في كلام البوصيري والبرعي وغيرهما، وفيما فعلوه من الغلو والشرك محادة لله ولكتابه ولرسول الله صلي الله عليه وسلم فأين ما وقع فيه هؤلاء الجهلة من قول من قال للنبي صلي الله عليه وسلم: "أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا". فكره ذلك صلي الله عليه وسلم أشد الكراهة - كما سيأتي في الكلام على هذا الحديث إن شاء الله تعالى4 وقول القائل: ما شاء الله وشئت - فقال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده"5. قال شيخ الإسلام: "ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم. قال: وعلي رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس مذهبه أن يقتلوا بالسيف من غير تحريق، وهو قول أكثر العلماء". قوله: في الصحيح أي صحيح البخاري، وهذا الأثر اختصره المصنف - رحمه الله -، والذي في البخاري عن ابن عباس: صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد، أما   1 سورة النساء آية: 171. 2 سورة نوح آية: 23. 3 سورة النساء آية: 171. 4 انظر ص (258) . 5 انظر ص (211) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 قال: " " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم، عبدت "1. وقال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثليهم؟ ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم". .................................................................................................. ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. أسماء رجال صالحين في قوم نوح، إلى آخره. قوله: "أن انصبوا" بكسر المهملة قوله "أنصابا" جمع نصب وهي الأصنام التي صوروها على صور الصالحين. قوله: "ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت" الذي في البخاري "ونسخ العلم" فلعل الذي هنا رواية، فصارت هذه الأصنام بهذا التصوير على صور الصالحين سلما إلى عبادتها، وكل ما عبد من دون الله من قبر أو مشهد أو صنم أو طاغوت فالأصل في عبادته هو الغلو كما لا يخفى على ذوي البصائر كما جرى لأهل مصر وغيرهم؛ فإن أعظم آلهتهم أحمد البدوي وهو لا يعرف له أصل ولا فضل ولا علم ولا عبادة، ومع هذا فصار أعظم آلهتهم مع أنه لا يعرف إلا أنه دخل المسجد يوم الجمعة فبال فيه ثم خرج ولم يصل، ذكره السخاوي عن أبي حيان، فزين لهم الشيطان عبادته فاعتقدوا أنه يتصرف في الكون ويطفئ الحريق وينجي الغريق، وصرفوا له الإلهية والربوبية وعلم الغيب، وكانوا يعتقدون أنه يسمعهم ويستجيب لهم من الديار البعيدة، وفيهم من يسجد على عتبة حضرته، وكان أهل العراق ومن حولهم كأهل عمان يعتقدون في عبد القادر الجيلاني كما يعتقد أهل مصر في البدوي، وعبد القادر من متأخري الحنابلة وله كتابة الغنية، وغيره ممن قبله وبعده من الحنابلة من هو أفضل منه في العلم والزهد، لكن فيه زهد وعبادة وفتنوا به أعظم فتنة كما جرى من الرافضة مع أهل البيت، وسبب ذلك الغلو دعوى أن له كرامات، وقد جرت   1 البخاري رقم (4940) في تفسير سورة نوح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وعن عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم; إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله " أخرجاه1. .................................................................................................. الكرامات لمن هو خير منه وأفضل كبعض الصحابة والتابعين، وهكذا حال أهل الشرك مع من فتنوا به، وأعظم من هذا عبادة أهل الشام لابن عربي وهو إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر أهل الأرض وأكثر من أن يعتقد فيه هؤلاء، لا فضل له ولا دين كأناس بمصر وغيرها، وجرى في نجد قبل هذه الدعوة مثل هذا، وفي الحجاز واليمن وغيرهما من عبادة الطواغيت والأشجار والأحجار والقبور ما عمت به البلوى كعبادتهم للجن وطلبهم الشفاعة منهم، والأصل في ذلك الغلو تزيين الشيطان. وذكر أهل السير أن التلبية من عهد إبراهيم - عليه السلام -: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك " حتى كان عمرو بن لحي الخزاعى فبينما هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه فقال: لبيك لا شريك لك، فقال الشيخ: إلا شريكا هو لك. فأنكر ذلك عمرو وقال: ما هذا؟ فقال الشيخ: تملكه وما ملك. فإنه لا بأس بهذا، فقالها عمرو فدانت بها العرب. قوله: عن عمر هو ابن الخطاب بن نفيل - بنون وفاء مصغر - العدوي أمير المؤمنين، وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنه ولي الخلافة عشر سنين ونصفا فامتلأت الدنيا عدلا، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة. قوله: "لا تطروني " الإطراء هو الغلو، "كما أطرت النصارى ابن مريم"، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} 2 قوله: " إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله " 3 أمرهم صلي الله عليه وسلم أن لا يتجاوزوا هذا القول، وقد أمر الله عباده بالصلاة والسلام عليه؛ لأن أشرف مقامات الأنبياء العبودية الخاصة والرسالة.   1 البخاري فقط رقم (3445) في أحاديث الأنبباء: باب قول الله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت) ورقم (6830) في المحاربين: باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت , وليس عند مسلم , وقد أخطأ في ذلك أيضا صاحب " المشكاة " الخطيب التبريزي , ورواه أيضا الدارمي رقم (2787) في الرقاق باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تطروني " , وأحمد في "المسند" 1/ 23 و 24 و47 و 55. 2 سورة النساء آية: 171. 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ولمسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " إياكم والغلو; فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " 1. ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " هلك المتنطعون قالها ثلاثا " 2. فيه مسائل: الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب. .................................................................................................. قوله: وقال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو "هذا الحديث ذكره المصنف رحمه الله تعالى بدون ذكر رواية، وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس وهذا اللفظ رواية أحمد عن ابن عباس، قال شيخ الإسلام: "هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال". قوله: ولمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " هلك المتنطعون "3 قالها ثلاثا. قال الخطابي: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف في البحث عنه على مذهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم. وقال أبو السعادات: هم المتعمقون الغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم، وقال النووي: فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدق، وتكلف الفصاحة واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة القوم ونحوهم. قوله: قالها ثلاثا أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات مبالغة في التعليم والإبلاغ، فقد بلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. ووجه مناسبة هذا الحديث للترجمة أن الغلو من التنطع والزيادة لما فيه من الخروج إلى ما يوصل إلى الشرك بالله.   1 رواه أحمد في " المسند " 1/ 215 و 347 , والنسائي 5/ 268 في المناسك: باب التقاط الحصى، وابن ماجه رقم (3029) في المناسك: باب في قدر حصى الرمي , وصححه ابن حبان رقم (1011) والحاكم 1/ 466 ووافقه الذهبي , وهو حديث صحيح. انظر " الأحاديث الصحيحة" رقم (1283) . 2 مسلم رقم (2670) في العلم: باب هلك المتنطعون، ورواه أيضا أحمد في " المسند" 1 / 386 , وأبو داود رقم (4608) في السنة: باب في لزوم السنة. 3 مسلم: العلم (2670) , وأبو داود: السنة (4608) , وأحمد (1/386) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الثانية: معرفة أول شرك حدث على وجه الأرض أنه بشبهة الصالحين. الثالثة: أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم. الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها. الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول محبة الصالحين، والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره. السادسة: تفسير الآية في سورة نوح. السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد. الثامنة: أن فيه شاهدا لما نقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر. التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل. العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه. الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح. الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها. الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها. الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال. الخامسة عشرة: التصريح أنهم لا يريدون إلا الشفاعة. السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله صلي الله عليه وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " 1 فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين. الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين. التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسخ العلم، ففيها معرفة قدر وجوده ومضرة فقده. العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 20- باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟ ! في " الصحيح " عن عائشة - رضي الله عنها -: " أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلي الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض بالحبشة وما فيها من الصور. فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح - أو العبد الصالح - بنوا على قبره مسجدا، .................................................................................................. قوله: "باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده "، فكل ما كان وسيلة إلى الشرك فهو حرام؛ لكونه يوقع في الشرك بالله وعبادة ما سواه، كما في الأحاديث. قوله: في الصحيح أي الصحيحين. قوله: أن أم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية، تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة، توفيت سنة اثنتين وستين. قوله: ذكرت لرسول الله صلي الله عليه وسلم. وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة، ذكرتا ذلك لرسول الله.صلي الله عليه وسلم "والكنيسة" بفتح الكاف والنون: متعبد النصارى. قوله: "رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور "؛ لأن أم سلمة هاجرت مع زوجها أبي سلمة إلى الحبشة، ثم رجعا إلى مكة فهاجرا منها إلى المدينة، والحبشة دينهم النصرانية وفيهم من أسلم. قوله: "فقال: أولئك " بكسر الكاف خطاب للمرأة. قوله: "إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح "، هذا - والله أعلم - شك من الراوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"، فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين، فتنة القبور، وفتنة التماثيل "1. و"لهما" عنها: قالت: " لما نزل برسول الله صلي الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا كشفها عن وجهه، فقال - وهو كذلك -: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا، لولا ذلك .................................................................................................. قوله: "أولئك شرار الخلق عند الله"، ولم يذكر غير بناء المساجد والتصوير؛ لكونه ذريعة إلى عبادة من بنوا عليه المسجد وصوروا صورته، فبذلك صاروا أشرار الخلق، فانظر إلى ما وقع في هذه الأمة من ذرائع الشرك والوقوع فيه، مما هو أعظم من هذا، كالبناء على القبور وتعظيمها وعبادتها، ومع ذلك يعتقدونه دينا، وهو الشرك الذي حرمه الله وأرسل الرسل وأنزل الكتب بالنهي عنه. قوله: فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين فتنة القبور وفتنة التماثيل. هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -، لم يذكره المصنف - رحمه الله تعالى -؛ لأن ذلك معلوم عند من يقرأ هذا الكتاب. قوله: "الخميصة " كساء له أعلام، والشاهد للترجمة قوله صلي الله عليه وسلم: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "،فلعنهم صلي الله عليه وسلم على تحري الصلاة عندها، وإن كان المصلي إنما يصلي لله، فمن كان يصلي عند القبور ويتخذها مساجد فهو ملعون لأنه ذريعة إلى عبادتها فكيف إذا عبد أهل القبور والغائبين بأنواع العبادة وسألهم ما لا قدرة لهم عليه؟ وهذا هو الغاية التي يكون اتخاذ القبور مساجد ذريعة إليها، واللعنة ليست مختصة باليهود والنصارى، بل تعم من فعل فعلهم وما هو أعظم منه، هذا هو الذي أراده صلي الله عليه وسلم من لعنة   1 البخاري رقم (427) في الصلاة: باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية , ورقم (434) في الصلاة. باب الصلاة في البيعة , ورقم (1341) في الجنائز: باب بناء المسجد على القبر , ورقم (3873) في مناقب الأنصار: باب هجرة الحبشة , ومسلم رقم (528) في المساجد ومواضع الصلاة: باب النهي عن بناء المسجد على القبور واتخاذ الصور فيها , والنهي عن اتخاذ القبور مساجد , والنسائي 2/ 42 في المساجد: باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد , وأحمد في " المسند" 6/ 51 من حديث أم سلمة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا "أخرجاه1. ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم قبل موته بخمس وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم .................................................................................................. اليهود والنصارى على هذا الفعل تحذيرا لأمته أن يفعلوا ما فعلته اليهود والنصارى، فيقع بهم من اللعنة ما وقع بهم. قوله: "ولولا ذلك " أي ما كان يحذر من اتخاذ قبر النبي صلي الله عليه وسلم مسجدا لأبرز قبره مع قبور أصحابه بالبقيع. قوله: "غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " روي بفتح الخاء وضمها، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي صلي الله عليه وسلم وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه، وعلى رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة فلم يبرزوا قبره خشية أن يقع ذلك من بعض الأمة غلوا وتعظيما؛ لما أبدى وأعاد من النهي والتحذير ولعن فاعله. قال القرطبي: "ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلي الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها وجعلوها محدقة بقبره صلي الله عليه وسلم، خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره" اهـ. "قلت " فبذلك صان الله قبره وقبل دعوته بقوله: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2. قوله: "عن جندب بن عبد الله " أي ابن سفيان البجلي وينسب إلى جده، صحابي مشهور مات بعد الستين، قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: أما بناء المساجد على القبور   1 البخاري رقم (435) في الصلاة: باب الصلاة في البيعة , ورقم (1330) في الجنائز: باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور , ورقم (1390) باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -, ورقم (3453) في أحاديث الأنبياء: باب ما ذكر عن بني اسرائيل , ورقم (4441 و4443) في المغازي: باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته , ورقم (5815) في اللباس: باب الأكسية والخمائص، ومسلم رقم (531) في المساجد ومواضع الصلاة. 2 مالك: النداء للصلاة (416) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك " 1. فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله، والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد، وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجدا؛ فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا. وكل موضع قصد الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا، كما قال:صلي الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " 2. ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: " إن من شرار .................................................................................................. فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه للأحاديث الصحيحة، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه، قال: ولا ريب في القطع بتحريمه، ثم ذكر الأحاديث في ذلك - إلى أن قال: - وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو غيره، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين. قوله: فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله. والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد. وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجدا: فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا كما قال صلي الله عليه وسلم: " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "3. هذا ذكره شيخنا وهو من تقرير شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله تعالى - على هذه الأحاديث. قوله: ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: " إن من شرار الناس   1 رقم (532) في المساجد ومواضع الصلاة: باب النهي عن بناء المساجد على القبور. 2 البخاري رقم (335) في التيمم , ورقم (438) في الصلاة: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا , ومسلم رقم (521) في المساجد ومواضع الصلاة , والنسائي 1/ 210- 211 في الغسل: باب التيمم بالصعيد , من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -, وفي الباب عن أبي هريرة وحذيفة وأبي أمامة وأبى ذر وعبد الله بن عمرو , وعبد الله بن عباس , وعلي ابن أبي طالب - رضي الله عنهم -. انظر " الإرواء " رقم (285) . 3 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " 1 ورواه أبو حاتم ابن حبان في " صحيحه ". فيه مسائل: الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح. ولو صحت نية الفاعل. الثانية: النهي عن التماثيل، وغلظ الأمر في ذلك. الثالثة: العبرة في مبالغته صلي الله عليه وسلم في ذلك كيف بين لهم هذا أولا، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم. الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر. الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم. السادسة: لعنه إياهم على ذلك. السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره. الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره. التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا. .................................................................................................. من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد "ورواه أبو حاتم في صحيحه. قلت: وقد وقع هذا في الأمة كثيرا كما وقع في أهل الجاهلية قبل مبعث النبي صلي الله عليه وسلم كما لا يخفى على ذوي البصائر، وقد زاد هؤلاء المتأخرون من هذه الأمة على ما وقع من أهل الجاهلية من هذا الشرك بأمور: "منها " أنهم يخلصون عند الاضطرار لغير الله وينسون الله. "ومنها " أنهم يعتقدون أن آلهتهم من الأموات يتصرفون في الكون دون الله، وجمعوا بين نوعي الشرك في الإلهية والربوبية، وقد سمعنا ذلك منهم مشافهة، ومن ذلك قول ابن كمال   1 رواه أحمد في "المسند" 1/ 435 وإسناده جيد كما قال الشارح , وصححه ابن حبان (340) في الصلاة: باب ما جاء في الصلاة في الحمام والمقبرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مساجد وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته. الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما شر أهل البدع، بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد. الثانية عشرة: ما بلي به صلي الله عليه وسلم من شدة النزع. الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة. الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة. الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة. السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 21- باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله روى مالك في " الموطأ": أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل .................................................................................................. من أهل عمان وأمثاله: إن عبد القادر الجيلاني يسمع من دعاه ومع سماعه ينفع، فزعم أنه يعلم الغيب وهو ميت فلقد ذهب عقل هذا وضل، فكفر بما أنزله الله في كتاب كقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 1 فما صدقوا الخبير فيما أخبر به عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، ولا آمنوا بما أنزله الله في كتابه، بل بالغوا وعاندوا في رده وكذبوا وألحدوا وكابروا المعقول والمنقول فالله المستعان. قوله: "باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله " روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد   1 سورة فاطر آية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1. ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: {فَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى} 2 قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره. وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم زائرات ............................................................................................ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وذلك أنه صلي الله عليه وسلم خاف أن يقع من أمته في حقه كما وقع من اليهود والنصارى في حق أنبيائهم من عبادتهم من دون الله، وسبب ذلك الغلو فيهم كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 3، وكذلك رغب صلي الله عليه وسلم إلى ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، وقد عبدت القبور بأنواع العبادة كما لا يخفى، وتقدم في حديث عائشة - رضي الله عنها -: " ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا "وقد استجاب الله دعوة نبيه صلي الله عليه وسلم وصان قبره وأحاطه بثلاثة جدران كما قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -. فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران قوله: ولابن جرير هو أبو جعفر ابن جرير صاحب التفسير الكبير، وهو أجل التفاسير وأحسنها وهو من أئمة المسلمين المجتهدين وله كتاب الأحكام - رحمه الله تعالى -. قوله: "كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره" فيه شاهد للترجمة؛ فإنهم غلوا فيه لأجل صلاحه واتخذوه وثنا بتعظيمه وعبادته، وصار من أكبر أوثان أهل الجاهلية. قوله: وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال: " لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم زائرات القبور   1 رواه مالك في " الموطأ" رقم (85) في قصر الصلاة في السفر: باب جامع الصلاة مرسلا , ورواه أحمد في "المسند" 2 / 246 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مسندا بلفظ: " اللهم لا تجعل قبري وثنا , لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " , ورواه أيضا ابن سعد وأبو نعيم في " الحلية 7/ 317 , وهو حديث صحيح. 2 سورة النجم آية: 19. 3 سورة المائدة آية: 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 والمتخذين عليها المساجد، والسرج "رواه أهل السنن1. فيه مسائل: الأولى: تفسير الأوثان. الثانية: تفسير العبادة. الثالثة: أنه صلي الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله. السادسة: وهي من أهمها: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان. السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح. الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية. التاسعة: لعنة زوارات القبور. العاشرة: لعنة من أسرجها. ............................................................................................ والمتخذين عليها المساجد والسرج "رواه أهل السنن. وهذا الحديث صحيح صححه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -، ويكفيك في الاحتجاح به رواية أهل السنن له، ولم يذكر أحد منهم له علة، ولا معارض له.   1 رواه أبو داود (3236) في الجنائز: باب في زيارة القبور , والترمذي (320) في الصلاة: باب كراهية أن يتخذ على القبر مسجدا , والنسائي 4/ 94 و 95 في الجنائز: باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور , وابن ماجه (1575) في الجنائز: باب ما جاء في النهي عن زيارة القبور , ورواه أيضا أحمد في"المسند" 1/229 و287 و 324 و337 , وفيه أبو صالح مولى أم هانئ , وهو ضعيف , ولكن الفقرة الأولى من الحديث " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور " صحيحة , فقد رواها من حديث أبي هريرة أحمد في " المسند" 2/ 337 و 356 , والترمذي (1056) ، وابن ماجه (1576) , وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح , ورواها من حديث حسان أحمد 3/ 442 و 443 , وابن ماجه (1574) , والحاكم 1/ 374 وهو حديث صحيح بشواهده. انظر " الإرواء" رقم (761) , (774) وعلى كل فإن إيقاد السرج على القبور وثنية لا يرضاها الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 22- باب ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:صلي الله عليه وسلم " لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني ............................................................................................ قوله: "باب ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك " قد تقدم فيما سلف من الأبواب قبل هذا. قوله: وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2 ووجه الدلالة بالآية أنه صلي الله عليه وسلم يعز عليه كل ما يؤثم الأمة ويشق عليهم، وأعظم ما يؤثم الأمة ويشق عليهم الشرك بالله قليله وكثيره ووسائله وما يقرب منه من كبائر الذنوب، وقد بالغ صلي الله عليه وسلم في النهي عن الشرك وأسبابه أعظم مبالغة كما لا يخفى، وقد كانت هذه حال أصحابه - رضي الله عنهم - في قطعهم الخيوط التي رقي للمريض فيها ونحو ذلك من تعليق التمائم. قوله: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:صلي الله عليه وسلم " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم "رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات. قال الحافظ محمد بن عبد الهادي: "هو حديث حسن جيد الإسناد وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة". نهاهم صلي الله عليه وسلم أن يهجروا بيوتهم عن الصلاة فيها كما تهجر القبور عن الصلاة إليها مخافة الفتنة بها وما يفضي إلى عبادتها من دون الله؛ لأن النهي عن ذلك قد تقرر عندهم فنهاهم أن يجعلوا بيوتهم كذلك. قوله: " ولا تجعلوا قبري عيدا "فيه شاهد للترجمة، قال شيخ الإسلام: "العيد اسم   1 سورة التوبة آية: 128. 2 سورة التوبة آية: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 حيث كنتم "1 رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات. وعن علي بن الحسين: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلي الله عليه وسلم، فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم " 2 رواه في " المختارة ". .................................................................................................. لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائدا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك"، وقال ابن القيم - رحمه الله -: "العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإدا كان اسما للمكان فهو الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء ومثابة. كما جعل أيام العيد فيها عيدا، وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر". قوله: وعن علي بن الحسين - رضي الله عنهما – "أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلي الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه.. ". الحديث. هذا الحديث رواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء في المختارة. قال شيخ الإسلام: "فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلي الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط". انتهى. قوله: "عن علي بن الحسين " أي ابن علي بن أبي طالب المعروف بزين العابدين - رضي الله عنهم - أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم، قال الزهري: "ما رأيت قرشيا أفضل منه"، مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح. قوله: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة بضم الفاء وسكون الراء، وهي الكوة في   1 رواه أبو داود رقم (2042) في المناسك: باب في زيارة القبور , ورواه أيضا أحمد في " المسند " 2/ 367 , والحسن بن أحمد بن ابراهيم بن فيل البالسي أبو طاهر في جزئه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -, وإسناده حسن , ورواه أيضا إسماعيل القاضي في " فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم " رقم (20) و (30) وغيره، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده. 2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الجدار والخوخة ونحوهما، قوله: فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وهذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها. قال شيخ الإسلام: ما علمت أحدا رخص فيه؛ لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا، ويدل أيضا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل ليصلي منهي عنه؛ لأن ذلك لم يشرع، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلي الله عليه وسلم؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك. قال: "ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها" وكان الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - يأتون إلى مسجد النبي صلي الله عليه وسلم فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا وخرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد هو السنة، وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم بل نهاهم عنه في قوله: " لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني "، فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب لما كانت عائشة - رضي الله عنها – فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه لا لسلام ولا لصلاة ولا لدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاما أو سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث، وأنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن أرواح الموتى تجسدت لهم فرأوها، والمقصود أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعل من بعدهم من الخلوف. قال سعيد بن منصور في "سننه" حدثنا عبد العزيز بن محمد: أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند قبر النبي صلي الله عليه وسلم فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء قلت: لا أريده. قال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلي الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال لي: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم. لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. "قلت " وهو أيضا له قرب النسب وقرب الدار فنهى عن المجيء إلى القبر للدعاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فيه مسائل: الأولى: تفسير آية براءة. الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد. الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته. الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال. الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة. السادسة: حثه على النافلة في البيت. السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة. الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب. التاسعة: كونه صلي الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه. * * * عنده، فالمجيء إلى القبر للسلام عليه وتحري إجابة الدعاء ليس مما شرعه الله ورسوله لهذه الأمة ولو كان مشروعا لما تركه الخلفاء والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من سادات أهل البيت وأئمة التابعين، ولما أنكروا على من فعله، وقولهم هو الحجة وهو الذي دلت عليه الأحاديث كحديث عائشة وحديث الباب وغيرهما، لعلم السلف بما أراده النبي صلي الله عليه وسلم بنهيه عن الغلو وخوفه مما وقع ممن غلا في الدين واتبع غير سبيل المؤمنين كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1 ولما حدث الشرك بأرباب القبور في هذه الأمة وتعظيمها وعبادتها صارت تشد الرحال إليها لقصد دعائها والاستغاثة بها وبذل نفيس المال تقريبا إليها وتعظيم سدنتها. فيا لها مصيبة ما أعظمها! نسأل الله السلامة من هذا الشرك وما يقرب منه أو يوصل إليه.   1 سورة النساء آية: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 23- باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 2. .................................................................................................. قوله: "باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان ". الوثن يطلق على كل من قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من صنم أو قبر أو غيره لقول الخليل عليه السلام: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} 3 مع قوله: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 4. قوله: وقول الله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم ومحمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء ونسقي الماء على اللبن ونفك العناة ونسقي الحجيح، ومحمد صنوبر قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 5. وقوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 6 الآية قال البغوي في تفسيره: " "قل " يا محمد" هَلْ أُنَبِّئُكُمْ " أخبركم " بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ " يعني قولهم: لم نر أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم، فذكر الجواب بلفظ الابتداء كقوله {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} " 7. وقوله: "مثوبة " ثوابا وجزاء نصب على التفسير {لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} 8 فالقردة: أصحاب السبت، والخنازير: كفار مائدة عيسى، وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت،   1 سورة النساء آية: 51. 2 سورة المائدة آية: 60. 3 سورة العنكبوت آية: 17. 4 سورة الشعراء آية: 71. 5 سورة النساء آية: 51. 6 سورة المائدة آية: 60. 7 سورة الحج آية: 72. 8 سورة المائدة آية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 1. عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "أخرجاه2. ............................................................................................. فشبابهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أي وجعل منهم من عبد الطاغوت أي أطاع الشيطان فيما سول له. وفي تفسير الطبري قرأ حمزة "وَعَبُدِ الطَّاغُوتِ " بضم الباء وجر التاء، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تغلب وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ بضم العين والباء وفتح الدال وخفض التاء. قوله: "أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا " مما تظنون بنا "وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ " وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشارك كقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} 3 قاله ابن كثير. قوله: "عن أبي سعيد أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سننن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "أخرجاه ". وهذا سياق مسلم، فبين صلي الله عليه وسلم في هذا أن كل ما وقع من أهل الكتاب مما ذمهم الله به في هذه الآيات وغيرها لا بد أن يقع جميعه في هذه الأمة وهو الشاهد للترجمة. قوله: "سنن " بفتح المهملة أي طريق من كان قبلكم. قوله: "حذو القذة " بنصب حذو على المصدر، والقذة بضم القاف واحدة القذذ وهو ريش السهم، أي لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه وتشبهوهم في ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى كما أخبر صلي الله عليه وسلم. قال سفيان بن عينية: "من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى"، انتهى.   1 سورة الكهف آية: 21. 2 البخاري رقم (3456) في أحاديث الأنبياء: باب ما ذكر عن بني اسرائيل , ورقم (7320) في الاعتصام بالكتاب والسنة: باب قول النبي: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " , ومسلم رقم (2669) في العلم: باب اتباع سنن اليهود والنصارى , وأحمد في (المسند) 3/ 84 و 89 و 94 من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -, وليس السياق لمسلم , ولا اللفظ لأحدهما , ورواه البخاري رقم (7319) في الاعتصام: باب قول النبي: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " , وابن ماجه في "سننه" رقم (3994) في الفتن: باب افتراق الأمم , وأحمد في " المسند" 2 / 327 115 و 450 وو527 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه , وجملة " حذو القذة بالقذة" ليست في "الصحيحين" وإنما هي عند أحمد في " المسند" 4 / 125 من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه – بلفظ: " ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلكم أهل الكتاب , حذو القذة بالقذة " ولفظه عند مسلم: " لتتبعن سنن الذبن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع , حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم , قلنا يا رسول الله! اليهود والنصارى قال: فمن؟ ". 3 سورة الفرقان آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي ................................................................................................ قوله: عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين "الحديث. هذا الحديث رواه أبو داود في سننه وابن ماجه1 بالزيادة التي ذكرها المنصف رحمه الله. قوله: "عن ثوبان " وهو مولى النبي صلي الله عليه وسلم ولازمه ونزل بعده الشام ومات بحمص سنة أربع وخمسين. قوله " زوى لي الأرض " قال التوربشتي: "زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب صلي الله عليه وسلم وحاصله أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره. قال الطيبي: جمعها لي حتى أبصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها". قوله: " وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها " قال القرطبي: هذا الخبر وجد مخبره كما قال، وكان ذلك من دلائل نبوته صلي الله عليه وسلم وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة بالنون والجيم، الذي هو منتهى عمارة المغرب، إلى أقصى المشرق مما وراء   1 أبو داود رقم (4252) في الفتن والملاحم: باب ذكر الفتن ودلائلها , وابن ماجه رقم (3952) في الفتن: باب ما يكون من الفتن , وأحمد في " المسند" 5/ 278 و 284 من حديث ثوبان رضي الله عنه , وإسناده صحيح , ورواه الترمذي مختصرا من حديث ثوبان رضي الله عنه , رقم (2230) في الفتن: باب ما جاء في الأئمة المضلين , ورواه أحمد في " المسند" 4 / 123 من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني ........................................................................................... خراسان والنهر، وكثير من بلاد الهند والسند والصين، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال ولذلك لم يذكر - عليه السلام - أنه أريه، ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه. قوله: زوي لي منها يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل وأن يكون مبنيا للمفعول. قوله: "وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض " قال القرطبي: يعني به كنز كسرى وهو ملك الفرس، وقيصر وهو ملك الروم وقصورهما وبلادهما، وقد قال صلي الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" وعبر بالأحمر عن كنز قيصر؛ لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى؛ لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة، ووجد ذلك في خلافة عمر. قوله: " وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة " 1 هكذا ثبت في أصل المصنف بالباء وهي رواية صحيحة في صحيح مسلم وفي بعضها بحذفها. قال القرطبي: "وكأنها زائدة لأن عامة صفة السنة، والسنة: الجدب الذي يكون به الهلاك العام. قوله: " من سوى أنفسهم " أي من غيرهم من الكفار من إهلاك بعضهم بعضا وسبى بعضهم بعضا كما هو مبسوط في التاريخ. قوله: "فيستبيح بيضتهم " قال الجوهري: "بيضة كل شيء حوزته وبيضة القوم ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث أن الله لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما جازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض وهي جوانبها، وقيل: بيضتهم معظمهم وجماعتهم وإن قلوا". قوله: "حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا " الظاهر أن حتى هنا لانتهاء الغاية، أي أن أمر أمته ينتهي إلى أن يكون بعضهم يهلك بعضا. قوله: " وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد "2 هذا كما في الحديث " ولا راد لما قضيت3 ".   1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2889) , والترمذي: الفتن (2176) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: الفتن (3952) , وأحمد (5/284) . 2 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2889) , والترمذي: الفتن (2176) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: الفتن (3952) . 3 قطعة من حديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد , يحيي ويميت , وهو على كل شيء قدير , اللهم لا مانع لما أعطيت , ولا معطي لما منعت , ولا راد لما قضيت , ولا ينفع ذا الجد منك الجد" رواه البزار وإسناده حسن , كما قال الهيثمي في "المجمع" 10 / 103. انظر " الفتح " 2/ 333 و 11/ 512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم بأقطارها - أو قال من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا " 1. ورواه البرقاني في " صحيحه " وزاد: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة ........................................................................................... قوله: ورواه البرقاني في صحيحه هو الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة، قال الخطيب: "كان ثبتا ورعا، ولم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفا بالفقه كثير التصانيف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان، وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة". قوله: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين "2 أي الأمراء والعلماء والعباد فيحكمون فيهم بغير علم فيضلونهم كما قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} 3، وقال: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} 4 وأمثال هذه الآيات كثير، وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين" رواه الدارمي5. قوله: " وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة "، وقد وقع ذلك ومازالت الأمة كذلك، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، وفيه ما هو حق كقتال أهل التوحيد لأهل الشرك بالله وجهادهم على تركهم الشرك، وقد من الله بذلك على من أقامهم في آخر هذا الزمان بالدعوة إلى توحيده، لكن أهل الشرك بدءوهم بالقتال وأظهرهم الله عليهم كما لا يخفى على من تدبر آيات هذا الدين في هذه الأزمنة. قوله: " ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين " الحي واحد الأحياء وهي القبائل: وفي رواية أبي داود " حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين وكم وكم "6. قوله: " وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان "والفئام مهموز: الجماعات الكثيرة، قاله   1 مسلم رقم (2889) في الفتن وأشراط الساعة: باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض. 2 الترمذي: الفتن (2229) , وأحمد (5/278 ,5/284) , والدارمي: المقدمة (209) . 3 سورة الأنعام آية: 119. 4 سورة الصافات آية: 71. 5 الدارمي رقم (220) في المقدمة: باب في كراهية أخذ الرأي، وإسناده ضعيف. قال الهيثمي في " المجمع" 7 / 332: رواه أحمد (5 / 396) والطبراني في "الكبير" و " الأوسط " والبزار , ورجال البزار رجال الصحيح. 6 الترمذي: الفتن (2219) , وابن ماجه: الفتن (3952) , وأحمد (5/278) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي " 1 " ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ............................................................................................. أبو السعادات. وهذا هو شاهد الترجمة، وقد استحكمت الفتنة بعبادة الأوثان حتى إنه لا يعرف أحد في هذه القرون المتأخرة أنكر ما وقع من ذلك، حتى أقام الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - الذي أنكره ونهى عنه ودعا الناس إلى تركه، وإلى أن يعبدوا الله تعالى وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فرماه الملوك وأتباعهم بقوس العداوة، فأظهره الله بالحجة وأعز أنصاره على من ناوأهم، وبلغت دعوته مشارق الأرض ومغاربها ولكن من الناس من عرف ومنهم من أنكر، فانتفع بدعوته الكثير، من أهل نجد والحجاز وعمان وغيرها، فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة جعلنا الله شاكرين. قوله: " وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي "قال القرطبي: قد جاء عددهم معينا في حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون منهم أربع نسوة "2 أخرجه أبو نعيم وقال: هذا حديث غريب، وحديث ثوبان أصح من هذا. قال القاضي عياض: عد من تنبأ من زمن رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلالته فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتاريخ عرف صحة هذا، وآخرهم الدجال الأكبر. قوله: " وأنا خاتم النبيين "قال الحسن: الخاتم الذي ختم به، يعني أنه آخر النبيين كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 3 وإنما ينزل عيسى - عليه السلام - في آخر الزمان حاكما بشريعة محمد صلي الله عليه وسلم، مصليا إلى قبلته فهو كآحاد أمته، بل هو أفضل هذه الأمة. قوله: " ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم "قال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر   1 الترمذي: الفتن (2229) , وأحمد (5/278 ,5/284) , والدارمي: المقدمة (209) . 2 قال الهيثمي في " المجمع" 7 / 332: رواه أحمد (5 / 396) والطبران، ي في "الكبير" و " الأوسط "، والبزار , ورجال البزار رجال الصحيح. 3 سورة الأحزاب آية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى " 1. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النساء. الثانية: تفسير آية المائدة. الثالثة: تفسير آية الكهف. الرابعة: - وهي أهمها -: معنى الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع؟: هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟. ............................................................................................... واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في بلد واحد وأن يكونوا في بعض دون بعض منه، ويجوز إخلاء الأرض منهم أولا فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله، انتهى ملخصا مع زيادة فيه قاله الحافظ. قال المصنف: "وفيه الآية العظيمة أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم والبشارة بأن الحق لا يزول بالكلية". قوله: " حتى يأتي أمر الله " الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس. وقوله: تبارك وتعالى قال ابن القيم رحمه الله: البركة هي فعلة والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة وبأداة "على" تارة، وبأداة "في" تارة. والمفعول منها مبارك وهو ما جعل منها كذلك فكان مباركا بجعله تعالى. "والنوع الثاني" بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصح إلا له عز وجل فهو سبحانه المتبارك وعبده ورسوله المبارك، وأما صفته تبارك فمختصة به كما أطلقها على نفسه في قوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {بَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2 أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره، وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوه، فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمتها وسعتها، وهذا معنى قول من قال من السلف: تبارك تعاظم. وقال ابن عباس: جاء بكل بركة.   1 مسلم: الإمارة (1920) , والترمذي: الفتن (2229) , وابن ماجه: المقدمة (10) والفتن (3952) , وأحمد (5/278) . 2 سورة الملك آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين. السادسة: - وهي المقصود بالترجمة - أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد. السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة. الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح. وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة، وتبعه فئام كثيرة. التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة. العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة. الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة. منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال. وإخباره بأنه أعطي الكنزين، وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين، وإخباره بأنه منع الثالثة، وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع، وإخباره بإهلاك بعضهم بعضا وسبي بعضهم بعضا، وخوفه على أمته من الأئمة المضلين، وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحد منها من أبعد ما يكون في العقول. الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين. الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 24- باب ما جاء في السحر وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 1 وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 2. قال عمر: "الجبت ": السحر، "والطاغوت ": الشيطان. وقال جابر: الطواغيت: كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد. .......................................................................................... قوله: "باب ما جاء في السحر " أي والكهانة - السحر في اللغة عبارة عما خفي ولطف سببه، ولهذا جاء في الحديث: " إن من البيان لسحرا "3، وهذا من التشبيه البليغ شبهه بالسحر لكونه بالبيان يحصل منه ما يحصل من السحر قال أبو محمد المقدسي في الكافي: السحر عزائم ورقى، ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 4 وقال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 5 يعني السواحر اللاتي ينفثن في سحرهن. ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر بالاستعاذة منه، واختلفوا هل يكفر الساحر أو لا؟ فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد، قال أصحابه: إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر. ومما يدل على أنه كفر قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 6 وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 7 قال عمر: الجبت: السحر. والطاغوت: الشيطان. وتقدم كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في حد الطاغوت، وأن له أفرادا منها عبادة غير الله، فالمعبود طاغوت كما دلت عليه الآيات، ومنهم الكهان ومن يحكم بغير الحق أو يأمره بما يخالف الحق، أو يرضى به وغير ذلك. قوله: "الطواغيت كهان" أراد أن الكهان من الطواغيت. قوله: "كان ينزل عليهم الشيطان" أراد الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس خاصة، بل تنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم بما يسترقونه من السمع فيصدقون مرة، ويكذبون مائة.   1 سورة البقرة آية: 102. 2 سورة النساء آية: 51. 3 البخاري: النكاح (5146) , والترمذي: البر والصلة (2028) , وأبو داود: الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك: الجامع (1850) . 4 سورة البقرة آية: 102. 5 سورة الفلق آية: 4. 6 سورة البقرة آية: 102. 7 سورة النساء آية: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " 1. .............................................................................................. قوله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات "كذا أورده المصنف رحمه الله تعالى إلى غير معزو، وقد رواه البخاري ومسلم. اجتنبوا أي ابعدوا وهو أبلغ من قوله: دعوا أو اتركوا؛ لأن النهي عن القربان أبلغ كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 2 قوله الموبقات بموحدة وقاف أي المهلكات، وسميت هذه موبقات؛ لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب، وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد مرفوعا قال: "الكبائر تسع3 " وذكر السبعة المذكورة " والإلحاد في الحرم وعقوق الوالدين ". قوله: "قال: الشرك بالله" هو أن يجعل لله ندا يدعوه أو يرجوه كما يرجو الله قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: والشرك فاحذره فشرك ظاهر ... ذا القسم ليس بقابل الغفران   1 البخاري: الوصايا (2767) , ومسلم: الإيمان (89) , والنسائي: الوصايا (3671) , وأبو داود: الوصايا (2874) . 2 سورة الأنعام آية: 151. 3 أبو داود رقم (2875) في الوصايا: باب التشديد في أكل مال اليتيم , والنسائي 6/ 257 في الوصايا: باب اجتناب أكل مال اليتيم , والحاكم 1/ 59 و 4/ 259 , والبيهقي 3 / 408 - 409 من طريق عبد الحميد بن سنان عن عبيد بن عمير عن أبيه أنه حدثه - وكانت له صحبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: " ألا إن أولياء الله المصلون من يقيم الصلوات الخمس التي كتبن عليه , ويصوم رمضان يحتسب صومه , يرى أنه عليه حق , ويعطي زكاة ماله يحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها , ثم إن رجلا سأله فقال: يا رسول الله ما الكبائر , فقال: هن تسع: إشراك بالله ... " الحديث , وهو حديث حسن كما قال الألباني في " الإرواء" رقم (690) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وهو اتخاذ الند للرحمن أيا ... كان من حجر ومن إنسان يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ... وبحبه كمحبة الديان وبدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1 "والسحر" تقدم تعريفه. قوله: "وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق " أي نفس المسلم المعصوم وقتل المعاهد كما في الحديث " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة "2. وذهب ابن عباس وأبو هريرة إلى أنه لا توبة لمن قتل مؤمنا متعمدا، وذهب جمهور الأمة سلفا وخلفا إلى أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله، فإن تاب وأناب وعمل صالحا بدل الله سيئاته حسنات كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} إلى قوله {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} 3. قوله: " وأكل الربا " أي تناوله بأي وجه كما قال تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} 4 الآيات. قال ابن دقيق العيد: "وهو يجر لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك". قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 5 وفي الحديث " الربا نيف وسبعون حوبا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ". قوله: "وأكل مال اليتيم " يعني التعدي فيه، وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 6 قوله: "والتولي يوم الزحف " أي الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال كما قال   1 سورة لقمان آية: 13. 2 البخاري رقم (3166) في الجزية والموادعة: باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم , من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه , وتتمته ".. وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما " , والنسائي: القسامة (4750) , وابن ماجه: الديات (2686) , وأحمد (2/186) . 3 سورة الفرقان آية: 68 - 70. 4 سورة البقرة آية: 275. 5 سورة آل عمران آية: 130. 6 سورة النساء آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وعن جندب مرفوعا: " حد الساحر ضربه بالسيف " 1 رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف. وفي " صحيح البخاري " عن بجالة بن عبدة قال: " كتب عمر بن .............................................................................................. تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 2 قوله: " وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" وهو بفتح الصاد المحفوظات من الزنا، وبكسرها الحافظات فروجهن منه، والمراد الحرائر العفيفات قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} 3 الآية. قوله: عن جندب رواه الطبراني في ترجمة جندب بن عبد الله البجلي قال الحافظ: "والصواب أنه غيره وقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير: أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات، وقال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول.. فذكره". قوله: " حد الساحر ضربه بالسيف " روي بالهاء وبالتاء وكلاهما صحيح. وبهذا الحديث أخذ أحمد ومالك وأبو حنيفة فقالوا: يقتل الساحر. وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز. ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر إلا إن عمل في سحر ما يبلغ الكفر به. قال ابن المنذر: وهو رواية عن أحمد والأول أولى للحديث والأثر عن عمر، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير. قوله: وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: " كتب عمر أن اقتلوا كل ساحرة فقتلنا ثلاث سواحر "هذا الأثر رواه البخاري كما قال المصنف لكن لم يذكر قتل السواحر.   1 رواه الترمذي رقم (1460) في الحدود: باب ما جاء في حد الساحر , والحاكم 4/ 360 في الحدود: باب حد الساحر وضربه بالسيف , والدارقطني 3 / 114 , والبيهقي 8/ 136. في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي أبو اسحاق وهو ضعيف الحديث. 2 سورة الأنفال آية: 16. 3 سورة النور آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر "1 وصح عن " حفصة - رضي الله عنها -: أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، ................................................................................................................. قوله: عن بجالة بفتح الموحدة بعدها جيم ابن عبدة بفتحتين التميمي العنبري بصري ثقة. قوله: " كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة "وظاهره أنه يقتل من غير استتابة، وهو كذلك على المشهور عن أحمد، وبه قال مالك؛ لأن علم السحر لا يزول بالتوبة، وعن أحمد يستتاب فإن تاب قبلت توبته: وبه قال الشافعي؛ لأن ذنبه لا يزيد على الشرك والمشرك يستتاب وتقبل توبته، ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم. قوله: وصح عن " حفصة - رضي الله عنها - أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت "هذا الأثر رواه مالك في الموطأ، وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم بعد خنيس بن حذافة وماتت سنة خمس وأربعين. وقوله: "وكذا صح عن جندب " أشار المصنف بهذا إلى قتل الساحر كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال: كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه، فعجبنا فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله. ورواه البيهقي في الدلائل مطولا وفيه: فأمر به الوليد فسجن فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة.   1 رواه البخاري مختصرا , ولم يذكر قتل السحرة رقم (3156) في فرض الخمس: باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب , ولفظه: عن بجالة بن عبدة قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية الأحنف , فأتانا كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قيل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس , ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر , وبنحوه رواه الترمذي رقم (1586) في أبواب السير: باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس , ورواه باللفط الذي ذكره المصنف أحمد في "المسند" 1/ 190 و 191 , ورواه بنحوه أبو عبيد القاسم بن سلام في " الأموال" صفحة (40) ، وأبو داود رقم (3043) في الخراج والإمارة والفيء: باب في أخذ الجزية من المجوس , وإسناده حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فقتلت1. وكذلك صح عن جندب "قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة. الثانية: تفسير آية النساء. الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت، والفرق بينهما. الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس. الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي. السادسة: أن الساحر يكفر. السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب. الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر، فكيف بعده؟!   1 رواه مالك في "الموطأ" 2 / 872 بلاغا , وإسناده منقطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 25- باب بيان شيء من أنواع السحر قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، .................................................................................................. قوله: "قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم " أحمد هو الإمام أحمد بن حنبل أي صح قتل الساحر عن ثلاثة. باب بيان شيء من أنواع السحر قوله: قال أحمد حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا عوف عن حيان بن العلاء حدثنا قطن ابن قبيصة هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ومحمد هو ابن جعفر المشهور بغندر الهذلي البصري ثقة مشهور مات سنة ست ومائتين. وعوف هو ابن أبي جميلة بفتح الجيم العبدي البصري المعروف بعوف الأعرابي ثقة مات سنة ست أو سبع وأربعين، وله ست وثمانون سنة. وحيان بن العلاء بالتحتية، ويقال حيان بن مخارق أو العلاء البصري مقبول. وقطن بفتحتين أبو سهلة البصري صدوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت "1. قال عوف: العيافة: زجر الطير. والطرق: الخط يخط بالأرض. والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد، ولأبي داود والنسائي وابن حبان في " صحيحه " المسند منه. .................................................................................................................... قوله عن أبيه هو قبيصة بفتح أوله ابن مخارق بضم الميم أبو عبد الله الهلالي صحابي نزل البصرة. قوله: " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت، قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض " والطيرة التفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها وهو من عادة العرب، وكثير في أشعارهم يقال: عاف يعيف إذا زجر وحدس وظن. قوله: "شعبة" أي طائفة ومنه الحديث: " الحياء شعبة من الإيمان "2 أي جزء منه. قوله: "والطرق الخط يخط بالأرض " هكذا فسره عوف وهو كذلك. قال أبو السعادات: هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء. قوله: والجبت أي السحر. قوله: "قال الحسن رنة الشيطان " "قلت " ذكر إبراهيم بن محمد بن مفلح أن في تفسير بقي بن مخلد أن إبليس رن أربع رنات: رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله صلي الله عليه وسلم، ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب. وروى الحافظ الضياء في المختارة:   1 رواه أحمد في"المسند" 3/ 477 و 5/ 60 , وأبو داود رقم (3907) في الطب: باب في الخط وزجر الطير , وابن حبان (1426) "موارد" في الطب: باب ما جاء في الطيرة , وفي سنده حبان بن العلاء , وقيل: عن عوف بن حبان لم ينسب , وقيل: عن حيان أبي العلاء , وقال ابن حبان: حبان بن مخارق أبو العلاء , وهو مجهول , لم يوثقه غير ابن حبان , وباقي رجاله ثقات , ومع ذلك فقد حسنه الإمام النووي في " رياض الصالحين" رقم (1684) طبعة دار البيان بدمشق. 2 البخاري: الإيمان (9) , ومسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5004 ,5005 ,5006) , وأبو داود: السنة (4676) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/414 ,2/442 ,2/445 ,2/501) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد " 1 رواه أبو داود، وإسناده صحيح. وللنسائي من حديث أبي هريرة:رضي الله عنه " من عقد عقدة ثم نفث ..................................................................................................................... الرنين: الصوت، وقد رن يرن رنينا، وبهذا يظهر معنى قول الحسن رضي الله عنه. قوله: المسند منه لم يذكروا قول عوف. قوله: "وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد "رواه أبو داود بإسناد صحيح " ولذا صححه النووي والذهبي ورواه أحمد وابن ماجه. قوله: " من اقتبس " قال أبو السعادات: قبست العلم وأقبست إذا علمته. انتهى. قوله: " فقد اقتبس شعبة من السحر " المحرم تعليمه. قال شيخ الإسلام: فقد صرح رسول الله صلي الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر. وقد قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 2 قوله: " زاد ما زاد " أي كلما زاد من تعلم النجوم زاد في السحر وفي الإثم الحاصل بزيادة الاقتباس من شعبه، فإن ما يعتقدونه في النجوم من التأثير باطل كما أن تأثير السحر باطل والله أعلم. قوله: "وللنسائي من حديث أبي هريرة: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه ". هذا الحديث ذكره المصنف رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي، وقد رواه النسائي مرفوعا وحسنه ابن مفلح.   1 رواه أحمد في " المسند" 1/ 277 و 311، وأبو داود رقم (3905) في الطب: باب في النجوم , وابن ماجه (3726) : باب تعلم النجوم , وهو حديث صحيح كما قال الألباني في " الأحاديث الصحيحة " رقم (793) . 2 سورة طه آية: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه " 1. وعن ابن مسعود، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " ألا هل أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة: القالة بين الناس "2 رواه مسلم. .................................................................................................................... قوله: وللنسائي هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار، أبو عبد الرحمن صاحب السنن الكبرى والمجتبى وغيرهما، روى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة وخلق وكان إليه المنتهى في العلم بعلل الحديث، مات سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وله ثمانون سنة. قوله: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر "قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 3 يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنفث هو دون التفل. وقوله: " ومن تعلق شيئا وكل إليه "أي من علق قلبه بشيء بحيث يرجوه ويخافه وكله الله إلى ذلك الشيء، ومن قصر تعلقه على الله وحده كفاه ووقاه كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ} 4، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5، ومن تعلق قلبه بغير الله في رجاء نفع أو دفع ضر فقد أشرك. قوله: وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " ألا هل أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة: القالة بين الناس " رواه مسلم. قوله: "ألا أنبئكم ما العضه؟ " بفتح المهملة وسكون المعجمة ثم فسرها بقوله:   1 رواه النسائي 7/ 112 في تحريم الدم: باب الحكم في السحرة , وهو حديث ضعيف. والفقرة الأخيرة: "ومن تعلق شيئا وكل إليه" لها شاهد من حديث عبد الله بن عكيم - رضي الله عنه -,عند الترمذي رقم (2073) في الطب: باب ما جاء في كراهية التعليق , وعند أحمد 4/ 310 و 311، والحاكم 4/ 216 , وفي سنده محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى , وهو سيء الحفظ ولكنه يصلح شاهدا لهذه الفقرة فتتقوى هذه الفقرة. 2 رقم (2606) في البر والصلة والأداب: باب تحريم النميمة. وأحمد (1/437) . قوله: " العضة" , هذه اللفظة رددها على وجهين: أحدهما العضة والثاني العضة؟ والثاني هو الأشهر في كتب الحديث وغريبه , والأول أشهر في كتب اللغة. وتقدير الحديث والله أعلم: ألا أنبئكم ما العضة الفاحش الغليظ التحريم. 3 سورة الفلق آية: 4. 4 سورة الطلاق آية: 3. 5 سورة المائدة آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 و"لهما" عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "إن من البيان لسحرا " 1. ............................................................................................................ " هي النميمة " فأطلق عليها العضة؛ لأن النمام يعمل عمل الساحر. وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: "يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة". وقال أبو الخطاب في عيون المسائل: "ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس". قال ابن حزم: "واتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة". وفيه دليل على أنها من الكبائر. قوله: "القالة بين الناس " ومنه الحديث: " ففشت القالة بين الناس " أي كثرة القول وإيقاع الخصومة. قوله: "ولهما عن ابن عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إن من البيان لسحرا "2 " البيان الفصاحة والبلاغة. قال ابن عبد البر: تأوله طائفة على الذم؛ لأن السحر مذموم. وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح؛ لأن الله تعالى مدح البيان، قال: وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى - لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله: " هذا والله السحر الحلال "انتهى، والأول أصح، والمراد به البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس كما قال بعضهم. في زخرف القول تزيين لباطله ... والحق قد يعتريه سوء تعبير مأخوذ من قول الآخر: تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن تشا قلت ذا قيء الزنانير مدحا وذما وما جاوزت وصفهما ... والحق قد يعتريه سوء تعبير قوله: " إن من البيان لسحرا "هذا من التشبيه البليغ؛ لكون ذلك يعمل عمل السحر فيجعل الحق في قالب الباطل والباطل في قالب الحق. فيستميل به قلوب الجهال حتى يقبل الباطل وينكر الحق. وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره، ويبطل الباطل ويبينه، فهذا هو الممدوح، وهكذا حال الرسل وأتباعهم ولهذا علت مراتبهم في الفضائل وعظمت حسناتهم.   1 البخاري رقم (5146) في النكاح: باب الخطبة , رقم (5767) في الطب: باب إن من البيان سحرا، ومالك في " الموطأ " 2/ 986 في الكلام: باب ما يكره من الكلام , وأبو داود رقم (5007) في الأدب: باب ما جاء في المتشدق في الكلام , والترمذي رقم (2029) في البر والصلة: باب ما جاء في أن من البيان سحرا , وأحمد في " المسند 2 / 16 و 59 و 63 و 94 من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -, ورواه أيضا مسلم رقم (869) في الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة , وأحمد في " المسند" 4/ 363 من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه , وأبو داود رقم (5011) , وأحمد في"المسند" 1/ 269 و 303 و 309 و 313 و 327 و 332 من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -, وأحمد في " المسند" 3 / 470 من حديث معن بن يزيد السلمي - رضي الله عنه -, وأبو داود رقم (5012) من حديث بريدة رضي الله عنه. 2 البخاري: النكاح (5146) , والترمذي: البر والصلة (2028) , وأبو داود: الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك: الجامع (1850) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فيه مسائل: الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت. الثانية: تفسير العيافة والطرق. الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر. الرابعة: أن العقد مع النفث من ذلك. الخامسة: أن النميمة من ذلك. السادسة: أن من بعض الفصاحة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 26- باب ما جاء في الكهان ونحوهم روى مسلم في " صحيحه " عن بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم عن النبي صلي الله عليه وسلم ....................................................................................................... قوله: "باب ما جاء في الكهان ونحوهم " الكاهن هو الذي يأخذ عن مسترق السمع وكانوا قبل المبعث كثيرا، وأما بعد المبعث فإنهم قلوا؛ لأن الله حرس السماء بالشهب، وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن مواليهم من الإنس عن الأشياء الغائبة مما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنه الجاهل كشفا وكرامة، وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون ذلك المخبر لهم عن الجن وليا لله وهو من أولياء الشيطان كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} 1 الآية.   1 سورة الأنعام آية: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قال: " من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما "1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم " 2 رواه أبو داود. ................................................................................................. قوله: عن بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم هي حفصة، ذكره أبو مسعود الثقفي؛ لأنه ذكر هذا الحديث في "الأطراف" في مسندها قال البغوي: "العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل: هو الكاهن والكاهن، هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يخبر عما في الضمير". وقال شيخ الإسلام: "العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم". وقال أيضا: "والمنجم يدخل في اسم العراف". وقال ابن القيم: "من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفا وعرافا". قوله: "لم تقبل له صلاة أربعين يوما " قال النووي وغيره ما معناه: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزية بسقوط الفرض عنه. ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة انتهى ملخصا. قوله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم "3 رواه أبو داود وفي رواية أبي داود: "أو امرأته " قال مسدد: "امرأته حائضا " "أو أتى امرأة ". قال مسدد: " امرأته في دبرها فقد بريء مما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم ".   1 مسلم رقم (2230) في السلام: باب تحريم الكهانة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". وجملة " فصدقه بما يقول" ليست عند مسلم , وإنما هي عند أحمد في " المسند "4 / 68 و 5 / 380 عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم , ولفظه عند أحمد: " من أتى عرافا فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوما ". 2 رواه أحمد في " المسند" 2/ 408 و 429 و 476 , وأبو داود رقم (3904) في الطب: باب في الكاهن , والترمذي رقم (135) في الطهارة: باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض , والدارمي (1141) , وابن ماجه رقم (639) في الطهارة: باب النهي عن إتيان الحائض من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -, وهو حديث صحيح , انظر الإرواء رقم (2006) . 3 أبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/476) , والدارمي: الطهارة (1136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وللأربعة1، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن " أبي هريرة رضي الله عنه": " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم " 2. ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا 3. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعا: " ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما .................................................................................................................... قوله: وللأربعة والحاكم. وقال: صحيح على شرطهما عن ... " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم "هكذا بيض المصنف لاسم الراوي، وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا. قوله: " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم "قال القرطبي المراد بالمنزل: الكتاب والسنة. قوله: ولأبي يعلي بسند جيد عن ابن مسعود مثله مرفوعا. أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثني الموصلي الإمام صاحب التصانيف كالمسند وغيره. روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق، وكان من الأئمة الحفاظ مات سنة سبع وثلثمائة، وهذا الأثر رواه البزار أيضا، ولفظه: " من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم "وفي هذه الأحاديث التصريح بكفره. قوله: "ليس منا " دليل على نفي الإيمان الواجب، وهو لا ينافي ما تقدم من أن الطيرة شرك والكهانة كفر.   1 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/476) , والدارمي: الطهارة (1136) . 2 رواه أحمد في " المسند" 2/ 429 , والحاكم1 / 8، والبيهقي 7/ 198 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -, وهو حديث صحيح كما قال الألباني في " آداب الزفاف" ص (29) . 3 قال الهيثمي في "المجمع" 5 / 118: رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " والبزار , ورجال " الكبير " والبزار ثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم "رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى ... " إلى آخره 1. قال البغوي: العراف: "الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. وقيل: هو الكاهن. والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير". وقال أبو العباس ابن تيمية: "العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق". " وقال ابن عباس - في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم-: ما أرى ...................................................................................................... قوله: "رواه البزار " هو أحمد بن عمرو ابن عبد الخالق أبو بكر البزار البصري صاحب المسند الكبير، روى عن ابن المثني وخلق. مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين. قوله: " قال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق "2. هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا وإسناده ضعيف. قوله: "ما أرى " يجوز فتح الهمزة بمعنى لا أعلم، ويجوز ضمها بمعنى لا أظن، وكتابة أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها علم الغيب هو الذي يسمى علم الحروف، وهو   1 ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" 4/ 33 , وقال: رواه البزار بإسناد جيد , ورواه الطبراني من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -دون قوله: " ومن أتى ... " إلخ بإسناد حسن , وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 5/ 117 من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -, وقال في آخره: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة" , كما ذكره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما 5 / 117 دون قوله: " ومن أتى.. " وهو حديث صحيح بشواهده كما قال الألباني في " صحيح الجامع " رقم (5311) . 2 ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 5 / 118 , وقال: رواه الطبراني , وفيه خالد بن يزيد العمري وهو كذاب , وقال الألباني في " الأحاديث الضعيفة " رقم (417) : موضوع. قوله: " أبا جاد" هو علم الحرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 من فعل ذلك له عند الله من خلاق ". فيه مسائل: الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. الثانية: التصريح بأنه كفر. الثالثة: ذكر من تكهن له. الرابعة: ذكر من تطير له.. الخامسة: ذكر من سحر له السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد. السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 27- باب ما جاء في النشرة عن جابر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال: "هي من عمل .............................................................................................................. الذي فيه الوعيد، وأما تعلمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس به. قوله: "وينظرون في النجوم " أي ويعتقدون أن لها تأثيرا في باب التنجيم. وفيه الحذر من كل علم لا تعلم صحته من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، وقد ورد النهي عنها والتحذير من قرب أهلها وسؤالهم وتصديقهم فيما أخبروا به من باطلهم، فما أكثر من يغتر بهذه الأمور. قوله: "باب ما جاء في النشرة " بضم النون كما في القاموس. قال أبو السعادات: "النشرة ضرب من العلاج والرقية يعالح به من كان يظن أن به مسا من الجن، سميت نشرة؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء أي يكشف ويزال. قال ابن الجوزي: "النشرة: حل السحر عن المسحور ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الشيطان " 1 رواه أحمد بسند جيد. وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله. وفي " البخاري " عن قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أن ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه. اهـ2. .................................................................................................................... قوله: عن جابر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: " هي من عمل الشيطان "، رواه أحمد بسند جيد وأبو داود، وقال سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله. هذا الحديث رواه أحمد ورواه عنه أبو داود في سننه، وحسن الحافظ إسناده، قوله: "سئل عن النشرة " الألف واللام في النشرة للعهد أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها وهي من عمل الشيطان. قوله: عن قتادة. هو ابن دعامة بكسر الدال، ثقة فقيه حافظ من أحفظ التابعين وأئمة التفسير قالوا: إنه ولد أكمه، مات سنة بضع عشرة ومائة. قوله: "رجل به طب ". بكسر الطاء أي سحر، يقال: طب الرجل بالضم إذا سحر. قوله: يؤخذ بفتح الواو مهموزا وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة أي يحبس عن امرأته لا يصل إلى جماعها، والأخذة بضم الهمزة: الكلام الذي قاله الساحر. قوله: أيحل بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول. قوله: أو ينشر بتشديد المعجمة. قوله: "لا بأس به " يعني أن النشرة لا بأس بها؛ لأنهم يريدون بها الإصلاح، وهذا من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر.   1 رواه أحمد في"المسند" 3 / 294 , وأبو داود رقم (3868) في الطب: باب في النشرة , وإسناده حسن. 2 رواه البخاري تعليقا 10 / 232 في الطب: باب هل يستخرج السحر , قال الحافظ في " الفتح" 10 / 233: "وصله أبو بكر الأثرم في " كتاب السنن" من طريق إبان العطار عن قتادة , ومثله عن طريق هشام الدستوائي عن قتادة بلفظ: " يلتمس من يداويه , فقال: إنما نهى الله عما يضر , ولم ينه عما ينفع ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وروي عن " الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر "1 قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يجب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز. .................................................................................................................... قوله: وروي عن الحسن أنه قال: " لا يحل السحر إلا ساحر "هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد، والحسن هو ابن أبي الحسن واسمه يسار بالتحتية والمهملة، البصري الأنصاري مولاهم ثقة فقيه إمام من خيار التابعين، مات سنة عشر ومائة وقد قارب التسعين. ومما جاء في صفة النشرة الجائزة ما روى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور: الآية التي في سورة يونس {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} 2 إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 3، وقوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4 إلى آخر الآيات الأربع، وقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 5 وقال ابن بطال: "في كتاب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله".   1 قال الحافظ في " الفتح " 10 / 233: "أخرجه الطبري في " التهذيب " من طريق يزيد بن زريع عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسا إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى من يطلق عنه , فقال: هو صلاح" , قال الحافظ: "قال قتادة: وكان الحسن يكره ذلك , يقول: لا يعلم ذلك إلا ساحر قال: فقال سعيد بن المسيب: إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع". 2 سورة يونس آية: 81. 3 سورة يونس آية: 82. 4 سورة الأعراف آية: 118. 5 سورة طه آية: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فيه مسائل: الأولى: النهي عن النشرة. الثانية: الفرق بين المنهى عنه والمرخص فيه مما يزيل الإشكال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 28- باب ما جاء في التطير وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. ...................................................................................................................... قوله: "باب ما جاء في التطير ". أي من النهي عنه والوعيد. والطيرة بكسر الطاء، وفتح الياء وقد تسكن اسم مصدر من تطير طيرة، وأصله التطير بالسوانح والبوارج من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك التطير يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع ودفع ضر. قال المدائني: سألت رؤبة بن العجاج قلت: ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه، قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره، والذي يجيء من أمامك هو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك هو القاعدة والقعيد. قوله: "وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2 وذكر تعالى هذه الآية في سياق قوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} 3 أي نحن الجديرون والحقيقون به ونحن أهله "وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ" أي بلاء وقحط " يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ" فيقولون: هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم. فقال تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} 4. قال ابن عباس: طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم. وفي رواية: شؤمهم عند الله ومن قبله. أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله. قوله: "وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" أي أن أكثرهم جهال لا يدرون، ولو فهموا وعقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى - عليه السلام - إلا الخير والبركة والسعادة والفلاح لمن آمن به واتبع قوله.   1 سورة الأعراف آية: 131. 2 سورة الأعراف آية: 131. 3 سورة الأعراف آية: 131. 4 سورة الأعراف آية: 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} 1 الآية. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا عدوى، ولا ................................................................................................................... وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الآية المعنى حظكم وما نالكم من شر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وعدوانكم، فطائر الباغي الظالم معه، فما وقع به من الشرور فهو سببه الجالب له، وذلك بقضاء الله وقدره وحكمته وعدله. قوله: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله قابلتمونا بهذا الكلام {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . قوله: "لا عدوى " قال أبو السعادات: العدوى اسم من الأعداء كالدعوى يقال: أعداه الداء يعديه إعداء إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء. قوله: "ولا طيرة " قال ابن القيم: "يحتمل أن يكون نفيا أو نهيا أي لا تطيروا، ولكن قوله في الحديث: " ولا عدوى ولا صفر ولا هامة "يدل على أن المراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره والنهي إنما يدل على المنع منه. قال عكرمة: كنا جلوسا عند ابن عباس فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير، خير، فقال له ابن عباس: لا خير ولا شر، فبادره بالإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر. وخرج طاووس مع صاحب له في سفر فصاح غراب فقال الرجل: خير، فقال طاووس: وأي خير عند هذا، لا تصحبني". انتهى ملخصا. قوله: "ولا هامة " بتخفيف الميم على الصحيح. قال الفراء: الهامة طير من طير الليل، كان يعني البومة. قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي أو أحدا من أهل داري، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله. وقوله: "ولا صفر " بفتح الفاء، روى أبو عبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس وهي أعدى من الجرب عند العرب، وعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى، وممن قال بهذا سفيان بن عيينة والإمام أحمد والبخاري وابن جرير وقال: المراد به شهر صفر. والنفي لما كان أهل   1 سورة يس آية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 طيرة، ولا هامة، ولا صفر "أخرجاه. زاد مسلم: " ولا نوء، ولا غول "1. و"لهما" عن أنس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لا عدوى ولا طيرة; ..................................................................................................................... الجاهلية يفعلونه في النسيء، وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه. وهذا قول مالك. وروى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول: إن أهل الجاهلية يتشائمون بصفر ويقولون إنه شهر مشئوم، فأبطل ذلك النبي صلي الله عليه وسلم. قال ابن رجب: ولعل هذا أشبه الأقوال، والتشاؤم بصفر كتشاؤم أهل الجاهلية بشوال بالنكاح فيه خاصة. قوله: "ولا نوء " سيأتي الكلام عليه في بابه. قوله: "ولا غول " هو بالضم اسم وجمعه أغوال وغيلان وهو المراد هنا، والمعنى بقوله: لا غول أنها لا تستطيع أن تضل أحدا مع ذكر الله والتوكل عليه، ومنه الحديث: " إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان "2 أي ادفعوا شرها بذكر الله تعالى. قوله: "ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة ". قال أبو السعادات: الفأل مهموز فيما يسر ويسوء، والطيرة لا تستعمل إلا فيما يسوء وربما استعملت فيما يسر. قوله: "قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة " بين صلي الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه، فدل على أنه ليس من الطيرة المنهي عنها. قال ابن القيم: "ليس الإعجاب بالفأل ومحبته بشيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما   1 رواه البخاري رقم (5757) في الطب: باب لا هامة , ومسلم رقم (2220) (102) في السلام: باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والرواية الثانية رواها مسلم رقم (2220) (106) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بزيادة: " ولا نوء " , ومن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بزيادة: " ولا غول " رقم (2222) (107) . 2 أحمد في"المسند" 3 / 381- 382 , وابن ابي شيبة في " المصنف " (12/ 44 / 1) ، وأبو يعلى (593- 594) , وابن السني في " عمل اليوم والليلة" رقم (523) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -, وإسناده ضعيف ورجاله ثقات، وإنما علته الانقطاع بين الحسن البصري وجابر فإنه لم يسمع منه كما قال الألباني في (الأحاديث الضعيفة) رقم (1140) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ويعجبني الفأل قالوا: يا رسول الله وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة " 1. ولأبي داود بسند صحيح عن عروة بن عامر قال: " ذكرت الطيرة عند رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك "2. ................................................................................................... يوافقها ويلائمها، والله تعالى جعل في غرائز الناس من الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك. فإذا سمعت الأسماع أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال فأحزنتها، وأثار ذلك لها خوفا وتطيرا وانكماشا وانقباضا عما قصدته وعزمت عليه، فأورث لها ضررا في الدنيا ونقصا في الإيمان ومقارفة للشرك". قوله: "عن عقبة بن عامر " هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه عن عروة بن عامر القرشي كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما. وهو مكي اختلف في نسبه فقال أحمد: عن عروة بن عامر القرشي، وقال غيره الجهني، واختلف في صحبته، فقال الماوردي: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال المزي: لا صحبة له تصح، قال ابن القيم: أخبر صلي الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة وهو خيرها، فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ففضل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد ونفع أحدهما ومضرة الآخر. قوله: " ولا ترد مسلما " قال الطيبي: تعريض بأن الكافر بخلافه. قوله: " اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك "أي لا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع المكروهات بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات. والحسنات هنا: النعم، والسيئات: المصائب، ففيه نفي تعلق القلب   1 رواه البخاري رقم (5756) في الطب: باب الفأل ورقم (5776) : باب لا عدوى , ومسلم رقم (2224) في السلام: باب الطيرة والفأل , وأبو داود رقم (3916) في الطب: باب في الطيرة، والترمذي رقم (1615) في السير: باب ما جاء في الطيرة , وابن ماجه رقم (3537) في الطب: باب من كان يعجبه الفأل ... إلخ , وأحمد في"المسند" 3 / 118 و 130 و 154 و173 و178 و 276. 2 رواه أبو داود رقم (3719) في الطب: باب في الطيرة , وإسناده ضعيف، وعروة بن عامر قال الحافظ: مختلف في صحبته. وانظر جامع الأصول (5801) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وعن ابن مسعود مرفوعا: " الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل "1 رواه أبو داود، والترمذي وصححه وجعل آخره من قول ابن مسعود. ..................................................................................................................... بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وهذا هو التوحيد وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، ويعد من اعتقدها سفيها مشركا. قوله: " ولا حول ولا قوة إلا بك "، والحول التحول والانتقال من حال إلى حال والقوة على ذلك بالله وحده، ففيه التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته، وهذا هو التوحيد في الربوبية، وهو الدليل على توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة وهو توحيد القصد والإرادة وقد تقدم بيان ذلك بحمد الله. قوله: "وعن ابن مسعود مرفوعا: " الطيرة شرك. الطيرة شرك وما منا إلا ... ولكن الله يذهبه بالتوكل "، رواه أبو داود والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود " ولفظ أبي داود: "الطيرة شرك " ثلاثا، وهذا صريح في تحريم الطيرة وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب بغير الله، قال ابن مفلح: الأولى القطع بتحريمها؛ لأنها شرك، وكيف يكون الشرك مكروها الكراهة الاصطلاحية. قوله: "وما منا إلا " قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري: في الحديث إضمار التقدير: وما منا إلا وقد وقع في شيء من ذلك. انتهى.   1 رواه أبو داود رقم (3910) في الطب: باب في الطيرة، والترمذي رقم (1614) في السير: باب ما جاء في الطيرة، وأحمد 1/438 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال. ورواه ابن حبان (1427) "موارد"، وابن ماجه رقم (3538) ، قال الحافظ في الفتح 10/181: "وما منا إلا" من كلام ابن مسعود –رضي الله عنه – أدرج في الخبر، وقد بينه سليمان بن حرب شيخ البخاري فيما حكاه الترمذي عن البخاري عنه". قال الحافظ: "وإنما جعل ذلك شريكا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعا أو يدفع خيرا فكأنهم أشركوا مع الله تعالى". وقوله: "ولكن الله يذهب بالتوكل" إشارة إلى أن من وقع له ذلك، فسلم لله ولم يعبأ بالطيرة أنه لا يؤاخذ بما عرض له من ذلك. انظر: "الأحاديث الصحيحة" رقم (420) . قال الخطابي: "قوله وما منا إلا" معناه إلا من يعتريه التطير". وقال محمد بن إسماعيل البخاري: كان سليمان بن حرب ينكر هذا ويقول: هذا الحرف ليس من قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكأنه قول ابن مسعود – رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ولأحمد من حديث ابن عمرو: " ومن ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك " 1. ..................................................................................................................... قوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل " لكن إذا توكلنا على الله في جلب النفع ودفع الضر أذهبه الله تعالى عنا بتوكلنا عليه وحده. قوله: وجعل آخره من قول ابن مسعود قال ابن القيم: وهو الصواب فإن الطيرة نوع من الشرك. قوله: ولأحمد من حديث ابن عمرو: " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك "هذا الحديث رواه أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي إسناده ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات. قوله: "من حديث ابن عمرو " هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد، وقيل أبو عبد الرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة. وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الصحيح بالطائف. قوله: " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك "2 وذلك أن الطيرة هي التشاؤم بالمرئي والمسموع، فإذا ردته عن سفر أو عمل أو حاجة فقد أشرك بما يخامر قلبه من الخوف من ذلك فيكون شركا بهذا الاعتبار. قوله: "قالوا فما كفارة ذلك؟ قال: أن يقول اللهم لا خير إلا خيرك ".. إلخ. فيه تفويض الأمور إلى الله تقديرا وتدبيرا وخلقا، والبراءة مما فيه تعلق بغير الله تعالى كائنا من كان. قوله: "ولا إله غيرك " أي لا معبود مستحق سواك. فإذا قال ذلك وأعرض عما وقع   1 رواه أحمد في " المسند " 2/220 , وذكر5 الهيثمي في " مجمع الزوائد5/105 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما , وقال: "رواه أحمد والطبراني , وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف", وباقي رجاله ثقات. قال الألباني في الأحاديث الصحيحة رقم (1065) : قلت: الضعف في حديث ابن لهيعة إنما هو في غير رواية العبادلة عنه , وإلا فحديثهم عنه صحيح , فالحديث صحيح. 2 أحمد (2/220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وله من حديث الفضل بن العباس - رضي الله عنهما -: " إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك "1. فيه مسائل: الأولى: التنبيه على قوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} 2 مع قوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الثانية: نفي العدوى. الثالثة: نفي الطيرة. الرابعة: نفي الهامة. الخامسة: نفي الصفر. السادسة: أن الفأل ليس من ذلك بل مستحب. السابعة: تفسير الفأل. ..................................................................................................................... في قلبه ولم يلتفت إليه واستمر على فعل ما عزم عليه توكلا على الله وتفويضا إليه، كفر الله عنه ما وقع في قلبه من ذلك. قوله: "وله من حديث الفضل بن العباس - رضي الله عنهما -: " إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك "" هذا الحديث عند الإمام أحمد من حديث الفضل بن العباس قال: خرجت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم فساقه إلى أن قال: " إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك "و " الفضل " هو ابن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم قال ابن معين: قتل يوم اليرموك وقال غيره: قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، وقال أبو داود: قتل بدمشق، وكان عليه درع النبي صلي الله عليه وسلم قوله: " إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك "3 هذا حد الطيرة المنهي عنها أنها ما يحمل الإنسان على المضي فيما أراد، أو يمنعه من المضي فيه كذلك، وأما الفأل الذي كان يحبه صلي الله عليه وسلم فيه نوع بشارة فيسر به العبد ولا يعتمد عليه، بخلاف الطيرة، فافهم الفرق.   1 رواه أحمد في المسند 1/213 وفي سنده ضعف وانقطاع. 2 سورة الأعراف آية: 131. 3 أحمد (1/213) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل. التاسعة: ذكر ما يقوله من وجده. العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك. الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 29- باب ما جاء في التنجيم قال البخاري في " صحيحه": قال قتادة: " خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به " 1 اهـ. ..................................................................................................... قوله: "باب ما جاء في التنجيم " قال شيخ الإسلام: "هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية". وقال الخطابي: "علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر وتغير الأسعار، وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، يدعون أن لها تأثيرا في السفليات، وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاط لعلم قد استأثر الله به فلا يعلم الغيب سواه". قوله: "قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به " انتهى. هذا الأثر علقه البخاري في صحيحه، وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم، وأخرجه الخطيب في كتاب النجوم عن قتادة بلفظ أطول من هذا. وقول   1 رواه البخاري 295/6 تعليقا قال الحافظ في " الفتح": "وصله عبد بن حميد من طريق شيبان عنه، وزاد في آخره: "وإن ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من غرس بنجم كذا كان كذا , ومن سافر بنجم كذا كان كذا , ولعمري ما من النجوم نجم إلا ويولد به الطويل والقصير والأحمر والأبيض والحسن والدميم , وما علم هذ. النجوم وهذه الدابة وهذا الطاثر شيء من هذا الغيب" اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق. .................................................................................................... قتادة - رحمه الله - يدل على أن علم التنجيم هذا قد حدث في عصره فأوجب له إنكاره على من اعتقده وتعلق به، وهذا العلم مما ينافي التوحيد ويوقع في الشرك؛ لأنه ينسب الحوادث إلى غير من أحدثها وهو سبحانه بمشيئته وإرادته كما قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} 1 وقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 2. قوله: " خلق الله هذه النجوم لثلاث "قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} 3. وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا كما روى ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان "ثم رفعها"، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وزينها بمصابيح "النجوم"، وجعلها رجوما للشياطين، وحفظها من كل شيطان رجيم "4 قوله: "وعلامات" أي دلالات على الجهات يهتدى بها أي يهتدي بها الناس في ذلك كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 5 أي ليعرفوا بها جهة قصدهم، فإن قيل: المنجم قد يصدق، قيل: صدقه كصدق الكاهن يصدق في كلمة ويكذب في مائة، وصدقه ليس عن علم، بل قد يوافق قدرا فيكون فتنة في حق من صدقه. قوله: "وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص فيه ابن عيينة، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق". قال الخطابي: "أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة، والخبر الذي يعرف به الزوال وتعلم به جهة القبلة، فإنه غير داخل فيما نهي عنه، وذلك أن معرفة هذا العلم يصح علمه بالمشاهدة. وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة فإنها من الكواكب، رصدها أهل الخبرة بها الذين لا شك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به، مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة ويشاهدها على حال الغيبة عنها فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفتهم" انتهى. وروى ابن المنذر عن مجاهد أنه لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل من النجوم   1 سورة فاطر آية: 3. 2 سورة النمل آية: 65. 3 سورة الملك آية: 5. 4 ذكره الحافظ السيوطي في "الدر المنثور 95/4 , ونسبه لابن مردويه فقط , ولم يتكلم عليه بشيء، وليس عندنا سنده لنحكم عليه. 5 سورة الأنعام آية: 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر "1 رواه أحمد وابن حبان في " صحيحه ". ..................................................................................................................... ما يهتدي به. قال ابن رجب: "والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير، فإنه باطل محرم قليله وكثيره، أما علم التسيير فيتعلم منه ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور". قوله: ذكره حرب عنهما هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني الفقيه من أجلة أصحاب الإمام أحمد، روى عن أحمد وإسحاق وابن المدينى وابن معين وغيرهم، وله كتاب المسائل التي سأل عنها الإمام أحمد وغيره، مات سنة ثمانين ومائتين، وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم بن مخلد بن يعقوب الحنظلي النيسابوري الإمام المعروف بابن راهويه، روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم، قال أحمد: إسحاق عندنا من أئمة المسلمين، وروى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وروى هو أيضا عن أحمد، مات سنة تسع وثلاتين ومائتين. قوله: "وعن أبي موسى " قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " ثلاثة لا يدخلون الجنة " الحديث. هذا الحديث رواه أيضا الطبراني والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي. قوله: "عن أبي موسى " هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بفتح المهملة وتشديد الضاد، أبو موسى الأشعري صحابي جليل مات سنة خمسين. قوله: "ثلاثة لا يدخلون الجنة " الشاهد للترجمة "ومصدق بالسحر " وفي هذا الحديث كما تقدم في نظائره كقوله: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم "2 واختار الأمام أحمد - رحمه الله تعالى - أن مثل هذه الأحاديث تمر كما جاءت من   1 رواه أحمد في " المسند 4/399 , وابن حبان (1380) و (1381) "موارد" في الأشربة: باب في حد من الخمر , والحاكم في المستدرك 4/146 في الأشربة: باب ذكر ثلاثة لا يدخلون الجنة وصححه الحاكم 146/4 ووافقه الذهبي , قال الألباني في الأحاديث الصحيحة رقم (678) : حديث حسن. 2 تقدم تخريجه ص (141) رقم (2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق النجوم. الثانية: الرد على من زعم غير ذلك. الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل. الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 30- باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1 .................................................................................................... غير تأويل. قال الذهبي في الكبائر: "ويدخل فيه تعلم السيمياء وعلمها، وعقد المرء من زوجته، ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة". انتهى باختصار. قوله: "باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء وقول الله تعالى {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} " أي من الوعيد، والمراد نسبة السقي ومجيء المطر إلى الأنواء، جمع نوء وهي منازل القمر. قال أبو السعادات: وهي ثمان وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة منزلة منها كما قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} 2 يسقط في المغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة له مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إلى النجم الساقط ويقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وإنما سمي نوءا؛ لأنه إذا سقط منها الساقط ناء الطالع بالمشرق أي نهض وطلع. قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} يقول شكركم: {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا3 روي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم   1 سورة الواقعة آية: 82. 2 سورة يس آية: 39. 3 الترمذي (3291) في التفسير: باب ومن سورة الواقعة, وأحمد 1/89 و108 و131 وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر الثعلبي وهو ضعيف. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، .................................................................................................................... وهو قول جمهور المفسرين وبه يظهر وجه استدلال المصنف - رحمه الله تعالى - بالآية. وقال ابن القيم: أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم التكذيب به يعني القرآن، قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، قال: وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب. قوله: "وعن أبي مالك الأشعري " أبو مالك اسمه الحارث الشامي صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا. قوله: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن " ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك مع كونها من أعمال الجاهلية. يدل على أنه يجب على كل مسلم أن يجتنبها، والمراد بالجاهلية هنا ما قبل المبعث، وفاعلها آثم يجب أن ينهى عنها، ومتى وجد الشرك وجدت هذه الأمور المنكرة وغيرها من المنكرات. قال شيخ الإسلام: أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم، وهذا كقوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 1 فإن في ذلك ذما للتبرج، وذما لحال أهل الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة. قوله: "والفخر بالأحساب " أي التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم وذلك جهل عظيم إذ لا كرم إلا بالتقوى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2 ولأبي داود عن أبي هريرة مرفوعا: " وإن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان "3 الحديث.   1 سورة الأحزاب آية: 33. 2 سورة الحجرات آية: 13. 3 أبو داود رقم (5116) في الأدب: باب في التفاخر بالأحساب، ورواه أيضا بنحوه وأخصر منه أحمد في "المسند" 2/524، والترمذي رقم (2950 – 2951) في المناقب: باب في فضل الشام واليمن, وهو حديث حسن، كما قال الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1783) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. وقال: النائحة إن لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " 1 رواه مسلم. ............................................................................................ قوله: "والطعن في الأنساب " أي الوقوع فيها بالعيب والنقص، ولما عير أبو ذر رجلا بأمه قال النبي صلي الله عليه وسلم: " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية " 2 متفق عليه، فدل على أن الطعن في الأنساب من عمل أهل الجاهلية، وأن المسلم قد يكون فيه شيء من هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه، قاله شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -. قوله: " واستسقاء بالنجوم " تقدم معناه، فإذا قال قائلهم: مطرنا بنجم كذا وبنوء كذا فلا يخلو، إما أن يعتقد أن له تأثيرا في نزول المطر، فهذا شرك وكفر لنسبة المطر لغير من أنزله وهو الله وحده، وإما مع إطلاق هذا اللفظ فقد صرح ابن مفلح في "الفروع" بتحريمه، وكذلك صاحب "الإنصاف" ولم يذكرا خلافا. قوله: والنياحة أي رفع الصوت بالندب على الميت وضرب الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك، وهي من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة كما في هذا الحديث. قوله: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها " فيه تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب. قوله: " تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب "السربال واحد السرابيل وهي الثياب والقمص، هذه سرابيل أهل النار يعني يلطخن بالقطران حتى يكون اشتعال النار بأجسادهن أعظم، ورائحتهن أنتن، وروي عن ابن عباس أن القطران هو النحاس المذاب.   1 رقم (934) في الجنائز , باب التشديد في النياحة وأحمد في المسند342/5 و343 و 344 من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه 0. 2 البخاري رقم (30) في الإيمان: باب المعاصي من أمر الجاهلية، ورقم (2545) في العتق: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون , ورقم (6050) في الأدب: باب ما ينهى من السباب واللعن , ومسلم رقم (1661) في الإيمان: باب إطعام المملوك مما يأكل ... ، وأبو داود رقم (5157) في الأدب: باب في حق المملوك , والترمذي رقم (1946) في البر: باب الإجسان إلى الخدم , وأحمد في " المسند " 5/ 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 و " لهما " عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: " صلى رسول الله صلي الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل ; فلما انصرف أقبل على الناس فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب " 1. ............................................................................................... قوله: وعن زيد بن خالد الجهني صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين، وقيل غير ذلك، وله خمس وثمانون سنة. قوله: "صلى لنا " أي بنا، قال الحافظ: "وفيه إطلاق ذلك مجازا". قوله: "بالحديبية " بتخفيف يائها وقد تثقل. قوله: على إثر بكسر الهمزة وسكون الثاء المثلثة على المشهور وهو ما يعقب الشيء. قوله: "سماء " أي مطر. قوله: "فلما انصرف من صلاته " أي إلى المأمومين. قوله: "هل تدرون " لفظ استفهام ومعناه التنبيه، وفي النسائي: "ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة "‘ وفيه إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليختبرهم. قوله: "قالوا: الله ورسوله أعلم " فيه حسن الأدب للمسئول إذا سئل عما لا يعلم أن يكل العلم إلى عالمه، وذلك يجب. قوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي "؛ لأنه نسب الفعل إلى فاعله الذي لا يقدر عليه غيره.   1 البخاري رقم (846) في الأذان: باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم , ورقم (038 1) في الاستسقاء: باب قول الله تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) ، ورقم (4147) في المغازي: باب غزوة الحديبية , ورقم (7503) في التوحيد: باب قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) ، ومسلم رقم (71) في الإيمان: باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء , وأبو داود رقم (06 39) في الطب: باب في النجوم , والنسائي 3/ 165 في الاستسقاء: باب كراهية الاستمطار بالكوكب , وأحمد في " المسند 4/117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 و "لهما" من حديث ابن عباس معناه، وفيه قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} 1 إلى قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 2 3. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الواقعة. الثانية: ذكر الأربع من أمر الجاهلية. الثالثة: ذكر الكفر في بعضها. الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة. الخامسة: قوله: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر "بسبب نزول النعمة. السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع. السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع. الثامنة: التفطن لقوله: " لقد صدق نوء كذا وكذا". التاسعة:: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها، لقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم؟ ". ................................................................................................................... قوله: وكافر إذا اعتقد أن للنوء تأثيرا في إنزال المطر، فهذا لأنه شرك في الربوبية والمشرك كافر. قوله: " فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته "فالفضل والرحمة صفتان لله تعالى. قوله: "ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} 4 "إلى قوله " "تُكَذِّبُونَ " تقدم معناه قريبا.   1 سورة الواقعة آية: 75. 2 سورة الواقعة آية: 82. 3 ليس عند البخاري وإنما هو عند مسلم فقط رقم (73) في الإيمان باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء. 4 سورة الواقعة آية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 31- باب "من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر" قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 1 الآية. وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. عن أنس أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب ............................................................................................... قوله: باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} قال في شرح المنازل: "أخبر تعالى أن من أحب شيئا من دون الله كما يحب الله فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحدا من أهل الأرض لا يثبت هذا الند بخلاف ند المحبة فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في المحبة والتعظيم" اهـ. "قلت ": وقد وقع الشرك في الربوبية أيضا في كثير من الخاصة والعامة في آخر هذه الأمة فاعتقدوا أن لهؤلاء الأموات تصرفا في الكون ونحو ذلك. قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية. قال ابن كثير: "إن كانت هذه الأشياء أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه". قوله: "لا يؤمن " أي الإيمان الواجب، والمراد كماله حتى يكون الرسول صلي الله عليه وسلم أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين، وذلك يقتضي تعظيم أمره ونهيه واتباعه في ذلك دون من سواه، ومن كان كذلك فقد أحب الله كما في آية المحبة. قوله: أخرجاه أي البخاري ومسلم.   1 سورة البقرة آية: 165. 2 سورة التوبة آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " 1 أخرجاه. و"لهما" عنه قال: قال رسول الله:صلي الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه وجد بهن .................................................................................................... قوله: "ولهما عنه " أي البخاري ومسلم عن أنس - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم الحديث. قوله: "ثلاث " أي خصال، - قال شيخ الإسلام: أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئا واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريغها ودفع ضدها، فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. "قلت ": ومن لازم محبة الله محبة أنبيائه ورسله وملائكته وكتبه والصالحين من   1 البخاري رقم 15 في الإيمان: باب حب الرسول – صلى الله عليه وسلم - من الإيمان ومسلم رقم 44 في الإيمان: باب وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجععين , والنسائي 8/ 114- 115 في الإيمان: باب علامة الإيمان , وابن ماجه رقم (67) في المقدمة: باب في الإيمان، والدارمي رقم (2744) في الرقاق: باب رقم 29 0 قال القرطبي: "كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة , غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى , ومنهم من أخذ منها بالحط الأدنى , كمن كان مستغرقا في الشهوات محجوبا في الغفلات في أكثر الآوقات , لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته , بحيث يؤثرها على أهله وولده ووالده , ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة , ويجد غير ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه , وشوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر , لما وقر في قلوبهم من محبته , غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات , والله المستعان". انتهى ملخصا. (الفتح 1/ 60) . قوله: "لا يؤمن" قال العلماء - رحمهم الله -: معناه لا يؤمن الإيمان التام , وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة. قال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما: المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد , ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس، فجمع صلى الله عليه وسلم أصنات المحبة في محبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار "وفي رواية: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ... "1 إلى آخره. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد ......................................................................................... عباده، وكراهة ما يكره سبحانه ومعاداة أعدائه، وموالاة أوليائه، فلا يحصل كمال محبة الله الواجبة إلا بكمال ذلك وإيثاره على ما تهواه النفوس مما يخالف ذلك. قوله: " أحب إليه مما سواهما " ثنى الضمير هنا لتلازم المحبتين والله أعلم. قوله: " كما يكره أن يقذف في النار " أي يستوي عنده الأمران. قوله: "وفي رواية: "لا يجد" " هي عند البخاري في الأدب المفرد ولفظه: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه. وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " 2. قوله: "من أحب في الله " أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك. قوله: "وأبغض في الله " أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وعصاه لارتكابه ما يسخط الله، وإن كان أقرب الناس إليه، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} 3. قوله: "ووالى في الله " بالمحبة والنصرة بحسب القدرة. قوله: " وعادى في الله " من كان عدوا لله ممن أشرك وكفر وظاهر بالمعاصي، فتجب عداوته بما يقدر عليه. قوله: " فإنما تنال ولاية الله بذلك " أي توليه لعبده، وولاية بفتح الواو. وفي   1 تقدم تخريجه ص (48) رقم (2) . 2 البخاري: الأدب (6041) . 3 سورة المجادلة آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا. وذلك لا يجدي على أهله شيئا "1 رواه ابن جرير. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 2 قال: المودة3. .................................................................................................. الحديث " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله عز وجل "4 رواه الطبراني. قوله: " ولن يجد عبد طعم الإيمان ... "إلى آخره، أي لا يحصل له ذوق الإيمان وبهجته ولذته وسروره والفرح به، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك. قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 5. قوله: "وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا "، يعني أنه إذا ضعف داعي الإيمان أحب دنياه، وأحب لها وواخى لأجلها، وهذا هو الغالب على أكثر الخلق محبة دنياهم وإيثار ما يهوونه على ما يحبه الله ورسوله، وذلك لا يجدي على أهله شيئا، بل يضر في العاجل والآجل فالله المستعان. قوله: "وقال ابن عباس في قوله {ِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ} 6 قال: المودة "، أي التي كانت بينهم خانتهم أحوج ما كانوا إليها، قال تعالى: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ   1 رواه أحمد في " المسند3/ 430 من حديث عمرو بن الجموح - رضي الله عنه – بلفظ: "لا يحق للعبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله تعالى ويبغض لله تعالى , فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاء من الله ... " وإسناده ضعيف , وذكر5 الهيثمي في " مجمع الزوائد 1/ 89 من حديث عمرو بن الحمق - رضي الله عنه – بلفط: "لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله , ويبغض لله , فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية ... " وقال: رواه الطبراني في الكبير , وفيه رشدين بن سعد , وهو ضعيف. وقد صح الحديث الذي رواه أبو داود (4681) , والترمذي (2523) وأحمد 3/ 440 من أحب لله , وأبغض لله , وأعطى لله , ومنع لله فقط استكمل الإيمان. انظر الأحاديث الصحيحة " رقم (380) . 2 سورة البقرة آية: 166. 3 هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم , والحاكم 272/2 وصححه ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. 4 الطبراني (537) من حديث أبي ذر، وأبو داود الطيالسي (378) من حديث ابن مسعود، وأحمد 4/286 من حديث البراء. قال في الأحاديث الصحيحة (1728) : "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل، والله أعلم" ا?. 5 سورة يونس آية: 58. 6 سورة البقرة آية: 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: وجوب محبته صلي الله عليه وسلم وتقديمها على النفس والأهل والمال. الرابعة: أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام. الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها. السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها. السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا. الثامنة: تفسير: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 1. التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا. العاشرة: الوعيد على من كانت الثمانية أحب إليه من دينه. الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر.   1 سورة البقرة آية: 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 32- باب "اليقين يضعف ويقوى" قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 {بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} 2 الآية. .................................................................................................. قوله: "باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3 قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "ومن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين جنده وأولياءه لئلا يجاهدوهم، ولا يأمروهم بمعروف، ولا ينهوهم عن منكر، وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه، ونهانا أن نخافهم، قال: والمعنى عند جميع المفسرين: يخوفهم بأوليائه. قال قتادة: يعظمهم في صدوركم فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه   1 سورة آل عمران آية: 175. 2 سورة العنكبوت آية: 25. 3 سورة آل عمران آية: 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} 1 الآية. وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 2 الآية. ....................................................................................................... خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه معهم، فدلت هذه الآية على أن الخلاص من الخوف من كمال شروط الإيمان. وسبب نزول الآية مذكور في التفاسير والسير". قوله: "وقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} 3 " أخبر تعالى أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم، وأخلصوا له الخشية دون من سواه، فلا تكون المساجد عامرة إلا بالإيمان الذي معظمه التوحيد مع العمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع، وذلك كله داخل في مسمى الإيمان المطلق عند أهل السنة والجماعة. قوله: "وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ" قال ابن عطية: يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه. "قلت ": لأن النفع والضر إنما يكون بمشيئته وإرادته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "والخوف عبودية القلب، فلا يصلح إلا لله: كالذل والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب". قوله: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 4 قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: إن أولئك هم المهتدون، وكل عسى في القرآن فهي واجبة. قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 5 الآية. قال ابن القيم: "الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم آمنا، وإما أن لا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال آمنا امتحنه ربه وابتلاه. والفتنة: الابتلاء والاختبار، ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه، فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت، أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن   1 سورة التوبة آية: 18. 2 سورة العنكبوت آية: 10. 3 سورة التوبة آية: 18. 4 سورة التوبة آية: 18. 5 سورة العنكبوت آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: " إن من ضعف اليقين أن ترضي ....................................................................................................... الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير له الألم الدائم، والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس، والناس لهم تصورات وإرادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم - إلى أن قال: فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قالت أم المؤمنين لمعاوية: " من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا "1. فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت للرسل وأتباعهم. ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له هي أذاهم، ونيلهم إياه بالمكروه - وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم - جعل ذلك في فراره منه، وتركه السبب الذي يناله به كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان، فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب، وهذا من ضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، فجعل ألم فتنة عذاب الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله، وغبن كل الغبن إذا استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه، قال: إني كنت معكم والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق" اهـ. قوله: وعن أبي سعيد مرفوعا: " إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا ترده كراهية كاره "2. هذا الحديث رواه أبو نعيم في "الحلية" والبيهقي وأعله بمحمد بن مروان السدي، وقال ضعيف، وتمام هذا الحديث: " وأنه بحكمته جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط ". قوله: "إن من ضعف اليقين " الضعف بفتح وسكون وتضم ضاده مع سكون العين   1 سيأتي تخريجه ص (172) . 2 أبو نعيم في الحلية 5/106 و 10/41 , والبيهقي في شعب الإيمان رقم (207) ، وفي إسناده محمد بن مروان السدي متهم بالكذب انظر فيض القدير 2/539 للمناوي و " ضعيف الجامع " (2007) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره ". ....................................................................................................... وتحرك عينه مع فتح الضاد: ضد القوة. قال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان. قوله: "أن ترضي الناس بسخط الله " أي أن تؤثر رضاهم على ما يرضي الله، وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته ما يمنعه من إيثار رضى المخلوق بما يجلب له سخط خالقه وربه ومليكه الذي يتصرف في القلب. وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك؛ لأنه آثر رضى المخلوق على رضى الله، وتقرب إليه بما يسخط الله، ولا يسلم من هذا إلا من سلمه الله تعالى. قوله: "وأن تحمدهم على رزق الله " أي على ما وصل إليك من أيديهم بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه، والله تعالى هو الذي كتبه لك وسيره لك، فإذا أراد أمرا قيض له أسبابا، ولا ينافي هذا حديث: " من لا يشكر الناس لا يشكر الله " 1 لكون الله ساقه على أيديهم فتدعو لهم أو تكافئهم لحديث " من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافئتموه " 2. قوله: "وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله " لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم فلو قدر ساقه إليك. فمن علم أن الله وحده هو المتفرد بالعطاء والمنع بمشيئته وإرادته، وأنه الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب، ومن حيث لا يحتسب لم يسأل حاجته إلا من الله وحده، ولعل ما منع من ذلك يكون خيرا له، ويحسن الظن بالله سبحانه ولا يرغب إلا إليه ولا يخاف إلا من   1 البخاري في " الأدب المفرد رقم (218) ، وأبو داود رقم (385) ، وابن حبان رقم (2070) "موارد"، وأحمد في " المسند" 2/295 و 2 30 و 388 و 492 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -, وهو حديث صحيح. انظر الأحاديث الصحيحةرقم (417) . 2 البخاري في " الأدب المفرد رقم (216) ، وأبو داود رقم (1672) , والنسائي 1/358 , وأحمد في (المسند 68/2 و 96 و 99، والبيهقي (199/4) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وصححه ابن حبان رقم (2071) ، والحاكم 1/412، ووافقه الذهبي وهو كما قالا. انظر "الأحاديث الصحيحة" رقم (254) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وعن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس "رواه ابن حبان في " صحيحه "1. ..................................................................................................................... ذنبه، وقد قرر هذا المعنى في الحديث بقوله: " إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره ". وقال شيخ الإسلام: اليقين يتضمن القيام بأمر الله تعالى وما وعد الله به أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره. فإذا أرضيتهم بسخط الله ولم تكن موقنا لا بوعده ولا برزقه فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم. وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم. وإرضاؤهم بما يسخطه، إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم وذلك من ضعف اليقين. وأما إذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر لك كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم، ودل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من مسمى الإيمان. قوله: "من التمس " أي طلب، قال شيخ الإسلام: "وكتبت عائشة إلى معاوية ويروى أنها رفعته: " من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا "هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف: " من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاما "وهذا من أعظم الفقه في الدين، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 2 والله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب، ومن أرضى الناس   1 رواه الترمذي رقم (2416) في الزهد: باب رقم 64، وأبو نعيم في الحلية8/188، وابن حبان رقم (1541) و (1542) "موارد" من حديث عائشة - رضي الله عنها -, وهوحديث صحيح كما قال الألباني في " صحيح الجامع" رقم (5886) و (5973) . 2 سورة آية: 2-3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: تفسير آية العنكبوت. الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى. الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث. السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض. السابعة: ذكر ثواب من فعله. الثامنة: ذكر عقاب من تركه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 33- باب "التوكل من شروط الإيمان" قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. ............................................................................................................... بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا كالظالم الذي يعض على يديه، وأما كون حامده ينقلب ذاما فهذا يقع كثيرا ويحصل في العاقبة فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم". انتهى. قوله: "باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ". قال أبو السعادات يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، وأراد المصنف بهذه الترجمة بالآية بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله؛ لأنه من أجمع أنواع العبادة الباطنة، فإن تقديم المعمول يفيد الحصر، فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله كما في هذه الآية. قال الإمام أحمد: "التوكل عمل القلب". قال ابن القيم في الآية المترجم بها: "فجعل التوكل على الله شرطا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه". قال شيخ الإسلام: "وما رجا أحد مخلوقا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه فإنه شرك {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ   1 سورة المائدة آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 1 الآية. وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2. ............................................................................................................... الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 3" اهـ. والتوكل قسمان: أحدهما التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم من الطواغيت، فهذا شرك أكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. وأما التوكل على الأحياء الحاضرين والسلطان ونحوهم فيما أقدرهم الله عليه من رزق أو دفع أذى ونحو ذلك فهو نوع شرك أصغر، والمباح أن يوكل شخصا بالنيابة عنه في التصرف فيما له التصرف فيه من أمور دنياه كالبيع والشراء والإجارة والطلاق والعتاق وغير ذلك فهذا جائز بالإجماع، لكن لا يقول: توكلت عليه بل يقول وكلته فإنه لو وكله فلا بد أن يتوكل في ذلك على الله سبحانه. قوله: "وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية ". قال ابن عباس في الآية: المنافقون لا يدخل في قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه. ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فأدوا فرائضه، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وقال السدي في قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فيوجل قلبه. رواه ابن أبي شيبة وابن جرير. قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 4 استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم من أهل السنة بهذه الآية ونظائرها على زيادة الإيمان ونقصانه. قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 5 أي يعتمدون عليه، ويفوضون إليه أمورهم، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، وهو من أعظم الأسباب في حصول المطالب الدنيوية والأخروية، وفي الآية وصف المؤمنين حقا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان تستلزم حصول أعمال الإيمان الواجبة والمستحبة. قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 6 قال ابن القيم: "أي الله   1 سورة الأنفال آية: 2. 2 سورة الأنفال آية: 64. 3 سورة الحج آية: 31. 4 سورة الأنفال آية: 2. 5 سورة الأنفال آية: 2. 6 سورة الأنفال آية: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 1 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " " حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" قالها إبراهيم صلي الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلي الله عليه وسلم حين قالوا له: " إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" "2 رواه البخاري والنسائي. ............................................................................................................... وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد". وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. قوله: "وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} " قال ابن القيم وغيره: "أي كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه، فلا مطمع فيه لعدو ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبدا. قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافيه فلم يقل فله كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل الله سبحانه نفسه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجا وكفاه ونصره"، انتهى. قوله: "حَسْبُنَا اللَّهُ " تقدم معناه. قوله: "وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " أي نعم من توكل عليه المتوكلون، ومخصوص "نعم" محذوف تقديره نعم الوكيل الله. قوله: قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 3 الآية. قوله: وقالها محمد صلي الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 4 وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أحد، فمر بهم ركب من عبد القيس فقالوا: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قالوا: هل   1 سورة الطلاق آية: 3. 2 البخاري رقم (4563 , 4564) في التفسير باب تفسير سورة آل عمران، ولم أجده عند النسائي ولعله في "الكبرى". 3 سورة الأنبياء آية: 68-69. 4 سورة آل عمران آية: 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فيه مسائل: الأولى: أن التوكل من الفرائض. الثانية: أنه من شروط الإيمان. الثالثة: تفسير آية الأنفال. الرابعة: تفسير الآية في آخرها. الخامسة: تفسير آية الطلاق. السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم ومحمد صلي الله عليه وسلم في الشدائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 34- باب "في الوعيد من أمن مكر الله" قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 1 ................................................................................................................... أنتم مبلغون عنا محمدا رسالة؟ قالوا: نعم، قالوا: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله صلي الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل " وفي الحديث: " إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ "2. باب قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} أراد المصنف رحمه الله تعالى أن الأمن من مكر الله يدل على ضعف الإيمان، فلا يبالي صاحبه بما ترك من الواجبات وفعل من المحرمات، لعدم خوفه من الله بما فعل أو ترك، وهذا من أعظم الذنوب وأجمعها للعيوب. ومعنى الآية أن الله - تبارك وتعالى - لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل، بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله وعدم الخوف منه، وذلك أنهم أمنوا مكر الله لما استدرجهم بالسراء والنعم فاستبعدوا أن يكون   1 سورة الأعراف آية: 99. 2 رواه ابن مردويه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-، وهو حديث ضعيف كما قال الألباني في "ضعيف الجامع" رقم (829) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} 1. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم سئل عن الكبائر، فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله "23. ................................................................................................................... ذلك مكرا، قال الحسن: من وسع عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له. وقال قتادة: بغت القوم أمر الله وما أخذ قوم قط إلا عند سلوتهم وغرتهم فلا تغتروا بالله. وقال إسماعيل بن رافع: من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة. رواه ابن أبي حاتم. قوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} 4 القنوط استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلا الأمرين ذنب عظيم، لما في القنوط من سوء الظن بالله. قوله: {إِلاَّ الضَّالُّونَ} أي عن الهدى. قوله: وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم " سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله "هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر. قال ابن معين: ثقة، ولينه ابن أبي حاتم. وقال ابن كثير: في إسناده نظر والأشبه أن يكون موقوفا. قوله: "الشرك بالله " وهو أكبر الكبائر. ولهذا بدأ به. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "الشرك هضم للربوبية وتنقص للإلهية، وسوء ظن برب العالمين". انتهى. قوله: "واليأس من روح الله " أي قطع الرجاء والأمل من الله تعالى فيما يخافه ويرجوه، وذلك إساءة طن بالله وجهل به وسعة رحمته وجوده ومغفرته. قوله: "والأمن من مكر الله " أي من استدراجه للعبد وسلبه ما أعطاه من الإيمان، نعوذ بالله من ذلك. وذلك جهل بالله وبقدرته وثقة بالنفس وعجب بها. وهذه الثلاث من   1 سورة الحجر آية: 56. 2 البخاري: الشهادات (2653) , ومسلم: الإيمان (88) , والترمذي: البيوع (1207) ، وتفسير القرآن (3018) , والنسائي: تحريم الدم (4010) والقسامة (4867) , وأحمد (3/131 ,3/134) . 3 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/104 من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - وقال في آخره: رواه البزار والطبراني ورجاله موثقون. أقول: ويشهد له حديث عبد الله بن مسعود الذي سيأتي بعد قليل , ذكره الشارح من رواية عبد الرزاق، وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد من رواية الطبراني في "الكبير" 1/ 104 , وقال: إسناده صحيح. 4 سورة الحجر آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله "1 رواه عبد الرزاق. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الأعراف. الثانية: تفسير آية الحجر. الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله. الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.   1 ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1/104 وقال رواه الطبراني وإسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 35- باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} 1. ................................................................................................................... أكبر الكبائر فهي كبيرة جدا نسأل الله اجتنابها. وذكر هذه الثلاث لجمعها للشر كله وبعدها عن الخير، وقد وقع فيها الكثير قديما وحديثا، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. قوله: "والقنوط من رحمة الله " قال أبو السعادات: هو أشد اليأس وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء في حال الصحة فسد القلب. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} 2. وقال: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} 3. قوله: "باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله " قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من كتابه، وفي الحديث الصحيح: "الصبر ضياء"4 رواه أحمد   1 سورة التغابن آية: 11. 2 سورة الملك آية: 12. 3 سورة النور آية: 37. 4 مسلم رقم (223) في الطهارة باب فضل الوضوء، والترمذي رقم (3512) في الدعوات باب رقم (91) ، والنسائي 5/ 5 و 6 في الزكاة: باب وجوب الزكاة , وفي " عمل اليوم والليلة" رقم (168- 169) ، وأحمد في المسند 5/342 و 344 و 443 , والدارمي رقم (659) في الوضوء: باب ما جاء في الطهور , وابن ماجه رقم (280) في المقدمة: باب الوضوء شطر الإيمان من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -, ولفظه: " الطهور شطر الإيمان , والحمد لله تملأ الميزان , وسبحان الله والحمد لله تملآن- أو تملأ- ما بين السموات والأرض , والصلاة نور , والصدقة برهان , والصبر ضياء، والقران حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو, فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم. ................................................................................................................... ومسلم. قال عمر رضي الله عنه: " وجدنا خير عيشنا بالصبر "1 رواه البخاري. قال علي:رضي الله عنه " إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ثم رفع صوته فقال: إنه لا إيمان لمن لا صبر له ". واعلم أن الصبر على ثلاثة أقسام: صبر على ما أمر الله به، وصبر على ما نهى عنه، وصبر على ما قدره الله من المصائب، زاد شيخ الإسلام: والصبر عن الأهواء المخالفة للشرع. قوله: "وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} 2 " وأول الآية {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} 3 أي بمشيئته وإرادته كما قال في الآية الأخرى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 4 قوله: "قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم " هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وروي عن ابن مسعود. و "علقمة " هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ولد في حياة النبي صلي الله عليه وسلم، وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعائشة وغيرهم، وهو من كبار التابعين وعلمائهم وثقاتهم، مات بعد الستين. وفي هذا الأثر دليل على أن الأعمال من مسمى الإيمان. وفي الآية بيان أن من ثواب الصبر هداية القلب.   1 البخاري تعليقا11/303 في الرقاق: باب الصبر عن محارم الله (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) . قال الحافط في الفتح: "وقد وصله أحمد في كتاب " الزهد" بسند صحيح عن مجاهد قال: قال عمر. وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق أحمد كذلك , وأخرجه عبد الله بن المبارك في "كتاب الزهد" من وجه آخرعن مجاهد به، وأخرجه الحاكم من رواية مجاهد عن سعيد بن المسيب عن عمر". ا?. 2 سورة التغابن آية: 11. 3 سورة التغابن آية: 11. 4 سورة الحديد آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وفي " صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت " 1. و"لهما" عن ابن مسعود مرفوعا: " ليس منا من ضرب الخدود، أو شق ................................................................................................................... قوله: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت "أي هما بالناس كفر حيث كانتا من أعمال الجاهلية وهما قائمتان بالناس ولا يسلم منهما إلا من سلمه الله، فأطلق الكفر على من قامت به خصلة من هاتين الخصلتين، لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا الكفر المطلق، كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا الإيمان المطلق، ففرق بين الكفر المعروف باللام كما في قوله: " ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة " 2 وبين كفر منكر في الإثبات. قوله: "الطعن في النسب " أي عيبه، ويدخل فيه أن يقال: هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه3. قوله: "والنياحة على الميت " أي رفع الصوت بالندب، وتعداد فضائله لما فيه من السخط على قدر الله المنافي للصبر. قوله: "من ضرب الخدود " قال الحافظ: خص الخد لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله.   1 رقم (67) في الإيمان: باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة , وأحمد في المسند "2/377 و 431 و441 و 596. 2 مسلم رقم (82) في الإيمان: باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة , أبو داود رقم (4678) في السنة: باب فى رد الإرجاء , والترمذي رقم (2622) في الإيمان: باب ما جاء في ترك الصلاة، وأحمد في " المسند " 3/370 و 389، والدارمي رقم (1236) في الصلاة: باب في تارك الصلاة، وابن ماجه (1078) في إقامة الصلاة: باب ما جاء فيمن ترك الصلاة من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -, ولفظه عند مسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة "، "ليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة". 3 قال الأستاذ محمد رشيد رضا - رحمه الله تعالى -: "يريد بثبوته عدم وجود دلائل ظاهرة , أو حكم شرعي ينفيه , فلا يجوز الطعن بمستور النسب ومجهوله , بل الناس مأمونون على أنسابهم" اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية "1. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة "2. ................................................................................................................... قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية " قال شيخ الإسلام: هو ندب الميت. وقال ابن القيم: الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعض على بعض، يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي عليه، فكل هذا من دعوى الجاهلية، وقد يعفى عن الشيء اليسير من ذلك إذا كان صدقا كما يعفى عن البكاء إذا كان على غير وجه النوح والتسخط. نص عليه أحمد. قوله: " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا "3 قال شيخ الإسلام: "المصائب نعمة؛ لأنها مكفرات للذنوب وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله تعالى والذل له والإعراض عن الخلق إلى غير ذلك من المصالح، فنفس البلاء يكفر الله به الخطايا، وهذا من أعظم النعم، فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق إلا أن يدخل   1 البخاري رقم (1294) في الجنائز: باب ليس منا من شق الجيوب , ورقم (1297) باب ليس منا من ضرب الخدود , ورقم (1298) باب ما ينهى عن الويل ودعوى الجاهلية عند المصيبة , ورقم (3519) في المناقب: باب ما ينهى من دعوى الجاهلية , ومسلم رقم (103) في الإيمان: باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب 00 , والترمذي رقم (999) في الجنائز: باب ما جاء في النهي عن ضرب الخدود ... , والنساثي 4/ 20 في الجناثز: باب ضرب الخدود , وأحمد في " المسند1/ 386 و432 و442 و 456 قوله: " أو دعا بدعوى الجاهلية قال القاضي: هي النياحة وندبة الميت والدعاء بالويل وشبهه. والمراد بالجاهلية ما كان في الفترة قبل الإسلام. 2 رواه الترمذي رقم (2398) في الزهد: باب ما جاء في الصبر على البلاء , والحاكم 1/340 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه , واسناده حسن , وله شاهد من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -, عند أحمد 4/87، والطبراني في " الكبير", والحاكم 1/349، وأبو نعيم في " الحلية" 3/25 والبيهقي في " شعب الإيمان", ومن حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه -, عند الطبراني في "الكبير", ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -, عند ابن عدي , فهو حديث صحيح بشواهده انظر " الأحاديث الصحيحة" رقم (1220) . 3 الترمذي: الزهد (2396) , وابن ماجه: الفتن (4031) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وقال النبي صلي الله عليه وسلم: " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط "حسنه الترمذي 1. ................................................................................................................... صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو جوع حصل له من الجزع والنفاق ومرض القلب والكفر الظاهر وترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضررا في دينه. فهذا كانت العافية خيرا له من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة نفس المصيبة، كما إن من أوجبت له المصيبة صبرا وطاعة كانت في حقه نعمة دينية. فهي بعينها فعل الرب عز وجل رحمة للخلق، والله تبارك وتعالى محمود عليها، فمن ابتلي فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه وحصل له مع ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 2، وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات. فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك". ا? ملخصا. قوله: "قال النبي صلي الله عليه وسلم: " إن عظم الجزاء " بكسر العين وفتح الظاء فيهما ويحتمل ضمهما مع سكون الظاء، قال ابن القيم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا صبر واحتسب، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها وهو ظاهر". قوله: " وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم "وفي الحديث: " سئل النبي صلي الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.. يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه. وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة "3 رواه الدارمي وابن ماجه والترمذي وصححه. قوله: " من رضي فله الرضى " أي من الله "ومن سخط فله السخط " كذلك.   1 رقم (2398) في الزهد: باب ما جاء في الصبر على البلاء، ورواه أيضا ابن ماجه رقم (4021) في الفتن: باب الصبر على البلاء من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -, واسناده حسن كما قال الألباني في " الأحاديث الصحيحة" رقم (146) . 2 سورة البقرة آية: 157. 3 الترمذي رقم (2400) في الزهد: باب ما جاء في الصبر على البلاء , وابن ماجه رقم (4023) في الفتن باب الصبر على البلاء، والدارمي رقم (2786) في الرقاق: باب في أشد الناس بلاء, وابن حبان رقم (699) " موارد" والحاكم 1/40 و 41، وأحمد 1/172 و 174 و 180 و 185 من حديث سعد بن أبي وقاص _ رضي الله عنه - وهو حديث صحيح كما قال الألباني في "الأحاديث الصحيحة" رقم (143) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فيه مسائل: الأولى: تفسير آية التغابن. الثانية: أن هذا من الإيمان بالله. الثالثة: الطعن في النسب. الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية. الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير. السادسة: إرادة الله به الشر. السابعة: علامة حب الله للعبد. الثامنة: تحريم السخط. التاسعة: ثواب الرضى بالبلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 36- باب ما جاء في الرياء وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ .............................................................................................................. قوله: "باب ما جاء في الرياء " - أي من النهي عنه والتحذير -. قوله: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1 أي ليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء، بل ذلك كله لله وحده لا شريك له أوحاه إلي {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} 2 ويخافه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 3. قال شيخ الإسلام: "أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن   1 سورة الكهف آية: 110. 2 سورة الكهف آية: 110. 3 سورة الكهف آية: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 1 وعن أبي هريرة مرفوعا: " قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه "رواه مسلم 2. .............................................................................................................. المعاينة وقالوا: لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة"، وذكر الأدلة على ذلك. قال ابن القيم في الآية: "أي كما أنه إله واحد لا إله إلا هو، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرد بالإلهية يجب أن ينفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة" اهـ. فتضمنت الآية النهي عن الشرك كله قليله وكثيره. قوله: "من عمل عملا أشرك فيه غيري " أي قصد بعمله غيري من المخلوقين "تركته وشركه " قال الطيبي: الضمير المنصوب في قوله: تركته يجوز أن يرجع إلى العمل. قال ابن رجب: واعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضا كحال المنافقين كما قال تعالى: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً} 3 وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في فرض الصدقة الواجبة أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها ; فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة. وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وذكر أحاديث تدل على ذلك منها هذا الحديث، وحديث شداد بن أوس مرفوعا: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، وإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، فمن أشرك بي شيئا فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني "4 رواه أحمد. قال الإمام أحمد فيمن يأخذ جعلا على الجهاد: إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه، فإن أعطي شيئا أخذه - ثم قال: وأما إذا كان أصل العمل لله ثم طرأ   1 سورة الكهف آية: 110. 2 حديث قدسي رواه مسلم رقم (2985) في الزهد والرقائق: باب من أشرك في عمله غير الله , وابن ماجه رقم (4202) في الزهد: باب الرياء والسمعة. 3 سورة النساء آية: 142. 4 أحمد في " المسند 4/126 وهو حديث ضعيف كما قال الألباني في "تخريح المشكاة" رقم (5331) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وعن أبي سعيد مرفوعا: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل " 1 رواه أحمد 2. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الكهف. الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله. الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك وهو كمال الغنى. الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء. الخامسة: خوف النبي صلي الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء. السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه ............................................................................................................ عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا؟ ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته الأولى وهو مروي عن الحسن وغيره. قوله: "عن أبي سعيد " هو الخدري وتقدم. قوله: "الشرك الخفي " سماه خفيا؛ لأنه عمل قلب لا يعلمه إلا الله، ولأن صاحبه يظهر أن عمله لله، وقد قصد غيره أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله. ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله وكذلك المتابعة. قال ابن القيم: "وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك.. ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا أكبر بحسب حال قائله ومقصده". اهـ.   1 ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30) . 2 في المسند 3/ 30 , وابن ماجه رقم (4204) في الزهد: باب الرياء والسمعة من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -, وهوحديث حسن كما قال الألباني فى "صحيح الجامع" رقم (2604) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 37 - باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا وقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} 1 الآيتين. ..................................................................................................... قوله: "باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا ". أراد المصنف - رحمه الله - بهذه الترجمة وما بعدها أن العمل لأجل الدنيا كالرياء في بطلان العمل إن استرسل معه، كمن يطلب العلم لتحصيل وظيفة التعليم، كحال أهل المدارس وأئمة المساجد والمجاهدين ونحوهم ممن يقصد بعمله الصالح أمر دنيا، وقد وقع ذلك كثيرا حتى أن منهم من يحرص على سفر الجهاد لما يحصل له فيه من جهة أمير الجيش واجتماعه به وأمره له ونهيه وقربه منه ونحو ذلك. قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الآيتين. قال ابن عباس: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" أي ثوابها "وزينتها" أي مالها "نوف" نوفر "إليهم" ثواب "أعمالهم" بالصحة والسرور في المال والأهل والولد "وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ" لا ينقصون ثم نسختها {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} 2 الآية. رواه البخاري في ناسخه. وأخرج ابن جرير بسنده المتصل عن شفي بن ماتع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إن الله - تبارك وتعالى - إذا كان يوم القيامة نزل ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل قد جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله تعالى للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب. قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول   1 سورة هود آية: 15 – 16. 2 سورة الإسراء آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 في " الصحيح " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة ......................................................................................................... الله: بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له: فبماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت. ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء وقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله صلي الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة "1. قوله: "في الصحيح " أي صحيح البخاري. قوله: "تعس " بكسر العين ويجوز الفتح أي سقط، والمراد هنا هلك، قاله الحافظ. وقال أبو السعادات. يقال: تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه، وهو دعاء عليه بالهلاك. قوله: " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم "سماه عبدا له لكونه هو المقصود بعمله فصار عبدا له؛ لأنه عبده بذلك العمل. قوله: " تعس عبد الخميصة " قال أبو السعادات: هي ثوب خز أو صوف معلم، و "الخميلة " بفتح الخاء المعجمة قال أبو السعادات: ذات الخمل، ثياب لها خمل من أي شيء كان، المراد كل ما كان من الدنيا نقدا أو عرضا؛ لأنه ذكر النوعين. قال أبو السعادات: أي انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة. قوله: " وإذا شيك فلا انتقش " أي إذا أصابته شوكة فلا يقدر على إخراجها بالمناقيش قاله أبو السعادات. قال شيخ الإسلام: "فسماه النبي صلي الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة، وذكر ما فيه وهو دعاء عليه بلفظ الخبر، وهو قوله: "تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش " وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه. وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه إن أعطي رضي، وإن منع سخط، فرضاه لغير الله وسخطه لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا برياسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضى وإن لم يحصل له   1 ورواه أيضا مسلم رقم (1905) في الإمارة: باب من قاتل للرياء والسمعة واستحق النار، ولالترمذي رقم (2383) في الزهد: باب ما جاء في الرياء والسمعة، والنسائي 6/23 و 24 في الجهاد: باب من قاتل ليقال: فلان جرئ، وأحمد في "المسند" 2/352. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع " 1. ...................................................................................................... سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له إذ الرق والعبودية في الحقيقة رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده، إلى أن قال: وهكذا أيضا حال من طلب المال فإن ذلك يستعبده ويسترقه وهذه الأمور نوعان: "فمنها " ما يحتاج إليه العبد كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، من غير أن يستعبده فيكون هلوعا، "ومنها " ما لا يحتاج إليه العبد فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه به، فإذا تعلق قلبه صار مستعبدا ومعتمدا على غير الله فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله، ولا حقيقة التوكل على الله، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غيره، وهذا أحق الناس بقوله صلي الله عليه وسلم: " تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة "وهذا هو عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياه رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، فهذا الذي استكمل الإيمان ". اهـ. ملخصا. قوله: " طوبى لعبد " رواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى قال: سمعت عبد الله بن لهيعة: حدثنا دراج أبو السمح: أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك. قال: " طوبى لمن رآني وآمن بي ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني قال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " 2 له   1 البخاري رقم (2886 و 2887) في الجهاد: باب الحراسة في الغزو وفي سبيل الله مطولا , ومختصرا رقم (6435) في الرقاق: باب ما يتقى من فتنة المال , ورواه أيضأ ابن ماجه مختصرا رقم (4135) و (4136) . 2 ابن حبان رقم (2302) "موارد" وأحمد في " المسند" 3/71 , ورواية دراج أبي السمح عن أبي الهيثم ضعيفة، والحديث صحيح بشواهد , كما قال الألباني في " الأحاديث الصحيحة" رقم (1241) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 شواهد في الصحيحين. وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه ها هنا أثرا غريبا عجيبا قال وهب: " إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، زهرها رياط، وورقها برود، وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور ووحلها مسك يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة فبينا هم في مجلسهم إذ أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة بسلاسل من ذهب، ووجوهها كالمصابيح من حسنها، ووبرها كخز المرعزى من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت، ودفوفها من ذهب، وثيابها من سندس وإستبرق فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه، قال: فيركبونها قال: فهي أسرع من الطائر وأوطأ من الفراش خبا من غير مهنة يسير الرجل إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه لا تصيب أذن راحلة منها أذن صاحبتها، ولا برك راحلة برك الأخرى حتى إن الشجرة لتتنحى عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه، قال فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام وحق لك الجلال والإكرام. قال: فيقول - تبارك وتعالى - عند ذلك: "أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي مرحبا بعبادي الذين خشوني بالغيب، وأطاعوا أمري" قال: فيقولون ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك فأذن لنا بالسجود قدامك، قال: فيقول الله: "إنها ليست دار عبادة ولا نصب، ولكنها دار ملك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة فسلوني ما شئتم فإن لكل رجل منكم أمنيته"، فيسألونه حتى إن أقصرهم أمنية ليقول: رب تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا، رب فآتني مثل كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا، فيقول الله تعالى: "لقد قصرت بك أمنيتك، ولقد سألت دون منزلتك، هذا لك مني؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا قصر يد" قال ثم يقول: "اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم التي في أنفسهم" فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة وليس في الجنة، لون إلا وهو فيها، ولا طيب إلا قد عبق بهما، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة، يرى مخهما من فوق كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى لهما مثل ذلك، ثم يدخل إليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه، ويقولان له: ما ظننا أن الله يخلق مثلك. ثم يأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الله الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له "اهـ. قوله: "أشعث " مجرورة بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للوصف ووزن الفعل ورأسه مرفوع على الفاعلية، وهو طائر الشعر أشغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالأدهان وتسريح الشعر. قوله: " مغبرة قدماه " هو بالجر صفة ثانية لعبد. قوله: " إن كان في الحراسة " أي حامية الجيش عن أن يهجم العدو عليهم. قولهم: " كان في الحراسة " أي غير مقصر فيها ولا غافل. قوله: " وإن كان في الساقة كان في الساقة " أي في مؤخرة الجيش يقلب نفسه في مصالح الجهاد وبما فيه حفظ المجاهدين من عدوهم. قال الخلخالي: "المعنى ائتماره لما أمر وإقامته حيث أقيم لا يفقد مكانه، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة". قوله: " إن استأذن لم يؤذن له " أي استأذن على الأمراء ونحوهم، لم يأذنوا له؛ لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة، لأنه ليس من طلابها، وإنما يطلب ما عند الله. قوله: " وإن شفع لم يشفع" يعني لو ألجأته الحال إلى أن يشفع له في أمر يحبه الله ورسوله، لم تقبل له شفاعة عند الأمراء ونحوهم. وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يصام نهارها ويقام ليلها "1 وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، وواعده الخروج وأنشدها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة. يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في ... أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت، لا يكذب قال: فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه. فقال:   1 رواه الطبراني في " الكبير " والبيهقي وصححه الحاكم 2/ 81 ووافقه الذهبي , وقال الألباني في ضعيف الجامع " رقم (2703) : حديث ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فيه مسائل: الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة. الثانية: تفسير آية هود. الثالثة: تسمية الإنسان المسلم: عبد الدينار والدرهم والخميصة. الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط. الخامسة: قوله: "تعس وانتكس". السادسة: قوله: "وإذا شيك فلا انتقش". السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات. ....................................................................................................... صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قلت: نعم. قال لي: اكتب هذا الحديث، " كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا " وأملى علي الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة " أن رجلا قال: يا رسول علمني عملا أنال به ثواب المجاهدبن في سبيل الله، فقال: "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ " فقال: يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلي الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهدين في سبيل الله، أما علمت أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك حسنات "1.   1 رواه بهذا اللفظ ابن عساكر في "تاريخه" 38/245 , 255 , من حديث محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة , قال: أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات فذكرها , وذكر الحديث كما هو هنا. ومحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة الحلبي , قال الحافظ في "اللسان": ربما أخطأ , ولم يوثقه غير ابن حبان، وذكره ابن كثير في آخر تفسير سورة آل عمران (1/447) ، وقد رواه أحمد في "مسنده" 2/344 بمعناه مختصرا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -, قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني عملا يعدل الجهاد , قال: لا أجده , قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدا فتقدم لا تفتر , وتصوم لا تفطر؟ قال: لا أستطيع ,قال: قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد يستن في طوله فيكتب له حسنات. ورواه البخاري (2633) , ومسلم (1878) ولفظه: قال أبو هريرة: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعوه قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلائا , كل ذلك يقول: لا تستطيعونه , وقال في الثالئة: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى. ورواه النسائي 6/19. وانظر "جامع الأ صول " 9 / 480-482. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 38- باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله " وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ; أقول: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! ". وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 أتدري ماالفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. ................................................................................................................... قوله: "باب من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله " فيه إشارة إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 2. قوله: "وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر ". قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: "أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد"، وقال الإمام مالك - رحمه الله تعالى -: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلي الله عليه وسلم". وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلي الله عليه وسلم". قوله: "وقال الإمام أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ". قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعا، ثم جعل يتلو {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وسفيان هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه وكان له أصحاب يأخذون عنه   1 سورة النور آية: 63. 2 سورة الأحزاب آية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 عن " عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 الآية فقلت له: إنا لسنا ..................................................................................................... ومذهبه مشهور، وقد عمت البلوى بهذا المنكر الذي أنكره الإمام أحمد خصوصا فيمن ينتسب إلى العلم والإفتاء والتدريس، وزعموا أنه لا يأخذ بأدلة الكتاب والسنة إلا المجتهد، والاجتهاد قد انقطع، وقد أخطئوا في ذلك، وقد استدل الإمام أحمد - رحمه الله – بقوله صلي الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"2 أن الاجتهاد لا ينقطع، وحكى ابن عبد البر الإجماع على أن المقلد لا يكون من أهل العلم، والأئمة لم يقصروا في البيان بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة. قال أبو حنيفة: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة - رضي الله عنهم - فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال. وقال: إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله تعالى، قيل: إذا كان قول رسول الله صلي الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر رسول الله صلي الله عليه وسلم. قيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة. وتقدم قول الإمامين مالك والشافعي. فعلى من اشتغل بمصنفات أهل مذهبه أن ينظر في أقوال المخالفين وما استدلوا به فيكون متبعا للدليل مع من كان معه وبالله التوفيق.   1 سورة التوبة آية: 31. 2 البخاري رقم (3640) في المناقب: باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية , ورقم (7311) في الاعتصام بالكتاب والسنة: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائقة من أمتي ظاهربن" ورقم (7459) في التوحيد: باب قول الله تعالى: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه) , ومسلم رقم (1921) في الإمارة: باب قوله صلى الله عليه وسلم: " لاتزال طائقة .... " من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، وفي الباب عن ثوبان ومعاوية وجابر وعقبة بن عامر وعمران بن حصين وعمر بن الخطاب وأبو هريرة وقرة بن إياس رضي الله عنهم 0 انظر: جامع الأصول الحديث رقم (1048) و (6776) و (6777) و (6778) و (6779) و (7496) و (7832) و (7917) و (8879) 0الأحاديث الصحيحة رقم (1952 - 1962) . قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. وقال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر , وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وزاهد وعابد. قال النووي في " شرح مسلم 13/66 - 67: "وأما هذه الطائفة فقال البخاري: هم أهل العلم وقال أحمد بن حنيل: إن لم يكونوا اهل الحديث فلا أدري من هم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 نعبدهم قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم "1 رواه أحمد، والترمذي وحسنه. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النور. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي. الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان. الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية. وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين. ........................................................................................................ قوله: عن عدي بن حاتم أي الطائي المشهور بالسخاء والكرم، قدم عدي على رسول الله صلي الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة فأسلم وعاش مائة وعشرين سنة، وقد أشار المصنف - رحمه الله تعالى - بترجمة الباب إلى هذا الحديث وما في معناه، وفيه دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله. قال شيخنا في المسائل: "فتغيرت الأحوال وآلت إلى هذه الغاية فصار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ويسمونها الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين". وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟. قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين. رواه الدارمي2. جعلنا الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون. فكم ضل من ضل، وزل من زل.   1 تقدم تخريجه ص (47) . 2 تقدم تخريجه ص (126) رقم (2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 39- باب " الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم " قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ..................................................................................................... قوله: "باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} 1 " الآية. قال العماد ابن كثير: والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ها هنا، وكل من عبد شيئا دون الله بأي نوع كان من أنواع العبادة كالدعاء والاستغاثة فإنما عبد الطاغوت، فإن كان المعبود صالحا كانت عبادة العابد له واقعة على الشيطان الذي أمره بعبادته وزينها له كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 2. وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} 3 والآية بعدها، وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه كالطواغيت، أو كان شجرا أو حجرا أو قبرا كاللات والعزى ومناة وغير ذلك، مما كان يتخذه المشركون لهم أصناما على صور الصالحين والملائكة أو غير ذلك فهي من الطاغوت الذي أمر الله عباده أن يكفروا بعبادته ويتبرءوا منه، ومن عبادة كل معبود سوى الله كائنا من كان، فالتوحيد هو الكفر بكل ما عبد من دون الله كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} الآية4، فلم يستثن من كل معبود إلا الذي فطره سبحانه وتعالى، هذا معنى لا إله إلا الله كما تقدم في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} 4 إلى قوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 5، وكذلك من خالف حكم الله ورسوله بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله أو مع الجهل بذلك، أو طلب ذلك أن يتبع عليه أو أطاعه فيما لا يعلم أنه حق إذا كان المطيع له لا يبالي أكان أمره حقا أم لا، فهو طاغوت بلا ريب كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا   1 سورة النساء آية: 60. 2 سورة سبأ آية: 40-41. 3 سورة يونس آية: 28-29. 4 سورة الممتحنة آية: 4. 5 سورة الممتحنة آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 1. وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} 2. وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 3 الآية. ..................................................................................................................... أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن قد نفى ما نفته لا إله إلا الله. قوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} أي بعيدا عن الهدى ففي هذه الآية أربعه أمور: "الأول " أنه من إرادة الشيطان. "الثاني " أنه ضلال. "الثالث " تأكيده بالمصدر "الرابع " وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى. فسبحان الله ما أعظم القرآن وما أنفعه لمن تدبره، وما أبلغه وما أدله على أنه كلام رب العالمين أوحاه إلى رسوله الكريم، وبلغه عبده الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 4، فإن المنافق يكره الحق وأهله ويهوى ما يخالفه من الباطل، وهذه حال أهل النفاق. قال العلامة ابن القيم: هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين - "قلت ": فما أكثرهم لا كثرهم الله - قال: و"يصدون" لازم وهو بمعنى يعرضون؛ لأن مصدره "صدودا" فما أكثر من اتصف بهذا الوصف خصوصا من يدعي العلم، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله إلى أقوال من يخطئ كثيرا ممن ينتسب إلى مذهب من مذاهب الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده فيما يخالف الدليل، فصار المتبع للرسول صلي الله عليه وسلم من أولئك غريبا، وقد عمت البلوى بهذا. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} . قال أبو العالية في الآية: يعني لا تعصوا في الأرض؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله. ومناسبة الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين، وهو من الفساد في الأرض، وفي الآية التنبيه على عدم الاغترار بأقوال أهل الأهواء وإن زخرفوها بالدعوى. قوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 5 قال أبو بكر بن عياش في الآية:   1 سورة النساء آية: 60. 2 سورة البقرة آية: 11. 3 سورة الأعراف آية: 56. 4 سورة النساء آية: 61. 5 سورة الأعراف آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 1 الآية. ..................................................................................................................... إن الله بعث محمدا صلي الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وهم في فساد، فأصلحهم الله بمحمد صلي الله عليه وسلم فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلي الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض. قال ابن القيم: "قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله، فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك، والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع ومتبع غير رسول الله صلي الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلي الله عليه وسلم فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع ولا طاعة، ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل فتنة في العالم وبلاء وشر وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله". انتهى. وبما ذكرنا يتبين مطابقة الآية للترجمة. قوله: "وقول الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الآية " قال ابن كثير: ينكر تعالى من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير والنهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات كما يحكم به التتار، من السياسات المأخوذة عن جنكيزخان الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام اقتبسه من شرائع شتى وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره، وصار في بنيه شرعا يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة، ومن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير. قوله: ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟ استفهام إنكار أي لا حكم أحسن من حكمه، وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك، أي ومن أعدل من الله حكما لمن عقل عن الله شرعه وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، العليم بمصالح عباده القادر على كل شيء الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.   1 سورة المائدة آية: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " 1. قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب " الحجة " بإسناد صحيح. ........................................................................................................... قوله: "عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "قال النووي: حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناده صحيح " هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في "كتاب الحجة على تارك المحجة " بإسناد صحيح كما قال المصنف عن النووي، ورواه الطبراني وأبو بكر ابن عاصم والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون في صحاح الأخبار. وشاهده في القرآن قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 3، وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} 4 ونحو هذه الآيات. قوله: "حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" الهوى بالقصر أي ما تهواه وتحبه نفسه، فإن كان الذي يحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعا لما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم لا يخرج عنه إلى ما يخالفه، فهذه صفة أهل الإيمان المطلق الذي يوجب لصاحبه الجنة والنجاة من النار، وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب فيطلق عليه مؤمن بقيد، لنقص إيمانه بالمعصية كما في حديث أبي هريرة: " لا يزني الزاني حين   1 تعقبه الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" ص 338 – 339 فقال: "تصحيح هذا الحديث بعيد جدا من وجوه: منها: أنه حديث ينفرد به نعيم بن حماد المروزي، ونعيم هذا وإن كان وثقه جماعة من الأئمة، وخرج له البخاري، فإن أئمة الحديث كانوا يحسنون به الظن لصلابته في السنة وتشدده في الرد على أهل الأهواء، وكانوا ينسبونه إلى أنه يتهم ويشبه عليه في بعض الأحاديث، فلما كثر عثورهم على مناكيره حكموا عليه بالضعف. - ونقل كلام الأئمة، ثم قال -: ومنها: أنه قد اختلف على نعيم في إسناده، فيروي عنه الثقفي عن هشام، وروي عنه عن الثقفي، حدثنا بعض مشيختنا، حدثنا هشام، أو غيره، وعلى هذه الرواية يكون الشيخ الثقفي غير معروف عنه. وروي عن الثقفي حدثنا بعض مشيختنا، حدثنا هشام أو غيره، فعلى هذه الرواية فالثقفي رواه عن شيخ مجهول، وشيخه رواه عن غير معين، فتزداد الجهالة في إسناده. 2 سورة النساء آية: 65. 3 سورة الأحزاب آية: 36. 4 سورة القصص آية: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "1 فيكون مسلما ومعه مطلق الإيمان   1 البخاري رقم (2475) في المظالم: باب النهي بغير إذن صاحبه , رقم (5578) في الأشربة , في فاتحته , رقم (6772) في الحدود: باب الزنا وشرب الخمر , ورقم (0 681) في المحاربين: باب إثم الزناة , ومسلم رقم (57) في الإيمان: باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية , وأبو داود رقم (4689) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه , والترمذي رقم (2627) في الإيمان: باب ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن , والنسائي 8/64 في السارق: باب تعظيم السرقة , وأحمد في " المسند" 2/243 و 317 و 376 و 386 و 479 , وابن ماجه رقم (3936) في الفتن: باب النهي عن النهبة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وفي الباب عن عبد الله بن مسعود , وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم. انظر " جامع الأصول " رقم (1927) و (9369) و (9370) . قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - في " شرحه على صحيح مسلم 2/41 – 42: "هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان , وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره , كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة , وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره , من قال: "لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق" , وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا إلى آخره , ثم قال لهم - صلى الله عليه وسلم -: فمن وفى منكم فأجره على الله , ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته , ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه. فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله - عز وجل -: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان , إن تابوا سقطت عقوبتهم وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا , وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة , وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه , ثم إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثير، وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهرا وجب الجمع بينهما , وقد وردا هنا فيجب الجمع وقد جمعنا , وتأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلا له مع علمه بورود الشرع بتحربمه , وقال الحسن وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري: معناه ينزع منه اسم المدح الذي يسمى به أولياء الله المومنين , ويستحق اسم الذم فيقال: سارق وزان وفاجر وفاسق , وحكي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن معناه ينزع منه نور الإيمان , وفيه حديث مرفوع , وقال المهلب: ينزع منه بصيرته في طاعة الله تعالى , وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاءت ولا يخاض في معناها وأنا لا نعلم معناها , وقال: أمروها كما أمرها من قبلكم , وقيل في معنى الحديث غير ما ذكرته مما ليس بظاهر بل بعضها غلط فتركتها، وهذه الأقوال التي ذكرتها في تأويله كلها محتملة، والصحيح في معنى الحديث ما قدمناه أولا والله أعلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وقال الشعبي: " كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة; فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد - لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة -، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود ; لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ ..... } 1 الآية ". ........................................................................ الذي لا يصح إسلامه إلا به، وهذا التوحيد الذي لا يشوبه شرك ولا كفر، وهذا هو الذي يذهب إليه أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة، فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة لا يطلقون عليه الإيمان، ويقولون بتخليده في النار وكلا الطائفتين ابتدع في الدين وترك ما دل عليه الكتاب والسنة. وقد قال تعالى: {ِإنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2 فقيد مغفرة ما دون الشرك بالمشيئة، وتواترت الأحاديث بما يحقق ما ذهب إليه أهل السنة، فقد أخرج البخاري وغيره عن أنس عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير " 3. قوله: "وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد؛ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود " إلخ. في قصة عمر وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق، وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي صلي الله عليه وسلم والأذى   1 سورة النساء آية: 60. 2 سورة النساء آية: 48. 3 قطعة من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - المطول في الشقاعة رواه البخاري رقم (44) في الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه , و (4476) و (6565) و (7410) و (7440) و (7509) و (7510) و (7516) , ومسلم رقم (193) في الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة منها , وابن ماجه رقم (4312) ، وأحمد في " المسند3/ 116 و 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلي الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول الله صلي الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت. الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} 1. الثالثة: تفسير آية الأعراف {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 2. الرابعة: تفسير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 3. الخامسة: ما قاله الشعبي في نزول الآية الأولى. السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب. السابعة: قصة عمر مع المنافق. الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم. ...................................................................................................... له والإظهار لعداوته فانتقض به عهده، وحل به قتله وقصة قتله مذكورة في كتب الأحاديث4 والسير وغيرها.   1 سورة البقرة آية: 11. 2 سورة الأعراف آية: 56. 3 سورة المائدة آية: 50. 4 البخاري رقم (2510) و (3031 و 3032) و (4037) في المغازي باب قتل كعب بن الأشرف ومسلم رقم (1801) ، في الجهاد: باب قتل كعب بن الأشرت طاغوت اليهود , وأبو داود رقم (2768) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 40 - باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 1 الآية. ..................................................................................................................... قوله "باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات. وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 2 الآية " سبب نزول الآية معلوم، وهو أن قريشا جحدوا اسم الرحمن عنادا. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3 فالرحمن اسمه وصفته، فالرحمة وصفه القائم به، فإذا كان المشركون جحدوا اسما من أسمائه الذي دل على كماله تعالى فجحدوا معناه كجحود لفظه، فإن الجهمية يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى، وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة، فلهذا كفرهم كثير من أهل السنة. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عنهم ... بل حكاه قبله الطبراني فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم من أهل الكلام على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسول الله صلي الله عليه وسلم من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنوا هذا التعطيل على أصل فاسد أصلوه من عند أنفسهم، ولم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم الفاسدة بخلقه ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات، فشبهوا أولا، وعطلوا ثانيا، وشبهوا ثالثا بكل ناقص أو معدوم، فتركوا ما دل عليه صريح الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4. وقد صنف أئمة السنة لما حدثت بدعة الجهمية مصنفات كثيرة في الرد عليهم كالإمام أحمد وابنه عبد الله والخلال وأبي بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وإمام الأئمة محمد بن خزيمة وأبي عثمان الصابوني وخلق من أئمة السنة لا يمكن حصرهم، وكذلك من بعدهم كأبي محمد موفق الدين وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومن في طبقتهم كالعماد ابن كثير والحافظ ابن الهادي وابن رجب والذهبي وغيرهم من أهل السنة والجماعة، وكتبهم مشهورة موجودة بين أهل السنة والجماعة، فلله الحمد على ظهور الحق ونشره والدعوة إليه والمحافظة عليه.   1 سورة الرعد آية: 30. 2 سورة الرعد آية: 30. 3 سورة الإسراء آية: 110. 4 سورة الشورى آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وفي "صحيح البخاري" قال علي: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟ "1. وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: أنه ..................................................................................................................... قوله: "قال علي: " حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ "" وهذا، - والله أعلم -، قاله حين كثر القصاص في خلافته وصاروا يذكرون أحاديث ليست من الأحاديث المعروفة، ولهذا كثر الوضع بهذا السبب، وغير المعروف يحتمل أن يكون فيه ما يصح وفيه ما لا يصح؛ فإذا سمعه من لم يعرفه أنكره وربما كان حقا فلا ينبغي التحديث إلا بما صح وثبت واشتهر عند المحدثين والفقهاء، وما ليس كذلك فلا ينبغي أن يحدث به لاحتمال أن يكون غير صحيح، وقد " كان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ينهى عن القصص؛ لما فيه من التساهل في النقل ويقول لا يقص إلا أمير أو مأمور ". قوله: "وروى عبد الرزاق " هو ابن همام الصنعاني المحدث، محدث اليمن صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيرا، ومعمر بفتح الميمين وسكون العين أبو عروة ابن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني من أصحاب محمد بن شهاب الزهري ويروي عنه كثيرا. قوله: "عن ابن طاوس " هو عبد الله بن طاوس اليماني، قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية. وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. قوله: "عن أبيه " هو طاوس بن كيسان الجندي بفتح الجيم والنون الإمام العالم، قيل: اسمه ذكوان قاله ابن الجوزي. "قلت " وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم، قال في تهذيب الكمال عن الوليد الموقري عن الزهري قال: " قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة، قال: من خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم   1 1/225 تعليقا في العلم: باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 رأى رجلا انتفض - لما سمع حديثا عن النبي صلي الله عليه وسلم في الصفات، استنكارا لذلك - فقال: " ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه" "1 انتهى. ..................................................................................................... من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قال: قلت: بالديانة والرواية. قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا، قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء، قال: إنه لينبغي ذلك، قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي، قال: قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل. قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن البصري، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: ويلك ومن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من العرب، قال: ويلك يا زهري فرجت عني والله لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قال: قلت: يا أمير المؤمنين إنما هو دين من حفظه ساد ومن ضيعه سقط ". قوله: "ما فرق هؤلاء " يستفهم من أصحابه يشير إلى أناس ممن يحضرون مجلسه، فإذا سمعوا شيئا من محكم القرآن حصل منهم فرق أي خوف، فإذا سمعوا شيئا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين للمعنى، ولا يتم الإيمان إلا بقبول اللفظ بمعناه الذي دل عليه ظاهرا، فإن لم يقبل معناه أو رده أو شك فيه لم يكن مؤمنا به فيكون هلاكا. وقد ظهر من البدع في زمن ابن عباس بدعة القدرية كما في صحيح مسلم وغيره، فقتل من دعاتهم غيلان، قتله هشام بن عبد الملك لما أصر على قوله بنفي القدر، ثم بعد ذلك أظهر الجعد ابن درهم بدعة الجهمية فقتل، قتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بعد صلاة العيد. قال الذهبي: حدثنا وكيع عن إسرائيل بحديث: "إذا جلس الرب على الكرسي" فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيع وقال: "أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها" أخرجه عبد الله في الرد على الجهمية، والواقع من أهل البدع   1 اسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ولما سمعت قريش رسول الله صلي الله عليه وسلم يذكر: "الرحمن " أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 1. فيه مسائل: الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات. الثانية: تفسير آية الرعد. الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع. الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمَّد المنكر. الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك، وأنه هلكة. ...................................................................................................... وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس، وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم2 وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها، وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة المراد، والتوفيق بين النصوص، والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضا، ورد المتشابه إلى المحكم، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه. قوله: "ولما سمعت قريش رسول الله صلي الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 3 الآية " روى ابن جرير عن ابن عباس قال: " كان النبي صلي الله عليه وسلم يدعو ساجدا يا رحمن يا رحيم فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى مثنى. فأنزل الله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ".   1 سورة الرعد آية: 30. 2 قال الأستاذ محمد رشيد رضا – رحمه الله -: "لا يعني فهم اللغة العربية؛ فإن الصحابة – رضي الله عنهم – لم يستذكروا شيئا من ذلك، ولم يروا أنهم في حاجة لسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم أهل اللغة، عرفوا آيات التنزيل فحالت عندهم دون حمل النصوص على التشبيه، فلم يشبهوا ولم يعطلوا، ولم يبتغوا الفتنة فيتأولوا". 3 سورة الرعد آية: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 41- باب "معرفة النعمة وإنكارها" قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} 1 قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي. وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا. وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا. وقال أبو العباس - بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: " إن الله تعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ... " الحديث، وقد تقدم - وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاح حاذقا، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير. ................................................................................................. قوله: "باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} الآية " قال ابن جرير: فإن أهل التأويل اختلفوا في المعني بالنعمة فذكر عن سفيان عن السدي " يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا "قال: محمد صلي الله عليه وسلم. وقال آخرون: بل ومعنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك، ولكنهم ينكرون ذلك فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم. وأخرج عن مجاهد {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} قال: هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها والسرابيل من الحديد والثياب، يعرف هذا كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا: هذا كان لآبائنا فورثونا إياه. قوله: "وقال عون بن عبد الله يقولون لولا فلان لم يكن كذا " عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله الكوفي الزاهد، عن أبيه وعائشة وابن عباس، وعنه قتادة وأبو الزبير والزهري، وثقه أحمد وابن معين. قال البخاري: مات بعد العشرين ومائة. واختار ابن جرير القول الأول، واختار غيره أن الآية تعم ما ذكره العلماء في معناها وهو الصواب. قوله: "وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا، ونحو   1 سورة النحل آية: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فيه مسائل: الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها. الثانية: معرفة أن هذا جارٍ على ألسنة كثير. الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة. الرابعة: اجتماع الضدين في القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 42- باب "الحلف بغير الله شرك" قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} 1. ..................................................................................................... ذلك مما هو جار على ألسنة كثير. اهـ. " وكلام شيخ الإسلام يدل على حكم هذه الآية عام فيمن نسب النعم إلى غير الله، وأسند أسبابها إلى غيره مما هو مذكور في كلام المفسرين المذكور بعضه هنا، وذلك من أنواع الشرك كما لا يخفى2. قوله: "باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الند المثل والنظير، وجعل الند لله هو صرف أنواع العبادة أو شيء منها لغير الله كحال عبدة الأوثان الذين يعتقدون فيمن دعوه ورجوه أنه ينفعهم ويدفع عنهم، ويشفع لهم، قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال العماد ابن كثير في تفسيره: قال أبو العالية: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال: عدلاء شركاء، وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد. وقال ابن عباس: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لا تشركوا بالله شيئا من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه ربكم لا يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم الرسول إليه من توحيده هو الحق   1 سورة البقرة آية: 22. 2 قال الأستاذ محمد رشيد رضا – رحمه الله تعالى -: "لا يعني عند من يعتقد أن الأسباب مؤثرة بذاتها لا بتسخير الله ونعمته، وأما من يعتقد أن هذه الأسباب سخر ها الله تعالى، ويشكره على ذلك، فلا يضر هذا اللفظ، وقد وصف الله الريح بالطيبة في قوله: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 قال ابن عباس في الآية: " الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلانا. هذا كله به شرك "رواه ابن أبي حاتم. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك "1 رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم. وقال ابن مسعود: " لأن أحلف بالله كاذبا أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقا "2 ........................................................................................................... الذي لا شك فيه. وقال مجاهد: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3 قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. قوله: "وعن ابن عباس في الآية: " الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل "" إلخ.. وهذا من ابن عباس تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعلى. قوله: "وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " يحتمل أن يكون شكا من الراوي، ويحتمل أن تكون "أو " بمعنى الواو فيكون قد كفر وأشرك ويكون من باب كفر دون كفر. قوله: وقال ابن مسعود: " لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره   1 الترمذي رقم (1535) في النذور والإيمان: باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله , وأبو داود رقم (3251) , وأحمد في " المسند "2/69 و 87 و 125 , صححه الحاكم 4/297 وابن حبان رقم (1127) من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -, وهو حديث صحيح كما قال الألباني في " الإرواء " رقم (2561) . 2 قال الهيثمي في " المجمع "4/177: رواه الطبراني في " الكبير" ورجاله رجال الصحيح , وهو حديث صحيح كما قال الألباني في الإرواء رقم (2562) . 3 سورة البقرة آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان " 1 رواه أبو داود بسند صحيح. وجاء عن إبراهيم النخعي أنه " يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان ". فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد. الثانية: أن الصحابة - رضي الله عنهم - يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر بأنها تعم الأصغر. ........................................................................................................... صادقا "ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذبا من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر كما تقدم. قوله: "وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان " وذلك لأن العطف بالواو يقتضي المساواة؛ لأنها في وضعها لمطلق الجمع بخلاف الفاء وثم، وتسوية المخلوق بالخالق بكل نوع من العبادة شرك، وهذا ونحوه من الشرك الأصغر. قوله: "وعن إبراهيم النخعي أنه " يكره أن يقول أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان " "إبراهيم هو النخعي، وهذا فيما يقدر عليه الحي الحاضر بخلاف من ليس كذلك ممن لا يسمع كلاما ولا يرد جوابا كالأموات والغائبين.   1 رواه أبو داود رقم (4980) في الأدب: باب لا يقال خبثت نفسي , وأحمد في " المسند" 5/384، والنسائي في " عمل اليوم والليلة" رقم (985) , وعنه ابن السني رقم (666) طبعة دار البيان بدمشق , وهو حديث صحيح. انظر " الأحاديث الصحيحة" رقم (137) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك. الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا، فهو أكبر من اليمين الغموس. الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 43- باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا تحلفوا بآبائكم، من حلف له بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض. ومن لم يرض فليس من الله "رواه ابن ماجه1 بسند حسن. فيه مسائل: الأولى: النهي عن الحلف بالآباء. ....................................................................................................... باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله قوله: "لا تحلفوا بآبائكم " تقدم أنه لا يجوز الحلف بغير الله في حق كل أحد. قوله: " من حلف بالله فليصدق "وهذا مما أوجبه الله على عباده قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 2 وقال: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} 3. قوله: " ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله "هذا من حق المسلم على المسلم أن يقبل منه إذا حلف له متعذرا، والحديث يدل على الوجوب، ومن حقه عليه أن يحسن به الظن إذا لم يتبين كذبه كما في الأثر عن عمر: "ولا تظننن بكلمة خرجت من أخيك شرا وأنت تجد لها في الخير محملا "، وهو من حسن الخلق ومكارم الأخلاق وكمال العقل وقوة الدين.   1 رقم (2101) في الكفارات باب من حلف له بالله فليرض، وهو حديث صحيح كما قال الألباني في" الإرواء" رقم (2698) . 2 سورة التوبة آية: 119. 3 سورة النحل آية: 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى. الثالثة: وعيد من لم يرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 44- باب قول ما شاء الله وشئت عن قتيلة " أن يهوديا أتى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلي الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت "1 رواه النسائي وصححه. ..................................................................................................... باب قول ما شاء الله وشئت قوله: "قتيلة " بمثناة، بنت صيفي الأنصارية صحابية مهاجرة لها حديث في سنن النسائي، وهو المذكور في الباب، ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي، وفيه قبول الحق ممن جاء به، وفيه بيان النهي عن الحلف بالكعبة وغيرها مع أنها بيت الله التي حجها وقصدها بالحج والعمرة فريضة، وأنت ترى ما وقع مما يخالف ذلك من الحلف بالكعبة ودعائها وكذا مقام إبراهيم، وقلّ من يسلم من هذا ممن يحج من أهل الآفاق وأهل مكة كما كان يفعل بغيرها، والكعبة عظمها الله بأن جعل حجها ركنا من استطاع، وشرع العبادة عندها، وخصها بالفضل، فالمشروع إنما هو الطواف بها والصلاة إليها لا الحلف بها ونحوه من الشرك في العبادة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 2   1 قال الألباني في الأحاديث الصحيحةرقم (136) : أخرجه الطحاوي في "المشكل" 1/357، والحاكم 4/297، والبيهقي 3/216، وأحمد 6/ 371- 372 من طريق المسعودي عن سعيد بن خالد عن عبد الله بن يسار عن قتيلة بنت صيفي امرأة من جهينة قالت: ... ، وقال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قلت (الألباني) : "المسعودي كان اختلط , لكن تابعه مسعر عن معبد بن خالد به , أخرجه النسائي 7/ 6 بإسناد صحيح , ولعبد الله بن يسار حديث آخر نحو هذا" اهـ. وانظر الأحاديث الصحيحة رقم (137) . 2 سورة البقرة آية: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وله أيضا عن ابن عباس: " أن رجلا قال للنبي صلي الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "1. ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قالت: "رأيت كأني أتيت على ....................................................................................................... قوله: "إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت " والعبد وإن كانت له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله كما قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2، وفي هذه الآية والحديث الرد على القدرية والمعتزلة نفاة القدر الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله من العبد وما شاءه، وقد قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 3، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 4. وفي الحديث: " أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة " 5 وهو في الصحيحين وغيرهما. قوله: "وله أيضا عن ابن عباس " أن رجلا قال للنبي صلي الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده ". هذا يبين ما تقدم من أن هذا شرك؛ لأن المعطوف بالواو يساوي المعطوف بالمعطوف عليه؛ لأن الواو وضعت لمطلق الجمع، فلا يجوز أن يجعل المخلوق مثل الخالق في شيء من الإلهية والربوبية ولو في أقل شيء كما تقدم في الرجلين اللذين قرب أحدهما ذبابا للصنم فدخل النار، وفيه أن النبي صلي الله عليه وسلم حَمَى حِمَى التوحيد وسد طرق الشرك في الأقوال والأعمال. قوله: "عن الطفيل " هو الطفيل بن عبد الله بن سخبرة أخو عائشة لأمها له حديث عند ابن ماجه وهو ما ذكره المصنف - رحمه الله تعالى - في الباب، وهذه الرؤيا حق أقرها   1 البخاري في " الأدب المفرد " رقم (787) , والنسائي في "عمل اليوم والليلة " رقم (988) ، وعنه ابن السني رقم (667) طبعة دار البيان بدمشق , بلفظ " أجعلتني لله عدلا", وأحمد في " المسند" 1/214 و 283 و 347 من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -, ورواه ابن ماجه رقم (2117) في الكفارات: باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت , بلفظ: "إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت , ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت" وهو حديث حسن , وروايته بلفظ: " أجعلتني لله ندا " من رواية ابن مردويه , والمعنى واحد. انظر " الأحاديث الصحيحة" رقم (129) . 2 سورة التكوير آية: 29. 3 سورة القمر آية: 49. 4 سورة الفرقان آية: 2. 5 أحمد في " المسند 5/317 , وأبو داود رقم (4700) في السنة: باب في القدر, والترمذي رقم (3316) في تفسير سورة (ن والقلم) , ورقم (2156) في القدر من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -. وهو حديث صحيح. ولم أجده في " الصحيحين " كما قال المصنف - رحمه الله تعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلي الله عليه وسلم فأخبرته. قال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد؛ فإن طفيلا رأى رؤيا، أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده " 1. .................................................................................................. رسول الله صلي الله عليه وسلم وعمل بمقتضاها فنهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله وحده. وقد بلغ صلي الله عليه وسلم البلاغ المبين وأنذر عن الشرك وحذر عن قليله وكثيره، فانظر إلى ما وقع من الشرك العظيم في هذه الأمة ينادون الميت من مسافة شهر أو شهرين أو أكثر، ويعتقدون فيه أنه ينفع ويضر ويسمع ويستجيب من تلك المسافة، وجعلوا الأموات شركاء لله في الملك والتدبير وعلم الغيب وغير ذلك من خصائص الربوبية، وتركوا نبيهم وما جاء به وقاله وما نهى عنه كأنهم لم يسمعوا كتابا ولا سنة، وقد بعثه الله بالنهي عن الشرك كما ترى، فما زال يدعو الناس إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له حتى أكمل الله لهم به الدين وأتم عليهم النعمة، لكن رجعوا من الكمال إلى الضلال ومن سبيل النجاة إلى سبيل الهلاك، وهذه وإن كانت رؤيا منام فقد أقرها رسول الله صلي الله عليه وسلم وأخبر أنها حق.   1 رواه ابن ماجه رقم (2118) في الكفارات: باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت من حديث الطفيل ابن سخبرة أخي عائشة لأمها , ومن حديث ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أن رجلا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلا من أهل الكتاب فقال: نعم القوم انتم لولا أنكم تشركون , تقولون ما شاء الله وشاء محمد , وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أما والله إن كنت لأعرفها لكم , قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد", وأحمد 393/5 من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. والدارمي رقم (2702) من حديث الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها , وهو حديث صحيح كما قال الألباني في " الأحاديث الصحيحة" رقم (137-138) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فيه مسائل: الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر. الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى. الثالثة: قوله صلي الله عليه وسلم " أجعلتني لله ندا؟ " فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العَمِمِ والبيتين بعده؟ : أنها قد تكون الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر، لقوله: يمنعني كذا وكذا. الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي. السادسة سببا لشرع بعض الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 45- باب من سب الدهر فقد آذى الله وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 1 الآية. في " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى: ....................................................................................................... قوله: "باب من سب الدهر فقد آذى الله. وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} . قال العماد ابن كثير في تفسيره: يخبر الله تعالى عن دهرية الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد، وقالوا: {مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} 2 أي ما ثم إلا هذه الدار يموت قوم ويعيش آخرون ولا ثم معاد ولا قيامة، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم وهم ينكرون البداءة والرجعة، ولهذا قال عنهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} قال سبحانه: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} 3 أي يتوهمون ويتخيلون. قوله: "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم   1 سورة الجاثية آية: 24. 2 سورة الجاثية آية: 24. 3 سورة الجاثية آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار ". وفي رواية: " لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر "1. فيه مسائل: الأولى: النهي عن سب الدهر. الثانية: تسميته أذى لله. .................................................................................................. يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار ". وفي رواية: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر "قال في شرح السنة: حديث متفق على صحته أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة قال: "ومعناه أن العرب كانت من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل، إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصفونها فنهوا عن سب الدهر"، انتهى باختصار. ونسبة الفعل إلى الدهر ومسبته كثيرة في أشعار المولدين كابن المعتز والمتنبي وغيرهما، وليس منه وصف السنين بالشدة لقوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} 2 الآية. قال بعض الشعراء: إن الليالي من الزمان مهولة ... تطوى وتنشر بينها الأعمار فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار وقال أبو تمام: أعوام وصل كاد ينسى طيبها ... ذكر النوى فكأنها أيام ثم انبرت أيام هجر أعقبت ... نحوي أسى فكأنها أعوام ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام   1 البخاري رقم (4826) في التفسير: تفسير سورة الجاثية , ورقم (6181) في الأدب: باب لا تسبوا الدهر , ورقم (7491) في التوحبد: باب قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) , ومسلم رقم (2246) (2) في الألقاظ من الأدب: باب النهي عن سب الدهر , وأحمد 2/238 و 272 , والرواية الثانية رواها مسلم رقم (2246) (5) في الألفاظ: باب النهي عن سب الدهر , وأحمد في المسند 2/395 و 491 و 496 و 499 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. 2 سورة يوسف آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الثالثة: التأمل في قوله: " فإن الله هو الدهر ". الرابعة: أنه قد يكون سابا ولو لم يقصده بقلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 46- باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه في " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إن أخنع اسم عند الله: رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله قال سفيان: مثل " شاه شاه". وفي رواية: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه "1 قوله: " أخنع " يعني أوضع. ................................................................................................. باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه قوله: في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله "؛ لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله فهو ملك الأملاك؛ لأنه هو الملك في الحقيقة له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، يتصرف في الملوك وغيرهم بمشيئته وإرادته كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} 2 الآية، فلا ينبغي أن يعظم المخلوق بما يشبه ما يعظم به الخالق جل وعلا، وما كان مثل ذلك فينهى عنه كالذي ترجم به المصنف ; لأنه لا يصدق هذا المعنى إلا على الله، فلا يصلح أن يسمى به المخلوق؛ لأن كل لفظ يقتضي التعظيم والكمال لا يكون إلا له تعالى وتقدس دون غيره. قوله: "قال أبو سفيان: مثل شاهان شاه " عند العجم عبارة عن ملك الأملاك ولهذا مثل به سفيان. قوله: "وفي رواية: أغيظ رجل على الله " أغيظ من الغيظ وهو مثل الغضب والبغض فيكون بغيضا إلى الله مغضوبا عليه، وهذا من الصفات التي تمر كما جاءت من غير تحريف ولا تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل والله أعلم.   1 البخاري رقم (6205 - 6206) في الأدب باب أبغض الأسماء إلى الله تعالى، ومسلم رقم (2143) في الآداب باب: تحريم التسمي بملك الأملاك وبملك الملوك , ورواه أبو داود رقم (4961) في الأدب باب: ما يكره من الاسماء، وأحمد في "المسند" 2/244. 2 سورة آل عمران آية: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فيه مسائل: الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك الثانية: أن ما في معناه مثله، كما قال سفيان. الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه. الرابعة: التفطن أن هذا لإجلال الله سبحانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 47- باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك عن أبي شريح: أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي:صلي الله عليه وسلم "إن الله هو ...................................................................................................... قوله: "وأخبثه " وهو يدل أيضا على أن هذا خبيث عند الله إذا رضي بذلك لتعظيم الناس له بما لا يستحقه وعدم إنكاره وكراهته لذلك. قوله: ""أخنع" يعني أوضع " وهذا المذكور ينافي كمال التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص فيكون فيه شائبة من الشرك وإن لم يكن أكبر. باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك قوله: "عن أبي شريح " هو الخزاعي اسمه خويلد بن عمرو، وأسلم يوم الفتح، له عشرون حديثا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث. وعنه أبو سعيد المقبري ونافع بن جبير وطائفة، قال ابن سعد: مات بالمدينة سنة ثمان وستين. قوله: "يكنى " الكنية ما صدر بأب أو أم ونحو ذلك كأبي محمد، واللقب ما ليس كذلك كزين العابدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الحكم وإليه الحكم، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح "1 رواه أبو داود وغيره. ...................................................................................................... وقوله صلي الله عليه وسلم: " " إن الله هو الحكم وإليه الحكم " أي هو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزله على أنبيائه ورسله، وما من قضية إلا وله فيها حكم مما أنزله على نبيه من الكتاب والحكمة لكن قد يخفى على المجتهد، فإن المجتهدين وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلا بد أن يكون المصيب فيهم واحدا، فمن رزقه الله قوة الفهم وأعطاه ملكة يقتدر بها على فهم الصواب من أقوال العلماء أدرك ما هو الصواب من ذلك. وقوله: "إليه الحكم " في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2. وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 3 الآية. فالحكم إلى الله هو الحكم إلى كتابه، والحكم إلى رسوله هو الحكم إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته. قوله: "فقال: " إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين "" والمعنى - والله أعلم - أن أبا شريح كان مرضيا عندهم يتحرى ما يصلحهم إذا اختلفوا، فيرضون صلحه فسموه حكما، وأما ما يحكم به الجهلة من الأعراب ونحوهم من سوالف آبائهم وأهوائهم فليس من هذا الباب لما فيه من النهي الشديد والخروج عن حكم الله ورسوله إلى ما يخالفه، كما قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 4، وهذا كثير فمن الناس من يحكم بين الخصمين برأيه وهواه، ومنهم من يتبع في ذلك سلفه ويحكم بما كانوا يحكمون به، وهذا كفر إذا استقر وغلب على من تصدى لذلك ممن يرجع الناس إليه إذا اختلفوا.   1 رواه أبو داود رقم (4955) في الأدب: باب في تغيير الاسم القبيح , والبخاري في " الأدب المفرد" (811) ، والنسائي 226/8 في آداب القضاء: باب إذا حكموا رجلا فقضى بينهم , والبيهقي 10/145 , والحاكم 4/ 279 , وإسناده جيد. الإرواء رقم (2615) . 2 سورة الشورى آية: 10. 3 سورة النساء آية: 59. 4 سورة المائدة آية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فيه مسائل: الأولى: احترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه. الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك. الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 48- باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول صلي الله عليه وسلم فهو كافر وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 1. عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة - دخل حديث بعضهم في بعض -: أنه " قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء - يعني رسول الله صلي الله عليه وسلم ...................................................................................................... قوله صلي الله عليه وسلم: " فما لك من الولد؟ قال: شريح ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال فأنت أبو شريح "2، فكناه بالكبير وهو السنة وغيّر كنيته بأبي الحكم؛ لأن الله هو الحكم على الإطلاق، ومنه تسمية الأئمة بالحكام، فينبغي ترك ذلك والنهي عنه لهذا الحديث، وهذا قد حدث في الناس قريبا. قوله: "باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول " أي فقد كفر "وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} الآية" قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره: "قال أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: " ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند   1 سورة التوبة آية: 65. 2 النسائي: آداب القضاة (5387) , وأبو داود: الأدب (4955) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وأصحابه القراء - فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلي الله عليه وسلم. فذهب عوف إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب، نقطع به عنا الطريق. فقال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله،صلي الله عليه وسلم وإن الحجارة تنكب رجليه - وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب - فيقول له رسول الله صلي الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} ما يلتفت إليه وما يزيده عليه ". فيه مسائل: الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا فهو كافر. الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان. الثالثة: الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله. ...................................................................................................... اللقاء" فرفع ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} ، فقال: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} إلى قوله "مجرمين"، وإن رجليه لينسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم، وهو متعلق بنسعة ناقة رسول الله صلي الله عليه وسلم ". قوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1 أي بهذا المقال الذي استهزأتم به {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} 2 أي لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم بأنهم كانوا مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة" انتهى. وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "وقد أمره الله أن يقول: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وقول من يقول: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال قد كفرتم بعد إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد: إنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم وهم مع خواصهم ما زالوا كذلك، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين" اهـ. وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به، وأشدها خطرا إرادات القلوب فهي كالبحر الذي لا ساحل له، ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم لأجله.   1 سورة التوبة آية: 66. 2 سورة التوبة آية: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الرابعة: الفرقة بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله. الخامسة: أن من الأعذار ما لا ينبغي أن يقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 49- باب "التحدث بنعمة الله تعالى وذم جحدها" ما جاء في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} 1 الآية. قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي. وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} . قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف. ...................................................................................................... قوله: "باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} الآية" ذكر المصنف - رحمه الله تعالى - عن ابن عباس وغيره من المفسرين في هذه الآية ما يكفي ويشفي في المعنى قال: " قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به، وقال ابن عباس: يريد من عندي ". وقوله: " {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 2 قال قتادة: ... " إلخ وليس ما ذكروه اختلافا وإنما هو أفراد المعنى. قوله: "وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا " الحديث. وهذا حديث عظيم يبين حال من كفر النعم وحال من شكرها، قال ابن القيم: "أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلا بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضا، ومن عرف   1 سورة فصلت آية: 50. 2 سورة القصص آية: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس، قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل - أو البقر - شك إسحاق، إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: البقر، قال: فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قذرني الناس قال: فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، أو الإبل، فأعطي بقرة حاملا قال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري ; فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدا ; فأنتج هذان وَوَلَّدَ هذا. قال: فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن ...................................................................................................... النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرضى به وعنه لم يشكرها أيضا، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي عنه واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها، فلا بد في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له"اهـ. قوله: "قذرني الناس به " أي بكراهة رؤيته وقربه منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا، فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. قال: أتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد على هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك " 1 أخرجاه. فيه مسائل: الأولى: تفسير الآية. الثانية: ما معنى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} 2.   1 البخاري رقم (3464) في أحاديث الأنبباء: باب حديث أبرص وأقرع وأعمى ورقم (6653) في الأيمان والنذور: باب لا يقول ما شاء الله وشئت , ومسلم رقم (2964) في الزهد والرقائق، وفي الحديث الحث على الرفق بالضعفاء وإكرامهم وتبليغهم ما يطلبون مما يمكن , والحذر من كسر قلوبهم واحتقارهم , وفيه التحدث بنعمة الله تعالى وذم جحدها. قال الحافظ في الفتح 6/503: "وفي الحديث جواز ذكر ما اتفق لمن مضى ليتعظ به من سمعه، ولا يكون ذلك عيبة فيهم , ولعل هذا هو السر في ترك تسميتهم , ولم يفصح بما اتفق لهم بعد ذلك، والذي يظهر أن الأمر فيهم وقع كما قال الملك. وفيه التحذير من كفران النعم والترغيب في شكرها والاعترات بها وحمد الله عليها 0 وفيه فضل الصدقة والحث على الرفق بالضعفاء وإكرامهم وتبليغهم مآربهم. وفيه الزجر عن البخل؛ لأنه حمل صاحبه على الكذب وعلى جحد نعمة الله تعالى" اهـ. 2 سورة فصلت آية: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الثالثة: ما معنى قوله {أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 1. الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.   1 سورة القصص آية: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 50- باب " تحريم كل اسم معبد لغير الله " قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 1 الآية. ...................................................................................................... قوله: "باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - في معنى هذه الآية: حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة " عن الحسن " عن سمرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لما ولدت حواء طاف بها إبليس - وكان لا يعيش لها - ولد فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره " 2 وقال ابن جرير: حدثنا ابن   1 سورة الأعراف آية: 190. 2 قال الألباني في الأحاديث الضعيفة " رقم (342) : "ضعيف: أخرجه الترمذي رقم (3079) ، والحاكم 2/ 2/545، وابن بشران في " الأمالي (2/158) ، وأحمد (5/ 11) وغيرهم من طريق عمر بن ابراهيم عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب مرفوعا. وقال الترمذي: " حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة" , وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قلت: وليس كما قالوا , فإن الحسن في سماعه من سمرة خلاف مشهور , ثم هو مدلس ولم يصرح من سمرة، وقال الذهبي في ترجمته من الميزان: " كان الحسن كثير التدليس , فإذا قال في حديث: " عن فلان ضعف احتجاجه. وما يبين ضعف هذا الحديث الذي فسر به قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما 000) الآية , وأن الحسن نفسه فسر الآية بغير ما في حديثه هذا , فلو كان عنده صحيحا مرفوعا لما عدل عنه , فقال في تفسيرها: كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم " , ذكر ذلك ابن كثير (2/274 - 275) من طرق عنه , ثم قال: وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن أنه فسر الآية , وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية. وانظر تمام كلامه فإنه نفيس , ونحوه في (التبيان في أقسام القرآن " (ص 264) لابن القيم" اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبَّد لغير الله، كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب. وعن ابن عباس في الآية قال: " لما تغشاها آدم حملت: فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيّل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن - يخوفهما - سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا. ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله، وأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا. ثم حملت فأتاهما فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} "1 رواه ابن أبي حاتم. ...................................................................................................... وكيع: حدثنا سهل بن يوسف عن عمر وعن الحسن {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} قال: كان هذا في بعض الملل ولم يكن بآدم ". وعن ابن عباس قال: " كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولادا فتعبدهم لله، وتسميه عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك فيصيبهم الموت، فأتاها إبليس وآدم فقال: أما إنكما لو تسمّيانه به لعاش فولدت رجلا فسمياه عبد الحارث ففيه أنزل الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إلى آخر الآية ". قوله: "قال ابن حزم " هو عالم الأندلس أبو محمد علي بن أحمد بن سعد بن حزم القرطبي الظاهري صاحب التصانيف توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة له اثنتان وسبعون سنة. "اتفقوا على تحريم كل اسم معبَّد لغير الله كعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب " قلت: وعبد المطلب هذا جد رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وما فوق عدنان مختلف فيه، ولا ريب أنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام. حكى - رحمه الله - اتفاق العلماء على تحريم كل ما عبد لغير الله؛ لأنه شرك في الربوبية والإلهية؛ لأن الخلق كلهم ملك   1 الترمذي رقم (3077) ، وأحمد في " المسند" 5/11، وصححه الحاكم 2/545 من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب مرفوعا , وهو حديث ضعيف اهـ. مختصرا عن الأحاديث الضعيفة للألباني رقم (342) . وانظر " تفسير ابن كثير " 2/ 274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته. وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: " {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} قال: أشفقا أن لا يكون إنسانا ". وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما. فيه مسائل: الأولى: تحريم كل اسم معبَّد لغير الله. الثانية: تفسير الآية. الثالثة: أن هذا الشرك في مجرده تسمية لم تقصد حقيقتها. الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم. الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة، والشرك في العبادة. ...................................................................................................... لله وعبيد له استعبدهم بعبادته وحده وتوحيده في ربوبيته وإلهيته، فمنهم من عبد الله وحده في ربوبيته وإلهيته، ومنهم من أشرك به في إلهيته وأقر له بربوبيته وأسمائه وصفاته، وأحكامه القدرية جارية عليهم ولا بد كما قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 1 فهذه العبودية العامة، وأما العبودية الخاصة فإنها تختص بأهل الإخلاص والطاعة كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 2 ونحوها. قوله: "حاشا عبد المطلب " هذا استثناء من العموم؛ لأنه ليس المقصود منه عبودية الرق، وإنما هو اسم علق به لما أتى به عمه المطلب من عند أخواله بني النجار من المدينة، وهو صبي فرأته قريش حين جاء به وقد تغير لونه من السفر فقالوا عبد المطلب، ثم تبين لهم أنه ابن أخيه هاشم فصارت العبودية في هذا الاسم لا حقيقة لها ولا قصد، لكن غلب عليه فصار لا يسمى إلا به، وإلا فاسمه في الأصل شيبة، وقد صار عبد المطلب معظما في قريش والعرب فهو سيد قريش وأشرفهم في جاهليته، وهو الذي حفر زمزم، وما جرى له في حفرها مذكور في السير وكتب الحديث وصارت السقاية له وفي ذريته. قال شيخنا في معنى قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 3 إن هذا الشرك بمجرد تسميته لم يقصدا حقيقته التي أرادها إبليس وهذا يزيل الإشكال، وهذا معنى قول قتادة "شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته ".   1 سورة مريم آية: 93. 2 سورة الزمر آية: 36. 3 سورة الأعراف آية: 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 51- باب "دعاء الله بأسمائه الحسنى وترك من عارض من الجاهلين الملحدين" قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1. ...................................................................................................... قوله: " باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} " الآية. أراد - رحمه الله تعالى - بهذه الترجمة الرد على من يتوسل بذوات الأموات، وأن المشروع هو التوسل بالأسماء والصفات والأعمال الصالحة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر "2 أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان. وأخرجه الجرجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بسنده مثله وزاد بعد قوله يحب الوتر: " هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواحد، الأحد، الماجد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المعطي، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور " 3.   1 سورة الأعراف آية: 180. 2 البخاري رقم (6410) في الدعوات: باب لله عز وجل مائة اسم غير واحد , ومسلم رقم (2677) في الذكر والدعاء: باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها. 3 الترمذي رقم (3502) ، وابن ماجه رقم (3861) من رواية الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا , وسنده ضعيف، قال الحافظ ابن كثير في " التقسير": "والذي عول عليه جماعة من الحفاط أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه , وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك , أي أنهم جمعوها من القرآن , كما روى جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبو زيد اللغوي والله أعلم". انظر " جامع الأصول رقم (2145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} : يشركون. وعنه: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. وعن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها. ...................................................................................................... ثم قال الترمذي ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء الحسنى إلا في هذا الحديث، والذي عند بعض الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج، هذا ما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره ثم قال: ليعلم أن الأسماء ليست منحصرة في تسعة وتسعين بدليل ما رواه أحمد عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري، وذهاب حزني وجلاء همي وغمي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحا، فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها " 1 2، وقد أخرجه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه. وقال قتادة في قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} قال: يشركون. وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: " الإلحاد: التكذيب ". قلت: والشرك تكذيب من المشرك لما أنزله الله في كتابه وبعث به رسوله كما جرى من قريش وغيرهم مع النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه، وكما جرى من المشركين من هذه الأمة فلم يأخذوا بالآيات المحكمات في تحريم الشرك والنهي عنه، بل كذبوا بالصدق واعتمدوا على الكذب على الله وعلى كتابه ورسوله.   1 أحمد (1/452) . 2 أحمد في المسند 1/391 و 452، وصححه ابن حبان رقم (2372) " موارد" وقال الحاكم 1/509: "حديث صحيح على شرط مسلم , إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فإنه مختلف في سماعه من ابيه" اهـ. وقد ثبت سماعه منه بشهادة جماعة من الأئمة. فالحديث صحيح كما قال الألباني في " الأحاديث الصحيحة" رقم (199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول من القصد والميل. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالإش ... راك والتعطيل والنكران وأسماء الرب تعالى كلها أسماء وأوصاف دلت على كماله جل وعلا، والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة متقدمهم ومتأخرهم إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلي الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه، فكما أنه يجب العلم بأن لله ذاتا حقيقة لا تشبه شيئا من ذوات المخلوقين، فله صفات حقيقة لا تشبه شيئا من صفات المخلوقين، فمن جحد شيئا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه فهو جهمي قد اتبع غير سبيل المؤمنين.. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: فائدة جليلة ما يجري صفة أو خبرا على الرب تعالى أقسام: أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات كقولك: ذات وموجود. الثاني: ما يرجع إلى صفات منعوتة كالعليم والقدير والسميع والبصير. الثالث: ما يرجع إلى أفعاله كالخالق والرازق. الرابع: التنزيه المحض ولا بد من تضمنه ثبوتا إذ لا كمال في العدم المحض، كالقدوس السلام. الخامس: ولم يذكره أكثر الناس وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا يختص بصفة معينة، بل دال على معان نحو المجيد العظيم الصمد، فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال ولفظه يدل على هذا، فإنه موضوع للسعة والكثرة والزيادة، فمنه استمجد المرخ والعقار، وأمجد الناقة: علفها. ومنه {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} 2 صفة للعرش لسعته وعظمته وشرفه، وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنا بطلب الصلاة من الله على رسوله كما علمنا صلي الله عليه وسلم؛ لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء وكثرته ودوامه، فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك   1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة البروج آية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فيه مسائل: الأولى: إثبات الأسماء. الثانية: كونها حسنى. الثالثة: الأمر بدعائه بها. الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين. الخامس:. تفسير الإلحاد فيها. السادسة: وعيد من ألحد. ...................................................................................................... أنت الغفور الرحيم فهو راجع إلى التوسل بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه، ومنه الحديث الذي في المسند والترمذي: " ألظوا بياذا الجلال والإكرام "1 ومنه: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام "2، فهذا سؤال له وتوسل إليه بأسمائه وصفاته فما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعا عند المسئول، وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد. السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد، الغفور القدير، الحميد المجيد. وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن؛ فإن الغنى صفة كمال والحمد كذلك، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غنائه وثناء من حمده وثناء من اجتماعهما، وكذلك الغفور القدير، والحميد المجيد، والعزيز الحكيم فتأمله فإنه من أشرف المعارف.   1 روي من حديث ربيعة بن عامر اخرجه أحمد 4/177، ورواه أيضا البخاري في "الكبير" 2/1/226، والحاكم 1/498 – 499، وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وروي من حديث أنس – رضي الله عنه -: أخرجه الترمذي رقم (3533) في الدعوات: باب رقم (92) وهو حدجيث صحيح كما قال الألباني في " الأحاديث الصحيحة" رقم (1536) . 2 تقدم تخريجه ص (45) رقم (1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 52- باب لا يقال السلام على الله في " الصحيح " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " كنا إذا كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام " 1. ...................................................................................................... باب لا يقال السلام على الله "في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " كنا إذا كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده " الحديث. هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم عن ابن مسعود، وفي هذا الحديث النهي عن ذلك، وقد " كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة المكتوبة استغفر ثلاثا وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام "2 وفي الحديث أن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى.3   1 البخاري رقم (835) في الأدان باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب , ومسلم رقم (402) (58) في الصلاة: باب التشهد في الصلاة , وأبو داود رقم (968) في الصلاة: باب التشهد , وابن ماجه رقم (899) في إقامة الصلاة: باب ما جاء في التشهد. وتتمة الحديث في البخاري: " ... ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته , السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين , فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء - أو بين السماء والأرض- أشهدأن لا إله إلا الله , وأشهد أن محمدأ عبده ورسوله , ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو". 2 مسلم رقم (591) في المساجد: باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته , وأبو داود رقم (1513) في الصلاة: باب مايقول الرجل إذا سلم، والترمذي رقم (300) فيه: باب ما يقول إذا سلم من الصلاة , والنسائي 3/68 في السهو: باب الاستغفار بعد التسليم , وفي عمل اليوم والليلة رقم (139) ، وابن ماجه رقم (928) في إقامة الصلاة: باب ما يقال بعد التسليم , والدارمي رقم (1355) في الصلاة: باب القول بعد السلام , وأحمد في " المسند" 5/275 و 279 من حديث ثوبان - رضي الله عنه -، ورواه مسلم (592) , وأبو داود (1512) ، والترمذي (298) , والنسائي 3/ 69 , وابن ماجه رقم (924) , والدارمي (1354) ، وأحمد 6/62 184 و 235 من حديث عائشة رضي الله عنها. 3 روى البخاري رقم (3326) في الأنبياء: باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته ورقم (6227) في الاستئذان: باب بدء السلام ومسلم رقم (2841) في الجنة: باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير , وأحمد 2/ 315 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "لما خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا , قال: اذهب فسلم على أولئك , لنفر من الملائكة جلوس , فاستمع إلى ما يحيونك , فإنها تحيتك وتحية ذريتك , فقال: السلام عليكم , فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه: ورحمة الله , فكل من يدخل الجنة على صورة آدم , قال: فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 فيه مسائل: الأولى: تفسير السلام. الثانية: أنه تحية. الثالثة: أنها لا تصلح لله. الرابعة: العلة في ذلك. الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله. ...................................................................................................... قوله: " فإن الله هو السلام " أي هو تعالى سالم من كل نقص ومن كل تمثيل فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل عيب ونقص. قال في "البدائع": السلام اسم مصدر، وهو من ألفاظ الدعاء يتضمن الإنشاء والإخبار، فجهة الخبرية فيه لا تناقض الجهة الإنشائية، وهو معنى السلام المطلوب عند التحية، وفيه قولان مشهوران: "الأول " أن السلام هنا هو الله عز وجل، ومعنى السلام: نزلت بركته عليكم ونحو هذا، فاختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء. "الثاني " أن السلام مصدر بمعنى السلامة وهو المطلوب المدعو به عند التحية، ومن حجة أصحاب هذا القول أنه يأتي منكرا فيقول المسلم: سلام عليكم، ولو كان اسما من أسماء الله لم يستعمل كذا. ومن حجتهم أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرا أو دعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 53- باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت في " الصحيح " عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يقل ........................................................................................................... قال - رحمه الله تعالى -: وفصل الخطاب أن يقال الحق في مجموع القولين، فكل منهما معه بعض الحق والصواب في مجموعهما، وإنما يتبين ذلك بقاعدة وهي أن حق من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يتوسل في كل مطلب، ويسأل بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله حتى إن الداعي متشفع إلى الله تعالى متوسل به إليه، فإذا قال: رب اغفر لي وتب عليّ إنك التواب الغفور، فقد سأله بأمرين وتوسل إليه باسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه، فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل أتى في لفظها بصيغة اسم من أسماء الله وهو السلام الذي تطلب منه السلامة، وهو مقصود المسلم، فقد تضمن سلام عليكم اسما من أسماء الله تعالى وطلب السلامة منه، فتأمل هذه الفائدة. وحقيقته البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه، فمن ذلك قولك: سلمك الله، ومن دعاء المؤمنين على الصراط: اللهم سلم سلم. ومنه سلم الشيء لفلان أي خلص له وحده كما قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} 1 أي خالصا له وحده لا يملكه معه غيره، ومنه السلم ضد الحرب؛ لأن كل واحد من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر، ولهذا بني فيه على المفاعلة فيقال المسالمة مثل المشاركة، ومنه القلب السليم وهو النقي من الدغل والعيب، وحقيقته الذي قد سلم الله وحده فخلص من دغل الشرك وغله ودغل الذنوب والمخالفات، بل هو المستقيم على صدق حبه وحسن معاملته، وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه والفوز بكرامته، ومنه أخذ الإسلام فإنه من هذه المادة؛ لأنه الاستسلام والانقياد له والتخلص من شوائب الشرك، فسلم لربه وخلص له كالعبد الذي سلم لمولاه ليس له فيه شركاء متشاكسون، ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه، وللمشرك به. باب قول اللهم اغفر لي إن شئت قوله: " لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت "الحديث، بخلاف العبد فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه أو لخوفه أو رجائه فيعطيه مسألته وهو كاره، فاللائق   1 سورة الزمر آية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 54- باب لا يقول: عبدي وأمتي في " الصحيح " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وَضِّئْ ربك، وليقل: سيدي ومولاي ولا يقل: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي " 1 2 ................................................................................................ قوله: "ولمسلم: " وليعظم الرغبة " في سؤاله ربه حاجته فإنه يعطي العظائم كرما وجودا وإحسانا " فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه " أي ليس ما أعطى عبده مما سأله عظيم عنده لكمال فضله وجوده، وقد قال بعض الشعراء في مخلوق يمدحه: وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم والله تعالى أحق بكل مدحة وثناء. باب لا يقول: عبدي وأمتي في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يقل أحدكم أطعم ربك "الحديث، هذه الألفاظ المنهي عنها وإن كانت تطلق لغة، فالنبي صلي الله عليه وسلم نهى عنها تحقيقا للتوحيد وسدا لذرائع الشرك؛ لما فيها من التشريك في اللفظ؛ لأن الله هو رب العباد جميعهم، فإذا أطلق على غيره ما يطلق عليه تعالى وقع الشبه في اللفظ، فينبغي أن يجتنب هذا اللفظ في حق المخلوق من ذلك، فأرشدهم صلي الله عليه وسلم إلى ما يقوم مقام هذا اللفظ وهو قوله: سيدي ومولاي، وكذلك قوله: " لا يقل أحدكم عبدي وأمتي "؛ لأن العبيد عبيد الله، والإماء إماء الله. قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 3 الآية.   1 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأحمد (2/316) . 2 رواه البخاري رقم (2552) في العتق: باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي أو أمتي، ومسلم رقم (2249) في الألفاظ من الأدب , وأبو داود رقم (4975- 4976) في الأدب: باب لا يقول المملوك: ربي وربتي , والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (241- 243) , وعنه ابن السني رقم (390) ، وأحمد في " المسند" 2/316. 3 سورة مريم آية: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فيه مسائل: الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي. الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك. الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي وفتاتي وغلامي. الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي. الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 55- باب لا يرد من سأل بالله عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن ...................................................................................................... باب لا يرد من سأل بالله ظاهر الحديث النهي عن رد السائل إذا سأل بالله، ويحتمل أن يكون المراد فيما لا مشقة على المسئول ولا ضرر، فيكون من باب مكارم الأخلاق ومعالي الشيم، وربما كان السائل محتاجا أو مضطرا فيجب أن يعطى ما سأله ويأثم المسئول في منعه، فيؤخذ من ماله أضعاف ما منع على وجه يكرهه، فباعتبار هذه الأمور ينبغي لمن أعطاه الله نعمة أن يؤدي حق الله فيها، ويعطي من سأله من فضول نعمة الله عليه خصوصا إذا سأل بالله تعالى فيكون إعطاؤه تعظيما لمن سأل به وهو الله تعالى. قوله: " من استعاذ بالله فأعيذوه "تعظيما لله تعالى وتقربا إليه بذلك. قوله: " ومن دعاكم فأجيبوه "هذا من حقوق المسلم على المسلم ومن أسباب الألفة وسلامة الصدر وإكرام الداعي. قوله: " ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه "أي ينبغي المكافأة على المعروف وهو من مكارم الأخلاق، وفيه السلامة من البخل وما يذم به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " 1 رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح. فيه مسائل: الأولى: إعاذة من استعاذ بالله. الثانية: إعطاء من سأل بالله. الثالثة: إجابة الدعوة. الرابعة: المكافأة على الصنيعة. الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه. السادسة: قوله: " حتى تروا أنكم قد كافأتموه ".   1 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الأدب (5109) , وأحمد (2/68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 56- باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة عن جابر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة "1 رواه أبو داود. .................................................................................................................. قوله: " فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له "فيه أن الدعاء يقوم مقام المكافأة في حق من لم يجد ما يكافئ به. قوله: "حتى تُرُوا " بضم التاء أي تظنوا، وفي رواية أبي نهيك عن ابن عباس: " من سألكم بوجه الله فأعطوه "2. باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ذكر فيه حديث جابر رواه أبو داود قال: "قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ".   1 أبو داود: الزكاة (1671) : باب كراهية المسألة بوجه الله عز وجل. وإسناده ضعيف. انظر: "تخريج المشكاة" للألباني رقم (1944) . 2 أبو داود: الأدب (5108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فيه مسائل: الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب. الثانية: إثبات صفة الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 باب ما جاء في "لو" ... 57- باب ما جاء في اللو وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 1. .................................................................................................... وهنا سؤال، وهو أنه قد ورد في دعاء النبي صلي الله عليه وسلم عند منصرفه من الطائف حين كذبته ثقيف دعا بالدعاء المأثور: " اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك أو ينزل بي سخطك، لك العقبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله " 2. والحديث المروي في الأذكار: " اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد "3 وفي آخره: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض "ونحوه في الأحاديث المرفوعة، فيحتمل أن هذا فيما يكرهه العبد لا فيما يحبه ويتمناه، ويحتمل غير هذا، والله أعلم. باب في ما جاء في اللو أي من الوعيد والنهي عنه عند الأمور المكروهة كالمصائب إذا جرى بها القدر ونحوها. وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 4 قاله بعض   1 سورة آل عمران آية: 154. 2 رواه ابن هشام في "السيرة " 1/ 420، وابن جرير في " تفسيره" 1/80 بغير سند , قال الزرقاني في " شرح المواهب اللدنية" 1/ 305: أورده ابن إسحاق في " السيرة" , ورواه الطبراني في كتاب " الدعاء" من حديث عبد الله بن جعفر , وقال: وهذا مرسل صحابي؛ لأنه ولد بالحبشة فلم يدرك ما حدث به. وقال الهيثمي في "المجمع" 6/35: وفيه ابن إسحاق وهو مدلس , وبقية رجاله ثقات. 3 البخاري: اللباس (5789) , ومسلم: اللباس والزينة (2088) , وأحمد (2/267 ,2/390 ,2/413 ,2/456 ,2/467 ,2/493) . 4 سورة آل عمران آية: 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} 1 الآية. في " الصحيح " عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان " 2. ................................................................................................ المنافقين يوم أحد لخوفهم وجزعهم وخورهم. قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: " لقد رأيتني مع رسول الله صلي الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره قال: فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} لقول معتب "رواه ابن أبي حاتم، وقال مجاهد عن جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي، يعني أنه هو الذي قال ذلك. قوله: "في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز " " الحديث، اختصر المصنف هذا الحديث وتمامه: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير "إلى آخره. قوله: " احرص على ما ينفعك "أي في دنياك وأخراك، وخص ما ينفع دون ما ليس كذلك مما فيه ضرر أو عدم نفع، وذلك لا يخرج عن الواجب والمستحب والمباح إذا كان نافعا. قوله: " واستعن بالله "؛ لأنه لا يحصل له ذلك إلا إذا كان مستعينا بالله. قوله: "ولا تعجز " نهاه عن العجز؛ لأنه مما يذم به عقلا وشرعا، فما أكثر ذلك في الناس، فكم فوت الإنسان على نفسه من الخير وهو يقدر عليه إذا رغب فيه واستعان بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قوله:   1 سورة آل عمران آية: 168. 2 رواه مسلم رقم (2664) في القدر: باب في الأمر بالقوة وترك العجز , والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله عز وجل , وأحمد في " المسند " 2/ 366 و 370 , وابن ماجه رقم (79) و (4618) قوله: "احرص على ما ينفعك " معناه احرص على طاعة الله تعالى والرغبة فيما عنده , واطلب الإعانة من الله على ذلك ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة ولا عن طلب الإعانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران. الثانية: النهي الصريح عن قول: لو، إذا أصابك شيء. الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان. الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن. الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله. السادسة: النهي عن ضد ذلك وهو العجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 58- باب النهي عن سب الريح عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، .................................................................................................... "وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله "1 لأن ما قدر يكون، فيجب الإيمان بالقدر والتسليم، وأرشده إلى أن يقول: "قدر الله" أي هذا قدر الله، والمبتدأ محذوف وتقديره "هذا قدر الله وما شاء فعل "؛ لأن أفعاله تعالى إنما تصدر عن حكمة وعلم وفضل وعدل {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} 2 قوله: " فإن لو تفتح عمل الشيطان "أي لما فيها من التأسف على ما فات والحزن فيأثم في ذلك وذلك من عمل الشيطان. باب النهي عن سب الريح عن أبي بن كعب أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الريح " الحديث. لأن الريح خلق من خلق الله مدبر، وإنما تهب بمشيئة الله وقدرته، فيرجع السب إلى من خلقها وسخرها، وأرشد النبي صلي الله عليه وسلم أمته إلى أن يقولوا ما ذكر في الحديث، وهو سؤاله تعالى خيرها وخير ما فيها والاستعاذة به من شرها وشر ما فيها، وقد شرع الله لعباده أن يسألوه ما ينفعهم ويستعيذوا به من شر ما يضرهم، وأن يكون ذلك منهم عبودية لله وحده وطاعة له وإيمانا به، وهذه حال أهل التوحيد والإيمان خلافا لحال أهل الشرك والبدع.   1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) , وأحمد (2/366 ,2/370) . 2 سورة الكهف آية: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به " 1 2 صححه الترمذي. فيه مسائل: الأول:. النهي عن سب الريح. الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره. الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة. الرابعة: أنه قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر.   1 الترمذي: الفتن (2252) , وأحمد (5/123) . 2 الترمذي رقم (2253) فى الفتن: باب ما جاء في النهي عن سب الريح , والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (719) , وأحمد في " المسند " 5/123، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (933- 934) ، وعنه ابن السني رقم (298) , وفي سنده حبيب بن أبي ثابت , وهو ثقه فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس وقد عنعنه , ولكن للحديث شواهد يقوى بها , لذا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح , وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وعثمان بن أبي العاص وأنس وجابر وابن عباس , فالحديث صحيح كما قال الألباني في " صحيح الجامع " رقم (7192) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 59 - باب "لا يظن بالله ظن السوء إلا المنافقون والمشركون، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته" قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 1 الآية. .................................................................................................... باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} وهذه الآية ذكرها الله تعالى في سياق قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ} 2 يعني أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله تعالى ينصر رسوله صلي الله عليه وسلم وينجز مأموله، ولهذا قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} 3 يعني   1 سورة آل عمران آية: 154. 2 سورة آل عمران آية: 154. 3 سورة آل عمران آية: 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} 1 الآية. قال ابن القيم في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة ............................................................................................................... لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} 2 كما قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} 3، وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة ظنوا أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأن لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل. وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره على الدين كله هذا هو ظن السوء {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 4. قوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} قال ابن جرير في تفسيره: {الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أي الظانين بالله أن لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، وأن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به، وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع. وقال ابن كثير: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أي يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} وهذا الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمه وحمده ووعده الصادق. فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذلك ظن الذين كفروا {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 5.   1 سورة الفتح آية: 6. 2 سورة آل عمران آية: 154. 3 سورة الفتح آية: 12. 4 سورة الفتح آية: 6. 5 سورة ص آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 "الفتح "، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 1، وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده. فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك: هل أنت سالم؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران. الثانية: تفسير آية الفتح. الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر. الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.   1 سورة ص آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 60- باب ما جاء في منكري القدر وقال ابن عمر: " والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر "ثم استدل بقول النبي صلي الله عليه وسلم: " الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " 1 رواه مسلم. ............................................................................................ قوله: "باب ما جاء في منكري القدر " أي من الوعيد قوله: "قال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده " حديث ابن عمر هذا أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن " يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميدي حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق الله لنا عبد الله بن عمر داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلي الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، ثم قال يا محمد أخبرني عن الإسلام، قال: الإسلام؟ أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"قال:   1 رقم (8) في الإيمان: باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان , وأبو داود رقم (4695) في السنة: باب في القدر , والترمذي رقم (2613) في الإيمان: باب ما جاء في وصف جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان , والنسائي 8/97 في الإيمان: باب نعت الإسلام , وابن ماجه رقم (63) : باب في الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: " يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني! سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني "1. وفي رواية لأحمد: " إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " 2. وفي رواية لابن وهب قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار ". ............................................................................................... صدقت، قال فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال فانطلق فلبثنا مليا ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: إنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم " 3. قوله: "عن عبادة بن الصامت " حديثه هذا رواه أبو داود، ورواه الإمام أحمد بكماله. قال: حدثنا الحسن بن سوار، حدثنا ليث عن معاوية عن أيوب بن زياد، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة، حدثني أبي قال: " دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، قال: أجلسوني ثم قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه وكيف أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: أن تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار "رواه الترمذي بسنده المتصل إلى عطاء بن أبي رباح، وفي هذا الحديث بيان   1 تقدم تخريجه ص () رقم () . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3319) , وأحمد (5/317) . 3 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/52 ,2/107) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وفي " المسند " و " السنن " عن ابن الديلمي قال: "أتيت أبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار، قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلي الله عليه وسلم "1 حديث صحيح رواه الحاكم في " صحيحه " 2. ....................................................................................................... شمول علم الله وإحاطته بما كان ويكون، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} 3 الآية، والآيات في إثبات القدر كثيرة، وقد استدل العلماء على ثبات القدر بشمول القدرة والعلم كما في الآية. قال الإمام أحمد: القدر قدرة الرحمن. وقال بعض الأئمة في نفاة القدر: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. قوله: "وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي " أبو بسر بالسين المهملة والباء المضمومة، ويقال أبو بشر بالشين المعجمة وكسر الباء، وبعضهم صحح الأول، واسمه عبد الله بن أبي فيروز، ولفظ أبي داود قال: " لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار. فأتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت زيد بن ثابت، قال: فحدثني عن النبي صلي الله عليه وسلم مثل ذلك " وأخرجه ابن ماجه.   1 المسند 5/182 - 183 و 185 و 189، وأبو داود رقم (4699) في السنة: باب في القدر , وابن ماجه رقم (77) في المقدمة: باب في القدر , وابن حبان رقم (1817) "موارد", وهو حديث صحيح كما قال الألباني في " صحيح ابن ماجه" رقم (62) . 2 الحذاق من المحدثين لا يطلقون لفظ الصحيح على " المستدرك" لكثرة الأحاديث الضعيفة والمنكرة الواقعة فيه , وإنما يقولون: أخرجه الحاكم في " مستدركه. 3 سورة الطلاق آية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فيه مسائل: الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر. الثانية: بيان كيفية الإيمان به. الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به. الرابعة. الإخبار بأن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به. الخامسة: ذكر أول ما خلق الله. السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة. السابعة: براءته صلي الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به. الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء. التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل عنه الشبهة، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 61- باب ما جاء في المصورين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة "1 أخرجاه. .............................................................................................. وهذه الأحاديث وما في معناها حجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم، ومن مذهبهم تخليد أهل المعاصي في النار، وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم البدع، وكثير منهم وافقوا الجهمية في نفي صفات الرب تعالى وتقدس. قوله: "باب ما جاء في المصورين "، أي من الوعيد، وقد ذكر النبي صلي الله عليه وسلم العلة،   1 البخاري رقم (5953) في اللباس: باب نقض الصور, ورقم (7559) في التوحيد: باب قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) ، ومسلم رقم (2111) في اللباس والزينة: باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة , وأحمد في " المسند" 2/232 و 259 و 391 و 451 و 527. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 و " لهما " عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله "1. و" لهما " عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة نفس يعذب بها في جهنم " 2. و" لهما " عنه مرفوعا: " من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ " 3. ولمسلم عن أبي الهياج قال: " " قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني ..................................................................................................... وهي المضاهاة بخلق الله ; لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فلا يجوز أن يشبه بشيء من خلقه سبحانه لما فيه من المضاهاة بخلق الله. قوله: "ولمسلم عن أبي الهياج "، أبو الهياج هو الأسدي حيان بن حصين. و "علي " هو أمير المؤمنين. قوله: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته ".   1 البخاري رقم (2479) في المظالم: باب هل تكسر الدنان التي فيها خمر , ورقم (5954- و5955) في اللباس: باب ما وطئ من التصاوير , ورقم (5961) باب من لم يدخل بيتا فيه صورة , ومسلم رقم (2107) (91) في اللباس: باب تحريم صورة الحيوان , و"الموطأ" 2/996 في الاستئذان: باب ما جاء في الصور والتصاوير , والنسائي 8/213 في الزينة: باب التصاوير , وباب ذكر أشد الناس عذابا , وأحمد في " المسند" 6/36 و 83 و 219. 2 البخاري رقم (2225) في البيوع: باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح , ورقم (5963) في اللباس: باب من صور صورة كلف يوم القيامة أن ينفخ وما هو بنافخ , ورقم (7042) في التعبير: باب من كذب في حلمه , ومسلم رقم (2110) في اللباس والزينة: باب تحريم تصوير الحيوان وأحمد في " المسند" 1/308 والنسائي 8/ 215 في الزينة: باب ذكر ما يكلف أصحاب الصور يوم القيامة. 3 البخاري رقم (5963) في اللباس: باب من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، ومسلم رقم (2110) (100) في اللباس والزينة: باب تحريم تصوير الحيوان , والترمذي رقم (1751) في اللباس: باب ما جاء في المصورين , وأحمد في "المسند" 1/216 و 241 و 246 من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته"1. فيه مسائل: الأولى: التغليظ الشديد في المصورين. الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله لقوله: " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ". الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم، لقوله: " فليخلقوا ذرة أو شعيرة". الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابا. الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة صورها نفسا يعذب بها في جهنم. السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح. السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت. ..................................................................................................................... فهذا ما صح عن النبي صلي الله عليه وسلم من إنكار هذه الأمور وإزالتها: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 2 فأكثروا التصوير واستعملوه وأكثروا البناء على القبور وزخرفوها وجعلوها أوثانا. وزعموه دينا وهو أعظم المنكرات وأكبر السيئات، تعظيما للأموات وغُلوا، وعبادة لغير الله بأنواع العبادة التي هي حق الله على عباده. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "ومن جمع بين سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم في القبور وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهم مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا".   1 مسلم رقم (969) في الجنائز: باب الأمر بتسوية القبر , وأبو داود رقم (3218) في الجنائز: باب في تسوية القبر , والترمذي رقم (1049) في الجنائز: باب ما جاء في تسوية القبور , والنسائي 4/88 و 89 في الجنائز: باب تسوية القبور إذا رفعت , وأحمد في " المسند" 1/96 و 129 من حديث علي رضي الله عنه. 2 سورة البقرة آية: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 62- باب ما جاء في كثرة الحلف وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب " 2 أخرجاه. وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله ...................................................................................................... قوله: "باب ما جاء في كثرة الحلف "، أي من النهي عنه والوعيد. قوله: "وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} قال ابن جرير: أي لا تتركوها بغير تكفير، وذكر غيره عن ابن عباس: يريد لا تحلفوا. وقال آخرون: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} عن الحنث، فلا تحنثوا. والمعنى يعم القولين. قوله: "عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه " 3 رواه الطبراني بسند صحيح. "أخرجاه ". أي البخاري ومسلم وخرجه أبو داود والنسائي. والمعنى أنه قد يحلف على ثمن السلعة بزيادة على ما اشتريت به أو سميت به، فيأخذها المشتري لظنه أنه صدق. وهذا وإن كان فيه زيادة فهو يمحق البركة، كما جاء في الحديث، والواقع يشهد بصحته، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب. قوله: "وعن سلمان " وسلمان لعله سلمان الفارسي أبو عبد الله، أسلم مقدم   1 سورة المائدة آية: 89. 2 البخاري رقم (2087) في البيوع: باب يمحق الله الربا ويربي الصدقات , ومسلم رقم (1606) في المساقاة: باب النهي عن الحلف في البيع , وأبو داود رقم (3335) في البيوع والإجارات: باب كراهية اليمين في البيع، والنسائي 7/ 246 في البيوع: باب المنقق سلعته بالحلف الكاذب. قوله: "للكسب" في البخاري: "للبركة"، وفي مسلم: "للربح". قوله: " منفقة للسلعة": أي سبب لنفاق المتاع ورواجها في ظن الحالف. قوله: " ممحقة للربح" أي سبب لمحق البركة وذهابها , إما بتلف يلحقه في ماله , أو بإنفاقه في غير ما يعود نفعه إليه في العاجل , أو ثوابه في الآجل. 3 رواه الطبراني في "الكبير" والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث سلمان - رضي الله عنه -, وهو حديث صحيح , ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/78، وقال: رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله رجال الصحيح. انظر" صحيح الجامع" رقم (3067) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه "3 رواه الطبراني بسند صحيح. ............................................................................................................ النبي صلي الله عليه وسلم المدينة وشهد الخندق، روى عنه أبو عثمان النهدي وشرحبيل بن السمط وغيرهما، قال النبي صلي الله عليه وسلم " سلمان منا أهل البيت "1. "إن الله يحب من أصحابي أربعة: عليا وأبا ذر وسلمان والمقداد "2 أخرجه الترمذي. توفي سلمان في خلافة عثمان، ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي. قوله: " لا يكلمهم الله " هذا وعيد شديد في حقهم؛ لأنه قد تواتر أنه يكلم أهل الإيمان ويكلمونه في عرصات القيامة، والأدلة على ذلك في الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه، وفيه الرد على الجهمية والأشاعرة نفاة الكلام. قوله: {وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3 وهذا من تمام العقوبة عليهم وفي هذا الوعيد الشديد ما يزجر من له عقل عن هذه الأعمال السيئة ونحوها. قوله: " أشيمط زان " صغره تحقيرا له وذلك لأن داعي المعصية ضعف حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا محبته المعصية والفجور وعدم خشيته لله، وكذلك العائل المستكبر ليس له ما يحمله على الكبر، فدل على أنه خلق له فعظمت العقوبة في حقه لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي. قوله: " ورجل جعل الله بضاعته "بنصب الاسم الشريف يعني اليمين بالله عز وجل جعله بضاعة له لكثرة استعماله.   1 رواه الطبراني في " الكبير"، والحاكم 3/598 من طريق ابن أبي فديك عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده , وقال الذهبي: سنده ضعيف. وقال الألباني في " ضعيف الجامع": رقم (3272) : ضعيف جدا. 2 الترمذي رقم (3720) في المناقب: باب مناقب علي وقال: هذا حديث حسن غريب , وأحمد 5/351، وابن ماجه (149) في المقدمة: باب فضل سلمان وأبي ذر , وصححه الحاكم 3/130 وقال: صحيح على شرط مسلم , وتعقبه الذهبي فقال: ما خرج مسلم لأبي ربيعة. فالحديث ضعيف. 3 سورة البقرة آية: 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وفي " الصحيح " عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا؟ - ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن "1. ......................................................................................................... قوله: "وفي الصحيح " أي صحيح مسلم وخرجه أبو داود والترمذي ورواه البخاري بلفظ "خيركم". قوله: " خير أمتي قرني "لكثرة الخير فيهم وقلة الشر، وشدة الإنكار على من خالف الحق وابتدع كالخوارج والقدرية والجهمية ونحوهم " ثم الذين يلونهم " فُضِّلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة العلم والعلماء، وأما القرن الثالث فظهرت فيهم البدع لكن أنكرها العلماء، وتصدى كثير منهم لإنكارها والرد على من قالها وهم كثيرون. قوله: "فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا " هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين، ثم ذكر ما وقع بعد الثلاثة من الجفاء في الدين وكثرة الأهواء فقال: " ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون "لاستخفافهم بأمر الشهادة، وعدم تحريهم الصدق وكذلك لقلة دينهم وضعف إسلامهم. قوله: "ويخونون ولا يؤتمنون " يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو   1 البخاري رقم (2651) في الشهادات: باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد , ورقم (3650) في فضائل أصحاب النبي: باب فضائل أصحاب النبي , ورقم (6428) في الرقاق: باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها , ورقم (6695) في الأيمان والنذور: باب إثم من لا يفي بالنذر، ومسلم رقم (2535) في فضائل الصحابة: باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، والترمذي رقم (2222) في الفتن: باب ما جاء في القرن الثالث , ورقم (2303) في الشهادات: باب خير القرون , وأبو داود رقم (4657) في السنة: باب فضل أصحاب رسول الله , والنسائي 7/17 و 18 في الأيمان والنذور: باب الوفاء بالنذر , وأحمد في " المسند" 4/426 و 427 و 436 و 440 من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. وفي الباب عن ابن مسعود وعمر بن الخطاب والنعمان بن بشير وبريدة الأسلمي رضي الله عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 "وفيه" عن ابن مسعود أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته "1. ....................................................................................................... أكثرهم. " وينذرون ولا يوفون " أي لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم وعدم إيمانهم. قوله: " ويظهر فيهم السمن " لرغبتهم في الدنيا وشهواتها، وقلة الإيمان باليوم الآخر، وفي حديث أنس: " لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم "2 قال أنس: سمعته من نبيكم صلي الله عليه وسلم، فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر فيهم الشرك والبدع في كثير منهم، حتى فيمن انتسب إلى العلم ويتصدر للتعليم والتصنيف، فحدث التفرق والاختلاف في الدين، وحدث الغلو في أهل البيت من بني بويه في المشرق لما كان لهم دولة، وبنوا المساجد على القبور وغلوا في أربابها، وظهرت دولة القرامطة، وظهر فيهم الكفر والإلحاد في شرائع الدين، ومذهبهم معروف، وظهر فيهم من البدع ما يطول عَدُّه، وكثر الاختلاف والخوض في أصول الدين، وما زال أهل السنة على الحق، ولكن كثرت البدع والأهواء حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير. قوله: "وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم " الحديث. في هذا الحديث أن خير القرون ثلاثة من غير شك. قوله: "ثم يجيء قوم " إلخ. وذلك لضعف الإيمان والرغبة في الدنيا، وأخذها بالقلوب وكثرة المعاصي والذنوب.   1 البخاري رقم (2652) في الشهادات: باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد , ورقم (3651) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رقم (6429) في الرقاق: باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها ورقم (6658) في الأيمان والنذور: باب إذا قال: أشهد بالله أو شهدت بالله , ومسلم رقم (2533) في فضائل الصحابة: باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم , والترمذي رقم (3858) في المناقب: باب ماجاء في فضل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم. 2 البخاري رقم (7068) في الفتن: باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه , والترمذي رقم (2207) في الفتن: باب رقم (35) , وأحمد في المسند3/132 و 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار. فيه مسائل: الأولى: الوصية بحفظ الأيمان. الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة. الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه. الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي. الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون. السادسة: ثناؤه صلي الله عليه وسلم على القرون الثلاثة، أو الأربعة، وذكر ما يحدث بعدهم. السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون. الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 63- باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلي الله عليه وسلم وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 1 الآية. ........................................................................................................ قوله: "وقال إبراهيم: " كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار " هكذا حال السلف الصالح محافظة منهم على الدين الذي أكرمهم الله به، فلا يتركون شيئا مما يكره إلا أنكروه، وفيه تمرين الصغار على دينهم بالتعليم. قوله: "باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} الآية ". قال العماد ابن كثير: وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان، ولهذا قال: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} . قوله: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع.   1 سورة النحل آية: 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 عن بريدة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، فقال: " اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن ......................................................................................................... قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 1 تهديد ووعيد. قوله: عن "بريدة" هو ابن الحصيب الأسلمي، وهذا الحديث من رواية ابنه سلمان عنه. قوله: " " كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله تعالى " فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم. قال الحربي: السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها، والجيش: ما كان أكثر من ذلك. وتقوى الله: التحرز من عقوبته بطاعته. قوله: "ومن معه من المسلمين خيرا " أي ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيرا من الرفق بهم والإحسان إليهم وخفض الجناح لهم وترك التعاظم عليهم. قوله: " اغزوا باسم الله " أي اشرعوا في الغزو مستعينين بالله مخلصين له، فتكون الباء في بسم الله للاستعانة بالله والتوكل عليه هنا. قوله: " قاتلوا من كفر بالله " هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين من أهل الكتاب وغيرهم، واستثنى منهم من له عهد، وكذلك الذراري والأولاد والنساء والرهبان فلا يقتلون. قوله: " ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا "الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2 والغدر: نقض العهد. والتمثيل هنا: التشويه بالقتل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به. قوله: " وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - "الرواية بأو التي هي للشك والمعنى واحد. قوله: " فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم " منصوب بأجابوا.   1 سورة النحل آية: 91. 2 سورة آل عمران آية: 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها أخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ........................................................................................................ قوله: " ثم ادعهم إلى الإسلام" كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم ثم ادعهم بزيادة ثم. قوله: " ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين "يعني المدينة إذ ذاك، وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن وهو في بلد الشرك، وكذلك إذا ظهرت المعاصي في بلدة، نص عليه الفقهاء في كتبهم. قوله: "فإن هم أبوا أن يتحولوا منها" يعني أن من أسلم ولم يجاهد ولم يهاجر من البداوة لم يعط من الخمس ولا من الفيء شيء. قوله: " فإن هم أبوا فاسألهم الجزية " فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر عربيا كان أو غيره، كتابيا كان أو غيره. وقد اختلف في القدر المفروض من الجزية، فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الوَرِق، وقال الشافعي: دينار على الغني والفقير، وقال أبو حنيفة: على الغني ثمانية وأربعون درهما، والوسط أربعة وعشرون درهما، والفقير اثنا عشر درهما، وهو قول أحمد بن حنبل، وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين دون غيرهم، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لا ممن نأى بداره، ويجب تحويل النائي إلى بلاد المسلمين أو حربهم. قوله: " وإذا حاصرت أهل حصن " إلى آخره. فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول: إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، وهو المعروف من مذهب مالك وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟ " 1 رواه مسلم.2. فيه مسائل: الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه صلي الله عليه وسلم وذمة المسلمين. الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا. الثالثة: قوله: " اغزوا بسم الله في سبيل الله ". الرابعة: قوله: "قاتلوا من كفر بالله". الخامسة: قوله: "استعن بالله" وحكم العلماء. السابعة: كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا. ........................................................................................................... قوله: " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه " الذمة: العهد، وتخفر: تنقض، يقال: أخفرت الرجل: نقضت عهده، وخفرته: أجرته؛ لأنه لا يؤمن على من أعطى ذمة أن يخفرها، فخفر ذمته أهون من أن يخفر ذمة الله تعالى.   1 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2612 ,2613) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) , والدارمي: السير (2439) . 2 رقم (1731) في الجهاد باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، وأبو داود رقم (2612) و (2613) في الجهاد باب في دعاء المشركين , والترمذي رقم (1617) في السير. باب ما جاء في وصيته صلى الله عليه وسلم في القتال , ورقم (1408) في الديات: باب ما جاء في النهي عن المثلة، والدارمي رقم (2447) في السير: باب في الدعوة الى الإسلام قبل القتال , وابن ماجه رقم (4858) في الجهاد. باب وصية الإمام , وأحمد في " المسند " 5/ 352 و 358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 64- باب ما جاء في الإقسام على الله عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: ومن ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك "رواه مسلم 1. وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته. ........................................................................................................... قوله: "باب ما جاء في الإقسام على الله "، ذكر المصنف فيه حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم الحديث. قوله: " يتألى " أي يحلف، والألية بالتشديد: الحلف، وصح من حديث أبي هريرة. ورواه أبو داود عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة. فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما أو على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار "2. قوله: "وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد " يشير إلى قوله في هذا الحديث: "إن أحدهما مجتهد في العبادة"، وفيه معنى قوله صلي الله عليه وسلم " إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه "3.   1 رقم (2621) في البر والصلة والآداب باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى. 2 أحمد في المسند 2/323 و 363 , وأبو داود رقم (4901) في الأدب: باب في النهي عن البغي وإسناده حسن. 3 الترمذي رقم (2320) في الزهد: باب في قلة الكلام، والموطأ 2/985 في الكلام: باب ما يؤمر به من التحفظ في الكلام , وأحمد في " المسند" 3/469 , وابن ماجه رقم (3969) في الفتن: باب كف اللسان من الفتنة , وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح , وهو كما قال. انظر: " الأحاديث الصحيحة " رقم (888) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فيه مسائل: الأولى: التحذير من التألي على الله. الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله. الثالثة: أن الجنة مثل ذلك. الرابعة: فيه شاهد لقوله ": إن الرجل ليتكلم بالكلمة" إلخ. الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 65- باب لا يستشفع بالله على خلقه عن جبير بن مطعم قال: " جاء أعرابي إلى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: سبحان الله سبحان الله! فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال النبي صلي الله عليه وسلم ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله ........................................................................................................... قوله: "باب لا يستشفع بالله على خلقه ". وذكر الحديث، وسياق أبي داود أتم مما ذكره المصنف ولفظه: عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: " أتى النبي صلي الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس وضاع العيال ونهكت الأموال، فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، فقال النبي صلي الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلي الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته كهكذا، وقال بإصبعه مثل القبة، وإنه لئط به أطيط الرحل بالراكب "قال ابن يسار في حديثه: " الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته ". قوله: "ويحك كلمة تقال للزجر ". قوله: " أتدري ما الله " فيه إشارة إلى قلة علمه بعظمة الله وجلاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 على أحد من خلقه " وذكر الحديث. رواه أبو داود 1. فيه مسائل: الأولى: إنكاره على من قال: نستشفع بالله عليه. الثانية: تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة. الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: " نستشفع بك على الله ". الرابعة: التنبيه على تفسير " سبحان الله". الخامسة: أن المسلمين يسألونه الاستسقاء.   1 رقم (4726) في السنة باب في الجهمية , وإسناده ضعيف، كما قال الألباني في " ضعيف الجامع " رقم (6150) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 66- باب ما جاء في حماية النبي صلي الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك عن عبد الله بن الشِّخِّير، قال: " انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلي الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا ........................................................................................................... قوله: " إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه "؛ لأن الأمر كله بيده تعالى ليس في يد المخلوق منه شيء، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع تعالى وتقدس، وفي هذا الحديث الرد على الجهمية وإثبات العلو، وهذا الحديث رواه أبو داود ورضيه على عادته فيما كان عنده صحيحا أو حسنا وسكت عليه، وأما الاستشفاع بالرسول في حياته، فإنما هو بدعائه صلي الله عليه وسلم ودعاؤه مستجاب، وأما بعد وفاته فلا يجوز الاستشفاع به كما تقدم تقريره في باب الشفاعة وما قبله، والله تعالى نهى عن اتخاذ الشفعاء في مواضع كثيرة من القرآن، ونفاها في حق من سألها من غير الله. قوله: "باب ما جاء في حماية النبي صلي الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك " حمايته صلي الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان " رواه أبو داود بسند جيد 1. وعن أنس رضي الله عنه " أن ناسا قالوا: يا رسول الله! يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس! قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ........................................................................................................... وقد اشتمل هذا الكتاب - على اختصاره - على أكثر ذلك، والنهي عما ينافي التوحيد أو يضعفه، يعرف ذلك من تدبره وعرف ما تضمنه بابا بابا. قوله في حديث أنس: " أن ناسا قالوا يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا "الحديث، كره ذلك لئلا يكون وسيلة إلى الغلو فيه والإطراء كما تقدم في قوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله "2 وهذا من كمال نصحه للأمة وشفقته عليهم، حذرهم مما يكون ذريعة إلى الغلو فيه. وقوله: " أنا محمد عبد الله ورسوله " فأعلى مراتب العبد هاتان الصفتان العبودية الخاصة والرسالة، وللنبي صلي الله عليه وسلم أكملها، وقد أخبر تعالى أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر أمته أن يصلوا عليه، وأثنى عليه بأحسن ثناء وأبلغه، وشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، فلا يذكر في الأذان والتشهد والخطب، إلا ذكر معه صلوات الله وسلامه عليه. وأما إطلاق السيد فقد ذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى - في بدائع الفوائد ما نصه: "اختلف العلماء في جواز إطلاق السيد على البشر فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي صلي الله عليه وسلم لما قيل له: أنت سيدنا، فقال: "السيد الله". وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلي الله عليه وسلم للأنصار: " قوموا إلى سيدكم" 3 وهذا أصح من الحديث الأول.   1 رقم (4806) في الأدب: باب في كراهية التمادح , وأحمد في " المسند " 4/25، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (245- 247) , وابن السني رقم (387) , وإسناده صحيح. 2 تقدم تخريجه ص (107) . 3 البخاري رقم (3043) في الجهاد: باب إذا نزل العدو على حكم رجل، وفي كتب أخرى، ومسلم رقم (1768) فيه: باب جواز قتل من نقض العهد، وأبو داود رقم (5215 – 5216) من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل " 1 رواه النسائي بسند جيد 2. فيه مسائل: الأولى: تحذير الناس من الغلو. الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا. الثالثة: قوله: "ولا يستجرينكم الشيطان" مع أنهم لم يقولوا إلا الحق. الرابعة: قوله: " ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي ".   1 أحمد (3/249) . 2 النسائي في " عمل اليوم والليلة رقم (248 و 249) ، وأحمد في المسند 3/153 و 241 وهو حديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 67- باب ما جاء في قول الله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1 الآية. ........................................................................................................... قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي: سيد كندة. ولا يقال للملك: سيد البشر، قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة الملك والمولى والرب لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق"، انتهى. "قلت ": فقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في معنى قول الله تعالى: " اللَّهُ الصَّمَدُ: إنه السيد الذي كمل فيه جميع أنواع السؤدد "2. وقال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده. قوله: "باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3 الآية. أي من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية. قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته. قال السدي: ما عظموه حق   1 سورة الزمر آية: 67. 2 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) . 3 سورة الأنعام آية: 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك النبي صلي الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلي الله عليه وسلم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآية ". وفي رواية لمسلم: " والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله ". وفي رواية للبخاري: " يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع "1 أخرجاه. ...................................................................................................... عظمته. وقال محمد بن كعب: " لو قدروه حق قدره ما كذبوه ". وقد وردت أحاديث كثيرة تتعلق بهذه الآية. الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. قوله: "عن ابن مسعود قال: " جاء حبر من الأحبار إلى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع " الحديث. وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به، وقال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثنا الليث: حدثني عبد الرحمن بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "2 تفرد به من هذا الوجه.   1 البخاري رقم (4811) في تفسير سورة الزمر: باب قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) , ورقم (7414- 7415) في التوحيد: باب قول الله تعالى: (لما خلقت بيدي) , ورقم (7451) : باب قوله تعالى: (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) , ورقم (7513) : باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم , ومسلم رقم (2786) في صفات المنافقين: باب صفة القيامة والجنة والنار , وأحمد في "المسند" 1/457، والترمذي رقم (3239) في تفسير سورة الزمر. 2 أبو داود: السنة (4604) , وأحمد (4/130) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ولمسلم1 عن ابن عمر مرفوعا: " يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " 2. وروي عن ابن عباس، قال: " ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم ". وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس "3 قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض ". ................................................................................................ قوله: "ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: " يطوي الله عز وجل السماوات، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " كذا في رواية مسلم قال الحميدي: وهي أتم. قلت: وهذه الأحاديث وما في معناها - وهي كثيرة جدا - تدل على عظمة الله وكماله وعظيم قدرته، وفيها الرد على الجهمية والأشاعرة ونحوهم أيضا، وكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله يدل على كماله وعظمته وجلاله، وأن العبادة لا تصلح إلا له سبحانه وبحمده، لا يصلح منها شيء لملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا لمن دونهما. قال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم   1 رقم (2788) في صفات المنافقين. 2 البخاري: التوحيد (7413) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2788) , وابن ماجه: المقدمة (198) والزهد (4275) , وأحمد (2/87) . 3 لقد ثبت في المرفوع عن أبي ذر الغفاري عن ابن جرير , وابن أبي شيبة , والبيهقي في " الأسماء والصفات بلفظ: " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة.. " انظر الأحاديث الصحيحة رقم (109) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وعن ابن مسعود قال: " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ". أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله. ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله. قال الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى -: قال: وله طرق. ............................................................................................................. وكلام الصحابة والتابعين، وكلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السماوات مستو على عرشه، وذكر ما يدل على ذلك من الكتاب والسنة. وقال الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة. وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله مستو على عرشه بذاته ذكره الذهبي في كتاب العلو. وقال أبو عمر الطلمنكي في هذا الكتاب أيضا: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه بالحقيقة لا على المجاز، ثم قال في هذا الكتاب: أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1 ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء. هذا لفظه في كتابه، وقال الحافظ الذهبي: وأول مقالة سمعت مقالة من أنكر أن الله تعالى فوق العرش هو الجعد بن درهم، وكذلك أنكر جميع الصفات، فقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة، وأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية فأظهرها واحتج لها بالشبهات، وكان ذلك في آخر عصر التابعين، فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي وأبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك ومن بعدهم من أئمة الهدى كالإمام أحمد وخلق من أهل السنة". قال الإمام الشافعي: "لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2 "اهـ من فتح الباري. قوله: "وعن العباس بن عبد المطلب" ساقه المصنف مختصرا والذي في سنن أبي   1 سورة الحديد آية: 4. 2 سورة الشورى آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم " 1 أخرجه أبو داود وغيره. .......................................................................................................... داود عن العباس بن عبد المطلب قال: " كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب قال: والمزن قالوا: والمزن قال: والعنان قالوا: والعنان، قال أبو داود: ولم أتقن العنان جدا قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة أو ثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك - حتى عدد سبع سماوات - ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك "2. قال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه: " بعد ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام "قال: ولا منافاة بينهما؛ لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد. "قلت ": وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما، مع ما يدل عليه صريح القرآن، فلا عبرة بقول من ضعفه. وقد ابتدأ المصنِّف - رحمه الله تعالى - هذا المصنَّف العظيم ببيان توحيد الإلهية؛ لأن أكثر الأمة ممن تأخر قد جهلوا هذا التوحيد، وأتوا بما ينافيه من الشرك والتنديد، فقام ببيان   1 رواه أبو داود رقم (4723) و (4724) و (4725) في السنة: باب في الجهمية , والترمذي رقم (331) في تفسير سورة الحاقة , وابن ماجه رقم (193) في المقدمة: باب فيما أنكرت الجهمية , وأحمد في " المسند" 1/206 و207 من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه , وفي سنده عبد الله بن عميرة , قال الذهبي في "الميزان": فيه جهالة. 2 البخاري: الصلاة (393) , والترمذي: الإيمان (2608) , والنسائي: تحريم الدم (3967) والإيمان وشرائعه (5003) , وأبو داود: الجهاد (2641) , وأحمد (3/224) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1 الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلي الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها. الثالثة: أن الحبر لما ذكرها للنبي صلي الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك. الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلي الله عليه وسلم عند ذكر الحبر هذا العلم العظيم. .................................................................................................................. التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونهوهم عما كانوا عليه من الشرك المنافي لهذا التوحيد. فالدعوة إلى ذلك هي أهم الأمور وأوجبها لمن وفقه الله لفهمه، وأعطاه القدرة على الدعوة إليه والجهاد لمن حالفه ممن أشرك بالله في عبادته، فقرر هذا التوحيد، كما ترى في هذه الأبواب، ثم ختم كتابه بتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن أكثر العامة لم يكن لهم التفات إلى هذا العلم الذي خاض فيه من ينتسب إلى العلم، وأما من ينتسب إلى العلم فهم أخذوا عمن خاض في هذه العلوم، وأحسنوا الظن بأهل الكلام، وظنوا أنهم على شيء، فقبلوا ما وجدوه عنهم، فقرروا مذهب الجهمية، وألحدوا في توحيد الأسماء والصفات، وخالفوا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة، وأئمة الحديث والتفسير من المتقدمين. وما زال أهل السنة متمسكين بذلك، لكنهم قلوا فهدى الله هذا الإمام إلى معرفة أنواع التوحيد، فقررها بأدلتها، فلله الحمد على توفيقه وهدايته إلى الحق حين اشتدت غربة الإسلام، فضلّ عنه من ضل من أهل القرى والأمصار وغيرهم، وبالله التوفيق. فقد اجتمع في هذا المصنف أنواع التوحيد الثلاثة التي أشار إليها العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - بقوله: والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان علم بأوصاف الإله وفعله ... كذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.   1 سورة الزمر آية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الخامسة: التصريح بذكر اليدين: وأن السماوات في اليد اليمنى، والأرضين في اليد الأخرى. السادسة: التصريح بتسميتها الشمال. السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك. الثامنة: قوله: "كخردلة في كف أحدكم ". التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماوات العاشرة. عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي. الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء. الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء. الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي. الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء. الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء. السادسة عشرة: أن الله فوق العرش. السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض. الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة. التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات بين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة سنة. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا. تم الكتاب وقد كتب في آخره ما نصه: تم نسخ ذلك في رجب سنة 1345 بلغ مقابلة وتصحيحا على المشايخ الكرام: الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله المنقري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له " ولمسلم: " وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه "1 فيه مسائل: الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء. الثانية: بيان العلة في ذلك. الثالثة: قوله: " ليعزم المسألة". الرابعة: إعظام الرغبة. الخامسة: التعليل لهذا الأمر. ........................................................................................................... بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول مسألته على مشيئة المسئول مخافة أن يعطيه وهو كاره بخلاف رب العالمين، فإنه يعطي عبده ما أراده بفضله وكرمه وإحسانه، فالأدب مع الله أن لا يعلق مسألته لربه بشيء لسعة فضله وإحسانه وجوده وكرمه، وفي الحديث: " ليعزم المسألة "، وفي الحديث: " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار "الحديث.2   1 البخاري رقم (6339) في الدعوات: باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له , ورقم (7477) في التوحيد: باب في المشيئة والإرادة , ومسلم رقم (2679) في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار بلفظ: " لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني ان شئت , ليعزم في الدعاء, فإن الله صانع ما شاء لا مكره له"، وأبو داود رقم (1483) في الصلاة: باب الدعاء , والترمذي رقم (2679) في الصلاة: الذكر والدعاء: باب العزم بالدعاء , وأحمد في المسند 2/243 و318 و463 و464، وابن ماجه رقم (3854) . 2 البخاري رقم (4684) في تفسير سورة هود: باب قوله تعالى: (وكان عرشه على الماء) , ورقم (5352) في النفقات: باب فضل النفقة على الأهل , ورقم (7411) في التوحيد: باب قول الله تعالى: لما خلقت بيدي) , ورقم (7419) باب: (وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم) , ورقم (7496) : باب قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) , ومسلم رقم (993) (36) و (37) في الزكاة: باب الحث على النققة وتبشير المنفق بالخلف , وأحمد في المسند2/313 - 500 و 501 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332