الكتاب: فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد المؤلف: حامد بن محمد بن حسين بن محسن المحقق: بكر بن عبد الله أبو زيد الناشر: دار المؤيد الطبعة: الأولى 1417هـ /1996م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد حامد بن محسن الكتاب: فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد المؤلف: حامد بن محمد بن حسين بن محسن المحقق: بكر بن عبد الله أبو زيد الناشر: دار المؤيد الطبعة: الأولى 1417هـ /1996م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة التحقيق: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى صحابته ومن اهتدى بهداه أما بعد: فإن الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، المتوفى سنة 256 -رحمه الله تعالى- قد بادر في صحيحه: "الجامع الصحيح" إلى عقد كتاب فيه باسم: "كتاب التوحيد" أي توحيد العبادة، فجمع فيه أصول هذا الباب، وقفاه أئمة هذا الشأن، حتى إذا كان في القرن السابع الهجري، وفاتحة القرن الثامن قيض الله أبا العباس، تقي الدين، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية النميري المتوفى سنة 728 –رحمه الله تعالى- فبذل جهدا مباركا في هذا الباب، فقرر مسائل التوحيد، أتم التقرير، ونفض عنه غبار الوثنيين، والقبوريين، والمتصوفة، وأغاليط الجاهلين، وقفاه تلامذته من بعده، وفي مقدمتهم تلميذه صاحب التصانيف المفيدة أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 -رحمه الله تعالى- وكان على الجادة الإسلامية الصافية أئمة حفاظ منهم: ابن عبد الهادي، والذهبي، وابن كثير، وابن رجب، والمقريزي، وأفرد فيه كتاباً سماه: "تجريد التوحيد" وهكذا. حتى وصلت النوبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي المتوفى سنة 1206 –رحم الله الجميع- فألف كتابه: "كتاب التوحيد" الذي عقده في (ستة وستين) باباً، بناه على آيات القرآن العظيم، وأحاديث النبي الكريم، وما عليه الصحابة والتابعون –رضي الله عنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أجمعين- ثم يختم كل باب بما فيه من المسائل أكثرها ثلاثون مسألة في الباب، وأقلها مسألتان في الباب، فتناوله العلماء في أكثر من عشرين مؤلفاً، شرحاً، وتحشية، وتوضيحاً، وجلها –ولله الحمد- مطبوعة، متداولة، وكان أولها شرح حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1233 باسم: "تيسير العزيز الحميد" لكن لم يكمله، وأشهرها على الإطلاق: "فتح المجيد" لحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1285، وكانت طبعته الأولى سنة 1311 لكنها ناقصة. ومن بين هذه الشروح هذا الكتاب: "فتح الله الحميد المجيد شرح كتاب التوحيد" لمؤلفه الشيخ/ حامد بن محمد بن حسن بن محسن. المطبوع سنة 1317 في أمرتسار من عمل الهند، وهو أول شرح يطبع كاملا لكتاب التوحيد. والمؤلف –رحمه الله تعالى- لا نعرف عنه شيئاً أكثر مما ذكر، وبعد البحث علمت أنه من (الشارقة) في: (الإمارات العربية المتحدة) . ولم أر له مؤلفا سوى هذا الكتاب، وكتاب آخر طبع في آخره باسم: "جلاء العينين في بيان الدينين" وهو نظم افتتحه بقوله: حمدنا ونحن الحامدون لربنا ... لنا ملجأ ذخر لنا ورجاء وعدد أبيات هذه المنظومة، نحو (ألف) بيت. وأما مؤلَّفه هذا: فكنت تحصلت على نسخته المذكورة عام 1385 هدية من المدرس بالمسجد الحرام الشيخ علي بن محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 عبد العزيز الهندي الحائلي ثم المكي –أثابه الله-. وكان في أوله نقص، فوجدت نسخة منه في: "المكتبة السعودية بالرياض" وما أن اتصلت بأمينها –أثابه الله- إلا وصدَّر لي نسخة منه وبعث بها إلي فكمل بها النقص في الأولى –والحمد لله-. ولما قرأت هذا الشرح وجدته نفيساً، سهل العبارة1، دقيق المعاني، محرر المدارك، فأحببت أن أنشره ليعم نفعه، وينتشر الدعاء لمؤلفه، -رحمه الله تعالى-. طريقة المؤلف في الشرح: هي أنه –رحمه الله تعالى- يمزج المتن بالشرح، ويربط بينهما بما يوضح مقاصده، ويزيد في إفادة قارئه. وقد شرح مقدمة الكتاب وجميع أبوابه سوى الباب السادس والعشرين وهو: (باب ما جاء في النشرة) فقد ساقه دون تعليق عليه. واقتصد في شرحه لكل باب على: 1- إيضاح الترجمة. 2- تفسير الآيات. 3- شرح الأحاديث والآثار. أما المسائل التي في آخر كل باب من المتن: (كتاب التوحيد) فلم يعلق عليها بشيء، بل لم يأت بها في سياقه. ولهذا: رأيت أن أذكر كل باب من المتن قبل الشرح. وأن أجعل عناوين بداية شرح كل باب في أعلى يسار الصفحة عند بداية   1وفيه بعض ألفاظ وتراكيب قد يستنكرها العربي الفصيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 كل باب، واقتصرت خدمة التحقيق بالمقابلة، والتصحيح وتخريج مختصر للأحاديث والآثار، وعزو النقول إلى مصادرها، ما أمكن ذلك. ثم إتباعه بفهارس كاشفة، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم. بكر بن عبد الله أبو زيد 30/10/1416 في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الشرح: الحمد لله الذي تفرد بالملك، والملكوت، والعظمة، والجبروت، بقهره وعزته، خلق السماوات والأرض وما بينهما، وجعل الظلمات والنور بعلمه وقدرته، ودَبَّرَ العالمين بالتدبير الكامل، التام، الحسن برحمته، وحكمته، وكرَّم ابن آدم بالصورة الحسنة، ورزقه من الطيبات على سائر بريته، وخص الجن والإنس من بين خلقه بآياته المبينة لأحكامه، ورسالته، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل معهم الكتب، وأعطاهم المعجزات الباهرات؛ لإتمام حجته، وبيان محجته، وأَمَرَهُم أن يبلغوا رسالته: أن لا يعبدوا إلا الله، ولا يشركوا في ربوبيته، وألوهيته، وخَصَّ من بين الرسل محمد بن عبد الله نبيَّا، ورسولاً لآخر الزمان، لتجديد طريقة إبراهيم وملته الحنيفية التي تُنَادي على رؤوس الملأ أن لا نشرك بالله في ربوبيته ووحدانيته، فأنذر صلى الله عليه وسلم بصوته الأعلى على الصفا من سمع النداء أن لا وَاقِيَ من عذاب الله ونقمته، وعَمَّ وخَصَّ صلى الله عليه وسلم وقال: "اشتروا أنفسكم عن الله لا أغني عنكم من الله شيئاً" 1. في دنياه وآخرته، فأبى المشركون إلا التبرك باللات، والعُزَّى، ومناة، والصالحين في مدة دعوته، فأذن الله له بقتال من أبى عن التوحيد بماله، ونفسه، وحجته، بجهده، فحينئذ أذَلَّ الله المشركين فأذعنوا بوحدانية الله وألوهيته، وأكمل الله الدين على يده صلى الله عليه وسلم فليس لأَحَدٍ يَدَّعِي متابعته أن يحيد عن شريعته، فلما أراد الله أن يختاره صلى الله عليه وسلم قال مبلغاً وناصحاً ومبيناً لأمته: "خلفت فيكم الثقلين لن   1أخرجه البخاري (2753) و (4771) ، ومسلم (204) و (206) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي" 1 الحديث. فيا متبعي محمد امتثلوا وصيَّته، وإنَّه لمَّا توفي صلى الله عليه وسلم ووقع بعض الخلل في ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من بعض المنافقين، واليهود، ليغيروا دينه ويخلوا بملته، منَّ الله على العباد بالراسخين في العلم، فاجتهدوا في جمع ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أقواله، وأفعاله، وفسروا القرآن بما سمعوا من التابعين مما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم كل على حِدَتِه، الأئمة المتقنون، والثقات الراسخون، مثل محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري، وأبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، وأبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، وأبي داود سليمان بن الأشعت السجستاني، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وأبي (محمد) عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني وغيرهم، ضبطوا الأحاديث، وَفَرَزُوْهَا، وبَيَّنُوا صَحِيْحَهَا مِنْ سَقِيْمَهَا وقَوِيّهَا مِنْ ضَعِيفِهَا وبوَّبوها، ونَوَّعُوهَا من جهة الأسانيد والرواة على ثمانية وثلاثين نوعا أعلاها الصحيح. وقد اجتهد في جمعه وجدّ محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج، واتفق على صحة ما فيهما علماء الأمصار، وأهل الدراية بالرواية من الراسخين في العلم، وسائر الأنواع ذكرها الثقات الراسخون. هذا وقد أمر الله تعالى عباده إذا تنازعوا في الأمر أن يرجعوا ويردوا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، وقال الله تعالى:   1 أخرجه أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" عن أبي هريرة كما في "كنز العمال" (1/173) رقم 875. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] . فبان من منطوق الآية فرضية الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وبان من مفهوم الآية عدم إيمان مَنْ لَمْ يَرِدِ الأمر عند التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإذا وُزِنَ الأمر المُنَازَعُ فيه بميزان الوحيين، فما وافقهما فهو القِسْطُ الذي أمر الله به، وهو الحق، وما خالفهما فهو الباطل، والضلال، قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: 32] . ولَمَّا غفل أكثر الناس عن كتابه، وسنة رسوله، وتدبر ما فيهما من الحِكَم والمعاني،، ولم يتبعوهما كما هما، بل ونَقَصُوا، وغَيَّروا، وبَدَّلُوا، وقَدَّمُوا، وأَخَّرُوا، ومضى على ذلك سنين عديدة، ومدة مديدة، واعتادوا عليه وأباً وجداًّ، فحينئذ صعب عليهم الالتفات إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لما ذُكِّروا بهما، وحُضُّوا على الرجوع إليهما عند التنازع لما رأوا من غربة ما في الكتاب والسنة لما بينهم؛ لمخالفتهم الكتاب والسنة في أكثر الأمور قصداً وفعلاً وقولاً، وذلك مصداق قول الرسول الصادق المصدوق "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل: من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون ما أفسد الناس" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا اسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدي، علمائهم شر من تحت أديم السماء، منهم تخرج الفتنة وفيهم تعود". الحديث رواه علي بن أبي طالب رضي الله   1 أخرجه مسلم (145) إلى قوله: فطوبى للغرباء. رواه أحمد (4/73) بتمامه من حديث عبد الرحمن بن حسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 عنه1، كيف لا وقد آن في هذا الزمان {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} . [المائدة: 104] .فجعلوا حجة صحة ما هم عليه من مخالفة الكتاب والسنة فعل آبائهم ولو طلب منهم برهاناً أو حجة لم يأتوا بغير هذا، كما قال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون} . [الزخرف: 22] . وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} . [الزخرف: 23] . يخبر تعالى رسوله ويسليه أن كل قوم قالوا لنبيهم هذا المقال، فلا تعجب من قومك في هذا ولكن العجب كل العجب من ناس يدعون الإيمان بالله والكتاب واليوم الآخر وهم كاذبون، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . [البقرة: 9] . وذلك لأنهم لو كانوا صادقين في الإيمان لقدموا أمر الله ورسوله على غيرهما، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . [الحجرات: 1] . قال البيضاوي وغيره من المفسرون: المعنى: لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به، فإذا كان هذا أمر الله، فكيف يتصور ويسوغ التشريع بما لم يأذن به الله ورسوله؟ وقد قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ   1أخرجه الديلمي في " مسنده" (1/107) بإسناد ضعيف جداً. وانظر "السلسلة الضعيفة" للألباني (1936) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . [الشورى: 21] . كيف وقد قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} . [الأعراف: 3] . وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} . [آل عمران: 103] . فسر بالقرآن والإسلام، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . [الأنعام: 153] . عن عبد الله بن مسعود قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطَّا ثم قال: "هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاَّ عن يمينه وعن شماله وقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. وعن ابن عباس: "من تعلم كتاب ثم تعلم ما فيه هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه يوم القيامة سوء الحساب". وفي رواية قال: "من اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا ولا في الآخرة ثم تلا هذه الآية: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} . [طه: 123] . رواه رزين2. وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: منهي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي" 3. ومعلوم بالضرورة أن   1 أخرجه أحمد (1/435 و465) والدارمي (1/67) والحاكم (2/318) وصححه ووافقه الذهبي، وله شاهد من حديث جابر. 2 أخرجه الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عباس قوله وانظر "الدر المنثور" (4/556) . 3 روى من حديث أنس وأبي هريرة ومعاوية وعوف بن مالك وابن عمرو بمعناه، وبعضها يقوي بعضاً. فأخرجه عن أنس أحمد 3/145، وابن ماجه (3993) ، وأخرجه عن أبي هريرة أحمد (2/332) ،وأبو داود (4596) ، والترمذي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الذي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو الكتاب والسنة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تمسك بسنتي عند فساد أمتي، فله أجر مائة شهيد" 1. فعلم من هذا أن أمته تفسد، فحينئذ لازم على المسلم أن يتبع الكتاب والسنة ويترك الأهواء والآراء كيف لا، وقد ورد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال: إنا نسمع أحاديث من اليهود تعجبنا أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: "أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيَّا ما وسعه إلا اتباعي"2. فإذا كان موسى كليم الله ورسوله لو كان حيَّا ما وسعه إلا أن يتبع الرسول فيما يقول، فكيف بغيره يسوغ له أن يزيد أو ينقص عما أمر الله ورسوله، كيف وقد ورد أن أبا بكر الصديق وابن مسعود والمقدام وسلمان الفارسي وهم عشرة أنفار اجتمعوا في بيت عثمان بن مظغون وذلك وعظ وعظهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: تعالوا نتعاهد ونتحالف على أعمال زائدة لعل الله يرحمنا: نصوم دائماً ولا نفطر، ونصلي الليالي ولا نرقد، ونعتزل النساء ونتزهد في الدنيا، ونترك اللحم والدسم، ونلبس فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأتاهم وقال: "إني ما أمرت بذلك، إني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، وآكل اللحم والدسم ومن رغب عن سنتي فليس مني". فقالوا: كيف نفعل بحلفنا يا = (2642) ، وصححه وأخرجه عن معاوية أحمد (2/102) ، وأبو داود (4597) وصححه الحاكم 1/128. وأما حديث عوف بن مالك فأخرجه ابن ماجه (3992) . وانظر مجمع الزوائد 7/510-514.   1 رواه ابن عدي في "الكامل" (2/90) وسنده ضعيف جداً، وانظر "السلسلة الضعيفة" (3269) . 2 أخرجه بهذا الفظ البيهقي في شعب الإيمان (1/479، 480) ، وأخرجه بنحوه أحمد في المسند 3/387، وانظر: الإرواء 1589. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 رسول الله؟ فأنزل الله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} . [المائدة: 89] .ذكره الكاشف1 في تفسير هذه الآية. وعن أنس قال: "جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي أبداً، وقال الآخر: أنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداَ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا، والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكن أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" 2. متفق عليه. فإذا كان اجتهاد الصحابة في ما لم يأمر به الله ولا رسوله خطأ وليس من الرسول إذا فعلوا ذلك، فكيف بزوائد ونقائص ما يفعلونه في هذا الزمان ويجعلونه سنة مطرودة بل أشد من السنة، لأنهم لا يُخِلُّون بالسنة، كيف يسوغ ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض: "عليكم بسنتي وسنة الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ وتمسكوا بها، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". فإنه صلى الله عليه وسلم قد عم ولم يخص بل قال: "كل بدعة ضلالة". ومن أعجب العجاب من يترك شمس الضحى ويستنير بنور السهى، يترك قول الرسول المعصوم عن الخطأ والنسيان ويستدل بقول من يجوز عليه الزلة والهفوان، ولا يؤمن عليه من الذنوب والعصيان، 1 أي الزمخشري في: تفسيره الكشاف. ويظهر أن المؤلف –رحمه الله تعالى- تعوزه الكتب، فينقل من تفسير الزمخشري، والبيضاوي ما يعتقده حقَّا، دون ما وقعا فيه. والله المستعان.   2 رواه البخاري (5063) ومسلم (1401) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 يترك قول من فرض الله طاعته ويتعلق بقول من نهى الله تعالى أن يقبل قوله إلا بميزان الكتاب والسنة. فلما تعلقوا بالآراء والأهواء وتركوا متابعة الشريعة كما هي وقعوا في الشرك والكفر والشقاق، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} . . [النور: 63] . قال الإمام أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} . أتدري ما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في شيء من الزيغ فيهلك. هذا ولم تزل الحال على ما وصفنا من الأمور العظام إلى أن أراد الله إزالة البدع والضلالات ونفي الشبهات والجهالات على يد من أقامه هذا المقام –نعني به خلف السلف الكرام المتبع لهدي سيد الأنام شيخ الإسلام1- وذلك تصديق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في "المعرفة" وإسناده صحيح. فخصه الله في هذا الزمان بهذا الفضل العظيم –متبعة الكتاب والسنة وإزالة كل ضلالة وبدعة، أحسن الله له بجزيل الثواب- فإنه قد دعا إلى الله ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، وكَبُرَ على المخالفين أمره فلم ينته عن ذلك حتى قيض الله له أنصاراً وأعوناً، وصنف رحمه الله التصانيف في بيان التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب لأجله، وبيان دين سيد المرسلين الذي بعث به صلى الله عليه وسلم، مستدلاً في ذلك بالآيات القرآنية والسنن النبوية،   1 يعني/ الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي، المتوفى سنة 1206 –رحمه الله تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وما ذكر في تفسيرهما من أقوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأئمة الدين رحمهم الله تعالى. هذا ولما منَّ الله علي بالهدى بعد الضلال، أردت أن أسلك مع السالكين في مسلك التوحيد، وأمشي مع السابقين في ميدان الإخلاص والتجريد، وأُحَدِثَّ بما أنعم الله علي من نور الهدى والإيمان بعد ليالي الشرك والكفران، وأبين ما وفقني له من معاني التوحيد وشُعب الشرك بما يمكنني من التبيان، ولو لم أكن من سُباق هذا الميدان، ولكن أرجو من الرحمن أن أمشي على أثر العارفين بحول الله الكريم المنان. فاستخرت الله في شرح "كتاب التوحيد" الذي صنفه شيخ الإسلام قامع البدع المشيعة والأمور الشركية الشنيعة، محيي السنن المحمدية والأحكام الشرعية، معتصماً بالكتاب والسنة، تاركاً للأهواء والآراء والبدع المضلة المدلهمة، قاصداً به إظهار دين سيد المرسلين، وبيان ما أمر الله ورسوله بالحجج والبراهين ولو خالفه المبطلون، ممعناً قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . [البقرة: 159] . واستعنت الله على أن يوفقني لما يحب ويرضى من القول السديد والبصر الحديد، بما أمكنني من معاني التوحيد وفوائد الإخلاص والتجريد، رجاء لما عنده من جزيل الثواب، ووقاية من أليم العقاب وسوء الحساب، إنه الكريم الوهاب، وعنده حسن المآب، وأرجوه من فضله العميم، وإحسانه القديم، والرجاء عنده ما يخيب، وهو القريب المجيب، وأن ينفع بما أذكر من نظر إليه بعين التبصر، والله الموفق المعين، وعليه توكلي وبه أستعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 شرح البسملة : بسم الله الرحمن الرحيم، الباء للاستعانة، وهي حرف جر، واسم لغة من لغاتها الستة، قال الناظم: اسمٌ بضمِّ أولٍ والكسرِ ... مع همزةِ وحذفها والقصر وهو مجرور بالباء، والجار المجرور متعلق يعامل مقدر أما عامل عام يصلح في كل مقام كالابتداء، أو عامل خاص كأقرأ في القراءة وأصنف في التصنيف، وأمثال هذه، وعلى كلتا الحالتين إما فعل كاستقر وثبت، أو اسم كمستقر وثابت، وعلى أي تقدير مقدم أو مؤخر فالوجوه المتصورة فيها ثمان صور، فالأولى منها ما كان عامَّا مؤخراً وفاقاً للفظ الحديث "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أقطع" 1. وفي حديث "أجذم" 2, وفي آخر "أبتر" 3. والمعنى: فهو قليل البركة أو مفقود البركة، وفاقاً للمقصود الذي هو الابتداء بذكر الله قبل كل شيء ولو قدر مقدماً لحصل المقصود حصولاً ما، ولكن الحصول التام الأوفى بالتأجير اسماً كان أو فعلاً، قال ابن القيم –رحمه الله-: "لحذف العامل في بسم الله فوائد عديدة منها: أنها موطن لا ينبغي أن يقدم فيه سوى ذكر الله، فلو ذكر الفعل وهو لا يستغني عن فاعله كان ذلك مناقضاً للمقصود فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ليكون المبدوء به اسم الله تعالى كما تقول في الصلاة: الله أكبر.   1 أخرجه عبد القادر الرهاوي في "الأربعين" كما في "الدر المنثور" 1/26والحديث ضعيف. 2 أخرجه أبو داود (4840) وفي سنده قرة بن عبد الرحمن المعافري قال الإمام أحمد: منكر الحديث جداًّ. 3 أخرجه الإمام أحمد (2/359) من حديث قرة بن عبد الرحمن المعافري به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ومنها أن الفعل إذا حذف صح الابتداء في التسمية في كل عمل وقول بما يخص ذلك العمل والقول. ومنها: أن الحذف أبلغ لأن المتكلم بهذه الكلمة كأنه يدعي الاستغناء بالمشاهدة عن النطق بالفعل فكأنه لا حاجة إلى النطق به لأن المشاهدة والحال دالة على أن هذا الفعل وكل فعل إنما هو بسم الله تعالى والحوالة على شاهد الحال أبلغ من الحوالة على شاهد المنطق كما قيل: ومن عجب قول العواذل ما به ... وهل غير من يهوى يحب ويعشق1 ولفظ (الله) عَلَمٌ على الأَصَحِّ على ذات واجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال، المنزه عن العيوب والنقائص المتصلة والمنفصلة. وأصله من أَلُهَ يَألَهُ إلهاً بمعنى: معبود، ككتب يكتب كتاباً بمعنى مكتوب، فأريد تعريفه فأدخل عليه الألف واللام للتعريف فصار الإله فأدغمت اللام في اللام فصار الله وهو من تألهه القلوب بكمال المحبة وغاية الذل والخضوع لقدرته الكاملة وعمله المحيط بكل شيء. وهذا معنى العبادة وعلى هذا كان عامًّا في كل من عبده بهذا النوع باطلاً كان أو حقاً، فلما أمعن النظر فكرر ثم كرر واستشهد على إثبات الحق ونفي الباطل ما وجدت الشهود المرضية العدول السنية العلية إلا بإثباته للواحد الأحد الصمد الوتر المعبود المقصود وذلك لما تفكرت العقول السليمة والفطر المستقيمة ما رأت يوفى بالشهود إلا من اتحد بالأسماء الحسنى والصفات العليا والأفعال الكاملة التامة الحسنة والأقوال الصدق العدل، وذلك الله تعالى، فأفعاله الجميلة أبهرت العقول أن يدركوا كنه حِكمِهَا، وأقواله   1 بدائع الفوائد 1/25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الصدق العدل عجزت ألسنة الفصحاء أن يأتوا بمثلها أو بعضها، وأسماؤه الحسنى قصرت الأوهام أن يدركوا لها كفواً غيره، وصفاته العليا عجز الخلق أن يرقوا مراقيها، فثبت الحق وهو العبادة للمستحق المتوحد بأوصاف الكمال ونعوت الجمال، وهو الله إلا إله إلا هو سبحانه وتعالى، ونفت العبادة عن غيره لأن غيره خلقه وتحت قهره وتصريفه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [غافر: 62] . فليس له كفو حتى يستحق العبادة، وهل يستحق الحمد إلا مدبراً يربي جميع العالمين بحسناه وذاك هو الله الذي ليس مثله شيء، هو الأحد المعبود جل ثناؤه ولقد كان قبل الخلق حيًّا وقيماً ولم يبق بعد الخلق قط سواه هو الموجد القيوم بالخلق لا سواه فكل عبد ذليل لمولاه فمن أين يلقى المشرك الكفؤ مثله ومن أين يلقى من له الأمر إلا هو فسبحانه سبحانه جل شأنه علا واعتلى عن كل ندٍّ وأشباه قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4] . فهو الله لا إله إلا هو فعال لما يريد لا مضاد لأمره ولا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه لا شريك له في ملكه ولا في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا ند له ولا ضد ولا مثل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، يعز ويذل ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، له الملك وله الحمد وله الثناء الكامل وله الخلق والأمر كل يوم هو في شأن لا إلا هو ولا رب لنا سواه. الرحمن صفة لله واستبعد قوم أن يكون الرحمن نعتاً لله من قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} قالوا: ويدل على هذا أن الرحمن علم مختص بالله لا يشاركه فيه غيره وليس هي كالصفات التي هي كالعليم والقدير والسميع والبصير ولهذا لا يحتوي على غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 تعالى، قالوا: ويدل عليه أيضاً وروده في القرآن غير تابع لما قبله لقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: 1] . {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20] . وهذا شأن الأسماء المختصة، لأن الصفات لا تقتصر على ذكرها دون الموصوف، قال السهيلي: والبدل عندي ممتنع وكذلك عطف البيان لأن الأول هو أعرف المعارف وأبينها ولهذا قالوا: وما الرحمن ولم يقولوا وما الله، ولكنه وإن جرى مجرى الأعلام فهو وصف يراد به الثناء وكذلك الرحيم إلا أن الرحمن من أبنية المبالغة كغضبان ونحوه وإنما دخله معنى المبالغة من حيث كان في آخره ألف ونون كالتثنية فإن التثنية في الحقيقة تضعيف، وكذلك هذه الأبنية وفائدة الجمع بين الصفتين، أعني الرحمن الرحيم الإنباء عن رحمة عاجلة وآجلة وعامة وخاصة، قلت: ولهذا أي عمومية الرحمة في الدنيا وخصوصيته في الآخرة للمؤمنين الموحدين مثل مطابق يظهر الأمر المعنوي المشار إليه في صورة الحسي عند الأذهان، وهو أن الكريم إذا أمر عمَّالاً أن يصنعوا له شيئاً وأحضر للعمال الطعام وحضر مع العمال ناس غيرهم أطعم الكل لكرمه ولم يرض أن يشذ منهم أحدا؛ لأنه يرى أن في ذلك نقص في جانبه وهو كذلك عند الكريم فكيف بأكرم الأكرمين، ولكن إذا حضر عند إعطاء الأجرة فلم يعط إلا العاملين فالله تعالى له المثل الأعلى في السموات والأرض، في الدنيا رحمته وسعت كل شيء، وفي الآخرة عند إعطاء الجزاء ما يرحم إلا العاملون المخلصون بفضله وأمسك رحمته عن المجرمين بعدله، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . [لأعراف: 156] . قال ابن القيم –رحمه الله-: أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت فإنها دالة على صفات كماله فلا تنافي فيها بين العلمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والوصفية، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، لا تنافي اسميته وصفيته، فمن حيث هو صفة جرى تابعاً على اسم الله تعالى، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع بل ورود الاسم العَلَم1. ولما كان هذا اسم مختصَّا به سبحانه حسن مجيئه مفرداً غير تابع لمجيء اسم الله تعالى كذلك، وأما الجمع بين الرحمن الرحيم ففيه معنى وهو أحسن المعنيين الذين ذكرهما السهيلي وهو: أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه وتعالى، الرحيم الدال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفة، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم ذلك فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} . [الأحزاب: 43] . {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . [التوبة: 117] . ولم يجيء قط رحمان بهم، فعلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة والرحيم برحمته، وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب. انتهى. قلت: وهذا المعنى الذي ذكره –رحمه الله- هو كما قال، لكن لا يفي بعمومية الرحمة في دار التكليف للكافر والمسلم، والبر والفاجر، وخصوصيتها في دار الجزاء للمؤمنين المتقين كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . أي الشرك وفروعه وذلك أن الشيخ –رحمه الله- بيَّن أن الرحمن دال على أن الرحمة صفته تعالى، والرحيم دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وهذا لا ينكره من له أدنى لب ومعرفة، ولكن ما يشعر هذا القول بعموميتها في الدنيا وخصوصيتها في الآخرة، وهذان المعنيان هما أليق بمبادئ الأمور؛ لأنه يتبرأ العامل من الحول والقوة، ويعلم أنه لولا رحمته عليه لكان من الخاسرين، وأيضاً يصلح النية   1 "بداع الفوائد" 1/27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 والعمل إذا علم أن الرحمة مختصة في الآخرة بالمؤمنين، فتأمل. فإن قلت: بدأ المؤلف –رحمه الله- بالبسملة ولم يبدأ بالحمدلة وقد ورد في الأثر في كل منهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله فهو أقطع" 1. وكذلك ورد "كل أمر ذي بال لم يبدأ بالحمد لله فهو أقطع" 2. قلت: الحمد هو الثناء باللسان على جميل الاختيار مطلقاً بإزاء النعمة أم لا، وهذا القدر حصل من قوله: بسم الله الرحمن الرحيم وبدؤه بها لأن فيها أوصاف ثلاثة متضمنات الثناء، وثانياً: ليس في الحديثين إشعار بالجمع بينهما، فعلى هذا لو يكتفي بواحدة منهما لحصل المقصود الذي هو الابتداء بذكر الله تعالى قبل كل شيء تيمناً وتبركاً مستعيناً به، وثالثاً: ليس فيهما تصريح بكتابتهما أمام المقصود الذي يريده، بل إذا سمى الله تعالى وحمد الله بلسانه وبدأ بمقصوده الذي يريده حصل المراد والامتثال بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا فربما أن الشيخ –رحمه الله- حمد الله بلسانه عند الابتداء ولم يكتبه. فإن قلت: كيف الجمع بين الحديثين وكلاهما ذكر فيهما الابتداء فإن بدء البسملة لم يبدأ بالحمدلة وإن بدأ الحمدلة ما بدأ بالبسملة؟ قلت: الابتداء على ثلاثة أنواع: حقيقي وهو الذي لم يذكر قبله شيء، وإضافي وهو الذي ذكر قبله شيء ولكنه قبل الخطبة، وعرفي وهو الذي قبل المقصود، فالابتداء بالبسملة: حقيقي إضافي عرفي، والابتداء بالحمدلة إضافي عرفي لا حقيقي، والابتداء بالخطبة عرفي لا إضافي ولا حقيقي لأنه في العرف يطلق عليها أنها مبدوء بها لأنها قبل المقصود والغاية.   1 تقدم في الصفحة رقم 5. 2 تقدم في الصفحة رقم 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 كتاب التوحيد : وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . [الذاريات: 56] . وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . [النحل: 36] . وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} . [الإسراء: 23] . وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . [النساء: 35] . وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . [الأنعام: 151-154] . قال ابن مسعود –رضي الله عنه-: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} –إلى قوله-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} . [الأنعام: 154] . وعن معاذ بن جبل –رضي الله عنه- قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، على حمار فقال لي: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله"؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" أخرجاه في الصحيحين. فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه. الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} . [الكافرون: 3،5] . الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل. الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة. السادسة: أن دين الأنبياء واحد. السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر والطاغوت؛ ففيه معنى قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} . [البقرة: 256] . الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله. التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف. وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك. العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها الله بقوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} . [الإسراء: 22] . وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} . [الإسراء: 39] . ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} . [ (الإسراء: 39] . الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: {اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} . [النساء: 36] . الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته. الثالثة عشرة: معرفة حق الله تعالى علينا. الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه. الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة. السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره. الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله. التاسعة عشرة: قول المسؤول عمّا لا يعلم: الله ورسوله أعلم. العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه. الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة. الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل. الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الشرح قال الشيخ: كتاب التوحيد كتاب، مصدر كتب يكتب كتاباً بمعنى مكتوب، والتوحيد مصدر يوحد توحيداً، كصرف يصرف تصريفاً من الثلاثي مزيد فيه بتكرار العين وكتاب مضاف إلى التوحيد، والمجموع خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا الكتاب في بيان التوحيد ووصفه وصفته وأنواعه، فأما بيانه مجملا فهو إفراد الله بالعبادة التي شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ونفي العبادة عما سواه، لا على ما ظنه ابن سينا أخذاً مما نسب إلى أرسطوا اليوناني أن التوحيد أن تجعل الإله الوجود المطلق مجرداً عن الأوصاف جميعها لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر ولا يختار ولا يشاء, لكن هذا الوجود المطلق المجعول لها لا يفني أبداً. والشرك عندهم إثبات الصفات للإله، هذا توحيد ابن سينا والنصير الطوسي الملاحدة ومن تبعهم. ولا على ما ظنه ابن سبعين وأهل الاتحاد أن تجعل الكائنات بأسرها الله هو عينها لا غيرها ولا هنا عبد ورب وخالق ومخلوق. والشرك عندهم أن الوجود اثنين: رب وعبد. ولا على ما ظنه الجهم ومن تبعه من أهل تعطيل التوحيد نفي الصفات التي وصف الله نفسه بها في القرآن كالعلو والكلام ونحوهما، والشرك عندهم إثبات الصفات لله، وهؤلاء مع ابن سينا يتوافقون في الشرك، وقولهم فيه واحد سواء، لكن اختلفوا في التوحيد عند ابن سينا الوجود المطلق هو الإله مجرداً عن الصفات، وهؤلاء عندهم الإله الذات المجرد عن الصفات فتأمل. ولا على ما ظنه الجبرية أن التوحيد عندهم أن الله فاعل الأفعال التي تصدر من الإنسان كلها طاعة أو فسوق، قبيح أو حسن، شرك أو كفر، نافق أو إيمان، والعبد كالميت ما له فعل، بل هو مجبور على ما يصدر منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وأما صفة التوحيد: أن تجعل الخالق المكوِّن المدبر نصب عينيك وتفنى فيه1، أن تفنى في معرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحسنة، وأقواله الصدق وتستدل بها على أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأن عبادة ما سواه باطل، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} فحينئذ تثمر لك هذه الحالة أن تقطع العلائق عن الخلائق من حيث الجملة على الإطلاق، وتجعلهم كالعدم المحض وتقول: إياك نعبد وإياك نستعين، وكيف لا وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} . [يونس: 107] . وقال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . [الزمر: 38] . وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، أما ترى أن الله تعالى أمر رسوله بالتعلق به تعالى وحده، من بعد ما بين صريحاً أن غيره لا ينفع ولا يضر؟ هذا؛ فكيف يجتمع في قلب مؤمن سليم الإيمانُ بهذه الآيات وأشباهها، ودعوة غير الله في كشف الكربات ودفع الملمات وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} . [الإسراء: 56] . ذكر المفسرون أن ناساً كانوا يعبدون عيسى، وناساً عزيزاً، فأنزل الله تعالى هذه الآية أن هؤلاء لا يملكون لكم شيئاً لا كشف الضر عنكم ولا تحويلا للضر، قال تعالى: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} . [الرعد: 31] وقال تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، [يّس: 83] . هذا في الدنيا، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ   1 الفناء اصطلاح صوفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} . [الانفطار: 17- 19] . وهذا في الآخرة، فبان بالنص الصريح من تنزيل رب العالمين أن ليس لغير الله دعوة لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} . [غافر: 41-43] . فبين الله أن ليس لأحد دون الله دعوة لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن بيده الآخرة والأولى، وما سواه تحت قهره وتصريفه، قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} . [الليل: 12،13] . وذلك أن غير الله ليس له ملك في السماوات والأرض ولا شراكة ولا عوانة ولا شفاعة إلا بإذنه. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . [سبأ: 22،23] . فنفى الملك فيهما عمن سواه ونفى الشراكة ونفى العوانة والشفاعة إلا بإذنه، هذا فكما أن النور والظلمة لا يجتمعان، وكذلك الحياة والممات اجتماعهما محال، كذلك الإيمان بهذه الآيات وما أشبهها لا يجتمع مع دعوة غير الله في كشف الضر وتحويله، بل مهما وجد واحد منهما في شخص انتفى الثاني ولابد، كالنور والظلمة. وأما وصف التوحيد: فوصف النور، ووصف ضده –وهو الشرك- الظلمة، قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . [النور: 35] . فمثًّل الله نوره الذي في قلب المؤمن بمشكاة، أي: كوة فيها المصباح، والمصباح في زجاجة، أي القنديل والزجاجة التي فيها المصباح كأنها كوكب من حسن صفاء الزجاجة، وتوقد فتيلة المصباح من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية فيغلب عليها الحرورة فيصفر لونه، ولا غربية تغلب عليها البرودة فيغبر لونه، بل معتدلة في الطبع فصفى لونه، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه –لشدة صفائه- نار، نور على نور، نور المصباح ونور الزجاجة ونور الزيت فكما إذا اجتمعت هذه الأنوار حصل منها أنوار عظيمة، كذلك قلب المؤمن الموحد وكما أن الزيت الذي وصفه الله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} وكذلك قلب الموحد يداك يستبصر بنور التوحيد ويتبرهن ببراهين قاطعة وحجج ساطعة عقلاً على المبطلين والملحدين وأصحاب البدع بما يدحض حججهم ويبطل مآخذهم من دون أن يسمع من عالم أو فقيه أو محدث. وهل ذلك إلا كما قال تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} . قال ابن القيم –رحمه الله-: الثالث قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الله انقشعت عنه حجب الشهوات وأقلعت تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد ولو دنا منه الوساوس احترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم فلو دنا منه ليتخطاها رجم فاحترق، وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله له أتم حراسة من حراسة السماء، والسماء معبد الملائكة ومستقر الوحي، وفيها الطاعات، وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة والمعرفة، وفيه أنوارها، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو فلا ينال منه شيئاً إلا خطفة، وقد مثل هذا بمثل حسن، وهو ثلاثة بيوت: بيت لملك فيه كنوزه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وذخائره وجواهره، وبين للعبد ليس فيه جواهر الملك وذخائره، وبين خال صفر لا شيء فيه فجاء اللص ليسرق أحد البيوت فمن أيها يسرق؟ فإن قلت من البيت الخال كان محالاً؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء فيسرقه، ولهذا قيل لابن عباس: أن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلواتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب؟ وإن يسرق من بيت الملك كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإن عليه من الحرس ما يرده، ولا يزال ما لا يستطيع اللص من الدنو منه، كيف وقد حارسه الملك نفسه؟ وكيف يستطيع الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله؟ فلم يبق للص إلا البيت الثالث وهو الذي يشن عليه الغارات، فقلب خلا من الخير كله وهو قلب الكافر والمنافق فذلك بيت الشيطان قد أحرزه لنفسه واستوطنه واتخذه مسكناً ومستقرًّا فأي شيء يسرق وفيه خزائنه وذخائره وشكوكه ووساوسه؟ انتهى. قلت: وذلك لما خلا من قلبه نور التوحيد ونور الكتاب والسنة صار مثله كما قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . [النور: 40] . وحينئذ لقي العدو عليه مساطي1، وهذا شأن العدو الضعيف: وهو الشيطان ضعيف فإنه في الكيد، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} . [النساء: 76] .وشأن السراق وقطاع الطريق بل السباع الضواري بل والهوام وحشرات الأرض كالحيات والعقارب وأشباهها ما يظهرون ولا يعدون على الحصون والبيوت والطرق إلا في الليل المشتمل على الظلمات التي   1 هي مِنَ السَّطْوِ، يعني: "مدخل" أي أن الشيطان سَطَا على ابن آدم؛ لما ضعف نور الوحيد في قلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 تستر الأعين عن الأبصار والاستبصار ويستغنم الفرص، لما فيها من الغفلة والسكون وعدم الفطنة والدرك، فهم على هذا حتى يتبين النور، فإذا أحسوا بنور فروّا واستكمنوا. وهذا القلب يضاده قلب المؤمن، كتضاد النور والظلمة، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . [البقرة: 257] . وتضاد القلبين كتضاد الحياة والممات، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} . [الأنعام: 122] . قوله تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . [النور: 40] . مثلٌ للمشرك أنه لما تراكمت على قلبه الظلمات لعضها فوق بعض، ظلمة الشرك وظلمة الجهل وظلمة اتباع الأهواء والآراء والآباء، فحينئذ لم يكد يرى القبيح والحسن، والحق والباطل، أي لا يميز بينهما بل ربما يجعل القبيح حسناً، والحسن قبيحاً، والحق باطلاً، والباطل حقاًّ، لعمى بصيرته، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . [الحج: 46] .ووقوع هذا الداء العضال في الكفار والمشركين والمنافقين أمر واضح، نطق به الوحيان، ويقع في أهل المعاصي إذا أدمنوا عليها، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . [المطففين: 14] . فلما كان هذا ممكن الواقع ولا يدفعه دافع ولا يمنعه مانع إلا الله العليم الوسيع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: "اللهم أرني الحق حقًّا وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنباه ولا تجعله مُلتبساً علي فأفضل" 1.   1 قال الحافظ العراقي في " المغني عن حمل الأسفار" 1/643: "لم أقف لأوله على أصل ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وأما أنواعه، فالتوحيد نوعان: قولي اعتقادي، وفعلي، فالقولي الاعتقادي نوعان: ثبوتي وسلبي، والسلبي أيضاً نوعان: سلب النقائص والعيوب كلها عنه تعالى، وهذا أيضاً نوعا، سلب العيوب المتصلة التي تنسب إلى الذات أي يعتريه كالموت والنوم والسنة والعبث والجهل والإعياء والتعب والظلم والعدوان والغفلة والنسيان والاحتياج، والثاني –من نوعي سلب النقائص-: سلب العيوب المنفصلة عن الذات، كالولد والوالد والزوج والكفو والولي والشريك والظهير والشفيع، والثاني من أنواع السلب: سلب أوصافه عن التشبيه والتمثيل والتعطيل. والنوع الثاني من نوعي التوحيد القولي الاعتقادي: إثبات صفات الكمال التي ذكرها الله تعالى في كتابه وأسمائه الحسنى، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . [الأعراف: 180] . وهن: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22-24] . هو الله، الغفار، القهار، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحكيم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعالي، البر، التواب، المنعم، المنتقم، العفو، الرؤوف، المالك، ذو الجلال والإكرام، الرب المقسط، الجامع، الغني، المغني، المعطي، المانع، النافع، الضار، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور، الذي ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وهذه الأسماء التي ذكرها الله في كتابه العزيز وألزم عباده بأنهم إذا أرادوا أن يدعوا الله تعالى في أمر أن يدعوه سبحانه بها قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . [لأعراف: 180] . والإلحاد في أسماء الله تعالى أربعة أنواع: نوع شركي، بمعنى أن يسمى بأسماء الله تعالى الآلهة الباطلة، وهذا النوع كثيرا ما يقع عند المشركين، قال البن عباس في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . [الأعراف: 180] . قال: يشركون: سموا اللات من الإله والعزى من العزيز1. والنوع الثاني: نوع تغييري بمعنى يدخل فيها ما ليس منها، قاله الأعمش. والنوع الثالث: تعطيلي بمعنى أنه ينفي عنها حقائقها من المعاني البينة في اللغة والسنة. والنوع الرابع: إنكاري كما أنكرت قريش الرحمن قالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} . قال ابن القيم في مدارج السالكين: "الإلحاد تسمية الأوثان بها كما يسمونها آلهة. وقال ابن عباس في تفسير الآية: {يُلْحِدُونَ فِي   1 ابن أبي حاتم في "التفسير" كما في "الدر المنثور" 3/616. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 أَسْمَائِهِ} يكذبون عليه، وهذا تفسير بالمعنى. وحقيقة الإلحاد فيها العدول بها عن الصواب فيها وإدخال ما ليس من معانيها فيها وإخراج معانيها عنها هذا حقيقة الإلحاد، ومن فعل ذلك فقد كذب على الله، ففسر ابن عباس الإلحاد بالكذب، إذ هو غاية الملحد في أسمائه تعالى، فإنه إذا أدخل في معانيها ما ليس منها، وخرج بها عن حقائقها أو بعضها فقد عدل بها عن الصواب والحق، وهو حقيقة الإلحاد. فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها، أو بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب، وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة، وإما بجعلها أسماء لهذه المخلوقات المصنوعات، كإلحاد أهل الاتحاد، فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون، محمودها ومذمومها، حتى قال زعيمهم: "وهو المسمى بكل اسم ممدوح عقلاً وشرعاً وعرفاً، وبكل اسم مذموم عقلاً وشرعاً وعرفاً" تعالى الله عما يقول الملحدون علوًّا كبيراً1. والأوصاف التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم، يوصف الرب تعالى بها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، منها العلو، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . [طه: 5] . وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . [فاطر: 10] . وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} . [الملك: 16،17] . وقد ذكر العلو لله في خمسة وعشرين موضعا من القرآن. ومنها الكلام، قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} . [النساء: 164] . ومنها الإرادة، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ   1 مدارج السالكين 1/38-39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الرِّجْسَ} . [الأحزاب: 33] . وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . [البقرة: 185] . زمنها الرحمة، قال تعالى: {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} . [الأنعام: 147] . وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} . [لأعراف: 156] . ومنها المحبة، قال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . [المائدة: 54] . ومنها الغضب، قال تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . [الفتح: 6] . ومنها الرضى، قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . [البينة: 8] . ومنها المشيئة، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} . [القصص: 68] . ومنها الوجه، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} . [الرحمن: 27] . ومنها اليد، قال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} . [الفتح: 10] . ومنها الفرح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يفرح بتوبة العبد أشد فرحاً من فاقد راحلته بأرض فلاة" 1. ومناه الخلة، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} . [النساء: 125] . والإلحاد فيها نوعان: تعطيلي بمعنى أنه يعطل حقائق معانيها ويؤولها، كالجهمية ومن تبعهم، وفروخ الأشاعرة في بعضها، ش   1 رواه البخاري (6308) ومسلم (27449 عن ابن مسعود بنحوه. ورواه أيضا البخاري (6309) ومسلم (2747) عن أنس بنحوه. ورواه مسلم (2745) عن النعمان بن بشير بنحوه، وعن البراء بن عازب (2746) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والمعتزلة في بعضها، كتأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد بالقدرة، وأشباه ذلك؟ وإنكاري بمعنى ينكر أوصافه كلها، كابن سبنا، وأرسطو، ومن تبعهم. أو بعضها كالجهمية: في الكلام، والخلة، والمعتزلة: في الرؤية. هذا وقد قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" 1. فالهدي القويم والعقل السليم يدلان على أن الله هو أعلم بنفسه من غير، وما سواه لم يدركوا كنه ذاته؛ لأن ما سواه مخلوق مصنوع، والمصنوع ما يعرف الصانع، كما قيل: تقاصرت الأفهام عن كنه ذاته ... فلا كيف يدري ما العقول ولا ما هو وهل يعرف المصنوع صانع نفسه بلى يعلم الباري بما هو سواه إذ العقل لم يدر الذي قد تخلفا فكيف برب خالق الكون أنشاه، فهو جل وعلا وصف نفسه بهذه الأوصاف، فاللازم على كل مسلم أن يؤمن بها، من دون تكييف، ولا تمثيل ولا تشبيه، ولا تعطيل، ويكون كما قال مالك اقرأ في الإثبات: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . [الإخلاص: 1-4] . واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . [الشورى: 11] . وقال في جواب السائل حين سأله عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك يا هذا إلا مبتدعاً. النوع الثاني من نوعي التوحيد: فعلي، وهو توحيد العبادة، وهو أن تفرد الله بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا   1 رواه مسلم (486) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . [الزمر: 2-3] . والسورة كلها عامتها في هذا المعنى إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} . [الزمر: 11-15] . إلى قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . [الزمر: 36] . وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . [البينة: 5] . وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . [غافر: 65،66] . واعلم أن التوحيد والإخلاص ما يتم إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . [النور: 63] . قال الإمام أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه من الزيغ فيهلك. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . [الحشر: 7] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . [النساء: 59] . وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . [النساء: 65] . وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} . [النساء: 69] . وقال تعالى: {إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} . [الجن: 23] . فَعُلِمَ أن شهادة أن لا إله إلا الله، لا تتم، بمعنى أنه لا تتم الألوهية أي العبودية إلا برسول مرسل إلينا، يعلمنا طريق العبادة وأنواعها، فتأمل، إلا بشهادة أن محمداً رسول الله، ولهذا صارا في الإسلام ركناً واحداً بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ركن، وإقامة الصلاة، ركن، وإيتاء الزكاة، ركن، وصوم رمضان، ركن، الحج، ركن، فالأصل: شهادة أن لا إله إلا الله، وتتمتها شهادة أن محمداً رسول الله، فلا إله إلا الله حصن كما في الحديث القدسي "لا إله إلا الله حصني أمن من عقابي" 1. الحديث، وباب الحصن الذي يدخل منه شهادة أن محمداً رسول الله، فلا إله إلا الله هي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهي الحصن الحصين. وكل حصن له باب وقفل فالباب: الشهادة بالرسالة، والقفل العمل بما جاء به صلى الله عليه وسلم، ولا يتم الضبط والاحتكام إلا بهذه الثلاثة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إله إلا الله مفتاح الجنة" 2، وكل مفتاح له أسنان، فمن أتى بها يفتح له، ومن لم   1 عزاه الحافظ العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" 1/119 للحاكم في "المغني عن حمل الأسفار" 1/119 للحاكم في "التاريخ" وأبي نعيم في "الحلية" من طريق أهل البيت من حديث علي بإسناد ضعيف جداً، وقال: "وقول أبي منصور الديلمي: إنه حديث ثابت. مردود عليه". 2 رواه الإمام أحمد (5/242) من حديث معاذ بن جبل رفعه "مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله"، وقال الهيثمي في "المجمع" 10/88: "رواه أحمد ورجاله وثقوا إلا أن شهراً لم يسمع من معاذ. وإسناده ضعيف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 يأت بها لم يفتح. والأسنان الأعمال الصالحة، والعمل الصالح ما كان على شريعة الرسول اللهم صل وسلم عليه. والحاصل، أن الدين لا يتم إلا بهذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة، ولا يقبل عمل إلا ما كان مؤسساً عليهما، كما قال عياض: ما يقبل الله عملاً إلا أخلصه وأصوبه، قيل: ما أخلصه وأصوبه يا أبا علي؟ قال: العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، والخالص ما كان لابتغاء وجه الله، والصواب ما كان على شريعة محمد بن عبد الله، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] . فجعل الله محبته منوطاً على اتباعه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 باب في أنواع الشرك 1 أنواع الشرك اعلم أن الشرك نوعان: خفي وظاهر، والثاني قولي وفعلي، وكل منهما أصغر وأكبر، فأما الخفي فكيسير الرياء والسمعة، عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به" 2. أخرجه الشيخان، قيل: معنى سمَّع الله به وراءى الله به يظهر سريرته فيعرف المرائي والمسمّع. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك" 3. وفي الصحيح: "أول من تسعّر بهم النار القارئ المرائي والمجاهد المرائي والمتصدق المرائي" 4 الحديث. وأما القولي الأصغر كالحلف، وروى الإمام أحمد وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 5. صححه الحاكم وابن حبان، ومنه قول القائل: "ما شاء الله وشئت" وقوله: "لولا الله وفلان" "أعوذ بالله وبك"، "لولا البط في الدار لأتانا اللصوص"، "وأنا في حسب الله وحسبك"، "وذا من بركة الله وبركتك"، "ولي الله في السماء وأنت في الأرض" وأمثال ذلك من الأقوال التي يجمع فيها بين الله وخلقه بالواو وذلك لأن حرف الواو تفيد الجمعية تقول: جاء زيد وعمرو، أي جميعاً معاً. وأما الفعلي الأصغر كلبس الحلقة للواهنة، والخيط للحمى،   1 هذا من الشارح –رحمه الله تعالى-. 2 رواه البخاري (6499 و7152) ومسلم (2987) . 3 رواه مسلم (2985) بنحوه. 4 رواه مسلم (1905) مطولا بغير هذا اللفظ. 5 رواه الإمام أحمد (2/125) والترمذي (1535) وأبو داود (3251) والحاكم (4/297) بإسناد صحيح على شرط مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وتقبيل حجر غير الحجر الأسود، وتقبيل القبور واستلامها من دون قصد شرعي، فإن قَصَدَ جَلْبَ نَفْعٍ، أو دَفْعَ ضَرَرٍ منها فذلك شرك أكبر يخرجه من الإسلام، ويرتد عن الإسلام بذلك، وأمثال ذلك من الأفعال. وأما القولي الأكبر فكدعوة غير الله والاستعانة بغيره، كقوله: أغثني يا فلان. والاستعانة بغيره كقوله: أستعين بك في أمري أو في حاجتي، معتقداً أنه يقضي حاجته دون الله تعالى. والاستعانة بغير الله تعالى كقول المشركين إذا نزلوا بوادٍ: إنا نعوذ بكبراء هذا الوادي من سفهائهم. وأمثال ذلك من الأقوال التي يريدون بها دون الله تعالى كشف الكربات، ودفع الملمات، وإغاثة اللهفان، وشفاء الأمراض. وأما الفعلي الأكبر كالسجود لغير الله والركوع والنذر والذبح لغيره، والخوف والرجاء من غيره، كخوفه من الله تعالى، وحب غير الله كحب الله، والتوكل على غيره، والخشية من غيره. وهنا نوع آخر من الشرك؛ لعموم البلاء وكثرة وقوعه في الناس ذكرته منفرداً، فأضع إليه سمعك، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب، هل أنت معافى أم لا؟ وهو الشرك في الإرادات والنيات. قال ابن القيم –رحمه الله-: وهو البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، أو نوى غير التقرب لله وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته. والإخلاص أن يخلص لله في أفعاله وأقواله وإرادته ونياته، وهذه هي الحنيفية، ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحدهم غيرها، وهي حقيقة الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [آل عمران: 85] . وهي ملة إبراهيم التي من رغب عنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فقد سفه نفسه. واعلم أن الكفر والشرك بينهما عموم وخصوص من وجه، بمعنى أن كل مشرك كافر، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . [الروم: 33،34] .فبيّضن الله أنهم إذا أشركوا كفروا ولا بد، وليس كل كافر مشركاً، بل من الكفر أنواع لا يشرك صاحبها، وذلك خمسة أنواع كلها يخلد صاحبها في النار. النوع الأول: كفر شكّ، بمعنى أن صاحبه متردد بين الحق والباطل، سواء كان متردداً في الجميع، أو بعض ما أنزل الله وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرجح جانب الوحيين على غيرهما، ولا للحق على الباطل. الثاني: كفر إعراض، بمعنى أمه معرض عن الحق، مع عرفانه أنه الحق لعلة من العلل، ككفر أبي طالب، أقرّ بحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما تشهد به أقواله، منها قوله خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم: وعرضتَ دِيناً قد عرفتُ بأنه ... من خير لأديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً وقوله في لاميته: لقد علم وا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعني بقول الأباطل إلى أن قال: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل إلى أن قال: فو الله لولا أن أجيء بسبة ... تُجَّرُّ على أشياخنا في المحافل لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الأمر جدَّا غير قول التهازل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وأيضاً، ككفر اليهود بالرسول صلى الله عليه وسلم بعدما جاءتهم البينة، وعرفوه أشد المعرفة، كما قال تعالى عنهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} . [البقرة: والأنعام: 20146] . فلما عرفوه كفروا به، فبيَّن الله أنهم ما كفروا به جهلاً، بل كفروا به بعد المعرفة، والعلة في ذلك الحسد قال تعالى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} . [البقرة: 109] . وككفر الوليد بن المغيرة وناس معه، بغياً بينهم، قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} . [الشورى: 14] . والثالث: مفر نفاق، وهو الذي يستبطن الباطل، ويستظهر الحق حفظاً لدمه وماله وعرضه، ككفر عبد الله بن أبيّ ومن تبعه من المنافقين إلى يوم الدين. والرابع: كفر إباء واستكبار، ككفر إبليس وفرعون، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . [البقرة: 34] . وقال تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} . [النمل: 14] . والخامس: كفر جحود وهو نوعان: جحود مطلق لا يؤمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على العموم، والثاني: جحود مقيد ببعض، كأن يجحد نبيًّا، أو ملكاً، أو رسولاً، أو كتاباً من الكتب السماوية، أو آية من كتاب، أو حرفاً متفق عليه، أو حكماً من أحكام الرسول الثابت عنه صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك. واعلم أن الكافر والمنافق أخوان، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . [الحشر: 11] . والنفاق: اعتقادي كما مضى آنفاً، وصاحبه أخو الكافر غداً في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} . [النساء: 145] . ونفاق عملي، وذلك قلّ من ينجو منه، وهو لا يُخرج صاحبه من الإسلام ولكن يُخلُّ بدينه ويضعفه، قال الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" 1. وفي حديث آخر: "إذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" 2. هذا إذا كان معتقداً صحة الدين، وإلا هو من الصنف الأول، تأمل تعرف صنوف الناس وأحوالهم. ولما كان قصد الشيخ –رحمه الله- من تأليفه الميمون بيان التوحيد الذي خُلقت الكائنات لأجله، وأرسلت الرسل لأجله، وأنزلت الكتب لأجله، وإن كانت دلائله أكثر من أن تعد وتحصى، عقلاً ونقلاً، خلقاً وأمراً، كما قيل: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد3 فهو –رحمه الله- اختصر لأهل زمانه الذين غفل أكثرهم عن الأصل الذي هو للأديان والملل أساس، وتعلقوا بفروع لم يرفع –مع عدم الأصل- لها رأس، مختصراً مفيداً، مشتملاً على دلائل نقلية أمرية، ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع أئمة الدين، وأهل الحق والعرف واليقين، وصدَّر تلك الدلائل بآية كافية في البيان، شافية للأمراض الشركية، ووساوس الشيطان، فقال –رحمه الله وجعل الجنة مثواه-: وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . يجوز في إعراب قواه الرفع على أنه العطف على كتاب، أي هذا كتاب التوحيد، وهذا قوله تعالى، ويجوز فيه الجرّ على أنه عطف على التوحيد، أي كتاب في بيان التوحيد، وفي بيان قوله تعالى وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ} قلت: فيه أعظم دليل على أنه المنفرد للخلق؛ لأنه تعالى ذكر   1 رواه البخاري (33 و2749 و2682 و6095) ، ومسلم (59) . 2 رواه البخاري (34 و2459) ومسلم (58) . 3 نسبة صاحب الوفيات 7/137 لأبي نواس، ونسبة الأصفهاني في الأغاني 4/35 لأبي العتاهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بصيغة الإفراد وهو كذلك، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . [الزمر: 62] .وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . [لأعراف: 54] . ففيه ردُّ شاف على المجوس، حيث ذهبت إلى تقديس الباري عن تخليق الشر على زعمهم، كالجبابرة، والظلمة، والأشياء المفسدة، والسباع، والحيات، وأشباهها، مما هو مضرة على الإطلاق، وصاروا كالمستعيذ من الرمضاء إلى النار، أرادوا تقديس الباري عن تخليق الشر، ووقعوا في شرك الربوبية، فجعلوا منها للباري تعالى، وجعلوا منها لإبليس عدو لله فأمضى ذلك إلى الشرك والتعجيز، والقول بأن من شاء منهم فتنفذ مشيئته، والباري لم تنفذ مشيئته. ومعلوم عند كل عاقل بالضرورة أن أخص صفات الربوبية القدرة، وتبعهم على ذلك جماعة ممن ينتسب إلى الإسلام، وهم المعتزلة، فقالوا: تقدس الله عن تخليق المعاصي، وتكوين الزنا، واللواط، وإثبات الكفر والشرك، وإرادة قتل الأنبياء. فلزمهم ما لزم المجوس من الشرك، وأهل الحق يقولون: هو الله وحده في الربوبية، وعبادته، وأفعاله، لا شريك له في تخليقه، ولا نظير له في تكوينه، ولا راد لإرادته، ولا مضاد لمشيئته، ولا يعجز عن شيء، ولا ينفذ عليه أمر حي. وأما تخليق هذه الأشياء، فالنظر فيه من وجوه: أحدها: إن قصرت عقولنا عن إدراك الحكمة فيها لا تعجز عن إدراك أن الإله لا يوصف بالعجز، فعلينا أن نعمل بالقضية المدلول علماً، ولا نتركها لمأخذ لا نقف عليه. الثاني: أن فيها ضرراً وفساداً إضافيًّا لا ذاتيًّا، فالحية لا ضرر في ذاتها بل في ريقها، كما يضرها1 ريقنا وريق الصائم يميت الله   1 أي بالاستعاذة والرقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 العقرب به فكان ريقنا سبباً لضرر الحيات والعقارب. والثالث: فيها منافع من وجوه كثيرة، كالترياق المتخذ من لحوم الأفاعي دافع ضرر السموم، وغير ذلك من الفوائد، إن أردتها انظر كتب الطب. الرابع: إظهار القهر تذكرة للعذاب والنار، كما جعل الصورة الحسنة، والبساتين المزهرة، تذكرة من الجنة، استدعاء إلى الطاعة، وزجراً عن المعصية. الخامس: تبغيض الدنيا وتكدير عيشها والتشويق إلى مفارقتها. السادس: إظهار الاستغناء عن الخلق وعدم الالتفات إليهم. قوله تعالى: (الجن والإنس) الألف واللام فيهما للماهية، أي ما خلقت ماهية الجن والإنس إلا للعبادة، ويحتمل أن يكون لاستغراق صنوف الجن وصنوف الإنس، لأن كل نوع من نوعي الجن والإنس مشتمل على أصناف متغايرة متعددة، وهذا أليق بالمقام؛ لدلالة تعداد الأجناس والأنواع والأصناف على كمال القدرة، وكمال العلم، بالجزئيات، والكليات، اللذين هما في الدلالة على الألوهية كما قيل: كأنه علم على رأسه نار. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12] . واعلم أن كل مصنوع لا بد فيه من تصور أربع علل: علة الفاعلية، وعلة الصورية، وعلة المادية، وعلة الغائية، فإذا عرفت ذلك أن الجن والإنس مصنوعان من مصنوعات الله، قال تعالى: {اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] . فيلزم فيهما ما يلزم في غيرها. فالفاعل الله وحده، جل جلاله، وعمّ نواله، قال تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 [الرحمن: 14، 15] . والآلة في الإنس: الطين، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات: 11] . والآلة في الجن: النار، قال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] . والصورة، هذه الصورة الحسنة المرئية في الإنس، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . والصورة في الجن: الجسم اللطيف المخفي عن الأعين، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] . والغاية من خلقهما العبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} والعبادة اسم لما شرعه الله تعالى في كتابه المنزل على لسان رسوله المرسل صلى الله عليه وسلم، وما خالفه من النسك والأعمال والأقوال والنيات فبدعة يستوجب صاحبه النار. عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" 1. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض: "فإن من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" 2. متفق عليه. قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "فصل في العبادات والفرق بين شرعيها وبدعيها: "فإن هذا الباب كثر فيه الاضطراب، كما كثر في   1 أخرجه البخاري (2697) ، ومسلم (1718) عن عائشة مرفوعاً بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وفي لفظ مسلم (1718) (18) : "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". 2 أخرجه الإمام أحمد (4/126 و127) وأبو داود (4607) والترمذي (2678) وابن ماجه (43) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وقوله في هذا الحديث: متفق عليه خطأ واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 باب الحلال والحرام، فإن أقواماً استحلوا بعض ما حرمه الله تعالى، وأقواماً حرموا ما أحل الله تعالى، وكذلك أقوام أحدثوا عبادات لم يشرعها الله تعالى، بل نهى عنها. وأصل الدين أن الحلال ما أحله الله ورسوله في كتابه الكريم، والحرام: ما حرمه الله ورسوله في كتابه الكريم، ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله تعالى به رسوله، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} . [الأنعام: 153] . وفي حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطًّا وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 1. وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنعام، والأعراف، وغيرهما، ما ذم الله به المشركين، حيث حرموا ما لم يحرمه الله تعالى، كالبحيرة والسائبة، واستحلوا ما حرمه الله، كقتل أولادهم، وشرعوا ديناً لم يأذن الله به، فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] .ومنه أشياء محرمة جعلوها عبادات، كالشرك والفواحش، مثل: الطواف بالبيت عراة، وغير ذلك. والكلام في الحلال والحرام له مواضع أخرى، والمقصود هاهنا العبادات، فنقول العبادات التي يتقرب بها إلى الله مفروض ومستحب، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه: "ما تقرب ألي عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته   1 أخرجه الإمام أحمد (1/435 و465) والدرامي (1/67) وابن ماجة (11) والحاكم (2/318) وابن جرير "في التفسير" (14168) وابن أبي عاصم في السنة (17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه" 1، الحديث، ومعلوم أن الصلاة منها فرض، وهي الصلوات الخمس، ومناه نافلة، كقيام الليل، وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض، وإلى المسجدين الآخرين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس مستحب، وكذلك الصدقة منها ما هو مفروض، ومنها ما هو مستحب، وهو العفو كما قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا ابن آدم إنك إن تنفق الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول" 2، والفرق بين الواجب والمستحب له وضع غير هذا. والمقصود هنا: الفرق بين ما هو مشروع –سواء كان واجباً أو مستحباًّ-وما ليس بمشروع، فالمشروع: هو الذي يتقرب به إلى الله، وهو سبيل الله، يعني شرعه الله على لسان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فيكون خالصاً صواباً فافهم، وهو البر والطاعة والحسنات والخير والمعروف، وهو طريق السائلين، ومنهاج القاصدين والعابدين، وهو الذي يسلكه كل من أراد الله وسلك طريق الزهد والعبادة، ونحو ذلك، ولا ريب أنه تدخل فيه الصلاة المشروعة، واجبها، ومستحبها، ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع، وقراءة القرآن على الوجه المشروع، والأذكار، والدعوات   1 رواه البخاري (6502) وقوله: " فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي "، إنما هو من كلام الصوفي غير مسند، انظر "الفتح" 11/352. 2 رواه مسلم (1036) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الشرعية، وما كان من ذلك، كالتلاوة، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستخارة، وما ورد من الأذكار والأدعية الشرعية في ذلك، وهذا يدخل في أمور كثيرة، وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه، وكذلك يدخل في الصيام الشرعي، كصيام نصف الدهر، وثلثه، أو ثلثيه، أو عُشره، وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ويدخل فيه الجهاد على اختلاف أنواعه، وأكثر الأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع. والعبادات البدنية وأصولها: الصلاة، الصيام، والقراءة، التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص لما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ألم أُحَدَّث أنك قلت لأصومن النهار ولأقومن الليل ولأقرأن في ثلاث"؟، قلت: بلى، قال: "فلا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس"، ثم أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم، فقال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: "لا أفضل من ذلك"، وقال: "أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأفضل القيام قيام داود كان نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه"، وأمره أن يقرأ القرآن في سبع1. ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين: "يحقر أجدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" 2. فذكر اجتهادهم بالصلاة، والصيام، والقراءة، وأنهم يغلون   1 رواه البخاري (1131 و1153 و1974-1980) وفي مراضع أخر، ومسلم (1159) . 2 رواه البخاري (5058 و6163 و6931 و6933) ومسلم (1064) (148) وقوله: "وقراءته مع قراءتهم" أخرجه مسلم (1066) (156) من حديث علي رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 في ذلك، حتى تحقر الصحابة عبادتهم في جنب عبادة هؤلاء، وهؤلاء غلوا في العبادة بلا فقه، حتى آل الأمر بهم إلى البدعة فقال: "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة". فاستحلوا دماء المسلمين، وكفَّروا من خالفهم، وجاءت فيهم الأحاديث الصحيحة، قال الإمام أحمد بن حنبل: صح فيهم الحديث من عشرة أوجه، وقد أخرجها مسلم في صحيحه، وأخرج البخاري قطعة منها. ثم هذه الأجناس الثلاثة مشروعة، ولكن يبقى الكلام في القدْر المشروع منها، وله تصنيف يُسمى: كتاب "الاقتصاد في العبادات" وقال أُبيّ بن كعب –رضي الله عنه-: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. والمقصود هنا الكلام في أجناس عبادات غير مشروعة حدثت في المتأخرين، كالخلوات، فإنها تشبّه الاعتكاف الشرعي، والاعتكاف الشرعي في المساجد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله هو وأصحابه، وأما الخلوات فبعضهم يحتج فيها بتحنثه صلى الله عليه وسلم بغار حراء قبل الوحي، وهذا خطأ فإن ما فعله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة فنحن مأمورون باتباعه، وإلا فلا –إلى أن قال-: ثم صار أصحاب الخلوات منهم من يستمسك بجنس العبادات الشرعية، كالصلوات، والصيام، والقراءة، والذكر، وأكثرهم يخرجون إلى أجناس غير شرعية، فمن ذلك طريق أبي حامد ومن تبعه، وهؤلاء يأمرون صاحب الخلوة أن لا يزيد على الفرض، ولا قراءة ولا نظر في حديث نبوي، ولا غير ذلك، بل قد يأمرون بالذكر ثم يقولون ما يقوله أبو حامد: ذكر العامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 :لا إله إلا الله" والخاصة "الله الله" وذكر خاصة الخاصة "هو هو" والذكر بالاسم المنفرد، مظهراً أو مضمراً، بدعة في الشرع، وخطأ في القول واللغة، فإن الاسم المجرد ليس هو كلاماً، لا إيماناً ولا كفراً، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن وهي من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" 1. وفي حديث آخر: "أفضل الذكر لا إله إلا الله" 2. والأحاديث في فضل هذه الكلمات كثرة صحيحة، وأما الاسم المفرد بدعة لم تشرع، وليس هو بكلام يعقل، ولا فيه إيمان، ولهذا صار بعض من يأمر به من المتأخرين منهم يبيّن أنه ليس قصدنا ذكر الله، ولكن جمع القلب على شيء معين، حتى تستعد النفس لما يرد عليها. فكان يأمر مريده بأن يقول هذا الاسم مرات، ويخيل إليه أنه صار في الملأ الأعلى، وأنه أعطي ما لم يعط محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ولا موسى يوم الطور، -ثم ذكر كلاماً طويلاً في تنوع هؤلاء والرد عليهم إلى أن قال-: وأما قصد الصلاة، والدعاء، والعبادة، في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والدعاء والعبادة، بل روي أنهم مروا به، أو نزلوا فيه أو سكنوه، فهذا لم يكن ابن عمر ولا غيره يفعله، وأبلغ من ذلك إذا رأى أحدهم في المنام بمكان أن يقصد الصلاة والدعاء والعبادة في ذلك المكان فهذا لم يفعله أحد من السلف، بل قد نقل أن أقواماً قصدوا الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها، فأمر عمر فقطعت.   1 رواه مسلم (2137) (12) عن سمرة بن جندب مرفوعاً بلفظ: "أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" وعلقه البخاري (7/293) بصيغة الجزم بلفظ: "أفضل الكلام أربع ... ". 2 أخرجه الترمذي (3383) ، وابن ماجه (3800) ، وفي سنده موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري، صدوق يخطىء كما في "التقريب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وقد ثبت من غير وجه: "لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد يحذر مثل ما فعلوا" 1. ومعلوم أن هذا النهي عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، وإرادة أن تكون المساجد خالصة لله تعالى، تبنى لأجل عبادته فقط، لا يشرك في ذلك مخلوق، فإذا بني المسجد لأجل ميت كان حراماً، فكذلك إذا كان لأثر آخر، فإن الشرك في الموضعين حاصل. ولهذا كانت النصارى يبنون الكنائس على قبر الرجل الصالح، وعلى أثره، وباسمه، وهو الذي خاف عمر أن يقع فيه المسلمون، وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم منع أمته منه، قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . [الجن: 18] . وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . [الأعراف:29] . ولو كان هذا مستحبّاً؛ لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا في جميع حُجَر أزواجه، وفي مكان نزل فيه في غزواته، وأسفاره، ولكان يستحب أن يبنوا هناك مسجداً، ولم يفعل السلف شيئاً من ذلك، ولم يشرع الله تعالى للمسلمين مكاناً يُقصد للصلاة إلا المسجد، ولا مكاناً يقصد للعبادة إلا المشاعر، فمشاعر الحج كعرفة ومزدلفة ومنى، تقصد للعبادة، والذكر، والدعاء، والتكبير، لا للصلاة، بخلاف المساجد فإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثَمَّ مكان يقصد بعينه، إلا المساجد، والمشاعر، وفيها الصلاة والنسك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} . [الأنعام: 162،163] . وما سوى ذلك فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها   1 أخرجه البخاري (435 و1330 و1390 و3453 و4441 و4443 و5815) ومسلم (531) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 للصلاة ولا للدعاء ولا للذكر، إذا لم يكن شرع الله ورسوله قصدها لذلك، وإن كان مسكناً لنبي، أو منزلاً، أو ممرّاً، فإن الدين أصله متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وموافقته، بفعل ما أمرنا به، وشرعه لنا، وسنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي يشرع لنا الاقتداء به فيها، بخلاف ما كان من خصائصه، فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلاً، سن لنا أن نتأسى به فيه فهذا ليس من العبادات والقربة، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم، وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد، يجوز لنا أن نفعله مباحاً كما فعله مباحاً. ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان كما تقدم، وأكثر السلف والعلماء على أن لا نجعله عبادة وقربة، بل نتبع فيه، وأهل العبادات البدعية يزين لهم الشيطان تلك العبادة، ويبغض إليهم السبل الشرعية، حتى قد يبغضهم العلم والقرآن والحديث. –ثم ذكر كلاماً طويلاً في تنوع هؤلاء إلى أن قال رحمه الله تعالى-: ثم إن هؤلاء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من الله بلا واسطة، صاروا عند أنفسهم أعظم من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول أحدهم: فلان أعطي على يد محمد وأنا عطيتي من الله بلا واسطة. ويقول أيضاً: فلان يأخذ عن الكتاب وهذا الشيخ يأخذ عن الله. وأمثال هذا، قول القائل: يأخذ عن الله وأعطاني الله، قول مجمل فإن أراد به الإعطاء والأخذ العام وهو الكوني والخلقي، أي بمشيئة الله تعالى وقدرته حصل لي، فهذا حق، ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا، وإن أراد أن هذا الذي حصل لي هو ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه، وهذا الخطاب الذي يلقى إليّ هو كلام الله، فهنا طريقان: أحدهما أن يقال: من أين لك هذا إنما هو من الله لا من الشيطان وإلقائه ووسوسته؟ فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون، وينزلون عليهم، كما أخبر الله بذلك في القرآن، وهذا موجود كثير في عباد المشركين وأهل الكتاب، وفي الكهان والسحرة، ونحوهم، وأهل البدع بحسب بدعتهم، فإن كانت هذه الأحوال قد تكون رحمانية وقد تكون شيطانية؛ فلابد من الفرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان. والطريق الثاني أن يقال: بل هذا من الشيطان؛ لأنه مخالف لما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ينظر فيما حصل له، وإلى سببه، وإلى غايته، فإن كان السبب عبادة غير شرعية، مثل أن يقال: اسجد لهذا الصنم حتى يحصل لك المراد، واستشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب، أو ادع هذا المخلوق، واستغث به، مثل أن يدعو الكوكب، أو أن يدعو مخلوقاً كما يدعو الخالق، سوء المخلوق ملكاً، أو نبيًّا، أو شيخاً. فإذا دعاه كما يدعو الخالق سبحانه إما دعاء عبادة، وإما دعاء مسألة، صار مشركاً به، فحينئذ ما حصل له بهذا السبب حصل له بالشرك، كما يحصل للمشركين وكانت الشياطين تترائى لهم أحياناً، وقد يخاطبونهم من الصنم، ويخبرونهم ببعض الأمور الغائبة، أو يقضون لهم الحوائج، فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه من توحيدهم وإيمانهم، الذي هلكوا بزواله كالسحر، قال الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} . إلى قوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . [البقرة: 102] 1   1 قاعدة في العبادات والفرق بين بدعيتها وشرعيتها بشيخ الإسلام ابن تيمية (ص20-ص68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قال ابن رجب -رحمه الله تعالى- في شرح "الأربعين": "والأعمال قسمان: عبادات، ومعاملات، فأما العبادات: فما كان منها خارجاً عن حكم الله ورسوله بالكلية فهو مردود على عامله، وعامله يدخل تحت قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . [الشورى: 21] . فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود عليه، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، وهذا كمن تقرب إلى الله تعالى بسماع الملاهي، أو بالرقص، أو بكشف الرأس، في غير الإحرام، وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية. وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقاً، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قائماً في الشمس فسأل عنه فقيل: إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل، وأن يصوم. فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقد ويستظل وأن يتم صومه 1، فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة بنذرهما، وقد روي أن ذلك كان في يوم الجمعة عند سماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يخطب2 إعظاماً لسماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قربة تُوفي بنذره مع أن القيام عبادة في مواضع للمحرم، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها. وكذلك من تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها، كمن صام يوم العيد، أو صلى في وقت النهي.   1 رواه البخاري (6704) . 2 رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (2167) ، وابن حبان (4385) وإسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وأما من عمل عملاً أصله مشروع وقربة، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، أو أخل فيه بمشروع فهذا مخالف أيضاً للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصله مردوداً عليه أم لا؟ فهذا لا يطلق القول فيه برد ولا قبول، بل ينظر فيه، فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل، أو شروطه، موجباً لبطلانه في الشريعة، كمن أخل بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها، أو كمن أخل بالركوع، أو بالسجود، أو بالطمأنينة فيهما، فهذا عمله مردود عليه، وعليه إعادته إن كان فرضاً، وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل، كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها، ولا يجعلها شرطاً، فهذا لا يقال: إن عمله مردود من أصله بل هو ناقص، وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع، فزيادته مردودة عليه، بمعنى أنها لا تكون قربة، ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله؛ فيكون مردوداً، كمن زاد في صلاته ركعة عمداً مثلاً، وتارة لا يبطله ولا يرده من أصله، كمن توضأ أربعاً أربعاً، أو صام الليل مع النهار، وواصل في صيامه. وقد يبدل بعض ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه، كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة غصب، فهذا قد اختلف العلماء فيه: هل عمله مردود من أصله؟ أو أنه غير مردود، وتبرأ به الذمة من عهدة الواجب؟ وأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله، وقريب من ذلك الذبح بآله محرمة، أو ذبح من لا يجوز له الذبح، كالسارق، فأكثر العلماء على أنه تباح الذبيحة بذلك، ومنهم من قال: هي محرمة، وكذا الخلاف في ذبح المحرم للصيد، لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر؛ لأنه منهي عنه بعينه، ولهذا فرَّق من فرّق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فيبطلها، وبين أن لا يكون مختصًّا بها، فلا يبطلها، فالصلاة بالنجاسة، أو بغير طهارة، أو بغير ستارة، أو بغير قبلة، يُبطلها، لاختصاص النهي بالصلاة، بخلاف الصلاة في الغصب. ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما ينهى عنه فيه بخصوصه، وهو جنس الأكل، والشرب، والجماع، بخلاف ما نهي عنه الصائم لا بخصوص الصيام، كالكذب، والغيبة. عند الجمهور، وكذلك الحج لا يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام، وهو الجماع ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات، كالقتل، والسرقة، وشرب الخمر، وكذلك الاعتكاف إنما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو الجماع، وإنما يبطل بالسكر لنهي السكران عن قربان المسجد، ودخوله، على أحد التأويلين لقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} . [النساء: 43] . أن المراد مواضع الصلاة، فصار كالحائض، ولا يبطل الاعتكاف بغيره من ارتكابه الكبائر عندنا، وعند كثير من العلماء، وإن خالف في ذلك طائفة من السلف، منهم: عطاء، والزهري، والثوري، ومالك، وحكي عن غيرهم أيضاً. وأما المعاملات كالعقود، والفسوخ، ونحوهما فما كان منها تغييراً لأوضاع الشريعة؛ كجعل حد الزنا عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فإنه مردود من أصله، لا ينتقل به الملك؛ لأن هذا غير معهود. وما كان منها عقوداً منهيًّا في الشرع، إما لكون المعقود عليه ليس محلاًّ للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يحصل به للمعقود معه، أو عليه، أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله الواجب عند تضايق وقته، أو غير ذلك، فهذا العقد هل هو مردود بالكلية لا ينتقل به الملك أم لا؟ هذا الموضع قد اضطرب الناس فيه، وذلك أنه ورد في بعض الصور أنه مردود لا يفيد الملك، وفي بعضها أنه يفيده، والأقرب إن شاء الله تعالى أنه إن كان النهي عنه لحق الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 تعالى؛ فإنه لا يفيد الملك بالكلية، ومعنى كون الحق الله: أنه لا يسقط رضا المتعاقدين عليه. وإن كان النهي عنه لحق آدمي معين، بحيث يسقط برضاه، فإنه يقف على رضاه به، فإن رضي لزم العقد واستمر الملك، وإن لم يرض به فله الفسخ، فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية، كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق؛ فلا عبرة برضاه وبسخطه. وإن كان النهي رفقاً بالمنهي خاصة لما يلحقه من المشقة، فخالف وارتكب المشقة، لا يبطل بذلك عمله. فأما الأول فله صور كثيرة منها: نكاح من يحرم نكاحه، إما لعينه كالمحرمات على التأبيد بسبب أو نسب، أو للجمع، أو لفوات شرط لا يسقط بالتراضي بإسقاطه، كنكاح المعتدة المحرمة، والنكاح بغير ولي، ونحو ذلك. وقد روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم فرَّق بين رجل وامرأة تزوجها وهي حبلى" 1،فردّ النكاح لوقوعه في العدة. وأما الثاني، فله صور عديدة منها: إنكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها بغير إذنها، ومنها: بيع المدلس ونحوه، كالمصرّاة، وبيع النَّجْش، وتلقي الركبان، ونحو ذلك. وفي صحته كله اختلاف مشهور. وذهب طائفة. وأما الثاني، فله صور عديدة منها: إنكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها بغير إذنها، ومنها: بيع المدلس ونحوه، كالمصرّاة، وبيع النَّجْش، وتلقي الركبان، ونحو ذلك. وفي صحته كله اختلاف مشهور. وذهب طائفة إلى بطلانه وردّه، والصحيح أنه يصح، ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك". انتهى كلامه ملخصاً2. ولما استدل الشيخ -رحمه الله- بما فيه أتم بيان لموجب خلق الجن والإنس، بدأ بما فيه أكمل وضوح لموجب إرسال الرسل. تفسير الآية الثانية: قال -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا   1 أخرجه أبو داود (2131) من حديث رجل من الأنصار يقال له بُصرة، وسنده مضطرب. 2 جامع العلوم والحكم لابن رجب (177-185) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، يخبر تعالى بعاده ويوضح لهم أنه تعالى وتقدس ما أرسل رسله إلى عباده إلا ليعبدوه وحده، ولا يشركوا معه غيره، لا في العبادة القولية، ولا الفعلية، ولا الإرادية، والنية، فضلاً منه ورحمة لئلا يضلوا فيستوجبوا دخول النار، قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . [النساء: 165] . قلت في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا} الآية فوائد لمن تدبرها: الأولى: أنه تعالى بعث في كل أمة رسولاً، ولا خصص أمة دون أمة، لإظهار عدله، وإتمام حجته على الناس كلهم. الثانية: أنه ما تركهم هملاً، بل أرسل إليهم رسلاً يرشدونهم إلى التي هي أقوم وأصلح من أمر دينهم الذي به سعادة الأبدية. الثالثة: أنه تعالى ما خلقهم عبثاً، بل لعبادته خلقهم قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} . [المؤمنون: 115،116] . نزه الله نفسه عن خلقهم عبثاً وتركهم هملاً لا يبعث الرسل إليهم ولا ينزل معهم الكتب زلا يبين لهم مراده. الرابعة: أن اختلاف الناس في الألوهية أي في أفعالهم، ليس اختلافهم في الربوبية، أي أفعال الله؛ لأنه لو كان الاختلاف في الربوبية لذكره الله تعالى كما ذكر اختلافهم في الألوهية كقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، [النحل: 36] . وقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} . [هود: 1، 2] . وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . [الكهف: 110] .فبين الله تعالى أن الذي أوجب إرسال الرسل شرك الألوهية، ليس شركاً في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الربوبية، بل إن الكفار مقرون بالربوبية، كما حكى الله تعالى عنهم قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . [الزخرف: 9] . وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . [يونس: 31] . وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . [المؤمنون: 86،87] . وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} . [المؤمنون: 84،85] . وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . [المؤمنون: 88،89] . الخامسة: أن اجتناب الطواغيت فرض وحق على العباد، كما أن عبادة الله فرض وحق على العباد، ولا يتم التوحيد إلا باجتناب الطواغيت، كما قال تعالى عن إمام الحنفاء: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ, إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} . [الزخرف: 26،27] . وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . [الممتحنة:4] . هذا بل الكفر بالطواغيت مقدم على الإيمان بالله عقلاً ونقلاً، أما النقل؛ فقد قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} . [البقرة: 256] . وأما العقل؛ فمعلوم بالضرورة أن الصبغ لا يؤثر في المتدنس والمتوسخ من كل نوع حتى ينظف، أما ترى الصفارين والصباغين أكثر جهدهم في زوال الأعراض المانعة من الصبغ؟ وهي الأدناس والأوساخ، فكذلك الدين والإيمان ينبغي أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 يزال عن القلوب الأوساخ التي وقعت عليها، من عبادة الطواغيت، وحبها أولاً، ثم يصبغ بصبغة الله تعالى وهو التوحيد والإخلاص، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} . [البقرة: 138] . قال البيضاوي في تفسيره: سناه صبغة لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ، وتداخل في قلوبهم الإيمان تداخل الصبخ الثوب انتهى. وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم. السادسة: أن دعوتهم في أصل الدين واحدة، ولا تغاير بين دعوتهم، ولا تخالف بين كلمتهم إلا في الفروع، وهي الشرائع، قال تعالى: {جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} . [المائدة: 48] . وقال صلى الله عليه وسلم: "نحن الأنبياء أولاد علات أبونا واحد وأمهاتنا متفرقة" 1. تفسير الآية الثالثة: ثم استدل الشيخ -رحمه الله تعالى- على التوحيد بحكم الله الذي حكم به على عباده من فوق سبع سموات قال -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} الآية أي وحكم ربكم عليكم أن لا تعبدوا إلا إياه كقوله: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} . [طه: 72] . أي احكم ما أنت حاكم، لا بمعنى قدّر، ولو أنه بمعنى قدر ما أشرك أحد، كما في الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "إني سألت أن لا يهلكهم بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم فقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد" 2. الحديث.   1 رواه البخاري (3443) ومسلم (2365) بنحوه. 2 رواه مسلم (2889) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ثم استدل الشيخ -رحمه الله تعالى- على التوحيد بأمر الله الذي أمر به عباده فقال -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . واعلم أن الأمر أمران: أمر كوني، وأمر شرعي، وكلا الأمرين ينطقان بالتوحيد، أما الأمر الكوني فدلالته على التوحيد دلالة السبب على المسبب؛ لأنه المشتمل على أفعال الله كلها، من خلق، ورزق، وتدبير، وغير ذلك، وذلك سبب وعلة وقنطرة يوصل إلى توحيد الألوهية، التي هي عبادة الله وحده لا شريك له، وهذه طريقة القرآن، نبه الله تعالى عباده بأفعاله الجميلة الحسنة وقدرت الكاملة وعلمه المحيط على أنه المعبود بحق في الوجود، وأن ما سواه باطل، كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} . [الرعد: 14] . والقرآن مملوء من هذا، بل كل القرآن يقرر هذا التقرير كما تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . [فصلت: 53] . ومن ذلك ما ذكر الله متواليات في سورة الروم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} . [الروم: 20-25] . وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . [البقرة: 164] . قال البيضاوي: "واعلم أن دلالة هذه الآية على وجود الإله ووحدانيته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلاً، والكلام المجمل أنها أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة، وأنحاء مختلفة يتحير العقل عن كنه حقيقته، ولكن يستدل العقل استدلالاً ما على وحدانية الله، وقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . [النمل: 60-64] . فهذه طريقة القرآن ينبه عباده عن غفلتهم عن عبادته بأفعاله الجميلة، وآلائه المشيعة، ونعمائه المبثوثة، ويحذرهم نفسه بقدرته الكاملة وعلمه المحيط بكل شيء فهو سبحانه يذكرهم نعمه ويحذرهم نقمه؛ لكي يتوبوا إليه بالأعمال الصالحة ويقصدوه وحده لا شريك له، ولا يشركوا به غيره في العبادة، فصار الأمر كوني سبباً وعلة، وقنطرة للألوهية التي خلقت الكائنات كلها بأسرها وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب لأجلها. ويتشعب من الأمر الكوني الأمر العقلي، وإن كان العقل مما كونه الله تعالى في تركيب الإنسانية ليميز به الحسن والقبيح، والحق والباطل، فأنا أذكره على حدته، لعظم شأنه، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 يترتب عليه من الثواب والعقاب، والكمال والجمال: اعلم أن جوهر العقل إن لم يتلطخ بلطخ عذرات الكفر والشرك والنفاق، ولم يتدنس بدنس الذنوب والسيئات، ولم يختل بخلا أمراض الشبهات والشهوات، الدال صاحبه على فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي الملة الحنيفية ملة إبراهيم، ودين محمد بن عبد الله صلوات الله عليهم أجمعين، وهو التوحيد دلالة تامة لا محالة. وقد بين الله تعالى أن ذوي العقول هم أحرى للهداية، بل علق الله تعالى العقل والتذكر والتفكر، وأنه مهما عقل الإنسان وتفكر في آيات الله الكونية لدلته على لب اللباب وزبدة السنة والكتاب، وهو توحيد الألوهية، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . [آل عمران: 190] . وقال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . [الروم: 28] . وغير ذلك من الآيات الدالة على أن أهل العقول هم المستنفعون بالآيات الكونية، والآيات الأمرية، فعلى هذا أنا أمثل أمثالاً عقلية توافق النقل على أن لا يعبد مع الله غيره، وأن عبادة غيره باطلة، وأن عابد غيره أضل من كل ضال. المثل الأول: لو أن ملكاً قاهراً فوق رعاياه فأتاه مظلوم من رعاياه فدعاه مع عبدٍ مملوكٍ له في أخذ مظلمته هل يجوزه العقل؟ بل يستنكره ويستقبحه، مثل أن يقول: يا أيها الملك ويا أيها المملوك خذوا مظلمتي من هذا، فكل أحد يراه يقبح عليه؛ لأنه دعا الملك مع مملوكه جميعاً وشاركه معه في حكمه وأمره، ويغضب عليه الملك لأجل ذلك، فإذا كان دعوة الملك مع مملوكه جميعاً في قضاء الحاجة قبيح، وحال أنهم كلهم بنو آدم، وهم سواء في جميع الأحوال، إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أن المملوك قد جعله الله تحت يد الملك. فكيف بالأحد القيوم الصمد، الذي ليس كمثله أحد؟ يدعى مع عبده المخلوق الضعيف، النحيف العاجز، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعاً، لاسيما يدعو مع الله ميتاً، كأن يقول: "يا الله يا عيدروس"، أو "يا الله يا فلان ويا فلان". وقد نبه الله تعالى على هذا، قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . [المؤمنون: 117] .فقد كفَّر الله من دعا مع الله غيره. المثل الثاني: أو أن غنيًّا كريماً ينفق من أصناف المال سرًّا وجهراً، ومملوك له لا يقدر على شيء، لا لنفسه ولا لغيره، فجاء محتاج وطلب حاجته من العبد وترك الغني الكريم، هل يجوّزه العقا؟ بل يستنكره ويستقبحه، وكل يقبح على فاعله، فإذا كان هذا قبيح في الغني الكريم والمملوك له، وهم بنو آدم فكيف برب البرايا مالك الملك والملكوت، يُترك ويُدعى المخلوق الضعيف، بل الموتى، بل الأشجار والأحجار في كشف الكربات ودفع الملمات؟ وقد نبه الله على هذا قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75] . المثل الثالث: هل يرضى أحد أن يساوي مملوكه معه في حقه؟ وإن رضي أحد؛ هل يجوزه العقل؟ بل يستنكره أشد الاستنكار، ويستقبحه، وكل يقبح عليه ويوبخه على ذلك، فإذا كان هذا في العبيد النقص لا يجوز، فكيف بمساواة الكامل في جميع الوجوه خالق كل شيء لا إله إلا هو بعبد ضعيف عاجز لا يملك لنفسه شيئاً، فضلاً عن غيره؟ إلا في الدعاء، والحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأن كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ذلك عبادة والعبادة حق لله تعالى، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . [النحل: 36] . وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . [النساء: 36] . وقال تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . [المائدة: 72] . فإن قلت: الشرك المذكور ليس في العبادة، بل الشرك في الربوبية والملك. قلت: هذا يرده القرآن فإن الله قد أخبر أن المشركين يقرون بالربوبية والملك ولم يدخلوا في الإسلام لما أنهم أشركوا في العبودية، قال تعالى عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . [لقمان: 25] . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . [يونس: 31] . فهذه الربوبية قد أقرَّ بها الكفار المشركون وأما الملك فكذلك أقروا به قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . [المؤمنون: 88، 89] . فبين الله أن المشركين كانوا مقرين بالملك أيضاً، كما أنهم مقرون بالربوبية، ولكن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم على شرك العبادة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . [الكهف: 110] . وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} . [الأنفال: 39] . والدين: هو العبودية مطلقاً، فإذا عرفت ذلك فكيف يساوى مع الخالق القادر، العبد العاجز؟ وقد نبه الله على هذا، قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . [الروم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 28] . وقد ذكر الله تعالى عن الذين ساووا مع الله غيره أنهم يشهدون على أنفسهم بالضلال، قال تعالى: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . [الشعراء: 96، 97] . المثل الرابع: لو أن ملكاً قاهراً له عبيد مملكة لا يقدرن على شيء، بل يرجون مولاهم في ما ينوبهم، ويخافون عذابه ونقمته وعقوبته، ثم يأتي عبد من عبيده فيلوذ بعبد مثله من ضرّ، أو يطلب حاجة، ويترك الملك المعطي المانع النافع الضار، هل يجوزه العقل؟ بل يستنكره ويستقبحه، وكل يقبح عليه، فإذا كان هذا في بني آدم وهم سواء في العبودية والخلق، فكيف بمن يترك الرب تعالى وينساه، ويدعو غيره في كشف الضر وتحويله؟ كأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو اشفني، أو غير ذلك من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى. وقد نبه الله تعالى على هذا قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . [الإسراء: 56، 57] . ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في عيسى وعُزير، تنبيهاً لمن يقصدهم في كشف الضر وتحويله، فإذا كان عيس روح الله وعزير لا يقدرون على كشف الضر وتحويله من مكان إلى مكان، ومحل إلى محل، فكيف بغيرهم؟ المثل الخامس: لو أن أحداً مر على مقبرة، ومعه دابة محملة فوقعت دابته في حفرة من الحفر، فقال: يا أهل القبور، يا فلان، يا فلان، -يعدد الموتى- ساعدوني على دابتي، وعنده رجل حي قوي، تركه ولم يدعه، هل يجوزه العقل؟ بل ينكره ويستقبحه من مخلوق يترك مخلوقاً حيَّا، ويدعو الموتى، فكيف بمن ترك الحي القيوم، ودعا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 كشف الكربات، ودفع الملمات أهل القبور؟ وقد نبه الله على ذلك، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . [النحل: 19-22] . المثل السادس: لو أن عبيد مملكة تحت ملك قاهر ما لهم من الأمر شيء إلا ما يأتيهم من تحت تصريف الملك وأمره، فيسأل بعضهم بعضاً مما في خزائن الملك، فهل يجوزه العقل؟ بل ينكره ويستقبحه؛ لأنهم لا يقدرون على نفع أنفسهم، فضلاً عن غيرهم، فإذا كان هذا يستقبح إذا سأل بعضهم بعضاً مما في خزائن ملك مخلوق مثلهم، فكيف بمن يسأل مخلوقاً حيًّا، أو ميتاً مما في خزائن الله تعالى، مما لا يقدر عليه إلا الله؟ مثل كشف الضر وتحويله قال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . [الشورى: 12] . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} . [الأحزاب: 17] . فهو المتفرد بالخلق والأمر والتدبير والملك {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . [يس: 83] . وقد نبه الله تعالى على مثل هذا المثل قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} . [الأعراف: 194] . فطوبى لعبد ذكر الله ولم يغفل عنه تعالى حتى يحصل رضى الله والجنان قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} . [الأحزاب: 35] . وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . [الأنفال: 2] . وخاب عبد نسي ربه قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . [الحشر: 19] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا نسي العبد ربه أَوْجَبَ ذلك بأمر الله نسيانه نفسه، فحينئذ أعرض عن مصالحها، ونسيها، واشتغل عنها فهلكت، وفسدت، ولا بد لمن له زرع، وبستان، وماشية، وغير ذلك، مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه فأهمله ونسيه واشتغل عنه بغيره وضيع مصالحه فإنه يفسد ولا بد، وهذا مع إمكان قيام غيره مقامه، فكيف الظن بفساد نفسه، وهلاكها، وشقائها، إذا أهملها ونسيها، واشتغل عن مصالحها، وعطل مراعاتها، وترك القيام، عليها بما يصلحها؟ فإذاً خذ ما شئت من فساد، وهلاك، وخيبة، وحرمان، وهذا الذي صار أمره فرطاً ففرط عليه أمره وضاعت مصالحه وأحاطت به أسباب القطوع، والخيبة، والهلاك، ولا سبيل إلى الأمان من ذلك؛ إلا بدوام ذكر الله، واللهج به، وترك ما سواه، وأن لا يزال اللسان رطباً به، وأن ينزله منزلة حياته التي لا غناء له عنها ومنزلة غذائه الذي إذا فقده فسد جسمه وهلك وبمنزلة الماء عند شدة العطش وبمنزلة اللباس في الحر والبرد؛ وبمنزلة الكنّ في شدة السموم في الصيف، وشدة البرد في الشتاء. فمن نسي الله أنساه نفسه في الدنيا ونسيه في العذاب يوم القيامة. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-. ولو أردنا أن نتتبع ما يناسب إبطال هذا الأمر الشنيع، واستقباح هذا المنكر الفظيع: أنْ يُسَاوَى مع الله تعالى غيره في العبادة، أو في كشف الضر، ورد الخير ما وسعه المقام، وتعجز عنه الألسن والأقلام {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} . [يونس] . والأمر الثاني الأمر الشرعي فهو الصريح على الألوهية مجملاً ومفصلاً أما المجمل فكقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . [النساء: 36] . وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . [البينة: 5] . وقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . [النحل: 36] . وقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} . [هود: 1، 2] . وأما المفصل فكقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . [المائدة: 23] . {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} . [المائدة: 44] . {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} . [آل عمران: 175] . {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} . [البقرة: 41] . {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . [البقرة: 40] . {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} . [الزمر: 54] . {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} . [البقرة: 152] . {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . [الكوثر: 2] . {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} . [الأنعام: 162،163] . وغير ذلك من الآيات المفصِّلة أنواع العبادة، نوعاً فنوعاً. ويتشعب من الأمر الشرعي الذي أمر به الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان أمره صلى الله عليه وسلم مما أمره الله تعالى، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . [النساء: 113] . قيل: الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة. قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . [النجم: 1-4] . فأنا أذكر بعضاً من أحاديثه التي تدل على الأمر بالتوحيد، وحسنه، وفضله. وعن النهي عن الشرك، وقبحه، لاجتماع الوحيين ودلالتهما على المقصود صريحاً، واندحاض الباطل، وارتداع الملحد، وانقماع البدع. فمن بيانه صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد: ما خرَّج البخاري في صحيحه، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شراحبيل، قال: قال عبد الله: قال رجل يا رسول الله، أي الذنب أكبر؟ وفي حديث آخر: أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندَّا وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 خلقك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال: ثم أي؟ قال: " أن تزاني حليلة جارك" 1. وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 2. رواه الترمذي وحسنه. وروى أبو داود وغيره، عن ابن مسعود "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" 3.وعن ابن مسعود مرفوعاً: "الطيرة شرك وما منا إلا يذهبه الله بالتوكل" 4 رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الخراز، عن ابن أخي زينب، عن زينب امرأة ابن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح، وبزق، أن يهجم منا على شيء يكرهه. قالت: وإنه جاء ذات يوم وتنحنح، قالت: وعندي عجوز ترقيني من الحُمرة، فأدخلتها تحت السرير، قالت: فدخل، فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطاً، فقال: ما هذا الخيط؟ قالت: خيط أرقى لي فيه، فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك". قلت: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، وكان إذا رقاها سكنت؟ قال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينسخها بيده فإذا رقيتيها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذهب البأس رب الناس   1 رواه البخاري (4477 و6861) ومسلم (86) . 2 تقدم ص 18 برقم 4. 3 أخرجه الإمام أحمد (1/381) وأبو داود (3883) وابن ماجه (3530) وفي سنده مجهول، وله طرق يتقوى بها أخرجها الحاكم (4/216-217 و417-418) . 4 رواه الإمام أحمد (1/389 و438 و440) ، وأبو داود (3910) ، والترمذي (1614) وقال: "حسن صحيح". وصححه الحاكم (1/17) ، ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً" 1. وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد عن وكيع عن ابن أبي ليلى عن عيسى بن عبد الرحمن قال: "دخلت على عبد الله بن عُكيم وهو مريض نعوده، فقيل له: لو تعلقت شيئاً، قال: أتعلق شياً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من علق تميمة فقد أشرك" 2. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله: أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي غيري تركته وشركه" 3. رواه مسلم. وعن أبي سعيد بن أبي فضالة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء" 4. رواه الإمام أحمد. وقال الإمام أحمد: ثنا يونس، ثنا ليث، عن يزيد –يعني ابن الهاد- عن عمرو، عن محمود بي لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرياء يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤن في الدنيا فانظروا هل ترون عندهم   1 رواه الإمام أحمد (1/381) وفي سنده مجهول، ولم طرق أخرى يتقوى بها عند الحاكم (4/216-217 و417-418) وتقدم فيه. 2 رواه الإمام أحمد (4/156) من حديث عقبة بن عامر الجهني: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وتركت هذا؟ قال: إن عليه تميمة. فأدخل يده فقطعها فبايعه وقال: من علق تميمة فقد أشرك". 3 رواه مسلم (2985) . 4 أخرجه الإمام أحمد (3/466) (4/215) من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة، وفي سنده زياد بن ميناء، مقبول، كما في "التقريب" ولكنه يتقوى بحديث أبي هريرة المتقدم قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الجزاء" 1. وللإمام أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً "من ردته الطيرة حاجته فقد أشرك" قالوا: يا رسول الله ما كفارة ذلك؟ فقال: "أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك" 2. وللإمام أحمد عن أبي موسى أنه خطب فقال: أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل، فقام عبد الله بن حزن، وقيس بن المضارب فقالا: لتخرجن مما قلت، أو لنأتين عمر مأذون لنا أو غير مأذون. قال: بل أخرج مما قلت خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل " فقال له من شاء الله أن يقول: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه" 3. وقد روي من وجه آخر أن السائل هو الصِّدِّيق. وعن أبي هريرة قال: قال أبو بكر: يا رسول الله علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعي. قال: "قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه" 4. رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وصححه.   1 أخرجه الإمام أحمد (5/428) من طريقين البغوي (4135) . 2 أخرجه الإمام أحمد (2/220) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفي سنده ابن لهيعة. وله شاهد من حديث بريدة بنحوه أخرجه الطبراني في "الدعاء" (1270) وإسناده ضعيف، لكن الحديث يتقوى بطريقته. 3 رواه الإمام أحمد (4/403) وفي سنده مجهول. وله شاهد أخرجه أبو يعلى في "المسند" (1/62) من حديث حذيفة بنحوه وإسناده ضعيف، وسيأتي له شاهد من حديث أبي بكر. 4 رواه أبو داود (5067) والترمذي (3392) والنسائي في "في عمل اليوم والليلة" (11) وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ورواه الإمام أحمد من حديث أبي بكر الصديق، وزاد في آخره: " وأن اقترف على نفسي سوءاً أو أجرّه إلى مسلم" 1. تفسير الآية الخامسة ثم استدل الشيخ -رحمه الله تعالى- بما يدل على تحريم الشرك من الكتاب والسنة، قال -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية. تنبيه وتوبيخ: أما النبيه: أن الحق اللازم الأولى في حق العبيد أن ينتظروا أمر سيدهم وخالقهم، الذي خلقهم من تراب، وربهم الذي رباهم بنعمته، ولا يستغنوا عنه طرفة عين، فيمتثلوا به، ويتوقعوا نهيه؛ ليجتنبوه. فعلى هذا الصنف: قال تعالى: {تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} فإذا تستوجبوا غضبه وعذابه، أي: أشركتم به شيئاً، ومن أعظم ما أمر به أن توحدوا الله تعالى بالعبادة، ولا تشركوا به شيئاً فيحبط أعمالكم، وتستوجبوا الخلود في النار. قال تعالى: قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [الزمر: 65] . وقال تعالى: قال تعالى: {َقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . [المائدة: 72] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . [النساء: 48 و116] . وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} . [التوبة: 28] . وأما التوبيخ: فيوبخ الله المشركين على أنهم قابلوا شكر نعم   1 أخرجه الإمام أحمد (1/10) (2/297) من حديث أبي بكر وليس عنده الزيادة المشار إليها، رواه أبو داود (5083) من حديث أبي مالك الأشعري به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ربهم الذي رباهم بنعمه بالشرك به، والكفر، وهذا أمر ينكره العقل، والنقل، والفطرة، كيف لا، والعقل يشهد بمجازاة الإحسان بالإحسان، والنقل كذلك، قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} . [الرحمن: 60] . والفطرة فطرت على الإحسان إلى من أحسن إليه والمشركون قد خالفوا الكل. واعلم أن المشركين كانوا على أديان مختلفة، ومعابيد شتى، فمنهم من يعبد اللات، والعزى، ومناة. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} . [النجم: 19،20] . قال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: أن اللات كان رجلاً صالحاً يلتّ السويق للحاج فمات، فعكفوا على قبره" وأما العزى، فعلى ما ذكره المفسرون: أنها ثلاث سمرات في وادي نخلة تقصدها العرب. وأما مناة: فحجارة معروفة يهلّون منها للحج، ويستمطرون بها الأنواء. ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . [الإسراء: 56،57] . ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في ناس يعبدون عيسى وعزيزاً. ومنهم من يعبدون الملائكة، يريدون منهم الشفاعة قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . [سبأ: 40،41] . ومنهم من يعبد الجن، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} . [الجن: 6] . ذكر المفسرون أنهم إذا نزلوا الوادي قالوا: "إنا نعوذ بسيد هذا القوم من سفهائهم" ومنهم من يعبد الشمس والقمر، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . [فصلت: 37] . ومنهم من يعبد صوراً مصورة على صور الصالحين، ودًّأ، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً. وكانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . [نوح: 23] . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . [يونس: 18] . واعلم أن المشركين مع شركهم وكفرهم، كانوا يخلصون لله في الشدائد، ويشركون في الرخاء، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} . [العنكبوت: 65] . وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . [الروم: 33، 34] . قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: "إن الكفار المشركين كانوا إذا ركبوا في السفن ألقوا ما معهم من الأصنام وعلموا أن آلهتهم لا تنفعهم" انتهى. فإذا علمت معابيد المشركين في الجملة، وعرفت أنهم لا يشركون دائماً، بل يشركون في حال الرخاء، وأما في الشدائد فيخلصون لله تعالى، فاعلم أن في آخر الزمان وقع ما هو أشد وأدهى من فعل المشركين بوجوه: الوجه الأول: أنه ما كان في المشركين إلا قبة واحدة، وهي قبة اللات، والآن في كل مكان قبائب بها يُلاذ ويستعان، كما قيل: وعند ثقيف كان قبة لاتهم ... والآن في كل المواطن ذا الصنع ففي كل أرض قبة مثل لاتهم ... ليرجى ويدعى لانتفاع وللدفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وأيضاً عندهم العزى لا سواها، والآن كم من شجرة تقصد؟ كما قيل: وفي نخلة العزى زمان قريشهم ... وكم سدرة الآن تقصد للنفع هناك مناة كم مناة زماننا ... فكم صخرة الآن تقصد للدفع وإن نزلوا الوادي استعاذت قريشهم ... والآن كل يستعيذ من الجمع فكم ذبحت للجن سود دجاجة ... وكم بيضة كم من بسيس من الوجع وقد زاد في ذات الوقت أهل زماننا ... تعلقهم بالروث والضرس والودع وبالعين جحر النمل موطا لصالح ... وبالبيض عظم الرأس في النخل والزرع معابيدهم شتى مقاصدهم شتى ... فكل له مولى إذا ناب من فجع ومهما أرادوا حاجة قصدوا لهم ... مقاماً وشيئاً من ضرى الكلب والضبع وقالوا بها نقضي معاضل أمرنا ... بقصد صحيح بالخضوع وبالخشع فكم ذبحت للقبر خير ذبيحة ... وكم صار نذر للقبور من الفجع وكم سجدوا حول القبور لحاجة ... وكم راكع مهما أتاها وكم ينع وكم هتفوا باسم المشائخ عندما ... رأوا ضرة بحراً وبراً من الفزع فكل ترى داع إلهاً لقصده ... إذا اشتدت الحاجات والكرب والجزع إلهي رأينا كل هذي معايناً ... فقد خالفوا التوحيد في القصد والوضع وقد جاء رسول الله ينفي فعالهم ... فهم أثبتوها عكس ما جا من الشرع ومع ذا يقول الحق عندي وأنني ... على الدين والتوحيد بالسبق والسرع الوجه الثاني: أن الأولين ما أشركوا إلا في الرخاء، وأكثر هؤلاء يشركون في البحر والبر، وفي الشدائد والرخاء، حتى إذا تكلم قال يا فلان، ولم يذكر الله الذي خلقه ودبره. الوجه الثالث: أن الأولين كانوا يعبدون شجراً، أو حجراً، أو شمساً، أو قمراً، لا يعصون الله، أو يعبدون أنبياء وصالحين، يرجون شفاعتهم. وأكثر أهل زماننا يعبدون فسقة فجرة، يعاينون فسقهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وفجورهم، ومع ذلك يتبركون بهم، ويستشفون منهم. الوجه الرابع: أن الأولين ما أرادوا من معابدهم إلا القربة، والشفاعة، وأكثر أهل زماننا يطلبون منهم الربوبية، كالعيال، والأولاد، والرزق، والسعة، والرحمة، والمغفرة، والنصر على الأعداء من دون سبب، ونظم في ذلك بعضهم في بعض معابيدهم: يا عمدتي يا صفى الدين يا سندي ... يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري أنت الملاذ لما أخشى مضرته ... وأنت لي ملجأ من حادث الدهر وامنن علي بتوفيق وعافية ... وخير خاتمة مهما انقضى عمري وكف عني ألف الظالمين إذا ... امتدت بسوء وأمر مولمٍ نكري فإنني عبدك الراجي بودك ما ... أملته يا صفي السادة الغرر قال بعض العلماء: فأي معنى اختص به الخالق بعد هذه المنزلة؟ وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر؟ فإن المشركين أهل الأوثان وما يؤمنون في مَنْ عبدوه بشيء من هذا، وهذا بعض كلامهم. ولو ذهبنا نذكر ما يشبهه نظماً ونثراً لطال الكلام، وما وسعه المقام، وفاتنا ما قصدنا من النظام لهذا فكيف الإيمان بهذا وشبهه، والإيمان بقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . [يونس: 106، 107] . وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} . [الجن: 21] . وقوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . [الأعراف: 188] . وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 شياً ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً" 1. فهل يجتمع الإيمان بقول هؤلاء المشركين وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من إخلاص العبادة لله تعالى؟ لا والله لن يجتمعا في قلب عبد، إلا كما يجتمع أن موسى صادق على الحق، وأن فرعون صادق على الحق، وأن فرعون صادق على الحق، بل كما القائل: سارت مشرِّقة وسرت مغرِّباً ... شتان بين مشرِّق ومغرِّب صم وبكم عن حقيقة دينهم ... عمي عن القول المصيب الطيب قد أغرقوا في بحر شرك لجة ... في ظلمة فيها صواعق صيب أعاذنا الله من الشرك والكفر والنفاق وبرأنا من أهلها. شرح حديث ابن مسعود: ولما استكمل الشيخ -رحمه الله تعالى- الاستدلال على توحيد الألوهية بالآيات القرآنية، وشرع يستدل عليه بالأحاديث النبوية، فقال -رحمه الله تعالى-: عن ابن مسعود من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمة فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ   1 أخرجه البخاري (2753 و4771) ، ومسلم (206) (351) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . [الأنعام: 151،153] . ومعلوم بالضرورة شرعاًً وعقلاً أنه إذا أراد أحد أن يسافر، أو كان مريضاً، أن يوصي أهله، وولده، ومن تبعه، بما يصلحهم من أمر دينهم ودنياهم، فكيف سيد المرسلين المبعوث إلى الخلق أجمعين المخاطب {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . [المائدة: 67] . فكان هو صلى الله عليه وسلم أحق وأولى بالوصية لأمته بما يصلحهم في أمر دينهم الذي بعث إليهم لأجله، ولكن بحكمة أحكم الحاكمين حال بينه وبين وصيته صلى الله عليه وسلم ما حال. خرَّج البخاري في صحيحه ثنا إبراهيم بن موسى نا هشام عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "هلم بدواة وقلم أو نحو ذلك أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده". قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه على الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله. واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما كثر اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قوموا عني". قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك من اختلافهم ولغطهم1. هذا ولكن ابن مسعود -رضي الله عنه – علم من غرز علمه –المكتسب من صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، المقتبس من نور علم الرسول   1 رواه البخاري (114 و3053 و3168 و4431 و4432 و5669 و7366) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 صلى الله عليه وسلم- أنه ليس للرسول صلى الله عليه وسلم وصية غير وصية الله، فقال: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد إلخ. قلت: هذه الوصية لما اشتملت على الأحكام الأصلية، والفرعية، والباطنية، والظاهرية، والدنيوية، والأخروية، والعلمية، والأدبية، ذكرها ابن مسعود –رضي الله عنه-: فأما الأحكام الأصلية: فدلالتها على التوحيد وشُعبه الذي هو أصل الأديان، وأساسها كلها. وأما الأحكام الفرعية: فما عدا التوحيد من الأوامر، والنواهي التي هي تابعة للتوحيد. وأما الأحكام الظاهرية: فقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ} والفاحش: ما استفحشه الشرع والعقل، كالزنا، واللواط، وقول الزور، والكذب، وقذف المحصنات، والسحر، وأشباه ذلك من الذي يستفحشه الشرع والعقل. وأما الأحكام الباطنية: فقوله: {وَمَا بَطَنَ} كالرياء، والنفاق الاعتقادي، والكبر، والعجب، والحسد، والحقد، وحب أعداء الله، وبغض أوليائه، وغير ذلك من الأمور الباطنية المخالفة للوحيين. وأما الأحكام الدنيوية: فعلى نوعين: نوع يتعلق بالأنفس، ونوع بالأموال. فأما ما يتعلق بالأنفس: فقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} . [الإسراء: 31] . فالأولاد زينة الدنيا، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . [الكهف: 46] . وأمرك الله بإبقائها وأما ما يتعلق بالأموال: فقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} فأرشد الله تعالى إلى إبقاء ما يزينهم جمالاً، مع أنه الرازق للكل، المعطي، المانع، المنعم، المتفضل. وأما الأحكام الأخروية: فجميع الأحكام المأمور بها، والمنهي عنها؛ لأن جزاءها في الآخرة، ولو حصل للمطيع بعض الجزاء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الدنيا: العز، النصر، والمدافعة. وحصل للعاصي بعض العقوبات، كما قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . [السجدة: 21] . فالجزاء الأكمل الأوفى هو في الآخرة للكل كما قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} . [النجم: 39-41] .. وأما الأحكام العلمية: فقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . [الأنعام: 151] . {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . [الأنعام: 152] . {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . [الأنعام: 153] . وأما الأحكام الأدبية فقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} . [البقرة: 83، النساء:36، الأنعام: 15، الإسراء: 23] . قوله: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . [الأنعام: 152] . وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} . [الشعراء: 127] . {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} . [الفرقان: 58] . وقوله سبحانه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . [الحديد: 3] . وقوله سبحانه: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . [يوسف: 83،100] . {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} . {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . [الحديد: 4] . {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} . إلى قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . [الأنعام: 59] . {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} . [فاطر: 11] . وقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} . [الطلاق: 12] . وقوله تعالى: {نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} . [النساء: 58] . وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} . [البقرة: 253] . وقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} . [المائدة: 1] . وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} . [الأنعام: 125] . وقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . [البقرة: 195] . {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . [الحجرات: 9] . {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . [التوبة: 7] . {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . [البقرة: 222] . وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . [المجادلة: 22، البينة: 8] . وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} . [غافر: 7] . وقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} . [الأحزاب: 43] . وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} . [النساء: 93] . وقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . [المائدة: 80] . وقوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} . [الزخرف: 55] . وقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} . [التوبة: 46] . وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} . [البقرة: 210] . وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} . [الفجر: 22] . وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} . [الفرقان: 25] . وقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} . [الرحمن: 27] . وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . [ص: 75] . وقوله تعالى: {اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} . [الطور: 48] . وقوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} . [آل عمران: 181] . وقوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 [الرعد: 13] . وقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} . [النمل: 50] . وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} . [الطارق: 15،16] . وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} . [المنافقون: 8] . وقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} . [الرحمن: 78] . وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} . [مريم: 65] . وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . [الإخلاص: 4] . وقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 22] . وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} . [البقرة: 165] . وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} . [الإسراء: 111] . وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . [المؤمنون: 91،92] . وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . [طه: 5] . وقوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} . [آل عمران: 55] . وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} . [فاطر: 10] . وقوله تعالى: {يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} . [غافر: 36،37] . وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} . [الملك: 16] . وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} . [الحديد: 4] . وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} . [المجادلة: 7] . وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . [التوبة: 40] . {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . [طه: 46] . وقوله تعالى: {تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} . [الأنعام: 115] . {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 [النساء: 164] . وقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} . [مريم: 52] . وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} . [التوبة: 6] . وقوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . [الحشر: 21] . وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} . [النحل: 101] . وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . [القيامة: 22،23] . وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . [يونس: 26] . هذا الباب في كتاب الله كثير من تدبر القرآن طالباً للهدي تبين له طريق الحق منه ومما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة ووجب الإيمان به كما يجب الإيمان بما ورد في القرآن مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا في كل ليلة" 1 إلخ وقوله: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده من واجد راحلته بعدما فقدها" 2. وقوله: "يضحك الله إلى رجلين أحدهما يقتل الآخر كلاهما يدخل الجنة" 3. متفق عليه وقوله: "عجب ربنا من قنوط عباده" 4. الحديث وقوله: "لا تزال جهنم يلقى فيها فنقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قط قط" 5. وقوله: "ما منكم   1 رواه البخاري (1145 و6321 و7494) ومسلم (758) عن أبي هريرة وعندهما ".. كل ليلة". بدون "في". 2 رواه البخاري (6309) ومسلم (2747) (8) عن أنس بن مالك بنحوه. 3 رواه البخاري (2826) ، ومسلم (1890) عن أبي هريرة. 4 رواه ابن ماجه (181) والإمام أحمد (2/11،12) بلفظ: (ضحاك ربنا..) وفي سنده وكيع بن حُدس، مقبول كما في "التقريب" أي عند المتابعة وإلا فهو لين الحديث. 5 رواه ابن جرير الطبري في "التفسير" (31917 و31919 و31920) من طرق عن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 من أحد إلا سيكلمه ربه عز وجل ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان" 1. وقوله في رقية المريض: "ربنا الذي في السماء" 2. إلخ قوله: "والعرش فوق ذلك والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه " 3. وقوله للجارية: "أين الله؟ قالت: في السماء" 4. وقوله: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث ما كنت"5. وقوله: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبَلَ وجهه فلا يبصقن قِبَلَ وجهه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه" 6. متفق عليه. وقوله لما رفع أصحابه أصواتهم بالذكر قال: "يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق   = أيوب عن محمد عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه وإسناده على شرطهما، وفي الباب عن أنس. 1 رواه البخاري (6538 و7512) ، ومسلم (1016) (27) عن عدي بن حاتم. 2 رواه أبو داود (3892) عن أبي الدرداء به وفي سنده زيادة بن محمد الأنصاري، منكر الحديث، كما في "التقريب". وأخرجه النسائي في "الكبرى" (10874) من حديث طلق بن حبيب عن أبيه ونحوه. وحبيب والد طلق مجهول، كما في "التقريب"، وأخرجه أيضاً النسائي، (10875) من حديث طلق بن حبيب عن رجل من أهل الشام عن أبيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ... وفي سنده مجهولان، كما ترى. وأخرجه الإمام أحمد (6/20) من حديث فضالة بن عبيد وفي سنده مجاهيل. 3 رواه أبو داود (4723) وابن ماجه (193) من حديث العباس بن عبد المطلب مطولاً. وفي سنده الوليد بن أبي ثور الهمداني، ضعيف، كما في "التقريب". 4 رواه مسلم (537) في قصة من حديث معاوية بن الحكم السُّلمي. 5 أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (741) من حديث عبادة بن الصامت. وفي سنده نعيم بن حماد، صدوق يخطىء كثيرا، كما في "التقريب". 6 رواه البخاري (416) ومسلم (550) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 راحلته" 1.متفق عليه، وقوله: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون" 2. الحديث. فإن الفرقة الناجية، -أهل السنة والجماعة- يؤمنون بذلك، كما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم. وهم وسط في باب صفات الله تعالى، بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة. وهم وسط في باب أفعال الله تعالى، بين القدرية والجبرية. وفي باب وعيد الله، بين المرجئة وبين الوعيدية من القدرية وغيرهم. وفي باب الإيمان والدين، بين الحرورية وبين المعتزلة وبين المرجئة والجهمية. وفي أصحاب رسول الله، بين الروافض وبين الخوارج. ومن الإيمان بالله وكتبه: أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية من كلام، أو عبارة، بل إن قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك من أن يكون كلام الله سبحانه حقيقة؛ فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ودخل في الإيمان به وبكتبه وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم. ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، والمرتاب يقول:   1 رواه البخاري (4205 و6610) . ومسلم (2704) عن أبي موسى الأشعري. وفي الباب عن أبي ذر وأبي هريرة ومعاذ بن جبل. 2رواه البخاري (554 و4851 و7434 و7435) ، ومسلم (633) (212) من حديث جرير بن عبد الله البجلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 آه آه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيضرب بمزربة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، وفي الحشر تعاد الأرواح إلى أجسادهم فتقوم الناس حفاة عراة وتدنو الشمس منهم، ويلجمهم العرق، وينصب الميزان للأعمال فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون وينشر الدواوين أي: الصحائف، كما قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} . [الإسراء: 13] . وكل يجازى بعمله إن خيراً فخير، وإن شراًّ فشر، وفي عرصة القيامة الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم، والصراط على متن جهنم يمر الناس على قدر أعمالهم فمن مر على الصراط دخل الجنة. وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم وأول من يدخل من أمم أمته التابعين لسنته. وفي القيامة ثلاث شفاعات: الأولى: في أهل الموقف حتى يقضى بينهم. الثانية: في أهل الجنة أن يدخلوها وهاتان الشفاعتان خاصتان له. والثالثة: فيمن استحق النار فهذه له ولسائر الأنبياء والصديقين وغيرهم؛ فيشفع فيمن استحقها أن لا يدخلها وفيمن دخلها أن يخرج منها، ويخرج أقواماً من النار بغير شفاعة؛ بل بفضله ورحمة منه، ويبقى فضل في الجنة فينشئ الله أقواماً فيدخلهم الجنة. وتؤمن الفرق الناجية بالقدر خيره وشره وهو على درجتين، الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، وفي اللوح مقادير الخلائق، فما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ليصيبه. والجنين قبل أن تنفخ فيه الروح يبعث الله تعالى ملكاً فيؤمر بأربع كلمات: رزقه وأجله وعلمه، وشقي أو سعيد، ونحو ذلك. والقدر ينكره بعض غلاة القدرية قديماً ومنكره اليوم قليل. والثانية فهو مشيئته النافذة، وقدرته الشاملة ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن لا خالق غيره ولا وارث سواه وأمر العباد بطاعته وطاعة رسوله، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد. والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم، وهذه الدرجة تكذب عامة القدرية الذين سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة1. ويغلو فيها قوم حتى سلبوا العبد قدرته واختياره. ويؤمنون أن الإيمان قول وفعل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما فعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال في القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} . [البقرة: 178] . وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} . [الحجرات: 9] . ولا يسلبون الفاسق اسم الإيمان بالكلية فيخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . [النساء: 92] . ولا يدخل في الاسم الإيمان المطلق، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} . [الأنفال: 2] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو   1 رواه الإمام أحمد (2/86 و125) ، وأبو داود (4691) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (339) ، عن ابن عمر مرفوعاً بنحوه، وإسناده منقطع وله شواهد تقويه من حديث جابر وأنس وأبي هريرة وسهل بن سعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 مؤمن" 1. ويقولون هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يعطى اسم الإيمان المطلق ولا يسلب اسم مطلق الإيمان ومن أصولهم: سلامة قلوبهم وألسنتهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . [الحشر: 10] . يقولون بما جاء به الكتاب والسنة في فضائل الصحابة، ومراتبهم. وأن الخليفة بعد رسول الله أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. ومن طعن في خلافة أحد هؤلاء فهو أضل من حمار أهله. ويحبون أهل البيت، ويحفظون فيهم وصيته، حيث قال يوم غدير خُمّ: "أذكّركم الله في أهل بيتي"2. وقال للعباس عمه –وقد شكا إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم- فقال: "والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبونكم لله ثم لقرابتي" 3. ويتبرؤن من طريق الروافض، الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريق النواصب، الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل. ويمسكون عما شجر بين الصحابة، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل أحد من الصحابة معصوم عن كبائر وصغائر؛ بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم في السوابق والفضل؛ بل ما يوجب مغفرة ما صدر حتى إنهم يُغفر لهم من السيئات   1 أخرجه البخاري (2475 و5578 و6810) ومسلم (57) . 2 رواه مسلم (2408) مطولاً من حديث زيد بن أرقم. 3 أخرجه (3/333) من حديث زيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن المطلب بن ربيعة قال: جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغضب فقال: ما شأنك؟ فذكره بنحوه في قصة، وأخرجه أيضاً من حديث زيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب، فذكره بنحوه أيضاً وأسقط من الإسناد المطلب بن ربيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ما لا يغفر لمن بعدهم فكيف بالأمور التي هم مجتهدون؟ إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور. ثم القدرية ينكرون فعل بعضهم وخطؤهم مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح، فمن نظر بعين البصيرة علم أنهم خير القرون1، كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم طريق الفرقة الناجية اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وابتاع سبيل السابقين الأولين من الأنصار والمهاجرين، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" 2. ويقدمون كلام الله على غيره من أصناف الكلام، ويقدمون هدي النبي على هدي كل أحد، ولهذا سُمُّوا: أهل الكتاب والسنة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج، والجهاد، والجُمع، والأعياد، مع الأمراء، أبراراً، وفجاراً. ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة وأنهم: "كالبنيان يشد   1 رواه البخاري (2651) ومسلم (2535) من حديث عمران بن حصين مرفوعاً "خيركم قرني ... ". واللفظ للبخاري. 2 أخرجه الإمام أحمد (4/126-127) وأبو داود (4607) والترمذي (2678) وابن ماجه (43) وغيرهم من حديث العرباض بن سارية، وصححه الترمذي وإسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 بعضه بعضاً" 1. أو: "كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" 2. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. ويأمرون ببرِّ الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء، والبغي والاستطالة على الخلق بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق ومكارمها، ومحاسن الأعمال، وينهون عن سفاسفها، وهم في ذلك متبعون للكتاب والسنة، وفيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، وهم الطائفة المنصورة التي قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة" 3. فنسأل الله العظيم المنان أن يجعلنا منهم، وأن لا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. انتهى كلام الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة، عقيدة الفرقة الناجية إلا أني اكتفيت عن تعداد الدلائل بالدليل الواحد اختصاراً. شرح حديث معاذ ثم استدل الشيخ -رحمه الله- على توحيد الألوهية؛ بحديث معاذ المصرِّ بحقيْن؛ حق فرضي لزومي، وهو حق السيد الخالق المدبر المربي بالنعم على العبد، وحق تفضلي، وهو حق العبد على المولى إذا قام بأمره واجتنب نواهيه: قال -رحمه الله تعالى-: وعن معاذ بن جبل قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: "يا معاذ أتدري ما حق الله على   1 أخرجه البخاري (2446) ومسلم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري 2 رواه البخاري (6011) ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير. 3 رواه البخاري (3640 و7311 و 7459) ومسلم (1921) من حديث المغيرة بن شعبة، وفي الباب عن معاوية وجابر وعقبة بن عامر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 العباد؟ " 1. قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: ما حق الله على العباد؟ مستفهماً مشعر بالتفخيم والتعظيم، وهو كذلك، وكيف لا؟ وهو الله الذي خلقهم أولاً من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم صوره فأحسن صوره؛ فخلق العظام ثم كسا العظام لحما ثم نفخ فيه الروح طوراً بعد طور في ظلمات ثلاث: ظلمة الصلب، وظلمة البطن، وظلمة الرحم، ثم أخرجك من أضيق المكان وجعل فيك قوة الغاذية واستخدم لها أربع قوى: قوة الجاذبية للمنافع، بمعنى: أنه يجذب كل عرق من العروق حقه من الشراب والطعام بعد الطبخات الثلاث. والثانية: قوة الماسكة، أي يمسك الشراب والطعام في المعدة مدة الطبخ المقدرة على التراتيب المقدرة. والثالثة: قوة الهاضمة تهضم الأشياء وتنقلها من حال إلى حال، ولولا ذلك لما حصلت المنفعة. الرابعة: قوة الدافعة، تدفع الفضلات المضرة بعدما يؤخذ قوتها ونفعها بأمر الملك القيوم، واستخدم لها الله تعالى من فضله الواسع كيفيات أربع: الحرورة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، ولولا ذلك لما اعتدل الطبع والمزاج، فالحرورة تدفع ضرر البرودة، والبرودة تفع ضرر الحرورة، والرطوبة تدفع ضرر اليبوسة واليبوسة تدفع ضرر الرطوبة. وركبت فيك المدركات العشر: خمس في الظاهر، وخمس في الباطن. أما اللواتي في الظاهر فهي: قوى خمس؛ كالجواسيس التي   1 أخرجه البخاري (128 و129 و2856 و5967 و6267 و6500) ومسلم (30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 توصل العلم وتنتهي الأخبار بها للمدركات الباطنية، الأولى: قوة البصر، وموضعها تقاطع الصليبين بين العصبتين الآتيتين إلى العينين، من شأنها إدراك الألوان والأضواء والأشكال، والثانية: قوة السمع، وموضعها العصب المفروش على الصماغ، من شأنها إدراك الأصوات المختلفة، والثالثة: قوة الشم، وموضعها العصبتان الزائدتان الشبيهتان بحلمتي الثدي؛ من شأنها إدراك الروائح المتصعدة من الهواء، والرابعة: قوة الزوق، وموضعها العصب الذي في جرم اللسان؛ من شأنها إدراك الطعوم، والخامسة: قوة اللمس، وموضعها الجلد واللحم الذي تحته من شأنها إدراك الملموسات في حرها وبردها، ورطوبتها ويبوستها، وخشونتها وملاستها، ولينها وصلابتها، وكل ذلك فضل من الله تعالى ومنّ على عبده ليذكره ولا ينساه ويشكره ولا يكفره ويطيعه ولا يعصيه، فسبحان من له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. وأما اللواتي في الباطن فمنها مدركة للصورة المحسوسة بإدراك الحواس الظاهرة وهي الحس المشترك وموضعها مقدم البطن المقدم من الدماغ وخزانته الخيال وموضع الخيال مؤخر البطن المقدم، ومنها مدركة للمعاني القائمة بتلك الصور وهي الوهم وموضعها البطن الأوسط وخزانته الحافظة وموضع الحافظة البطن المؤخر ومنها متصرفة ويسمى استخدام النفس الناطقة لها في المعاني الكلية مفكرة لتصرفها في المواد الفكرية والخامسة العقل وهو رئيس المدركات الظاهرية والباطنية هذا وقد ركبك الخلاق جل وعلا من مائتي واثنين وخمسين عظماً حشيت به المفاصل فأولها تحف الرأس وهي مركبة من سبعة أعظم أربعة كالجدران وواحدة كالقاعدة والباقيات يتألف منها القحف وبعضها مثقوب إلى بعض بدروز الرأس ويقال لها: اشئون وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 العظام تسمى قبائل الرأس، وأما الأعلى من اللحي فالأعلى مركب من أربعة عشر عظماً والأسفل من عظمتين واثنين وثلاثين سناًّ، وأما اليدان فكل واحدة مركبة من كتف مؤلف من عظمين وعضد وساعد مؤلف من عظمتين متلاصقين يسميان الزندين الأعلى والأسفل ورسغ مؤلف من ثمانية أعظم وكف مؤلف من أربعة عشر عظماً وخمس أصابع مؤلفة من خمسة عشر عظماً وأما العنق فمركب من سبعة أعظم هي فقار العنق، وأما الترقوة فمركبة من عظمين، وأما الصدر فمركب من سبعة أعظم وهي أعظم القفص وأما الظهر فمركب من سبع عشرة فقرة وأربع وعشرين ظلعاً، وأما العجز فمركب من ثلاث فقرات ويتلوه عظمان يسميان عظم العانة وأما الرجلان فكل واحدة منهما مركبة من فخذ وساق وقدم، أما الفخذ فأعظم العظام في حق الورك وأما الساق فمركبة من عظمين متلاصقين يسميان العقبتين الكبرى والصغرى والقدم مركب من كعب وعقب وزورقي ويزدي وأربعة أعظم للرسغ وخمسة للمشط وخمسة أصابع مركبة من خمسة عشر عظماً فهذه عظام جملة البدن ومنفعتها شديدة بينة جداّ ًعند من له عقل سليم. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله من منافعها ما ذكر في "مفتاح دار السعادة" فمن أرادها فليراجعها هناك، فسبحان من خلق الإنسان في أحسن تقويم. ثم بعدما أخرجك من بطن أمك جعل رزقك في ثدي أمك ما يناسب لحالك حليباً سائغاً إلى حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، ثم أنبت لك أسناناً منها كالسكاكين لقطع ما يحتاج للقطع ومنها كالرحى لطن ما يحتاج للطحن فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم خلق لك من الأنعام والآلاء والنعماء ما هو ذائع وشائع لا يمكن حصره كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} . [إبراهيم: 34] . ثم خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 بينكم مودة ورحمة فضلاً منه ومنًّا قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . [الروم: 21] . ثم من فضله وكرمه جعل لكم من الأزواج بنين وبنات وحفدة قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} . [النحل: 72] . ومع هذا كله فلا تستغم يا ابن آدم عن الله طرفة عين لا في دنياك ولا في آخرتك فمن كان هذا من بعض فعائله الجميلة فما حقه على العباد وما حق العباد على الله قال معاذ: قلت: الله ورسوله أعلم وهذا لجواب هو الحقيقة وهو الصواب لأن الله هو عالم غيب السموات والأرض وأنه قد أحاط بكل شيء علماً ثم رسوله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق لأنه يوحى إليه من الله تعالى هذا في زمان حياته صلى الله عليه وسلم لتوالي الوحي عليه شيئاً فشيئاً في بيان كل شيء قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} . [النحل: 89] . وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فلا، بل يجزم بأنه لا علم لأحد دون الله بكليات الأمور ولا جزئياتها ولا تجاميلها ولا تفاصيلها على الحقيقة إلا الله وحده قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} . [الجن: 27،26] . وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} . [الأنعام: 59] . وقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . [النمل: 65] . قال الرسول صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أي لزوماً ووجوباً عقلاً ونقلاً أن يعبدوه بالذي شرع لهم ولم يشركوا به شيئاً أي لا في الأقوال ولا في الأفعال ولا في الإرادات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 والنيات وهي ملة أبيكم إبراهيم التي قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . [النحل: 123] . وحق العباد على الله فضلاً منه كرماً أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً قلت: قوله: شيئاً نكرة بعد النفي والنكرة بعد النفي تفيد العموم يعم القليل والكثير فيفيدك هذا خوفاً شديداً لعموميته أن تقع فيه ولم تشعر كما قال صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" فقال أبو بكر فكيف ننجو منه قال: "قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك به شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم" 1. ويزيدك خوفاً إذا تدبرت قول إبراهيم الخليل: {اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . [إبراهيم: 35] . فإذا كان هذا خوف الخليل منه فمن يأمن على نفسه من الشرك بعده وكيف لا يخاف منه وقد قال الله تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . [المائدة: 72] . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . [النساء: 48، 116] . فإذا علمت ذلك أغراك على تعلم الشرك وأنواعه لتحذره ورغبك في التوحيد الذي إن جئت به لا يعذبك الله تعالى بالنار قال معاذ: فقلت أفلا أبشر الناس بفضل التوحيد وفصل من تمسك به عند الله قال: "لا تبشرهم فيتكلوا". على ذلك ويتركوا العمل وقد قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ   1 رواه أبو يعلى في "المسند" (61) من حديث أبي بكر، وإسناده ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم، صدوق اختلط كثيراً ولم يتميز حديثه فترك، كما في "التقريب" وشيخه أبو محمد مجهول. وفي الباب عن أبي موسى أخرجه الإمام أحمد (4/403) والحديث له شواهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . [العصر] . فإن الله تعالى أثبت الربح والفلاح لمن استقام على هذه الأربع: الإيمان بالله وحده، والعمل الصالح والتواصي بالحق –أي النطق به وتعليمه- والتواصي بالصبر إذا أوذي في الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 متن الباب 1 باب: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} . [الأنعام: 82] . عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". أخرجاه. ولهما في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى: يا رب، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال يا موسى: قل لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قاليا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله". رواه ابن حبان، والحاكم وصححه. وللترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم؛ لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 بقُرابها مغفرة". فيه مسائل: الأولى: سعة فضل الله. الثاني: كثرة ثواب التوحيد عند الله. الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب. الرابعة: تفسير الآية "82" التي في سورة الأنعام. الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة. السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: "لا إله إلا الله" وتبين لك خطأ المغرورين. السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان. الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله. التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه. العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسموات. الحادية عشرة: أن لهن عماراً. الثانية عشرة: إثبات الصفات، خلافاً للأشعرية. الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، ينبغي بذلك وجه الله" أنه ترك الشرك، ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 قولها باللسان. الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه. الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله. السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه. السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار. الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل". التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان. العشرون: معرفة ذكر الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 شرح الباب1 باب في بيان فضل التوحيد عند الله وما يكفر من الذنوب بالكتاب والسنة أما الكتاب وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ} . أي صدقوا وأذعنوا بأنه الرب الملك المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وملكه وعبادته ولا في أسمائه وصفاته وأنه قيم السموات والأرضين ومن فيهن قائم بذاته فهو الغني عمن سواه وقيوم بالخلق والخلق فقراء إليه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} . [فاطر: 15] . وأيضاً وآمنوا بملائكته على ما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسيما جبريل فإنه أمين على الوحي وميكائيل موكل على الأقطار وعزرائيل1 فإنه موكل على قبض الأرواح وإسرافيل فإنه موكل على نفخ الصور وآمنوا بكتبه أنها مائة صحيفة وأربع كتب: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، وكلها كلام الله منزلة غير مخلوقة وآمنوا برسله وأنبيائه مجموعهم وأربع وعشرون ألفاً والرسل ثلاثة مائة وثلاثة عشرة رسولاً وأولوا العزم منهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، وقد نظمت الجميع مجملاً: الأنبياء كلهم عجم وأولهم ... نوح وآخرهم من كان من مضر جا عُرْبُهُم ستة نوح وصالحهم ... هود ولوط وشعيب سيد البشر أيضاً أولو عزمهم موسى وآدمهم ... عيسى محمد إبراهيم فادكر ما أنزل الله ممَّا سُمِّيَ الصحف ... عدت لنا مائة بالنقل والخبر وما أتى كتباً في العد أربعة ... هذا التجاميل والنقصان واختبر   1 لو قال: وملك الموت، فإنه.. لكان أولى: لأن تسميته باسم: "عزرائيل" لم يثبت فيه شيء مرفوع. وانظر: حرف العين من كتاب: "معجم المناهي اللفظية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وآمنُوا باليوم الآخر: أن الله يبعث الخلق كلهم؛ لفصل القضاء. وآمنوا بالقضاء والقدر: "أن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب قال: وماذا أكتب قال: اكتب مقادير كل شيء فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" 1 قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ِلكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} . [الحديد: 22، 23] . وهم مع ذلك لم يلبسوا إيمانهم بظلم أي لم يشوبوه ولم يخلطوه بشرك بل أخلصوا لله تعالى أعمالهم وأقوالهم وإراداتهم ونياتهم ولم يقربوا حمى الشرك بل ابتعدوا منه أشد الابتعاد حذراً من وقعهم فيه أولئك لهم الأمن في الدارين: أما في الدنيا فيدفع عنهم بأمره الكوني وأمره الشرعي السوء أما أمره الشرعي يأمرهم بتوحيده وطاعته لئلا لا يقعوا في غضبه وناره، وأما أمره الكوني إما عامًّا يعم الأسواء والشرور كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} . [الحج: 38] . وإما خاصًّا بشيء كما يدفع عنهم الذل والخذلان ويؤيدهم بالعز والنصر كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} . [غافر: 51] . ويدفع عنهم الضلال قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} . [العنكبوت: 69] . ويدفع عنهم كيد العدو والكرب قال تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} . [الأنبياء: 76] . ويدفع عنهم الضر والأذى قال تعالى:   1 رواه الإمام أحمد (5/317) ، والترمذي (3319) من حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً، وأخرجه الطبراني في "الأوائل" (1) من حديث ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} . [الأنبياء: 83، 84] . ويدفع عنهم الهم والغم قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} . [الأنبياء: 87، 88] . ويدفع عنهم السوء والفحشاء قال تعالى: {ذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} . [يوسف: 24] . ويدفع عنهم عند الأجل الخوف والحزن ببشراء يرسل إليهم ملائكته يبشرونهم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} . [فصلت: 30] . ويدفع عنهم الضيق والكرب عند نزع الروح من الجسد كما في مسند الإمام أحمد من حديث البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يُلْحَد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه فقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر". مرتين أو ثلاثاً ثم قال: "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة أنزل الله ملائكته من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: اخرجي أيتها النفس الطيبة المطمئنة إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 كأطيب نفحة مسك وجدت في الأرض، فيصعدون فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء التي تليها حتى ينتهوا إلى السماء السابعة، فيقول الله –عز وجل-: اكتبوا كتاب عبدي في عليِّين وأعيدوه في الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها نخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقت به، فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً من الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويُفسح له في قبره مدّ بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول له: من أنت، فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة، رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي" 1. ويدفع عنهم في الآخرة عسر الحساب، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} . [الانشقاق: 7-9] . ويدفع عنهم كرب الموقف ويدخلهم الجنة، قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ   1 رواه الإمام أحمد (4/287) من حديث البراء بن عازب، وقد أفاض القول فيه سنداً ومتناً ابن القيم -رحمه الله تعالى- في: "كتاب الروح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . [الزمر: 73] . فبين الله أن المؤمن آمنٌ من كل ضر وسوء ومكروه في الدنيا إلا إذا أراد الله استخباره بما هو خير له وصلاح، إما رفعاً لدرجته وكفارة لسيئاته أو أنه يؤول إلى حسن العاقبة استخبره بالبلايا والمحن، قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . [العنكبوت: 1، 3] . وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} . [البقرة: 214] . وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله سبحانه إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط" 1. رواه الترمذي. وهذا في الحقيقة خيرة لهم ولكن الناس لا يعلمون، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 216] . وأما غير المؤمن فبعكس ما هو للمؤمن، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} . [طه: 124-126] . فبين أنه في سوء حال الدنيا والآخرة، ولو زخرفت لهم الدنيا فهم في ضنكها وشقائها وعنائها. قال ابن القيم رحمه الله: "اعلم أن يقال تعذيبهم بها هو الأمر   1 رواه الترمذي (2396) من حديث أنس وإسناده حسن، وقال الترمذي: "حسن غريب" وفي الباب عن محمود بن لبيد أخرجه الإمام أحمد (5/427 و429) بنحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 المشاهد من تعذيب طلاب الدنيا ومحبيها ومؤثريها على الآخرة، بالحرص على تحصيلها والتعب العظيم في جمعها، ومقاساة أنواع المشاق كما قال بعض السلف: من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب، ومحبها لا ينفك من ثلاث: هَمٌّ لازم، وتَعَبٌ، وحسرة لا تنقضي، وذلك أن محبها لا ينال منها شيئاً إلا طمحت نفسه إلى ما هو فوقه كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لها ثالثاً" 1. فطالبها لا تستريح نفسه من التعب كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها إلى كدور، وعيشها نكد كما قيل: فما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكياً في كل حال ... مخافة فرقة أو اشتياق فيبكي إن نأى شوقاً إليه ... ويبكي إن دنا حذر الفراق فتسخن عينه عند التلاقي ... وتسخن عينه عند الفراق ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه" 2. الحاصل أن مؤثر الدنيا على الآخرة في شقاء وعناء لا يكاد يوصف في الدنيا وفي الآخرة في عذاب مقيم. قال ابن القيم رحمه الله: وقد دل العقل، والنقل، والفطر   1 رواه مسلم (1048) من حديث أنس. 2 رواه الترمذي (2322) من حديث أبي هريرة وفي سنده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، صدوق يخطىء، ورمي بالقدر، وتغير بأخره، كما في "التقريب" وقال الترمذي: حسن غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 السليمة، وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها، وأهلها، ونِحَلِها: أن التقرب إلى رب العباد، وطلب مرضاته، والبر، والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب لكل خير وأضدادها من أكبر الأسباب لكل شر، فما استجلبت نعم قط ولا استدفعت نقم بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه وقد رتب الله تعالى حصول الخيرات في الدنيا والآخرة على الطاعات ورتب حصول الشر والمكروهات في الدنيا والآخرة على المعاصي وفي بعض الآثار عن الله تبارك وتعالى: "وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحبه ثم ينتقل إلى ما أكره إلا انتقلت له ما يحب إلى ما يكره ولا يكون عبد من عبيدي على ما أكره ثم ينتقل عنه إلى ما أحب إلا انتقلت له ما يكره إلى ما يحب" فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه مأمن، ومن عصاه انقلبت مآمنه مخاوف وذلك قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . [الأنعام: 82] . عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له" أي شهد أنه أحد لا جزء له وواحد لا ثاني له ووتر لا شفع له ورب لا مضاد له، وملك لا مماثل له، وإله لا شريك له في العبادة، له الملك وله الحمد وله الخلق وله الأمر قيم السموات والأرضيين ومن فيهن وربُّ كل شيء ومليكه، وكل شيء غيره مخلوق له مقهور تحت تصرفه وقهره لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وقال آخر: وكل إله غيره فهو باطل وإن قال بعض الناس ذاك وسماه فحاشاه مما قال فيه مشبه وحاشاه من إفك المعطل حاشاه ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ولد ظن، ومن والدة، ومن ذكر يعزى إليه وانثاه فسبحانه في ذاته وصفاته ويكفيك في تنزيهه: {قل هو الله} يشهد يذلك كله لأنها من لوازم الألوهية فمن أخل بشيء من ذلك لا تنفعه الشهادة لأن الشهادة المعهودة اعتراف بالجنان وبالوحدانية المطلقة ونطق باللسان وعمل على وفقها بالأركان ويشهد: أن محمداً عبده ورسوله ويلزم مع ذلك أن تطيعه فيما قال وفيما ينهى، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . [الحشر: 7] . فإن لم يطعه لم تنفعه الشهادة. "وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق" أي ثبوتها وما ذكر الله ورسوله في وصفها. ويشهد أن: "النار حق" بثبوتها وما ذكر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في وصفها أدخله الله من فضله وكرمه الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه" 1. على ما كان من العمل بعد أداء الفرائض وذلك لأنه تاركها أو بعضها إما مستحل لتركها فكافر على الإطلاق وإما مستهين بها فكافر أيضاً، وإما متكاسل عنها فقد أوعده الله بالويل في فرض الصلاة قال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} . [الماعون: 4، 5] . فسر بثلاثة تفاسير: فُسِّر بتضييع الأوقات وقد أمر الله بمحافظتها، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . [البقرة: 238] . وفسر بتضييع الأركان لا يطمئن في أركانها ولا يأتي بها على   1 رواه البخاري (5673 و6463) . ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المشروع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرق السرقة من يسرق من صلاته قالوا: كيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها" 1. وفسر بعدم حضور القلب، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} . [المؤمنون: 1، 2] . أخرجاه أي البخاري ومسلم. ثم استدل الشيخ رحمه الله بما يدل على أن المراد ليس من لا إله إلا الله، لقلقة اللسان، وقعقعة الحروف، بل إنها لا تنفع قائلها إلا إذا قالها وهو يبتغي بذلك وجه الله أي يقولها إيماناً واحتساباً وذا في كل عمل كما قال صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً" 2. بمعنى أن يفعله عبادة لا عادة أي الباعث له حب الله وخوفه ورجاؤه وإلا مجرد لفظها بلا معرفة معناها والعمل بمقتضاها لا تنفع فإن المنافقين قالوا وشهدوا أن محمداً رسول الله وكذبهم الله قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} . [المنافقون:1] . وقالت الأعراب: آمنا، قال الله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} . [الحجرات: 14] . فبان أن القول باللسان من دون اعتراف بالجنان وعمل بالأركان لا ينفع، كما قيل: ما احترق لسان أحد بقوله نار ... ولا استغنى أحد بقوله ألف دينار وكل قول له حقيقة فإن جئت بحقيقته فَصَدَقْتَ وصُدِّقت، وقبل منك وإلا فلا.   1 رواه ابن حبان (1888) ، والحاكم (1/229) والبيهقي (2/386) من حديث أبي هريرة مرفوعاً بنحوه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وله شواهد من حديث أبي قتادة ومن حديث أبي سعيد الخدري ومن حديث عبد الله بن مغفل. 2 رواه البخاري (38) ، ومسلم (760) عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ويزيدك وضحاً ما ذكر ما ذكر أن وفد الأزد وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: "من الوافد ومن القوم؟ قالوا: إنا مؤمنون ,قال صلى الله عليه وسلم: لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانكم"؟ قالوا: إنا مؤمنون بخمسة عشر خصلة، خمس أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا رسلك أن نفعلها وخمس كنا عليها في الجاهلية، قال صلى الله عليه وسلم: ما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تؤمنوا بها؟ قالوا: أمرتنا رسلك أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، قال: وما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تفعلوها؟ قالوا: أمرتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن نصلي ونزكي ونصوم ونحج، قال صلى الله عليه وسلم: وما الخمس التي كنتم عليها في الجاهلية؟ قالوا: الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء، والثبات عند اللقاء، وترك شماتة الأعداء، قال: حكماء فقهاء كادوا يكونون من فقههم أنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: أنا أزيدكم بخمس: لا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، وازهدوا فيما عنه راحلون، وارغبوا فيما عليه مقبلون، وتوبوا إلى الله الذي أنتم أليه ترجعون". فتأمل. قال الشيخ رحمه الله: ولهما في حديث عتبان مرفوعاً "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" 1. قلت: وهذا صريح في أن المقصود من لا إله إلا الله ليس مجرد قولها؛ بل ينبغي أن يقصد بقولها وجه الله أي ينفي الآلهة من حيث الجملة ويثبت الألوهية للأحد الواحد الصمد القيوم المعبود الذي   1 رواه البخاري (425 و667 و686 و6423 و6938) ومسلم (33) ، ومن حديث عتبان بن مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . [الشورى: 11] . ويعمل بمقتضى ذلك فيحب ويبغض، ويوالي وبعادي عليه، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . [الزخرف: 26-28] . قالوا: الكلمة هي لا إله إلا الله جعلها في عقبه، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . [الممتحنة: 4] . فهذه الآية هي معنى لا إله إلا الله كالآية التي قبلها، والعمل بمقتضى ذلك أن تستقيم عليه إلى أن يأتيك اليقين أي الموت، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} . [فصلت: 30] . هذه حقيقة لا إله إلا الله، وإن أردت أن تأتي بها على أكمل الوجوه ينبغي أن تلاحظ فيها عشرة أمور: منها وفيها وبها وعنها، والعشرة: لفظها، ومعناها، وحقها، وحقيقتها، وحكمها، ولازمها، وفائدتها، مقتضاها، ونواقضها، ومتمماتها1.   1- أما لفظها: ينبغي للذاكر أن لا يمد ألف " لا" جِدًّا، وأن يقطع الهمزة من إله إذ كثيراً ما يلحن فيردها "يا" كذلك يفصح الهمزة من "إلا" ونشدد اللام فكثيراً ما يرد الهمزة "ياء" أيضاً ويخفف لام "إلا" لكسر ما قبلها. وأما كلمة الجلالة التي بعد "إلا" فلا يخلو ما يقف عليها الذاكر 1 بل هي أكثر من العشرة، زادها الشارح هي: إعرابها. ولعله لم يَعُدَّه لأنه داخل في: "لفظها" و"فضلها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أو لا، فإن وقف فعليه السكون وإن وصلها فله فيه وجهان: الرفع وهو الأرجح، والنصب. وأما أهل التجويد فاتفقوا على ترقيق ألف "الله" وألا يزيد فيها على مقدار مد الطبيعي وترقق لام "الله" إذا كسرت، أو كسر ما قبلها، وقد أجمعوا على تفخيمها بعد فتحة وضمة. 2- وأما إعرابها لها صدر وعجز فعجزها ظاهر الإعراب إذ هو جملة مبتدأ، وخبر، ومضاف إليه، فأما لا فهي نافية و"إله" مبني على الفتح لتضمنه معنى "من" إذ التقدير "لا من إله" ولهذا كانت نصًّا في العموم كأنه قد نفى كل إله غيره عز وجل من مبدأ ما يقرر إلى ما لا نهاية له، وقيل: بنى معها التركيب، وذهب الزجّاج أن اسمها معرب منصوب بها، وإذا فرغنا على المشهور من البناء فموضع الاسم نصب بلا العاملة عمل إن، وقال الأخفش: لا هي العاملة فيه. ونقل السنوسي عن أهل العلم أن الاسم المعظم في هذا التركيب يرفع وهو الكثير ولم يأت في القرآن غيره وقد نصب فالرفع بالبدلية أو على الخبرية والقول بالبدلية هو المشهور وهي رأي ابن مالك، ثم الأقرب أن يكون من الضمير في الخبر المقدر، وأما القول بالخبرية في الاسم الأعظم فقد قال به الجماعة. ومن البسط الوافي: "لا إله إلا الله" أصل "الله" إله فلما أريد قصر الخبر على المبتدأ وهو من قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر فاقترن بلا وأخر المبتدأ فاقترن بإلا لإفادة الحصر، ومن القواعد أن المبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم الخبر، قال ابن مالك: [وخبر المحصور قدم أبداً] ، أي خبر المبتدأ المحصور قدم، [كما لنا إلا اتباع أحمد] ، ولله مرفوع على أنه بدل من اسم لا حملاً على محل البعيد الذي هو الرفع بالابتداء والتقدير لا إله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 موجود1: أي في الوجود وهذا التقدير المشهور. 3- وأما معناها: فلا تسع معناها مجلدات فضلاً عن هذا المختصر، والسبب أن ما أنزل الله الكتب ولا أرسل الرسل إلا لتقرير معناها، وإذا أمعنت النظر رأيت الكون والمكون دليل على لا إله إلا الله؛ لأن كل ما في الكون فعل الله وخلقه وقنطرة ودليل لألوهيته وعبادته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 21، 22] . ولله المثل الأعلى وذلك كم شرى عبداً وأنعم عليه بما يحتاج إليه من المأكل والمشرب والمنكح والمسكن ثم قال له: اخدمني ولا تشرك في خدمتي أحداً، فبدأ العبد يخدم مولاه وغيره، فالمسلم يلزمه أن يوحد الله في أفعاله أي لا ينسب أفعال الله إلى غيره، ولا نعمه إلى غيره، وهذا هو توحيد الربوبية. ثم بعد ذلك يلزمه أن يوحد الله في أفعاله نفسه أي ما يفعل من العبادة يجعله لله وحده ولا يشرك مع الله في ذلك غيره. وقال العماد ابن كثير في تفسير: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} . [آل عمران: 64] . أي سواء نحن وأنتم فيها أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به وثناً، ولا صليباً ولا صنماً ولا طاغوتاً ولا ناراً ولا نبيًّا بل نفرد العبادة لله وحده وهذه دعوة الرسل كلهم. ثم قال: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . [آل عمران: 64] . قال ابن جرير: "يعني نطيع بعضنا بعضاً في معصية الله" ويشهد   1 هذا التقدير خاطىء. وصوابه: لا إله إلا حَقٌ إلاَّ الله، ويأتي للشارح بيانه على الصواب /ص/134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 على هذا التفسير ما ورد عن عدي بن حاتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم، يتلو قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . [التوبة: 31] . قلت: لسنا نعبدهم يا رسول الله! قال: "أليسوا يحلون لكم الحرام ويحرمون عليكم الحلال فتطيعونهم؟ ". قلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم" 1. وقال عكرمة: أي لا يسجد بعضنا لبعض، انتهى ملخصاً. وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الكلمة الطيبة في قوله تعالى: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} . [إبراهيم: 24، 25] . أنها كلمة التوحيد وهي لا ‘له إلا الله وإطلاق الكلمة عليها وهي أربع كلمات كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} . في جواب {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} . [المؤمنون: 99، 100] . وذا يقع كثيراً في كلام العرب أنهم يطلقون على الكلام المفيد لفظ كلمة، قال ابن مالك: [وكِلْمة بها كلام قد يؤم] . قوله: "طيبة" صفة مشبهة لازمة لا تنفك من الموصوف ولا ينفك الموصوف منها، فهي طيبة في نفسها على أفضل الأعمال والأذكار وتطيب ما يخالطها إذا كان صالحاً أي إذا كان العمل مشروعاً وكان خالصاً طاب. قال الفضيل بن عياض: ما يقبل الله عملاً إلا أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبله الله، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبله،   1 رواه الترمذي (3095) من حديث عدي بن حاتم وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب. وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث، وأخرجه ابن جرير في التفسير (16649) عن حذيفة مرفوعاً ورجاله ثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الله تعالى حتى يكون خالصاً صواباً، قوله: كشجرة طيبة مشبه به، والكلمة الطيبة مشبه والكاف حرف التشبيه، ووجه الشبه ما بينهما ما ذكر الله. أصلها ثابت وفرعها في السماء، أما كشجرة فبين، وأما لا إله إلا الله فأصلها ثابت في القلوب السليمة، وفرعها وهو الأعمال الصالحة من الإيمان والبر متفرعة على الجوارح والأعمال تصعد إلى السماء، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . [فاطر: 10] . وقوله: تؤتي أكلها كل حين لا كالشجرة المعهودة التي تؤتي أكلها ستة أشهر أو سبعة بل تثمر لا إلا الله بالأثمار الحسنة الطيبة كل حين فصار وجه الشبه ثبوت أصلها وتفرعها إلى السماء، وأما إتيان أكلها كل حين فزيادة على المشبه به، وذا كثير في اللغة كما تقول للرجل العالم الكاتب الشجاع إنه كالأسد أي في الشجاعة فقط، وأما العلم والكتابة فزيادة على المشبه به. قوله: [بإذن ربها] وذلك لا ريب فيه الشجرة وغيرها مطلقاً بإذن الله تثمر وتنفع وتعطي وتمنع لا إله إلا هو، قال البغوي: "الكلمة الطيبة لا إله إلا الله1. قال العماد ابن كثير: قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} . أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل من يعبد من دون الله ووحد الله بالعبادة وحده، وشهد أن لا إله إلا الله فقد استمسك بالعروة الوثقى يعني الإيمان التي لا انفصام لها، قال سعيد بن جبير وقال الضحاك: العروة الوثقى: لا إله إلا الله، وأيضاً تستلزم الحب والبغض والموالاة والمعاداة.   1 معالم التنزيل للبغوي 3/566. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وقال البيضاوي: "الله أصله إله فحذفت الهمزة وعوّض عنها الألف واللام، وقيل: يا الله بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق والإله يقع على معبود ثم غلب على المعبود بالحق، واشتقاقه من أله يأله ألوهة وألوهية بمعنى عبد، وقيل: من إله إذا تحير، إذ العقول تتحير في معرفته أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه؛ لأن القلوب تطمئن إلى ذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته، أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه إذ العباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد، وقيل: علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به". وقال البيضاوي: وفي قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} . [المؤمنون: 117] . أي يعبده إفراداً أو إشراكاً"1 فسمى المعبود إلهاً وإله بمعنى المألوه ككتاب بمعنى المكتوب، فكل ما تألهه القلوب فهو إله، وعليه يدل حديث أبي واقد الليثي أنهم لما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة" 2. فدل الحديث أن المراد المعنى لا اللفظ؛ لأنهم ما طلبوا إلها قد طلبوا ذات أنواط، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف أن ما تألهه القلوب فهو الإله كائناً ما كان، وبأي لفظ كان. قال ابن كثير: "العبادة في اللغة من الذلة يقال: طريق معبد أي مذلل، وفي الشرع عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف"3. وفي حاشية البيضاوي: والعبادة أبلغ من العبودية التي هي إظهار   1 أنوار التنزيل ص 456 2 رواه الإمام أحمد (5/218) والترمذي (2181) من حديث أبي واقد الليثي. وقال الترمذي: حسن صحيح. 3 تفسير القرآن العظيم لابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 التذلل والعبادة على الأمر، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} . [يوسف: 40، 67] . أي في أمر الدين والعبادة ثم بين ما حكم به فقال: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} . [يوسف: 40] . الثابت الذي دلت عليه البراهين، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . [الإسراء: 23] . أي أمر مقطوع به. وقال البغوي فيها: "أي أمر ربك قاله ابن عباس وقتادة والحسن"1 انتهى. وقال ابن القيم في النونية: حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك للشيطان والأمر استدعاء الفعل بالقوة ممن هو دونه على سبيل الوجوب على الإطلاق والتجرد عن القرينة فيحمل عليه والله أعلم. 4- وأما حكمها: ففي "فاكهة القلوب": اعلم أن الناس مؤمن وكافر، فأما المؤمن فيجب أن يذكرها مرة في عمره وينوي بها الوجوب، ثم ينبغي أن يكثر ذكرها وليعرف معناها لينتفع بها، وأما الكافر فذكره لهذه الكلمة شرط في صحة إيمانه مع القدرة، انتهى ملخصاً. وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"2. قال العلماء: إذا قال الكافر: لا إله إلا الله فقد شرع في العاصم، فإن تمم ذلك وإلا بطلت، ولكون النبي صلى الله عليه وسلم، قد قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كف عنه وصار ماله ودمه   1 معالم التنزيل للبغوي 3/110. 2 رواه البخاري (1399 و1457 و6924 و7284) ، ومسلم (20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 معصومين. قلت: بل لا بد مع قولها الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويما جاء به كما في رواية أبي هريرة: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به" 1. وقال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين: "من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلماً، وقد أنكر على أسامة بن زيد قتله من قال: لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف واشتد نكيره"2.وقال شهاب الدين أحمد بن حجر على شرح "الأربعين النبوية" نحو ذلك، والمقصود أن حكمها الكف عمن قالها ثم يطالب بمعناها وحقها كالكفر بعيادة غير الله، وشهادة أن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر شرائع الإسلام. 5- وأما حقها: فقال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين على حديث ابن عمر: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها". فقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا بحقها". وفي رواية: "إلا بحق الإسلام". قد سبق أن أبا بكر رضي الله عنه أدخل في هذا الحق فعل الصلاة والزكاة، وأن من العلماء من أدخل فعل الصيام والحج أيضاً، ومن حقها ارتكاب ما يبيح دم المسلم من فعل المحرمات، وقد ورد في تفسير حقها بذلك ما خرَّجه الطبراني وابن جرير من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وعز وجل". قيل: وما حقها؟   1 رواه مسلم (21) . 2 جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 قال: "زنا بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس فيقتل بها". وشهد لهذا ما في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والترك لدينه المفارق للجماعة" 1. وقد ذكر ابن رجب في شرح هذا الحديث أنه قد ورد قتل المسلم بغير هذه الثلاث: فمنها اللواط، ومنها من أتى ذات محرم، ومنها الساحر وغير ذلك2. 6- وأما حقيقتها: فحقيقة الشيء ماهيته وأصله وما أسس عليه بنيانه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، لوفد الأزد لما قالوا إنا مؤمنون: "ما حقيقة إيمانكم" فذكروا ما تركب منه إيمانهم وأسس عليه قواعده وهو خمسة عشر خصلة، قالوا: خمس أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا رسلك أن نفعلها وخمس كنا في الجاهلية عليها، وقد مضى ذكره وكذلك قول عمر -رضي الله عنه- لحذيفة لما قال: أصبحتُ مؤمناً، قال: "وما حقيقة إيمانك؟ " قال: كأني أنظر إلى عرش الرحمن وأهل النار سيصلون فيها3. فعلى هذا حقيقة لا إله إلا الله التي تركبت منها، وأسس قواعدها عليها النفي والإثبات، ونفي الألوهية عما سوى الله تعالى وإثباتها لله وحده لا شريك له، وأساس قواعدها   1 رواه البخاري (6878) ومسلم (1676) . 2 جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 320- ص 325. 3 رواه ابن أبي شيبة في الإيمان (114) مرسلاً من حديث محمد بن صالح الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عوف بن مالك فذكره بنحوه، ورواه أيضا (115) من حديث زبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف أصبحت يا حارثة بن مالك؟ " فذكره بمعناه. ووصله البيهقي في "شعب الإيمان" (10591) وفي إسناده محمد بن أبي الجهم، وله طريق أخرى في "الشعب" (10592) وإسناده منقطع، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الحب والبغض والموالاة والمعاداة على ذلك، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} . [الزخرف: 26-28] . يعني بالكلمة لا إله إلا الله فبين الله أن أساسها البراء والموالاة في ذات الله تعالى وهو المبغي من العباد كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . [الممتحنة: 4] . فبين الله تعالى صريحاً أن البراء والولاية من الإيمان بالله وحده وبه يتم الإيمان. 7- وأما لازمها: فالتقوى والإخلاص وطيب القول والعمل لإضافتها إلى ذلك، قال الله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} . [الفتح: 26] . وقال تعالى: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} . [إبراهيم: 24] . فكما أن الشجرة الطيبة لا تثمر إلا بما هو طيب فكذلك لا إله إلا الله لا تثمر إلا بكل وقول وعمل طيب، فإن قلت: اللازم ما لا ينفك من الملزوم كلزومية الحرارة للنار وكثيراً ما نرى أن قائلها ليس معه تقوى ولا إخلاص ولا طيب القول والعمل، قلت: لا إله إلا الله من لوازمها التقوى والإخلاص وطيب القول والعمل ولكن القائل الذي يشير إليه ما قالها على الوجه المبغي منه أي لم يأت بها على حقيقتها ولا ابتغاء وجه الله تعالى، فلذا ما يوفق على لوازمها، أما ترى أن الله ذكر في كلامه المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وكثيراً ما نرى المصلي مقيماً على الفحشاء والمنكر، قيل في تفسيرها: أن الذي ما نهته الصلاة عن الفحشاء والمنكر ما صلى على الوجه المرضي المبغي منه في الشرع، فمن أجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ذلك ما وفق على ترك الفحشاء والمنكر. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "والناس في الصلاة على مراتب خمس: أحدها: مرتبة الظالم لنفسه المفرط وهو الذي انتقض من وضئها ومواقيتها وحدودها وأركانها. والثاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها لكن ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة فذهب مع الوساوس والأفكار. الثالث: من حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق من صلاته فهو في صلاة وجهاد. والرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها واستعمل واستغرق قلبه في مراعاة حدودها وحقوقها لئلا يضيع منها شيئاً بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي وإتمامها قد يستغرق قلبه شأن الصلاة وعبودية ربه. الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك ولكن مع هذا أخذ قلبه موضعه بين يدي ربه نظراً بقلبه إليه ممتلئاً محبته وعظمته كأنه يراه ويشاهده وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات وارتفعت حجبها بينه وبين ربه فهذا بينه وبين غيره في الصلاة في الصلاة أعظم مما بين السماء والأرض وهذا في صلاته مشغول بربه قرير العين به. فالقسم الأول معاقب، والثاني محاسب، والثالث مكفّر عنه، والرابع مثاب، والخامس مقرب؛ لأنه له نصيب من قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قرة عيني في الصلاة" 1. فتأمل قوله: الأول معاقب مع أنه مصلٍّ لكنه على الوجه الذي غير مرض في الشرع، والثاني محاسب مع أنه أتى بأكثر أفعالها على الوجه الشرعي ظاهراً لكن أخل بالخشوع، والثالث مكفر عنه الذنوب التي عليه من دون زيادة أجر، الرابع مثاب، والخامس مقرب. فإذا عرفت ذلك فاعرف أن الناس في الذكر على مراتب منهم من يحسن لفظها ويعرف معناها ويعمل بمقتضاها ويأتي بمتمماتها ويتجنب نواقضها ويعرف فضلها ويمتثل بحكمها وحقها ويمشي على حقيقتها فهذا يوقف على لوازمها من التقوى والإخلاص وطيب القول والعمل الصالح كرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ومنهم من لا يحسن لفظها. ومنهم من لا يعرف معناها. ومنهم من لا يعمل بمقتضاها. ومنهم من لا يأتي بمتمماتها. ومنهم من لا يجتنب نواقضها ولا يعرف فضلها وحقها. ومنهم من لا يمشي على حقيقتها فكل هؤلاء ما قالوها على الوجه المرضي المبغي منهم، فإذاً لا يوقف على لوازمها بل معاقب مغضوب عليه لأنه أخل بما ألزمه الله فيها، فمن تأمل هذا الباب عرف نعم الله التي منَّ الله علينا بها في آخر الزمان، وعرف خطأ أكثر الناس   1 رواه الإمام أحمد (3/128 و195 و285) من حديث أنس بن مالك، ورواه الطبراني في "الأوسط" (5768) من طريق أخرى عن أنس بن مالك به، ورواه النسائي في "عشرة النساء" (2) من حديث أنس بن مالك به، وقال الحافظ في "التلخيص": إسناده حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 في المبغي منه. قال ابن القيم: -رحمه الله -: "اعلم أن شعاع لا إله إلا الله يقطع ضباب الذنوب وغيمها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفاً لا يحصيه إلا الله، فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالقمر، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعال الضعيف، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظاهر الأنوار يوم القيامة بين أيديهم وبأيمانهم على هذا المقدار بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفة وحالاً، وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب شدته وقوته حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شبهة وشهوة ولا ذنباً إلا حرقه، فهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك به شيئاً، فأي ذنب أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حُرست بالرجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منه السارق إلا على فترة أو غفلة لابد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه ممن سرقه أو حصل أضعافه بكسبه فهو كذا أبداً مع اللصوص الجن والإنس وليس كمن فتح لهم خزائنه وولى الباب ظهره. وليس التوحيد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله وأن الله رب كل شيء ومليكه كما كان عبَّاد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن محبة الله والخضوع والذل له وكمال الانقياد لطاعته وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض ما يحول بن صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 يبتغي بذلك وجه الله" 1. وقوله: " لا يدخل النار من قال لا إله إلا الله" وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس حنى ظن بعضهم أنها منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، وقال: المعنى لا يدخلها خالداً ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة، والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط وأن هذا الخلاف معلوم بالاضطرار عن دين الإسلام فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الجاحد لها في الدرك من النار، فلابد من قول القلب واللسان، وقول القلب يتضمن معرفتها والتصديق بها ومعرفة حقيقة ما تضمنت من النفي والإثبات ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله المختصة به التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علماً ومعرفة ويقيناً وحالاً ما يوجب تحريم قائلها من النار، وكل قول رتب الشارع، عليه من الثواب فإنها هو كقول "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" 2. وليس هذا مرتباً على مجرد قول اللسان، وليس من قالها بلسانه غافلاً عن معناها معرضاً عن تدبرها ولم يواطئ قلبه لسانه ولا عرف قدرها وحقيقتها راجياً مع ذلك ثوابها حطت خطاياه بل على حسب ما في قلبه فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلب، فتكون صورة العملين واحدة بينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً وبين   1 تقدم تخريجه. 2 رواه الترمذي (3466) من حديث أبي هريرة مرفوعاً بنحوه. وقال: "حسن صحيح". وفي الباب عن أنس أخرجه مسلم (2692) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وتأمل حديث البطاقة التي توضع ويقابلها تسعة وتسعون سجلاًّ كل سجل منها مد البصر فتثقل البطاقة وتطيش السجلات ولا يعذب، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة وكثير منهم من يدخل النار بذنوبه وكلن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل وطاشت لأجلها السجلات ولم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والزنة، وإذا أردت زيادة إيضاح لها فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك وذكر من هو معرض عنك غافل ساه مشغول بغيره، قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبة غيرك وإيثاره عليك هل يكون ذكرهما لد واحداً؟ وهل يكون الوالدان اللذان هما بهذه المثابة وعبدك وزوجتك أو جاريتك عند الشدائد واحداً؟ وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن المسير إلى القرية وحملته وهو في تلك الحال إلى أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت لهول الأمر وإيمانه باليوم الآخر، ولا جرم أُلحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها، وقريب من هذا ما قام بقلب البغية التي رأت الكلب واشتد به العطش يأكل الثرى فما قام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الدلاء وعدم المعين وعدم من ترائيه بعملها حملها على أن عرضت بنفسها في نزول البئر وتملأ ماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها له بفيها وهو ملآن حتى أمكنها الرقي في البئر ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه وطرده فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب دون أن ترجو منه جزاء وشكوراً، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها، فهكذا حال الأعمال عنده والغافل في غفلته عن هذا، وما هذا إلا الأكسير أو الكيمياوي الذي إذا وضع منه مثقال على قناطير من نحاس الأعمال قَلَبَها ذهباً، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 8- ومن ثمرتها: الفلاح في الدارين، والظهور على الأعداء، وتملكهم بالقهر والغلبة، وحفظ المال والدم والعرض في الدنيا، وفي الآخرة رضى الرحمن ودخول الجنان قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم، وإذا متم كنتم ملوكاً في الجنة" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله وكفر يعبد من دون الله حرم دمه وماله" 2. هذا3 وقد وعد الله المخلصين من عباده الذين لم يشركوا بعبادة ربهم أحداً النصر على الأعداء والغلبة والتمكن في الأرض وتبديلهم من بعد خوفهم أمناً، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} . [النور: 55] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . [الصافات: 171-173] . وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} . [غافر: 51] . قلت4: ذكرها في شرح الإقناع وقال: "إنها تصل أكثر من   1 رواه الإمام أحمد (3/492) و (4/241) من حديث ربيعة بن عباد الديلي مختصراً وفي سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد، صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهاً، كما في "التقريب". وفي الباب عن طارق بن عبد الله المحاربي أخرجه الحاكم (2/611- 612) مختصراً، وأخرجه من طريقه البخاري في "خلق أفعال العباد" (ص 39) . 2 رواه مسلم (23) . 3 لعل هذا بدء الشارح -رحمه الله تعالى- في بيان مقتضاها فيكون رقم /9، وسيعود الشارح إليها في آخر كلامه هنا. 4 لعل هذا بدء الشارح -رحمه الله تعالى- في بيان نواقضها. فيكون رقم /10، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أربعمائة"1. لما كان اجتناب النواقض عليه مدار رحى ثبات التوحيد والإسلام، لأنه إذا اجتنبت النواقض التي تنقض عرى الإسلام عروة بعد عروة سلم الإسلام والتوحيد من النقص ودخل المجتنب في الذين ذكرهم الله في {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} . [فصلت: 30-32] . أتى الشيطان أكثر الناس لهذا الملمح في التغافل عنها حتى عفت رسومها وخفيت رسومها وضيعت هضابها وتحيرت طلابها فأعمى البصيرة ظن أن ليس للا إله إلا الله والإسلام ناقض فقعد عن السؤال عنها فطفق يصد الناس عن سائلها بأقاويل مموهة بالزينة الكاذبة والزخارف الباطلة وبجوابات منقشة بالأصباغ الخائبة والتصاوير الهائلة حتى أوردهم موارد الهلاك فلأجل ذلك أردت أن أذكر ما ذكره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة الدين الراسخون في العلم. قال صاحب شرح الإقناع: باب حكم المرتد "وهو الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً واعتقاداً أو شكًّا أو فعلاً لو لم يكن مميزاً فيصح ردته كإسلامه ويأتي طوعاً لا كرهاً" لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} . [النحل: 106] . ولو كان هازلاً لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} . [البقرة: 217] . وحديث ابن عباس مرفوعاً: "من بدل دينه فاقتلوه". رواه الجماعة غير = وسقط أول الكلام. وحقه أن يقال: وأما نواقضها فكثيرة.   1 كشاف القناع: 6/136-141 وانظر: الدرر السنية: 8/80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مسلم، وأجمعوا على وجوب قتل المرتد فمن أشرك بالله تعالى أو كفر بعد إسلامه كفر لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . [النساء: 48، 116] . أو جحد ربوبيته أو جحد صفة من صفاته اللازمة. قاله في الرعاية، لأنه كجاحد الوحدانية وفي "الفصول" يُشترط أن تكون الصفة مُتفقًا عليها، أو اتخذ لله صاحبة أو ولداً: كفر؛ لأنه تعالى نزه نفسه عن ذلك ونفاه عنه، أو ادعى النبوة أو صدّق من ادعاها بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مكذّب بقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . [الأحزاب: 40] . ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نبي بعدي" 1. أو جحد نبيًّا مجمعاً عليه لأنه مكذّب لله وجاحد نبيًّا من أنبيائه الثابتة أو جحد كتاباً من كتب الله، أو شيئاً منها لأن جاحد البعض كجاحد الكل لاشتراك الكل من عند الله، أو جحد الملائكة أو واحداً مما ثبت أنه ملك لتكذبيه القرآن، أ, جحد البعث لتكذبيه الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أو سب الله ورسوله كفر مطلقاً أو استهزأ بالله تعالى أو كتبه أو رسله لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . [التوبة: 65، 66] . أو مبغضاً لرسوله أو لما جاء به اتفاقاً أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم إجماعاً لأن ذلك فعل عابدي الأصنام قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . وقولهم {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . أو سجد لغير الله، أو أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين الذي شرعه الله، أو وجد منه امتهان القرآن أو طلب تناقضه أو ادعى أنه مختلف أو مختلق أو مقدور على   1 أخرجه البخاري (3706 و4416) ، مسلم (2404) من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: "ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". قاله لعلي رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 مثله أو إسقاط لحرمته لقوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . [الحشر: 21] . وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} . [النساء: 82] . وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} . [الإسراء: 88] . أو أنكر الإسلام لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} . [آل عمران: 19] . أو الشهادتين أو إحداهما ولا يعلم معناها وجرى على لسانه من دون قصد لشدة فرح أو دهش كقول من أراد أن يقول: أنت ربي وأنا عبدك لما رأى راحلته واقفة على رأسه بعد اليأس قال: أنت عبدي وأنا ربك لحديث "عفي عن أمتي الخطأ والنسيان" 1. ومن أطلق الشارع كفره كمن ادعى بغير أبيه وكمن أتى عرافاً فصدقه بما يقول فهو تشديد: كُفْرٌ دون كفر لا يخرج به عن الإسلام. وقيل: كفر نعمة وقيل: قارب الكفر، وعنه يجب الكف ولا يقطع بأنه لا ينقل عن الملة وقال القاضي وجماعة من العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: " ومن أتى عرافاً فصدقه بما يقول كفر بما أنزل على محمد" 2.   1 رواه ابن ماجه (2045) من حديث الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس رفعه بلفظ: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وأخرجه أيضاً الطبراني في "الأوسط" (8269) من حديث الوليد بن مسلم عن الأوزاعي به. و (8270) من حديثه أيضاً عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه بمثله. و (8272) من حديث الوليد عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن عقبه بن عامر مرفوعاً مثله. وفي الباب عن أبي ذر أخرجه ابن ماجه (2043) من حديث أبي بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر مرفوعاً بنحوه. وقال النووي: حديث حسن. والله أعلم. 2 رواه الإمام أحمد (2/408 و429 و476) وأبو داود (3904) والترمذي (135) ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 أي جحد تصديقه بكذبهم ومنهم من حمل ذلك على من فعله مستحلاًّ. أو قال: إني يهودي أو نصراني أو برئ من دين الإسلام أو من القرآن أو النبي أو دينه أو يعبد الصليب ونحو ذلك على ما ذكروه في الإيمان أو قذف النبي أو أمه أو اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع لتكذبيه بالكتاب والسنة والإجماع أو سخر بوعد الله أو وعيده، أو لم يكفر من دان بغير الإسلام أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم لأنه مكذب بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [آل عمران: 85] . أو قال قولاً يتوصل به إلى تضليل أمة الاتباع للإجماع على أنها لا تجتمع على ضلالة وللخبر "لا تزال طائفة من أمتي على حق" 1 الحديث. أو قال قولاً يتوصل به إلى تكفير الصحابة بغير تأويل لتكذيبه بقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم"2. وغيره، أو قال أن الكنائس بيوت الله وأن الله يعبد فيها أو أن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة لله ولرسوله أو أنه يحب ذلك أو يرضاه لتضمن ذلك اعتقاد صحة دينهم، أو إعانتهم على الكنائس وإقامة دينهم واعتقد أن ذلك قربة وطاعة واعتقد أن زيادة أهل الذمة وكنائسهم قربة إلى الله، وإن جهل حرمة ذلك أُعلم بها فإن أصر بعد ذلك صار مرتداً لتضمنه تكذيب قوله تعالى: {نَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} . [آل عمران: 19] . أو يقول: ما ثَمَّ {إِلَّا اللَّهَ} . معتقداً ما ثم موجود إلا الله كأهل الاتحاد والخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق والرب هو العبد والعبد هو الرب ونحو ذلك من المعاني التي قام الإجماع على بطلانها   = وان ماجه (639) ، والحاكم (1/8) ، والبيهقي (7/198) من حديث أبي هريرة. 1 رواه مسلم (1920) . وهو حديث متواثر كما في: "نظم المتناثر" وتقدم ص 76. 2 خبر مكذوب، موضوع، باطل، لم يصح قط. قاله ابن حزم رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 يستتاب فإن تاب وإلا قتل أو قال: إن الله بذاته في كل مكان أو اعتقد أن لأحد طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا يجب عليه اتباعه أو أن له أو لغيره خروجاً عن اتباعه وعن أخذ ما بُعث به أو يحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم في علم الظاهر دون علم الباطن أو علم الشريعة دون علم الحقيقة أو قال: إن من الأولياء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى بتكذبيه بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} . [الأنعام: 153] . أو اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه أو ظن أن قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . [الإسراء: 23] . بمعنى قدر فإن الله ما قدر شيئاً إلا وقع وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله فإن هذا أشد الناس كفراً بل معنى قضى أوجب، أو استحل الحشيشة المسكرة أو يلعن التوراة، وأما من لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس عليه لأنه قد غير وبدل بل شرعنا نسخ سائر الشرائع. أو سب الصحابة أو اقترن بسبه دعوى أن عليًّا إله أو نبي وأن جبريل خان أو غلط لمخالفة الكتاب والسنة أو شك في كفر من توقف عن تكفيره، أو زعم أن القرآن نقص منه شيء أو كتم منه شيء لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . [الحجر: 9] . أو زعم أن له تأويلات باطنية تسقط الأعمال الشرعية كصلاة وصيام ونحو ذلك وهذا قول القرامطة والباطنية ومنهم التناسخية لتكذيبهم الكتاب والسنة والإجماع، أو قذف عائشة بما برأها الله تعالى منه لتكذبيه بنص الكتاب ومن سب غيرها من أزواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان: كسبّ أحد من الصحابة لعدم نص خاص، والثاني وهو الصحيح كقذف عائشة لقدحه فيه صلى الله عليه وسلم، وأما سب الصحابة بشيء لا يقدح في عدالتهم ولا دينهم كوصف بعضهم ببخل أو جبن أو قلة علم أو عدم زهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ونحوه فهو يستحق التأديب والتعزير ولا يكفر، وأما من لعن وقبح مطلقاً فهو محل الخلاف هل يكفر أو يفسق؟ فوقف أحمد في كفره وقتله ويقال: يعاقب ويجلد ويحبس حتى يموت أو يرجع عن ذلك وهذا هو المشهور عن مالك، وقيل: يكفر إن استحله والمذهب يعزر كما تقدم وفي الفتاوى المصرية لابن تيمية -رحمه الله- يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين أو زعم أن الصحابة ارتدوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر أو أنهم فسق أو شك في كفر من توقف عن تكفيره أو أنكر صحبة أبي بكر للرسول صلى الله عليه وسلم لتكذبيه بقوله تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} . [التوبة: 40] . وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . [الأنعام: 151] . [ .... ] وذلك لأن الأدب تحلية وزينة للإنسان ومن أحسن ما يزينه ديناً ودنيا تنزهه عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن. قال ابن الوردي: قيمة الإنسان ما يحسنه أكثر الإنسان منه أو أقل. قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الأدب خل في الغنى كنز عند الحاجة، عون على المروءة، صاحب في المجلس، أنيس في الوحدة، تعمر به القلوب الواهية، وتحيى به الألباب الميتة، وتتقد به الأبصار الكليلة ويدرك به الطالبون ما حاولوا. وقال آخر: الأدب يبلع بصاحبه الشرف وإن كان دنيًّا والعز وإن كان قيماً والقرب وإن كان قصياً، والمهابة وإن كان بذياً والغنى وإن كان فقيراً، والنيل وإن كان حقيراً، والكرم وإن كان سفيهاً، والمحبة وإن كان كريهاً. قال بعض الملوك لوزيره: ما خير ما يرزقه الله بعد الإسلام؟ قال: عقل يعيش به، قال فإن عدمه؟ قال: أدب يتحلى به، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فإن عدمه؟ قال: فخمول سيرة، قال: فإن عدمه؟ قال: فصاعقة تحرقه وتريح العباد منه والبلاد. قال علي -رضي الله عنه-: إن الكمال بالأخلاق مطهرة ... فالعقل أولها والدين ثانيها والعلم ثالثها واحلم رابعها ... والجود خامسها والعرف ساديها والعين تعلم من عين محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها والنفس تعلم أني لا أصدقها ... ولست أرشد إلا حين أعصيها قال لقمان لابنه: لا تتم الحكمة في أحد حتى يكون في ثلاثة مقدماً ومؤخراً ومبرءاً عن ثلاثة ومؤهلا لثلاثة، أما اللواتي مقدماً فيها فالعقل والعلم والنطق، وأما اللواتي مؤخر عنها فالحدة والعجلة والحجاجة، وأما اللواتي يكون مبرءاً منها فالهوى والحسد والكذب، وأما اللواتي يكون مؤهلاً لها فالرفق والصبر والصمت، وقال: يا بني الحكمة والمروة مردهما إلى خشية الله تعالى وخشية الله هي الحكمة ولن تجد حكيماً يأتي بسوء أو ينطق بفحش وإنما يقول خيراً أو يصمت، وقال آخر: يكفيك من عقل الفتى صمته ... وتركه ما ليس يعنيه وقال لقمان: يا بني من حاسب نفسه فليس أحد يحاسبه، ومن عاقبها فليس أحد يعاقبه ومن لامها فليس أحد يلومه، وقال: من أصلح فاسده أرغم حاسده، ومن سعادة جدك وقوتك على حدك، حد العفاف الرضا بالكفاف، أجهل الناس من كان على السلطان مدلاَّ، وللإخوان مذلاًّ1. ولو أردنا أن نذكر ما في الأدب لما وسعه المقام، واعلم أن   1 هذا من كرم أبي الفتح البستي ما في: "طبقات الشافعية" للسبكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 مدار الأدب والحكمة والكمال على العقل ومدار العقل على صفاء الباطن، حتى يرى القببح من الحسن كالمرآة لصفائها يرى فيها الأشياء ومدار صفاء الباطن على التنزه من الفواحش ما ظهر منها وما بطن ومدار ذلك من خشية الله تعالى ومدار ذلك على الإيمان الصادق الناصح عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . [الأنعام: 153] . أي تتشعب بكم عنه فتضلوا وتهلكوا وتستوجبوا الخزي في الدارين، وعن عبد الله بن مسعود قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا مستقيماً ثم قال: هذا صراط سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال: هذه سبل على كل سبيل منها الشيطان يدعو إليه". وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 1. وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أنه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي" 2. رواه الترمذي. فوقع كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فتشعبت أولاً ست فرق، الجبرية والقدرية والرافضة   1 رواه الإمام أحمد (1/435 و465) والدارمي (1/67) ، والحاكم (2/318) وصححه ووافقه الذهبي وابن أبي عاصم في "السنة" (17) والطيالسي (244) وابن جرير في:التفسير" رقم (14168) . 2 رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً به وفي سنده عيد الرحمن بن زياد الأفريقي، ضعيف في حفظه، كما في "التقريب" وقال الترمذي: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 والخوارج والمعتزلة والمرجئة، وتشعبت كل فرقة إلى اثني عشر فرقة فصارت ثنتين وسبعين فرقة كلها جائرة ومائلة عن صراط الله الذي أرسل به رسوله، والفرقة الناجية هي تمام الثلاث والسبعين: قال أبو العباس أحمد ابن تيمية قدس الله روحه: "اعلم أن اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل يؤمنون بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسمائه وآياته ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفو له ولا ند له ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى، وإنما يؤمنون بما وصف به نفسه فإنه سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه ثم رسله صادقون مصدوقون بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون ولهذا قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} . إلى آخر السورة فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، هو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص] . وما وصف به نفسه في أعظم آية حيث يقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 سبحانه: قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . [البقرة: 255] . أي لا يكرثه ولا يثقله، ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح". 11- وأما فضلها: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى: يا رب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال: يا رب، كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضيين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت لا إله إلا الله" رواه ابن حبان والحاكم وصححه الترمذي وحسنه1.قوله: يا رب علمني شيئاً أي خصصني بشيء أذكرك عن النسيان وأدعوك به عند تفاقم الأمر وتوالي الحدثان، قال الله تعالى: يا موسى قل: لا إله إلا الله منبهاً على أنها هي الموجبة لخلق الثقلين وهي الفارقة بين الكفر والإسلام، قال موسى: يا رب كل عبادك يقولون هذا أي عباد الطاعة لا عباد القهر لأنه قد علم بالكتاب والسنة والأخبار المتواترة والأحاديث المتوافرة أن الكفار قديماً وحديثاً أنكروها وأنكروا على من أمرهم بها، قال فرعون: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} . [الشعراء: 29] . قوم إبراهيم لما قال لهم: {أَإِفْكاً   1 رواه ابن حبان (2324) والحاكم (1/528) ، وصححه ووافقه الذهبي من حديث أبي سعيد الخدري، وفي سنده دراج أبو السمح في روايته عن أبي الهيثم ضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} . [الصافات: 86] . {قالوا ابنوا له} . [الصافات: 97] . قوم نوج لما قال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . [الأعراف: 59] . {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} . [الشعراء: 116] . وقوم هود لما قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . [هود:50] . {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} . [الشعراء: 137] . وهلم جرا أي كل نبي لما دعا قومه إلى توحيد الألوهية أنكروه واستكبروا وزادوا نفوراً قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . [الذاريات: 52، 53] . فهؤلاء مع تكذبيهم للرسل عبيد الله قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} . [مريم: 93] . وأما عبيد الطاعة الذين قاموا بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وصدقوا الرسل بما جاؤوا به وعملوا بما قالوا، فالله أعلم قول موسى: كل عبادك يقولون هذا يعني بهم عبيد الطاعة الذين قالوا: لا إله إلا الله وعملوا بها فنبه الله تعالى على أنها أفضل الأذكار والأدعية لو أن السماوات السبع وعامرهن وفي رواية وعمارهن غيري مستثنياً نفسه المقدسة لأنه لا يقابلها بشيء ليس كمثله ولم يكن له كفواً أحد في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله واعلم أن ليس المراد منها لفظها لأن اللفظ إذا كتب وحط في الميزان لقابله ثلاث شعيرات عن الخلائق والتوكل على رب الخلائق وعبادته وحده لا شريك له فهذا هو المعظم وهو المثقل بالسماوات والأرضيين ومن فيهن إلا الله فتأمل. وقد ورد فضلها بأحاديث متكاثرة وأخبار متواترة عن جابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله" 1. رواه الترمذي وابن ماجه، وروى أبو إسحاق عن الأعمش أنه شهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قال العبد: لا إله إلا الله والله أكبر يقول الله تبارك وتعالى: صدق عبدي لا إله إلا أنا وأنا أكبر وإذا قال لا إله إلا الله وحده قال: لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا لا حول ولا قوة إلا بي" 2. قال أبو إسحاق ثم قال الأعمش شيئاً لم أفهمه، فقلت لأبي جعفر: ما قال؟ قال: "من رزقهن عند موته لم تمسه النار"3. وفي رواية أبي سعيد وأبي هريرة: "من قالها في مرضه ثم مات لم يطعمه النار" 4. ومن المراسيل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال كل يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أتى الله يوم القيامة وجهه أشد بياضاً من القمر ليلة البدر". وعنه صلى الله عليه وسلم: "من قال في يوم مائة مرة إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كانت له حرزاً من الشيطان   1 رواه الترمذي (3383) وابن ماجه (3800) من حديث جابر بن عبد الله مرفوعاً. 2 رواه الترمذي (3430) ، وابن ماجه (3794) ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (30) (31) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعاً. وأخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة" (32) . 3 تقدم قبله مرفوعاً. 4 تقدم أيضاً مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 حتى يمسي" 1. وعنه صلى الله عليه وسلم: " دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج كربه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" 2. وفي الترمذي: "دعوة أخي ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع لها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له" 3. وعنه صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم" 4. ولو أردنا أن نذكر كل ما ورد في فضلها لطال الكلام، وما وسعه المقام، وكيف لا وقد كون الكون وأرسل الرسل وأنزل الكتب لأجلها أي لأجل معناها والعمل بمقتضاها وذلك تعبد الله وحده لا شريك له فلا تنيب إلا إليه ولا توكل إلا عليه وتقبل على الله بقلبك وقالبك وترضى وتسلم الأمور كلها إليه وتعلم أنه عليم بمصالح العباد وحكيم بوضع الأشياء في مواضعها إن الله يفعل ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة وتفر منه إليه عند الشدائد وتشكره عند الرخاء وتعلم إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. قال الشيخ أسكنه الله الجنة: لا إله إلا الله لها عشر درجات ينبغي للمسلم أن يعرفها ويميز الناس بها:   1 رواه الترمذي (3468) من حديث أبي هريرة مرفوعاً بنحوه. وأصله متفق عليه. 2 رواه النسائي في عمل اليوم والليلة (661) من حديث سعد مرفوعاً، وانظر ما بعده. 3 رواه الترمذي (3505) من حديث سعد، وصححه الحاكم (1/505) ووافقه الذهبي. 4 أخرجه البخاري (6345-6346) (7421) (7431) ، ومسلم (2730) من حديث ابن عباس، بنحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الأولى: تصديق القلب أن دعوة غير الله وعبادة غيره باطل وقد خالف فيها من خلف. الثانية: أن عبادة غير الله ودعوة غيره منكر شنيع ويجب فيها العداوة والبغضاء، وقد خالف فيها من خالف. الثالثة: أنها من الكبائر العظام المستحقة للمقت والمفارقة بل هي أكبر الكبائر، وقد خالف فيها من خالف. الرابعة: أن هذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة وأن صاحبه إن مات وهو عليه، حرام عليه الجنة مخلد في النار وما له نصير ولا شفيع، وقد خالف فيها من خالف. الخامسة: أن المسلم إذا اعتقده أو دان به كفر، وقد خالف فيها من خالف. السادسة: أن المسلم الصادق إذا تكلم به خوفاً أو طمعاً كفر، وقد خالف فيها من خالف. السابعة: أنك تعمل معه عملك مع الكافر من عداوة الأب والابن وغير ذلك، وقد خالف فيها من خالف. الثامنة: أن هذه تتعلق بلا إله إلا الله وهي معنى لا إله إلا الله وأن ثبوتها عمل ونفيها ترك عمل. التاسعة: القتال على ذلك حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. العاشرة: أن كفر فاعل الشرك أغلظ من كفر اليهود، تنكح نساء اليهود ولا تنكح المشركات. قلت: إذا تأملت هذه الدرجات وتدبرت معانيها وما يتعلق بها وجدت مصداق قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} . [سبأ: 13] . معيناً ورأيت قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 بِمُؤْمِنِينَ} . [يوسف: 103] . هو الواقع ولا إله إلا الله سلعة الرحمن في الدنيا والجنة في الآخرة، وقد كسدت عند الأراذل واللئام: يا سلعة الرحمن أين المشتري ... فلقد عرضت بأيسر الأثمان يا سلعة الرحمن سوقك كاسد ... بين الأراذل سفلة الحيوان يا سلعة الرحمن ليس ينالها ... من ألف إلا واحد لا اثنان الحق شمس والعيون نواظر ... لا تختفي إلا على العميان عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم؛ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة". رواه الترمذي1. وفي هذا الحديث بشارة عظيمة لمن وحد الله تعالى ونذارة شديدة لمن أشرك بالله شيئاً أي ولو قليلاً لأن الشرك في العمل كالنار في البارود فكما لو كان البارود كثيراً لأحرقه القليل من النار كذلك العمل لو كان كثيراً لأحبطه قليل من الشرك، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [الزمر: 65] . 12- وأما متمماتها فشهادة أن محمداً عبده ورسوله واتباعه على كل حال في العسر واليسر قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . [الحشر: 7] . وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . [النساء: 65] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل يدخل الجنة إلا من أبى". قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال:   1 رواه الترمذي (3540) من حديث أنس، وقال: حسن غريب، وفي الباب عن أبي ذر، وابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" 1. قال البخاري: ثنا محمد بن عبادة، ثنا سليم بن حيَّان، وأثنى عليه، ثنا سعيد بن مينا، ثنا أو سمعت جابر بن عبد الله يقول: "جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم إنه نائم، وقال بعضهم العين نائمة والقلب يقظان، قالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: مَثَلُهُ كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا: أوِّلوها له يفقهها فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله ومحمد فرَّق بين الناس" 2. واعلم أن مبنى قبول العمل على ركنين: الإخلاص والمتابعة. قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . [الملك: 2] . قال الفضيل بن عياض: "هو أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل وإن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، الخالص ما كان لله، والصواب أن يكون على السنة"، فالإخلاص في العمل مقتضى لا إله إلا الله، والصواب يعني متابعة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في العمل من مقتضى محمد رسول الله، فبان أن الله لا يقبل من أحد لا إله إلا الله حتى يشهد أن محمداً رسوله ويتبعه فيما   1 رواه البخاري (7280) من حديث أبي هريرة مرفوعاً بنحوه. 2 رواه البخاري (7281) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 أتى به دقاً وجلاً فيدور مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله نفياً وإثباتاً بلا روغان فصارت الشهادة أن محمداً رسول الله والمتابعة له من متممات لا إله إلا الله. وأما مقتضاها1: سلامة القلب من الشرك والشك والكفر والنفاق والعجب والكبر وتحلي القلب بحلي الإيمان والإخلاص وعظمة الله ووقاره والحب في الله والبغض فيه والرضى بقضاء الله وتسليم الأمر لله ونحو ذلك من الأعمال القلبية وصدق اللسان والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحدث بنعمة الدين والثناء على الله والشكر له والحمد ونحو ذلك من الأعمال اللسانية، وامتثال أوامر الله بما قال الله ورسوله وقد الله في كتابه العزيز آية جامعة لأصول الأعمال الصالحة، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . [البقرة: 177] . قال البيضاوي: والآية كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها دالة عليها صريحاً أو ضمناً فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء: صحة الاعتقاد، وحسن المعاشرة، وتهذيب النفس، وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} . وإلى الثاني بقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} . وإلى   1 هذا عود من الشارح لبيان: "مقتضاها" وقد تقدم له بيان له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الثالث بقوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في الدين واتباع الحق وطلب البر {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . عن الشرك والكفر وسائر الرذائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 متن الباب 2 باب: من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . [النحل: 120] . وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59] . عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عرضت عليّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"، ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه فأخبروه، فقال: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: "أنت منهم" ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: "سبقك بها عكاشة". فيه مسائل: الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد. الثانية: ما معنى تحقيقه. الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يكن من المشركين. الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك. الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد. السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل. السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل. الثامنة: حرصهم على الخير. التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية. العاشرة: فضيلة أصحاب موسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الحادية عشرة: عرض الأمم عليه، عليه الصلاة والسلام. الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها. الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء. الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده. الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة. السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة. السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني. الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه. التاسعة عشرة: قوله: "أنت منهم" علم من أعلام النبوة. العشرون: فضيلة عكاشة. الحادية والعشرون: استعمال المعاريض. الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 شرح الباب 2 باب في بين أدلة من الكتاب والسنة تدل على أن من حقق التوحيد الذي أرسل الله به الرسل وألزم به العبيد وهو إقبال العبد على الله بقلبه وقالبه في عبادته ودعائه وتوكله واستعانته ولا يساوي معه تعالى في حبه ورجائه وخوفه لا إله إلا هو دخل الجنة بغير حساب قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ} . [النحل: 120، 121] . يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله ونبيه على نبينا وعليه السلام أنه كان أمة في تعليمه الناس الخير ومقاومته أهل الأرض بالمناصحة والمجادلة الحسنة أولاً فأولاً والأهم فالأهم، فأول ما بدأ بمناصحة أبيه ومجادلته بالتي هي أحسن {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} . [مريم: 42-45] . قال أبو آزر له {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} . [مريم: 46] . فلما بان منه الصدود والإعراض وتبين له أنه عدو لله تبرأ منه ثم ناصح أباه وقومه معاً واجتهد في دخولهم الصلاح والفلاح وجادلهم بالتي هي أحسن مع إنكاره عليهم في عبادتهم غير الله مع الله وهم عبيده تحت قهره وتصريفه ولا يملكون لهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً} . [الشعراء: 70، 71] . أي صوراً كانوا يصورونها على صور الصالحين قبلهم {وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . [نوح: 23] . وكانوا {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . [يونس: 18] . قالوا كذلك قال تعالى: {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 [الشعراء: 71] . {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} . [الشعراء: 72] . أي إذا دعوتموهم {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ} . إذا استعنتم بها {أَوْ يَضُرُّونَ} . [الشعراء: 73] إن تركتم عبادتها {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} . [الشعراء: 74] . أي إنهم لا يسمعون دعائنا ولا ينفعون ولا يضرون غير أنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ففعلنا فعلهم {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} . [الشعراء: 75-77] . فهذا الاستثناء يدل على أنهم يعبدون الله ويعبدون غيره فتبرأ إبراهيم من عبادة غير الله ومعابيدهم الباطلة واستثنى المعبود الحق رب العالمين الذي خلقني من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم صورني فأحسن صورتي فأخرجني إلى الفضاء وهو يهديني لما يصلحني وهو يطعمني بأرزاقه التي خلقها لنا من كل شيء ويسقيني وإذا مرضت فهو يشفيني لا شفاء إلا شفائه والذي يميتني ثم يحييني والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين فهذا معبدوي الذي أعبده وحده وأتعلق بع وأتوكل عليه وأستعين به في أمور ديني ودنياي، بيده أزمة الأمور كلها له الآخرة والأولى، ثم قاوم ملكهم نمرود بن كنعان ومن تبعه بالمنصاحة والمجادلة الحسنة وتوضيحه لهم الأمر الجلي الواضح الذي يدل على فساد عقولهم وضلالهم وذلك كسره الأوثان، قال تعالى حكاية عنه أنه قال لهم: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} . [الأنبياء: 57] . فقد كان لهم في كل سنة مجمع وعيد كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم أشتكي رجلي فلما مضوا رجع إلى بيت الآلهة وهن في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 عظيم إلى جنبه أصغر منه وإلى جنب الأصغر أصغر منه وهكذا على التوالي وإذ هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين أيدي الآلهة وقالوا: إذا رجعنا قد باركت الآلهة في طعامنا فأكلنا فقال لهم إبراهيم على طريق الاستهزاء ألا تأكلون فلما لم تجبه قال: ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضرباً باليمين فجعل يكسرهن بفأس حتى إذا لم يبق إلا الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج وذلك قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} . [الأنبياء: 58] . قيل: معناه لعلهم يرجعون إلى دينه إذا علموا ضعف الآلهة، وقيل: لعلهم يرجعون فيسألونه فأتوا فرأوا و {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} . [الأنبياء: 59-61] . كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، وقيل: لعلهم يحضرون عقابه وما يصنع به {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} . ما نراه إلا كما قال: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} . [الأنبياء: 62-64] . يعني بعبادتكم من لا يتكلم وقيل أنتم الظالمون في سؤالكم إياه وهذه الآلهة فاسألوها {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} . قال أهل التفسير: أجرى الله الحق على لسانهم أولاً ثم أدركتهم الشقاوة وقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} . [الأنبياء: 65] . لأنهم صور الصالحين فكيف نسألهم فلما اتجهت الحجة لإبراهيم {قَالَ} . لهم {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} . [الأنبياء: 66، 67] . فلما علم أنهم أعداء الله ولا تنفع فيهم المناصحة والمجادلة بالتي هي أحسن أيس منهم ونابذهم في الله أشد المنابذة وكافحهم بالإنكار أشد المكافحة وعاداهم في الله أشد المعاداة، قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . [الممتحنة: 4] . وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . [الزخرف: 26-28] . يعني لا إله إلا الله، لأن معنى الآيتين نفي العبادة عما سوى الله تعالى وإثباتها لله وحده لا شريك له، وأيضاً معناها الولاء لمن عبد الله وحده لا شريك له والبراء ممن أشرك مع الله غيره فكان عليه السلام مجتهداً في تعليمه الناس الخير والحق والتوحيد. قانتاً لله أي مطيعاً له كقوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} . [الروم: 26] . أي مطيعون مذعنون، قال النووي عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن السعدين1 أنه سأل ابن مسعود عن الأمة القانت فقال: الأمة معلم الخير والقانت المطيع لله. حنيفاً أي مائلاً من الباطل إلى الحق ومن الشرك إلى التوحيد ومن الكفر إلى الإيمان ومن النفاق إلى الإخلاص ومن المعاصي إلى الطاعات، قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} . [النجم: 37] . ولم يك من المشركين تبرأ من المشركين ومما يعبدون من دون الله تعالى وأخلص العمل لله وحده وكسر الأوثان {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} . [الأنبياء: 68] . قال ابن عمر: بنوا بنياناً كالحفيرة ثم جمعوا أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدة حتى المريض يقول: إن عافني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم وكانت   1 كذا الأصل! وصوابه: "عن أبي العُبيدين" كما في "تفسيره" ابن جرير الطبري 7/660. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 المرأة تنذر في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحطبن في نار إبراهيم وكان الرجل يوصي شراء الحطب وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها احتساباً في دينها، قال ابن إسحاق: كانوا يجمعون الحطب شهراً فأشعلوا في كل ناحية من الحطب ناراً فاشتعلت واشتدت حتى إن الطير لتحترق من شدة وهجها فأوقدوا عليها سبعة أيام، ثم وضعوا إبراهيم في المنجنيق فلما رموه فيها أتاه جبريل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال: فسل ربك فقال إبراهيم: "حسبي من سؤالي علمه بحالي"1. فلما علم الله أنه رقى في الإخلاص منزلته الأعلى وتوكل عليه حق التوكل وتبرأ من الحول والقوة وقطع العلائق عما سواه قال الله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . [الأنبياء: 69] . وذلك لما دعا الله تعالى إبراهيم من قلب حاضر خاشع عارف بالله خائف منه فارغ عما سواه مقبل على الله بقلبه وقالبه قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . [إبراهيم: 35] . وقال هو وإسماعيل ولده {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} . [البقرة: 128] . أجاب الله دعاءه وجعله إمام الحنفاء، وليست الإجابة مختصة بإبراهيم بل الأنبياء كلهم دعوا وأجاب الله دعاءهم بل الأمر علم لمن دعا الله بقلب حاضر متجنب الموانع قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . [غافر: 60] . قال ابن القيم: " الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب ولكن قد يتخلف عنه أثره إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا فإن السهم يخرج منه   1 لا أصل له وهو من الإسرائيليات، بل بين شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه باطل، لا يجوز لمسلم الدعاء به. وقد بينته في: "معجم المناهي" وفي صحيح البخاري: 8/229 أنه -عليه السلام- قال: " حسبنا الله ونعم الوكيل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 خروجاً ضعيفاً وإما لحضور المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والشهوة والذنوب والأهواء وغلبتها عليها كما في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة "ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه" 1. فهذا دعاء نافع مزيل للداء ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته وكذلك أكل الحرام يبطلها ويضعفها كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك" 2. وللدعاء مع البلاء ثلاث مقامات: أحدها: أن يكون أقوي من البلاء فيدافعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ولكن يخففه وإن كان ضعيفاً. الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل منهما وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب وصادف وقتاً من أوقات الإجابة الستة: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان   1 رواه الترمذي (3479) من حديث أبي هريرة مرفوعاً به. وقال: "حديث غريب" في سنده صالح بن بشير المري. وله شاهد عند الإمام أحمد (2/177) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً بنحوه، وحسن إسناده الحافظ الهيثمي (10/118) بشاهده. هذا وعزو الحديث لصحيح مسلم خطأ قطعاً. 2 رواه مسلم (1015) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام المنبر يوم الجمعة حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم، وصادف خشوعاً في القلب وانكساراً بين يدي الرب وإذلالاً له وتضرعاً ورقًّا واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله تعالى وبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده صلى الله عليه وسلم، ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألحّ عليه في المسألة والتعلق به ودعا رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وقدم بين يديه صدقة فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبداً ولا سيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة وأنها متضمنة للاسم الأعظم". انتهى كلامه رحمه الله في فوائد الدعاء وموجبات الإجابة وموانعها. واعلم أن تحقيق التوحيد له درجات بعضها فوق بعض، ففي ذروة سنامه إبراهيم خليل الرحمن وسيد المرسلين محمد بن عبد الله، فأما إبراهيم لما رمي في النار وقال له جبريل ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، جعل الله له النار برداً وسلاماً، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} . [آل عمران: 173] . ومن بعدهما صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} . فكل من لا يشرك بربه فالآية تشمله. عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة روى أن انقِضَاضاً من الكواكب حدث بمولد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى عن الجن أنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 قالوا لما سمعوا القرآن {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} . [الجن: 9] . قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . [الصافات: 6-10] . وقيل: إنه كان قبل مبعثه ولكن اشتد بمبعثه صلى الله عليه وسلم على الشياطين بكثرة الشهب والحرس. قلت أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت. وهذا شأن الصالحين لم يرضوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلما كانت يقظته لقيام الليل للعبادة نفى عن نفسه المظنة قال: سعيد فما صنعت؟ قلت: ارتقيت أي طلبت الرقية من غيري قال: سعيد فما حملك على ذلك؟ وفي هذا أعظم دليل على أن الصحابة لم يقبلوا عملاً ولا قولاً إلا بدليل من الكتاب والسنة لأن الذي يرضاه الله من القول والعمل هو الذي شرعه على لسان رسوله وأمر عباده به قلت: حملني عليه حديث حدثناه الشعبي قال سعيد: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: "لا رقية إلا من عين لثبوته في الكتاب والسنة ". وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن أثر العين لتدخل الرجل القبر والجمل والقدر" 1 وروي أنه كان في بني أسد عيَّانون فأراد بعضهم على أن يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل قال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ   1 رواه أبو نعيم في "الحلية" (7/90) من حديث شعيب بن أيوب حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعاً: "العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر". وقال: غرب من حديث الثوري تفرد به معاوية. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} . [القلم: 51] . أو حمة بضم الحاء اللدغة فقال سعيد: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع عن الله وعن رسوله ولم يتعد إلى غيره. ولكن هنا درجة أرفع من هذه الدرجة التي أنت فيها وهي درجة التوكل حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط" من التسعة إلى الثلاثة والنبي ومعه الرجل والرجلان، "والنبي وليس معه أحد" لمرارة الحق على النفوس إلا ما رحمه الله تعالى وهداه، قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} . "إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي" لكثرتهم "فقيل" لي "هذا موسى وقومه فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرو هـ" بما قالوا "فقال: هم الذين لا يسترقون" أي يطلبون الرقية "ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} . وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} "فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم" ولم يقل: اجعلني منهم "فقال صلى الله عليه وسلم" إما بوحي أوحي إليه أو بإلهام ألهمه الله تعالى: "أنت منهم، ثم قام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال صلى الله عليه وسلم "سبقك بها عكاشة" 1. سدًّا للذريعة أم علم بوحي أو إلهام أنه ليس منهم وما أراد فضيحته.   1 رواه البخاري (3410 و6472 و6541 و5705 و5752) مطولاً ومختصراً، ومسلم (220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 متن الباب 3 باب: الخوف من الشرك وقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . [النساء: 48] . وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . [إبراهيم: 35] . وفي حديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فسئل عنه فقال: "الرياء" وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار". رواه البخاري. ولمسلم عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار ". فيه مسائل: الأولى: الخوف من الشرك. الثانية: أن الرياء من الشرك. الثالثة: أنه من الشرك الأصغر. الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين. الخامسة: قرب الجنة والنار. السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد. السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئاً دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار ولو كان من أعبد الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام. التاسعة: اعتباره بحال الأكثر، لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} . [إبراهيم: 36] . العاشرة: فيه تفسير "لا إله إلا الله" كما ذكره البخاري. الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 شرح الباب 3 باب في بيان ما يدل على أن الخوف من الشرك من لوازم المسلم. وذلك لما كان الشرك أظلم الظلم كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} . [الأحقاف: 5، 6] . وأنه أعظم الظلم قال تعالى لقمان في وصيته لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . وفي الحديث وقد رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها فقال له عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقني بها أن يخسف بي أو أعذب، فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ له المسجد وقعدوا على الشرف، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم بهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن مثل من أشرك به كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق فقال: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأدّ لي فكان يعمل ويؤدى إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك" 1. الحديث. فأي ظلم أعظم من أن يخلقك ربك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً في أحسن صورة ورزقك من كل نعمة ودفع عنك كل نقمة فتشرك غيره وتعبد غيره كما في الحديث القدسي: "أنا والثقلين في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري، خيري إليهم نازل،   1 رواه الترمذي (2863 و2864) ، والإمام أحمد (4/13 و202) من حديث الحارث الأشعري بنحوه وسنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وشرهم إلي صاعد " 1. الحديث. فالشرك أقبح المنكرات وأعظم الذنب كما في البخاري، قال رجل: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ وفي آخر: أكبر بدل أعظم، قال: "أن تدعو لله ندًّا وهو خالقك". قال ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك". ثم قال: أي: قال: "أن تزني" وفي رواية: "أن تزني بحليلة جارك" فأنول الله تصديقها {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَنْ تَابَ} 2. [الفرقان: 68-70] . وأنه أكبر الكبائر. في البخاري ثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وشهادة الزور ثلاثاً أو قول الزور" 3. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. وأنه أبغض المعاصي إليه تعالى وأكرهها عنده وأشد عقوبة ومقتاً قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . [النساء: 48، 112] . وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} . [التوبة: 28] . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . [المائدة: 72] . ولما كان الشرك الأعظم مقتاً عند الله أباح للمسلمين دماءهم وأموالهم وذراريهم قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} .   1 رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (4563) من حديث أبي الدرداء رفعه، وفي سنده بقية بن الوليد. 2 رواه البخاري (4477 و6861) ومسلم (86) من حديث ابن مسعود بنحوه. 3 رواه البخاري (5976) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 [التوبة: 5] . وذلك لأن الشرك هضم لحق الربوبية وتنقص لعظمة الألوهية فلأجل ذلك كله حقيق على كل مسلم أن يخاف الشرك ويحذره ويسأل الله ليله ونهاره بل كل ساعة ولحظة أن يجنبه الشرك ويهديه للتوحيد والإخلاص ويثبته عليه ولا يزيغ قلبه عن الهدى. واعلم أن كلما زادت معرفة العبد بالله وعلمه به وبأحكامه وعقابه وثوابه كان خوفه أشد، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} .ولما كان إمام الحنفاء إبراهيم ومحمد بن عبد الله سيد المرسلين صلوات الله عليهم أجميعن أعلم بالله كان خوفهم أشد وأعظم وطلبه من الله النجاة أكثر قال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . قال: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} . [البقرة: 128] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} . [الإسراء: 80] . وقال يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} . [يوسف: 101] . وقال سليمان عليه السلام: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} . [النمل: 19] . واعلم أن الشرك أكبر وأصغر: فالأكبر يحبط الأعمال كلها ويخرج الإنسان من إسلامه، قال تعالى خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم وتنبيهاً لعباده: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [الزمر: 65] . وأما الأصغر: فيحبط العمل الذي هو فيه وحماه فيه كالرياء والسمعة وكثيراً ما يجري في الإنسان إلا من عصمه الله وحماه نسأل الله حمايته من كل ما يكره. في الحديث: "أخو فما أخاف عليكم الشرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الأصغر". فسئل عنه قال: "الرياء" 1. وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: "قال الله: أنا غنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري فأنا بريء منه وهو كله للذي أشرك" 2. واعلم أن الله تعالى من حكمته وعدله يعامل الذي يقصد غيره في عمل أو قول بنقيض قصده وذلك لأنه تعالى ينظر إلى العامل فإن كان عمله لله خالصاً يجازيه به وإن أشرك معه غيره يرجعه إذاً خائباً خاسراً، قال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} . [طه: 111] . وأيضاً يريد المرائي أن يعظم في أعين الناس بعمله أو قوله فيرائي الله به فيسقط من عين الناس أولاً ثم من عيونهم. وفي الحديث عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمّع سمع الله به ومن راءى راءى الله به" 3. أخرجاه في الصحيحين. وفي مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "إن أول الناس يقضى يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى قتلت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه في النار. ورجل تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى به فعرفه   1 رواه الإمام أحمد (5/428 و429) من حديث محمود بن لبيد، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/102) : ورجاله رجال الصحيح. 2 رواه مسلم (2985) من حديث أبي هريرة مرفوعاً. 3 رواه البخاري (6499 و7152) ومسلم (2987) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت لك فيه، قال: كذبت ولكنك فعلت ليُقال: هو جواد فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار" 1. وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو لله ندًّا دخل النار" 2. ولمسلم عن جابر أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" 3.   1 روه مسلم (1905) . 2 رواه البخاري (4497 و6683) . 3 رواه مسلم (93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ... متن الباب 4 باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . [يوسف: 108] . عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية-: إلى أن يوحدوا الله - فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". أخرجاه. ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتى به فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم". يدوكون: يخوضون. فيه مسائل: الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبعه صلى الله عليه وسلم. الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه. الثالثة: أن البصيرة من الفرائض. الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: كونه تنزيهاً لله تعالى عن المسبة. الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله. السادسة: -وهي من أهمها- إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم ولو لم يشرك. السابعة: كون التوحيد أول واجب. الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة. التاسعة: أن معنى: "أن يوحدوا الله" معنى شهادة: أن لا إله إلا الله. العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب، وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها. الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج. الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الثالثة عشرة: مصرف الزكاة. الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم. الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال. السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم. السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب. الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء. التاسعة عشرة: قوله: "لأعطين الراية" إلخ. علم من أعلام النبوة. العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضاً. الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه. الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح. الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى. الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: "على رسلك". الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال. السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا. السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة، لقوله: "أخبرهم بما يجب عليهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله تعالى في الإسلام. التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد. الثلاثون: الحلف على الفتيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 شرح الباب 4 باب في بيان ما يدل على أن الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله هو أحسن الأقوال وهو الطريقة المرضية عند الله وهو سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . [فصلت: 33] . وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . [يوسف: 108] . والمخالف في هذا على أنواع منهم من يجهل الشريعة لغفلته عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأوامره ونواهيه فهو كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . [الأعراف: 179] . فبين الله أن عدم معرفتهم سببه الغفلة عما أمر الله ورسوله. ومنهم من يعلم الشريعة ولكن تعلمها للدنيا والجاه والمنصب لا لله تعالى فهو كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} . [هود: 15، 16] . وعن كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم ليجازى به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار" 1. رواه الترمذي. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم بجد عرف الجنة يوم   1 أخرجه الترمذي (2654) وقال الترمذي: غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 القيامة" 1. يعني ريحها، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. ومنهم من يعلم الشريعة قاصداً وجه الله لكن لا يعلم غيره لأمر من الأمور وقصد من المقاصد التي ليست شرعية فهو كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . [البقرة: 159] . ومنهم من يعلم ويتعلم لله ويعلم غيره ولكن لا يصبر على ما يصيبه في الله تعالى فهو كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} . [العنكبوت: 10] . وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . [الحج: 11] . ولا يسلم من هذه المخاطرات إلا من تعلم الشريعة لله وعمل به وعلم غيره وصبر على الأذى وصبر على ما أصابه في نفسه وماله ويعلم أن لكل شيء عوضاً إذا فاته، وما من الله عوض كما قيل: لكل شيء إذا فوته عوض ... وما من الله إن فوته عوض قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . [العصر:1- 3] . فأقسم الله تعالى أن بني الإنسان كلهم في خسر إلا الذين فيهم هذه الأربع: الإيمان وهو العمل والعلم، والتعليم، والصبر فيلزم المسلم الصادق جهاد المخالفين على قدر الاستطاعة مرتباً على مراتبها وهي ثلاث عشرة مرتبة لأن الجهاد أربع درجات: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين، فدرجة جهاد النفس أربع مراتب:   1 رواه الإمام أحمد (2/338) ، وأبو داود (3664) ، وابن ماجه (252) ، وله شاهد أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي والسامع" (7/83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 أحدهما: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين. الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم من غير العمل يضرها ولا ينفعها. الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إلى الله وتعليم العلم الشرعي من لا يعلم وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله تعالى. الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على المشاق وما يأتي من المحن في سبيل الله وإيذاء الناس ويتحمل ذلك كله لله تعالى. ودرجة جهاد الشيطان مرتبتان: أحدهما: جهاده على دفع ما يلقي للعبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان. والثانية: جهاده على ما يلقي إليه من الإرادات من الشهوات. فالجهاد الأول يكون بعدة اليقين وعدة اليقين الآيات القرآنية والسنن النبوية. والجهاد الثاني بعدة الصبر وعدة الصبر إيمانك بالقدر وما عند الله من الجزاء الحسن، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} . [السجدة: 24] . فأخبر الله تعالى أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر واليقين فالصبر يدفع الشهوات والإرادات واليقين يدفع الشكوك والشبهات. ودرجة جهاد الكفار والمنافقين أربع مراتب: بالقلب واللسان والمال والنفس. وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان. ودرجة أرباب الظلم ثلاث مراتب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الأولى باليدين فإن لم يستطع يلزمه الجهاد باللسان وإن لم يستطع فبقلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 1. فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق". وأكمل الخلق عند الله عز وجل من كمَّل مراتب الجهاد والناس متفاوتون في منازلهم عند الله بتفاوتهم في مراتب الجهاد ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم الأنبياء ورسله فإنه كمل مراتب الجهاد وجاهد في الله حق جهاده وشرع في الجهاد من حيث بعث إلى أن توفاه الله عز وجل فإنه لما نزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} . [المدثر: 1- 5] . شمر عن ساق الدعوة وقام في ذات الله أتم القيام ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً وسرًّا وجهراً. قال الترمذي: حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي المواسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنة فلا يجيبه أحد حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازل العرب قبيلة قبيلة ويقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم، وإذا متم كنتم ملوكاًً   1 أخرجه مسلم (49) والترمذي (2172) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 في الجنة، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه إنه صابئ كذاب، فيردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد، ويؤذونه ويقولون: أسرتك وعشيرتك أخبر بك حيث لم يتبعوك وهو يدعوهم إلى الله ويقول: اللهم إن شئت لم يكونوا هكذا، قال: وكان مما سمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وعرض عليهم نفسه بنو عامر بن صعصعة ومحارب بن حفصة وبنو نضر وبنو المنكا1 وكنده وكلب والحارث بن كعب وعذره والحضارمة فلم يستجب منها أحد. ولما نزل عليه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . [الحجر: 94] . صدع بأمر الله تعالى لا يأخذه في الله لومة لائم فدعا إلى الله الكبير والصغير والحر والعبد والذكر والأنثى، والأحمر والأسود والجن والإنس لما صدع بأمر الله وصرح لقومه بالدعوة وعاب دينهم اشتد أذاهم له ولمن استجاب له من أصحابه ونالوهم بأنواع الأذى وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} . [فصلت: 43] . وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} . [الأنعام: 112] . وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . [الذاريات: 52، 53] . فعزى سبحانه رسوله بذلك وأن له أسوة بمن تقدم من المرسلين وعزى أتباعه بقوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} . [البقرة: 214] . وقال تعالى: {آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ   1 كذا الأصل!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . [العنكبوت: 1-3] . فالرسول صلى الله عليه وسلم دأبه وشأنه الدعوة إلى الله على بصيرة ما أنزل عليه قال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} . [الأنعام: 106] . وقد بين الله تعالى منطوقاً في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} . [يوسف: 108] . لأن البصيرة شرط في الدعوة إلى الله فمن لم يكن بصيراً بالسياسات الشرعية لا تتم له الدعوة التي أمر الله بها وحري أن لا يستنفع بها. قلت: فيها فوائد: الأولى: قوله: "قل" دل على أنه لا إله إلا هو لأنه إذا عرفت أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق وأعلاهم درجة عند الله وأحبهم إليه ومع ذلك مأمور منهي يتبع ما يؤمر به ويتجنب ما ينهى عنه فدل ذلك على أنه العبد وأن الآمر هو المعبود لا إله إلا هو. الثانية: "هذه" دل على أن الدين المرضي واحد كما قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . [الأنعام: 153] . الثالثة: قوله: "سبيلي"، دل على أن ما للرسول صلى الله عليه وسلم سبيل إلا القرآن فمن عمل بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ضل، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . [النساء: 65] . الرابعة: قوله: "أدعو" دل على أنه مرسل إلى الخلق يدعوهم إلى الله. الخامسة: قوله: "إلى الله" دل على أن الدعوة تتنوع إلى الدعوة إلى النفس ليعظم ويوقر ويصرف وجوه الناس إليه ويعطى ويملك وغير ذلك والكل باطل إلا الدعوة التي لوجه الله الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 السادسة: قوله: {على بصيرة} دل على أن العلم لا يستلزم البصيرة بل رب عالم ليس له بصيرة في الدعوة على ما يريد الله من الداعي وعلى ما مشى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. السابعة: قوله: {أنا ومن اتبعني} دل على أن من لم يدع إلى الله على بصيرة ما اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم. الثامنة: قوله: {وسبحان الله} نزه نفسه من أن يترك الناس سدى، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . [المؤمنون: 115، 116] . التاسعة: قوله: {وما أنا من المشركين} ، دل على أن الشرك ضد التوحيد والدعوة إليه كالنور والظلمة. والحاصل أن البصيرة عليها مدار الدعوة إلى الله وقد ذكر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الداعي ينبغي له أن يكون عليما فيما يأمر به، عليما فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} . [آل عمران: 159] . وقال تعالى لموسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} . [طه: 44] . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا ذهب عن شيء إلا شانه" 1. وقال: "يسروا ولا تعسروا، وسكِّنوا ولا تنفروا" 2. وقد وصف الله إبراهيم عليه السلام بالحلم فقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} . [هود: 75] . هذا ومن البصيرة تقديم الأهم فالأهم في الدعوة كالطبيب الحاذق إذا رأى في شخص مرضاً في   1 أخرجه مسلم (2594) من حديث عائشة مرفوعاً. 2 الحديث أخرجه البخاري (6125) ، ومسلم (1734) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الرأس ومرضاً في الأصبع بدأ بتداوي مرض الرأس، لأن الرأس هو الأصل لحياته وفيه الحواس العشرة فلو اختل الرأس لاختلت كلية الإنسانية، وأما الأصبع لو عدم من أصله ما اختل من الإنسانية شيء فينبغي أن يكون الداعي كالطبيب الحاذق الذي يداوي الأضر قبل الضار، فكذلك الداعي يبدأ بالتوحيد قبل الصلاة وبالصلاة قبل الزكاة، وبالزكاة قبل الصوم والحج، وبأركان الإسلام والإيمان قبل سائر الأ‘مال، كما أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً. وأما ما يدل على أن شهادة أن لا إله إلا الله أحسن الأقوال وألزم من كل عمل وقبل كل عمل من السنة ما ذكر عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن داعياً إلى الله قال: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب" أوتوا العلم فيعلمون أصل الأديان وفروعها ويعلمون أن الأصل مقدم في الدعوة إلى الله وأن كل نبي أول ما يدعو قومه إلى التوحيد "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" وفي رواية "إلى أن يوحدوا الله" قلت: فالروايتان دلتا على أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن يوحدوا الله لفظان مترادفان بمعنى واحد وهو الإقبال على الله بالقلب والقالب وترك ما سواه، وهذا هو الأهم قبل كل أمر، ومعلوم بالضرورة أن ما يتصور الفرع إلا بعد تصور الأصل ووجوده وتمكنه ولا يصلح الفرع إلا بعد صلاح الأصل، أما ترى أن الشجرة ليست تتفرع إلا بعد تمكن العروق التي هي الأصل فيها والأساس لها، قال تعالى: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} . [إبراهيم: 24] . وقد مر الكلام عليها وقد ذكر الله تعالى ثبوت الأصل قبل ارتفاع الفرع إلى السماء تنبيهاً على ذلك "فإن هم أطاعوك لذلك" وكفروا بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 يعبد من دون الله فحينئذ "أعلمهم" بكسر اللام من باب الأفعال أعلم يعلم كأكرم يكرم "أن الله افترض عليهم خمس صلوات" بشروطها وأركانها وواجباتها "في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك" وأقاموا الصلاة الشرعية "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة" في أربعة أصناف من المال السائمة من بهيمة الأنعام والخارج من الأرض والأثمان والعروض "تؤخذ من أغنيائهم" بشروط خمسة: الإسلام والحرية وملك نصاب، وتمام الملك ومضي الحول "فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك" وأدوا الزكاة المشروعة "فاقبل منهم وإياك وكرائم أموالهم" في أخذ الزكاة بل توسط في الأمر فإن خير الأمور أوسطها "واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه أي البخاري ومسلم في صحيحهما1 ولهما عن سهل بسن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه" 2. قد أشعر هذا الحديث بل صرح منطوقاً ومفهوماً أن النصر والفتح ليس بالعدد والعديد ولا بالخيل والحديد بل إنما بالطاعة وامتثال لرب العبيد، أما ترى أنه صلى الله عليه وسلم ما قال: لأعطين الراية من معه كذا وكذا من العَدَد والعُدَد بل قال صلى الله عليه وسلم: إنه رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه، قال موسى بن عقبة: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة أو قريباً منها   1 أخرجه البخاري (1458) ومسلم (19) . 2 أخرجه البخاري (3701) ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ثم خرج منها غازياً خيبر وكان الله عز وجل وعده إياها وهو بالحديبية. وقال ابن إسحاق1: حدثني الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة إنهما حدثا جميعاً قالا: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة فأعطاه الله عز وجل خيبر، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ذي الحجة فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم ونزل صلى الله عليه وسلم بالرصيع واد بين خيبر وغطفان، فتخوف أن يمدهم غطفان، فبات فيه حتى أصبح فغدا إليهم، انتهى. ولما أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر صلى بهم الصبح فركب وركب المسلمون فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم ولا يشعر بل خرجوا لأرضهم فلما رأوا الجيش قالوا محمد والخميس وهو الجيش العظيم ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" ولما دنا الرسول صلى الله عليه وسلم منها وأشرف عليها قال: "قفوا "، فوقف الجيش، فقال: "اللهم رب السموات السبع وما أضللن فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا باسم الله" 2. قلت: وفي هذا أبين دليل على أنه لا إله إلا الله وذلك إذا كان أفضل الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وسلم ما له حول ولا قوة إلا بالله تعالى وسأل الله وألح وتضرع وطلبه خير القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ويتعوذ به تعالى من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، فكيف لغيره حول   1 انظر "السيرة النبوية" 4/25 و40 بشرح الروض الأنف. 2 المصدر السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقوة إلا بالله؟ فتحقق أنه لا إله إلا الله ولما كان ليلة الدخول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية غدا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه"، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها حباً وطلباً من الله هذه المرتبة العظيمة فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجوا أن يُعطاها فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقيل هو يشتكي عينيه فأرسل إليه فأتي به فبصق في عينيه ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع. قلت: وفي هذا أظهر دليل على أن المعطي المانع هو الله تعالى يعطي من يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، وأيضاً دل على القدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى، وأيضاً دل على أنه لا إله إلا الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بصق في عينيه ودعا الله له ولولا دعاء الله لما نفع غيره فأعطاه الراية قال: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا قال: "انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم". فذهب علي حتى نزل بساحتهم، خرج مرحب وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب فإذا الحروب أقبلت تَلَهَّب فبرز علي بن أبي طالب يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدرة ... كليث غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندره فضرب مرحباً ففلق هامته وكان الفتح، ولما دنا علي بن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 طالب رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصين فقال: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى، هكذا في صحيح مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 متن الباب 5 باب: تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] . وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26-27] . وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] . وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] . وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل". وشرح هذا الترجمة: ما بعدها من الأبواب. فيه أكبر المسائل وأهمها: وهي تفسير التوحيد، وتفسير الشهادة، وبينها بأمور واضحة. منها: آية الإسراء، بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر. ومنها: آية براءة، بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 إلا بأن يعبدوا إلهاً واحداً، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم. ومنها قول الخليل -عليه السلام- للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26-27] . فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة: هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله. فقال: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27] . ومنها: آية البقرة: في الكفار الذين قال الله فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] . ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! فكيف لمن لم يحب إلا الند وحده، ولم يحب الله؟!. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله". وهذا من أعظم ما يبين معنى "لا إله إلا الله" فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك، الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها، وياله من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 شرح الباب 5 باب تفسير التوحيد الذي خلقت الكائنات لأجله وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب لأجله هو إفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه كما حكى الله عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . [الزخرف: 26-28] . والكلمة التي جعلها في عقبه على ما ذكره المفسرون هي شهادة أن لا إله إلا الله لأن لا إله نفي الآلهة الباطلة وذلك قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} . وقولك: إلا الله إثبات الألوهية لله تعالى وذلك قوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} . فتحقق أن التوحيد الذي ألزم الله به العبيد هو إفراد الله بالعبادة نقلاً وعقلاً وفطرة: أما النقل: قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . [النحل: 36] . وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . [الأنبياء: 25] . وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} . [الزخرف: 45] . وقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} . [هود: 1] . وغير ذلك من الآيات المصرحات بذلك. وأما العقل فمعلوم بالضرورة أن العقول السليمة تشهد على أن الوجود لابد من موجد، والمبدع لابد له من مبدع، كما أن الفعل الصادر لابد له من فاعل ومصدر يصدر منه كما قيل: البعرة تدل على البعير، والسير يدل على المسير، فكيف لا تدل سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج على اللطيف الخبير؟ فإذا علم ذلك فلابد له أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 يكون حيًّا قديراً عليماً مدركاً قائماً بنفسه غنيًّا عن العالمين قيوماً بما خلق أجمعهم وذلك لأنه لولا حياته لما صدر منه الأفعال الظاهرة والباطنة، ولولا قدرته لعجز عما يشاء أو بعضه، ولولا علمه لجهل بما ينفع الخليقة وما يضرها، ولولا إدراك الجزئيات لخفي عنه خوافي، وقد قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} . [غافر: 19] . ولولا قيامه بنفسه وغناه عما سواه لاحتاج إلى غيره ونقص عن رتبة الكمال، قال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . [آل عمران: 97] . ولولا قيوميته للخليفة لفسدت الأرض والسموات، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} . [البقرة: 255] . فإذا شهدت العقول على صفاته وتفكرت في أفعاله الجميلة وتدبرت أقواله الحسنة لدل ذلك على أن من هذه أفعاله التي أبهرت العقول وعجزت عن إدراك حقيقتها أنه هو الله لا إله إلا هو قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . [النمل: 60- 64] . وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . [غافر: 64- 65] . وأما الفطرة فمعلوم بالضرورة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه لا زعم لأحد أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلهاً مساوياً لله في جميع صفاته، بل عامة المشركين بالله مقرون بأنه ليس له شريك مثله بل عامتهم مقرون أن الشريك الذي زعموا أنه مملوك لله سواء كان ملكاً أو نبيًّا أو كوكباً أو صنماً كما كان مشركو العرب يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات فلم ينقلوا من أحد إثبات شريك مشارك في خلق جميع المخلوقات ولا مماثل له في جميع الصفات بل من أعظم ما نقلوا في ذلك قول الثنوية الذين يقولون بالأصلين النور والظلمة، وأن النور خلق الخير وأن الظلمة خلق الشر، ثم ذكروا لهم قولين أحدهما أنها محدثة فتكون من جملة المخلوقات، والثاني أنها قديمة لكنها لم تفعل إلا الشر، فتكون ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور، وأهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة لا يقولون: أنها غنية عن الخالق مشاركة له في الخلق. فأما من أنكر الصانع كالقول الذي أظهر فرعون فذلك جاحد بلسانه ولكنه بجنانه معترف ومذعن ومقر كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} . [النمل: 14] .ط تنبيه: اعلم أن هؤلاء المخالفين إذا تأملت تناقض أقوالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وتضاد أحوالهم بعضهم لبعض عرفت لو أن لهم أساساً محكماً يبنون عليه لبنوا، ولكنهم حيارى في مهمهة خالية عن الأمارات والعلامات الدالة على ما ينقذهم مما هم فيه، وذلك لاتباعهم النفس والهوى والشيطان وغرتهم الحياة الدنيا فضلوا وأضلوا وتفرقوا واختلفوا كل حزب بما لديهم فرحون. وقد أخبر الواقف على نهاية أقدامهم بما انتهى إليه من أمرهم حيث يقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك العالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارع سن نادم وأقروا على أنفسهم بما قالوا متمثلين به أو منشئين فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العاملين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . [طه: 5] . {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} . [فاطر: 10] . واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . [الشورى: 11] . {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} . [طه: 110] . ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ويقول آخر: لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل والويل لابن فلان، وها أنا إذاً أموت على عقيدة أمي. ويقول آخر: أكثر الناس شكاية عند الموت أصحاب الكلام، وذلك بأنهم كما قال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي صاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 كتاب الفنون الذي ألفه في نحو أربعمائة مجلد وغيره من التصانيف، قال في الكتاب المذكور: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بتركهم أمر الشرع، وأخذهم دينهم بالهوى ومتابعة النفس والشيطان. والشيخ -رحمه الله- قد ذكر للإسلام والتوحيد شهادة أن لا إله إلا الله أربع آيات من كتاب الله هن له كالقواعد حيث لا يوجد له ولا ثبات إلا بها، وهن أم المسائل التوحيدية وأصلها، حيث إن المسائل تتولد منها وتنتج وتتفرع منها تفرع الأغصان من أصل الشجرة. قلت: فكما أن الأغصان تتقارب ضعفاً وقوة، كذلك التوحيد في قلب المسلم والمؤمن والمحسن، فتأمل. لكن الآيات المذكورات في ترقي مراتبها كأربع درجات ما لم ترق الأولى لم ترق الثانية، وما لم ترق الثانية لم ترق الثالثة، وما لم ترق الثالثة لم ترق الرابعة، والآية الأولى قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . [الإسراء: 56- 57] . اعلم أن هذه الآية اشتملت على ثلاث فوائد يلزمك أن تؤمن بها وتعمل بمقتضاها وتنبذ من خالفها وتحاربه. الأولى: أن ما سوى الله مطلقاً لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً. الثانية: أن ما سواه عبيد وتحت قهره وتصريفه، ويبتغون إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الوسيلة بالأعمال الصالحة فهو ربهم وإلهه وحده لا شريك له. الثالثة: أن من سواه يرجون رحمته ويخافون عذابه ويعلمون أن عذابه كان محذوراً، فهو الواحد الأحد المتفرد بالعز والجبروت والملك والملكوت وهو الحي الذي لا يموت، فإذا رفيت هذه الدرجة وما تضمن من الوحدانية حينئذ طولب بالدرجة الثانية الحب في الله والبغض فيه والموالاة في الله والمعاداة فيه والمشار إليه في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . [الزخرف: 26- 28] . وقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . [الممتحنة: 4] . فينبغي لزارع الإيمان أن يستعين بالله في إنشاء عرقين من سويداء قلبه: عرق المحبة لأهل الإيمان والتوحيد والطاعة. وعرق البغض لأهل الشرك والكفر والنفاق أصلاً لأهل المعاصي فرعاً فإذا أنشأتهما من قلبك اسقهما بماء التصديق حتى يثمر عرق المحبة بالموالاة لأهل الحق من النصيحة لهم والدعاء لهم والبر والإحسان إليهم بحسب الطاقة والقدرة والذب عن أعراضهم وقضاء حوائجهم وإفشائهم بالسلام وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وغير ذلك من الحقوق، ويثمر العرق الثاني بالمعاداة لأهل الباطل من المجاهدة والتبري منهم وعدم الركون إليهم والتغليظ عليهم وعدم مواكلتهم ومجالستهم إذا رأى منهم العند والإعراض. عن ابن عباس "من أحب في الله وأبغض في الله وعادى في الله ووالى في الله فإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد أحدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت مواخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله بشيء". رواه ابن جرير1. فإذا قبلت هذه الدرجة وتمكنت فيها بلا التفات ولا محاباة طولبت بالثالثة وهي لب الكتاب وزبدة الرسالة والكتاب وهي أن يكون الله أحب إليك مما سواه، فإذاً تقدم أمره على أمر من عداه وذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} . [البقرة: 165] . قوله: يحبونهم كحب الله دل على أنهم يساوون مع الله غيره كما قال تعالى في حكاية عن المشركين في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . [الشعراء: 97، 98] . قال ابن تيمية: أي في المحبة، فإذا عرفت من ساوى مع الله غيره في المحبة أشرك الشرك الأكبر، فكيف بمن رجح محبة الند على الله تعالى؟ بل وكيف بمن أقبل بكليته على غيره قلباً وقالباً؟ بمعنى أنه يعظم أوامر الند وحرماته أشد تعظيماً إذا هتك حرمة من حرمات الند غضب غضب الليث واحمرت وجنته وانتفخت أوداجه وقام وقعد فيه، وإن هتك حرمة من حرمات الله لم يرفع به رأساً بل ويثبط غيره عن القيام فيه، فإذا رقيت هذه الدرجة وتمكنت فيها طولبت بالدرجة الرابعة وهي المتممة للدرجات الثلاث وهي المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيدور مع قول الرسول وفعله نفياً وإثباتاً بلا روغان، فإن أتاه حكم من غيره وازنه بميزان ما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه أخذ بالقول، وإن خالفه   1 أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (396) وابن المبارك في الزهد (353) من طريق ليث عن مجاهد عن ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ضربه بالحائط، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . [النساء: 65] . وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . [النساء: 59] . وسيأتي زيادة بيان إن شاء الله في بابه. واستدل الشيخ على ذلك بالآية الرابعة وهي قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . [التوبة: 31] . عن عدي بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية قال: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم، قال: "أليسوا يحللون لكم الحرام ويرمون عليكم الحلال فتطيعونهم؟ ". قال: بلى، قال "فتلك عبادتهم" 1. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" 2. اعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قيد قول: لا إله إلا الله بالكفر بما يعبد من دون الله فمن لم يكفر بما يعبد من دون اله ما قال: لا إله إلا الله، فتأمل حتى تميز بين الناس، ويشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.   1 أخرجه الترمذي (3095) وأحمد (4/378) من حديث عدي بن حاتم، وله طرق أخرى. 2 أخرجه مسلم (23) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 متن الباب 6 باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه وقول الله تعالى: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنيَ الله بضر هل هن كاشفات ضره} . [الزمر: 38] . عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: "ما هذه؟ " قال: من الواهنة. فقال: "انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك، ما أفلحت أبداً". رواه أحمد بسند لا بأس به. وله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعاً: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له" وفي رواية: "من تعلق تميمة فقد أشرك". ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} . [يوسف: 106] . فيه مسائل: الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك. الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر. الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة بل تضر، لقوله: "لا تزيدك إلا وهناً". الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك. السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئاً وُكل إليه. السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك. الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك. التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر بن عباس في آية البقرة. العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك. الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة، أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له، أي لا ترك الله له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 شرح الباب 6 باب في بيان ما يدل من الكتاب والسنة على أن من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما كالودع والخرز والتعويذ وأشباهها لرفع البلاء أو دفعه أما الدليل على شركية وعمومية الحكم وشموليته كل ما يتعلق به دون الله من الكتاب فآيات كثيرة ومنها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . [الزمر: 38] . تنبيهات: الأول: ما دل عليه الاستفهام الإنكاري من التوبيخ على ما هم من ترك الباري الرازق المنعم عليهم الذي بيده ملكوت كل شيء، وتعلقهم بالذي هو مقهور ومدبر لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وما دل عليه من التفريع عما هم فيه لئلا يستوجبوا المحق والعذاب الآبد. الثاني: عمومية الحكم والتوبيخ في كل ما يتعلق به يدل على ذلك لفظ ما تدعون يوضحه التنبيه. الثالث: وهو قوله تعالى: من دون الله مطلقاً. الرابع: ثبوت الإرادة لله خلافاً لمن أنكرها. الخامس: الاستفهام التقريري المتضمن عنادهم واستكبارهم عن الحق مع علمهم به. السادس: الأمر بإفراد الله بالعبادة والتوكل عليه ففيه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . [الفاتحة: 5] . وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . [الشورى: 10] . السابع: ثناء الرب على المتوكلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وأما شريكته من السنة فبأحاديث متعددة منها. عن عمران بن حصين: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر فقال: ما هذه؟ " 1. قلت: في قوله "ما هذه" مستفهماً أبين دليل على أنه لا يعلم الغيب إلا الله، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} . [الأنعام: 59] . قلت: في قوله تعالى: {مَفَاتِحُ} . فائدة جليلة وذلك أنه تعالى قال: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ولم يقل مفاتيح الغيب، لأن المفاتح جمع مفتح وهو الذي يفتح به المخزن، ومعلوم بالضرورة أن من ملك المخزن قدر على فتحه بأي نوع كان وليس من ملك المفتاح قدر على المخزن، فالله سبحانه عنده مفاتح الغيب كلها، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . [النمل: 65] . قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} . [الجن: 26، 27] . قال صاحب الكشاف: في هذه الآية إبطال الكرامات2، وأجيب بأن قوله: على غيبه لفظ مفرد ليس فيه صيغة العموم فيكفي أن يقال أن الله لا يظهر على غَيْبٍ وَاحِدٍ من غيوبه أحداً إلا الرسل فيحمل على وقت وقوع القيامة وكيف وقد ذكرها عقيب قوله: {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} . [الأنبياء: 109] . وتعقب بأنه ضعيف لأن الرسل أيضاً لم يُظْهَرُوا على ذلك.   1 أخرجه أحمد (4/445) من حديث عمران بن حصين. 2 كَلاًّ، لكن فيها إبطال المخاريق، والدَّعاوي الكاذبة، ومعلوم أن إنكار الكرامات هو مذهب المعتزلة، وهو باطل، ردَّ عليه العلماء، وانظر: "شرح الطحاوية: 562". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وقال البيضاوي: والرسول من غير واسطة، وكرامات الأولياء بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم كاطلاعنا على أموال الآخرة. قلت: والرسول أيضاً بواسطة جبريل وهو رسول ملكي أمين من الله يبلغ الرسول البشري الغيب. وقال الطيبي: الأقرب تخصيص الاطلاع بالظهور والخفاء اطلاع الأنبياء على الغيب أمكن وأقوى من اطلاع الأولياء يدل عليه حرف الاستعلاء في قوله تعالى: {عَلَى غَيْبِهِ} . فضمن يظهر معنى يطلع أي فلا يظهر الله على غيبه إظهاراً تامًّا وكشفاً جليًّا إلا من ارتضى من رسول، فإن الله إذا أراد أن يطلع النبي على الغيب يوحي إليه أو يرسل إليه ملك، وأما كرامات الأولياء فهي من قبيل التأمل واللمحات أو من جنس إجابة دعوة، وصدق فراسة فإن كشف الأولياء غير تام، قالت عائشة -رضي الله عنها-: من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربع فقد كذب، فإن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . [الأنعام: 103] . ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب فإن الله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . [النمل: 65] . فلذلك، أي عدم علمه بالغيب سأل صلى الله عليه وسلم الرجل عن موجب لبس الحلقة، قال: ما هذه؟ قال من الواهنة وفي ذلك أقطع دليل أنه صلى الله عليه وسلم لا يحكم بحكم إلا بعد علم اليقين، فلما علم مقصود الرجل أنه لبسها من الواهنة قال: "انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً". قلت: في قوله صلى الله عليه وسلم: انزعها بصيغة الأمر الدال على الوجوب والفور عند أهل العلم والتحقيق، دليل على أن الأفعال الشركية تزال على الفور وجوباً وكذلك الأماكن التي يفعل الشرك كما فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطاغية التي في الطائف، أمر المغيرة بن شعبة وأبا سفيان أن يهدماها بعدما تمكن صلى الله عليه وسلم منها، وقد سأله أهل الطائف أن يدعها شهراً فأبى صلى الله عليه وسلم أن يدعها شيئاً مسمى. قال ابن القيم –رحمه الله-: " إذا كان رسول الله حرق مسجد الضرار وأمر بهدمه بحكم التنزيل وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين وكاد في المنافقين فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بالهدم وأوجب، وكذلك محال المعاصي، والفسوق كالخانات، وبيوت الخمارين، وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر -رضي الله عنه- قرية بكمالها يباع فيها الخمر وهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجمعة والجماعات وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا يجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك" انتهى. والموجب للفورية أنك تستدرك التوبة عما لا يرضاه الله ولا رسوله ويتوب إلى الله بالأعمال الصالحة قبل أن يدركه الموت وهو لا يشعر: كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أَدْنَى من شراك نعله "فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً". رواه أحمد بسند لا بأس به. قلت: قوله: أبداً يدل على أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر، لأن أهل الكبائر ما يؤبدون في العذاب، والمشرك يؤبد، قال: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . [المائدة: 72] . والشرك يشمل الأكبر والأصغر، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن صاحب الشرك الأصغر إن مات وهو عليه ما يفلح أبداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً: "من تعلق تميمة" 1. قلت: لفظ (من) دل على عمومية الفاعل كائناً من كان ودل تنكير تميمة على عمومية المعلق من أي جنس كان وأي نوع كان. "فلا أتم الله له". قلت: في ذلك إخبار ودعاء، أما الإخبار فيخبر صلى الله عليه وسلم أن من تعلق شيئاً دون الله خذله الله فلا يتم له مقصوده وهو الحقيقة، لأن المرء مهما توكل على شيء دون الله وكله الله إليه، فحينئذ يضيع في واد الهلكات، عن عيسى بن حمزة قال: دخلت على عبد الله بن عكيم -رضي الله عنه- وبه حمى فقلت: ألا تعلق تميمة فقال: نعوذ بالله من ذلك، قال رسول صلى الله عليه وسلم: "من تعلق شيئاً وكل إليه". أخرجه أبو داود2. وأما الدعاء فقوله صلى الله عليه وسلم: "فلا أتم الله له". دعاء منه صلى الله عليه وسلم عليه أن لا يتم الله له مقصوده، ولا يرده عن القدر كما قيل: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع "ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له، وفي رواية: ومن تعلق تميمة فقد أشرك". قال أهل العلم: التميمة كل ما يعلق على الصبيان. قال البيضاوي في شرح المشكاة: هي التعاويذ التي تعلق على الصبيان، وصرح رسول صلى الله عليه وسلم بشركية التميمة لأن من علقها اطمأن خاطره به واتكل عليه ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً   1 أخرجه أحمد (4/154) وأبو يعلى في مسنده (1759) . وقال الهيثمي في المجمع (5/103) : رجاله ثقات، وقال ابن حجر في تعجيل المنفعة (114) : رجاله موثقون، وله شاهد عند أحمد (4/310) . 2 أخرجه الترمذي (2073) وأحمد (4/311) من حديث عبد الله بن عكيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . [يوسف: 106] .قطعه ممتثلاً قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". تنبيه: اعلم أن الذين يدعون الإيمان ثلاثة أنواع: منهم من لا يلبس إيمانه بشرك كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . [الأنعام: 82] . ومنهم من يلبس إيمانه بشرك يتعلقون بالخيط والحلقة وأشباهها كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . [يوسف: 106] . ومنهم من يقول إنه مؤمن وهو كاذب كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . [البقرة: 8-10] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 متن الباب 7 باب: ما جاء في الرقي والتمائم في "الصحيح" عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك". رواه أحمد وأبو داود. وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: "من تعلق شيئاً وُكل إليه". رواه أحمد والترمذي. "التمائم": شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن، فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه. و"الرقى": هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة. و"التولة": شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته. وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رويفع! لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمداً بريء منه". وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه، قال: "من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة" رواه وكيع. وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن. فيه مسائل: الأولى: تفسير الرقي والتمائم. الثانية: تفسير التولة. الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء. الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك. الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء: هل هي من ذلك أم لا؟. السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين، من ذلك. السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وتراً. الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان. التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 شرح الباب 7 باب ما جاء في بيان أن الرقى والتمائم والتولة شرك لما فيها من التعلق على غير الله في كشف الضر وجلب النفع، قد قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [الأنعام: 17] . وما فيها من الهضم لجناب الربوبية، وقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} . [الأحزاب: 17] . وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} . [فاطر: 2] . الآية. وما فيها من التوكل على غيره، وقد قال تعالى: {فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . [المائدة: 23] . هذا والرسول صلى الله عليه وسلم كان من شأنه أن يحمي جناب التوحيد بكل وجه ويسد طرق الشرك من كل جهة حتى إنه صلى الله عليه وسلم حماه بابتعاده عن مظان الشرك حسماً للمادة. في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولاً "ألاّ يبقينَّ في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت" 1. فإن القلادة التي للزينة ليست من الشرك ولكنه مظنة للشرك؛ لأنه يشبه التمائم في التعليق وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عنها مطلقاً. فإن قلت: من أين يعرف الإطلاق؟ قلت: من قوله صلى الله عليه وسلم: أو قلادة بالتنكير والنكرة بعد النفي يفيد العموم، وأيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قيد أولاً وقال ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر ثم أطلق وقال: أو قلادة نهياً للمشابهة ومظنة للشرك. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول   1 رواه البخاري (3005) ومسلم (2115) من حديث أبي بشير به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" 1. رواه أحمد وأبو داود. وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً "من تعلق شيء وكل إليه". رواه أحمد والترمذي2، والتمائم جمع تميمة والتميمة شيء يعلق على الأولاد من العين. واختلفت هل هي منهي عنها على العموم أو إذا لم يكن من القرآن، فقال أهل العلم: إن التمائم منهي عنها لكن إذا المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله أيضاً من المنهي عنه حسماً للمادة منهم ابن مسعود والرقى هي التي تسمى العزائم، والعزائم أنواع متعددة منها ما فبه الشرك الصريح كالعزائم التي فيها دعوة الجن والملائكة والأنبياء والاستعانة بهم والاستعاذة بهم كما رأيناه عياناً، ومنها ما فيه البدع كالعزائم التي يتوسل فيها إلى مخلوق نبيّ أو غير نبيّ صالح أو طالح وكلها منهي عنها وخص منها الدليل ما خلا من الشرك والبدع فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة قال صلى الله عليه وسلم: "لا رقية إلا من عين أو حُمَة". أحرجه أبو داود3 وحمة بضم الحاء وفتح الميم اللدغة، وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنا نرقى في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعْرِضُوا عليَّ رُقاكم ثم قال: لا بأس بما ليس فيه شرك".   1 أخرجه أبو داود (3883) وابن ماجه (353) وأحمد (1/381) من حديث ابن مسعود، وهل طرق يتقوى بها عند الحاكم (4/217، 417) 2 تقدم تخريجه. 3 أخرجه البخاري (5705، 5752) ، ومسلم (220) ، من حديث بريدة مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أخرجه مسلم وأبو داود1، والتولة بكسر التاء وفتح اللام شيء يصنعونه على أنواع شتى واختراعات متفرقة وتفننات مختلفة من أنواع السحر الذي من فعله ليس له في الآخرة من خلاق. واعلم أن الله جعل للسحر تأثيراً؛ فتنة واستخباراً ليميز الخبيث من الطيب ومؤثر الدنيا من مؤثر الآخرة، والعاصي من المطيع، والسحر لغة: كل ما لطف مأخذه ودق، وفي الاصطلاح: ما يحدث بخوارق العادات والأمور المستنكرات ويأتي بيانها في الجملة في باب السحر ومنه ما يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته جهلاً بالله وبكتابه المنزل على رسوله المرسل، لأن الزاعم لو علم أنه لا يحرك محرك ولا يسكن ساكن ولا يقع أمر من المحبة والعداوة إلا بإذن الله وحوله وقوته ما تعلق بغير الله لاسيما بأمور قد نهى الله عنها ولا تني عنهم شيئاً، ولو علم قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [الأنعام: 17] . ما تعلق بغيره، وفي الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله تعالى لك لم يقدروا على ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله تعالى عليك لم يقدروا على ذلك" 2 الحديث، فكيف يتصور عليك من مؤمن صادق بهذه الآية وأشباهها وهذا الحديث وأمثاله ثم يريد نفعاً أو ضراً من غير الله لاسيما من المنهيات، بلى من يدعي الإيمان   1 أخرجه مسلم (2200) من حديث عوف بن مالك مرفوعاً. 2 أخرجه الترمذي (2516) ، وأحمد (1/302 و307) من حديث ابن عباس مرفوعاً، وللحديث طرق أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ويلبس إيمانه بشرك وكفر فيتصور منه فإذاً يكون كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} . [البقرة: 102] . وروى أحمد عن رويفع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته" 1 قيل: إن الرجل في الجاهلية إذا أراد حرب ضِدِّ وقرْنِه ذلك من دون الله، وقيل: عقد لحيته أي: عالجها حتى تنعقد وتتجعد، من قولهم: جاء فلان عاقد عنقه إذا لواها، وقيل: إن الأعاجم كانت تفعل ذلك فنهوا عن التشبه بهم، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من عقد لحيته بأي مقصد كان "أو تقلد وتراً" كرر لزيادة تأكيد الحرمة والنهي "أو استنجى برجيع دابة" اختلف أهل العلم هل نهى عنه لنجاسته أو لأنه طعام دواب الجن، والصواب أنه لأجل أنه طعام لها لم في الحديث عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما قدم وفد الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إنْهَ أمتك أن يستنجوا بعم أو روث أو حممة فإن الله جعل لنا فيها رزقاً، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، أخرجه أصحاب السنن وهذا لفظ أبي داود2. والحممة الفحمة، ولأن الرجيع الذي ورد في الحديث مطلق عام في كل رجيع من أنواع الدواب وليس كل رجيع نجساً، لأن رجيع ما يؤكل لحمه ليس بنجس بالأحاديث المتواترة على الأشهر "أو استنجى بعظم"   1 أخرجه أحمد (4/108، 109) وأبو داود (36) والنسائي (8/135، 136) من حديث رويفع مرفوعاً. 2 أخرجه أبو داود (39) من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً، وله شاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 والاختلاف فيه كالاختلاف في الرجيع "فإن محمداً بريء منه". وعن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة بالتنكير تعميماً حسماً للمادة التي تؤول إلى الشرك من إنسان صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثى كانت كعدل رقبة أعتقها لله تعالى أي أجر قطعها يعادل أجر إعتاق رقبة مسلمة لله تعالى رواه وكيع. وله عن إبراهيم النخعي: كانوا أي الصحابة ومن تبعهم بإحسان يكرهون التمائم كلها من القرآن وغيره فقد صرح إبراهيم بفعل الصحابة ومن تبعهم بإحسان أنهم لا يعلقون التمائم كلها لا من القرآن ولا من غيره، ومعلوم بالضرورة أنهم -رضي الله تعالى عنهم- يمشون على أثر الرسول ويتبعون قوله وفعله ولو علموا من الرسول رخصة في الذي من القرآن ما كرهوا الكل فتأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما ... متن الباب 8 باب: من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19-22] . عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر! إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] . لتركبن سنن من كان قبلكم". رواه الترمذي وصححه. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النجم. الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا. الثالثة: كونهم لم يفعلوا. الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك، لظنهم أنه يحبه. الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم. السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: "الله أكبر! إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم". فغلظ الأمر بهذه الثلاث. الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل لما قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} [الأعراف: 138] . التاسعة: أن نفي هذا معنى "لا إله إلا الله"، مع دقته وخفائه على أولئك. العاشرة: أنه حلف على الفُتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة. الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا. الثانية عشرة: قولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر) فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك. الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافاً لمن كرهه. الرابعة عشرة: سد الذرائع. الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية. السادسة عشرة: الغضب عند التعليم. السابعة عشرة: القاعدة الكلية، لقوله "إنها السنن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الثامنة عشرة: أن هذا عَلم من أعلام النبوة، لكونه وقع كما أخبر. التاسعة عشرة: أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا. العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر. أما "من ربك"؟ فواضح، وأما "من نبيك"؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما "ما دينك"؟ فمن قولهم: "اجعل لنا إلهاً" إلخ. الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين. الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يُؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة لقولهم: ونحن حدثاء عهد بكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 شرح الباب 8 باب في بيان أن من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما من بنية أو حجارة أو قبر أو موطئ أو أثر وما أشبه ذلك أشرك وكفر بالكتاب والسنة وأما الكتاب فقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] . قال غير واحد من السلف: إن اللات كان رجلاً صالحاً يلت السويق للحاج فمات فعكفوا على قبره فلما تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف أمر المغيرة بن شعبة وأبا سفيان أن يهدماه. وأما العزى قال هشام1: حدثني أبي صالح عن ابن عباس قال: كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال: "إيت بطن نخلة فإنك ستجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا، قال: فاعضد الثانية، فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا، قال: فاعضد الثالثة، فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها وخلفها سدنتها، فقال خالد: كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة ثم عضد الشجرة وقتل السادن ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن تلك العزى ولا عزى بعدها". وأما مناة فكانت بالمشلّل عند قديد بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج في الجاهلية يعظمونها ويهلون منها للحج   1 السيرة لابن هشام (4/138) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 إلى الكعبة، روى البخاري عن عائشة نحوه1 وقد كان بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر يعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير الثلاثة التي نص الله تعالى عليها في كتابه العزيز، إنما ذكر هذه لأنها أشد من غيرها، قال ابن إسحاق: وقد كانت قد اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب ويهدى لها كما يهدى للكعبة ويطاف بها كالكعبة وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده، وكانت قريش وبني كنانة العزى بنخلة وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم. قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف وكانت سدنتها وحجابها بني مغيث وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها وجعلا مكانها مسجداً بالطائف. قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلّل بقديد فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان فهدماها، ويقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بيتاً له وكان يقال لها الكعبة اليمانية والكعبة التي بمكة الكعبة الشمالية فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه، قال: وكانت فلس2 لطي ومن يليها بجبل طي بين سَلْمَى وأجا قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب فهدمه واصطفى منه سيفين الرسوب والمخدم فنفله   1 البخاري (8/613) 2 كذا في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما سيفا علي، قال ابن إسحاق: وكان لحمير وأهل اليمن بيتاً بصنعاء يقال له: إريام وذكر أنه كان به كلب أسود وأن الحَبْرين اللذين ذهبا مع تُبّع استخرجاه وقتلاه وهدما البيت، قال ابن إسحاق: وكانت رضى بيتاً لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بني تميم ولها يقول المستوعر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام: ولقد شددت على رضاء شدة ... فتركتها فقراً بقاع اسمحا وقال ابن هشام: يقال إنه عاش ثلاث مائة وثلاثين سنة وهو القائل: ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وعمرت من عدد السنين مئينا مائة حذيتها بعدها مائتان لي ... وعمرت من عدد الشهور سنينا هل ما بقي إلا كما قد فاتنا ... يوم يمر وساعة تحرونا قال ابن إسحاق: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب بن وائل وإياد بسنداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة: بين الخورنق والسدير وبارق ... والبيت والكعبات من سنداد وقال ابن إسحاق: وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له: سعد، صخرة بفلاة من الأرض طويلة، فأقبل رجل من بني ملكان بإبل مؤبلة ليقفها عليه ابتغاء بركته فيما يزعم، فلما رأته الإبل وكانت تهرق عليه الدماء ففرت منه فذهبت في كل وجه فغضب ربها فأخذ حجراً فرماه به ثم قال: لا بارك الله فيك نفرت إبلي، فخرج في طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له قال: أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن في سعد وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا تدعو بغي ولا رشد وأما السُّنَّةُ فعن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حدثاء عهد بكفر ما عرفنا بعد حقائق الألوهية ولا دقائق الشركية وفينا بقية من الجهل لعدم تمكننا في العلم الشرعي وللمشركين سدرة يعكفون عندها ويتظللون تحتها وينوطون بها أسلحتهم تألهاً ومحبة من دون السدر والأشجار يقال لها: ذات أنواط لتنوطهم عليها السلاح فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط جهلاً بالمعنى والمآل كما لهمم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر" تعظيما لله وتنزيهاً عن المشابهة والمماثلة "إنها السنن" أي سنن الذين من قبلكم "قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم: رواه الترمذي وصححه1. قال الطرطوشي -رحمه الله- من علماء المالكية في كتاب "الحوادث والبدع": روى البخاري عن أبي واقد الليثي إلخ فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة يقصدها الناس وينوطون بها الخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها، ولذلك لما رأى عمر -رضي الله عنه- أن الناس يقصدون الشجرة التي بايع تحتها أهل بيعة الرضوان أمر بقطعها خوفاً من الفتنة وحذراً مما نبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشابهة بالمشركين.   1أخرجه الترمذي (2180) وأحمد (5/218) من حديث أبي واقد الليثي مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 باب ما جاء جاء في الذبح لغير الله ... متن الباب 9 باب: ما جاء في الذبح لغير الله وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162-163] ، وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] . عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه. لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض" رواه مسلم. وعن طارق بن شهاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما قرب قال: ليس عندي شيء أقرب قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة" رواه أحمد. فيه مسائل: الأولى: تفسير {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} . الثانية: تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك. الخامسة: لعن من آوى مُحدثاً وهو الرجل يُحدث شيئاً يجب فيه حق لله فيلتجيء إلى من يجيره من ذلك. السادسة: لعن من غيَّر منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك من الأرض وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير. السابعة: الفرق بين لعن المعين، ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم. الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب. التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصاً من شرهم. العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل، ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر. الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافراً لم يقل: "دخل النار في ذباب". الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك". الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 شرح الباب 9 باب في بيان ما جاء في النهي عن الذبح لغير الله عز وجل من الكتاب والسنة وإنه شرك وإن من فعله دخل النار مخلداً إن لم يتب منه. أمَّا الكتاب فذكر الشيخ آيتين الأولى: وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163] . أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه مرسل إليهم بما ألزمه الله به من الإخلاص والتوكل عليه والإنابة إليه وحده لا شريك له، وأنه والناس سواء في العبودية كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} . [مريم: 93] . وقال في حقه صلى الله عليه وسلم: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . [الفرقان: 1] . قوله تعالى: إن صلاتي أي دعواتي كلها لأن إضافة المصدر إلى ضمير المتكلم أبلغ وأتم في إفادة التعميم من إضافة الجمع إلى الضمير، ذكره ابن القيم -رحمه الله- في قوله: وأبوء بذنبي في سيد الاستغفار، ولذا ما ترى في الكتاب والسنة إلا كذلك، كقوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} . [الممتحنة: 10] . {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] . وقوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا} . [الأحزاب: 38] . وفي السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك" 1. وقوله: "أبوء بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي" 2. وقوله: ونسكي أي:   1 أخرجه أحمد (1/391، 452) من حديث عبد الله بن مسعود. 2 أخرجه البخاري (6306) وأحمد (4/122، 124) والنسائي (8/279) والترمذي (3393) من حديث شداد بن أوس مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ذبائحي وقرباني كلها لله تعالى، ومحياي أي ما أنا عليه في حال حياتي من الإيمان والطاعة، قوله: مماتي أي ما أنا عليه بعد مماتي من الرضى والتدبير في حق المماليك والصدقات كلها لله الذي هو رب العالمين وهو ربي خلقني ورزقني وهداني فهو مالكي وسيدي وأنا عبده لا شريك معه في عبادتي ونياتي وغيره، فكما أنه متفرد بخلقي ورزقي أعبده وحده ولا أشرك به أحداً. والآية الثانية قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . [الكوثر: 2] أمر الله رسوله أن يصلي وينحر له حكماً له ولأمته فكما أنه لو صلى أحد لغير الله كفر فكذلك من نحر وذبح لغير الله؛ لأن النحر معطوف على الصلاة وحكم كالمعطوف حكم المعطوف عليه والكل بصيغة الأمر. وأما الدليل من السنة على نهي الذبح لغير الله فذكر الشيخ حديثين أحدهما: عن علي1 -رضي الله عنه- قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: "لعن الله" أي طرد من رحمته ومنع، واللعن في اللغة بمعنى الطرد والمنع، فكل ملعون مطرود عن رحمة الله تعالى، وربما يتعدى لعنة الله إلى السابع من الولد، كما في الحديث: "إني أنا الله إذا رضيت باركت وليس لبركتي انتهاء، وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد" 2، الحديث، نعوذ بالله من غضبه ولعنه وعقابه من ذبح لغير الله قدم الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من ذبح لغير الله لأنه أكبر الكبائر وأنه هدم لأصل الإسلام الذي هو إفراد الله بالعبادة، عن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله والشرك يهدم   1 أخرجه مسلم (1978) من حديث علي مرفوعاً. 2 رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/41-42) من حديث وهب بن منبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 بنيان الإسلام من أساسه، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [الزمر: 65] . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من لعن والديه" ذكر لعن والديه بعد الذبح لغير الله لأنه أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، ذكر البخاري عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم اليمين الغموس، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع مال امرئ مسلم فيقسم أنه هو فيها كاذب"، الحديث1. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من آوى محدثاً" وهذا من الأمور التي تقدح في الإسلام وفي محبة الله، كيف لا ولو تصور أن رجلاً أعان من عصاك بحفظه عنك من أن تؤدبه بما يستحق بغير رضاك غضبت عليه وأبعدته عنك، فكيف رب البرية يأمر فيخالف أمره أحد وينهى عن شيء فيأتيه ثم تؤوي هذا المخالف عن الأدب وتعينه فكيف لا يستحق آوي المخالف المحدث الطرد والمنع عن رحمة الله؟ فتأمل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من غيّر منار الأرض" أي رسومها، وأمارتها التي تدل على اعتزال كل حق آدمي عن حق آخر، وذلك لأنه ظلمه بتغيير حقه وأخذ من غير حق فحينئذ يستحق من الله الطرد والمنع عن رحمته، رواه مسلم. والحديث الثاني على نهي الذبح لغير الله وشركيته. وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل   1 أخرجه البخاري (6675 و6870 و6920) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ استغراباً وتعجباً من دخولهما الجنة والنار وليس لهما سبب إلا الذباب فاستفهموه لكي يبين لهم ما استغربوه ويكشف ما أشكل عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرَّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً. قليلاً أو كثيراً حقيراً أو جليلاً لإطلاق الشيء على كل ذلك فقالوا لأحدهما: قرِّب للصنم شيئاً قال: ليس عندي شيئاً أقرِّب به قالوا: قرِّب له ولو ذباباً ضبطاً وحفظاً لأمرهم لئلا يختل فيترك فاستحقر الذباب وقصد نجاته من عذابهم فقرب للصنم ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار بسبب قربانه الذباب للصنم، وقالوا للآخر قرب فقال: ما كنت أقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة 1 لامتناعه عن التقرب لغير الله تعالى إيماناً واحتساباً وإجلالاً وتعظيماً لله تعالى.   1 أخرجه أحمد في "الزهد" (22) ، وأبو نعيم في "الحلية" (10/203) عن طارق بن شهاب عن سلمان -رضي الله عنه- موقوفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 متن الباب 10 باب: لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} [التوبة: 108] . عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد"؟ قالوا: لا. قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم"؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه أبو داود، وإسنادها على شرطهما. فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} . الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة. الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البيِّنة ليزول الإشكال. الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك. الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع. السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله. الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة، لأنه نذر معصية. التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده. العاشرة: لا نذر في معصية. الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 شرح الباب 10 باب في بيان ما يدل على أنه لا يباح لمسلم أن يذبح لله بمكان يُذْبح فيه لغير الله بل ينهى عن ذلك لأنه تحنيث بالإشراك بالله فيه وأنه موضع تهمة من رآك فيه ذابحاً اتهمك بأنكر المنكرات أي الشرك بالله، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتقوا موضع التهم" 1. وأيضاً يقتدي بك الجهال فيفشوا الشرك. ونهيه من الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} . [التوبة: 108] . أي في المسجد الذي اتخذ االمنافقون مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، روي أن بني عمرو بن عوف لما بنو مسجد قباء سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فيؤمهم فأتاهم فأمَّهم وصلى فيه وكان بالمدينة أبو عامر الراهب تنصر في الجاهلية، وما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبعد وقعة بدر التحق بقريش وحثهم على المحاربة وكان معه في أحد ثم ذهب إلى عظيم الروم وكتب إلى أعوانه من المنافقين يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش لمحاربة الإسلام وأمرهم ببناء مسجد له فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء إرصاداً لرجوعه من عند عظيم الروم فلما أتموا بناءه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من تبوك وقالوا: أقمنا مسجداً للضعفاء وذوي العلة والمطيرة نلتمس تصلي فيه وتدعو بالبركة فنوى أن يأتيهم فنزلت في تكذيبهم الآيات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه فهدموه وأحرقوه بأمره صلى الله عليه وسلم2، قلت: إذا كان هذا حكم مسجد بني ضراراً   1 أورده الغزالي في الإحياء (3/13) وعلق عليه العراقي بقوله: لم أجد له أصلاً. 2 أخرجه ابن إسحاق في المغازي كما في الدلائل للبيهقي (2575) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله باطناً وفي الظاهر إرادة الصلاة والطاعة فيه حتى إنه نوى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم ويصلي فيه فنهى الله عن قيامه فيه للصلاة فكيف بمواضع تبنى لعبادة غير الله وهتك محارم الله ومعاصي الله؟ فهذه المواضع أولى بالهدم والحرق نقلاً وعقلاً وقد تقدم، قال في ذلك ابن القيم -رحمه الله-: فإن قلت: ما استدل به من قوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} . [التوبة: 108] .على عدم الذبح بمكان يذبح فيه لغير الله؟ قلت: لأن الله ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه ومعلوم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي لله وحده لا شريك له ومع ذلك نهي عن الصلاة فيه، وبعدما فعلوا فيه ضرراً ولا كفراً ولا تفريقاً بل مجرد أن أوجب النهي عن الله بالقيام والصلاة فيه، فكيف بكمان فعل فيه الشرك والكفر؟ فهو أولى بالنهي عن الطاعة فظهر وجه الاستدلال بالآية لما بوَّب لأجله الباب. وأما السنة وعن ثابت بن الضحاك1 قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة2 بضم الباء الموحدة من أسفل موضع يقول فيه وضاح اليمن: أيا نخلتي وادي بوانة حبذا ... إذا نام حراس النخيل جناكما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح عند موضع عبده المشركون ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو لمشاركتهم في التعييد فيها أو لإحياء شعار عيدهم فيها، ولهذا لما خلت عن ذلك أذن في الذبح فيها، وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذوراً فكيف نفس   1 أخرجه أبو داود (3313) والبيهقي (83/10) من حديث ثابت بن الضحاك. 2 بضم الباء وقيل بفتحها وهو موضع جنوب مكة دون يلملم، وقيل: هضبة من وراء ينبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 عيدهم خشية أن يكون الذبح سبباً لإحياء أثر هذه البقعة بعد الاندثار وذريعة إلى اتخاذها عيداً. قال الشيخ ابن تيمية –قدس الله سره- في:اقتضاء الصراط المستقيم": "العيد والأزمنة اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم فيه اجتماع وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة فليس النهي عن خصوص أعيادهم بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك، وأعياد الكفار كثيرة مختلفة وليس على المسلم أن يبحث عنها ولا يعرفها بل يكفيه أن يعرف فعلاً من الأفعال أو يوماً أو مكاناً أن سبب هذا الفعل أو تعظيم هذا المكان والزمان من جهتهم ولو لم يعرف سببه الذي من جهتهم فيكفيه أن يعلم أنه لا أصل له في دين الإسلام فإنه إذا لم يكن له أصل فإما أن يكون قد أحدثه بعض الناس من تلقاء نفسه أو يكون مأخوذاً عنهم فأقل أحواله أن يكون من البدع ونحن ننبه على ما رأينا كثيرا من بعض الناس قد وقعوا فيه. فمن ذلك الخميس الحقير الذي في آخر صومهم فإنه يوم عيد المائدة فيما يزعمون ويسمونه: عيد العشاء، وهو الأسبوع الذي يكون فيه من الأحد إلى الأحد هو عندهم الأكبر فجميع ما يحدثه الإنسان فيه من المنكرات منهي عنه فمنه: خروج النساء وتبخير القبور ووضع الثياب على السطح وكتابة الورق وإلصاقها بالأبواب واتخاذ موسماً لبيع البخور وشرائه. ومن ذلك ما تفعله النساء من أخذ ورق الزيتون والاغتسال بمائه وقصد الاغتسال من ذلك فإن أصل ذلك ماء المعمودية. ومن ذلك ترك الوظائف الراتبة والصنائع والتجارات أو حلق العلم أو غير ذلك واتخاذه يوم راحة وفرح واللعب فيه بالخيل وغيرها على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام. والضابط أنه لا يحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فيه أمراً أصلاً بل يجعل يوما كسائر الأيام وقد نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن اليومين اللذين كانا لهم يلعبون فيهما في الجاهلية وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبح بالمكان إذا كان المشركون يعيدون فيه، قال غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] . فروى أبو بكر الخلال في الجامع بإسناده عن محمد بن سيرين قال: هو الشعانين، وكذلك ذكر عن مجاهد قال: هو أعياد المشركين، وكذلك عن الربيع بن أنس قال: أعياد المشركين، وقال القاضي أبو يعلى: مسألة في النهي عن حضور أعياد المشركين وروى أبو الشيخ الأصفهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن الضحاك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] . قال عيد المشركين". قلت: إذا النهي في الذي يحضر أعيادهم ولو لم يفعل فعلاً أو يفعل لله فكيف بمن يحضر أعيادهم وأماكنهم ويفعل أفعالهم فتأمل حتى تميز بين الناس في الإسلام، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك". إذاً لأنه عدم الموانع التي يمنع الوفاء لأجلها من معاصي الله تعالى "فإنه لا وفاء في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم". رواه أبو داود وإسناده على شرطهما. أي البخاري ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 متن الباب 11 باب: من الشرك النذر لغير الله وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} . [الدهر: 7] . وقوله: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه} [البقرة: 270] . وفي "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". فيه مسائل: الأولى: وجوب الوفاء بالنذر. الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله فصرفُه إلى غيره شرك. الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 شرح الباب 11 باب في بيان ما يدل من الكتاب والسنة على أن من الشرك النذر لغير الله أما من الكتاب فقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} . [الإنسان: 7] . وقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} . [البقرة: 270] . فإن قلت: ليس في الآيتين ما يدل على أن النذر شرك، قلت: دلتا على المقصود بالالتزام، لأن الله أثنى على الناذر الموفي وأقرهم على ذلك قضاء منه عبادة له فإذا إنه عبادة ففعله لغيره شرك وكفر. قال الشيخ قاسم من الحنفية في شرح درر البحار: النذر الذي يقع من أكثر العوام وهو أن يأتي إلى قبر بعض الصالحين قائلاً: يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك كذا أو كذا باطل، إجماعاً لوجوه: منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز. ومنها: ظن أن الميت يتصرف في الأمر: واعتقد هذا كفر إلى أن قال: إذا هذا فما يؤخذ من الدراهم أو الشمع والزيت ونحوها وينقل إلى ضريح الأولياء فحرام بإجماع المسلمين وقد ابتلي الناس بذلك فتأمل قوله: وقد ابتلي الناس بذلك. قال أبو العباس ابن تيمية في أجوبة له: وأما النذر للقبور أو سكان القبور أو الكافين على القبور سواء كانت قبور الأنبياء أو الصالحين فهذا نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان سواء نذر زيت أو شمع أو غير ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 عليها المساجد والسرج" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما فعلوا" 2. وقال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" 3. وقال: "اللهم لا نجعل قبري وثناً يعبد من بعدي" 4. وقد اتفق أئمة الدين على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا أن يعلق عليها الستور ولا أن ينذر لها النذور ولا أن يوضع عندها الذهب والفضة، بل حكم هذه الأموال أن تصرف في مصالح المسلمين إذا لم يكن لها مستحق معين ويجب هدم كل مسجد بني على قبر كائن من كان، فإن ذلك من أكبر أسباب عبادة الأوثان كما قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . [نوح: 32] . قال السلف: هذه أسماء رجال صالحين فماتوا فعكفوا على قبورهم ثم عبدوهم، ومن نذر نذراً لها لم يجز الوفاء به لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" 5. وعليه كفارة يمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كفارة نذر كفارة يمين" 6. إلى أن قال: ومن اعتقد أن النذر لها ينفع أو له أجر فهو   1 أخرجه أبو داود (3236) والترمذي (320) وابن ماجه (1575) من حديث ابن عباس مرفوعاً. 2 أخرجه البخاري (1/422) ومسلم (531) من حديث عائشة وابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً. 3 أخرجه مسلم (532) من حدث جندب مرفوعاً. 4 أخرجه أحمد (2/246) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً. وإسناده صحيح. 5 أخرجه البخاري (6696) وأبو داود (3289) والترمذي (1526) والنسائي (7/17) وابن ماجه (2126) من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً. 6 أخرجه البخاري (6608) ومسلم (3/1361 عبد الباقي) من حديث أبي هريرة مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ضال جاهل، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن النذر فقال: "إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج من البخيل" 1. ومن اعتقد أن النذر للقبور يكشف السوء أو يفتح الرزق أو يحفظه فإنه مشرك كافر قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} . [الإسراء: 56] .   1 أخرجه البخاري (6609) ومسلم (1640) من حديث أبي هريرة مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 إليه" 1. وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل أنبئكم ما الغضة هي النميمة القالة بين الناس"، رواه مسلم2. ولهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان لسحراً" 3. اختلفوا في تأويله فمنهم من حمله على الذم وذلك أنه صلى الله عليه وسلم ذم التصنيع في الكلام والتكلف لتحسينه لتستمال قلوب السامعين به وإليه أصل السحر في كلامهم الصرف ويسمى السحر سحراً لأنه مصروف عن جهته فهذا المتكلم ببيانه يصرف قلوب السامعين إلى قبول قوله وإن كان غير حق والمراد من صرف الكلام فضله وما يتكلف الإنسان من الزيادة فيه من وراء الحاجة فيدخله الرياء ويخالطه الكذب، وأيضاً فإنه قد يحيد الشيء عن ظاهره ببيانه ويزيله عن موضعه بلسانه إرادة التلبيس عليهم فيصير بمنزلة السحر الذي يلبس على الناس بتورية الشيء الذي لا حقيقة له كأن له حقيقة، وقيل: أراد به أن من البيان ما يكتسب به صاحبه من الإثم ما يكتسب الساحر بسحره. وقيل: الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بحجته من صاحب الحق فيسحر القوم بلسانه فيذهب بالحق، وشاهده قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه فلا يأخذه فإنما هو قطعة من   1أخرجه النسائي (4090) من طريق عبادة بن ميسرة المنقري عن الحسن البصري عن أبي هريرة مرفوعاً به. عباد: لين، والحسن مدلس وقد عنعنه. وقد صح منه قوله: "ومن تعلق شيئاً وكل إليه". 2 أخرجه مسلم (2606) من حديث ابن مسعود. 3 أخرجه البخاري (5146) من حديث ابن عمر مرفوعاً، وأخرجه مسلم (869) من حديث عمار بن ياسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 النار" 1. وذهب آخرون إلى أن المراد منه مدح البيان والحث على تحسين الكلام وتخيير الألفاظ وروي عن عمر بن عبد العزيز أن رجلاً طلب إليه حاجة كان يتعذر عليه إسعافه بها، فاستمال قلبه بالكلام فأنجزها له ثم قال: هذا هو السحر الحلال، والحق أن الكلام يختلف بحسب المقاصد لأن مورد المثل على ما رواه الشيخ التوربشتي وكأن هذا القول منه صلى الله عليه وسلم عند قدوم وفد بني تميم وكان فيهم الزبرقان وعمرو ففخر الزبرقان فقال: يا رسول الله أنا سيد تميم والمطاع فيهم والمجاب أمنعهم من الظلم وآخذ لهم بحقوقهم وهذا يعلم ذلك، فقال عمرو: إنه لشديد المعارضة مانع لجانبه مطاع في أذنيه فقال الزبرقان: والله يا رسول الله لقد علم مني غيرها، قال: وما منعه أن يتكلم إلا الحسد؟ فقال عمرو: وأنا أحسدك فوالله إنك للئيم الخال حديث المال ضيق العطن أحمق المولد مضيع في العشيرة والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولاً وما كذبت فيما قلت آخراً ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما عملت وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً". قال الميداني: يضرب هذا المثل في استحسان المنطق وإيراد الحجة البالغة، فالكلام يختلف باختلاف المقاصد فبعض من البيان كالسحر في الباطل إذا جعل الباطل حقًّا والحق باطلاً وبعضه ممدوح إذا خلى من ذلك وكذلك الشعر منه مذموم إذا كان في هجو مسلم وتزيين الباطل ومنه ممدوح إن اشتمل على الحكم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر   1 أخرجه البخاري (5/340) ومسلم (1713) من حديث أم سلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 متن الباب 12 باب: من الشرك الاستعاذة بغير الله وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] . عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك" رواه مسلم. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الجن. الثانية: كونه من الشرك. الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء استدلوا به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك. الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره. الخامسة: أن كون الشيء يحصل به مصلحة دنيوية من كف شر أو جلب نفع – لا يدل على أنه ليس من شرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 متن الباب 13 باب: من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} . [يونس: 106-107] . وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت: 17] . وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5] . وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] . وروي الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل". فيه مسائل: الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس: 106] . الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر. الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاءً لغيره صار من الظالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الخامسة: تفسير الآية التي بعدها. السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً. السابعة: تفسير الآية الثالثة. الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه. التاسعة: تفسير الآية الرابعة. العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله. الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه. الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له. الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو. الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة. الخامسة عشرة: أن هذه الأمور سبب كونه أضل الناس. السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة. السابعة عشرة: الأمر العجيب وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين. الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد والتأدب مع الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 شرح الباب 13 باب في بيان ما جاء أن من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره من الكتاب والسنة قلت: عطف الدعاء على الاستغاثة عطف العام على الخاص لأن الدعاء يشمل الاستغاثة وغيره، والاستغاثة لا تشمل إلا الدعاء الذي في الكرب، فالاستغاثة لا تكون إلا في الضيق والكرب وطلب الغوث وتفريج الكربة وتفريج الشدائد، والدعاء يكون في الكرب وغيره فكل استغاثة دعاء وليس كل دعاء استغاثة وذلك إذا كان الدعاء في السرور والرخاء لطلب الفوائد، فمن الاستغاثة إلحاح النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء يوم بدر في العريش حين رأى شوكة الأعداء وخيلهم وخيلاءهم، وذلك قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} . [الأنفال: 9] . ومن الاستغاثة ما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب المجابين في الدعاء عن الحسن قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يكنى أبا مِعْلَق وكان تاجراً يتجر بمال له ولغيره يضرب به في الآفاق، وكان ناسكاً ورعاً فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح، فقال: ضع مع معك فإني قاتلك، قال: ما تريد إلا دمي، شأنك بالمال، قال: أما المال فلي فلست أريد دمك، قال: إذا أبيت فذرني أصلي أربع ركعات، قال: صل ما بدا لك، فتوضأ ثم صلى أربع ركعات فكان من دعائه في آخر سجدة سجدها أن قال: يا ودود يا ذا العرش المجيد فعالاً ما يريد أسألك بعزك الذي لا يُرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص يا مغيث أغثني ثلاث مرات فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله ثم أقبل إليه فقال له: قم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فقال: من أنت بأبي أنت وأمي جميعاً أغاثني الله بك اليوم؟ قال: أنا طائف من أهل السماء الرابعة دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة ثم دعوة بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث: فقيل: دعاء مكروب فسألت الله عز وجل أن يوليني قتله، قال الحسن: فمن توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروباً أو غير مكروب1، هذا وقال الشيخ أحمد ابن تيمية: وقد قال المصنفون في أسماء الله تعالى: يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله، وإن كل غوث فمن عنده وإن جعل ذلك على يد غيره فالحقيقة له سبحانه ولغيره مجاز، قالوا: ومن أسمائه المغيث والغياث وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة، قالوا: وأجمعت الأمة على ذلك، وقال أبو عبد الله الحليمي: الغياث هو المغيث وأكثر ما يقال: غياث المستغيثين ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه. وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" 2 يقال: أغاثه إغاثة وغياثاً وغوثاً وهذا الاسم في معنى المجيب والمستجيب إلا أن الإستغاثة أحق بالأفعال والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر، قالوا: والفرق بين المستغيث والداعي أن المستغيث ينادي بالغوث والداعي يدعو بالمدعو، قال أبو يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقال الشيخ أبو عبد الله القرشي الشيخ المشهور بالديار المصرية وغيرها: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، وفي حديث موسى: اللهم   1 مجابو الدعوة لابن أبي الدنيا ص 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك يستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولما كان هذا المعنى هو المفهوم فيهما عند الإطلاق صح إطلاق نفيهما عما سوى الله عز وجل، ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوز مطلق الاستغاثة بغير الله تعالى ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله. وكذلك الاستعانة منها ما لا يصح إلا لله وهي المشار إليها بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله تعالى وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وكذلك الاستنصار، قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] . والنصر المطلق وهو خلق ما به يغلب العدو لا يقدر عليه إلا الله تعالى فعلى هذا فقس. وأما الدعاء فيعم كشف الشدائد وجلب الفوائد، قال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} . [الأعراف: 56] . والدعاء مخ العبادة، قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} . [الفرقان: 77] . والدعاء يشمل دعاء المسئلة ودعاء العبادة وكلاهما مختصة لله تعالى. فمن الدعاء الذي في كرب وكشف الشدائد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رجعته من الطائف بعد رجعته من الطائف تحت شجرة بعدما رأى منهم من الأذى حتى ذكروا أنهم أدموا قدميه الشريفة صلوات الله وسلامه عليه: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي اللهم إلى من تكلني إلى عدو بعيد يتجهمني أو إلى صديق قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 غير أن عافيتك أولى لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو تحل بي عقوبتك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك" 1. ومن الدعاء الذي ليس في الكرب بل لجلب الفوائد قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني عبدك وابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماضي فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي" 2. قلت: في هذه الأدعية دلائل على الوحيد والرسالة: الأول: قوله في دعاء الطائف: اللهم بمعنى يا الله حذفت حرف النداء وعوض عناه الميم المشددة، أقبل صلى الله عليه وسلم بقلبه وقالبه على الله في كشف الضر عنه لا غيره نبي ولا غير نبي ولا استغاث بغيره. الثاني: قوله: إليك بكاف الخطاب التي على الوحدة والانفراد، أشكو بتقديم الجار والمجرور أعني إليك على الأمثل أعني أشكو لإفادة الحصر أي إليك أشكو لا غير لاتفاق النحويين تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والجار والمجرور حقهما التأخير. الثالث: قوله: وأنت ربي أذعن بالعبودية وبربوبية الباري له وأنه العبد المدبر المقهور لا يقدر لنفسه نفعاً ولا ضراً من دونه. الرابع: قوله: إلى من تكلني لعدم علمه بما يؤول أمرع صلى الله عليه وسلم إليه. الخامس: قوله: ملكته أمري أذعن واعترف بأن ليس له من   1 أخرجه الطبراني في الدعاء (1036) من طريق محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر مرفوعاً. وأصله في البخاري ومسلم. 2 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الأمر شيء بل الأمر كله لله يفعل ما يشاء {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} . السادس: قوله: إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي. دل على شدة خوفه صلى الله عليه وسلم من فاطره وخالقه الذي بيده أزمة الأمور. السابع: قوله: أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة يدل على إقراره بالوحدانية المطلقة وإنابته إليه. الثامن: قوله: لك العتبى حتى ترضى جعله نفسك كالميت بين يد الغاسل أي افعل بي ما يرضيك. التاسع: قوله: ولا حول ولا قوة إلا بك دل على أنه صلى الله عليه وسلم تبرأ من الحول والقوة. وفي الدعاء الثاني دلائل: الأول: قوله: اللهم إني عبدك وابن عبدك أي أنك خلقتني ورزقتني ودبرتني. الثاني: قوله: ناصيتي بيدك أي تفعل بي ما تشاء لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله. الثالث: ماض في حكمك فيه بيان إثبات القدر وما تضمن الإيمان به. الرابع: عدل في قضاؤك بيان بأنه الحق قائم بالقسط حكمه عدل وقوله صدق. الخامس: أسألك بكل اسم هو لك دل على أنه لا يسأل إلا بأسمائه الحسنى كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . [يوسف: 108] . ولا يدعى المخلوق مطلقاً. السادس: سؤاله كشف الشدائد وجلب الفوائد من الله لا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 غيره لأنه القيوم بالكائنات وما فيها وبيده ملكوت كل شيء له الملك وله الحمد وهل الخلق وله الأمر ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فلا يستغاث بغيره ولا يدعى غيره؛ لأنه إن كل ما في السماوات والأرض إلا آت الرحمن عبداً، والعبد عاجز لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا. أما الكتاب وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} . [يونس: 106] . وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [الأنعام: 17] . وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} . [العنكبوت: 17] . وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} . [الأحقاف: 5] . وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} . [النمل: 62] . والآيات في ذلك كثيرة جدًّا بل أكثر القرآن يقرر أن لا يدعى غير الله كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . [الجن: 18] . ولا يستغاث بغير الله. أما السنة فروى الطبراني أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وجل" 1. فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفظ بالألفاظ التي تختص بالله تعالى ولو ما قصدت على حقيقة معناها لأنه ذكر أنهم لم يقصدوا بالاستغاثة إلا الشكاية فمنعهم عن ذلك اللفظ لحماية لجناب التوحيد. فإن قلت ربما يحصل بدعوة غير الله والاستغاثة به مقصود الداعي ويظن هذا من كرامات المدعو، قلت: هذا من جنس ما يفعله الشياطين لعبدة الأوثان حيث تتراءى أحياناً لمن يعبدها وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة وتقضي بعض الطلبات وقد وقع من هذا كثير في المتأخرين وأتباعهم حتى يروى عن بعضهم أنه قال: قبر مَعْرُوْفٍ الترياق المجرب، وعن بعضهم: فلان يدعى عند قبره، وعن بعض شيوخهم، إذا كانت لك حاجة إلى الله فاستغث بي أو قال: استغث عند قبري ونحو ذلك. وكثير من هؤلاء إذا استغاث شيخه رأى صورته وربما قضى بعض حاجته فيظن أن شيخه نفسه أو أنه ملك تصور على صورته وأن هذا من كراماته، وإنما ذلك الشيطان وكلما كان القوم أعظم جهلاً وضلالاً كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر، وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو طعام أو لباس أو غير ذلك وهو لا يرى أحداً أتاه به فيحسب ذلك كرامة لشيخه وإنما هي عن الشيطان، أضلتهم الشياطين بذلك كما كانت تضل عباد الأصنام بمثل هذه الأحوال.   1 أخرجه الطبراني في "الكبير" كما في "المجمع" (10/159) وقال: رجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث. اهـ. وأخرجه أحمد (5/398) وفيه ابن لهيعة أيضاً وقد اختلط بعد احتراق كتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 متن الباب 14 باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} . [الأعراف: 190- 191] . وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . [فاطر: 13] . وفي "الصحيح" عن أنس قال: شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: "كيف يفلح قوم شَجُّوا نبيهم"؟ فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] . وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلاناً وفلاناً" بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] . قال: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيتين. الثانية: قصة أحد. الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة. الرابعة: أن المدعو عليهم كفار. الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار. منها: شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم. السادسة: أنزل الله عليه في ذلك {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . السابعة: قوله: {أََوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] . فتاب عليهم فآمنوا. الثامنة: القنوت في النوازل. التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم. العاشرة: لعنه المعيّن في القنوت. الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] . الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن. الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: "لا أغني عنك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 من الله شيئاً" حتى قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً" فإذا صرح صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس الآن -تبين له التوحيد وغربة الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 شرح الباب 14 باب في بيان ما يدل من الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة على معنى قول الله عز وجل: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} . [الأعراف: 190-191] . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . [فاطر: 13، 14] . يخبر تعالى عن فساد عقول المشركين وضلالهم وعمى بصائرهم منبهاً على ذلك بالاستفهام الإنكاري أيشركون بالله الذي تفرد بالملك، والحمد، والخلق، والأمر، والعز، والبقاء، والربوبية، والقيومية، والقهر، والتدبير، والإحياء، والإماتة، والعطاء، والمنع، والنفع، والضر، بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، يفعل ما يشاء ويختار، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، لو أن الخلق أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو أن أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، ولو أن أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم قاموا في صعيد واحد وسألوه فأعطى كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، سبحانه وتعالى بائن عن خلقه غني عما سواه لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، قادر على كل شيء عليم بكل شيء ما فوق العرش وتحت الفرش في العلم عنده سواء، بصير يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الظلماء، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون سبحانه وتعالى عما يشركون أيشركون خلقاً ما أو يشركون به مخلوقاً من ماء مهين مدبراً في الرحم من حال إلى حال نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يكسو العظام لحماً ثم ينفخ فيه ويرزق من دم الحيض غذاء وشراباً إلى حد معلوم عنده ثم أخرجه متلوثاً بما تكرهه النفوس فيعطف الله عليه الأبوين ويشفقهما عليه فيربيانه بأمر الله وهو يتقلب في القاذورات ويرضع ثدي أمه إلى حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة ثم يخلق له أسناناً نوعين نوع للقطع ونوع للمضغ والطحن وخلق له كل شيء من النعم قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} . [إبراهيم: 34] . {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] . فالإنسان مدبر مقهور لولا فضل الله ورحمته لكان من الهالكين لا يعلم مصالح نفسه ولا مفاسده، قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 216] . بل إنه كالميت بين يدي الغاسل يقلبه يميناً وشمالاً وهو لا يشعر لو يأتيه أدنى مصيبة من المصائب عجز عن دفعها ورفعها، ضعيف نحيف لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً ولا يملك في الكون مثقال ذرة ملكاً حقيقياً ولا نقيراً ولا قطميراً ولا فتيلاً، فمن كان هذا حاله فكيف يتصور أنه ينفع أو يضر أو يعطي أو يمنع أو يخذل أو يعز أو يذل أو يقدر على أمر من الأمور الكونية، وقد قال الله لأفضل الخلق أجمعين وسيد الأنبياء والمرسلين وحبيبه وصفوته من خلقه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] . وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: شُج النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 يوم أحد وكسرت رباعيته1 عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: لقينا المشركين يومئذ وأحبس النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة وأمر عبد الله بن جبير -رضي الله عنه- وقال: "لا تبرحوا، فإن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا". فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن وبدت خلاخلهن، فلما رأوا ذلك الرماة فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة، فذكرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعوا، فأخلوا الثغر وكرّ فرسان المشركين عليه فوجدوه خالياً فجاؤوا منه وأقبل آخرهم حتى أحاطوا بالمسلمين، فأكرم الله من أكرم بالشهادة وهم سبعون، وتولى الصحابة وخلص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرحوه جراحات، شج رأسه وكسرت رباعيته، فلما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان على الجبل ونادى: فيكم محمد؟ فلم يجيبوه فقال: فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم ابن الخطاب؟ فلم يجيبوه، فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه قال: يا عدو الله قد أبقى الله ما يسوؤك، ثم قال أبو سفيان: أُعلُ هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلُّ، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم، قال: ألا تجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، ثم قال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء قتلانا غي الجنة وقتلاكم في النار2.   1 أخرجه مسلم (1719) من حديث أنس -رضي الله عنه- مرفوعاً. 2 أخرجه البخاري (4/79) وأبو داود (2662) وأحمد (4/293) من حديث البراء بن عازب مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج رأسه صلى الله عليه وسلم فجعل يسلت الدم عن وجهه فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم" فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] . أخرجه مسلم والترمذي1. وفيه أي في الصحيح2: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلاناً وفلاناً" بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام3، فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . وفيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] . صعد الصفا وقال: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً" 4.   1 أخرجه مسلم (1791) والترمذي (3002) من حديث أنس مرفوعاً. 2 أخرجه البخاري (4069) من حديث ابن عمر مرفوعاً. 3 هذه الرواية عند الترمذي (3004) . 4 أخرجه البخاري (2753 و3527 و4771) ومسلم (204) وأحمد (2/360) والنسائي (6/249) والدارمي (2735) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فيا لله العجب أفضل من في السموات والأرض من المخلوقين وأحب الخلق إلى الله وأقربهم عنده اصطفاه من خلقه وأرسله بالبينات وأيده بفصل الخطاب والمعجزات، وعرج إلى السبع الطباق وهو مع ذلك لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً كما قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} . [الأعراف: 188] . وكذلك لا يملك لغيره ضراً ولا رشداً كما قال تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} . [الجن: 14] . لأقرب قريب كما في هذا الحديث أنه خاطب عمه وخص عمه وعمته وبنته وقال: اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً فكيف غيره صلى الله عليه وسلم يقدر على النفع والضر سبحان من طبع على قلوب أعدائه كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون، بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 باب قول الله {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} ... متن الباب 15 باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] . وفي "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك. حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع -ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض- وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها عن لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء". وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة -أو قال رعدة- شديدة خوفاً من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجداً. فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل. فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل". فيه مسائل: الأولى: تفسير الآية. الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصاً من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب. الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك. الخامسة: أن جبريل هو الذي يجيبهم بعد ذلك بقوله: "قال كذا وكذا". السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل. السابعة: أن يقول لأهل السماوات كلهم؛ لأنهم يسألونه. الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم. التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله. العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله. الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضاً. الثالثة عشرة: إرسال الشهب. الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه. الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان. السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة. السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء. الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟! التاسعة عشرة: كونهم يلقي بعضهم إلى بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها. العشرون: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة. الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي كانا خوفاً من الله عز وجل. الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 شرح الباب 15 باب ما يدل على الفوائد التوحيدية والمسائل الصمدية ونظام القيومية وسلطان الملكوتية من قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] . قلت: لو لم يكن للتوحيد دليل غير هذه لكفت، وحال أنه كل ما في الكون ينطق نطقاً فصيحاً بأنه الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له في ملكه وربوبيته وألوهيته: هو الإله الذي آياته ظهرت ... في كل شيء ترى خير العلامات النور ينطق والأوراق والثمر ... بأنه الله خلاق البريات البر والبحر والأفلاك ناطقة ... بأنه الله علام الغيوبات الإنس والجن والحيوان شاهدة ... بأنه الله قيوم السموات والوحش والطير والحيتان مذعنة ... بأنه الله كاشف الكربات الواحد الأحد الوتر المهيمن لا ... شبه له ومثال في المكونات لا نفع في الكون إلا نفعه أبداً ... والضر من عنده حتى البليات إن مسك الله بالأضرار لا كاشف ... سواه عنك كذا كل المصيبات وإن أتاك بخير ما له مانع ... سواه عنك كذا في كل الخيرات ما لم يشأ لم يكن في الكون قط ولا ... تجري المقادير إلا بالإرادات من ظن نفعاً وضراً من خلائقه ... بلا مشيئته حوى الخطيئات حتى الملائك من عظم الجروم لهم ... في الأمر طوعاً لخلاق البريات حتى إذا سمعوا وحي العلي إذا ... من ذاك صعقوا خوف العقوبات قال ابن عباس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفله قدميه مسير خمسمائة عام، ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرضين والأرضون والسموات في حجزهم وهم يقولون: سبحان ذي العز والجبروت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وقال ميسرة بن عروة: أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشع لا يرفعون رؤسهم، وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من التي تليها، والتي تليها أشد خوفاً من التي تليها، والتي تليها أشد خوفاً من التي تليها. وقال مجاهد: بين نور الله والملائكة سبعون حجاباً من نور، وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لربي ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسير سبعمائة عام" 1. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: إن ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثون ألف عام والعرش يكسى كل يوم سبعون ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله والأشياء كلها بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، قال وهب بن منبه: أن حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون يقبل هؤلاء ويقبل هؤلاء فإذا استقبل بعضهم بعضاً هلل هؤلاء وكبر هؤلاء ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا: سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلك أنت الله لا إله غيرك أنت أكبر، الخلق كلهم راجعون إليك ومن وراء هؤلاء المائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلا وهو يسبح بتحميد لا يسبح الآخر به   1 أخرجه أبو داود من حيث حابر بلفظ: "أُذن لي أن أحدث عن مَلًكٍ من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ما بين جناحي أحدهم مسير ثلاثة عام وبين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام، واحتجب الله من الملائكة الذين حول العرش سبعين حجاباً من نور وسبعين حجاباً من ياقوت أصفر، وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر وسبعين حجاباً من ثلج وسبعين حجاباً من ماء، وسبعين حجاباً من برد وما لا يعلمه إلا الله تعالى وتقدس، وقالوا: لكل واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه وجه ثور ووجه أسد ووجه نسر ووجه إنسان ولكل واحد منهم أربعة أجنحة، أما جناحان فعلى وجه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق وأما جناحان فيصعق بهما ليس كلامهم إلا التسبيح، والتحميد وإذا كان يوم القيامة أيدهم بأربعة آخر فكانوا ثمانية على صورة الأوعال بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} . [الحاقة: 17] . وثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله ومنهم خزنة النار تسعة عشر مالك وثمانية عشر. جاء في الأثر: أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالمساحي يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة نزعت منهم الرحمة يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيرميهم حيث أراد من جهنم. قال عمرو بن دينار: إن واحداً منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. وغير ذلك من الأوصاف المستغربة المستعظمة التي لا تأتي في العقول لو نذكرها لطال الكلام وظهر عما نبغي من النظام، ولكن من علم يقيناً أن الله على كل شيء قدير وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، ما استنكر ولا استغرب ولا استعظم ما ذكر من خلق الله وأفعاله. واعلم أن الملائكة مع ما بها من عظم الجسوم ونكارة الهيئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وشدة القوة هم كما قال عنهم: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} . [الصافات: 164] . يقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: "وما منا معشر الملائكة إلا له مقام معلوم نعبد الله تعالى فيه". قال ابن العباس: ما في السماوات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح. وروي عن أبي ذر عن النبي قال: "أطَّت السماء وحق لها أن تئط والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجد لله عز وجل" 1. وقال السدي: إلا له مقام معلوم في القربة والمشاهدة، وقال أبو بكر الوراق: إلا له مقام معلوم يعبد الله عليه كالخوف والرجاء والمحبة والرضا، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} . [الصافات: 165] . قال قتادة: هم الملائكة صفوا أقدامهم، وقال الكلبي، صفوف الملائكة في السماء للعبادة كصفوف الناس في الأرض لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ومع ذلك كله ليس لهم قدرة سماع الوحي إذا قضى الله الأمر في السماء يغشى عليهم حين يسمعون الصوت. في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير" 2. وذلك أن المشركين كانوا يعبدون الملائكة زاعمين أنهم شفعاء لهم فبين سبحانه مقام عظمته وجبروته أنهم لا يسبقونه   1 أخرجه الترمذي (2312) وابن ماجه (4190) وأحمد (5/173) من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- مرفوعاً. 2 أخرجه البخاري (4701 و4800 و7481) ، وابن خزيمة في "التوحيد" (3221) ، وابن مندة في "الإيمان" (700) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 بالقول فلا يتكلمون ولا يشفعون إلا لمن أذن له فهم خلف سرادق الهيبة خاضعون خاشعون حتى إذا قضى الله الأمر في السماء لم يثبتوا عند سماع كلام الحق ولم يطيقوا فهمه ابتداء، بل خضعت وفزعت وضربت بأجنحتها وصعقت وسجدت فإذا فزع عن قلوبهم وجلي نهم الفزع قالوا حينئذ: ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، فهذه حالهم عند تكلمه تعالى بالوحي، إما وحي كلامه الذي يبعث به رسله كما أنزل القرآن، وإما أمره الذي يقضي به من أمر كونه فذلك حاصل في أمر التشريع وأمر التكوين ولهذا قال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} . [سبأ: 23] . وحتى غاية يكون ما بعدها داخلاً فيما ما قبلها ليست بمنزلة إلى التي قد يكون ما بعدها خارج عما قبلها كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . [البقرة: 187] . وحتى سواء كانت حرف عطف أو حرف جر يتضمن ذلك وما بعدها يكون النهاية التي ينبه بها على ما قبلها فتقول: قدم الحاج حتى المشاة، فقدوم المشاة تنبيه على قدوم الركاب، وتقول: أكلت السمكة حتى رأسها، فأكل رأسها تنبيه على أكل غيره، فإن كل رؤوس السمك قد تبقى في العادة فهذه الآية أخبر الله تعالى فيها أنه ليس لأحد غيره ملك ولا شرك في الملك ولا معاونة له ولا شفاعة إلا بعد إذنه، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . [سبأ: 22، 23] . ثم قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} . [سبأ: 23] . والضمير في قولهم عن قلوبهم يعود إلى ما دل عليه قوله من أذن له ودل عليه قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ} . [سبأ: 22] . فإن الملائكة تدخل في ذلك، فسلبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الملك والشرك والمعاونة، والشفاعة إلا بإذنه ثم بين تعالى حتى إنه تعالى تكلم لا يثبتون لكلامه ولا يستقرون بل يفزعون ولا يفهمون حتى إذا أزيل عنهم الفزع حينئذ يقولون: ماذا قال ربكم؟ وذلك أن ما بعد حتى جملة تامة، وهو قوله: إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم، والعامل في إذا هو قوله: قالوا ماذا، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان متضمن معنى الشرط أي لما زال الفزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم، والغاية بعد حتى يكون مفرداً كما تقدم ويكون جملة كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} . [يونس: 22، 23] . فأخبر تعالى عن تسيير هؤلاء إلى هذه الغاية فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعضه وصفه سفيان يكفه فحرفها وبدد بين أصابه فيسمع الكلمة مسترق السمع فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه الشهاب فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء. وذلك بعد المبعث وأما قبل المبعث فكانوا يسمعون الوحي فيلقونها على ألسنة الكهنة وكان في كل حي كاهن يتحاكمون عنده ويستخبرون الأخبار، وقال ابن قتيبة: إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة وكانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 يسترقون في بعض الأحوال فلما بعث صلى الله عليه وسلم منعوا من ذلك أصلاً فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها حتى وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة فعرفوا أن هذا السبب في حراسة السماء فآمن من آمن منهم وتمرد من تمرد. وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفاً من الله عز وجل فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجداً. فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل" 1. سبحان من له الملك والملكوت، سبحان من له العز والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت.   1 أخرجه ابن جرير في "التفسير" (22/91) وابن خزيمة في "التوحيد" (206) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (515) ، والآجري في "الشريعة" (294) ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 متن الباب 16 باب: الشفاعة وقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] . وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر: 44] . وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] . وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] . وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 22] . قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] . فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسَل تُعط، واشفع تُشفع. وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه. فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيات. الثانية: صفة الشفاعة المنفية. الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة. الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود. الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يبدأ بالشفاعة أولاً، بل يسجد، فإذا أذن الله له شفع. السادسة: من أسعد الناس بها؟ السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله. الثامنة: بيان حقيقتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 شرح الباب 16 باب في بيان ما يدل على أن الشفاعة المطلقة لله جميعً وليس لأحد من خلقه أن يشفع لأحد إلا بإذنه أي بإذن الشافع في شفاعة من رضي الله عليه من الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] . وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر: 44] . وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] . وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] . وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23] . قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عوناً لله تعالى ولم يبق إلا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب تعالى. قلت: ومن المعلوم بالضرورة أن العاقل ما يقصد خلقاً لمقصود إلا وهو زان أنه إما مالك ذلك المقصود لأن المالك يتصرف في ملكه بما شاء عطاء أو منعاً وإن لم يكن مالكاً لذلك المقصود يكن شريكاً في المقصود الذي يريده منه، لأن الشريك أيضاً يتصرف في حقه بما يشاء عطاء أو منعاً، فإن لم يكن شريكاً يكن معيناً لمالك الشيء الذي يريده منه؛ لأن المعان لا يغضب الذي يعينه ولا يرده عما يبغي من ملاه لأنه محتاج إليه في إعانته له فلا يخالفه فبما يمضي من ماله، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 لم يكن معيناً يكن شفيعاً لسناً يتشفع للعاني الذي قصد الشفيع، فيقبل المالك شفاعة الشفيع فيما يتكلم فيه ويمضي للشفيع ما يبتغي من مال المالك فإذا تصور أن هنا أحداً لا يملك شيئاً ولا شراكة في شيء ولا له إعانة لمالك الشيء ولا يقبل شفاعته عند مالك الشيء إلا بإذنه كيف هذا يقضي لك حاجة أو يكشف ضرًّا أو ينفع نفعاً ومثل من يطلب حاجة ممن خلي من هذه الأربع كمن يطلب مما في قصر الملك وخزائنه من عبده بلا إذن من الملك فتأمل. كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . [الأنبياء: 28] . هذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن ولكن التي ثابتة يوم القيامة الشفاعة المقيدة بإذن كما أثبته القرآن والسنة. أما القرآن فقد مضى ما يكفي من الآيات. وأما السنة فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده ولا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال هل ارفع رأسك وقل تسمع، وسل تعط، واشفه تشفع1. وخرج البخاري2 أيضاً عن حجاج بن منهال ثنا همام بن يحي، ثنا قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهمُّوا بذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم وأبو الناس، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، لتشفع   1 قطعة من حديث الشفاعة الطويل، أخرجه البخاري (3340، 3361) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة مرفوعاً. 2 أخرجه البخاري (6565) ، ومسلم (193) من حديث أنس مرفوعاً، وقد أخرجه البخاري (7440) معلقاً، وقد ساق المصنف هذه الرواية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نُهي عنها، ولكن ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب: سؤاله ربه بغير علم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، قال: فيأتون إبراهيم فيقول: إني لست هناكم، ويذكر ثلاث كلمات كذبهنَّ، ولكن ائتوا موسى: عبداً آتاه الله التوراة وكلمه وقرَّبه نجيًّا، قال: فيأتون موسى فيقول: إني لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب: قتله النفس، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله، وروح الله وكلمته، قال: فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل يُسمع، وسل تُعْطَ، واشفع تُشَفَّع، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً، فأخرجهم فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وسمعته أيضاً يقول: فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يُسمع، واشفع تُشَفَّعْ، وسل تُعط، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحد لي حداً، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن. أي وجب عليه الخلود. قال: ثم تلا الآية: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء: 79] . قال: وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم". وفي الصحيحين عن أبي هريرة: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وهل تدرون فيما ذاك؟ يجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فينظرهم الناظر، ويسمعهم الداع، وتدنو منهم الشمس، فبلغ ذلك الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون إلى ما كنتم فيه، ألا تنظرون من يشفع لكم؟ فيقول بعضهم لبعض: أبوكم بآدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسد لك ملائكته، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، وما بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحاً فيقولون: أنت يا نوح، أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك عبداً شكوراً، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات فذكرها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضلك الله برسالاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم وفي رواية: فيأتوني، فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق إلى تحت العرش، فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي، يا رب أمتي، فيقول: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، إن ما بين المِصْرَاعَيْنِ من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو: كما بين مكة وبصرى"، وزاد في رواية في قصة إبراهيم: "وذكر قوله في الكواكب: هذا ربي، وقوله لآلهتهم: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم" 1. قلت: هذه الأحاديث أثبت الشفاعة على الوجه المذكور وما فيها من معالم الوحدانية لله في الربوبية والألوهية لا يخفى على من له أدنى عقل ولب. وهو من وجوه: الأول: قوله: يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فينظرهم الناظر ويسمعهم الداعي. دل على قهره الكلي الشامل كل البرايا كما قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} . [الأنعام: 18] . ودل على غلبة أمره على أمر غيره كما قال: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} . [يوسف: 21] . فدل ذلك على أنه من هو القاهر الغالب يستحق العبادة   1 أخرجه البخاري (3340) ، ومسلم (194) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 لا المقهور المغلوب. الثاني: قوله: تدنو بهم الشمس فيبلغ ذلك الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. قلت: ومن يحكم على الخلق هذا الحكم النافذ بحيث لا يقدر أحد أن يفر أو يكيد كيداً فهو المستحق للعبادة لا المحكوم عليه. الثالث: تعذر على نبي بذب عن الشفاعة وقول كل منهم: نفسي نفسي، فمن يرهب الناس هذا الإرهاب بحد كل خائف حتى الأنبياء والمرسلين فهو المستحق للعبادة لا المرتهب المتخوف. الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: فأنطلق إلى تحت العرش فأقع ساجداً لربي قلت: وفي هذا أعظم دليل على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أما التوحيد فلأنه أفضل الخلق وقع ساجداً لله وأما الرسالة فلأنه تبرأ من الحول والقوة ونسب الأمر إلى الله. الخامس: فيفتح الله علي محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، فدل أن الله هو العليم العلام وكل علم يصدر من علمه؛ ولذا -فسبحانه- المعبود لا غير. السادس: قوله: ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع دل على أنه ما لم يشأ الله لم يكن لأنه لولا الله قال له: يا محمد ارفع رأسك ما رفع رأسه أبداً ولولا قال سل تعط ما سأل ولولا قال اشفع تشفع ما شفع له فله الأمر وله الحكم في الدنيا والآخرة فهو المعبود بحق في الوجود وكلٌّ عبده تحت قهره وتصريفه لا إله إلا هو له الملك والملكوت وله العز والجبروت الحي القيوم الذي لا يموت. السابع: قوله فيحد لي حدًّا فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة. دل على أن الشفاعة محدودة في ناس دون ناس. الثامن: قوله: فأعود فاستأذن على ربي فيؤذن لي عليه فإذا رأيته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وقعت ساجداً. قلت: قوله أستأذن على ربي دل على أنه لا إله إلا الله لأنه صلى الله عليه وسلم ما يفعل شيئاً إلا بالإذن. فيؤذن دل على أنه لا إله إلا هو لأنه لو ما أذن له ما دخل عليه، وقوله: فإذا رأيته وقعت ساجداً دل على أنه لا إله إلا الله فإذا كان هذا حال أفضل الخلق أجمعين فكيف بغيره، فتأمل تفلح وتدبر المعاني تستبصر. وقال أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" 1. فتلك الشفاعة لأهل التوحيد والإخلاص بإذن الله قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} . [النبأ: 38] . وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . [البقرة: 255] . ولا تكون الشفاعة لمن أشرك بالله كيف وقد قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . [المائدة: 72] . وقد نهى الله رسوله عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أقاربه قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} . [التوبة: 113] . وقال تعالى في شأن المنافقين: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . [التوبة: 80] . وقال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} . [التوبة: 84] . فإذا كان منهيًّا عن الدعاء والاستغفار فكيف يستغفر لهم في الآخرة وحقيقته أمه لما كان المشرك نجساً وخبيثاً في الفعل وأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ولا يجاوره في دار كرامته إلا الطيبون حرم الله على المشرك النجس الخبيث الجنة، ولما كان الموحد طاهراً طيباً أكرمه الله بالنزول في دار كرامته، وإذا كان عليه دنس من أدناس   1 أخرجه البخاري (6570) من حديث أبي هريرة مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الذنوب أولاً يصفى بكير الامتحان بالمحن والمصائب وإن بقي عليه شيء منها صفي يوم القيامة بكير النار حتى ينظف فحينئذ يدخل في الجنة فيقول لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، ولكن يجعل الله دخولهم على يد من أذن له بالشفاعة كرامة له فكان الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك أي أنه طلب الشفاعة من غير الله ما طلبها منه تعالى وتقدس مثل أن يقول: اشفع لي يا فلان فذلك قد طلب حق الله من غيره قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} . [الزمر: 44] . فهذا ممنوع منهي عنه وهو شرك لأنه دعا غير الله لمقصده الذي هو الشفاعة التي هي لله تعالى جميعاً، ومعلوم بالضرورة أن من طلب حق الله من عبده فقد ظلمه أولاً، وثانياً ظن أن للعبد شراكة في ذلك الحق ولولا ذلك الظن ما طلب حق الله من غيره، وأما إذا طلبته من الله كأن تقول: اللهم شفع فلاناً في أو اجعل فلاناً شفيعاً لي فذلك جائز لأنك دعوت الله لا غيره وطلبت حق الله من الله لا غيره وليس من المنهي عنه فتأمل حتى تميز. ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 متن الباب 17 باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] . وفي "الصحيح" عن ابن المسيب عن أبيه قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: " يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] . وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] . فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} . الثالثة: -وهي المسألة الكبرى- تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "قل: لا إله إلا الله" بخلاف ما عليه من يدعي العلم. الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال للرجل: "قل: لا إله إلا الله". فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الخامسة: جدّه صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه. السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه. السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك. الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان. التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر. العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك، لاستدلال أبي جهل بذلك. الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها لنفعته. الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم، اقتصروا عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 شرح الباب 17 باب في بيان ما يدل على أنه لا يهدي الهداية الجامعة للعلم والعمل والتعليم والصبر إلا الله من الكتاب والسنة أما الكتاب فقول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] . قلت: فإذا كان الخطاب للرسول المبعوث المأمور بالتبليغ فكيف غيره؟ فإن قلت: كيف ذلك وكان شأنه ودأبه منذ بعث إلى أن مات هداية الناس إلى الصراط المستقيم؟ قلت: الهداية تتعدى بنفسه تارة وبإلى تارة وباللام تارة وكل له معنى معلوم، فمن المعدى بنفسه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، وقوله {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} ، ومن المعدى بإلى قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . [الشورى: 52] . وقوله: {إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . [الأنعام: 161] . ومن المعدى باللام قوله تعالى عن أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا} . [الأعراف: 43] . وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . [الإسراء: 9] . المتعدي بإلى للإيصال إلى الغاية المطلوبة، وباللام لذلك مع إفادة التخصيص، وبنفسه للهداية التامة الجامعة للعلم والعمل والتعليم والثبات كما ذكر الله في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . [العصر: 1-3] . قال ابن القيم: فمتى عدي بإلى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة. قلت: ليس معنى قوله: الإيصال إلى الغاية الهداية التامة؛ لأن الإيصال إلى الغاية لا يشمل الدخول في الغاية كما في قوله تعالى: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . [البقرة: 187] . أما ترى أن الليل ليس بداخل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الصوم فإلى تدل على الغاية والحد المحدود فقط، فمعنى قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . [الشورى: 52] . إيضاح للطريق المستقيم وتنبيه لهم، قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} . [النحل: 64] . فأثبت الله للرسول صلى الله عليه وسلم الإيضاح والتبيين ونفى عنه الهداية التامة، قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} . [النمل: 81] . وقال -رحمه الله تعالى-: ومتى عدي باللام تضمن التخصيص، قلت: معناه أنه يتضمن معنى خاصًّا لا عامًّا، كقول أهل الجنة: الحمد لله الذي هدانا لهذا، أي لدخولنا الجنة، وقال -رحمه الله-: ومتى عدي بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله أن يعرفه إياه ويبينه له ويلزمه إياه. قلت: وهذا المعنى الجامع هو المنفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كذلك، ولكن الله يهدي الهداية التامة الجامعة من يشاء من عباده. وأما السنة ففي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم شفقة عليه لما رأى من النصح والاجتهاد فيما يصلح أمره صلى الله عليه وسلم ويذب عنه بمله وحاله وولده وصنع معه صنائع لم يصنعها أحد من الأقارب والأباعد لأحد وقصصه وأفعاله متواترة مشهورة لاسيما صبره معه في الشِّعْب ثلاث سنين على الجوع والعري حتى ذُكر أنه يُسمع أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع، وأيضاً قومته في كل نائبة جاءت الرسول من المشركين، ومع هذا كله كان مقرًّا مصدقاً بما يقول صلى الله عليه وسلم، وأثنى على النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدته اللامية المشهورة التي أولها: أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل إلى أن قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 كذبتم وبيت الله نبزي محمداً ... ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل إلى أن قال: ولقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل إلى أن قال: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلهاً ليس عنه بغافل إلى أن قال: فوالله لولا أن أجي بمسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جدًّا غير قول التهازل وقال في قصيدته النونية معترفاً بدينه الحق: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا إلى أن قال: ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت دينا قد عرفت بأنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبينا فلما حضره الموت جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه الإسلام شفقة عليه وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: "يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله"، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم1. قوله: قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فأعادا أي عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل على أبي طالب: أترغب عن ملة   1 أخرجه البخاري (1360) ، ومسلم (24) من حديث المسيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 عبد المطلب، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب. فمات على خاتمة السوء نعوذ بالله منها. قلت: وفي هذا أبين دليل على أن جليس السوء يردي بجليسه طبعاً وخُلقاً وديناً كما قيل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... وكل قرين بالمقارن يقتدي وأحسن من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " المرء يحشر على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" 2. الحاصل أن جلساء أبي طالب أردوا به وتسببوا عليه بالشر فغلبت على أبي طالب الشقاوة، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فلما أيس منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولها قال صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور منهي فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] . وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] .   1 أخرجه أبو داود (4833) ، والترمذي (2378) من حديث أبي هريرة، وله طريق أخرى عند الحاكم (4/171) . 2 أخرجه البخاري (10/426) ، ومسلم (2640) من حديث أنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 متن الباب 18 باب: ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين وقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] . وفي "الصحيح" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23] . قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت". وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم؛ ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" أخرجاه. وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً. فيه مسائل: الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب. الثانية: معرفة أول شرك حدث على وجه الأرض أنه بشبهة الصالحين. الثالثة: أول شيء غُيّر به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم. الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها. الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل؛ فالأول: محبة الصالحين، والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره. السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح. السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد. الثامنة: فيه شاهد لما نُقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر. التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 حسن قصد الفاعل. العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه. الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح. الثانية عشرة: معرفة: النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها. الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها. الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال. الخامسة عشرة: التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة. السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك. السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" فصلوات الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وسلامه على من بلغ البلاغ المبين. الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين. التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تُعبد حتى نُسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده. العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 شرح الباب 18 باب ما جاء في بيان ما يدل من الكتاب والسنة أن سبب كفر بني آدم بربهم الذي خلقهم من ماء مهين الذي يخرج من بين الصلب والترائب خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرحم، وظلمة القميص ثم دبّره بأحسن التدبير وهم أجنة في بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، ثم أذن له بالخروج بالرفق واللين فأدرّ عليه ثدي أمه بال حليب السائغ إلى حد الفطام ثم أخرج له أسنان منها للقطع ومنها للتنعيم والتطحين، فأنعم عليه من كل نعمة كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} . [إبراهيم: 34] . وجعل عليه حفظة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} . [الرعد: 11] . ومع ذلك كله إنهم اتخذوا الشيطان وذريته أولياء من دون الله وأطاعوهم في المعاصي حتى آلت بهم المعاصي إلى الكفر تركهم دينهم الذي فطرهم الله عليه وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فزين لهم الشيطان أعمالهم واجتهادهم بالغلو في الصالحين قديماً وحديثاً، فأحدث عليهم ذلك الشرك بالله في حقه الذي لا يستحقه إلا هو لا إله إلا هو، وقد نهى الله تعالى عن الغلو في كتابه الذي أمر الله عباده باتباعه قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ} . [الأعراف: 3] . والدليل على ذلك من الكتاب قوله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} . [النساء: 171] . يخبر الله تعالى عن أمة العيسوية أنهم غلوا في عيسى وعن أمة الموسوية أنهم غلوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 عزير وحال أن فيها آيات وبراهين ساطعة يستدل بها كل ذي لب على أنه لا يعبد إلا الله، فأما عيسى فخلقه الله من دون أب بل بنفخة نفخها جبرائيل في جيب مريم وتكلم وهو المهد بأنه رسول الله، ففي ذلك أعظم دليل على أن عيسى عبد الله ورسوله، وأن الإله الحق هو الله الذي خلقه بلا أب، وأنطقه في المهد بنطق فصيح فالله تبارك وتعالى له القدرة الكاملة، خلق آدم وذريته على أربعة أنواع: نوع ليس له أب ولا أم، فذلك آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، ونوع له أب وليس له أم ذلك حواء خلقها من ضلعه الأيسر، ونوع له وليس له أب وذلك عيسى ابن مريم، ونوع له أب وأم وذلك ما سوى هؤلاء، وأيضاً منهم من يعطيهم ذكوراً وإناثاً، ومنهم من يجعله عقيماً، قال تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} . [الشورى: 49، 50] . ففي هذا كمال القدرة واعلم اللذين هما على الوحدانية أشد ظهوراً من الشمس. وأمَّا عُزَيْر فقد جرى عليه بعد رجوعه من عند بخت نصر ما هو أقطع دليل على أنه لا إله إلا هو وأنه المعبود بحق لا سواه وذلك أنه لما مر على بيت المقدس بعدما خرجه بخت نصر وهي خاوية على عروشها ساقطة على سقوفها وتهدمت حيطانها استعظم الأمر وقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأراد الله أن يريه قدرته الكاملة الصالحة لكل شيء فأماته الله مائة عام آية في نفسه واعتباراً لغيره ثم أحياه الله وذكر أنه كان معه تين وعصير عنب ومع هذه المدة الطويلة لم يتغير التين ولا عصير العنب وحماره قد بليت عظامه وتفرقت، فجمعها الله وهو ينظر إليه وركب بعضها على بعض وألبسها لحماً وأحياه، فإذا هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 واقف بين يديه، فلما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، فنظر فإذا القرية قد اعتمرت على أحسن ما يتصور، فسبحان من تفرد بالقدرة الكاملة والعلم المحيط بكل شيء فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} . [الرعد: 14] . قال ابن القيم: " وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يبالي بأيهما ظفر من العبد من الخصلتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فيشمه فإن وجد فيه فتوراً أو توانياً أو ترخيصاً أخذه بالتقصير والتفريط، فثبطه وأقعده بالكسل والتواهن والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك، وإن وجد عنده حذرا وجدًّا وتشميراً ويقظة أخذه بالاجتهاد الزائد وسول له أن هذا المشروع ما يكفيك وهمتك فوق هذا وينبغي لك أن تزيد على العاملين وأن لا ترقد إذا رقدوا ولا تفتر إذا فتروا، إذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعاً، وإذا توضأ أنت اغتسل لها، ونحو هذا من الإفراط والتعدي فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم، كما يحمل الأول على التقصير، ومقصوده إخراج كل واحد عن الصراط المستقيم ولا ينجي من ذلك إلا الله؛ ثم علم راسخ وإيمان ثابت وقوة على محاربة ولزوم الوسط؛ لأن دين الله وسط بين الغالي والجافي، والله المستعان" انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فإذا قلت: إن الله تعالى ما ذكر إلا الغلو الذي هو الإفراط ولم يذكر التفريط والتقصير. قلت يحتمل فيه أمران: لما تركه لدلالة الضد على الضد كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} . [النحل: 81] . فلم يذكر البرد لدلالة الحر عليه، ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ذلك بعض المفسرون وإما لأن الغلو: يورث الشرك والكفر والتفريط، والتقصير: يورث الذنوب والشرك والكفر أعظم خطراً فذكر الغلو لعظم خطره. والدليل من السنة أن الغلو سبب كفر بني آدم، ففي الصحيحين1 عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . [نوح: 23] . قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح. أول رسول أرسل في الأرض لما غلو في الصالحين وأشركوا مع الله غيره في العبادة، قال قتادة: ذرك لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى الشريعة من الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله إليهم نوحاً، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} . [البقرة: 213] . قال: على الإسلام كلهم وقد أراد الله تعالى استخبارهم فامتحنهم الله بما يفتنهم ليعلم الصادق من الكاذب كما قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . [العنكبوت: 1- 3] . فبين الله أنه لابد أن يفتن الذي يدعي الإيمان قديماً وحديثاً ومن حكمة الرب تعالى أن يفتن كلاًّ بما يليق بحاله، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} . [البقرة: 155] . فإن علم الله من الصدق والإيمان الحقيقي الذي لا يشوبه ظلم حفظه من وساوس الشيطان فانتبه. قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} . [إبراهيم: 27] . وإن علم منه خلاف ذلك خلى بينه   1 أخرجه البخاري (4920) من حديث ابن عباس موقوفاً ولم يروه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وبين الشيطان فإذاً يسلط عليه ويستحوذ عليه فيهلكه، ولما كان أهل ذلك الزمان الذي فيه ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر وكانوا معتنين بالدين والعلم النافع فتنهم الله بموت هؤلاء العلماء الصالحين في أزمنة متقاربة بعضها من بعض فلما هلكوا حزنوا عليهم حزناً شديداً لما رأوا من ذهاب علمائهم وصلحائهم الذين بذهابهم يذهب العلم المتواخذ بينهم فحينئذ اغتنم الشيطان الفرصة وأتاهم وأوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها حالة التعليم والتذكير أنصاباً على صورهم المعلومة عندكم وسموها بأسمائهم التي كانوا يسمون بها ففعلوا فلم يعبدوا الصور لقرب عهدهم بالمعاني الشركية وأفعالها وأقوالها حتى إذا هلك أولئك أي أهل ذلك القرن والقرن الثاني وأتى القرن الثالث نسي العلم الذي فيه بيان الشرك والتوحيد أو نسي العلم الذي نصبوا لأجله الأنصاب وهو تذكر العلم الذي كانوا يأخذونه منهم عبدت الصور حينئذ وذلك أنه جاءهم الشيطان أن آبائكم ما نصبوا هذه الأنصاب إلا أنهم يريدون شفاعتهم فتعلقت قلوبهم بها لأجل ذلك قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . [يونس: 18] . قال ابن القيم قال غير واحد من السلف: قال محمد بن كعب: إن ودًّا وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا هذه أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا كان لهم أتباع يقتدون بهم ويأخذون بعدهم أخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم: لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا ثم نشأ قوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 بعدهم فقال إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم فابتداء عبادة الأوثان كان ذلك، وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صور أولئك القوم المسلمين. قلت: وموجب ذلك كله الغلو شيئاً فشيئاً حتى تعدى عن الحد، وآل الأمر إلى الشرك بالله فعكفوا على قبورهم وذلك بما صوروا صورهم ثم طال عليهم الأمد فغفلوا عن التوحيد وغلوا فيها فأشركوا فعبدت فلذلك نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الغلو حذراً مما وقع قبل من الشرك بسببه. وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" أخرجاه1. ولمسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" 2. بين صلى الله عليه وسلم أن الغلو هو داء العضال الذي في الأمم الماضية فأهلكوا به قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} . [الروم: 42] . ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" 3، قالها ثلاثاً. ففُسِّر بالذين يبالغون في الأمور.   1 أخرجه البخاري (3445) من حديث عمر مرفوعاً، ولم يروه مسلم. 2 أخرجه النسائي (5/268) وابن ماجه (3029) وأحمد (1/215) من حديث ابن عباس مرفوعاً، والحديث لم يروه مسلم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاقتضاء" 1/289: إسناده صحيح على شرط مسلم. 3 أخرجه مسلم (2670) من حديث ابن مسعود مرفوعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 متن باب 19 باب: ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده في "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين، فتنة القبور، وفتنة التماثيل. ولهما عنها قالت: "لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال -وهو كذلك-: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً،" أخرجاه. ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبْنَ مسجد، وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجداً، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً". ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد". ورواه أبو حاتم في "صحيحه". فيه مسائل: الأولى: ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل. الثانية: النهي عن التماثيل، وغلظ الأمر في ذلك. الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك. كيف بيّن لهم هذا أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم. الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر. الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم. السادسة: لعنه إياهم على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 السابعة: أن مراده صلى الله عليه وسلم تحذيره إيانا عن قبره. الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره. التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً. العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجداً وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته. الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما شر أهل البدع، بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد. الثانية عشرة: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع. الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلّة. الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة. الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة. السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 شرح الباب 19 باب ما جاء ف بيان ما يدل على أن التغليظ يلزم الذي يطيع الله ورسوله غيرة منه على دينه عز وجل فيمن عبد الله خالصاً لكن عند قبر رجل صالح حذرا من الفتنة والشرك هذا إذا كان غير الله فكيف إذا عبده فيكون التغليظ أولى وألزم وفي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنسية رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور والتماثيل لما كانوا يصورون عيسى وأمه والأنبياء تعظيماً لهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح –شك في الراوي- بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق" 1. لنبذهم حكم الله ورسوله واتباعهم الآباء والأهواء فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين اللتين أكثر الناس قد ضلوا بهما إحداهما فتنة القبور وقد ضلت بها أمم لا يحصيهم إلا الله، والثانية فتنة التماثيل وقد ضلت بها فئام أيضاً ولهما عنها قالت: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم أي وقع به الأمر اللازم الذي ليس لأحد عنه مفر طفق أي شرع يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك أي في هذه الحالة لشدة اهتمامه واعتنائه بالوحدانية التي هي زبدة الرسالة: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر صلى الله عليه وسلم بقوله أمته عن ما صنعوا ولولا ذلك الحذر لأبرز قبره   1 أخرجه البخاري (427) ومسلم (528) من حديث عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً إذا أبرز أخرجاه1، ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ليال وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليل كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً" 2. لما رأيت منه التصديق والنصح لله ورسوله ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فيقعون في الشرك والكفر بالغلو فيهم ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فتقعون فيما وقعوا فيه فإني أنهاكم عن ذلك فقد نهى عنه في آخر حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله وذلك لأن التردد على القبور يوجب ما قاله وذلك يورث عبادتهم والصلاة عندها من ذلك وإن لم يُبْنَ مسجد وهو معنى قولها خشي أن يتخذ مسجداً فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً". ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعاً: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد" رواه ابن حبان في صحيحه3.   1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه مسلم (532) من حديث جندب. 3 أخرجه أحمد (1/435) وابن حبان (340) وابن خزيمة (789) من حديث ابن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد ثبت في الصحيح أنه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" مع أن طائفة من غلاة العباد يصلون إلى قبور شيوخهم بل يستدبرون القبلة ويصلون إلى قبر الشيخ ويقولون هذه قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة، وآخرون أمثل من هؤلاء يرون الصلاة عند قبور شيوخهم أفضل من الصلاة في المساجد حتى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وكثير يرى أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من الدعاء في المساجد، ويرى من الصلاة في المساجد المبنية على القبور أفضل من المساجد التي لا قبور فيها، هذا كله مما علم من جميع أهل العلم بدين الإسلام أنه مناف لشريعة الإسلام وأنه لم ينقله أحد من علماء الأمة بل هم متفقون على أنه لا فضيلة للصلاة عند القبور ولا في المساجد المبنية على القبور بل ينهى عن ذلك" انتهى كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 متن الباب 20 باب: ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله روى مالك في "الموطأ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] . قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره، وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج". رواه أهل السنن. فيه مسائل: الأولى: تفسير الأوثان. الثانية: تفسير العبادة. الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله. السادسة: -وهي من أهمها- معرفة صفة عبادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 اللات التي هي من أكبر الأوثان. السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح. الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية. التاسعة: لعنه زَوَّارات القبور. العاشرة: لعنه من أسرجها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 شرح الباب 20 باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا لما مضى من أن التردد يورث التأله والتعظيم شيئاً فشيئاً حتى تعبد من دون الله الذي خلق الكون وما فيه بأسره سبحانه وتعالى عما يشركون روى مالك في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1. وقعوا في المحذور الذي أوجب لهم اللعنة والعذاب، ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قال: كان رجل يلت السويق للحاج فمات فعكفوا على قبره وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: كان يلت السويق للحاج، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج 2. لما فيه من ذلك المحذور الذي يؤول إلى الشرك وعبادة غير الله.   1 أخرجه مالك (1721) وابن سعد في الطبقات (2/240-241) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلاً. وهذا إسناد مرسل صحيح ورواه ابن عجلان عن زيد بن أسلم مرسلاً لم يذكر عطاء. وأخرجه عبد الرزاق (1/406) وابن أبي شيبة (3/245) وحديث مالك هو الصواب، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (5/43) من طريق عمر بن محمد عن زيد بن أسلم به. وهذا إسناد حسن، وعمر بن محمد ثقة وقد جاء الحديث مرفوعاً من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/246) . 2 أخرجه أبو داود (3236) ، والترمذي (320) وقد أفردت في أحاديث زيارة النساء للقبور، وما فيها من آثار: رسالة طبعت في "الأجزاء الحديثية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 متن الباب 21 باب: ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة: 128] . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات. وعن علي بن الحسين: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم". رواه في المختارة. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية براءة. الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد. الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته. الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 مع أن زيارته من أفضل الأعمال. الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة. السادسة: حثه على النافلة في البيت. السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة. الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعُد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب. التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 شرح الباب 21 باب ما جاء في حماية المصطفى –من الخلق لأجل الرسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك لأنه صلى الله عليه وسلم ما أرسل إلا لنفيه بالبيان والسنان وقوله الله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي شاق عليه عنتكم ومضاركم وأي ضرر أعظم من الشرك والكفر والنفاق الذي يخلد صاحبه في النار أبد الآبدين حريص عليكم أي على صلاح شأنكم وأي صلاح أعظم من صلاح التوحيد الذي لو يأتي صاحبه بقراب الأرض خطايا لأتاه ربه بها مغفرة بالمؤمنين رؤوف رحيم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً" 1 أي لا تجعلوا بيوتكم مثل القبور لا تصلون فيها بل صلوا فيها السنن والنوافل لأنها في البيت أفضل، قيل: لأنه أبعد من الرياء وأقرب للإخلاص "ولا تجعلوا قبري عيداً" تعودونه في كل يوم أو كل أسبوع أو شهر أو سنة ولا يسمى العبد عيداً إلا لإعادته على الناس في كل عام فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا قبره عيداً يعودونه حذراً مما وقع في السلف الماضي من الأمم، وإن أردتم الصلاة والسلام "فصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات2. وعن علي بن الحسين -رضي الله عنه- أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه   1 أخرجه أبو داود (2042) وأحمد (2/367) . 2 أخرجه أبو داود (2042) وأحمد (2/367) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وسلموا عليّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم". رواه في المختارة1. فبين علي -رضي الله عنه- أن دعاءه عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم منهي عنه ولو نيته كانت صالحة حذراً من الغلو الذي أهلك من كان قبل.   1 أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (2/186) وأبو يعلى (469) من طريق جعفر بن إبراهيم الجعفري عن علي بن عمر بن الحسين عن أبيه عن علي بن الحسين به وله شواهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 متن الباب 22 باب: ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 50] . وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] . وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف: 21] . عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"؟ أخرجاه، ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة، وألا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 بعضهم بعضًا"، ورواه البرقاني في "صحيحه"، وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى". فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النساء. الثانية: تفسير آية المائدة. الثالثة: تفسير آية الكهف. الرابعة: وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع؟: هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ الخامسة: قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين. السادسة: وهي المقصود بالترجمة أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعيد. السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 الثامنة: العجب العجاب خروج من يدّعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق وفيه أن محمداً خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح. وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة، وتبعه فئام كثيرة. التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة. العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة. الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة، منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال، وإخباره بأنه أعطي الكنزين، وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين، وإخباره بأنه منع الثالثة، وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع، وإخباره بإهلاك بعضهم بعضاً وسبي بعضهم بعضاً، وخوفه على أمته من الأئمة المضلين، وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون من العقول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين. الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 شرح الباب 22 باب: ما جاء أن بعض هذه الأمة المحمدية تعبد الأوثان وتسلك مسالك من مضى من الأمم الماضية شبراً بشبر وذراعاً بذراع من الكتاب والسنة أما الكتاب فدلالته على الترجمة بالتضمن وذلك قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 50] . وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] . وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف: 21] . يخبر الله تعالى عن جهل هؤلاء وظلمهم، أما جهلهم فهو أنهم تركوا حكمَ الله الذي هو ربهم وملكهم، وسنَّة نبيهم، وعملوا بحكم الجبت والطاغوت. وأما ظلمهم فإنَّهم عصوا الله وآمنوا بالجبت والطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . [النحل: 36] . وأما دلالة الآيات على الترجمة أنه يتصور ويمكن أن هذه الأمة الذين أوتوا القرآن يعبدون الجبت والطاغوت كما أن الذين أوتوا التوراة والإنجيل عبدوا الجبت والطاغوت. وأما في السنة فقد بين الرسول هذا المعنى بعينه وأفصح به لئلا يشتبه على أحد ويستبعد ذلك، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 والنصارى؟ قال: " فمن". أخرجاه1. فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة المحمدية يتبعن سنن من قبلهم ويسلكن مسلكهم ثم أكد المشابهة أي بأنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، جعل صلى الله عليه وسلم غاية المشابهة أمراً محالاً في العادة بمعنى أنكم لا تتركون شيئاً يفعلونه حتى لو فعلوا هذا الأمر المحال لفعلتموه ثم بين أنهم خالفوا الله ورسولهم وهم أهل الكتاب الذين أوتوا العلم فدل ذلك على أن الكتاب والعلم لا يوجب الهداية إلا بفضل الله ورحمته فكونوا على حذر فإنكم على خطر فإن الذي أضلهم من المنظرين إلى يوم القيامة واستلزم بإضلال العباد إلا عباد الله المخلصين قال لعنه الله: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} حتى يؤول بكم الإضلال إلى تفرقكم واختلافكم بعضكم من بعض كما تفرقت بنو إسرائيل. عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي" رواه الترمذي2. وفي رواية لأحمد وأبي داود عن معاوية: "ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة، وأنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا   1 أخرجه البخاري (3456) ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري. 2 رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 دخله" 1. ولمسلم عن ثوبان -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين: الأبيض والأحمر وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال لي: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضًا" 2، رواه الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب البرقاني في صحيحه، وزاد: "وإنما أخاف على أمتي من الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" 3. قلت: وفي هذا تصريح وتوضيح بأن بعض أمته صلى الله عليه وسلم يلحق بالمشركين وفئام منها تعبد الأوثان. قال أبو السعادات: الفئام الجماعات الكثيرة، وقال البخاري: باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان   1 أخرجه أبو داود (4597) وأحمد (4/102) من حديث معاوية بن أبي سفيان. 2 أخرجه مسلم (2889) من حديث ثوبان. 3 أخرجه بالزيادة المذكورة أبو داود (4252) وابن ماجه (3952) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وذكر السند إلى أن قال عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة"، قال وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدونها في الجاهلية1. وروى مسلم من رواية في صحيحه عن عائشة مرفوعاً: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى" 2. ففي هذه الأحاديث رد على الذين ينكرون وقوع الشرك وعبادة الأوثان في الأمة المحمدية فمن فهم ما أخبر الله تعالى في كتابه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته ورأى الناس ورأى الواقع من غالب الناس ما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم به سواء بل زيَّدوا أموراً شركية ليس في الأولين لها شبيه، وقد نظمت على هذا المعنى: فعند ثقيف كان قبة لاتهم ... والآن في كل المواضع ذا الصنع ففي كل أرض قبة مثل لاتهم ... تعظم ترجى جلب نفع مع الدفع وفي نخلة العزى زمان قريشهم ... وكم سدرة الآن تقصد للنفع هناك مناة كما مناة زماننا ... فكم صخرة الآن تقصد للدفع وأن نزل الوادي استعاذت قريش ... والآن كل يستعيذ من الخمع فكم ذبحت للجن سودا دجاجة ... وكم بيضة كم من بسيس من الوجع وقد زادني ذا الوقت أهل زماننا ... تعلقهم بالروث والضرس والودع وبالعين جحر النمل موط لصالح ... وبالبيض عظم الرأس في النخل والزرع معابيدهم شتى مقاصدهم شتى ... فكل له مولى إذا ناب من فجع ومهما أرادوا حاجة قصدوا لهم ... مقاماً وشيئاً من خرى الكلب والضبع وقالوابها تقضى معاضل أمرنا ... بقصد صحيح بالخضوع وبالخشع   1 أخرجه البخاري (7116) ومسلم (2906) من حديث أبي هريرة. 2 أخرجه مسلم (2907) من حديث عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فكم ذبحت للقبر خير ذبيحة ... وكم صار نذر للقبور من الفجع وكم سجدوا حول القبور لحاجة ... وكم راكع مهما أتاها وكم ينعي وكم هتفوا باسم المشايخ عندما ... رأوا ضرة بحراً وبرًّا من الفزع فكل ترى داع إلهاً لقصده ... إذا اشتدت الحاجات والكرب والجزع وهم قد نسوا خلاقهم مليكهم ... وخاضوا كما خاض الذي أول البدع وكل ما جرى مصداق قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر صلى الله عليه وسلم "أنه سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 متن الباب 23 باب: ما جاء في السحر وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102] . وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 50] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله: وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وعن جندب مرفوعاً: "حد الساحر ضربه بالسيف" رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف. وفي "صحيح البخاري" عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر. وصح عن حفصة رضي الله عنها: أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت، وكذلك صح عن جندب. قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة. الثانية: تفسير آية النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت، والفرق بينهما. الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس. الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي. السادسة: أن الساحر يكفر. السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب. الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر، فكيف بعده؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 شرح الباب 23 باب ما جاء في بيان السحر وأنواعه وحكمه أما حده وبيانه، فقال صاحب القاموس: السحر بالكسر هو ما دق مأخذه ولطف. وأما أنواعه فهو قولي وفعلي والكل يحصل به مقصود الساحر من تفريق أو تبديل أو تغيير أو اختلاف، ويتفرع من هذين النوعين فروع مستنكرة مستغربة ولولا أن الله تعالى من حكمته الباهرة يبطله إذا أتى به الساحر في مقام ادعاء النبوة لادّعى النبوة، لأن كل ما يفعله النبي بأمر الله معجزة له حقيقة يفعله الساحر مجازاً بالتخيلات كما قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} . [طه: 66] . فأثبت الله لها السعي من سحرهم، وثانياً: إن عمل الساحر ما يثبت بل يبطل كما قال تعالى: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} . [يونس: 81] . وقال تعالى: {مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} . [طه: 69] . وأما معجزة الأنبياء فلها حقيقة كما جرى بين موسى والسحرة فإنهم مع كثرتهم قيل أنهم سبعون ألفاً وألقوا ما ألقوا من الكيد أمر الله موسى أن يلقي عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون. وأما حكمه: فقيل: إنه كفر واستدلوا بقول الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . [البقرة: 102] . وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} . [البقرة: 102] . قلت: دلت الآيات على كفرية السحر لفظاً ومعنى ومقتضى أما اللفظ بقوله تعالى عن هاروت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وماروت: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} . [البقرة: 102] . أي بتعلمك السحر وفعله، فبقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} . [البقرة: 102] . فدل على أن اتباع السحر وتعلمه وفعله كفر؛ لأن الذي تر الشياطين على ملك سليمان هو السحر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد كفر" 1. وأما المقتضي فبقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} . [البقرة: 102] . أي من نصيب من الرحمة وذلك الشقاوة الأبدية التي ما يتصف بها إلا الكافر، وقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} . [النساء: 50] . قال عمر: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وقال جابر: الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد. ومما أخرج ابن أبي حاتم ابن عباس قال: إن هاروت وماروت هبطا إلى الأرض فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي وقالوا له: إنما نحن فتية فلا تكفر، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه البيهقي في سننه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قدمت على امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به، قالت: كان لي زوج فغاب عني فدخلت علي عجوز فشكوت لها فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك، فلما جاء الليل جائتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الأخر فلم يكن كثير حتى وقفنا ببابل فإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم   1 أخرجه النسائي (4090) من حديث عباد بن ميسرة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعاً به وإسناده لين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 السحر، فقالا: إنما نحن فتية فلا تكفري وارجعي إلى بلدك ولا تكفري فأبيت فقالا: إذاً اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا: فعلت فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئاً؟ قلت: لم أر شيئاً، فقالا: لم تفعلي ارجعي إلى بلدك ولا تكفري فأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ثم أتيت فذهبت فاقشعر جلدي وخفت ورجعت إليهما فقلت قد فعلت فقالا: ما رأيت فقلت لم أر شيئاً فقالا: كذبت لم تفعلي ارجعي إلى بلدك ولا تكفري فإنك على رأس أمرك فأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت وبلت فيه فرأيت فارساً مقنعاً بحديد فخرج عني حتى ذهب في السماء وغاب عني حتى ما أراه، وجئتهما فقلت: قد فعلت. فقالا: ما رأيت؟ فقلت: فارساً مقنعاً، خرج مني فذهب إلى السماء حتى ما أراه قالا: صدقت ذلك إيمانك خرج منك اذهبي، فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئاً، فقالت: بلى لم تريدي شيئاً إلا كان خذي هذا القمح فبذري فبذر وقلت اخلقي فخلقت ثم قلت افركي فأفركت ثم قلت: أيبسي فيبست ثم قلت اطحني فطحنت ثم قلت: اخبزي فأخبزت فلما رأيت أني لا أريد شيئاً إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئاً ولا أفعله أبداً فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ متوافرون فما دروا ما يقولون لها ولكهم خاف أن يفتيها بما لا يعلمه إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده لو كان أبواك حيين أو أحدهما فكانا يكفيانك. انتهى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالنا: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". 1وعن جندب مرفوعاً: "حد الساحر ضربة بالسيف" رواه الترمذي2 وقال: الصحيح أنه موقوف وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر، وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت وكذلك صح عن جندب قال أحمد: وصح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: في قتله فوائد: الأولى: يكون ردعاً وزجراً لأشباهه عن السحر الذي وهو كفر وفتنة. الثانية: أن بقتله يبطل السحر الذي فعله وذا مجرب فيكون قتله دواءً نافعاً للمسحور مما يجده في نفسه. الثالثة: أن تنقطع مادة الفاسد بقتله علماً وعملاً وتعليماً وفعلاً قطعاً.   1أخرجه البخاري (2766) ومسلم (89) من حديث أبي هريرة. 2 أخرجه الترمذي (1460) والطبراني في الكبير (1665) والحاكم (4/360) والبيهقي (8/126) من طريق إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن البصري عن جندب مرفوعاً، قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث، وإسماعيل بن مسلم البصري، قال وكيع: هو ثقة، ويروى في الحسن أيضاً، والصحيح عن جندب موقوفاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 متن الباب 24 باب: بيان شيء من أنواع السحر قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت". قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض، والجبت، قال: الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد ولأبي داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" المسند منه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد" رواه أبو داود، وإسناده صحيح. وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه". وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل أنبئكم ما الغضة؟ هي النميمة، القالة بين الناس" رواه مسلم. ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان لسحراً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فيه مسائل: الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت. الثانية: تفسير العيافة والطرق. الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر. الرابعة: أن العقد مع النفث من ذلك. الخامسة: أن النميمة من ذلك. السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 شرح الباب 24 باب في بيان شيء من أنواع السحر قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن حبان بن العلاء حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العيافة والطرق والطيرة من الجبت"، قال عوف: العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط في الأرض، والجبت قال الحسن: رنة الشيطان إسناده جيد1. قلت: العيافة على ما ذكرها أهل العلم زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها وهو من العرب كثير في أشعارهم يقال: عاف يعيف عيفاً إذا زجر وحدس وظن، وبنوا أسد يذكرون بالعيافة ويوصفون بها، قيل: إن قوماً من الجن تذاكروا أعيافهم فأتوهم فقالوا: ضلت ناقة فلو أرسلتم مهنا من يعيف فقالوا لغلامهم انطلق معهم فاستردفه أحدهم ثم ساروا فلقيهم عقاب كاسرة أحدى جناحيه فاقشعر جلد الغلام وبكى فقالوا: مالك؟ فقال: كسرت جناحاً ورفعت جناحاً وحلفت بالله صراحاً ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحاً، وأنشد التوربشتي وقال: تتحابى هدهد فوق بابه ... هدى وبيان بالجناح يلوح وقالوا حمامات فحم لقائها ... وطلح فسلت والمطي طليح وقال آخر: يغني الطائران ببين سلمى ... على غصنين من غرب وبان وقال آخر: جرت سنحا فقلت لها أجيري ... نوى مشهولة فمتى اللقاء السانح   1 أخرجه أبو داود (3907) وأحمد (3/477) قد وقع اختلاف كبير في تحديث اسم شيخ عوف، انظر تهذيب الكمال (1/474) والحديث حسنه النووي في رياض الصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 مما كانوا يمنون به أي قلت للنفس أجيري أي طفي حال نوى والمشمولة المكروهة من الشمال فإنهم يكرهونها لما فيها من البرد وذهابها بالغيم الذي فيه الحيا والخصب. والطرق هو الضرب بالحصى الذي تفعله النساء، وقيل: هو الخط في الرمل واقتصر في الفائق على الوجه الأول، وأنشد قول لبيد: لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ولا ... زاجرات الطير ما الله صانع والطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن هي التشاؤم بالشيء وهو مصدر تطير طيرة مثل تخير خيرة ولم يجيء من المصادر غيرهما وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظبا وغيرهما وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير من جلب نفع أو دفع ضرن فلا يصدنهم مما يتوجهون إليه من المقاصد أو من سواء السبيل والصراط المستقيم ما يجدونه في صدورهم من الوهم. قال ابن عباس: الخط يخط في الأرض كان نبي من الأنبياء يخط فيعرف بالفراسة بتوسط تلك الخطوط، قيل: هو إدريس، فمن وافق خطه في الصورة والحالة وهو قوة الخاط في الفراسة والعلم واعمل الموجبين لها فذاك مصيب، وذا محال، لأن خط ذاك النبي معجزة له ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "من وافق خطه فذاك" على سبيل الزجر معناه لا يوافق أحد خط ذلك النبي لأنه معجزة، قال: والخط هو ما يخط الحازي بالحاء المهلمة والزاي المعجمة الذي يحزر الأشياء ويقدرها بظنه ويقال للمنجم الحازي أيضاً لأنه ينظر في النجوم وأحكامها بظنه، والحازي هو الكاهن قال: والخط هو علم تركه الناس يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حلوناً فيقول: اقعد حتى أخط لك وبين يدي الحازي غلام له معه ميل ثم يأتي إلى أرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 لحكمة" 1. قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . [الشعراء: 224- 227] . كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة ومن سلك مسلكهم.   1 أخرجه أبو داود (5011) والترمذي (2845) وابن ماجه (3756) من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً. وسماك في روايته عن عكرمة اضطراب. وله شاهد من حديث أبي بن كعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 باب بيان شيء من أنواع السحر ... رخوة فيخط فيها خطوطاً بالعجلة لئلا يلحقها ثم يرجع فيمحو منها ما مهل خطين خطين وغلامه يقول للتفال: ابني عيان أسرعا لبيان فإن بقي خطان فهما علامة النجح وإن بقي خط واحد فهو علامة الخيبة، قال صاحب النهاية المشار إليه: علم معروف وللناس فيه تصانيف كثيرة ويستخرجون به الضمير وغيره على زعمهم هذا. قلت: كيف يتصور استخراج الضمير وغيره من الغيوبات وقد قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . [النمل: 65] . وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} . [الأنعام: 59] . وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} . [الجن: 26، 27] . قال صاحب الكشاف وقد بطل بهذه الآيات كرامات الأولياء بادعائهم الغيب فيه اللهم إلا أن يكون من نوع الفراسة لقوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" 1. قاله أكثر أهل العلم. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد"، رواه أبو داود وإسناده صحيح2. وللنسائي من حديث أبي هريرة: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل   1 أخرجه الترمذي (3127) من طريق عطية عن أبي سعيد. وضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه". قلت: وعطية هو ابن سعيد العوفي. 2 أخرجه أبو داود (3905) وابن ماجه (3726) من حديث ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 متن الباب 25 باب: ما جاء في الكهان ونحوهم روى مسلم في "صحيحه" عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً". وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود. وللأربعة، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، عن أبي هريرة "من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعاً: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو سَحر أو سُحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه البراز بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: "ومن أتى.." إلى آخره. قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ذلك وقيل: هو الكاهن. والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. وقال ابن عباس -في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم-: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق. فيه مسائل: الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. الثانية: التصريح بأنه كفر. الثالثة: ذكر من تكهن له. الرابعة: ذكر من تُطير له. الخامسة: ذكر من سحر له. السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد. السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعرَّاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 شرح الباب 25 باب ما جاء في الكهان ونحوهم الكهان جمع كاهن من كهن يكهن كهانة وهو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار وقد كان في العرب كهنة كشق وسطيح وغيرهما، فمنهم من كان يزعم أن له تابعاً من الجن ورئياً يبقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام يسأله أو فعله أو حاله وهذا يخصونه باسم العراف كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما. روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" 1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" 2 رواه أبو داود. وللأربعة، والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن أبي هريرة: "من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 3. ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً.   1 أخرجه مسلم (2230) وأحمد (4/68) . 2 أخرجه أبو داود (3904) والترمذي (135) وابن ماجه (639) من حديث أبي هريرة وله شاهد. 3 أخرجه أحمد (2/429) والحاكم (1/8) والبيهقي (8/135) من حديث أبي هريرة وله شاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وذلك أنه نزل على محمد: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} . [الأنعام: 59] . ونزل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . [النمل: 65] . ونزل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} . [الجن: 26، 27] . فنفى علم الغيب عمن سواه إلا إذا أراد شيئاً أن يظهره ورضي به أوحى حينئذ ذلك إلى من ارتضى من رسول معجزة له، فإذا علم ذلك ثم يأتي أحداً إلى كاهن أو عراف فسأله عن شيء فقال له كذا وكذا فصدقه فحينئذ كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أي بالآيات لأن الإيمان باجتماع الضدين محال كالنور والظلمة. وعن عمران بن حصين مرفوعاً: "ليس منا" أي ليس من اتباعنا الذين يقتفون أثرنا ويمتثلون بأمرنا " من تطير" لأنه ورد عنه صلى الله عليه وسلم "الطيرة شرك" 1. الحديث، وورد: "لا عدوى ولا طيرة" 2. وورد من حديث ابن عمر: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك" 3. فإذا علم ذلك ثم تطير فما تبع أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا امتثل بأمره صلى الله عليه وسلم. "أو تطير" وذلك لأنه ولو لم يفعله ولكن آمن بالطيرة واعتقدها ولولا ذلك لما رضي أن يتطير " أو تكهن" لأنه ارتكب المنهي ولا امتثل نهيه صلى الله عليه وسلم وما تبعه " أو تكهن له" لأنه ولو لم يفعله اعتقد صدقه، ومن صدق كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. "أو سحر" لفعله الكفر أي السحر "أو سحر له" لتصديقه بذلك "ومن أتى   1 أخرجه أبو داود (3910) والترمذي (1614) من حديث ابن مسعود. 2 أخرجه البخاري (5757) ومسلم (2222) من حديث أبي هريرة. 3 أخرجه أحمد (2/220) من طريق ابن لهيعة حدثنا ابن هبيرة عن أبي عبد الرحمن الحلبي عن ابن عمرو مرفوعاً. وإسناده ضعيف، ابن لهيعة كان قد احترقت كتبه فمن روى عنه قبل احتراق كتبه فحديثه صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" رواه البراز بإسناد جيد1. ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- دون قوله: "ومن أتى.." الخ2. قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل: هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق، وقال ابن عباس –في قوم يكتبون أباجاد قيل: معناه يكتبون أبجادهوز حطي كلمن إلخ ويظهرون من ذلك حسابات ومن الحسابات المجهولة من الأمور فيكون ذلك من نوع الكاهن والمنجم والرمال في ادعائه علم الغيب. وقيل: معناه أباجاد النجمة التي يقولون بزعمهم أنها تطلع أول الشهر من المشرق، ويوم الثاني تطلع بين المشرق والجنوب، والثالث في الجنوب والرابع بين الجنوب والقبلة، والخامس في القبلة، والسادس بين القبلة والشمال، والسابع في الشمال، والثامن بين   1 أخرجه البزار كما في المجمع (5/117) عن عمران بن حصين به، وقال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة". 2 أخرجه الطبراني في "الأوسط" كما في "المجمع" (5/117) من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً. وقال الهيثمي: "فيه زمعة بن صالح وهو ضعيف" لكن يتقوى بسابقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الشمال والمشرق، والتاسع في السماء، والعاشر في الأرض، ثم تدور على هذا الترتيب في الشهر ثلاث مرات، وإذا كانت في طرف فالسفر على ذلك الطرف ما يجوز حتى قالوا يون التاسع: ما يصعد إلى فوق؛ لمكانها في السماء ويم العاشر ما يضرب داء في الأرض لمكانها في الأرض فصار اعتقادهم أنها تنفع وتضر، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [الأنعام: 17] . وقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} . [آل عمران: 159] . ويحتمل أن يكون صاحب هذا متطيراً بالنجمة لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "الطيرة ما أمضاك أو ردك" 1.، وهذا قد ردته النجمة عن حاجته وينظرون في النجوم ويأخذون أمورهم ومقاصدهم بما يبين لهم على زعمهم من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد. "ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق".   1 أخرجه الإمام أحمد (1/213) من حديث الفضل بن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 متن الباب 26 باب: ما جاء في النشرة عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: "هي من عمل الشيطان" رواه أحمد بإسناد جيد وأبو داود1. وقد سئل أحمد عنها فقال: يكره هذا كله. وللبخاري عن قتادة قلت لابن المسيب: رجل به طب ويؤخذ عن امرأته يحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه، انتهى، وروي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر، قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور وهي نوعان: أحداهما: حله بسحر مثله وهو الذي من عمل الشيطان وعليه يحمل قول الحسن فينفر الناشر والمنشور إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة، فهذا جائز2.   1 أخرجه أبو داود (3868) وأحمد (3/294) من حديث جابر. 2 ساق الشارح -رحمه الله- هذا الباب. ولم يعلق عليه بشرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 متن الباب 27 باب: ما جاء في التطير وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131] . وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19] . عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر" أخرجاه. زاد مسلم: "ولا نوء، ولا غول". ولهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة؛ ويعجبني الفأل" قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة". ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك". وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل". رواه أبو داود، والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود. ولأحمد من حديث ابن عمرو: "من ردته الطيرة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 حاجة فقد أشرك" قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: "أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك". وله من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك. فيه مسائل: الأولى: التنبيه على قوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} مع قوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} . الثانية: نفي العدوى. الثالثة: نفي الطيرة. الرابعة: نفي الهامة. الخامسة: نفي الصفر. السادسة: أن الفأل ليس من ذلك بل مستحب. السابعة: تفسير الفأل. الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر بل يذهبه الله بالتوكل. التاسعة: ذكر ما يقوله من وجده. العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك. الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 شرح الباب 27 باب: ما جاء في التطير وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131] . وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19] . عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى" العدوى هنا مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره يقال: أعدى فلان فلاناً من حلقه أو من علة به، هذا على ما يذهب به المتطببة في عِلَلِ سبع: الجذام، والجرب، والجدري، والحصبة، والبخر، والرمد، والأمراض الوبائية. وقد اختلف العلماء في التأويل فمنهم من يقول: إن المراد منه نفي ذلك وإبطاله على ما يدل عليه ظاهر الحديث والقرآن، المسبوقة على العدوى وهم الأكثرون ومنهم من يقول: إنه لم يرد إبطالها فقد قال صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم، كما تفر من الأسد" 1. وقال: "لا يوردن ذو عاهة على مصح" 2 وإنما أراد بذلك نفي ما كان يعتقده أصحاب الطبيعة فإنهم كانوا يرون أن العلل المعدية مؤثرة لا محالة فأعلمهم صلى الله عليه وسلم بقوله هذا أن الأمر ليس على ما تتوهمون بل هو متعلق بالمشيئة إن شاء كان وإن لم يشأ لم يكن، ويشير إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن   1 أخرجه البخاري (5707) تعليقاً، وقد وصله أحمد في المسند (2/443) وهو صحيح وله شاهد من حديث عائشة. 2 أخرجه مسلم (2221) وأبو داود (3911) من حديث أبي هريرة مرفوعاً وفي رواية مسلم أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى" ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يورد ممرض على مصح". قال أبو سلمة: كان أبو هريرة يحدثهما كلتيهما ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله: "لا عدوى" وأقام على: "أن لا يورد ممرض على مصح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 أعدى الأول؟ ". أي إن كنتم ترون أن السبب في ذلك العدوى لا غير فمن أعدى الأول وبين بقوله ذلك من المجذوم وبقوله: لا يوردن ذو عاهة على مصح أن ملاقاة ذلك من أسباب العلة فليتقه اتقاء الجدار المائل والسفينة المعيوبة. وقد رد الفرقة الأولى على الثانية في استدلالهم بالحديثين أن النهي فيهما إنما جاء شفقاً على مباشرة أحد الأمرين فتصيبه علة في نفسه أو عاهة في إبله فيعتقد أن العدوى حق. قال الرازي: القول الثاني أولى التأويلين لما فيه من التوفيق بين الأحاديث الواردة فيه، ثم لأن القول الأول يفضي إلى تعطيل الأصول الطبية ولم يرد الشرع بتعطيلها بل ورد بإثباتها والعبرة بها على وجه لا يناقض أصول التوحيد ولا مناقضة في القبول في القول بها على الوجه الذي ذكرناه، وأما استدلالهم بالقرائن المسبوقة عليها فإنا قد وجدنا الشارع يجمع في النهي بين ما هو حرام وبين ما هو مكروه وبين ما هو منهي عنه لمعنى وبين ما ينهى عنه لمعان كثيرة ويدل على صحة ما ذكرناه قوله صلى الله عليه وسلم للمجذوم المبايع: "قد بايعناك فارجع" 1. في حديث الشريد بن سويد الثقفي وهو مذكور بعد قوله للمجذوم أخذ بيده فوضعها معه في القصعة كُلْ ثقة بالله وتوكلاً عليه ولا سبيل إلى التوفيق بين هذين الحديثين إلا من هذا الوجه يبين بالأول التوقي من أسباب التلف وبالثاني التوكل على الله فقوله: ارجع بايعناك رخصة لمن لم يكن له درجة التوكل أن يراعي الأسباب والله أعلم "ولا طيرة" وقد مضى تفسيره في باب ذكر العيافة والطرق والطيرة "ولا هامة" قال أبو داود في سننه قال: بقية سألت محمد بن راشد عن قوله: ولا هامة فقال: أهل الجاهلية كانوا يعتقدون ليس أحد يموت فيدفن إلا خرج   1 أخرجه مسلم (2231) من حديث الشريد بن سويد الثقفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 من قبره هامة هي بتخفيف الميم على المشهور، وقيل بتشديدها، وفيها تأويلان: أحدهما: أن العرب كانت تتشاءم بها وهي من طير الليل وقيل: هي البومة قالوا: كانت إذا سقطت على دار أحدهم فرآها ناعية له نفسه أو بعض أهله وهو تفسير مالك بن أنس، وثانيهما: كانت تعتقد أن عظام الميت، وقيل: روحه تنقلب هامة تطير وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور، ويجوز أن يكون المراد النوعين معاً وأنهما باطلان، "ولا صفر" 1 قال أبو داود في سننه: قال بقية سألت محمد بن راشد عنه قال: وكانوا يستشئمون بدخول صفر فقاله النبي صلى الله عليه وسلم قال: وسمعت من يقول هو وجع يأخذ في البطن يزعمون أنه يعدي قال أبو داود: وقال مالك: كان أهل الجاهلية يحلون صفر عاماً ويحرمونه عاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا صفر، وقيل: كانت العرب تعتقد أن في البطن دابة تهيج عند الجوع وربما قتلت صاحبها، وكانت العرب تراها أعدى من الجرب وهذا التفسير هو الصحيح وبه قال مطرف وابن وهب وأبو عبيد وغيرهم، وقد ذكره مسلم عن جابر بن عبد الله راوي الحديث فتعين اعتماده، قال الراغب: سمعت العرب يعنون بالصفر الذي هو بالجوف حية الجوف من حيث إنه يتألم به الجوف وذلك أن العرق الممتد من الكبد إلى المعدة إذا لم يجد غذاء امتص آخر المعدة فاعتقدت جهلة العرب أن ذلك حية في البطن يعض الشراسيف حتى نفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لا صفر، وأنشد الأعشى: لا يعمر الساق من أين ولا تعب ... ولا يعض على سرسوفه الصفر ويحتمل أن يكون نفياً لما يتوهم أن شهر صفر يكثر فيه الدواهي والفتن أخرجاه، زاد مسلم ولا نوء الأنواء منازل القمر وكانت   1 أخرجه البخاري (5757) ومسلم (2220) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 العرب تزعم أن كل نوء مطر ينسبونه إليه فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا وإنما سمي نوءًا لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب فالطالع بالمشرق ينوء أي ينهض ويطلع، وقيل: أراد بالنوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع وإنما غَلَّظَ النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأنواء لأن العرب تنسب المطر إليها "ولا غول" 1. الغول واحد الغيلان وهي جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس فيتغول تغولاً أو يتلون تلوناً في صور شتى وتغولهم أي تضلهم عن الطريق ويهلكهم فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله، وقيل: قوله غول ليس نفياً لعين الغول ووجوده وإنما إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله ويشهد له الحديث الآخر ولكن السعالي والسعالى سحرة الجن أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل ومنه الحديث: "إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان" 2 أي ادفعوا شرها بذكر الله تعالى وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها ومنه حديث أبي أيوب: كان لي نمرة في سهوة وكانت الغول تجيء فتأخذه. قال الطحاوي: ويحتمل أن الغول قد كان ثم دفعه الله تعالى عن عباده، وعن بعضهم: هذا ليس ببعيد لأنه يحتمل أنه من خصائص بعثه صلى الله عليه وسلم كما منع الشياطين من استراق السمع بالشهاب الثاقب، واعلم أن (لا) التي لنفي الجنس دخلت على المذكورات ونفت ذواتها وهي غير منفية فتوجه النفي إلى أوصافها وأحوالها التي هي مخالفة للشرع قال العدوي: والصفر والهامة والنوء موجود والمنفي ما زعمت الجاهلية   1 أخرجه مسلم (2220) بزيادة: لا نوء، من حديث أبي هريرة ومن حديث جابر (2220/107) بزيادة: لا غول. 2 رواه ابن عدي في "الكامل" (5/107) من حديث سعد بن مالك مرفوعاً وفي سنده عمرو بن عبيد بن باب البصري المعتزلي القدري، متهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 إثباتها فإن نفي الذات لإرادة نفي الصفات أبلغ لأنه من باب الكناية. ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل" قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة" 1. ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل ولا ترد الطيرة مسلماً عن حاجته لإيمانه بقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [الأنعام: 17] . فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك" 2. أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم أن إتيان الحسنات ودفع السيئات أن ذلك من الله تعالى لا من غيره وما يتطير به فلا يضر ولا ينفع ولا حول ولا قوة إلا بالله. وعن ابن مسعود مرفوعاً: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل". رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل آخره من قول ابن مسعود3. ولأحمد من حديث ابن عمر: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك،   1 أخرجه البخاري (5756) ومسلم (2224) من حديث أنس. 2 أخرجه أبو داود (3919) والبيهقي (8/139) من طريق حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن عامر مرفوعاً. قلت: وإسناده ضعيف فعروة ليس له صحبة، وقال ابن حجر في التهذيب (7/185) : والظاهر أن رواية حبيب عنه منقطعة. 3 أخرجه أبو داود (3910) والترمذي (1614) وابن ماجه (3538) وأحمد (1/389، 438) من حديث ابن مسعود. وهو صحيح. وقوله: "وما منا إلا ولكن ... " مدرج كما قال سليمان بن حرب. رواه الترمذي، انظر: الفتح (10/213) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك" 1. وله من حديث الفضل بن العباس:: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك" 2. فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيرة وفسرها بقاعدة كلية يُفْهَمُ منها أن كل شيء أمضاك وجرأك على أمر أو ردك ومنعك عنه فذاك الطيرة، ومن مضى أو امتنع بسببها فقد أشرك.   1 أخرجه أحمد (2/220) وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (293) من حديث ابن عمر به، وفي سنده ابن لهيعة. قلت: وإسناده ضعيف، ابن لهيعة كانت قد احترقت كتبه فمن روى عنه قبل احتراق كتبه فأحاديثه صحيحة وإلا فلا. 2 أخرجه أحمد (1/213) من طريق ابن علاثة عن مسلمة الجهني عن الفضل بن عباس به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 متن الباب 28 باب: ما جاء في التنجيم قال البخاري في "صحيحه": قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك اخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. أ. هـ. وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق. وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر" رواه أحمد وابن حبان في صحيحه. فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق النجوم. الثانية: الرد على من زعم غير ذلك. الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل. الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 شرح الباب 28 باب ما جاء في التجيم قال البخاري في "صحيحه": قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجوماً للشياطين. قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} . [الملك: 5] . وعلامات يهتدى بها. قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . [النحل: 16] . فمن تأول فيها غير ذلك اخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، انتهى. وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر" رواه أحمد وابن حبان في صحيحه1. واقتباس شعب النجوم كاقتباس شعب السحر فمصدق المنجم فيما يقول في الغيوب كمصدق السحر لحديث أبي داود: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد" 2.   1 أخرجه أحمد (4/339) وابن حبان (1380) من حديث أبي موسى الأشعري. 2 أخرجه أبو داود (3905) وابن ماجه (3726) من حديث ابن عباس مرفوعاً. وتقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 متن الباب 29 باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] . عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب". رواه مسلم. ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب". ولهما من حديث ابن عباس بمعناه وفيه قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآيات: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] . إلى قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] . فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الواقعة. الثانية: ذكر الأربع من أمر الجاهلية. الثالثة: ذكر الكفر في بعضها. الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة. الخامسة: قوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" بسبب نزول النعمة. السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع. السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع. الثامنة: التفطن لقوله: "لقد صدق نوء كذا وكذا". التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها، لقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم؟ ". العاشرة: وعيد النائحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 شرح الباب 29 ما جاء في الاستسقاء بالأنواء وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] . أي تجعلون شكر رزقكم وما أنعم الله عليكم أنكم تكذبون تنسبونه إلى غيره كنسبة المطر إلى الأنواء وأشباه ذلك. عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمور الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب". رواه مسلم1. ولهما عن زيد بن خالد قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب"2. فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن من نسب نعمة الله   1 أخرجه مسلم (934) من حديث أب مالك. 2 أخرجه البخاري (846) ومسلم (71) من حديث زيد بن خالد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 إلى غيره فقد كفر كفر جحود النعمة لا جحود الحق بمعنى أنه نسب نعمة الله إلى غيره فكأنه جحده فيكون كفراً دون كفر فإن جحود الحق يخرجه من الإسلام وهذا لا يخرجه. ولهما من حديث ابن عباس وفيه قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} إلى قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 75-82] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 متن الباب 30 باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] . وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} . إلى قول تعالى: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 25] . عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" أخرجاه. ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"، وفي رواية: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ... " إلى آخره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا. رواه بن جرير، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] قال: المودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال. الرابعة: أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام. الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها. السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها. السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا. الثامنة: تفسير: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} . التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حباً شديداً. العاشرة: الوعيد على من كانت الثمانية أحب إليه من دينه. الحادية عشرة: أن من اتخذ ندًّا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 شرح الباب 30 باب ما جاء في بيان المحبة وأنواعها المأمور بها والمنهي عنه واعلم أن أنواع المحبة التي تنسب إلى الله: محبة لله، ومحبة في الله، ومحبة مع الله. فالمحبة التي لله: محبته ومحبة ما يحبه من النيات والأقوال والأفعال. والمحبة التي في الله: محبة من يحبه الله كالأنبياء والمرسلين وعباده الصالحين. وأما المحبة التي مع الله فهي المحبة الشركية التي ذكرها في كتابه المنهية عنها وذلك قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} . [البقرة: 165] . أخبر الله تعالى أن المشركين كانوا يحبون مع الله أنداداً ويساوونهم معه في المحبة كما قال تعالى عنهم وهم في النار: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . [الشعراء: 96-98] . قال أبو العباس ابن تيمية: أي في المحبة. ثم ذكر أن المؤمنين أشد حبًّا لله. واعلم أن المحبة تستلزم الطاعة ولا بد كما هو المعلوم بالضرورة فمن يدعي محبة الله يلزمه طاعته في متابعة رسوله كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . [آل عمران: 31] . فمخالفة الله ورسوله تخل بالمحبة وتقدح فيها وكلما زادت المخالفة والمعاصي على قدر بعدها من محبة الله وقرب من عداوته حتى تؤول إلى الشرك والكفر كما ورد: المعاصي بريد الكافر، فالمخالف إذا ادعى المحبة فليس بصادق: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا وربي في القياس شنيع لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 فإذا علمت ذلك فالمخالف على قدر خلفه خرج عن أمر الله وفسق وصار عند الله من الفاسقين وذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . [التوبة: 24] . فمن لم يهاجر إلى الله ورسوله لأجل هذه الأنواع أو بعضها عن بلد الكفر أشعر ذلك أنه أحبها على الله ورسوله فحينئذ ينتفي منه الإيمان الحقيقي. عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 1. ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله رسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"، وفي رواية: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى" إلخ2. وأيضاً تستلزم المحبة: الحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، كما هو المشاهد المتعارف شرعاً وعرفاً ومن لم يكن كذلك فليس بصادق في محبته ولو فعل ما فعل من الطاعة. عن ابن عباس: من أحب في الله وأبغض في الله   1 أخرجه البخاري (15) ومسلم (44) من حديث أنس. 2 أخرجه البخاري (16) (6041) ومسلم (43) من حديث أنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا. رواه بن جرير1. تنبيه: كل محبة كانت على أمر الدنيا لا لله تنقطع يوم القيامة ويتبرأ كل من صاحبه وخليله إلا المحبة التي في الله، ولله، فتلك المحبة تثبت. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] قال: المودة. وقال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} . [الزخرف: 67] .   1 أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (396) وابن المبارك في الزهد (353) من طريق ليث عن مجاهد عن ابن عباس به. ليث بن أبي سليم ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 متن الباب 31 باب: قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] . وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 19] . وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] . عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: "إن من ضعف اليقين: أن ترضى الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره". وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" رواه ابن حبان في "صحيحه". فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: تفسير آية العنكبوت. الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث. السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض. السابعة: ذكر ثواب من فعله. الثامنة: ذكر عقاب من تركه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 شرح الباب 31 باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] . وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 19] . واعلم أن الخوف خوفان: الأول: خوف من الله وهذا الذي هو أحد جناحي طير الإيمان فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، وهذا هو المأمور به وهو علامة الإيمان كما قال تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . [آل عمران: 175] . الثاني: خوف مع الله بمعنى أنك تخاف من غيره مثل خوفه أو أشد كما ذكر الله في شأن المنافقين إذ هم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وهذا الخوف هو الخوف الشركي المنهي عنه الذي صاحبه يخلد في النار ولا يكون هذا إلا عدم إيمانه بالله وعظمته وجلاله وقهريته وملكوتيته على جميع الخلق وقد ذم الله الذين جعلوا فتنة الناس كعذاب الله في وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] . ومعلوم بالضرورة أنه إذا لاحظ ما يجري عليه من محن الناس وفتنتهم عند نطقه بالحق وجعله كعذاب الله سواء حينئذ أرضاهم بسخط الله فيسخط عليه الله ويسخط عليه الناس. عن أبي سعيد مرفوعاً: "إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله وأن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 حريص ولا يرده كراهية كاره" 1. وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" رواه ابن حبان في "صحيحه"2.   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/106، 10/41) والبيهقي في الشعب (207) من طريق أبي عبد الرحمن محمد بن مروان العبدي عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد به. وإسناده ضعيف، قال البيهقي: "محمد بن مروان ضعيف". وعطية ضعيف أيضاً. 2 أخرجه ابن حبان (276) من طريق عثمان بن واقد العمري عن أبيه عن محمد بن المنكدر عن عروة عن عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 متن الباب 32 باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 26] . وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] . وقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] . وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] . قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] رواه البخاري والنسائي. فيه مسائل: الأولى: أن التوكل من الفرائض. الثانية: أنه من شروط الإيمان. الثالثة: تفسير آية الأنفال. الرابعة: تفسير الآية في آخرها. الخامسة: تفسير آية الطلاق. السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم في الشدائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 شرح الباب 32 باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 26] . التوكل من منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ومن أرفع درجات الإيمان. وقوة الإيمان وضعفه بقوة التوكل وضعفه. والتوكل هو الاعتماد على الله في جلب منافعه ودفع مضاره. وهذا أمر يختص لله تعالى، ومنحصر عليه، فمن توكل على غيره أشرك الشرك الأكبر الذي يَخْلُدُ صاحبه في النار إن مات عليه. أما اختصاصه لله فلتقديم الجار والمجرور على العامل وهو: وعلى الله فتوكلوا. وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر أي لا توكلوا إلا عليه. وأما شرك من توكل على غيره فلأنه عبادة لله فمن جعلها لغيره أشرك في العبادة. فالمؤمن شأنه التوكل على الله في جميع أموره والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة منها قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] . وذلك لأن المؤمن يعلم علم اليقين أنه لا يتحرك متحرك ولا يجري أمر إلا بإرادته وأمره فقطع العلائق عن الخلائق لعدم قدرتهم على شيء، وتوكل على الله وحده لقدرته الكاملة على كل شيء فهو حسبه وكافيه وذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] . عن ابن عباس قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] . قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 173، 174] . فالتوكل معظم منازل السائرين إلى الله تعالى معتمدين عليه فيما ينوبهم لا ينظرون إلى غيره لعلمهم أنه الكافي في جميع أمروهم فهو حسبهم {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 متن الباب 33 باب: قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 98] . وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] . عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر، فقال: "الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله". وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله" رواه عبد الرزاق. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الأعراف. الثانية: تفسير آية الحجر. الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله. الرابعة: شدة الوعيد في القنوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 شرح الباب 33 باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] . الأمن من مكر الله: اطمئنان القلب بعدم عقوبة الله وعدم مراقبتها والغفلة عنها، وهو على معاصي الله، ومساخطه فلا يحذر الله فيما هو عليه ولا يخافه فكأنه شك أو أنكر اسمه القهار وأن يكون له مظهر فإذا ما تدركه العقوبة فإذا هو من الخاسرين كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . [الأنعام: 44، 45] . فالأمن من مكر الله من المهالك التي لا نجاة منها إلا بفضل الله ورحمته، وكذلك القنوط من رحمة الله لما يرى من رداءة نفسه وقلة طاعته له فييأس حينئذ من رحمته وذلك من المهالك لأنه يقنط من رحمته الواسعة ولم يتدارك لما فاته من التلف ولم يرجو الله في توفيقه إياه على ما يحب ويرضى وعفوه عما مضى، فكأنه شك أو أنكر اسمه الغفور الرحيم العفو وأن يكون له مظهر فما يضل عن صراط الله الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم وهدى عليه أوليائه وقد نبه الله على القنوط من رحمة الله من الموبقات بقوله: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] . وفي الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر قال: "الشرك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله" 1. وفي آخر عن ابن   1 أخرجه البزار (106/كشف الأستار) من حديث شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 مسعود قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله" رواه عبد الرزاق1. الرَّوْحُ: أخص من الرحمة؛ لأن الرحمة عامة في الدنيا كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} . [الأعراف: 156] . وأمَّا رَوْحُهُ فلأوليائه في دار الدنيا. وأما الآخرة فالرحمة مختصة بالمؤمنين ولكن شاملة للمقربين وأصحاب اليمين. وأما رَوْحُهُ فللمقربين خاصة قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} . [الواقعة: 88-91] ..   1 أخرجه عبد الرزاق (10/459، 460) والطبراني في الكبير (8783) من طرق عن ابن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 متن الباب 34 باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] . قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت". ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية". وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط" حسنه الترمذي. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية التغابن. الثانية: أن هذا من الإيمان بالله. الثالثة: الطعن في النسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية. الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير. السادسة: إرادة الله به الشر. السابعة: علامة حب الله للعبد. الثامنة: تحريم السخط. التاسعة: ثواب الرضي بالبلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 شرح الباب 34 باب في بيان ما جاء أن من الإيمان الصبر على أقدار الله وذلك لأن المؤمن يعلم علم اليقين أن الله تعالى لا يفعل إلا الذي يصلح عباده ولو جهل الإنسان مورده ومصدره فإنه في الإصلاح قطعاً وأنه خير له قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} . [النساء: 19] . وقال: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 216] . فالمؤمن يؤمن بذلك كله ويسلم الأمر إلى الله. قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعاً وهو واجب بإجماع الأمة وهو نصف الإيمان فالإيمان نصفان: نصفه صبر ونصفه شكر وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضياء. وفي الحديث الصحيح: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وإن أصابته سراء فشكر فكان خيراً له وما ذلك إلا للمؤمن" 1. وقال للمرأة السوداء التي تصرع فسألته أن يدعو لها قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، فقالت: إذاً فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها" 2. وأمر الأنصار أن يصبروا على الفتن التي يلقونها بعده حتى يلقوه على الحوض، وأمر عند ملاقاة العدو بالصبر وعند المصيبة وأخبر أن الصبر عند الصدمة الأولى، وأمر المصاب بأنفع الأمور له وهو الصبر والاحتساب بأن ذلك يخفف مصيبته ويثبت أجره والجزع والسخط   1 أخرجه مسلم (2999) من حديث صهيب. 2 أخرجه البخاري (10/99) ومسلم (2576) من حديث ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 والتشكي يزيد المصيبة ويذهب الأجر، وأخبر أن الصبر خير له. وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان بالناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" 1. ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" 2. واعلم أن المصائب لِحِكَمِ لا يعلمها إلا هو لا إله إلا هو إما لتكفير السيئات، وإما لرفع الدرجات، وإما لاستخبار هل هو صادق فيما يدعي من الإيمان أم كاذب قال تعالى: {آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . [العنكبوت: 1-3] . وفي الحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا" 3 أي لتصفيته من غش الذنوب والمعاصي بكير الامتحان. " وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله تعالى إذا أحب قوماً   1 أخرجه مسلم (67) من حديث أبي هريرة. 2 أخرجه البخاري (1294) ومسلم (103) من حديث ابن مسعود. 3 أخرجه الترمذي (2396) والبغوي في "شرح السنة" (5/245) من طريق سعد بن سنان عن أنس به. وسعد حسن الحديث وله شاهد من حديث عبد الله بن مغفل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط" حسنه الترمذي1.   1 أخرجه الترمذي (2396) وابن ماجه (4031) من طريق سعد بن سنان عن أنس به، وإسناده حسن وله شاهد من حديث محمود بن لبيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 متن الباب 35 باب: ما جاء في الرياء وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] . عن أبي هريرة مرفوعاً: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه". رواه مسلم. وعن أبي سعيد مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ " قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزيّن صلاته، لما يرى من نظر رجل". رواه أحمد. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الكهف. الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله. الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى. الرابعة: أن من الأسباب، أنه تعالى خير الشركاء. الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء. السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 شرح الباب 35 باب ما جاء في الرياء وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . [الكهف: 110] . دلت هذه الآية مطابقة وتضمناً والتزاماً على فوائد جليلة: الأولى: أن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأموال ولكن ينظر إلى القلوب العامرة، قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} . [سبأ: 37] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 1. وفي رواية: "ولكن ينظر إلى القلوب العامرة". الثانية: دلت على عمومية الحكم والأمر لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} . [الكهف: 110] . الثالثة: الإيمان الحقيقي الذي لا يزلزله شيء لأن الإيمان الذي لا ثبا له لا ينفع معه العمل. الرابعة: الإيمان باليوم الآخر لقوله تعالى: لقاء ربه. الخامسة: الإيمان بالرسول والكتاب لقوله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} . [الكهف: 110] . والصالح لا يكون إلا على ما أمر الله تعالى وأمر الله لا يتصور إلا بإرسال رسول معه كتاب من ربه فيه أوامره ونواهيه. السادسة: الإيمان بالملائكة والأنبياء والرسل الذين من قبل والكتب لأنه منها أمره بالرسول المرسل والقرآن المنزل لزمه الإيمان بذلك كله لأنها مذكورة فيه وذكره الرسول صلى الله عليه وسلم فالإيمان بهذه الأمور أصل الأعمال الدينية وهو كما قال الحسن: "ليس الإيمان بالتحلي ولا   1 أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 بالتمني بل ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال" أي أعمال الجنان واللسان والأركان؛ ولذا عقب الله تعالى العمل الصالح بفاء التفريع أي من كان يرجو لقاء ربه فليعمل فذلك دليل إيمانه صادقاً محققاً. والعلم الصالح جنس يشمل أعمال الجوارح كلها فينبغي لداعي الإيمان: نية خالصة، وعمل خالص من الرياء، ولسان صادق، وأفعال جميلة، وسمت مرضي، وخلق حسن، وطريقة مستقيمة، وسيرة مديمة وبصيرة قوية، وذكر كثير، وتفكر وتدبر. أما النية قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} . [الشورى: 20] . وأما العمل الخالص قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . [الزمر:2، 3] . وأما اللسان الصادق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} . [التوبة: 119] . وأما الأفعال الجميلة قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . [التوبة: 71] . وأما السمت المرضي قوله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} . [الشورى: 36- 39] . وأما الخلق الحسن قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} . [الفرقان: 63] . وأما السيرة الدائمة قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . [فصلت: 30] . وأما الطريقة المستقيمة فمبناها على البصيرة القوية والبصيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 القوية مبناها على العلم اليقيني وقد ذكرها الله على الترتيب قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . [الحج: 54] . فبين الله أمه لا يعلم الحق من الباطل ولا يميزه إلا الذين أوتوا العلم فيستبصر بالبصيرة النافذة القوية حينئذ بين الحق والباطل ويخبت له قلبه، ثم بين أن ذلك هو الصراط المستقيم. وأما الذكر قوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} . [الأحزاب: 35] . وأما التفكر قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . [آل عمران: 190، 191] . ولما كان أصل الأعمال الدينية كلها التوحيد والإخلاص الذي لا يشوبه شرك قال تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . [الكهف: 110] . والشرك أكبر وأصغر، فالأكبر يحبط الأعمال كلها كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [الزمر: 65] . وأما الشرك الأصغر فهو الرياء والسمعة والتصنع للناس في الأعمال الدينية، فذا يحبط العمل الذي راءى فيه أو سمع فيه لا غير. عن أبي هريرة مرفوعاً: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه". رواه مسلم1. وعن أبي سعيد مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من   1 أخرطه مسلم (2985) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 المسيح الدجال؟ قالوا: بلى، قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" 1.   1 أخرجه أحمد (3/30) وابن ماجه (4204) من طريق بن زيد عن ربيح بن أبي سعيد عن أبيه عن جده قلت: وربيح ضعيف. والحديث من قوله: "الشرك أخفى" له شاهد من حديث محمود بن لبيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 متن الباب 36 باب: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا وقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] . وفي "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع ". فيه مسائل: الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة. الثانية: تفسير آية هود. الثالثة: تسمية الإنسان المسلم: عبد الدينار والدرهم والخميصة. الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الخامسة: قوله "تعس وانتكس". السادسة: قوله: "وإذا شيك فلا انتقش". السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 شرح الباب 36 باب في بيان ما جاء أن من الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار ولا ينجي منه إلا من أراد الله نجاته وهو الشرك في النية. قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهو البحر الذي لا ساحل له وقل من ينجو منه فمن أراد بعمله غير وجهه أو نوى شيئاً غير التقرب لله وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته والإخلاص أن يخلص لله في أفعاله وأقواله وإرادته ونياته وهذه هي في الحقيقة ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم ولا يقبل من أحد غيرها وهي حقيقة الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فهو في الآخرة من الخاسرين، وهي ملة إبراهيم التي من رغب عنها فقد سفه نفسه" انتهى كلامه -رحمه الله-. فإذا ثبت أن من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا فلتنظر نفس ما هي عليه حتى تتدارك نفسها بالانكسار بين يد الله والتضرع إليه؛ لأنه ينجبه من هذا الأمر العظيم والخطب الجسيم ويدل على ذلك قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . [هود: 15، 16] . ونطقت السنة بذلك أيضاً في الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة" –وهو ما يلبس- تعس عبد الخميلة –وهو ما يفرش- إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط أي سخطه ورضاه لأطماع الدنيا إن حصلت رضي وإن لم تحصل سخط قاطعاً النظر عن رضى الله وسخطه فصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 عبد الدينار والدرهم الخميصة والخميلة بهذه الحيثية فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على من هذا حاله فقال: - تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش -1. ثم بين صلى الله عليه وسلم حال عبد الله الصادق أنه يسعى في مراضي الله ويبتعد عن مساخطه ولو في ذلك مشقة النفس: "طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع" 2.   1 أخرجه البخاري (2886) من حديث أبي هريرة. 2 وأيضاً أخرجه أحمد (1/338) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 متن الباب: 37 باب: من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . [النور: 63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. عن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] . فقلت له: إنا لسنا نعبدهم قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلّون ما حرم الله، فتحلونه؟ " فقلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم" رواه أحمد، والترمذي وحسنه. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النور. الثانية: تفسير آية براءة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي. الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان. الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 شرح الباب 37 باب ما جاء في بيان أن من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله لجعله إياهم المطاعون في مخالفة الله والتغيير حكمه ولما كان الأمر عظيم الخطر قال ابن عباس -رضي الله عنه- لناس قابلوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر لتضمن ذلك تغيير حكم الله ورسوله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله تعالى: يوشك أي حري وقريب أن تنزل عليكم حجارة من السماء غضباً من الله تعالى عليكم ومقتاً أقول قال رسول الله الذي خلق الكون كله وكل عبده تحت قهره وأمره وتصريفه له الملك وله الحمد وله الخلق وله الأمر ومع هذا تقابلون قول رسوله صلى الله عليه وسلم بقول غيره وتقولون قال أبو بكر وعمر. قلت: فإذا كان هذا المقت العظيم فيمن يقابل قول رسول صلى الله عليه وسلم بقول خليفته أبي بكر وعمر فكيف بمن يقابل قول الله وقول رسوله بغيرهما؟ ويرد حكم الله ورسوله بقول غيرهما؟ وقال أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته وعلموا أنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عندهم ومع ذلك يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . [النور: 63] . أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله بقول غيره أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، وذلك لأنه ربما استحسن قولاً عن قوله صلى الله عليه وسلم فيخرج عن الإيمان، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . [النساء: 65] . أي تطمئن قلوبهم بحكمك ويعلموا أنه الحق وما بعده الضلال، فإن شك في نفسه فلا إيمان له ولا إسلام. عن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] . قلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: أليسوا يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى. قال صلى الله عليه وسلم فتلك: عبادتهم1. قلت: فإذا نظرت ما جرى في هذا الزمان رأيت من تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله ما كما قيل يتسع الخرق على الراقع وأعظم من ذلك أن أكثر الناس أطاعوهم ويحسبون أنهم مهتدون وإذا تلوت عليهم آيات الله وأحادث رسوله استنكروه وقالوا ما نترك فعل آبائنا لما تقول كما قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} . [سبأ: 43] . وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى.   1 أخرجه الترمذي (3095) والبيهقي (10/116) والمزي في تهذيب الكمال (2/109) من طريق غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد بن عدي مرفوعاً، وقال الترمذي: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث". وضعفه الدارقطني وله شواهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 باب قول الله تعالى {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ... متن الباب 38 باب: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . [النساء: 59] . وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} . [البقرة: 11] وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} . [الأعراف: 56] . وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} . [المائدة: 50] . عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح. وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة؛ فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد-لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة- وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود -لعلمه أنهم يأخذون الرشوة- فاتفقا أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء: 60] . وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت. الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} . الثالثة: تفسير آية الأعراف {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} . الرابعة: تفسير {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} . الخامسة: ما قاله الشعبي في سبب نزول الآية الأولى. السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب. السابعة: قصة عمر مع المنافق. الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 شرح الباب 38 باب في بيان أن من آمن بالله ورسوله وما أنزل إليه حقًّا وصدقاً لم يتحاكم إلى الطاغوت ومن تحاكم إليهم من الكهنة والسحرة وأشباههم مطمئناً بهم مصدقاً قولهم فليس بمؤمن ويدل على ذلك قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} . [النساء: 60] . وذلك لزعمه أن حكم الطاغوت أصلح ولا يعلم المطبع على قلبه أن غير الحق هو الإفساد ويدل على ذلك قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} . [البقرة: 11] . وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} . [الأعراف: 56] . وذلك لأنه رغب عن حكم الإسلام الذي ارتضاه الله في آخر الزمان وبغى حكم الجاهلية قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} . [المائدة: 50] . وفي الحديث عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" 1، قال النووي: حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح، وقال الشعبي2: كان بين رجل من المنافقين   1 أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/12) والخطيب في تاريخه (4/369) والبغوي في "شرح السنة" (1/212) من طريق نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمر. 2 أخرجه الطبري (5/97) عن الشعبي مرسلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وبين رجل من اليهود خصومة فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد. عرف أنه لا يأخذ الرشوة ولا يميل في الحكم، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود. لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ويميلون في الحكم فاتفقا على أن يأتيا كاهناً من جهينة فيتحاكما إليه فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] . وقيل: نزلت في رجلين اختصما فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف ثم ترافعا إلى عمر ثم ذكر له أحدهما القصة فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله1. فيارب يسر صولة عمرية ... لنا كي يمضي الوحي في الناس شائعاً ويردع من يبغي الجهالة حكمها ... ولم يك للوحيين في الحكم سامعا فكم من ترى في زي علم وهمة ... يصد عن الوحيين في الدين بادعا فلا لكتاب الله يصغي سماعه ... ولا للذي قال الرسول مطاوعا فيا رب عجل بالذي ينصر الهدى ... بآياتك الفصحى سيوفاً قواطعا كما كان في وقت الرسول محمد ... عليه صلاة الله ما البدر لا معا   1 علقه الواحدي في أسباب النزول (ص 107- 108) والبغوي في معالم التنزيل (1/552) عن الكلبي عن أبي صالح باذام عن ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 متن الباب 39 باب: من جحد شيئاً من الأسماء والصفات وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 32] . وفي "صحيح البخاري" قال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ". وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: أنه رأى رجلاً انتفض -لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات، استنكاراً لذلك- فقال: "ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه" انتهى. ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر: {الرَّحْمَنِ} أنكروا ذلك. فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 32] . فيه مسائل: الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات. الثانية: تفسير آية الرعد. الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع. الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر. الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئاً من ذلك، وأنه هلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 شرح الباب 39 باب ما جاء في بيان أن من جحد شيئاً من الأسماء والصفات التي تثبت بالكتاب والسنة يكفر بالاتفاق إن كان غبر مؤولٍ وإن كان مؤولاً فيه الاختلاف: فالنوع الأول: قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} . [الرعد: 32] . حكاية عن كفار قريش أنهم أنكروا على الرسول صلى الله عليه وسلم صفة الرحمن قالوا: أما الرحمن فلا نعرفه فقل مثل ما كنا نقول سبحانك اللهم. فالعالم العارف ينبغي أن يحدث الناس بما يدخل في عقولهم لئلا يكذبوا الله ورسوله ولا ينكروا شيئاً مما ثبت عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يأتي بما ينكروه إلا بعد مقدمات تنبيه وتوضحه لهم في صحيح البخاري قال علي -رضي الله عنه-: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله1. والنوع الثاني: وروى عبد الرزاق عن معمر عن طاووس عن أبيه عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال: ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه2 انتهى. ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر: الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 32] . ومن هؤلاء الجهمية، وفروخ الأشاعرة، والمعتزلة، ومن شابههم. وقد ورد أن في الحديث محكم ومتشابه كما في القرآن محكم ومتشابه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ   1 أخرجه البخاري (127) عن علي. 2 أخرجه عبد الرزاق (20895) بنحوه، وابن أبي عاصم (485) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . [آل عمران: 7] . فبين الله أن من الآيات محكمات هن أم الكتاب في اتخاذ الأمر والنهي منها والعمل بها وأخر متشابهات أنزلها الله لحكمة لا يعلمها إلا هو، فأما الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله أي المتشابه إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا أي أنهم يؤمنون بالكل أنه منزل من الله لكن المحكم يعملون به والمتشابه يكلونه إلى الله فكذلك الحديث ما هو محكم يلزم العمل به وما هو متشابه نؤمن به ونكل معناه إلى الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 متن الباب 40 باب: قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83] . قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي. وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا. وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا. وقال أبو العباس -بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: "إن الله تعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر.." الحديث، وقد تقدم -وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير. فيه مسائل: الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها. الثانية: معرفة أن هذا جارٍ على ألسنة كثير. الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة. الرابعة: اجتماع الضدين في القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 شرح الباب 40 باب ما جاء في بيان أن من نسب نعم الله إلى غيره فقد كفر كفر النعمة وهو كفر دون كفر وذلك قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} . [النحل: 83] . قال مجاهد: ما معناه هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي، وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا، وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا. وذلك لأنه تعالى هو مسبب الأسباب، ومقدر الأقدار، وهو المعطي، المانع، النافع، الضار، لا مضاد لأمره، ولا معقب لحكمه، يفعل ما يشاء، ويختار، بيده ملكوت كل شيء لا إله إلا هو، فكيف ينسب نعمه إلى غيره من مخلوقاته؟ وهذه كفر في الجملة. وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" الحديث1 وقد تقدم وهذا كثير في الكتاب والسنة. يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به، قال بعض السلف: هو قولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جارٍ على الألسنة. انتهى كلامه رحمه الله.   1 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 متن الباب 41 باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 22] . قال ابن عباس في الآية: الأنداد: "هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل؛ وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلاناً هذا كله به شرك" رواه ابن أبي حاتم. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم. وعن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" رواه أبو داود بسند صحيح. وجاء عن إبراهيم النخعي، أنه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر بأنها تعم الأصغر. الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك. الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقاً، فهو أكبر من اليمين الغموس. الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 شرح الباب 41 باب في بيان أن لفظ الند يشمل الشرك الأكبر والأصغر والخفي والكل ظلم وذميم عند الله والكل يوجب السخط من الله والعقاب، والشرك من حيث هو هضم لجناب الربوبية ومساواته تعالى مع غيره في الألوهية من أكبر الكبائر وأقبح القبائح وأشنع الشنائع. وينبه على ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 21، 22] . قال ابن عباس في الآية: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي وتقول لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. وذلك لأن الواو تفيد الجمعية كما تقول جاء زيد وعمرو فالمفهوم من هذا أنهما جاءا جميعاً، فإذا قلت ما شاء الله وشئت أو لولا الله وفلان فقد جعلتهم في المشيئة ودفع المضار سواء لا تجعل فيها فلاناً لأن هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم1. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" رواه   1 أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/57) من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الترمذي وحسنه1 وصححه الحاكم. وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً وذلك لأن الحلف بالله كاذباً معصية يغفرها الله لمن شاء، والحلف بغير الله ولو كان صادقاً فهو شرك، والشرك لا يغفره الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" رواه أبو داود بسند صحيح2. وذلك لأن ثم بتأخير الرتبة والانفصال. قال ابن مالك: الواو للترتيب باتصال وثم للترتيب بانفصال فإذا قلت: جاء زيد ثم عمروا. فهم منه أن رتبة عمرو في المجيء متأخرة عن زيد. وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك ويقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان ولا تقولوا: لولا الله وفلان.   1 أخرجه أبو داود (2251) والترمذي (1535) وأحمد (2/34، 86) من حديث عمر. 2 أخرجه أبو داود (4980) وأحمد 5 (/384) والبيهقي (3/216) من حديث حذيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 متن الباب 42 باب: ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض. ومن لم يرض فليس من الله"، رواه ابن ماجه بسند حسن. فيه مسائل: الأولى: النهي عن الحلف بالآباء. الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى. الثالثة: وعيد من لم يرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 شرح الباب 42 باب: ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله ما قدر الله حق قدره واستوجب الوعيد الشديد. عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق -لأنه حلف بالله العظيم الجبار القهار الذي ليس كمثله شيء فكيف يجترئ على الكذب به- ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله". رواه ابن ماجه بسند حسن1.   1 أخرجه ابن ماجه (2101) من حديث ابن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 باب قول ما شاء شئت ... متن الباب 43 باب: قول: ما شاء الله وشئت عن قتيلة، أن يهوديًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: "ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء ثم شئت" رواه النسائي وصححه. وله أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله ندًّا؟ ما شاء الله وحده". ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: رأيت كأني أتيتُ على نفر من اليهود، فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته. قال: "هل أخبرت بها أحداً؟ " قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد؛ فإن طفيلاً رأى رؤيا، أخبر بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها. فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده". فيه مسائل: الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر. الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى. الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله نداً؟ " فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك. . . . . . . . . والبيتين بعده. الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر، لقوله: "يمنعني كذا وكذا". الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي. السادسة: أنها قد تكون سبباً لشرع بعض الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 شرح الباب 43 باب ما جاء في بيان أن قول: ما شاء الله وشئت من الشرك الأصغر عن قتيلة، أن يهوديًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت وتقولون: والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: "ورب الكعبة وأن يقولوا: ما شاء ثم شئت" رواه النسائي وصححه1. قلت: وفي هذا إغراء على أخذ الحق من أي شخص كان، وبأي وجه كان؛ إذ هو حال المنصفين المتواضعين لله تعالى لأن قائدهم الحق أينما دار داروا وأينما توجه توجهوا كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها لقطها" 2 بخلاف المتكبرين فإنه يغمط الناس ويبطر الحق انظر لما جاء اليهودي وقال الحق أخذه النبي صلى الله عليه وسلم وهو المرسل من الله إلى الخلق. وله أيضاً عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله ندًّا؟ ما شاء الله وحده" 3.   1 أخرجه النسائي (7/6) وأحمد (6/371) من حديث قتيلة. 2 أخرجه الترمذي (2828) وابن ماجه (4169) من طريق إبراهيم بن الفضل المخزومي عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: "الحكمة ضالة المؤمن. حيثما وجدها فهو أحق بها".وضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإبراهيم بن الفضل المخزومي ضعيف الحديث". 3 أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (988) والبخاري في الأدب المفرد (783) وابن ماجه (117) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وفي رواية: "بل ما شاء الله وحده". ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة رضي الله عنها من أمها قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال: "هل أخبرت بها أحداً؟ " قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا: ما شاء الله وحده" 1.   1 أخرجه ابن ماجه (2118) من حديث الطفيل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 متن الباب 44 باب: من سب الدهر فقد آذى الله وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] . في "الصحيح" عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار" وفي رواية: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر". فيه مسائل: الأولى: النهي عن سب الدهر. الثانية: تسميته أذى لله. الثالثة: التأمل في قوله: "فإن الله هو الدهر". الرابعة: أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 شرح الباب 44 باب ما جاء في بيان أن من سب الدهر فقد آذى الله تعالى وذلك لضعف البصيرة بل عدمها أن تنسب الأمور إلى الدهر ولم يعلم الجاهل الظلوم أن الذي بيده أزمة الأمور قائم بها ويدبرها على ما يشاء هو الله حقيقة لا غير ولو سماه دهراً فإنه هو الله يقلب الليل والنهار ويدبر الأمور وقد حكى الله عن الكفار أنهم نسبوا الأمر إلى الدهر وذلك قول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} . [الجاثية: 24] . في "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار. وفي رواية: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" 1.   1 أخرجه البخاري (4826) ومسلم (2246) من حديث أبي هريرة، والرواية الثانية عند مسلم (2246) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 متن الباب 45 باب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند الله: رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله". قال سفيان: مثل "شاهان شاه". وفي رواية: "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه". قوله "أخنع" يعني أوضع. فيه مسائل: الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك. الثانية: أن ما في معناه مثله، كما قال سفيان. الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه. الرابعة: التفطن أن هذا لإجلال الله سبحانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 شرح الباب 45 باب ما جاء في بيان أن التسمي بما يدل على الكمال المطلق كالتسمي بقاضي القضاة ونحوه ينهى عنه لأن ادعاء هذا وأشباهه في المخلوق ليس له حقيقة لأنه كما قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} . [يوسف: 76] . بلى إن الله هو الذي ليس فوقه شيء ولا كمثله شيء. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله" 1. قال سفيان: مثل شاهان شاه يعني ما أشبه ملك الأملاك وقاضي القضاة بأي لغة كانت فإن شاهان شاه كلمة فارسية معناها ملك الأملاك فالمقصود النهي عن التسمي بما لا يستحقه إلا الله تأدباً معه وحذراً من المحذور. وفي رواية: "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه" قوله "أخنع" يعني أوضع.   1 أخرجه البخاري (6205) ومسلم (2143) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 متن الباب 46 باب: احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك عن أبي شريح: أنه كان يكنى أبا الحكم؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو الحكم، وإليه الحكم" فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين فقال: "ما أحسن هذا فمالك من الولد؟ " قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: "فمن أكبرهم؟ " قلت: شريح، قال: "فأنت أبو شريح"، رواه أبو داود وغيره. فيه مسائل: الأولى: احترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه. الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك. الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 شرح الباب 46 باب ما جاء في بيان أن من تعظيم الله احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم الذي يليق بجنابه عن غيره لأجل ذلك عظمة وإجلالاً له لا إله إلا هو. عن أبي شريح أنه كان يكتنى أبا الحكم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو الحكم وإليه الحكم" فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين فلذا سميت أب الحكم فقال: ما أحسن هذا فمالك من الولد، قال: شريح ومسلم وعبد الله قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح"، رواه أبو داود وغيره1.   1 أخرجه أبو داود (4955) والنسائي (8/226) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 متن الباب 47 باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول وقول الله تعالي: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] . عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة -دخل حديث بعضهم في بعض-: أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القرّاء- فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب، نقطع به عنا الطريق. فقال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه -وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب- فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} ما يتلفت إليه وما يزيده عليه. فيه مسائل: الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا فهو كافر. الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الثالثة: الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله. الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله. الخامسة: أن من الأعذار ما لا ينبغي أن يقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 شرح الباب 47 باب ما جاء في بيان أن من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول يكفر ولو كان مؤمناً قبل، ولا ينفعه إيمانه، ولا أعماله الصالحة التي فعلها قبل ذلك والدليل على ذلك قول الله تعالي: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66] . دلت الآية على أنهم كفروا بعد الإيمان مع أنهم لم يأتوا بذلك جدًّا بل كانوا يتحدثون حديث الركب ليقطعوا عنهم الطريق كما في الحديث. عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً وأكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القرّاء، فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، فقال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة تنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ونلعب فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} . ما يلتفت إليه وما يزيده على هذا1. تنبيه: على الفرق بين النصيحة والنميمة -التي هي القالة بين الناس-: اعلم أن الناصح لم يقصد التفريق بين المسلمين والمتحابين بل يقصد إظهار الحق وردع الباطل نصحاً لله ولرسوله ولدينه، والنمام يقصد التفريق بنقله الكلام حسداً وبغياً وظلماً فالمرجع إلى القصد والنية قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" 2. الحديث.   1 أخرجه ابن أبي حاتم كما في صحيح أسباب النزول للوادعي (ص 77) وابن جرير (10/119) . 2 أخرجه البخاري (37) ومسلم (1) من حديث عمر بن الخطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 باب ما جاء قول الله تعالى {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} ... متن الباب 48 باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 50] . قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي. وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] . قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى. فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر - شك إسحاق - فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال أي شيء أحب إليك قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه، فذهب عنه، وأعطي شعراً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، أو الإبل، فأعطي بقرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 حاملاً، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إليّ بصري؛ فأبصر به الناس، فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والداً؛ فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيراً أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً، فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: كنت أعمى فردّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وسخط على صاحبيك" أخرجاه. فيه مسائل: الأولى: تفسير الآية. الثانية: ما معنى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} . الثالثة: ما معنى قوله: {أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} . الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 شرح الباب 48 باب: ما جاء في بيان أن من أنواع كفر النعمة نسبة ما أنعم الله عليه إلى نفسه وذلك قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 50] . قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي. وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] . قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، قال: فمسحه فذهب عنه قذره فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر - شك إسحاق - فأعطي ناقة عشراء وقال: بارك الله لك فيها، قال: فأتى الأقرع، فقال أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه فذهب عنه وأعطي شعراً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ فقال: البقر أو الإبل فأعطاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 بقرة حاملاً وقال: بارك الله لك فيها، فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس فمسحه فرد الله إليه بصره قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم فأعطي شاة والداً فأنتج هذان وولد هذا فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ به في سفري فقال: الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فأعطاك الله المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، قال: فأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت. فقال: وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم شيئاً أخذته لله فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 أخرجاه1. فالمسلم الصادق لنفسه يتبرى من الحول والقوة ويعلم يقيناً أن ما به من نعمة فهو من الله سواء كان بواسطة خلق من خلقه أو بلا واسطة كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} . [النحل: 53] . فإذا علم ذلك عظم عنده حق الله عليه لما يرى فيه من النعم الباطنية والنعم الظاهرية التي لا تحصى كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} . [النحل: 18] . فيلزمه إذاً شكر نعمه وجوباً بالجنان واللسان والأركان كما قيل: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا   1 البخاري (3464) ومسلم (2964) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 متن الباب 49 باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190] . قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبَّد لغير الله؛ كعبد عمر، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب. وعن ابن عباس رضي الله عنه في الآية قال: لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن -يخوفهما- سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت، فأتاهما، فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت، فأتاهما، فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190] . رواه ابن أبي حاتم. وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته. وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} [الأعراف: 189] . قال: أشفقا ألا يكون إنساناً، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما. فيه مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 الأولى: تحريم كل اسم معبّد لغير الله. الثانية: تفسير الآية. الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها. الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم. الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة، والشرك في العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 شرح الباب 49 باب ما جاء في بيان أن من نسب العبودية إلى غير الله نية أو قولاً أو فعلاً حقيقة أو مجازاً فقد دخل في عمومية الشرك أما النية قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} . [طه: 111] . وأما القول فقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . [يونس: 18] . وأما الفعل: فقوله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . [الزمر: 3] . وأما الحقيقة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . [فاطر: 13، 14] . وأما المجاز فقوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190] . قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمر وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في الآية قال: لما تغشاها آدم حملت فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما، سمياه عبد الحارث فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً ثم فأتاهما فقال مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 قوله فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} . رواه ابن أبي حاتم1. قلت: معلوم بالضرورة أنهم لم يجعلوه عبد الحارث حقيقة ولكن مجازاً خوفاً مما جرى وحبًّل للولد فلم يعذرهم الله بذلك وصرح في كلامه بياناً لعباده أنهم جعلا له شركاء فيما آتاهما بتسميتهما الولد عبد الحارث ولو قصدوه مجازاً وعلى هذا فقس جميع من يعبد بغيره كعبد الرسول وعبد علي وعبد الشيخ وعبد السيد وأشباه ذلك وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} [الأعراف: 189] . قال: أشفقا ألا يكون إنساناً وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما. لعله خوفاً من الله تعالى عقوبة حيث عصوا الله تعالى في أكل الشجرة.   1 أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (2/278) من طريق ابن المبارك عن شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. رواه أحمد (5/11) والترمذي (3077) وحسنه. والحاكم (2/545) وصححه. ووافقه الذهبي لكن في الميزان (3/179) قال: "حديث منكر". وانظر تفسير ابن كثير: 2/274-275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 متن الباب 50 باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 181] . ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} : يشركون. وعنه: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. وعن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها. فيه مسائل: الأولى: إثبات الأسماء. الثانية: كونها حسنى. الثالثة: الأمر بدعائه بها. الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين. الخامسة: تفسير الإلحاد فيها. السادسة: وعيد من ألحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 شرح الباب 50 باب ما جاء في بيان أن الله تعالى له الأسماء الحسنى ولا ينبغي لمسلم مؤمن إذا أراد أن يدعو الله تعالى إلا بإحدى الوسيلتين: إما بأسمائه الحسنى وذلك قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . [الأعراف: 180] . وإما بالأعمال الصالحة. وقد أرشدهم الله تعالى إلى هاتين الوسيلتين في أول سورة الحمد فاتحة الكتاب فقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . [الفاتحة: 2- 4] . توسل بأسمائه الحسنى، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . [الفاتحة: 5] . توسل بالأعمال الصالحة وهو توحيد الألوهية وإخلاص العبادة لله تعالى وذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وتوحيد الربوبية وهو الاستعانة به تعالى وتبريه من الحول والقوة وذلك قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . واعلم أن الدعاء يشمل نوعي الدعاء: دعاء المسألة قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . [غافر: 60] . وهذا هو المقصود من الترجمة. والنوع الثاني دعاء العبادة وذلك قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} . [الطور: 28] . هذا دعاء العبادة، والمعنى إنا كنا من قبل نخلص له العبادة وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين المخلص وغيره فإنه سبحانه وتعالى يسأله من في السماوات والأرض. واعلم أن الله تعالى أمر عباده بإخفاء الدعاء، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} . [الأعراف: 55] . قال الحسن: بين دعوة السر والعلانية سبعون ضعفاً وقد كان الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كانت همساً بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} . [الأعراف: 55] . وأن الله ذكر عبداً صالحاً ورضي بفعله فقال تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} . [مريم: 3] . فإذا علمت ذلك فاعلم أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل وقد مضى في تعريف الدعاء المستحسن المستجاب، والأوقات، والأحوال، ما فيه كفاية. تنبيه: اعلم أن أسماء الله كلها عظيمة لا يجوز تفضيل بعضها على بعض ذهب إلى ذلك قوم منهم أبو جعفر الطبري، وأبو الحسن الأشعري، وأبو حاتم ابن حبان، وأبو بكر الباقلاني، ونحوه قول مالك وغيره، كما لا يجوز تفضيل بعض القرآن على بعض، وحمل هؤلاء ما ورد في ذكر الاسم الأعظم على أن المراد به العظيم. وعبارة الطبري: "اختلفت الآثار في تبيين الاسم الأعظم والذي عندي أن الأقوال كلها صحيحة إذ لم يرد في خبر منها أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه، فكأنه يقول: كل اسم من أسمائه تعالى يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم". وقال ابن حبان: الأعظمية الواردة في الأخبار المراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك كما أطلق ذلك في القرآن، والمراد به مزيد ثواب القارئ. والقول الثاني: أنه مما استأثر الله بعلمه، وَلَمْ يُطْلع عليه أحداً من خلقه كما قيل بذلك في ليلة القدر، وفي ساعة الإجابة، وفي الصلاة الوسطى. القول الثالث: أنه (هو) نقله الإمام الفخر الرازي عن بعض أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 العلم واحتاج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام معظم بحضرته لم يقل: أنت قلت كذا وكذا وإنما يقول: "هو" يقول تأدبا معه. القول الرابع: أنه "الله" لأنه اسم لا يطلق على غيره ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى ومن ثم أضيفت إليه. قال ابن أبي حاتم في تفسيره: ثنا الحسن بن محمد بن الصباح ثنا إسماعيل بن علية عن أبي رجاء حدثني رجل عن جابر بن زيد أنه قال: اسم الله الأعظم هو الله، ألم تسمع أنه يقول: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1.وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الدعاء: ثنا إسحاق بن إسماعيل عن سفيان عن عيينة عن مسعر قال الشعبي: اسم الله الأعظم يا الله2. القول الخامس: الله الرحمن الرحيم. قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: "ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم فلم يفعل فصلت ودعت: اللهم إني أدعوك الله وادعوك الرحمن وادعوك الرحيم وادعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "إنه لفي الأسماء التي دعوت بها" 3. وقال سنده ضعيف. وفي الاستدلال به نظر". انتهى. قلت: أقوى منه في الاستدلال ما أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس أن عثمان بن عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال: "هو اسم من أسماء الله تعالى وما بينه وبين الاسم كما بين سواد العين وبياضها من   1 في إسناده جهالة فهو ضعيف. 2 إسناده جيد. 3 أخرجه ابن ماجه (2859) من طريق أبي شيبة عن عبد الله بن عكيم عن عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 القرب"1. وفي مسند الفردوس للديلمي من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً: "اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر" 2. القول السادس: الرحمن الرحيم والحي القيوم؛ لحديث الترمذي وغيره عن أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وفاتحة سورة آل عمران {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} " 3. القول السابع: الحي القيوم؛ لحديث ابن ماجه والحاكم عن أبي أمامة، وفيه الاسم الأعظم في ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، وطه4. قال القاسم الراوي عن أبي أمامة: التمسته فيها فعرفت أنه الحي القيوم، قواه الفخر الرازي واحتج أنهما يدلان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما لدلالتهما. القول الثامن: الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام لحديث أحمد وأبي داود وابن حبان والحاكم عن أنس أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً فأتى برجل ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي قيوم، فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد دعا الله تعالى باسمه الأعظم   1 أخرجه الحاكم (1/552) من طريق سلام بن وهب الجندي حدثني أبي عن طاووس عن ابن عباس أن عثمان بن عفان، فذكره. قال الذهبي في الميزان (2/182) : سلام بن وهب الجندي عن ابن طاووس بخبر منكر بل كذب ثم ساقه. 2 عزاه السيوطي في الجامع إلى الديلمي في مسند الفردوس. 3 أخرجه أبو داود (1496) والترمذي (3478) وابن ماجه (3855) من حديث أسماء بنت يزيد. 4 أخرجه ابن ماجه (3856) والحاكم (1/505) من حديث أبي أمامة مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى" 1. القول التاسع: بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام، أخرج أبو يعلى من طريق بن يحيى عن رجل من طي وأثنى عليه خيراً قال: كنت أسأل الله أن يريني الاسم الأعظم فرأيت مكتوباً في الكواكب في السماء يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام. القول العاشر: ذو الجلال والإكرام؛ لحديث الترمذي عن معاذ سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: يا ذا الجلال والإكرام فقال: "قد استجيب لك فاسأل" 2. وأخرج ابن جرير في تفسير سورة النمل عن مجاهد قال: الاسم الذي إذا دعي به أجاب: يا ذا الجلال والإكرام واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية، لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب وفي الإكرام إشارة إلى جميع الصفات. القول الحادي عشر: الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد لحديث أبي داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحداً، فقال: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب، وفي لفظ عند أبي داود: لقد سأل الله باسمه الأعظم3. قال الحافظ ابن حجر: وهو   1 حديث أنس، أخرجه الإمام أحمد (3/120 و157 و245) ، وأبو داود (1495) وابن حبان (893) ، والحاكم (1/503 و504) وصححه ووافقه الذهبي. 2 سيأتي من حديث بريدة. 3 أخرجه أبو داود (1495) والترمذي (3544) من حديث أنس أنه قال: "كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ورجل يصلي فقال: اللهم .... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 أرجح من حديث السند من جميع ما ورد في ذلك. القول الثاني عشر: رب رب أخرج عن أبي الدرداء وابن عباس قالا: اسم الله الأكبر رب رب وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة مرفوعاً وموقوفاً: إذا قال العبد يا رب يا رب قال الله تعالى لبيك عبدي سل تعط. القول الثالث عشر: ولم أر من ذكره مالك الملك، أخرج الطبراني في "الكبير" بسند ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إلى قوله: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1. القول الرابع عشر: دعوة ذي النون في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع به مسلم قط إلا استجاب الله له. ذكره النسائي والحاكم عن فضالة بن عبيد رفعه2. القول الخامس عشر: كلمة التوحيد، نقله عياض. القول السادس عشر: هو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش الكريم، نقله الرازي عن زين العابدين. القول السابع عشر: هو مخفي في الأسماء الحسنى وهو الأصوب. القول الثامن عشر: كل اسم إذا دعا العبد به ربه بحيث لا يكون في فكره غير الله، قال جعفر الصادق والجنيد وغيرهما: أخرج   1 أخرجه الطبراني في "الكبير" (12792) من حديث ابن عباس وفي سنده: محمد بن زكريا الغلاني وجسر بن فرقد، وهما ضعيفان. 2 أخرجه الترمذي (3505) والنسائي في عمل اليوم والليلة (661) من حديث سعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 أبو نعيم في الحلية عن أبي يزيد البسطامي أنه سأل رجلاً عن الاسم الأعظم فقال: ليس له حد محدود إنما هو فراغ قلبك بوحدانيته فإذا كنت كذلك فادفع إلى أي اسم شئت فإنك تحصل مقصودك. وأخرج أبو نعيم عن أبي سليمان الداراني قال: سألت بعض المشايخ عن الاسم الأعظم فقال: تعرف قلبك؟ قلت: نعم، قال: الأعظم، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم أطع الله يطعك. القول التاسع عشر: اللهم، قال الحسن البصري: اللهم مجمع الدعاء، وقال النضر بن شميل، من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه. القول العشرون: آلم أخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: آلم اسم الله الأعظم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: آلم اسم من أسماء الله الأعظم انتهى. الحاصل أن المشروع المرضي المأمور به أن يدعو الله بأسمائه الحسنى كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . [الأعراف: 180] . أو تدعوه بالأعمال الصالحة كما سأل الله بأصحاب الغار بأعمالهم الصالحة ففرج الله عنهم. فإن قلت: الأنبياء لهم جاه وإني أسأل الله بجاههم، قلت: بلى لهم جاه كما قال تعالى عن موسى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} . [الأحزاب: 69] . وقال عن عيسى: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} . [آل عمران: 45] . ولكن جاههم وقربهم عند الله مَنٌّ مِنَ الله عليهم باتباعهم أمر الله واجتنابهم نهيه وذا نفعه لهم خاصة بما عملوا فضلاً من الله ورحمة ولا لنا منفعة من ذلك الجاه والقرب تعود علينا فبأي شيء نتوسل إلى الله به؟ بلى إن توسلت إلى الله بإيمانك بهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وبما جاؤوا به وبحبك لهم فيكون، لأن ذلك كله من الأعمال الصالحة. قال أبو العباس ابن تيمية: "ولا ريب أن لهم جاها كما قال في موسى {وكان عند الله وجيها} وقال في المسيح {وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} لكن ما لهم عند الله من المنازل والدرجات ما يعود إلينا نفعه إلا اتباعنا لهم ومحبتنا لهم، فإذا توسلت إلى الله بإيمانك بنبيه غ مثلاً ومحبته وموالاته واتباع سنته فهذا من أعظم الوسائل، وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل لا بما من المتوسل به مثل دعائه ولا بما منه مثل الإيمان به وموالاته واتباع سنته إن كان نبياً مرسلاً إليه وإلى قومه فبأي شيء يتوسل؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة عند ذلك مثل أن يقال لأبي الرجل وصديقه أو من يكرم عليه: اشفع لي عند فلان وهو حي وهذا جائز، وإما أن تقسم والإقسام على الله بالمخلوق لا يجوز بل ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق والدعاء بالنبي أو الصالح إما أن يكون إقساماً به، فإنه كان إقساماً به فلا يقسم على الله إلا به، وإن كان تسبباً فهو تسبب بما جعله سبحانه سبباً وهو دعاء الله وعبادته، وإذا قال القائل: أسألك بحق الملائكة أو بحق الأنبياء أو الصالحين. فإن كان يقسم بذلك على مخلوق فهو لا يجوز له فإذا كان لم يجز له أن يحلف به أو يقسم به على مخلوق فكيف يقسم على الخالق به؟ بل إنما يقسم بالله بأسمائه وصفاته كما ذكر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يقول: "أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 قيوم" 1، "وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلك ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" 2. وإن كان لا يقسم به وإنما يتسبب به فليس في مجرد ذواتهم سبب يوجب تحصيل مقصوده لكن لابد من سبب منه كالإيمان بهم أو منهم كدعائهم، فمن قال: أسألك بإيماني بك وبرسولك ونحو ذلك أو بإيماني برسولك ومحبتي له ونحو ذلك فقد أحسن كما قال تعالى في دعاء المؤمنين الذين يقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . [آل عمران: 16] . وقال تعالى عن الحواريين: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} . [آل عمران: 53] . وكان ابن مسعود يقول: اللهم أمرتني فأطعتك ودعوتني فأجبتك وهذا سَحَرٌ فاغفر لي، ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر فأووا إلى الغار وانطبقت عليهم الصخرة ثم دعوا الله بأعمالهم الصالحة ففرج عنهم. وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه. وأما المخلوق الغائب والميت فلا يطلب منه شيء، قال الشيخ أبو الحسن القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق فلا تجوز أعني وفاقاً. وروي في كتاب الحلية لأبي نعيم أن داود عليه السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فأوحى الله إليه يا داود، أي حق لآبائك علي. هذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فالإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليها، انتهى كلامه رحمه الله تعالى. محصول الحاصل أن المأمور في الدعاء أن تدعو الله بأسمائه الحسنى وأعمالك الصالحة كما مضى.   1 أخرجه أبو داود (1495) والنسائي (1301) والترمذي (3544) . 2 أخرجه أبو داود (1493) ، والترمذي (3471) ، وابن ماجه (3857) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} . [الأعراف: 180] . يلحدون في أسمائه يشركون ومنه سمي اللات من الإله والعزى من العزيز، وعن الأعمش فيها ما ليس منها انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 متن الباب 51 باب: لا يقال: السلام على الله في "الصحيح" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام". فيه مسائل: الأولى: تفسير السلام. الثانية: أنه تحية. الثالثة: أنها لا تصلح لله. الرابعة: العلة في ذلك. الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 شرح الباب 51 باب ما جاء في بيان أنه لا يقال السلام على الله لأنه تعالى هو السلام ومنه السلام فإذا سلمت على أحد فأنت طالب من الله أن يسلمه الله تعالى من الآفات والشرور ويرحمه ويبارك عليه وهذا المعنى لا يتصور في جانب الله تعالى لأنه هو السلام ومنه السلام لغيره وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام" 1. وفي الدعاء المأثور دبر كل صلاة: " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" 2.   1 أخرجه البخاري (835) ومسلم (402) من حديث ابن مسعود. 2 أخرجه مسلم (592) من حديث عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 متن الباب 52 باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له". ولمسلم: "وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه". فيه مسائل: الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء. الثانية: بيان العلة في ذلك. الثالثة: قوله: "ليعزم المسألة". الرابعة: إعظام الرغبة. الخامسة: التعليل لهذا الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 شرح الباب 52 باب ما جاء في بيان أن قول: اللهم اغفر لي إن شئت منهي؛ لأن الله تعالى ما خلق عباده إلا لدعائه المسألة ودعاء العبادة، قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} . [الفرقان: 77] . في الحديث "والدعاء مخ العبادة" 1. وأنه تعالى أمرهم أن يدعوه فيما ينوبهم ووعدهم بالإجابة وأوعد من ترك دعاءه بجهنم قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . [غافر: 60] . فإذا علمت أن أكرم الأكرمين دعاك إلى فضله وإحسانه وأوعك على ترك ذلك العقوبة العظيمة فكيف يتصور قولك: اللهم اغفر إن شئت لأنه إن لم يشأ ما أمرك بالدعاء ولا أوعدك بجهنم إذا تركته. في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له"، ولمسلم: "وليعظم الرغبة فإنه لا يتعاظمه شيء أعطاه" 2. فكيف والدنيا كلها ما تسوى عند الله جناح بعوضة كما ورد في الحديث: "لو تسوى الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء" 3.   1 أخرجه الترمذي (3371) من طريق الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن أبان بن صالح عن أنس مرفوعاً. قلت: وقد ضعفه الترمذي بقوله: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. ويغني عنه حديث: "الدعاء هو العبادة". 2 أخرجه البخاري (6339) ومسلم (2679) من حديث أبي هريرة. 3 أخرجه الترمذي (2320) وابن ماجه (4110) من حديث سهل بن سعد مرفوعاً بلفظ: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 متن الباب 53 باب: لا يقول: عبدي وأمتي في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضىء ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي". فيه مسائل: الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي. الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك. الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي وفتاتي وغلامي. الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي. الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 شرح الباب 53 باب ما جاء في بيان أن العبودية لفظاً ومعنى يستحق من خلق ورزق ودبر وأبرم وأتقن، قائم بغيره، الغني عمن سواه، المفتقر إليه ما سواه، له الملك، وله الحمد، فلذا لا ينبغي لمسلم أن يقول لإنسان مثله جعله الله تحت يديه نعمة في حقه كسائر النعم عبدي وأمتي في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم أطعم ربك" تأدباً ولو أنه جائز إطلاق لفظ الرب على صاحب المال كما قال عبد المطلب لأبرهة: أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه. "وضىء ربك ولا يقل العبد: ربي وليقل: سيدي ومولاي ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي" 1.   1 أخرجه البخاري (2552) ومسلم (2249) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 باب لا يرد من سأل بالله ... متن الباب 54 باب: لا يرد من سأل الله عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى ترون أنكم قد كافأتموه". رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح. فيه مسائل: الأولى: إعاذة من استعاذ بالله. الثانية: إعطاء من سأل بالله. الثالثة: إجابة الدعوة. الرابعة: المكافأة على الصنيعة. الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه. السادسة: قوله: "حتى ترون أنكم قد كافأتموه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 شرح الباب 54 باب ما جاء في بيان أنه لا يرد من سأل بالله لأنه أكبر من كل كبير كما قيل: رأيت الله أكبر كل شيء ... محاولة وأكثرهم جنوداً وهو قيم السموات والأرض ومن فيهن ومالك السموات والأرض ومن فيهن كما في الحديث الصحيح عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام إلى الصلاة: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن" 1. الحديث. وأنه تعالى أعظم من كل عظيم لقد عظم السبع الطباق وما حوت ولله خلاق الخليقة أعظم مليك على الأكوان عال على الورى له الأمر فيها وهو بالخلق قيم: ولو لم يكن نور الذي خالق الورى لكان ... نهار الدهر كالليل أظلم فسبحانه سبحانه جل قدره ... فعنه لسان العقل والفهم أبكم تقاصرت الأفهام عن كنه ذاته ... ولكن رب الخلق بالخلق أعلم قال أبو موسى: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" 2. ثم قرأ: {أن بورك} . [النمل: 8] . فاستنار ذلك بنور وجهه ولولاه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره، فمن هذا قدره وعظمته وجلاله   1 أخرجه البخاري (1120) ومسلم (769) من حديث ابن عباس. 2 أخرجه مسلم (179) من حديث أبي موسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 فرض أن يعظم حق العظمة ولا يرد من سأل بالله وقاراً وعظمة له وجلالاً. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه به فادعوا له حتى ترون أنكم قد كافيتموه". رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح1. قلت: وفي هذا تنبيه على الترقي من الأدنى إلى الأعلى بطريق الأولوية وذلك إذا كان عبد مثلك إذا صنع إليك معروفاً يلزمك مكافأته فكيف بربك الذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم خلق العظام والمفاصل وكسا العظام لحماً ثم صورك أحسن الصور ثم رزقك من الطيبات فمكافأته عليه أولى وألزم بشكر نعمه وطاعته ومعصية عدوه إبليس.   1 أخرجه أبو داود (1672) والنسائي (5/82) من حديث ابن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 متن الباب 55 باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة". رواه أبو داود. فيه مسائل: الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب. الثانية: إثبات صفة الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 شرح الباب 55 باب ما جاء في بيان أنه لا يسأل بوجه الله إلا الجنة لأنه غاية مطلوب العرفين وعبادته ومحبته نهاية منازل السائرين فكما أنه الغاية في الطلب فلا يسأل بوجهه من المخلوقات إلا ما هو الغاية في الفضل والإحسان وهو رضا الله والجنة. عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة". رواه أبو داود1.   1 أخرجه أبو داود (1671) من طريق سليمان بن معاذ حدثنا ابن المنكدر عن جابر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 باب ما جاء في اللوء ... متن الباب 56 باب: ما جاء في اللو وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] . وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168] . في "الصحيح" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان". فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران. الثانية: النهي الصريح عن قول: لو، إذا أصابك شيء. الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان. الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن. الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله. السادسة: النهي عن ضد ذلك وهو العجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 شرح الباب 56 باب ما جاء في بيان أن المسلم ما ينبغي له إذا أصابه شيء من المصائب أن يقول: لو فعلت كذا لكان كذا لأن المقدر كائن لا محالة، ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك فإن صبرت فأنت مأجور، والمقدر كائن وإن ما صبر فأنت مأزور والمقدر كائن فلا يزيد المتردد في ذكر لو إلا الحسرة والندامة والأسف يدل على ذلك قال الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} . [آل عمران: 154] . وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} . [آل عمران: 168] . في "الصحيح" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان"1. فتدخل في الشك في القدر وربما يؤول لى إنكاره فتهلك.   1 أخرجه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 متن الباب 57 باب: النهي عن سب الريح عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به" صححه الترمذي. فيه مسائل: الأولى: النهي عن سب الريح. الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره. الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة. الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 شرح الباب 57 باب ما جاء في بيان أن لله جنود السموات والأرض، والريح من جنوده، مأمورة منهية، فلا ينبغي لمسلم أن يسب الريح إذا جاءته بما يكره ولذا ورد النهي عن سب الريح، عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به". صححه الترمذي1.   1 أخرجه الترمذي (2252) وأحمد (5/123) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 متن الباب 58 ب اب: قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} . [آل عمران: 154] . وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} . [الفتح: 6] . قال ابن القيم في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو الظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده. فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك: هل أنت سالم؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجياً فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران. الثانية: تفسير آية الفتح. الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر. الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 شرح الباب 58 باب ما جاء في بيان أن الظانين بالله ظن السوء عليهم دائر السوء، وغضب الله عليهم ولعنهم ولهم عذاب أليم، لأن الله تعالى كامل من كل الوجوه ذاتاً وأسماء وصفاتٍ وأفعالاً وأقوالاً ذاته منزهة عن جميع العيوب والنقائص وأسماؤه حسنى فصفاته عليا وأفعاله حسنة جميلة وأقواله صدق وعدل وكلماته تامة فلا يعزى إليه سوء ولا شر ولا نقص ولا عيب ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فمن يظن به ظنًّا لا يليق بعظمته وجلاله فقد دخل في قال تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} . [آل عمران: 154] . وقوله تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} . [الفتح: 6] . قال ابن القيم في الآية الأولى: "فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره على الدين كله وهذا هو الظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختصه بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الله وأسماءه وصفاته وموجب وحمده حكمته، فليعنى اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا فمستقل ومستكثر وفتش نفسك: هل أنت سالم: فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجياً انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 متن الباب 59 باب: ما جاء في منكري القدر وقال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره". رواه مسلم. وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: "يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب، وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة" يا بني؟ سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني". وفي رواية لأحمد: "إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة". وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار". وفي "المسند" و"السنن" عن ابن الديلمي قال: أتيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 أبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: "لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار". قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. حديث صحيح رواه الحاكم في "صحيحه". فيه مسائل: الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر. الثانية: بيان كيفية الإيمان به. الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به. الرابعة: الإخبار بأن أحداً لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به. الخامسة: ذكر أول ما خلق الله. السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة. السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به. الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء. التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل الشبهة، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 شرح الباب 59 باب ما جاء في بيان أن منكري القدر قد خالفوا الكتاب والسنة، واتبعوا أهوائهم وأنهم في ضلال مبين وما لهم على الله إلا مجرد دعوة الشيطان كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} . [إبراهيم: 22] . فقد بين الله تعالى أنه يخاطبهم بأنهم تبعوه بلا سلطان بل أن دعاهم إلى الباطل فاستجابوا له إما بمخالفتهم الكتاب فقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} . [الحديد: 22] . أي نخلقها، وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . [الأنعام: 38] . قال البغوي: أي في اللوح المحفوظ، وقوله تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} . [القمر: 53] . وقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} . روي عن عمر أنه كان يطوف ويبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني من أهل السعادة فاثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني واثبتني في أهل السعادة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، ومعلوم بالضرورة أن المحو لم يكن إلا بعد الكتابة والقرينة عليه قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} . فإنه ورد في الحديث الثابت عنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" 1. وقال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه   1 أخرجه أحمد (5/317) وأبو داود (4700) والترمذي (2155) وابن أبي عاصم في السنة (103) من طرق من حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 حتى يؤمن بالقدر، ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره". رواه مسلم1. وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة يا بني سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني2. وفي رواية لأحمد: "إن أول ما خلق الله تعالى القلم فقال اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" 3، وفي رواية لابن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار" 4. وفي المسند   1 رواه مسلم (8) من حديث ابن عمر. 2 أخرجه ابن أبي عاصم (111) والآجري في الشريعة ص (186) من طريق عثمان بن أبي عاتكة حدثني سليمان بن حبيب المحاربي عن الوليد بن عبادة عن عبادة به، بلفظ: القدر على هذا، من مات على غير هذا أدخله الله تعالى النار. وأخرجه الآجري ص (177، 178) بالإسناد المتقدم. وفيه أيوب الحمصي وفيه جهالة. 3 أخرجه أحمد (5/317) والطيالسي (577) والترمذي (2155) (3319) وله طرق عند آخرين. وشاهد من حديث ابن عباس عند ابن أبي عاصم في "السنة" (108) 4 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 والسنن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار، قال: فأتيت ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه1. قلت: وهذه السنة نطقت صريحاً بالقدر وماذا بعد الحق إلا الضلال ولكنهم كما قال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . [الروم: 29] . قال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله-: إن الناس في الأمر الشرعي الديني والقضاء والمقدور الكوني انقسموا أربعة أقسام، فمنهم من يرى الأمر المقدور الكوني وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر، ولكن لا يفرق بين المؤمنين وبين والفجار الكافرين، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، لكن من الناس من يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار ولا يفرق بين الأبرار والفجار ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى والفارق بحسب ما فرق بين أوليائه وأعدائه. ومنهم من أقر بالأمر والنهي الدينيين دون   1 أخرجه أبو داود (4699) وابن ماجه (77) عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب فذكرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 القضاء والقدر وذاك من القدرية والمعتزلة ونحوهم الذين هم مجوس هذه الأمة فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وكان معترضاً على ربه في أحكامه فهو كإبليس الذي اعترض على الرب وخاصمه. ومنهم من أقرّ الأمر الكوني المقدور والأمر الشرعي المأمور فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه من المقدور وهؤلاء هم أهل إياك نعبد وإياك نستعين وإذا أذنب استغفر وتاب ولا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ويؤمن بالقدر ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت وأبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" 1. فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات ويعلم أنه هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها كما ذكر عن بعضهم: أطعتك بفضلك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحمد لك فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي إلا غفرت لي، وفي الحديث الصحيح الإلهي: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" 2. والقسم الرابع: شر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه فلا هو مع الشريعة الأمرية ولا مع القدرية. فائدة: قال بعض الصالحين: القدر التقدير والقضاء الخلق وهما أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأخر   1 رواه البخاري (6306) ، وأحمد (4/122 و124 و125) . 2 أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي هريرة مرفوعاً مطولاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وهو القدر والأخر بمنزلة البنيان وهو القضاء، فمن رام التفصيل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه، وقال بعضهم: إن القدر كتقدير النقاش الصورة في ذهنه والقضاء تقديمه تلك الصورة للتلميذ ووضع التلميذ الأصباغ عليها متبعاً لرسم الأستاذ الذي هو الكتب والاختيار والتلميذ في اختياره لا يخرج عن رسم الأستاذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 متن الباب 60 باب: ما جاء في المصورين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة". أخرجاه. ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله". ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم". ولهما عنه مرفوعاً: "من صوَّر صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ". ولمسلم عن أبي الهياج قال: قال لي علي: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته". فيه مسائل: الأولى: التغليظ الشديد في المصورين. الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 لقوله: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي". الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم، لقوله: "فليخلقوا ذرة أو شعيرة". الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذاباً. الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفساً يعذب بها المصور في جهنم. السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح. السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 شرح الباب 60 باب ما جاء في بيان ما عند الله من الوعيد الشديد والتهديد الأكيد للمصورين الذين يضاهئون بخلق الله تصوير الصور جثثاً مجازية لا حقيقة لها. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة". أخرجاه1 ولهما عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله" 2 ولهما عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً يعذب بها في جهنم" 3. ولهما عنه مرفوعاً: "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ" 4. قلت: تصوير الصورة مع ما فيه من الوعيد والتهديد ربما يؤول مآلها إلى عبادتها كما جرت في الأولين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا، فإنهم صوروها على نية صحيحة ثم آل أمرها إلى أن عبدت، وقد مضى بيانها فيما قبل من هذا الكتاب ففيها المعصية والخطر العظيم.   1 أخرجه البخاري (5953) ومسلم (2111) من حديث أبي هريرة. 2 أخرجه البخاري (2479) ومسلم (2107) من حديث عائشة. 3 أخرجه البخاري (2225) ومسلم (2110) من حديث ابن عباس 4 أخرجه البخاري (5963) ومسلم (2110) من حديث ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 ولمسلم عن أبي الهياج قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" 1. قلت: وهذان الأمران، أورثا الشرك قديماً، وحديثاً، ولو لم يكن في هذا الزمان: كَثْرَةُ تِمثَالٍ تُعْبَد، فقد كثرت الشرفات من القبور المقببات المزخرفات التي جُعِلَ لها السَّدنة، والنذورات، والذبائح قربة إليها، فكم ساجد، وراكع حولها يستشفي بها، ويطلب منها الحاجات من كشف الكربات، ودفع الملمات، وقد عمت البلوى وأرجو أن الله تعالى ينصر دينه الذي بعث به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهو التوحيد عبادة الله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه.   1 أخرجه مسلم (969) عن أبي الهياج قال: قال لي علي فذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 متن الباب 61 باب: ما جاء في كثرة الحلف وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} . [المائدة: 89] . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب" أخرجاه. وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه" رواه الطبراني بسند صحيح. وفي "الصحيح" عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟ ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن". وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته". قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 فيه مسائل: الأولى: الوصية بحفظ الأيمان. الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة. الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه. الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي. الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون. السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة، أو الأربعة، وذكر ما يحدث بعدهم. السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون. الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 شرح الباب 61 باب ما جاء في بيان إثم كثرة الحلف وعقوبته وما يؤول إليه وبيان قال الله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} . [المائدة: 89] . قيل: أي اتركوا الحلف، وقيل: إذا حلفتم فلا تحنثوا المراد حفظ اليمين عن الحنث هذا إذا لم تكن يمينه على ترك مندوب أو فعل مكروه، والأفضل أن يحنث نفسه ويكفِّر. عن عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك وأت الذي هو خير" 1. وأما ما يؤول إليه من المضار فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة" 2. فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مآل الحلف الذي ليس له سبب شرعي محق للبركة مما حلف عليه وكفى بذلك عقوبة دنيوية. وأما العقوبة الأخروية وعن سلمان أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه" رواه الطبراني بسند صحيح3. قلت: الزنى قبيح في الكل، ولكن في الشائب أقبح؛ لأن دواعي الشهوة منتفية عنه لضعف قواه. والاستكبار قبيح في الكل،   1 أخرجه البخاري (7147) ومسلم (1652) من حديث عبد الرحمن بن سمرة. 2 أخرجه البخاري (2087) ومسلم (1606) من حديث أبي هريرة. 3 أخرجه الطبراني في الكبير (6/6111) والصغير (2/21) من حديث سلمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وفي الفقير أقبح؛ لأن دواعي الاستكبار عنه منتفية لحاجته إلى الناس. وكثرة الحلف تدل على هوان اسم الله عند الحالف وهذا إثم عظيم. وفي الصحيح عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم -قال عمران: فلا أدري أذَكَرَ بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً- ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن" 1. وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"2. قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار كي يؤتى بهما على الوجه المرضي الشرعي.   1 أخرجه البخاري (2651) ومسلم (2535) من حديث عمران. 2 أخرجه مسلم (2532) من حديث ابن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 متن الباب 62 باب: ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] . عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فقال: "اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال- فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن هم أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري، أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟ " رواه مسلم. فيه مسائل: الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه، وذمة المسلمين. الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطراً. الثالثة: قوله: "اغزوا بسم الله في سبيل الله". الرابعة: قوله: "قاتلوا من كفر بالله". الخامسة: قوله: "استعن بالله وقاتلهم". السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء. السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 شرح الباب 62 باب ما جاء في بيان أجر من حفظ ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وكبر إثم من خفر ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة. أما الكتاب فذلك قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} . [النحل: 91] . فأمر الله تعالى بحفظ العهد والوفاء به، ونهى عن نقض الأيمان بعد توكيدها، وذكر تعالى مآل الغدر ونقض الأيمان في قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . [النحل: 94] . وقد علم بالضرورة العقلية والنقلية وتجارب الأمم الماضية أن الغدر، ونقض الأيمان، وخفر الذمة ما يورث إلا شرًّا. إياك والغدر كم من غادر وقع ... في شر ما كان قبل الغدر متخذل يقول ليت لم أغدر وليس له ... فك من شر والخسران والخذل أيضاً ولا تنقضوا الأيمان مدخلاً ... تزل الأقدام ناس بعد ذا الدخل كن ناصحاً وصدوقاً موفياً فطناً ... الصدق يعلو ونقض القول في السفل فكم محنة نزلت بالمسلمين بسبب شيء من ذلك رأيناه عياناً وسماعاً ولكن أين أولوا الألباب والأبصار ليعتبروا ولم يخذل المسلمون قديماً وحديثاً وسلط عليهم العدو وتشتتوا واختلوا إلا به وأمثاله من المعاصي ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله، وأرجو أن الله يتوب على المسلمين ويوفقهم لما يحب ويرضى ويظهرهم على أعداء الدين في مشارق الأرض ومغاربها إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. وأما من السنة وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 المسلمين خيراً، فقال: "اغزوا بسم الله، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فآيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم: ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تجعل ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا"، رواه مسلم1. قلت: وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد لمن له قوة على   1 أخرجه مسلم (1731) من حديث بريدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 ذلك، وأيضاً فيه دليل على أن المجتهد يخطئ ويصيب، والخطأ إذا كان باجتهاد وعلم مغفور بل له على ذلك أجر إذا كانت النية صالحة ناصحة لله تعالى ولدينه ولرسوله. قال في فتح الباري: إن المصير إلى الرأي إنما يكون عند فقد النص وإلى هذا يومئ قول الشافعي فيما أخرجه البيهقي بسند صحيح إلى أحمد بن حنبل، سمعت الشافعي يقول: القياس عند الضرورة. ومع ذلك فليس القائل برأيه على ثقة من أنه وقع على المراد من الحكم في نفس الأمر وإنما عليه بذل الوسع في الاجتهاد ليؤجر، فمتى قصر المجتهد في اجتهاده أثم وفاقاً لتركه الواجب عليه من بذل وسعه فيه. قلت: القياس بيانه وتفسيره على ما فسره البخاري قال: باب من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين. قلت: وذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة لما أخبرته أن أباها لم يحج: "أرأيت لو كان علي أبيك دين أكنت تقضيه؟ قالت: نعم، قال: فالله أحق بالقضاء" 1. فهذا هو عين القياس بطريق الأولوية. قال في فتح الباري: إنما سكت النبي صلى الله عليه وسلم في أشياء مفصلة ليس لها أصل في الشريعة فلابد فيها من الإطلاع إلى الوحي، وإلا فقد شرع صلى الله عليه وسلم لأمته القياس وأعلمهم كيفية الاستنباط في مسائل لها أصول وعان، فيريهم كيف يصنعون فيما لا نص فيه، والقياس هو تشبيه ما لا حكم فيه بما فيه حكم في المعنى، وقد شبه صلى الله عليه وسلم الحمر بالخيل فقال: "ما أنزل الله شيئاً إلا هذه الآية الجامعة، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . [الزلزلة: 7- 8] ". وقال للمرأة   1 أخرجه البخاري (6699) من حديث ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 التي أخبرته أن أباها لم يحج: " لو كان علي أبيك دين أكنت قاضيته فالله أحق بالقضاء ". انتهى كلامه في البخاري. عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" 1. انتهى. قلت: الأصول أربعة: الكتاب، والسنة، والقياس عند فقد النص على ما مضى أي بطريق الأولوية، والإجماع. قال ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري: الإجماع اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور الدينية بشرط أن يكون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فخرج بالمجتهدين العوام فإنه لا عبرة باتفاقهم.   1 أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 متن الباب 63 باب: ما جاء في الإقسام على الله عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا اغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك" رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته. فيه مسائل: الأولى: التحذير من التألي على الله. الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله. الثالثة: أن الجنة مثل ذلك. الرابعة: فيه شاهد لقوله "إن الرجل ليتكلم بالكلمة" الخ. الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 شرح الباب 63 باب ما جاء في بيان الإقسام على الله وإثمه وعقوبته أما بيانه وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا اغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك". رواه مسلم1. وأما إثمه وعقوبته قوله: وأحبطت عملك كفى به إثماً وعقوبة، فالمؤمن ما يفعل فعلاً ولا يقول قولاً إلا وينظر هل هو شرعي أو لا، وإن لم ينظر فلابد أن يغفل ويقع في هذا الخطر وأمثاله كما صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه". رواه الترمذي2. وصححه. وعن أبي هريرة مرفوعاً: "أن العبد يتكلم بالكلمة من سخط الله ما يتبين فيها يزل بها إلى باب النار أبعد مما بين المشرق والمغرب"، أخرجه الشيخان في صحيحهما3. وفيه تنبيه على أن الرجل قد يغفر له بسبب هو أكره الأمور إليه.   1 أخرجه مسلم (2621) من حديث جندب. 2 أخرجه الترمذي (2319) وابن ماجه (3969) من حديث بلال بن الحارث. 3 أخرجه البخاري (11/308) ومسلم (2988) من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 متن الباب 64 باب: لا يستشفع بالله على خلقه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! سبحان الله! " فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه؛ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه" وذكر الحديث. رواه أبو داود. فيه مسائل: الأولى: إنكاره على من قال: نستشفع بالله عليك. الثانية: تغيره تغيراً عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة. الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: "نستشفع بك على الله". الرابعة: التنبيه على تفسير "سبحان الله". الخامسة: أن المسلمين يسألونه الاستسقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 شرح الباب 64 باب في بيان أنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ومن يستشفع بالله على خلقه فإنه مَا عَظَّمَ الله، وما درى م شأن الله تعالى بل جهل عظمته، وكبرياءه، وجلال قدره. ومعلوم بالضرورة العقلية والنقلية ولو أن لَمَعَ له لَمْعَةٌ من ذلك لما استشفع بالله الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفراً أحد، الكامل من كل الوجوه، المنزه عن النقائص والعيوب المتصلة والمنفصلة، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير - على أحد من خلقه المقهور المدبر. عن جبير بن مطعم قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله سبحان الله، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: ويحك أتدري ما الله إن شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع بالله على أحد". رواه أبو داود1.   1 أخرجه أبو داود (4726) من طريق محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 متن الباب 65 باب: ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: " السيد الله تبارك وتعالى". قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً؛ فقال: "قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" رواه أبو داود بسند جيد. وعن أنس رضي الله عنه، أن ناساً قالوا: يا رسول الله: يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: "يا أيها الناس، قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد، عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل". رواه النسائي بسند جيد. فيه مسائل: الأولى: تحذير الناس من الغلو. الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا. الثالثة: قوله: " ولا يستجرينكم الشيطان" مع أنهم لم يقولوا إلا الحق. الرابعة: قوله: "ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 شرح الباب 65 باب ما جاء في بيان حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وكشفه غمائم الشبه عن أفق أذهان أهل التجريد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك وكل ما يؤول إليه امتثالاً لأمر ربه القادر المقتدر {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} . [المدثر: 1- 5] . فهو صلى الله عليه وسلم شأنه وطريقته الدعوة إلى الله بالجد والجهد وما كان يبالي بما يأتيه من الأذى ممتثلاً لقول ربه تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} . [الأحقاف: 35] . عن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: "إنما السيد الله تبارك وتعالى". قلت: لَمَّا أّنَّهُمْ قالوا: أنت السيد –معرفاً بالألف واللام- قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم" السيد الله وذلك أن المحلى بالألف واللام إذا أطلق يترقى الذهن ويبتدر إلى ما هو أعظم وهذا يرى بديهة العقل والاستقراء، كما أن لفظ: "المدينة" إذا أطلق ما يبتدر الذهن إلا إلى ما هو أعظم في المدائن وهو مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم دون المدائن التي سواها، وأما غير المحلى بالألف واللام فلا، كما تقول رأيت مدينة بالتنوين أو تضيفه تقول مدينة بغداد أو مدينة البصرة والله أعلم فلما علموا عدم رضى الرسول صلى الله عليه وسلم بما قالوا رجعوا عن قولهم ذاك إلى غيره قال: قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً فقال: "قولوا بقولكم، أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان" رواه أبو داود1. وعن أنس أن ناساً قالوا: يا رسول الله يا خيرنا   1 أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (247) وأحمد (4/25) عن مطرف بن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس" خطاباً للكل لأنه مرسل للناس جميعاً فيلزمه التبليغ للجميع، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . "قولوا بقولكم" وهذا يقرر ما ذكرت من أن المحلى بالألف واللام عند الإطلاق يبتدر الذهن إلى ما هو أعظم، وعند التنكير أو الإضافة فلا، فلهذا لما قالوا: أنت السيد قال السيد الله، ولما قالوا: أنت سيدنا بالإضافة قال: قولوا بقولكم. "ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد: عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل". رواه النسائي بسند جيد1. ومن حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد قوله لجويرية لما قالت: وفينا رسول الله يعلم ما في غد قال صلى الله عليه وسلم: "دعي هذا وقولي ما كنت تقولين" 2. أي لا تقولي لي ما لست له بأهل، فإن علم الغيب حق الله لا يعلمه إلا هو كما قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} . [الأنعام: 59] . وقوله: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . [النمل: 65] . وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} . [الأعراف: 188] . ومنها ما ثبت في المسند وغيره عن معاذ بن جبل لما رجع من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه يا معاذ، فقال: يا رسول الله رأيتهم يسجدون لأساقفتهم ويذكر ذلك عن أنبيائهم فقال صلى الله عليه وسلم: "كذبوا   = عبد الله بن الشخير عن أبيه. 1 أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (250) من حديث أنس. 2 رواه البخاري (4001 و5147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 يا معاذ لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، يا معاذ أرأيت إن مررت بقبري أكنت تسجد؟ قال: لا، قال: فلا تفعل" 1. ومنها ما ثبت في الصحيح من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه قاعدا ًلمرض كان به، فصلوا قياماً فأمرهم بالجلوس وقال: "لا تعظموني كما تعظم النصارى بعضهم بعضاً" 2 وقال: "من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار"3. ومنها ما ثبت في الصحيح عن زيد بن خالد قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماه من الليل فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: قال تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" 4. ومنها ما ورد في السنن أن أعرابيًّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع لنا فإنا نستشفع بك على الله وبالله عليك، فسبح رسول الله حتى عرف ذلك في وجه أصحابه فقال صلى الله عليه وسلم: "ويحك أتدري ما الله، إن شأن اله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع   1 أخرجه ابن ماجه (1853) وأحمد (4/381) من حديث عبد الله بن أوفى. وله شواهد كثيرة. 2 أخرجه مسلم 413 من حديث جابر بلفظ: "إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهو قعود فلا تفعلوا ... ". 3 أخرجه أبو داود (5229) والترمذي (2755) من حديث معاوية. 4 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 بالله على أحد". رواه أبو داود1. ومنها ما خرج البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" 2. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد من دون الله، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 3. ومنها في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " 4. ومنها ما ثبت عن عائشة وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهم- قالا: لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما صنعوا. متفق عليه5. ومنها ما روى الإمام أحمد في سنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم   1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه. 3 تقدم تخريجه. 4 تقدم تخريجه. 5 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 أحياء والذين يتخذون القبور مساجد" 1. ومنها ما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه أحمد وأهل السير 2. ومنها ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". ومنها ما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته3. ومناه ما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور وأن يقعد عليه أو يبني عليه بناء4. ومنها ما روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها، قال الترمذي5: حديث حسن صحيح. وفي سنن أبي داود من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تجصص القبور6 أو يزاد عليها. هذا حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وقد آل الأمر حتى جصصوا القبور، وبنوا عليها، وجعلوا لها سدنة، فيذرون لها،   1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه. 3 تقدم تخريجه. 4 أخرجه مسلم (970) (94) . 5 أخرجه الترمذي (1052) من حديث جابر. 6 أخرجه أبو داود (3226) من حديث جابر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ويذبحون عندها، ويستشفون، ويخضعون، ويركعون، ويسجدون عندها، ثم آل الأمر بهؤلاء المشركين أن شرعوا للقبور حجًّا، ووضعوا مناسك حتى صَنَّفَ بعضهم من غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه (مناسك حج المشاهد) مضاهاة منه بالقبور لبيت الله الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "اعلم أن العبادة مبناها على الاتباع لا على الابتداع فليس لأحد أن يصلى إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: هو أحق بالصلاة إليه من الكعبة وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" 1. مع أن طائفة من غلاة العباد يصلون إلى قبور شيوخهم بل يستدبرون القبلة ويصلون إلى قبر الشيخ ويقولون هذه قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة، وآخرون أمثل من هؤلاء يرون الصلاة عند قبور شيوخهم أفضل من الصلاة في المساجد حتى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وكثير من الناس يرى أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من الدعاء في المساجد ويرى الصلاة في المساجد المبنية على القبور أفضل من المساجد التي لا قبور فيها، وهذا كله مما علم جميع أهل العلم بدين الإسلام أنه مناف لشريعة الإسلام، وأنه لم ينقله أحد من علماء الأمة بل هم متفقون على أنه لا فضيلة للصلاة عند القبور، ولا في المساجد المبنية التي على القبور التي تسمى المشهد بل ذلك مخالف لله ولرسوله ولشرعه كما مضى في الأحاديث المتقدمة، مع أن طائفة من الغالية من الشيعة ومن المنتسبين إلى السنة يرون السفر إلى القبور حجًّا، وقد صنف ابن   1 أخرجه مسلم (972) من حديث أبي مرثد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 النعمان المفيد شيخ الرافضة كتاباً سماه "مناسك حج المشاهدة" وجعلوا فيها من العبادات ما هو أعظم من العبادات المشروعة في المسجد الحرام، ومن هؤلاء من يقول: إن الحج إلى القبور ويعظمها أعظم من حج البيت العتيق إلى أمثال هذه الأمور التي ابتدعها أهل الضلال وكثير من وقع فيها من الرجال، وقد صنف طائفة من المتفلسفة في هذا، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما شرعه هؤلاء المقتدون بالمشركين والمتمسكون بهدي الشياطين وقصدوه من اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد عليها، وإيقافهم الوقوف على إيقاد السرج والقناديل عليها، وجعلهم القبور عيداً وتجصيص القبور عليها من الأحجار والآجر والجص والكتابة عليها وغير ذلك مما نشاهد عياناً وسماعاً، هذا فعل هؤلاء، والذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور ما ذكره مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت: قلت: كيف أمرك ربك يا رسول الله؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" 1. وفي الصحيح أيضاً عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام على أهل الديار، وفي لفظ: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية" 2. وروى الإمام أحمد والنسائي عن بريدة قال: قال رسول   1 أخرجه مسلم (2/671/عبد الباقي) من حديث عائشة. 2 أخرجه مسلم (957) من حديث بريدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجراً" 1. ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولاً وفعلا" انتهى.   1 أخرجه النسائي (1/285 و286) وأحمد (5/350، 355، 356) من حديث بريدة، والجملة الأولى "كنت نهيتكم عن زيارة القبور" أخرجه مسلم (977) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ... متن الباب 66 باب: جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] . عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] . وفي رواية لمسلم: والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله. وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع؛ وسائر الخلق على إصبع" أخرجاه. ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وروي عن ابن عباس، قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس" قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض". وعن ابن مسعود قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم". أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، ورواه بنحوه عن المسعودي عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، قال: وله طرق. وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم قال: "بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 سماء خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم" أخرجه أبو داود وغيره. فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها. الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك. الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم. الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى، والأرضين في الأخرى. السادسة: التصريح بتسميتها الشمال. السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك. الثامنة: قوله: "كخردلة في كف أحدكم". التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماوات. العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي. الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء. الثانية عشر: كم بين كل سماء إلى سماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 الثالثة عشر: كم بين السماء السابعة والكرسي. الرابعة عشر: كم بين الكرسي والماء. الخامسة عشر: أن العرش فوق الماء. السادسة عشرة: أن الله فوق العرش. السابعة عشر: كم بين السماء والأرض. الثامنة عشر: كثف كل سماء خمسمائة عام. التاسعة عشر: أن البحر الذي فوق السماوات بين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة عام. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 شرح الباب 66 باب ما جاء في بيان أن الناس مِنْ ظُلْمِهِم وجَهْلِهِم ما قدروا الله حق قدره الذي هو أهله ويستحقه بل إنهم فعلوا به تعالى بنقيض ما هو لازم عليهم، عقلاً، ونقلاً، وأصلاً، وفرعاً، كما في الحديث الإلهي: "أنا والثقلين في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر غيري، خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد" 1. الحديث. فمن ظلمهم وجهلهم تفرقوا واختلفوا وفرقوا دينهم وكانوا شيعاً على غير هدي كل حزب بما لديهم فرحون، ولم يلتفتوا إلى ما هو أولى وألزم عليهم من اتباع أمر سيدهم وعدم مخالفته ومشاققته، بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم، فمنهم من أذعن بالصانع الخلاق بالجنان وجحده باللسان ظلماً وعلوًّا كفرعون ونمرود، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} . ومنهم من أذعن بالجنان وأقر باللسان وشهد بالربوبية وأشرك في الألوهية كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . ومنهم من يجعل الله خالق الخير ويجعل الشر أهْرَمَنْ يعني الشيطان منزهاً الله عن الشر بزعمهم، ووقعوا في شر من ذلك وهو جعل خالقين في الكون سبحانه وتعالى، فهم كانوا كالمستجير من الرمضاء إلى النار كالمجوس وأشباههم. ومنهم من أنكروا قضاء الله وقدره كالقدرية الذين يقولون لا دخل لقدرة الله في أفعال العباد وتبعهم الجهمية على ذلك.   1 عزاه السيوطي في الجامع إلى الحكيم والبيهقي في الشعب من حديث أبي الدرداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 ومنم من نسب الطاعة والمعصية والكفر والتوحيد والإيمان والنفاق إلى الله تعالى وتقدس، وقال: إن الإنسان مجبور على أفعاله ولا قدرة للعبد أصلاً كالجبرية. ومنهم من وصفه بالنقص والعيب وقال: إنه الوجود المطلق مجرداً عن الأوصاف جميعها لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر ولا يختار ولا يشاء وهو ابن سينا ومن نسب إلى أرسطوا اليوناني ووافقهم الجهمية على ذلك إلا أن الجهمية يصفونه بأنه الذات المجردة عن الصفات. ومنهم من يستخفي من الناس ولا يستخفي من الله فكأن الله تعالى عنده أهون الناظرين كالمنافقين كما قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} . [النساء: 108] . ومنهم من ظن أن الله لا يعلم كثيراً مما يعمل كما قال تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} . {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [فصلت: 22، 23] . ومنم من ظن بالله ظن السوء أن الله لا ينصر رسوله ولا يظهر دينه على سائر الأديان، وأن ما جرى ليس بقضائه وقدره، وأن قدره ليس لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد. ومنهم من يحب غير الله كحب الله الذي خلقه ورزقه ولا يستغني عنه طرفة عين، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} . ويخشون غير الله كخشية الله الذي بيده ملكوت كل شيء وهو القاهر فوق عباده وله الملك وله الحمد والأمر قال تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} . [النساء: 77] . ومنهم من أنكر البعث {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . [التغابن: 7] . ومنهم من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله يطيعونهم فيما يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله. قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} . [التوبة: 31] . ومنهم من يبارز الله بالمحاربة يعادي أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون الشرك والمعاصي كما في الحديث الإلهي: "من عادى وليًّا فقد بارزني بالمحاربة"1. ومنهم من يوالي أعداءه بطاعته للشيطان قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} . [الكهف: 50] . ومنهم من يعدل بربه غيره في العبادة قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} . [الأنعام: 1] . ومنهم من يرضي الناس بسخط الله. ومنهم من يتقدم بين يدي الله ورسوله في القول والحكم. ومنهم من يجعل الله أهون الناظرين إليه. ومنهم من يجاهر بالمعاصي ولم يرتدع. ومنهم من يصر على المعاصي ولم يتب. ومنهم من يأمن مكر الله. قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} . [الأعراف: 99] . ومنهم من يقنط من رحمة الله قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ   1 رواه البخاري (6502) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} . [الحجر: 56] . ومنهم ومنهم والكل ما قدر الله حق قدره كما يدل قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] . عن ابن مسعود قال: جاء رجل من الأحبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أي في التوراة أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وفي رواية مسلم: والجبال والشجر على أصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الله. وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع" أخرجاه1. ولمسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين   1 أخرجه البخاري (4811) ومسلم (2786) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 السبع ثم يأخذهن بشماله" 1. وروي عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدكم"، وقال ابن جرير: حدثني يونس أن ابن وهب قال: قال ابن زيد حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس" 2، قال: وقال أبو ذر -رضي الله عنه-: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض "3. وعن ابن مسعود قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة، والعرش فوق الماء والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم"، أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زرّ عن عبد الله، ورواه بنحوه عن المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله، قال الحافظ الذهبي وله طرق.   1 أخرجه مسلم (2788) من حديث ابن عمر. إلا لفظة: "بشماله" فقد تفرد بها عمر بن حمزة عن سالم عن ابن عمر الأسماء والصفات للبيهقي ص (234) . والذي في الصحيح عن ابن عمرو مرفوعاً أن يدي الله يمين ولم يسم شمالاً. 2 أخرجه ابن جربر (3/87) بهذا الإسناد. وعبد الرحمن بن زيد ضعيف. 3 أخرجه محمد بن أبي شيبة في العرش (58) من طريق أحمد بن علي الأسدي عن المختار بن غسان العبدي عن إسماعيل بن سلم عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وبين السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم" أخرجه أبو داود وغيره1. اعلم أنك إذا علمت علم اليقين أن الله عالم بكل شيء قادر على كل شيء ما استعظمت أمراً من أمور الله قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} . [الطلاق: 12] . فهو فعال لما يريد من الأمر {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . [يس: 82] . تمت إذا كان رب العرش أرسل مرسلاً ... وأنزل معه البينات ليعلما وقال: أطيعوا ما يقول رسولنا ... إذا كنت عبدي طائعاً لي مسلما وإياكموا أن تخلفوا قوله ولو ... أتتكم طواغيت يضلون من عمى فكيف بقول الجهل: مالي سوى الذي ... أتى من ملالينا ومن هو مغمما بل قبلنا ناس مضوا هم أئمة ... وقد سطروا قول الرسول كما كما إذا كنت لا تفهم من الهدي الهدى ... عليك بما قالوا ترى الحق مفهما   1 أخرجه أبو داود (2723) والترمذي (3320) وابن ماجه (193) من طريق سماك بن حرب عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 وأما ملاليكم ذوو الجهل والرشا ... وكتب تعاويذ وسحر ليلقما فلا نحن نبغي الحكم منهم ولا ... ولا لأنهم أهل الضلالة والعمى هذه منظومة الشيخ المجاهد حامد بن محمد غفر لهما الله الصمد. والحمد لله رب العالمين. يقول الفقير إلى عفو الله بكر بن عبد الله أبو زيد ابن غيهب القضاعي: إنه بتاريخ 25/1/1417. انتهيت –بحمد الله وتوفيقه من التصحيح، والتعليق، حسب الوسع والطاقة- على هذا الشرح المبارك غفر الله لمؤلفه ورحمه، ونفع بكتابه هذا المسلمين، وأسأله سبحانه أن يثيبني على إحياء هذا الأثر النفيس وأن يكتب لي، ولمن ساعدني في المقابلة، والتصحيح، والتعليق خير الجزاء وأوفاه. آمين. المصحح بكر بن عبد الله أبو زيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493