الكتاب: كتاب الأيمان "ومعالمه، وسننه، واستكماله، ودرجاته" المؤلف: أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224هـ) المحقق: محمد نصر الدين الألباني الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الطبعة: الأولى، 1421هـ -2000م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الإيمان للقاسم بن سلام - محققا أبو عُبيد القاسم بن سلاّم الكتاب: كتاب الأيمان "ومعالمه، وسننه، واستكماله، ودرجاته" المؤلف: أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224هـ) المحقق: محمد نصر الدين الألباني الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الطبعة: الأولى، 1421هـ -2000م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم توكلت على الله 1 ـ بَابُ نَعْتِ الْإِيمَانِ فِي اسْتِكْمَالِهِ وَدَرَجَاتِهِ أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ؛ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَعْرُوفٍ – أعْني: ابْنَ أَبِي نَصْرٍ- فِي دَارِهِ بِدِمِشْقَ, فِي صَفَرٍ سَنَةَ عِشْرِينَ وَأَرْبَعْ مَائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الْعَسْكَرِيُّ "صَاحِبُ [أَبِي] عُبَيْدٍ؛ القاسم ابن سَلَامٍ" هَذِهِ الرِّسَالَةَ وَأَنَا أَسْمَعُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّكَ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ، وَاخْتِلَافِ الْأُمَّةِ فِي اسْتِكْمَالِهِ وَزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، وَتَذْكُرُ أَنَّكَ أحببتَ مَعْرِفَةَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ فارقهم فيه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فَإِنَّ هَذَا رَحِمَكَ اللَّهُ خَطْبٌ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ السَّلَفُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَتَابِعِيهَا ومَن بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ عِلمُه مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوحًا مُخَلَّصًا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. اعْلَمْ -رَحِمَكَ اللَّهُ- أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْعِنَايَةِ بِالدِّينِ افْتَرَقُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ فِرْقَتَيْنِ: فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: الْإِيمَانُ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ بِالْقُلُوبِ, وَشَهَادَةِ الْأَلْسِنَةِ وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ. وَقَالَتِ الفرقةُ الْأُخْرَى بَلِ الْإِيمَانُ بِالْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ، فَأَمَّا الأعمالُ فَإِنَّمَا هِيَ تَقْوَى وَبِرٌّ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ. وَإِنَّا نَظَرْنَا فِي اخْتِلَافِ الطَّائِفَتَيْنِ، فَوَجَدْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يُصَدِّقَانِ الطَّائِفَةَ الَّتِي جَعَلَتِ الْإِيمَانَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ والعملِ جَمِيعًا وَيَنْفِيَانِ مَا قَالَتِ الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وَالْأَصْلُ الَّذِي هُوَ حجّتُنا فِي ذَلِكَ اتِّبَاعُ مَا نَطَقَ بِهِ القرآنُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عُلُوًّا كَبِيرًا، قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً،} [النساء:59] . وَإِنَّا رَدَدْنَا الأمرَ إِلَى مَا ابْتَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1 وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ، فوجدناه قد جعلَ بدأ الْإِيمَانِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ عَشْرَ سِنِينَ, أَوْ بِضْعَ عَشَرَ سَنَةً يَدْعُو إِلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ الْمُفْتَرَضُ عَلَى الْعِبَادِ يَوْمَئِذٍ سِوَاهَا، فَمَنْ أَجَابَ إِلَيْهَا كَانَ مُؤْمِنًا، لَا يَلْزَمُهُ اسمٌ   1 الكتاب ليس فيه ذلك, فعرفنا أنّ المؤلّف التزم ذلك فيه غالباً فلم نستجز الزيادة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فِي الدِّينِ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ زكاةٌ, وَلَا صيامٌ, وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا التَّخْفِيفُ عَنِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ -فِيمَا يَرْوِيهِ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ, ورِفقاً بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا حَدِيثَ عهدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَجَفَائِهَا، وَلَوْ حَمَّلَهُمُ الْفَرَائِضَ كُلَّهَا مَعًا نَفَرَتْ مِنْهُ قُلُوبُهُمْ، وَثَقُلَتْ عَلَى أَبْدَانِهِمْ، فَجَعَلَ ذَلِكَ الإقرارَ بِالْأَلْسُنِ وَحْدَهَا هُوَ الْإِيمَانَ الْمُفْتَرَضَ عَلَى النَّاسِ يومئذٍ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ إِقَامَتَهُمْ بِمَكَّةَ كُلِّهَا، وَبِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْمَدِينَةِ وَبَعْدَ الْهِجْرَةِ. فَلَمَّا أَثَابَ الناسُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحَسُنَتْ1 فِيهِ رَغْبَتُهُمْ، زَادَهُمُ اللَّهُ فِي إِيمَانِهِمْ أَنْ صرفَ الصلاةَ إلى   1 الأصل: "حسنت" بدون واو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الْكَعْبَةِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ, فَقَالَ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] . ثُمَّ خَاطَبَهُمْ -وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ- بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُمْ، فِي كُلِّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ أَوْ نَهَاهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ فِي الْأَمْرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] , وَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] . وَقَالَ فِي النَّهْيِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} [آل عمران:30] , {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] . وَعَلَى هَذَا كُلُّ مخاطبةٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهَا أمرٌ أَوْ نهيٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بَعْدَ الْهِجْرَةِ, وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ بِالْإِقْرَارِ وحدَه؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فرضٌ غَيْرُهُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الشرائعُ بَعْدَ هَذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ وُجُوبُ الْأَوَّلِ سَوَاءً، لَا فَرْقَ بَيْنَهَا؛ لِأَنَّهَا جَمِيعًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ, وَبِأَمْرِهِ, وَبِإِيجَابِهِ. فَلَوْ أَنَّهُمْ عِنْدَ تحويلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ أَبَوْا أَنْ يُصلُّوا إِلَيْهَا, وَتَمَسَّكُوا بِذَلِكَ الإيمانِ الَّذِي لَزِمَهُمُ اسمُه، وَالْقِبْلَةُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنْهُمْ شَيْئًا، وَلَكَانَ فِيهِ نقضٌ لِإِقْرَارِهِمْ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ الْأُولَى لَيْسَتْ بِأَحَقَّ بِاسْمِ الْإِيمَانِ مِنَ الطَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَمَّا أَجَابُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَى قَبُولِ الصَّلَاةِ كَإِجَابَتِهِمْ إِلَى الْإِقْرَارِ، صَارَا جَمِيعًا مَعًا هُمَا يَوْمَئِذٍ الْإِيمَانُ، إِذْ أُضِيفَتِ الصلاةُ إِلَى الإقرارِ. وَالشَّهِيدُ1 عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الْإِيمَانِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ   1 كذا الأصل, وفي المواطن الآتية: "والشاهد", ولعلّه الصواب هنا بدليل قوله بعد سطور: "فأيّ شاهد ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم} [البقرة:143] . وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تُوُفُّوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فسُئل رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ1. فَأَيُّ شاهدٍ يُلتمس عَلَى أَنَّ الصلاةَ مِنَ الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَلَبِثُوا بِذَلِكَ بُرهةً مِنْ دَهْرِهِمْ، فَلَمَّا أَنْ دَارُوا إِلَى الصَّلَاةِ مُسَارَعَةً، وَانْشَرَحَتْ لَهَا صدُورهم، أَنْزَلَ اللَّهُ فَرْضَ الزَّكَاةِ فِي أَيْمَانِهِمْ إِلَى مَا قَبْلَهَا، فقال: {أَقِيمُوا   1 أخرجه البخاري من حديث البراء, والترمذي من حديث ابن عباس وصحّحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [البقرة:83 و110] 1. وَقَالَ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة:103] , فَلَوْ أَنَّهُمْ مُمْتَنِعُونَ مِنَ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ, وَأَعْطُوهُ ذَلِكَ بِالْأَلْسِنَةِ, وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ غيرَ أَنَّهُمْ مُمْتَنِعُونَ مِنَ الزَّكَاةِ كَانَ ذَلِكَ مُزيلاً لِمَا قَبْلَهُ، وَنَاقِضًا لِلْإِقْرَارِ وَالصَّلَاةِ, كَمَا كان   1 قلت: قد جاءت آيات مكية. ورد فيها ذكر الزكاة, تارة أمراً بها, وأخرى مدحاً لفاعليها, ومرة ذماً لتاركيها, ففي سورة "المزمل:20" {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل:20] , و"في النمل:3" و"لقمان:4" {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . وفي "فصلت:6/7": {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} . فالظاهر أنّ المراد بهذه الزكاة, الصدقات المفروضة من غير تعيين الأنصبة والمقادير, وإنّما فرض تعيينها في المدينة. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 إيتا1 الصَّلَاةِ قَبْلَ ذَلِكَ نَاقِضًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِقْرَارِ. وَالْمُصَدِّقُ لِهَذَا جِهَادُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ- بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى مَنْعِ الْعَرَبِ الزَّكَاةَ، كَجِهَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الشِّرْكِ سَوَاءً، لَا فَرْقَ بَيْنَهَا فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ, وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ, وَاغْتِنَامِ الْمَالِ، فَإِنَّمَا كَانُوا مَانِعِينَ لَهَا غَيْرَ جَاحِدِينَ بِهَا. ثُمَّ كَذَلِكَ كَانَتْ شرائعُ الْإِسْلَامِ كُلُّهَا، كُلَّمَا نَزَلَتْ شَرِيعَةٌ صَارَتْ مُضَافَةً إِلَى مَا قَبْلَهَا لَاحِقَةً بِهِ، وَيَشْمَلُهَا جَمِيعًا اسْمُ الْإِيمَانِ فَيُقَالُ لِأَهْلِهِ مُؤْمِنُونَ. وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي غَلِط فِيهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَوْلِ، لَمَّا سَمِعُوا تَسْمِيَةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ، أوجبوا لهم الإيمان كله بكماله.   1 كذا الأصل, ولعلّ الصواب "إباء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 كَمَا غَلَطُوا فِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْإِيمَانِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَكَذَا وَكَذَا" 1. وَحِينَ سَأَلَهُ الَّذِي عَلَيْهِ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ عَنْ عِتْقِ الْعَجَمِيَّةِ؟ فَأَمَرَ بِعِتْقِهَا, وَسَمَّاهَا مُؤْمِنَةً2. وَإِنَّمَا هَذَا عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَمِنْ قَبُولِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ بِمَا نَزَلَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنْزِلُ مُتَفَرِّقًا كَنُزِولِ الْقُرْآنِ. وَالشَّاهِدُ لِمَا نَقُولُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وسنةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، فمن الكتاب قوله:   1 يشير إلى حديث جبريل المخرج في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة, وعند مسلم من حديث ابن عمر عن عمر, وانظر الحديث 119. من "كتاب الإيمان" لابن أبي شيبة. 2 يشير إلى حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي فيه أنّه صلّى الله عليه وسلم سأل الجارية: "أين الله". رواه مسلم, وانظر "ابن أبي شيبة" رقم: 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] . وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ مِثْلِ هَذَا. أَفَلَسْتَ تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى لم ينزّل عليهم الإيمان جملة، كمالم يُنَزِّلِ الْقُرْآنَ جُمْلَةً؟ فَهَذِهِ الْحُجَّةُ مِنَ الْكِتَابِ، فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مُكَمَّلًا بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ مَا كَانَ لِلزِّيَادَةِ إِذًا مَعْنًى، وَلَا لِذِكْرِهَا مَوْضِعٌ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ مِنَ السُّنَّةِ وَالْآثَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ زِيَادَاتِ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ، فَفِي حَدِيثٍ مِنْهَا أَرْبَعٌ، وَفِي آخَرَ خَمْسٌ، وَفِي الثَّالِثِ تِسْعٌ، وَفِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الرَّابِعِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. فَمِنَ الْأَرْبَعِ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوا عَلَيْهِ فقالوا يا رسول الله إنّا1 هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَقَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضر، فَلَسْنَا نخلُص2 إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَعْمَلُ بِهِ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، فَقَالَ: "آمُرُكُمْ بأربعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أربعٍ، الْإِيمَانُ" ثُمَّ فَسَّرَهُ لَهُمْ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمس مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ والحنتم والنَّقير والمُقَيَّر" 3.   1 الأصل, "إن" والتصويب من "صحيح مسلم". لفظه غير مطابق لما هنا بخلاف لفظه في مسلم. 2 أي: نصل. زاد مسلم: "إليك". 3 هو: الوعاء المزفت, وهو المطلي بالقار, وهو الزفت. و"النقير" جذع ينقر وسطه. و"الحنتم": جرار خضر. و"الدباء": القرع اليابس, أي: الوعاء منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 1- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ1, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. وَمِنَ الْخَمْسِ، حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ سمعَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خمسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ". 2- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ, عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ, عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ, عَنِ ابْنِ عُمر, عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك2.   1 الأصل: "أبوحمزة, والتصحيح من "مسلم", فقد أخرجه من طريق أخرى عن عباد بن عباد به. واسم أبي جمرة: نصر بن عمران. 2 قلت: وإسناده صحيح على شرط الشيخين, وقد أخرجاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وَمِنَ التِّسْعِ، حَدِيثُ أَبِي هُريرة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّهُ قَالَ: " [إِنَّ] لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ"، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: "صُوًى": هِيَ مَا غلُظَ وَارْتَفَعَ مِنَ الأرضِ، وَاحِدَتُهَا صوَّة1 مِنْهَا أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ولا تشرك به   1 كان الأصل كما يأتي "الإسلام صوى ومنار كمنار الطريق منها. قال أبو عبيد: "صوى" ارتفع من الأرض, واحد من "صورة" كمنار منها" فصححت نص الحديث من "الأمالي" لابن بشران "ق98/2", والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" للحافظ عبد الغني المقدسي 82/1 وقد أخرجا الحديث من طريق المؤلف, ولكنهما لم يذكرا تفسيره لـ "الصوى" وصححت التفسير من "القاموس", و"لسان العرب" وحكاه هذا عن الأصمعي. وذكر عن أبي عمرو أنّه قال: "الصوى أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي, والمفازة المجهولة يستدلّ بها على الطريق وعلى طرفيها. أراد "يعني: الحديث" أنّ الإسلام طرائق وأعلاماً يهتدي بها". ثمّ قال صاحب "اللسان": "قال أبو عبيد: وقول أبي عمرو أعجب إليّ وهو أشبه بمعنى الحديث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 شَيْئًا، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى الْقَوْمِ إِذَا مَرَرْتَ بِهِمْ، فَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا [فَقَدْ تَرَكَ سَهْمًا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَرَكَهُنَّ] فَقَدْ وَلَّى الْإِسْلَامَ ظَهْرَهُ". 3- قَالَ أَبُو عُبيد: حَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَطَّارُ1 عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عن خالد بن معدان عن   1 الأصل: "القطان", والتصحيح من "الأمر بالمعروف" للحافظ المقدسي, ويحيى بن سعيد العطار هذا حمصي ضعيف. وقد خولف في إسناده, فرواه جماعة عن ثور بن يزيد عن خالد عن أبي هريرة, لم يذكروا الرجل. أخرجه جمعٌ, منهم: الحاكم 1/21, وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي. وهو كما قالا على ما حققته في "سلسلة الأحاديث الصحيحة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 رَجُلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَظَنَّ الْجَاهِلُونَ بِوُجُوهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهَا مُتَنَاقِضَةٌ؛ لِاخْتِلَافِ الْعَدَدِ مِنْهَا، وَهِيَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بَعِيدَةٌ عَلَى التَّنَاقُضِ، وَإِنَّمَا وُجُوهُهَا مَا أعلمتُك مِنْ نُزُولِ الْفَرَائِضِ بِالْإِيمَانِ مُتَفَرِّقًا، فَكُلَّمَا نَزَلَتْ وَاحِدَةٌ، أَلْحَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَدَهَا بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ كُلَّمَا جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ مِنْهَا أُخْرَى زَادَهَا فِي الْعَدَدِ حَتَّى جَاوَزَ ذَلِكَ السَّبْعِينَ كَلِمَةً. كَذَلِكَ [فِي] الْحَدِيثِ الْمُثْبَتِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "الْإِيمَانُ بِضْعَةٌ وَسَبْعُونَ جُزْءًا، أَفْضَلُهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ". 4- قَالَ أَبُو عُبيد: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ, عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ, عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ان دِينَارٍ, عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بهذا الحديث1.   1 إسناده صحيح على شرط مسلم, وقد أخرجه في "صحيحه" عن جرير عن سهيل به. وتابعه عن ابن دينار به, انظر ابن أبي شيبة 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وَإِنْ كَانَ زَائِدًا فِي الْعَدَدِ فَلَيْسَ هُوَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا تِلْكَ دَعَائِمُ وَأُصُولٌ، وَهَذِهِ فُرُوعُهَا زَائِدَاتٌ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ غير تلك الدعائم. فنرى -الله أَعْلَمُ- أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ آخِرُ مَا وَصَفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإيمان؛ لأن العدد إنما تناها بِهِ، وَبِهِ كَمُلَتْ خِصَالُهُ. وَالْمُصَدِّقُ لَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] . 5- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ, عَنْ سُفْيَانَ, عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ, عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: "أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَحْمَةُ اللَّهِ عليه: إنكم تقرأون آيَةً, لَوْ نَزَلَتْ فِينَا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عيداً, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ عمرُ: إِنِّي لأعلمُ حَيْثُ أُنزلت، وَأَيَّ يَوْمٍ أُنْزِلَتْ، [أُنْزِلَتْ] بِعَرَفَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ ". قَالَ سفيانٌ: وَأَشُكُّ أَقَالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا1. 6- قَالَ (أَبُو) عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ عن حماد بن2 سلمة, عن عمار ابن أبي عمار قال: تلى ابنُ عباسٍ هَذِهِ الْآيَةَ، وَعِنْدَهُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: لَوْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا لَاتَّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيدًا! قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدٍ؛ يَوْمِ جُمُعَةٍ وَيَوْمِ عَرَفَةَ".   1 إسناده صحيح على شرط الشيخين, وقد أخرجاه, وفي رواية لمسلم من طريق أبي عميس, عن قيس: نزلت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرفات يوم جمعة. 2 الأصل: عن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 7- قَالَ أَبُو عُبيد: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ, عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: "نزلتْ عَلَيْهِ وَهُوَ واقفٌ بعرفةَ حِينَ اضْمَحَلَّ الشِّرْكُ، وَهُدِمَ مَنَارُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ"1. فَذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِكْمَالَ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَا يُرْوَى قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِحْدَى وَثَمَانِينَ لَيْلَةً. 8- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ كَذَلِكَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. فَلَوْ كَانَ الإيمانُ كَامِلًا بِالْإِقْرَارِ، ورسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ النُّبُوَّةِ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ مَا كَانَ لِلْكَمَالِ مَعْنًى، وَكَيْفَ يُكَمِّلُ شَيْئًا قَدِ اسْتَوْعَبَهُ وَأَتَى عَلَى آخِرِهِ؟! قَالَ [أَبُو] عُبَيْدٍ: فَإِنْ قَالَ لَكَ قائل: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟   1 إسناده مرسل صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قِيلَ لَهُ: لَمْ تُسَمَّ لَنَا مَجْمُوعَةً فَنُسَمِّيَهَا، غَيْرَ أَنَّ الْعِلْمَ يُحِيطُ أَنَّهَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ، وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ لَنَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ تَفَقَّدْتَ الْآثَارَ لوجِدت مُتَفَرِّقَةً فِيهَا، أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ فِي إِمَاطَةِ الْأَذَى وَقَدْ جَعَلَهُ جُزْءًا مِنَ الْإِيمَانِ؟ وَكَذَلِكَ1 قَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" 2, وَفِي الثَّالِثِ: " الْغَيْرَةُ مِنَ الْإِيمَانِ" 3, وَفِي الرَّابِعِ: "الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ" 4, وَفِي الْخَامِسِ: "حُسْنُ الْعَهْدِ من الإيمان" 5.   1 الأصل: "وذلك". 2 متفق عليه من حديث أبي هريرة. وانظر ابن أبي شيبة 66. 3 رواه البزار وابن بطة في "الإبانة" عن أبي سعيد مرفوعاً بسندٍ فيه مجهول الحال. 4 يعني التقشف. والحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهم عن أبي أمامة الحارثي مرفوعاً, وصححه الحاكم, ووافقه الذهبي. 5 حديث حسن, وصححه الحاكم, وقد خرجته في "سلسلة الأحاديث الصحيحة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فَكُلُّ هَذَا مِنْ فُروع الْإِيمَانِ. وَمِنْهُ حَدِيثُ عَمَّارٍ: "ثلاثٌ مِنَ الْإِيمَانِ: الْإِنْفَاقُ مِنَ الإقتارِ، والإنصافُ مِنْ نفسِك، وبذلُ السَّلَامِ عَلَى العالَم" 1. ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ ذِكْرِ كَمَالِ الْإِيمَانِ حِينَ قَالَ: "أَيُّ الْخَلْقِ أَعْظَمُ إِيمَانًا؟ فَقِيلَ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ قِيلَ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فقال بل قوم يأتون بعدكم" 2.   1 روي مرفوعاً وموقوفاً, والراجح الموقوف على أنّ في سنده من كان اختلط, انظر الكلام عليه مع تخريجه فيما علّقته على "الكلم الطيّب" لابن تيمية رقم الحديث 195, والحديث 125, من "الإيمان" لابن أبي شيبة وهما طبع مكتبة المعارف بالرياض. 2 أخرجه الحسن بن عرفة في "جزئه" ق90/2 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً وسنده ضعيف. وأخرجه الحاكم من حديث عمر, وصحّحه, وردّه الذهبي عليه, وبيان ذلك في المائة السابعة من "سلسلة الأحاديث الضعيفة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فَذَكَرَ صِفَتَهُمْ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ: "إِنَّ أَكْمَلَ، أَوْ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" 1. وَكَذَلِكَ2 قَوْلُهُ: "لَا يُؤْمِنُ الرَّجُلُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَدَعَ الْكَذِبَ فِي الْمِزَاحِ، وَالْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا" 3. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عُمَرَ. ثُمَّ مِنْ أَوْضَحِ ذَلِكَ وَأَبْيَنِهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم في   1 حديث صحيح, وصحّحه جماعة, وقد أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة وعائشة والحسن البصري, فراجع تعليقنا عليه رقم: 17 و20 و120. 2 الأصل: "وذلك". 3 أخرجه أحمد 2/352, 353, 354. من حديث مكحول عن أبي هريرة مرفوعاً به, ومكحول لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الشَّفَاعَةِ, حِينَ قَالَ: "فَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وبُرة مِنْ إِيمَانٍ, وَمِثْقَالُ ذَرَّةٍ" 1. وَإِلَّا صُولِبَ2. وَمِنْهُ حَدِيثُهُ فِي الْوَسْوَسَةِ حِينَ سُئِلَ عَنْهَا؟ فَقَالَ: "ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ" 3. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: "إِنَّ الْإِيمَانَ يَبْدَأُ لُمْظَة4 فِي الْقَلْبِ, فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ عِظَمًا ازْدَادَ ذَلِكَ الْبَيَاضُ عِظَمًا"5 فِي أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كثيرة يطول   1 متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه, وأخرجه ابن أبي شيبة 35. 2 كذا الأصل مهمل الحروف. 3 أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة, وهو مخرج في "الأحاديث الصحيحة". 4 بضم اللام مثل النكتة من البياض. 5 هذا موقوف على عليّ رضي الله عنه, كذلك أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه رقم 8, وإسناده منقطع كما بيّنته هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ذِكْرُهَا1 تَبَيَّنَ لَكَ التَّفَاضُلُ فِي الْإِيمَانِ بِالْقُلُوبِ والأعمال، وكلها يشد أَوْ أَكْثَرُهَا أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ مِنَ الْإِيمَانِ، فَكَيْفَ تُعَانَدُ هَذِهِ الْآثَارُ بِالْإِبْطَالِ وَالتَّكْذِيبِ؟! وَمِمَّا يُصَدِّقُ تَفَاضُلَهُ بِالْأَعْمَالِ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ... } إِلَى قَوْلِهِ: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2-3] 2. فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ حَقِيقَةً إِلَّا بِالْعَمَلِ على هذه الشروط، والذي يزعم أَنَّهُ بِالْقَوْلِ خَاصَّةً يَجْعَلُهُ مُؤْمِنًا حَقًّا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَمَلٌ فَهُوَ مُعَانِدٌ لِكِتَابِ الله والسنة.   1 قلت: يراجع الكثير الطيب منها في كتاب ابن أبي شيبة. 2 وتمامها: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ تَفَاضُلَهُ فِي الْقَلْبِ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] . أَلَسْتَ تَرَى أَنَّ هَاهُنَا مَنْزِلًا دُونَ مَنْزِلٍ: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:10] . كَذَلِكَ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] . فلولا أن هناك موضع مزيداً، مَا كَانَ لَأَمْرِهِ بِالْإِيمَانِ مَعْنًى، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: {ألم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3] . وَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وَقَالَ: {وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] . أَفَلَسْتَ تَرَاهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَدِ امْتَحَنَهُمْ بِتَصْدِيقِ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ بِالْإِقْرَارِ دُونَ الْعَمَلِ، حَتَّى جَعَلَ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ؟ فَأَيُّ شَيْءٍ يُتَّبَعُ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَاجِ السَّلَفِ بَعْدَهُ الَّذِينَ هُمْ مَوْضِعُ الْقُدْوَةِ وَالْإِمَامَةِ؟! فَالْأَمْرُ الَّذِي عَلَيْهِ السُّنَّةُ عِنْدَنَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا؟ مِمَّا اقْتَصَصْنَا فِي كِتَابِنَا1 هَذَا: أَنَّ الْإِيمَانَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا، وَأَنَّهُ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، إِلَّا أَنَّ أَوَّلَهَا وأعلاها الشَّهَادَةُ بِاللِّسَانِ, كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِ بِضْعَةً وَسَبْعِينَ جُزْءًا، فَإِذَا نَطَقَ بِهَا   1 الأصل: "عندنا ماضي عليه عملماءنا وما اقتصصنا في كتابنا هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الْقَائِلُ، وَأَقَرَّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَزِمَهُ اسْمُ الْإِيمَانِ بِالدُّخُولِ فِيهِ بِالِاسْتِكْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا عَلَى تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لِلَّهِ طَاعَةً وَتَقْوَى، ازْدَادَ بِهِ إِيمَانًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ 9- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَا مؤمنٌ! فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَفَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: أَرْجُو، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَفَلَا وكلتَ الْأُولَى كَمَا وَكَّلْتَ الْأُخْرَى؟ 1". 10- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ, عَنِ الْأَعْمَشِ, عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذْ لقينا   1 رجال إسناده ثقات رجال الستة, إلاّ أنّه منقطع بين الحسن, وابن مسعود. وأبو الأشهب اسمه جعفر بن حيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 رَكْبًا فَقُلْنَا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ! فَقَالَ: أَوَلَا قَالُوا: إِنَّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟! 1". 11- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ, وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ, عَنْ سلَمة بْنِ كُهَيل, عَنْ إِبْرَاهِيمَ, عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا مُؤْمِنٌ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "فَقُلْ: إِنِّي فِي الْجَنَّةِ! وَلَكِنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ". 12- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ, عَنْ سُفْيَانَ, عَنْ مُحلّ2 بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: قَالَ لي إبراهيم:   1 إسناده على شرط الشيخين. وكذا إسناد الذي بعده. والأول أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه 122 من طريق أخرى عن أبي وائل به نحوه. 2 هو بضمّ أوله, وكسر ثانيه, وتشديد اللام, وكان الأصل: "مجلي", فصحّحناه من كتب الرجال. وهو كوفي, ولا بأس به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 "إِذَا قِيلَ لَكَ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟؟ فَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ". 13- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ, عَنْ سُفْيَانَ, عَنْ مَعْمَرٍ, عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ, عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "إِذَا قِيلَ لَكَ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ فَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ". 14- قَالَ أَبُو عُبيد: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ, عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ, عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: "إِذَا قِيلَ لَكَ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ فَقُلْ: {آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ ... } الآية1 [البقرة:136] .   1 وتمامها: { ... وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 15- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ مَنْصُورٍ, عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: "قَالَ رجلٌ لِعَلْقَمَةَ أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَرْجُو إِنْ شَاءَ اللَّهُ". قَالَ أَبُو عُبيد: وَلِهَذَا كَانَ يَأْخُذُ سُفْيَانُ وَمَنْ وَافَقَهُ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ, وَإِنَّمَا كَرَاهَتُهُمْ عِنْدَنَا أَنْ يبتُّوا الشهادةَ بِالْإِيمَانِ مَخَافَةَ مَا أعلمتُكم فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنَ التزكيةِ وَالِاسْتِكْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَمَّا عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ أَهْلَ الْمِلَّةِ جَمِيعًا مُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ, وَذَبَائِحَهُمْ, وَشَهَادَاتِهِمْ, وُمُنَاكَحَتَهُمْ, وَجَمِيعَ سُنَّتِهِمْ: إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَرَى الِاسْتِثْنَاءَ وَتَرْكَهُ جَمِيعًا وَاسِعَيْنِ. 16- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ, عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: "مَنْ قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ فَحَسَنٌ، وَمَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَحَسَنٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَتَدْخُلُنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ". وَهَذَا عِنْدِي وَجْهُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ1 حِينَ أَتَاهُ صَاحِبُ مُعَاذٍ فَقَالَ: "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: مُؤْمِنٌ وَمُنَافِقٌ وَكَافِرٌ, فَمِنْ أَيِّهِمْ كُنْتَ؟ قَالَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا نَرَاهُ أَرَادَ أَنِّي كُنْتُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ لَا مِنَ الْآخَرِينَ. فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ, فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَنَا أَعْلَمَ بِاللَّهِ وَأَتْقَى لَهُ مِنْ أَنْ يُرِيدَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ, وَاللَّهُ يَقُولُ: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] . وَالشَّاهِدُ: -عَلَى مَا نَظُنُّ- أَنَّهُ كان قبل هذا لا يقول:   1 هو ابن مسعود, وحديثه المشار إليه, أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه 73, وفي سنده رجل لم يُسم, وقد أنكره يحيى بن سعيد كما يأتي عند المصنف بعد قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أَنَا مُؤْمِنٌ عَلَى تَزْكِيَةٍ وَلَا عَلَى غَيْرِهَا، وَلَا نَرَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُهُ عَلَى قَائِلِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَخَذَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ وطاووس وَابْنُ سِيرِينَ. ثُمَّ أَجَابَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى أَنْ قَالَ: "أَنَا مُؤْمِنٌ" فَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ مَحْفُوظًا عَنْهُ1 فَهُوَ عِنْدِي عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ، وقد رأيت يحيى ين سَعِيدٍ يُنْكِرُهُ وَيَطْعَنُ فِي إِسْنَادِهِ لِأَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى خِلَافِهِ. وَكَذَلِكَ نَرَى مَذْهَبَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَسَمَّوْنَ بِهَذَا الِاسْمِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، فَيَقُولُونَ نَحْنُ مُؤْمِنُونَ، مِنْهُمْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، وَعَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، مِثْلُ: عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ, وَالصَّلْتُ بن   1 الأصل: "محفوظ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بَهْرَامَ، وَمِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ، ومَن نَحَا نَحْوَهُمْ، إِنَّمَا هُوَ عِنْدَنَا مِنْهُمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ لَا عَلَى الِاسْتِكْمَالِ, أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ ابْنِ سِيرِينَ وَطَاوُسٍ إِنَّمَا كَانَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا بِهِ1 أَصْلًا، وَكَانَ الْآخَرُونَ يَتَسَمَّونَ بِهِ. فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ كَإِيمَانِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ! فَمَعَاذَ اللَّهِ، لَيْسَ هَذَا طَرِيقَ الْعُلَمَاءِ, وَقَدْ جَاءَتْ كراهيته مفسرة عن عِدَّةٍ مِنْهُمْ. 17- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ -أَوْ حُدثتُ عَنْهُ- عَنْ جُويبر عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَنَا عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. 18- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ   1 كذا الأصل, وفيه سقط ظاهر, ولعله "كانوا لا يتسمّون به أصلاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الْمِصْرِيُّ, عَنْ نَافِعٍ, عَنْ عُمَرَ الْجُمَحِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ, وَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: إِنَّ رَجُلًا فِي مَجَالِسِكَ يَقُولُ: إِنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِ جَبْرَائِيلَ! فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَاللَّهِ قَدْ فُضِّلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ، مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] . 19- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حُدثنا عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: أَنَّهُ رَأَى جَارِيَةً تُغَنِّي فَقَالَ: "مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ عَلَى إِيمَانِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ فَقَدْ كَذَبَ". وَكَيْفَ يَسَعُ أَحَدًا أَنْ يُشَبِّهَ الْبَشَرَ بِالْمَلَائِكَةِ, وَقَدْ عَاتَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَشَدَّ الْعِتَابِ، وَأَوْعَدَهُمْ أَغْلَظَ الْوَعِيدِ، وَلَا يُعْلَمُ فَعَلَ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 شَيْئًا, فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا} [النساء:29-30] . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين، فَإِن لَّمْ تَفْعلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} الآية1 [البقرة:278-279] . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُون} [الصف:2] . {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ   1 وتمامها: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] . فَأَوْعَدَهُمُ النَّارَ فِي آيَةٍ، وَآذَنَهُمْ بِالْحَرْبِ فِي أُخْرَى, وَخَوَّفَهُمْ بِالْمَقْتِ فِي ثَالِثَةٍ، وَاسْتَبْطَأَهُمْ فِي رَابِعَةٍ، وَهُوَ فِي هَذَا كُلِّهِ يُسَمِّيهِمْ مُؤْمِنِينَ، فَمَا تَشَبُّهُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ مَعَ مَكَانِهِمَا مِنَ اللَّهِ!؟ إِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ الِاجْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ والجهل بكتابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 3 ـ بَابُ الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالِانْتِقَاصِ مِنْهُ: 20- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ, عَنْ سُفْيَانَ, عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ, عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ لِرَجُلٍ: "اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً يَعْنِي نذكر الله"1.   1 إسناده صحيح على شرط الشيخين, وأخرجه ابن أبي شيبة في كتابه "رقم: 105 و107 عن الأعمش, عن جامع به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وَبِهَذَا الْقَوْلِ كَانَ يَأْخُذُ سُفْيَانُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، يَرَوْنَ أَعْمَالَ الْبِرِّ جَمِيعًا مِنَ الِازْدِيَادِ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا عِنْدَهُمْ مِنْهُ, وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي خَمْسِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ مِنْهُ, قَوْلُهُ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] . وَقَوْلُهُ: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] . وَقَوْلُهُ: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] . وَمَوْضِعَانِ آخَرَانِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ، فَاتَّبَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتَأَوَّلُوهَا أَنَّ الزِّيَادَاتِ هِيَ الْأَعْمَالُ الزَّاكِيَةُ. وَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الْإِيمَانَ قَوْلًا وَلَا عَمَلَ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 أَحَدُهَا: أَنْ قَالُوا: أَصْلُ الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ بِجُمَلِ الْفَرَائِضِ, مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا, وَالزِّيَادَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْجُمَلِ، وَهُوَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ هِيَ خَمْسٌ، وَأَنَّ الظُّهْرَ هِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثَةٌ، وَعَلَى هَذَا رَأَوْا سَائِرَ الْفَرَائِضِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: أَصْلُ الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالزِّيَادَةُ تُمَكِّنُ مِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ قَالُوا الزِّيَادَةُ فِي الْإِيمَانِ الِازْدِيَادُ مِنَ الْيَقِينِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ قَالُوا إِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَزْدَادُ أَبَدًا، وَلَكِنِ النَّاسُ يَزْدَادُونَ مِنْهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَمْ أَجِدْ لَهَا مُصَدِّقًا فِي تَفْسِيرِ الْفُقَهَاءِ وَلَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَالتَّفْسِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُعَاذٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 حِينَ قَالَ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً, فَيُتَوَهَّمُ عَلَى مِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَعْرِفِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ, وَمَبْلَغَ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا إِلَّا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ فَضَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْعِلْمِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ثُمَّ قَالَ: "يَتَقَدَّمُ الْعُلَمَاءُ بِرِتْوِهِ"؟! 1 هَذَا لَا يَتَأَوَّلُهُ أَحَدٌ يَعْرِفُ مُعَاذًا. وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَإِنَّا لَمْ نَجْدِ الْمَعْنَى فِيهِ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَهُمْ, وَذَلِكَ كَرَجُلٍ أَقَرَّ لَهُ رجلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَهَا فَقَالَ: مِائَةٌ مِنْهَا فِي جِهَةِ كَذَا، وَمِائَتَانِ فِي جِهَةِ كَذَا، حَتَّى اسْتَوْعَبَ الْأَلْفَ، مَا كَانَ هَذَا يُسَمَّى زِيَادَةً،   1 أي: برمية سهم. والحديث رواه ابن سعد عن محمد بن كعب والحسن البصري مرسلاً مرفوعاً, وهو وابن عساكر عن عمر رضي الله عنه موقوفاً, والحاكم عن أنس رضي الله عنه موقوفاً, ورفعه الطبراني, فالحديث صحيح بمجموع الطرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَإِنَّمَا يُقال لَهُ تَلْخِيصٌ وَتَفْصِيلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُلَخِّصْهَا, وَلَكِنَّهُ رَدَّدَ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ مَرَّاتٍ، مَا قِيلَ لَهُ زِيَادَةٌ أَيْضًا، إِنَّمَا هُوَ تَكْرِيرٌ وَإِعَادَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا. فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يَزْدَادُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ هُوَ الزِّيَادَةُ، فَإِنَّهُ مَذْهَبٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ؛ لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ وَصَفَ مَالَهُ فَقِيلَ: هُوَ أَلْفٌ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ ازْدَادَ مِائَةً بَعْدَهَا، مَا كَانَ لَهُ مَعْنًى يَفْهَمُهُ النَّاسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمِائَةُ هِيَ الزَّائِدَةُ عَلَى الْأَلْفِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ، فَالْإِيمَانُ مِثْلُهَا، لَا يَزْدَادُ النَّاسُ مِنْهُ شَيْئًا، إِلَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ الزَّائِدُ فِي الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الَّذِينَ جَعَلُوا الزِّيَادَةَ ازْدِيَادَ الْيَقِينِ فَلَا مَعْنًى لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ مِنَ الْإِيمَانِ, فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ كُلُّهُ بِرُمَّتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 إِنَّمَا هُوَ الْإِقْرَارُ، ثُمَّ اسْتَكْمَلَهُ هَؤُلَاءِ الْمُقِرُّونَ بِإِقْرَارِهِمْ, أَفَلَيْسَ قَدْ أَحَاطُوهُ بِالْيَقِينِ مِنْ قَوْلِهِمْ!! فَكَيْفَ يَزْدَادُ مِنْ شَيْءٍ قَدِ اسْتُقْصِيَ وأُحيط به؟! أرأيتم رجلاً نظر إلى النهار بِالضُّحَى حَتَّى أَحَاطَ عَلَيْهِ كُلُّهُ بِضَوْئِهِ هَلْ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزْدَادَ يَقِينًا بِأَنَّهُ نَهَارٌ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ؟! هَذَا يَسْتَحِيلُ وَيَخْرُجُ مِمَّا يَعْرِفُهُ النَّاسُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 4- بَابُ تَسْمِيَةِ الْإِيمَانِ بِالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ: إِذَا أَقَرَّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ, وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ بِلِسَانِهِ، فَذَلِكَ الْإِيمَانُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلَيْسَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ عِنْدَنَا قَوْلًا، وَلَا نَرَاهُ شَيْئًا، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا أَعْلَمْتُكَ فِي الثُّلُثِ الْأَوَّلِ؛ أَنَّ الْإِيمَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الْمَفْرُوضَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَيْئًا إِلَّا إِقْرَارٌ فَقَطْ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْأُخْرَى: فَإِنَّا وَجَدْنَا الْأُمُورَ كُلَّهَا يَسْتَحِقُّ النَّاسُ بِهَا أَسْمَاءَهَا مَعَ ابْتِدَائِهَا وَالدُّخُولِ فِيهَا، ثُمَّ يَفْضل فِيهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ شَمِلَهُمْ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّكَ تَجِدُ الْقَوْمَ صُفُوفًا بَيْنَ مُسْتَفْتِحٍ لِلصَّلَاةِ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ، وَقَائِمٍ وَجَالِسٍ، فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُ اسْمُ الْمُصَلِّي، فَيُقَالُ لَهُمْ مُصَلُّونَ، وَهُمْ مَعَ هَذَا فِيهَا مُتَفَاضِلُونَ. وَكَذَلِكَ صِنَاعَاتُ النَّاسِ، لَوْ أَنَّ قَوْمًا ابْتَنُوا حَائِطًا وَكَانَ بَعْضُهُمْ فِي تَأْسِيسِهِ، وَآخَرُ قَدْ نَصَّفَهُ، وَثَالِثٌ قَارَبَ الْفَرَاغَ مِنْهُ، قِيلَ لَهُمْ جَمِيعًا بُنَاةٌ، وَهُمْ مُتَبَايِنُونَ فِي بِنَائِهِمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أُمروا بِدُخُولِ دَارٍ، فَدَخَلَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أَحَدُهُمْ، فَلَمَّا تَعَتَّبَ الْبَابَ1 أَقَامَ مَكَانَهُ، وَجَاوَزَهُ الْآخَرُ بِخُطُوَاتٍ، وَمَضَى الثَّالِثُ إِلَى وَسَطِهَا، قِيلَ لَهُمْ جَمِيعًا دَاخِلُونَ، وَبَعْضُهُمْ فِيهَا أَكْثَرُ مَدْخَلًا مِنْ بَعْضٍ. فَهَذَا الْكَلَامُ الْمَعْقُولُ عِنْدَ الْعَرَبِ السَّائِرُ فِيهِمْ، فَكَذَلِكَ الْمَذْهَبُ فِي الْإِيمَانِ، إِنَّمَا هُوَ دُخُولٌ فِي الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر] . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} [البقرة:208] . فالسلم الإسلام, وقوله: {كافة} مَعْنَاهَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ2. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُني الْإِسْلَامُ عَلَى خمسٍ" , فَصَارَتِ الخمسُ كُلُّهَا هِيَ الْمِلَّةُ التي سمّاها الله سلماً   1 تجاوز عتبة الباب, وهي ... خشبة الباب التي يوطأ عليها. 2 الأصل: "بالإحاطة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مَفْرُوضًا. فَوَجَدْنَا أَعْمَالَ الْبِرِّ, وَصِنَاعَاتِ الْأَيْدِي, وَدُخُولِ الْمَسَاكِنِ كُلَّهَا تَشْهَدُ عَلَى اجْتِمَاعِ الِاسْمِ, وَتَفَاضُلِ الدَّرَجَاتِ فِيهَا، هَذَا فِي التَّشْبِيهِ وَالنَّظَرِ, مَعَ مَا احْتَجَجْنَا بِهِ1 مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَهَكَذَا الإيمانُ هُوَ دَرَجَاتٌ وَمَنَازِلٌ، وَإِنْ كَانَ سَمَّى أَهْلَهُ اسْمًا وَاحِدًا, وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالٍ تَعَبَّدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ, وَفَرَضَهُ عَلَى جَوَارِحِهِمْ، وَجَعَلَ أَصْلَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ، ثُمَّ جَعَلَ الْمَنْطِقَ شَاهِدًا عَلَيْهِ، ثُمَّ الْأَعْمَالَ مُصَدِّقَةً لَهُ، وَإِنَّمَا أَعْطَى اللَّهُ كُلَّ جَارِحَةٍ عَمَلًا لَمْ يُعْطِهِ الْأُخْرَى، فَعَمَلُ الْقَلْبِ: الِاعْتِقَادُ، وَعَمَلُ اللِّسَانِ: الْقَوْلُ، وَعَمَلُ الْيَدِ: التَّنَاوُلُ، وَعَمَلُ الرِّجْلِ: المشي، وكلها يجمعها اسم   1 الأصل: "اجتجاجنا به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الْعَمَلِ. فَالْإِيمَانُ عَلَى هَذَا التَّنَاوُلِ إِنَّمَا هُوَ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَمَلِ، مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَفَاضَلُ فِي الدَّرَجَاتِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَزَعَمَ مَنْ خَالَفَنَا أَنَّ الْقَوْلَ دُونَ الْعَمَلِ، فَهَذَا عِنْدَنَا مُتَنَاقِضٌ، لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَهُ قَوْلًا فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ عَمَلٌ وَهُوَ لَا يَدْرِي بِمَا أَعْلَمْتُكَ مِنَ الْعِلَّةِ الْمَوْهُومَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ عَمَلًا. ً وَتَصْدِيقُهُ فِي تَأْوِيلِ الْكِتَابِ فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، قَوْلُ اللَّهِ فِي الْقَلْبِ: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان} [النحل:106] . وَقَالَ: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] . وَقَالَ: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج:35] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْجَسَدِ لَمُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ، وَهِيَ الْقَلْبُ" 1. وَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مُطْمَئِنًا مَرَّةً، ويَصغَى أُخْرَى، وَيَوْجَلُ ثَالِثَةً، ثُمَّ يَكُونُ مِنْهُ الصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ، فَأَيُّ عَمَلٍ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا؟ ثُمَّ بَيَّنَ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8] . فَهَذَا مَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ. وَأَمَّا عَمَلُ اللِّسَانِ2, فَقَوْلُهُ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108] , فَذَكَرَ الْقَوْلَ ثم سماه عملاً.   1 أخرجه الشيخان من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه بأتمّ مما هنا. 2 الأصل: "قوله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ثُمَّ قَالَ: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41] . هَلْ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ إِلَّا دُعَاؤُهُ إِيَّاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَرَدُّهُمْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَقَدْ أَسْمَاهَا هَاهُنَا عَمَلًا؟ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ} إِلَى {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُون} [الصافات:51-61] . فَهَلْ يَكُونُ التَّصْدِيقُ إِلَّا بِالْقَوْلِ وَقَدْ جَعَلَ صَاحِبَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 هاهنا عاملا؟! ثم قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ:13] , فَأَكْثَرَ مَا يَعْرِفُ النَّاسُ مِنَ الشُّكْرِ أَنَّهُ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُكَافَأَةُ قَدْ تُدْعَى شُكْرًا. فَكُلُّ هَذَا الَّذِي تَأَوَّلْنَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ, وَمَا وَجَدْنَا أَهْلَ الْعِلْمِ يَتَأَوَّلُونَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُسْتَفِيضُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ غَيْرَ الْمَدْفُوعِ, فَتَسْمِيَتُهُمُ1 الْكَلَامَ عَمَلًا، مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَقَدْ عَمِلَ فُلَانٌ الْيَوْمَ عَمَلًا كَثِيرًا، إِذَا نَطَقَ بِحَقٍّ وَأَقَامَ الشَّهَادَةَ، وَنَحْوَ هَذَا. وَكَذَلِكَ إِنْ أَسْمَعَ رَجُلٌ صَاحِبَهُ مَكْرُوهًا، قِيلَ قَدْ عَمِلَ بِهِ2 الْفَاقِرَةَ، وَفَعَلَ بِهِ الأفاعيل، ونحوه من القول،   1 كذا الأصل, ولا يخلو من شيءٍ. 2 الأصل: "بها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فَسَمُّوهُ عَمَلًا، وَهُوَ لَمْ يَزِدْهُ عَلَى الْمَنْطِقِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ: "مَنْ عَدَّ كلامَه مِنْ عَمَلِهِ، قَلَّ كلامُه إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ"1. فَوَجَدْنَا تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ، وَآثَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَضَتْ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَصِحَّةُ النَّظَرِ، كُلُّهَا تُصَدِّقُ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي الْإِيمَانِ، فَيَبْقَى الْقَوْلُ الْآخَرُ، فَأَيُّ شَيْءٍ يُتَّبَعُ بَعْدَ هَذِهِ الْحُجَجِ الْأَرْبَعِ؟! 2. وَقَدْ يَلْزَمُ أَهْلَ هَذَا الرَّأْيِ مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْإِيمَانِ مُسْتَكْمِلٌ لَهُ، مِنَ التَّبَعَةِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ فِيمَا قُصَّ عَلَيْنَا مِنْ نَبَأِ إِبْلِيسَ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ فَإِنَّهُ قَالَ: {إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} [ص:   1 لم أقف عليه, وأغلب الظن أنّه موقوف. 2 الأصل: "الحجة" وفيه بعد سطر "الشيعة ممّا" بدل التبعة ما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 74] , فَجَعَلَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِكْبَارِ كَافِرًا, وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ غَيْرُ جاحدٍ لَهُ، أَلَا تَسْمَعُ: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف:12] , وَقَوْلُهُ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ} [الحجر:39] ؟ فَهَذَا الْآنَ مُقِرٌّ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ، وَأَثْبَتَ الْقَدَرَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف:16 والحجر:39] وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] أنه كان كافرا قبل ذلك! ولا وَجْهَ لِهَذَا عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالسُّجُودِ لَمَا كَانَ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ1 وَلَا كَانَ عَاصِيًا إِذًا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ. وَيَنْبَغِي فِي هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ إِبْلِيسُ قَدْ عَادَ إِلَى   1 يعني الذين أمروا بالسجود, ولا يعني المصنف رحمه الله تعالى: أنّه كان منهم في الخلق والجبلة, كيف والقرآن يقول عنه: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50] . والرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: "خلقت الملائكة من نور, وخلق الجان من نارٍ, وخلق آدم ممّا وصف لكم". مختصر مسلم رقم: 2169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الْإِيمَانِ بَعْدَ الْكُفْرِ لِقَوْلِهِ: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] , وَقَوْلِهِ: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف:12] فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَكِتَابَهُ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ أَنْ يُثْبِتَ الْإِيمَانَ لِإِبْلِيسَ الْيَوْمَ؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 5 ـ بَابُ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةَ بِالْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَدْ ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنْ مُفَارَقَةِ الْقَوْمِ إِيَّانَا [فِي أَنَّ] الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ، عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَنَا مُفَارِقِينَ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى مَذْهَبٍ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي مِثْلِهِ. ثُمَّ حَدَّثَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ شَذَّتْ عَنِ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا الدِّينِ، فَقَالُوا: الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقُلُوبِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قولٌ وَلَا عملٌ! وَهَذَا مُنْسَلِخٌ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمِلَلِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِمُعَارَضَتِهِ1   1 الأصل: "لا معاوضة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 لِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّدِ وَالتَّكْذِيبِ، أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} الآية [البقرة:136] ؟ فَجَعَلَ الْقَوْلَ فَرْضًا حَتْمًا، كَمَا جَعَلَ مَعْرِفَتَهُ فَرْضًا، وَلَمْ يَرْضَ بِأَنْ يَقُولُ: اعْرِفُونِي بِقُلُوبِكِمْ. ثُمَّ أَوْجَبَ مَعَ الْإِقْرَارِ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ كَإِيجَابِ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ إِيمَانًا إِلَّا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] , وَقَالَ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] . وَقَالَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [البقرة:146] يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ مَعْرِفَتَهُمْ بِهِ إِذْ تَرَكُوا الشَّهَادَةَ لَهُ بألسنتهم إيمانا، ً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ثُمَّ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ" فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا لَا تُحْصَى. وَزَعَمَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ أَنَّ اللَّهَ رَضِيَ عَنْهُمْ بِالْمَعْرِفَةِ! وَلَوْ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ وَدِينُهُ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ مَا عُرِفَ الْإِسْلَامُ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا فُرِّقَتِ الْمِلَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، إِذْ كَانَ يَرْضَى مِنْهُمْ بِالدَّعْوَى عَلَى قُلُوبِهِمْ، غَيْرَ إِظْهَارِ الْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ، وَالْبَرَاءَةُ مِمَّا سِوَاهَا، وَخَلْعِ الْأَنْدَادِ وْالْآلِهَةِ بِالْأَلْسِنَةِ بَعْدَ الْقُلُوبِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا يَكُونُ مُؤْمِنًا ثُمَّ شَهِدَ رَجُلٌ بِلِسَانِهِ أَنَّ اللَّهَ ثَانِي اثْنَيْنِ كَمَا يَقُولُ الْمَجُوسُ وَالزَّنَادِقَةُ، أَوْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ كَقَوْلِ النَّصَارَى، وَصَلَّى لِلصَّلِيبِ، وَعَبَدَ النِّيرَانَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ لَكَانَ يَلْزَمُ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنْ يَجْعَلَهُ مُؤْمِنًا مُسْتَكْمِلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الْإِيمَانَ كَإِيمَانِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ! فَهَلْ يَلْفِظُ بِهَذَا أَحَدٌ يَعْرِفُ اللَّهَ أَوْ مُؤْمِنٌ لَهُ بِكِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ؟ وَهَذَا عِنْدَنَا كفرٌ لَنْ يَبْلُغَهُ إِبْلِيسُ فَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْكُفَّارِ قَطُّ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 6 ـ بَابُ ذِكْرِ مَا عَابَتْ بِهِ الْعُلَمَاءُ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ قَوْلًا بِلَا عَمَلٍ، وَمَا نَهُوا عنه من مجالستهم. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ, عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ, عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيِّ, قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ1: "إِنِّي لَأَعْرِفُ أَهْلَ دِينَيْنِ، أَهْلَ ذَيْنِكَ الدِّينَيْنِ فِي النَّارِ، قَوْمٌ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ، وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ، وَقَوْمٌ يَقُولُونَ: مَا بَالُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؟! وَإِنَّمَا هُمَا صَلَاتَانِ! قَالَ: فَذَكَرَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ أَوِ العشاء, وصلاة الفجر".   1 الأصل "حذيفة حذيفة هو". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قَالَ: "وَقَالَ ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ يُحَدِّثُهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيِّ, عَنْ حُمَيْدٍ الْمَقْرَائِيِّ, عَنْ حُذَيْفَةَ. قَارِنْ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ هَذَا ـ قَدْ قَرَنَ الْأَرْجَاءَ1 بِحُجَّةِ الصَّلَاةِ. وَبِذَلِكَ وَصَفَهُمُ ابنُ عُمَرَ أَيْضًا: 21 ـ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الْجَزَرِيُّ, عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى, عَنْ نَافِعٍ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صِنْفَانِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: الْمُرْجِئَةُ, والقدرية2.   1 كذا الأصل ولا يخلو من شيء. 2 هذا حديث موقوف, وإسناده ضعيف, من أجل ابن أبي ليلى واسمه محمد بن عبد الرحمن سيئ الحفظ. وقد روي مرفوعاً, ولا يصح, وقد لخصت الكلام عليه في التعليق على "المشكاة" رقم: 105 بتحقيقي. و"المرجئة" هم فرقة من فرق الإسلام, يعتقدون أنّه لا يضرّ مع الإيمان معصية, كما لا ينفع مع الكفر طاعة. سموا مرجئة؛ لاعتقادهم أنّ الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخره عنهم. كذا في النهاية. و"القدرية" هم المنكرون للقدر, من المعتزلة قديماً, وأشباهم حديثاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 22- حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ, عَنْ سُفْيَانَ, عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: اجْتَمَعَ الضَّحَّاكُ وَمَيْسَرَةُ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بِدْعَةٌ, وَالْإِرْجَاءَ بِدْعَةٌ, وَالْبَرَاءَةَ بِدْعَةٌ1.   1 إسناده إلى الجمع المذكور صحيح, وهم من صفوة التابعين, أبو البختري اسمه سعيد بن فيروز مات سنة: 83, وميسرة هو ابن يعقوب بن جميلة الكوفي صاحب راية علي بن أبي طالب رضي الله عنه, والضحاك: هو ابن شراحيل الهمداني. و"البراءة" هي من بدع الخوارج, الذين خرجوا على علي رضي الله عنه وتبرؤوا منه, ثم صارت البراءة لهم مذهباً عرفوا به, حتّى كانوا يتبرؤون ممن كان منهم لمخالفته لهم, ولو في مسألة واحدة. انظر تفسير ذلك في "مقالات الإسلاميين" لأبي الحسين الأشعري 1/156-157. وأما الشهادة فالظاهر أنّها من بدع "المرجئة" الذين يشهدون لكل مؤمن بالجنة, الذين يقولون: كما لا ينفع مع الشرك عمل, كذلك لا يضرّ مع الإيمان عمل. أو لعلها من بدع المعتزلة, فقد اختلفوا في "الشهادة" على أربعة أقوال, منها قول بعضهم: الشهداء هم العدول قتلوا أو لم يقتلوا. راجع بقيّة أقوالهم في "مقالات الإسلاميين" 1/296-197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 23- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ, عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ, عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَا ابْتُدِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةٌ أَعَزُّ عَلَى أَهْلِهَا مِنْ هَذَا الْإِرْجَاءِ. 24 ـ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ, عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ, عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: دَخَلَ فُلَانٌ "قَدْ سَمَّاهُ إِسْمَاعِيلُ وَلَكِنْ تَرَكْتُ اسْمَهُ أَنَا"1 عَلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ فَسَأَلَهُ عَنْ آية من القرآن؟   1 الأصل: "أبا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا لَمَا قُمْتَ، قَالَ: أَوْ قَالَ: أَنْ تُجَالِسَنِي أَوْ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ. 25 ـ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ, عَنْ أَيُّوبَ قَالَ [قَالَ] لِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ غَيْرَ سَائِلِهِ وَلَا ذَاكِرًا لَهُ شَيْئًا: لَا تُجَالِسْ فُلَانًا "وَسَمَّاهُ أَيْضًا", فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَرَى هَذَا الرَّأْيَ. وَالْحَدِيثُ فِي مُجَانَبَةِ الْأَهْوَاءِ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّا إِنَّمَا قصدنا في كتابنا لهؤلاء خاصة. على مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ كَانَ سُفْيَانُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ, وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ, الَّذِينَ كَانُوا مَصَابِيحَ الْأَرْضِ وَأَئِمَّةَ الْعِلْمِ فِي دَهْرِهِمْ، مِنْ أَهْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا، زَارِينَ1 عَلَى أَهْلِ البدع كلها، ويرون الإيمان قولاً وعملا. ً   1 أي: عائبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 7 ـ بَابُ الْخُرُوجِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْمَعَاصِي. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَمَّا هَذَا الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الذُّنُوبِ وَالْجَرَائِمِ، فَإِنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ بِالتَّغْلِيظِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: فَاثْنَانِ مِنْهَا فِيهَا نَفْيُ الْإِيمَانِ، وَالْبَرَاءَةُ من النبي صلى الله عليه. وَالْآخَرَانِ فِيهَا تَسْمِيَةُ الْكُفْرِ وَذِكْرُ الشِّرْكِ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ تَجْمَعُ أَحَادِيثَ ذَوَاتِ عِدَّةٍ. فَمِنَ النَّوْعِ الَّذِي فِيهِ نَفْيُ الْإِيمَانُ حديث النبي صلى الله عليه: "لَا يَزْنِي الرَّجُلُ حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن" 1.   1 أخرجه الشيخان وابن أبي شيبة في "الإيمان" رقم: 38 و72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَقَوْلُهُ: "مَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ غَوَائِلَهُ" 1. وَقَوْلُهُ: "الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ2، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ" وَقَوْلُهُ: "لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ" 3. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: "وَالَّذِي نَفْسِي بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا" 4.   1 أي: المهالك, وهو جمع غائلة. 2 أي: يمنع من الفتك الذي هو القتل بعد الأمان غدراً, أي كما يمنع القيد من التصرف, يمنع الإيمان من الغدر, والحديث أخرجه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة. وأبو داود عن معاوية, وأحمد عن الزبير. 3 حديثان صحيحان [هذا, والذي بعده] , أخرجهما مسلم من حديث أبي هريرة, وأخرج أيضاً الأول منهما من حديث أبي سعيد أيضاً. 4 حديثان صحيحان [هذا والذي قبله] , أخرجهما مسلم من حديث أبي هريرة, وأخرج أيضاً الأول منهما من حديث أبي سعيد أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ يُجَانِبُ الْإِيمَانَ"1. وَقَوْلُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ"2. وَقَوْلُ سَعْدٍ: كُلُّ الْخِلَالِ يُطبع عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُ إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ3. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ4 "لَا يَبْلُغُ أحدٌ حقيقةَ الْإِيمَانِ حتى   1 أخرجه أحمد في "مسنده" 1/5 موقوفاً عليه بسندٍ صحيح. 2 هذا صحّ مرفوعاً من حديث أنس, انظر الحديث 7 من "الإيمان" لابن أبي شيبة. 3 إسناده صحيح موقوفاً, وقد روي مرفوعاً ولا يصحّ. انظر الحديث 72 من ابن أبي شيبة, والتعليق على الذي قبله. 4 لم أره من قول ابن عمر, وقد رواه أبو يعلى من حديث أبيه من حديث أبيه عمر مرفوعاً بسند فيه نظر. انظر: "الترغيب" 4/28, ورواه أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعاً كما سبق في ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 يَدع المراءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَيَدَعَ الْمُزَاحَةَ فِي الْكَذِبِ". وَمِنَ النَّوْعِ الَّذِي فِيهِ الْبَرَاءَةُ: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" 1. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَيْسَ مِنَّا مِنْ حَمَلَ السلاحَ عَلَيْنَا" 1. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا" 2, فِي أَشْيَاءَ من هذا القبيل3. ومن النوع الذي فيه تَسْمِيَةِ الْكُفْرِ: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حين   1 أخرجهما مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: "من حمل علينا السلاح فليس منّا, ومن غشّنا فليس منّا". وأخرج الشطر الأول منه من حديث ابن عمر, وأبي موسى أيضاً. 2 أخرجه أحمد من حديث ابن عمر مرفوعاً وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. 3 الأصل "القول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 مُطروا, فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، فَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا؟ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ، وَالَّذِي يَقُولُ هَذَا رِزْقُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ مُؤْمِنٌ بِي, وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ" 1. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" 2. وَقَوْلُهُ: "مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا" 3. وَقَوْلُهُ: "مَنْ أَتَى سَاحِرًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ, أَوْ أَتَى حَائِضًا أَوِ امْرَأَةً فِي دبرها فقد بريء مما4 أنزل على   1 متفق عليه من حديث زيد بن خالد الجهني. 2 متفق عليه من حديث جرير بن عبد الله البجلي, رواه البخاري من حديث ابن عمر, وابن عباس وأبي بكر رضي الله عنهم أجمعين. 3 متفق عليه من حديث ابن عمر. 4 الأصل "بما" وهو خطأ ظاهر. والحديث صحيح الإسناد من حديث أبي هريرة, وقد خرّجته في "آداب الزفاف" ص29, لكن ليس فيه ذكر الساحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كَفَرَ بِمَا أُنزل عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ1 "سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ "، وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ2. وَمِنَ النَّوْعِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الشِّرْكِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ"، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الشرك الأصغر؟ قال: "الرياء" 3.   1 وهكذا مرفوعاً أخرجه مسلم في "صحيحه" 1/58. 2 وهكذا مرفوعاً أخرجه مسلم في "صحيحه" 1/58. 3 أخرجه أحمد 5/428-429, عن محمد بن لبيد؛ أنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فذكره. وزاد: "قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: "الرياء يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤن في الدنيا, فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ ". ورجاله ثقات لكن اختلفوا في صحبة محمد بن لبيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَمِنْهُ قَوْلُهُ: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلَّا1 وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ". وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ -فِي التَّمَائِمِ وَالتِّوَلَةِ-: "إِنَّهَا مِنَ الشِّرْكِ"2. وَقَوْلُ ابن عباس: "إن القوم يشركون بكلبهم!   1 يعني ـ إلاّ ويعتريه شيءٌ من الوهم ـ والحديث أخرجه الأربعة وغيرهم من حديث ابن مسعود بسندٍ صحيح. 2 بكسر التاء وفتح الواو, ما يحبّب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره. قال ابن الأثير: "جعله من الشرك لاعتقادهم أنّ ذلك يؤثر ويفعل خلاف ما قدره الله تعالى". والحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان وأحمد من طريقين عن ابن مسعود مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بلفظ: "إنّ الرقى والتمائم والتولة شرك" , وإسناد الحاكم صحيح, كما بينته في "سلسلة الأحاديث الصحيحة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 يَقُولُونَ كَلْبُنَا يَحْرُسُنَا، وَلَوْلَا كَلْبُنَا لَسُرِقْنَا"1 فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْحَدِيثِ، قَدْ كَانَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنَ التَّأْوِيلِ: فَطَائَفِةٌ: تَذْهَبُ إِلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ. وَثَانِيةٌ: تَحْمِلُهَا عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّرْهِيبِ. وَثَالِثَةٌ: تَجْعَلَهَا كفرَ أهلِ الرِّدَّةِ. وَرَابِعَةٌ: تُذْهِبُهَا كُلَّهَا, وَتَرُدُّهَا. فَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ عِنْدَنَا مردودةٌ غَيْرُ مقبولةٍ، لِمَا يَدْخُلُهَا مِنَ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ. وَالَّذِي يردُّ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ مَا نعرفه من كلام العرب   1 رواه ابن أبي حاتم عن شبيب بن بشر حدثنا عكرمة, عن ابن عباس في قوله عز وجل: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} . فذكر بنحوه. وهذا سندٌ ضعيف, شبيب هذا أورده الذهبي في "الضعفاء" وقال: "قال أبو حاتم: لين الحديث, ومن طريقه رواه ابن جرير عن عكرمة مرسلاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وَلُغَاتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كُفْرَانَ النِّعَمِ إِلَّا بِالْجَحْدِ لِأَنْعَامِ اللَّهِ وَآلَائِهِ, وَهُوَ كَالْمُخْبِرِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعُدْمِ, وَقَدْ وَهَبَ اللَّهُ لَهُ الثَّرْوَةَ، أَوْ بِالْسَقَمِ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالسَّلَامَةِ وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ كِتْمَانِ الْمَحَاسِنِ وَنَشْرِ الْمَصَائِبِ، فَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ كُفْرَانًا إن كان ذلك فيما بينهما وَبَيْنَ اللَّهِ، أَوْ كَانَ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِذَا تَنَاكَرُوا اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ وَتَجَاحَدُوهُ. يُنَبِّئُكَ عَنْ ذَلِكَ مَقَالَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: "إِنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ –يَعْنِي: الزَّوْجَ- وَذَلِكَ أَنْ تَغْضَبَ إِحْدَاكُنَّ, فَتَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ" 1. فَهَذَا مَا فِي كُفْرِ النِّعْمَةِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: الْمَحْمُولُ على التغليظ,   1 أخرجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 فمن1 أفظع ما تُأوِّل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَنْ جَعَلُوا الْخَبَرَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ دِينِهِ وَعِيدًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَهَذَا يَؤُولُ إِلَى إِبْطَالِ الْعِقَابِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ في واحدا مِنْهَا كَانَ مُمْكِنًا فِي الْعُقُوبَاتِ كُلِّهَا. وَأَمَّا الثالث: الذي بلغ به كُفْرَ الرِّدَّةِ نَفْسِهَا فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ؛ الَّذِينَ مَرَقُوا مِنَ الدِّينِ بِالتَّأْوِيلِ، فَكَفَّرُوا النَّاسَ بِصِغَارِ الذُّنُوبِ وَكِبَارِهَا، وَقَدْ علمتَ مَا وَصَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُرُوقِ وَمَا أَذِنَ فيهم من سفك دمائهم2.   1 الأصل "من". 2 يشير إلى حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً: "سيخرج في آخر الزمان قومٌ أحداث الأسنان, سفهاء الأحلام, يقولون من خير قول البرية, يقرؤون القرآن, لا يجاوز حناجرهم, يمرقون من الدين, كما يمرق السهم من الرمية, فإذا لقيتموهم, فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ثُمَّ قَدْ وَجَدْنَا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُكَذِّبُ مَقَالَتَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَكَمَ فِي السَّارِقِ بِقَطْعِ الْيَدِ وَفِي الزَّانِي وَالْقَاذِفِ بِالْجَلْدِ، وَلَوْ كَانَ الذَّنْبُ يُكَفِّرُ صَاحِبَهُ مَا كَانَ الْحُكْمُ عَلَى هَؤُلَاءِ إِلَّا الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" 1. أَفَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا كُفَّارًا لَمَا كَانَتْ عُقُوبَاتُهُمُ الْقَطْعُ وَالْجَلْدُ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ فِيمَنْ قَتَلَ مَظْلُومًا: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء:33] , فَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ كُفْرًا مَا كَانَ لِلْوَلِيِّ عَفْوٌّ وَلَا أَخَذَ دِيَةً، وَلَزِمَهُ الْقَتْلُ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ" الَّذِي فِيهِ تَضْعِيفُ هذه   1 أخرجه البخاري, وأصحاب السنن من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً. وأحمد 5/231 من حديث معاذ رضي الله عنه, وإسناده صحيح على شرط الشيخين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الْآثَارِ, فَلَيْسَ مَذْهَبَ مَنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ احْتِجَاجُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ والبدع؛ الذين قصر عملهم عَنِ الِاتِّسَاعِ، وَعَيِيَتْ أَذَهَانُهُمْ عَنْ وُجُوهِهَا، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: مُتَنَاقِضَةً فَأَبْطَلُوهَا كُلَّهَا! وَإِنَّ الَّذِي عِنْدَنَا فِي هَذَا الْبَابِ كُلِّهِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ لَا تُزِيلُ إِيمَانًا، وَلَا تُوجِبُ كُفْرًا، وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا تَنْفِي مِنَ الْإِيمَانِ حَقِيقَتَهُ وَإِخْلَاصَهُ الَّذِي نَعَتَ اللَّهُ بِهِ أَهْلَهُ، وَاشْتَرَطَهُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله ... } إِلَى قَوْلِهِ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112-113] . وَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 خَاشِعُون} 1 إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1-11] . وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم} [الأنفال:2-4] . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي شَرَحَتْ وَأَبَانَتْ شَرَائِعَهُ الْمَفْرُوضَةَ عَلَى أَهْلِهِ وَنَفَتْ عَنْهُ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا، ثُمَّ فَسَّرَتْهُ السُّنَّةُ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا خِلَالُ الْإِيمَانِ فِي الْبَابِ الَّذِي فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ، فَلَمَّا خَالَطَتْ هَذِهِ الْمَعَاصِي   1 وتمامها: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 هَذَا الْإِيمَانَ الْمَنْعُوتَ بِغَيْرِهَا، قِيلَ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الشَّرَائِطِ الَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا الْأَمَانَاتِ1 الَّتِي يُعرف بِهَا أَنَّهُ الْإِيمَانُ فَنَفَتْ عَنْهُمْ حِينَئِذٍ حَقِيقَتَهُ وَلَمْ يَزُلْ عَنْهُمُ اسْمُهُ. فَإِنْ قَالَ [قَائِلٌ] : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَاسْمُ الْإِيمَانِ غَيْرُ زائلٍ عَنْهُ؟ قِيلَ: هَذَا كَلَامُ الْعَرَبِ الْمُسْتَفِيضُ عِنْدَنَا غَيْرُ الْمُسْتَنْكَرِ فِي إِزَالَةِ الْعَمَلِ عَنْ عَامِلِهِ, إِذَا كَانَ عملُه عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلصَّانِعِ إِذَا كَانَ لَيْسَ بمحكمٍ لِعَمَلِهِ: مَا صنعتَ شَيْئًا وَلَا عَمِلْتَ عَمَلًا، وَإِنَّمَا وَقَعَ مَعْنَاهُمْ هَاهُنَا [عَلَى] نَفْيِ التَّجْوِيدِ، لَا عَلَى الصَّنْعَةِ نَفْسِهَا، فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَامِلٌ بِالِاسْمِ، وَغَيْرُ عَامِلٍ فِي الْإِتْقَانِ، حَتَّى تَكَلَّمُوا بِهِ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وذلك كرجل يعق   1 كذا الأصل, ولعله "الأمارات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أَبَاهُ, وَيَبْلُغُ مِنْهُ الْأَذَى, فَيُقَالُ: مَا هُوَ بولدٍ, وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ابْنُ صُلْبِهِ. ثُمَّ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي الْأَخِ, وَالزَّوْجَةِ, وَالْمَمْلُوكِ. وَإِنَّمَا مذهبهم في هذا المزايلة من الأعمال الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْبِرِّ. وَأَمَّا النِّكَاحُ والرق والأنساب، فعلى ما كانت عليه أمكانها وَأَسْمَاؤُهَا. فَكَذَلِكَ هَذِهِ الذُّنُوبُ الَّتِي يُنْفَى بِهَا الْإِيمَانُ، إِنَّمَا أَحْبَطَتِ الْحَقَائِقُ مِنْهُ الشَّرَائِعَ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِهِ، فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَعَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا يُقَالُ لَهُمْ إِلَّا: مُؤْمِنُونَ، وَبِهِ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ وَجَدْنَا مَعَ هَذَا شَوَاهِدَ لِقَوْلِنَا مِنَ التَّنْزِيلِ وَالسُّنَّةِ. فَأَمَّا التَّنْزِيلُ فَقَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَهْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الْكِتَابِ, حِينَ قَالَ: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} [آل عمران:187] . 26- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِيُّ, عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْول, عَنِ الشَّعْبِيِّ -فِي هَذِهِ الْآيَةِ- قَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَلَكِنْ نَبَذُوا الْعَمَلَ به. ثم أحل لله لَنَا ذَبَائِحَهُمْ وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ فَحَكَمَ لَهُمْ بِحُكْمِ الْكِتَابِ إِذَا كَانُوا [بِهِ] مُقِرِّينَ، وَلَهُ مُنْتَحِلِينَ، فَهُمْ بِالْأَحْكَامِ وَالْأَسْمَاءِ فِي الْكِتَابِ دَاخِلُونَ، وَهُمْ لَهَا بِالْحَقَائِقِ مُفَارِقُونَ، فَهَذَا مَا فِي الْقُرْآنِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ رِفَاعَةُ1 فِي الْأَعْرَابِيِّ الذي صلى صلاة، فخففها فقال   1 هو: رفاعة بن رافع الزرقي, وحديثه المذكور أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي. وهو مخرج في كتابنا "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" رقم: 337, وأخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة بنحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" حَتَّى فَعَلَهَا مِرَارًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: "فَصَلِّ"1وَهُوَ قَدْ رَآهُ يُصَلِّيهَا، أَفَلَسْتَ تَرَى أَنَّهُ مُصَلٍّ بِالِاسْمِ، وَغَيْرُ مُصَلٍّ بِالْحَقِيقَةِ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ الْعَاصِيَةِ لِزَوْجِهَا، وَالْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْمُصَلِّي بِالْقَوْمِ الْكَارِهِينَ لَهُ2 إِنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر في شارب الخمر أنه:   1 الأصل: "تصلي". 2 الأصل: "الكارهون" والحديث أخرجه ابن ماجه وابن حبان في "صحيحه", والضياء في "المختارة" عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة, إمام قومٍ وهم له كارهون ... " الحديث, وله شاهدٌ من حديث أبي أمامة حسنه الترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 لَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً"1. وَقَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، "لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ" 2. وَحَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُقَدِّمِ ثَقَلَهُ3 لَيْلَةَ النَّفْرِ أَنَّهُ: "لَا حَجَّ لَهُ", وَقَالَ حُذَيْفَةُ "مَنْ تَأَمَّلَ خَلقَ امرأةٍ مِنْ وَرَاءِ الثِّيَابِ وَهُوَ صَائِمٌ أبطل صومه"4.   1 أخرجه أحمد 2/35 من حديث ابن عمر مرفوعاً بلفظ: "من شرب الخمر, لم تقبل صلاته أربعين ليلة" , ورجاله ثقات وحسنه الترمذي, وأحمد 2/197, من حديث ابن عمر, وإسناده صحيح, وصححه ابن حبان 1378. 2 لا يصح هذا عن عليّ, رواه الحارث الأعور, وهو متروك, أخرجه الدارقطني ص161 بنحوه, وأخرجه من حديث جابر وأبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعاً بلفظ الكتاب, ولا يصح أيضاً. 3 الثقل: متاع المسافر. 4 قلت: وقد روي مرفوعاً, ولكنه موضوعٌ كما في "اللآلي المصنوعة" للسيوطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَهَذِهِ الْآثَارُ كُلُّهَا وَمَا كَانَ مُضَاهِيًا لَهَا فَهُوَ عِنْدِي عَلَى مَا فسرتُه لَكَ. وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا الْبَرَاءَةُ, فَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: "مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلَيْسَ مِنَّا". لَا نَرَى شَيْئًا مِنْهَا يَكُونُ مَعْنَاهُ التَّبَرُّؤُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ مِلَّتِهِ. إِنَّمَا مَذْهَبُهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُطِيعِينَ لَنَا، وَلَا مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِنَا، وَلَا مِنَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى شَرَائِعِنَا وَهَذِهِ النُّعُوتُ وَمَا أَشْبَهَهَا1. وَقَدْ كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: "لَيْسَ مِنَّا": لَيْسَ مِثْلَنَا، وَكَانَ يَرْوِيهِ عَنْ غَيْرِهِ أَيْضًا. فَهَذَا التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَهُ إِمَامٌ من أئمة العلم,   1 كذا الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فَإِنِّي لَا أَرَاهُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ إِذَا جَعَلَ مَن فَعَلَ ذَلِكَ لَيْسَ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَزِمَهُ أَنْ يَصِيرَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَاعِلَ وَالتَّارِكِ, وَلَيْسَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدِيلٌ وَلَا مَثَلٌ مِنْ فَاعِلٍ ذَلِكَ وَلَا تَارِكِهِ. فَهَذَا مَا فِي نَفْيِ الْإِيمَانِ وَفِي الْبَرَاءَةِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ وَإِلَيْهِ يَؤُولُ. وَأَمَّا الْآثَارُ الْمَرْوِيَّاتُ1 بِذِكْرِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَوُجُوبِهِمَا بِالْمَعَاصِي، فَإِنَّ مَعْنَاهَا عِنْدَنَا لَيْسَتْ تُثبت عَلَى أَهْلِهَا كُفْرًا وَلَا شِرْكًا يُزِيلَانِ الْإِيمَانَ عَنْ صَاحِبِهِ، إِنَّمَا وُجُوهُهَا: أَنَّهَا مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالسُّنَنِ الَّتِي عَلَيْهَا الْكُفَّارُ وَالْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ وَجَدْنَا لِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الدَّلَائِلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَحْوًا مِمَّا وَجَدْنَا في النوعين الأولين.   1 الأصل "المرجيات" والآثار المشار إليها تقدّمت ص40-41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فَمِنَ الشَّاهِدِ عَلَى الشِّرْكِ فِي التَّنْزِيلِ: قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ عِنْدَ كَلَامِ إِبْلِيسَ إِيَّاهُمَا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِه} إلى {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَ} [الأعراف: 189و190] . وَإِنَّمَا هُوَ فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ لَهُمَا: سَمِّيَا وَلَدَكُمَا عَبْدَ الْحَارِثِ1, فَهَلْ لِأَحَدٍ يعرف الله ودينه أن   1 يشير المصنف إلى حديث: "لما حملت حواء طاف بها إبليس, وكان لا يعيش لها ولد, فقال: سميه عبد الحارث فسمته عبد الحارث, فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره", ولكنه حديث ضعيف كما كنت بيّنته في "الأحاديث الضعيفة" 342. والضمير في قوله تعالى "جعلا" إنّما يعود إلى اليهود, والنصارى, بذلك فسره الحسن البصري كما رواه ابن جرير بسند صحيح عنه, وهو أولى ما حملت عليه الآية كما قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 يُتَوَهَّمَ عَلَيْهِمَا الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ مَعَ النُّبُوَّةِ وَالْمَكَانِ مِنَ اللَّهِ، فَقَدْ سَمَّى فِعْلَهُمَا شِرْكًا، وَلَيْسَ هُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ. وَأَمَّا الَّذِي فِي السُّنَّةِ، فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ" 1 فَقَدْ فَسَّرَ لَكَ بِقَوْلِهِ "الْأَصْغَرُ" أَنَّ هَاهُنَا شِرْكًا سِوَى الَّذِي يَكُونُ بِهِ صَاحِبُهُ مُشْرِكًا بِاللَّهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ "الرِّبَا بِضْعَةٌ وَسِتُّونَ بَابًا، وَالشِّرْكُ مِثْلُ ذَلِكَ"2. فَقَدْ أَخْبَرَكَ أَنَّ في الذنوب أنواعا كثيرة تسمى بهذا   1 تقدم تخريجه, فراجعه إن شئت في ص72. 2 أخرجه البزار من حديث ابن مسعود مرفوعاً بسندٍ رجاله رجال الصحيح كما قال المنذري والهيثمي. وهو عند ابن ماجه دون ذكر الشرك, وسنده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الِاسْمِ, وَهِيَ غَيْرُ الْإِشْرَاكِ الَّتِي يُتَّخَذُ لَهَا1 مع الله إله غَيْرَهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَبْوَابِ عِنْدَنَا وُجُوهٌ إِلَّا أَنَّهَا2 أَخْلَاقُ الْمُشْرِكِينِ, وَتَسْمِيَتُهُمْ, وَسُنَنُهُمْ, وَأَلْفَاظُهُمْ, وَأَحْكَامُهُمْ, وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ. وَأَمَّا الْفُرْقَانُ الشَّاهِدُ عَلَيْهِ في التنزيل, فقول الله جل وعز: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة:44] . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ"3. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أبي رباح: "كفر دون كفر".   1 كذا الأصل, ولعل الصواب: "فيها". 2 الأصل: "أنا", ولعلّ الصواب ما أثبتنا. 3 الأصل: "ملة", التصويب من "مستدرك الحاكم", وقد أخرجه 2/313 من طريق طاوس عن ابن عباس, وصححه هو والذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فَقَدْ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ1 كَانَ لَيْسَ بِنَاقِلٍ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الدِّينَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ, وَإِنْ خَالَطَهُ ذُنُوبٌ، فَلَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا خِلَافُ الْكُفَّارِ وَسُنَّتِهِمْ، عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ مِنَ الشِّرْكِ سَوَاءً؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَنِ الْكُفَّارِ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] . تَأْوِيلُهُ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ مَن حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَهُوَ عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَانَ بِذَلِكَ الْحُكْمِ كَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ, إِنَّمَا هُوَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَذَلِكَ كَانُوا يَحْكُمُونَ. وَهَكَذَا قَوْلُهُ: "ثَلَاثَةٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ والنياحة والأنواء"2.   1 كذا الأصل, ولعل الصواب: "إذ". 2 حديث صحيح, رواه البخاري في "التاريخ", والطبراني في "الكبير" 1/105/2 عن جنادة بن مالك, والبزار عن عمرو بن عوف, وابن جريرعن أبي هريرة وعن أنس بن مالك, وعنه أبو يعلى أيضاً باختصار بإسنادٍ قوي, كما في "الفتح". 37/12, وهو في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه, موقوفاً عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ جَرِيرٍ وَأَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ: "ثَلَاثَةٌ مِنْ سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ: النِّيَاحَةُ, وَصَنْعَةُ الطَّعَامِ، وَأَنْ تَبِيتَ الْمَرْأَةُ فِي أَهْلِ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِهِمْ"1. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ [ثَلَاثٌ] : إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ" 2. وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ "الْغِنَاءُ ينبت النفاق في القلب"3.   1 أما حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي, فقد أخرجه ابن ماجه 1612 عن إسماعيل بن أبي خالد, عن قيس بن أبي حازم عن جرير قال: كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت, وصنعة الطعام من النياحة" وإسناده صحيح. وأما حديث أبي البختري ـ واسمه سعيد بن فيروز تابعي ثقة ـ فلم أره. 2 متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 3 رواه أبو داود 4927 عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً وإسناده ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 لَيْسَ وُجُوهُ هَذِهِ الْآثَارِ كُلِّهَا مِنَ الذُّنُوبِ: أَنَّ رَاكِبَهَا يَكُونُ جَاهِلًا وَلَا كَافِرًا وَلَا مُنَافِقًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ، ومؤدٍ لِفَرَائِضِهِ، وَلَكِنْ مَعْنَاهَا أَنَّهَا تَتَبَيَّنُ مِنْ أَفْعَالِ الْكُفَّارِ مُحَرَّمَةٌ مَنْهِيٌّ1 عَنْهَا فِي الْكِتَابِ وَفِي السُّنَّةِ لِيَتَحَامَاهَا الْمُسْلِمُونَ وَيَتَجَنَّبُوهَا فَلَا يَتَشَبَّهُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَلَا شَرَائِعِهِمْ. وَلَقَدْ رُوي فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: "إِنَّ السَّوَادَ خِضَابُ الْكُفَّارِ" 2. فَهَلْ يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ يَكْفُرُ مِنْ أَجْلِ الْخِضَابِ؟! وَكَذَلِكَ حَدِيثُهُ فِي المرأة إذا استعطرت ثم مرت   1 كذا الأصل, ولا يخلو من شيء. 2 حديث ضعيف أخرجه الطبراني, والحاكم, وقال الذهبي وغيره: "حديث منكر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 بِقَوْمٍ يُوجد ريحُها "أَنَّهَا زَانِيَةٌ"1 فَهَلْ يَكُونُ هَذَا عَلَى الزِّنَا الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْحُدُودُ؟ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: "الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَهَاتَرَانِ وَيَتَكَاذَبَانِ" 2. أَفَيُتَّهَمُ عليه أنه أراد الشيطانين الذين هُمْ أَوْلَادُ إِبْلِيسَ؟! إِنَّمَا هَذَا كُلُّهُ عَلَى ما أعلمتك من الأفعال والأخلاق والسنن.   1 حديث صحيح, أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في "صحاحهم" عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً بلفظ: "أيّما امرأة استعطرت فمرّت على قومٍ ليجدوا ريحها فهي زانية, وكلّ عينٍ زانية". وأخرجه بنحوه أبو داود والترمذي وصححه. 2 حديث صحيح, أخرجه البخاري في "الأدب المفرد", وابن حبان في "صحيحه" وأحمد عن عياض بن حمار رضي الله عنه, وهو في "صحيح الجامع الصغير" رقم: 6572. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ ذِكْرُ كُفْرٍ أَوْ شِرْكٍ لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ فَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى هَذَا، وَلَا يَجِبُ اسْمُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الَّذِي تَزُولُ بِهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَيُلْحَقُ صَاحِبُهُ بِرِدةٍ إلا بكلمة الْكُفْرِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْآثَارُ مُفَسَّرَةً. 28- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ, عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ, عَنِ ابْنِ أَبِي نُشْبة1, عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ، الْكَفُّ عَنْ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا نُكفّره بِذَنْبٍ، وَلَا نُخْرِجُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مِنْ يَوْمِ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار كلها".   1 اسمه: يزيد السلمي, وهو مجهول كما في "التقريب", والحديث أخرجه أبو داود عن أبي معاوية به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 29- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ, عَنِ الصَّلْتِ بْنِ دِينَارٍ, عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ -وَهُوَ فِي بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ- فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا يَبْلُغُ بِعَبْدٍ1 كُفْرًا وَلَا شِرْكًا حَتَّى يَذْبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ يُصَلِّيَ لِغَيْرِهِ". 30- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ, عَنِ الْأَعْمَشِ, عَنْ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: جَاوَرْتُ مَعَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِمَكَّةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: هَلْ كُنْتُمْ تُسَمُّونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَافِرًا؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ! قَالَ: فَهَلْ تُسَمُّونَهُ مشركاً؟ قال: لا2.   1 كذا الأصل, ولعل الصواب: "العبد", أو "عبد", والأثر ضعيف الإسناد جداً؛ لأنّ الصلت بن دينار, وهو أبو شعيب الهنائي البصري مشهور بكنيته متروك كما في "التقريب". 2 إسناده صحيح على شرط مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 8- بَابُ ذِكْرِ الذُّنُوبِ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْكَبَائِرِ بِلَا خُرُوجٍ مِنَ الْإِيمَانِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لعنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ" 1, وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "حُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ" 2. وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ: "شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ اللات والعزى"3.   1 أخرجه مسلم 1/73 من حديث ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه. 2 حديث حسن, أخرجه الدارقطني وأبو نعيم عن ابن مسعود, والبزار وأبو يعلى عن أنس. وله شاهد في "صحيح مسلم " من حديث جابر. انظر الفقرة 103 من "حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم" من تأليفي. 3 حديث صحيح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ولم أره موقوفاً على عبد الله, وهو ابن مسعود عند الإطلاق, وقد رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" ص123 من "زوائده", وأبو بكر الشيرازي في "سبعة مجالس من الأمالي" ق15/2 من طريقين عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً به, وأحمد 1/272 وابن معين في "تاريخه" ق16/2 وابن حبان في "صحيحه" 1379ـ موارد" وأبو بكر الملحمي في "مجلسين من الأمالي" 1/2 وأبو الحسن الأبنوسي في "الفوائد" 2/3 والواحدي في "الوسيط" 1/255 والضياء المقدسي في "المنتقى في المنتقى من الأحاديث الصحاح والحسان" ق278/2 عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِمَّا يُشَبَّهُ فِيهِ الذنبُ بِآخَرَ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى التَّسَاوِي1 بَيْنَهُمَا! وَلَا وَجْهَ لِهَذَا عِنْدِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ الذُّنُوبَ بَعْضَهَا أَعْظَمَ مِنْ بَعْضٍ فَقَالَ: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] . فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَطُولُ ذكرها،   1 الأصل: "يحمل على ذلك على التساوي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَلَكِنَّ وُجُوهَهَا عِنْدِي: أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَى عَنْ هَذِهِ كُلِّهَا, وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا عِنْدَهُ أَجَلَّ مِنْ بَعْضٍ، يَقُولُ: مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي فَقَدْ لَحِقَ بِأَهْلِ الْمَعَاصِي، كَمَا لَحِقَ بِهَا الْآخَرُونُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ قَدْ لَزِمَهُ اسْمُ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَعْظَمَ جُرماً مِنْ بَعْضٍ. وَفَسَّرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ, حِينَ قَالَ: "عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ" , ثُمَّ قَرَأَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [لحج:30] 1. فَقَدْ تَبَيَّنَ لَنَا الشِّرْكُ وَالزُّورُ وَإِنَّمَا تَسَاوَيَا فِي النَّهْيِ2؛ نَهَى اللَّهُ عَنْهُمَا مَعًا فِي مكانً واحدً, فهما في   1 حديث ضعيف, أخرجه أصحاب السنن إلاّ النسائي وأحمد, واستغربه الترمذي, وعلته الجهالة والاضطراب, وقد بيّنت ذلك في "الأحاديث الضعيفة" 1110. 2 كذا الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 النَّهْيِ مُتساويان وَفِي الْأَوْزَارِ وَالْمَأْثَمِ مُتَفَاوِتَانِ، وَمِنْ هُنَا وَجَدْنَا الْجَرَائِمَ كُلَّهَا أَلَا تَرَى السَّارِقَ يُقطع فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَطْعٌ؟ فَقَدْ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا سارقٌ كَهَذَا, فَيَجْمَعْهُمَا فِي الِاسْمِ, وَفِي رِكُوبِهِمَا الْمَعْصِيَةِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَى قَدْرِ الزِّيَادَةِ فِي الذَّنْبِ، وكذلك البكرُ والثيبُ يذنبان فَيُقَالُ هُمَا لِلَّهِ عَاصِيَانِ مَعًا، وَأَحَدُهُمَا أَعْظَمُ ذَنْبًا وَأَجَلُّ عُقُوبَةً مِنَ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ" 1 إِنَّمَا اشْتَرَكَا فِي الْمَعْصِيَةِ حِينَ رَكِبَاهَا، ثُمَّ يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا بِقَدْرِ ذَنْبِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: "حُرمةُ مالِه كحُرمة دَمِهِ" 2وَعَلَى هذا وما أشبه أيضا.   1 تقدم تخريجه ص 96. 2 حديث حسن, وقد مرّ تخريجه ص96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99