الكتاب: عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم المؤلف: محمد السيد جبريل الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم - محمد السيد جبريل محمد السيد راضي جبريل الكتاب: عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم المؤلف: محمد السيد جبريل الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة البحث الحمد لله حمداً كثيراً طيبا مباركاً فيه، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، ورحمة الله للعالمين محمد بن عبد الله النبي الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. ? وبعد فلقد بعث الله تعالى رسله صلوات الله عليهم جميعاً - إلى خلقه بدعوة واحدة، أصول الاعتقاد فيها: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وإليوم الآخر، وشرع لهم شرائع أساسها: الطهارة والعفاف في الأخلاق، والاستقامة والقصد في السلوك، والعدل والنصفة في المعاملات، والنصح للأمة في الولايات: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ … } (الشورى: 13) . وبقيام رسل الله بدعوتهم على أكمل وجه وأتمه، وبثباتهم عليها كما أمرهم الله تعالى استجلبوا عداوة الطواغيت، وأثاروا أنصار الشر ممن أضلهم الشيطان، وزين لهم سبيل الغيّ فاتخذوه سبيلا، وهؤلاء هم المجرمون الذين أخبر الله خبرهم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (الفرقان:31) ولقد دفعت العداوة هؤلاء المجرمين إلى محاولة الإتيان على بنيان دعوة الرسل من القواعد، فانطلق كفار كل أمة في جحود ظاهر- للحق -يكذبون رسولهم، ويتهمونه بشتى التهم. {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور} (فاطر:4) فكان من نصر الله تعالى لهؤلاء الرسل الكرام أن أيدهم -في مواجهة تكذيب الكفار- بالمعجزات، وهي الآيات الخوارق التي تفحم المعاندين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وتثبت المؤمنين، ولقد شاءت حكمة الله تعالى أن تكون معجزات الأنبياء السابقين في أممهم حسية يراها المشاهدون، ويعاينها الحاضرون: كناقة صالح، وبرد النار وسلامها على إبراهيم، وعصا موسى، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى صلوات الله عليهم جميعا، وأكثر ما كانت المعجزات الحسية في بني إسرائيل، وما كان ذلك إلا لفرط بلادتهم، وغلظ حسهم ثم ختم الله تعالى رسله إلى خلقه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكما أيد من قبله بتلك المعجزات الحسية أيده كذلك بكثير منها، كتلك التي كان يطلبها المشركون تعنتاً، فيجابون إلى بعضها ولا يؤمنون (1) . ولا يجابون إلى أكثرها، رحمة من الله تعالى أن ينزل بهم العذاب عند تكذيبهم بها،كما جاء ذلك في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} (الإسراء:59) كما كان الكثير من هذه المعجزات الحسية (2) يحدث ابتداء على مرأى من المؤمنين،فيكون ذلك مواساة لهم، وتثبيتا لقلوبهم، وتعميقا ليقينهم. لكن المعجزة الكبرى لهذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم كانت من نوع آخر، إنها المعجزة العقلية الباقية، التي تخاطب الأجيال في كل عصر، يراها ويقرؤها الناس   (1) كما حدث في معجزة انشقاق القمر، وحديثها عند البخاري في الصحيح: كتاب التفسير، باب ( … وانشق القمر) . (2) قد استفاضت الأخبار الصحيحة بالعديد من هذه المعجزات لرسول الله صلي الله عليه وسلم،كتكثير الطعام بين يديه، ونبع الماء وفورانه من بين أصابعه حتى يتطهر ويرتوي الجمع الكثير من أصحابه من الماء القليل، وكذلك سماع تسبيح الطعام وهو يؤكل أمامه، وحنين الجذع إليه عند انتقاله صلي الله عليه وسلم إلى منبر صنع له ليخطب الناس علىه، وكل ذلك عند البخاري رحمه الله في صحيحه،يرجع في ذلك إلى: كتاب المناقب، باب علامات النبوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 في كل حين، إنها القرآن الكريم، الذي أعجز الفصحاء، وانقطع أمامة البلغاء في الأمة العربية، التي سما بيانها، ولمع ذكاؤها،فكان المعجزة الباقية للرسالة الخاتمة. إن اختصاص النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن الباقية خلافا للرسالات السابقة يأتي إيضاحه وتعليله كذلك في حديثه صلوات الله وسلامه عليه: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى،فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" (1) . وفي معنى الحديث أقوال تصح في مجملها، ولعل أوضحها أن المراد: أن معجزات الأنبياء السابقين انتهت بانتهاء عصورهم،فلم يعاينها إلا من حضرها، أما معجزة القرآن فهي باقية إلى يوم الدين فهو في كل عصر خارق للعادة في أسلوبه وبلاغته وسائر وجوه إعجازه ومنها إخباره بالمغيبات،فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه، وكذلك فالمعجزات الماضية كانت حية تشاهد بالأبصار، وأما القرآن فمعجزة عقلية تشاهد بالبصيرة،فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول (2) . ولهذا رد الله تعالى على المشركين طلبهم لخوارق الآيات، وسؤالهم المعجزات بكفاية القرآن وعدم الحاجة إلى غيره من الآيات، وذلك في قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا   (1) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل (2) يراجع في ذلك ما قاله ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري) :9/7 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت:50،51) ولقد عرف المسلمون منذ عصر نزول القرآن شأن معجزته، فأكبروه، وبذل علماؤهم جهودهم، ووقفوا الكثير من أعمارهم على إبراز وجوه إعجاز هذا الكتاب الكريم، واستمرت هذه الجهود المباركة موفورة إلى يوم الناس هذا،فسجلت القرون المباركة وما بعدها من تاريخ المسلمين كتابات في هذا المجال لم ينقطع مددها، ولم يتوقف تتابعها. ولقد أولت المملكة العربية السعودية-فيما نهضت به من أعباء خدمة الإسلام في شتى مجالاته-كتاب الله تعالى مزيد حياطة ورعاية، تمثلت في هذا الصرح الإسلامى الشامخ، وهو مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الذي قام ويقوم بفضل من الله تعالى بخدمة كتابه الكريم طباعة المصحف، وتفسيراً للقرآن، وترجمة لمعانيه، وإثراء للدراسات القرآنية في شتى مجالاتها، وأخيراً وليس بآخر كان من معالم هذه الجهود المباركة دعوة المجمع إلى ندوة علمية عن (عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه) شملت عدة محاور تضمنت موضوعات شتى تصب كلها في هذا الهدف النبيل، هدف خدمة القرآن الكريم. وتلبية لدعوة كريمة من أمانة المجمع يأتي هذا البحث في (عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم) مشاركة متواضعة في هذا العمل الكبير. وصلب الموضوع في هذا البحث يتناول قضيتين الأولى: قضية التأصيل التاريخي لموضوع الإعجاز، وذلك من خلال المصنفات التي تناولته عبر قرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الإسلام، وأقوال أصحابها في أوجه الإعجاز المعتبرة، والثانية: بيان أوجه الإعجاز التى دارت حولها أقوال العلماء. ولكن يسبق ذلك لتمام الفائدة، ولحاجة البحث مسائل تتعلق ببيان المراد بمصطلح إعجاز القرآن، وأهمية علم الإعجاز، وحاجة المفسرين إليه، ومناط الإعجاز المتفق عليه عند علماء الأمة، ورد ما يخالف ذلك. أسأل الله العلي القدير أن يوفق لإتمامه على النحو الذي يرضيه سبحانه، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به، ويثيبني بما هو أهله عز وجل وأن يتجاوز عما يكون فيه من تقصير هو من لوازم البشر، والله من وراء القصد وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمدصلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بيان المراد بـ (إعجاز القرآن) مصطلح "إعجاز القرآن" –كما يبدو من صياغته-مركب إضافي، طرفاه كلمتا: (إعجاز) و (القرآن) ولمعرفة المراد بهذا المركب يلزم تحديد معنى طرفه الأول وهو كلمة "الإعجاز" ثم معرفة المراد بالمصطلح كله عند إضافة هذه الكلمة إلى (القرآن) فما معنى الإعجاز؟؟ الإعجاز: مصدر أعجز، ومادة الكلمة هي العجز، وكلام أهل اللغة في معناها يدور حول الضعف، وعدم القدرة على النهوض بالأمر، وكذلك القعود عما يجب فعله. قال ابن منظور: (العجز: نقيض الحزم والعجز: الضعف، والمعجزة بفتح الجيم وكسرها: مفعلة من العجز: عدم القدرة، وفي الحديث- كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 شيء بقدر حتى العجز والكيس (1) .- وقيل أراد بالعجز: ترك ما يجب فعله بالتسويف) (2) . ومقتضى آخر الكلام فيما ساقه صاحب اللسان أن العجز أعم من أن يكون ضعفا وانعدام قدرة،وإنما يمكن أن يعني ترك الأمر تسويفا، مما يفهم منه أن ما ترك في حيز القدرة عليه، لكن الباعث على تركه هو الكسل الحامل على التأجيل والتسويف. لكن لنا في أصالة معنى العجز في الدلالة على عدم القدرة، وأن ترك الفعل عجزاً إنما يكون لعدم القدرة عليه في الأصل. أقول: لنا في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذبك من الهم والحزن، والعجز والكسل.." (3) . قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (إن الهم:لما يتصوره العقل من المكروه في الحال، والحزن لما وقع في الماضي، والعجز ضد الاقتدار، والكسل ضد النشاط) (4) . فالجمع في الحديث بين الاستعاذة من كل من العجز والكسل فيه دلالة على تغاير المعنى فيهما، فالأول عدم القدرة والثاني عدم النشاط والنهوض للأمر.   (1) الحديث أخرجة مسلم في صحيحه: كتاب القدر، باب كل شئ بقدر (2) لسان العرب: مادة (عجز) (3) صحيح البخاري: كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من الجبن والكسل (4) فتح البارى11/178 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وعليه فالإعجاز: هو جعل من يقع عليه أمر التحدي بالشيء عاجزاً عن الإتيان به، ونسبته إلى العجز، وإثباته له، فالإعجاز بالنسبة للمعجز هو الفوت والسبق، يقال أعجزني فلان أي: فاتني،وبالنسبة للعاجز عدم القدرة على الطلب والإدراك (وقال الليث: أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه) (1) . إذا كان هذا معنى الإعجاز، فبإضافته إلى القرآن، ومنهما يكون مصطلح: (إعجاز القرآن) كما سبق بيانه يكون المراد: إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به، وهو أن يأتوا بمثله أو بشيء من مثله، فهو من إضافة المصدر إلى فاعله، والمفعول محذوف للدلالة على عموم من تحداهم القرآن، وهم الإنس والجن، وكذلك ما تعلق به الفعل محذوف للعلم به، وهو القرآن أو بعضه كما ثبت في كثير من آيات التحدي. ويكتمل بيان المراد بهذا المصطلح إذا عرفنا أن إعجاز القرآن مَن تحداهم عن الإتيان بمثله أو بشيء من مثله ليس أمراً مقصوداً لذاته، وليس هو الغاية في نفسه، ولكن المقصود هو اللازم الناتج عن هذا الإعجاز، وهو إظهار وإثبات أن هذا الكتاب حق، ووحي من عند الله تعالى، ومقتضى ذلك كله إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به قومه من الرسالة، ودعاهم إليه من الإسلام، وعليه فإن حقيقة الإعجاز وهى إثبات العجز لمن وقع عليه التحدى استلزمت إظهار هذا العجز، وهذا الإظهار بدوره استلزم إظهار صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المقصود الأول من الإعجاز.   (1) لسان العرب:مادة (عجز) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أهمية علم الإعجاز والضرورة الداعية إليه من بداهة القول أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم هداية للناس في شتى مناحي حياتهم إلى أقوم طريق وأهدى سبيل، وذلك مما ينبئ عنه حذف متعلق الهداية في قول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء:9) بل إن هذا الهدف الأعظم هو أول ما يطالع القارئ لكتاب الله تعالى مفتتح المصحف في أول سورة منه بعد الفاتحة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة:1،2) ومن المعلوم أن الاهتداء بالقرآن فرع عن معرفة وفهم معانيه، وطريق ذلك علم التفسير، ذلك العلم الذي نبتت نابتته الأولى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يسأله أصحابه رضوان الله عليهم عما يشكل عليهم فهمه من القرآن، فيجيبهم، وكذلك عندما كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم ابتداء ما يعلم أنهم في حاجة إلى تعلمه، ولا سبيل لهم إليه إلا ببيانه صلى الله عليه وسلم، كانت تلك البذور الأولى، ثم نما علم التفسير، وتطور عبر قرون الإسلام، من الرواية إلى التدوين والتصنيف مما لا مجال لتفصيله هنا. أقول: إن هدى القرآن، وهو مقصود نزوله إنما يكون بتفسيره، ومعرفه ما فيه من الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمحكم والمتشابه، والحلال والحرام وغير ذلك، ولذلك كان من تعريف العلماء لعلم التفسير ما قاله بدر الدين الزركشي: (هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها، والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها.. وزاد فيها قوم فقالوا: علم حلالها وحرامها ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها) (1) . وحول هذا المعني جاء تعريف الزرقاني رحمه الله تعالى لعلم التفسير في عبارة أجمل فيها تفصيل الزركشي،مبينا الغرض النهائي لهذا العلم فقال: (والتفسير في الاصطلاح:علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية) (2) . ولما كان الهدف النهائي من ذلك كله هو الاهتداء بالقرآن المترتب على فهم معانيه التى يتوصل إليها بتفسيره فإنا نستبيح لأنفسنا أن نقول في تعريف التفسير: (إنه علم يتوصل به إلى معرفة كيفية الانقياد لأمر الله تعالى فيما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم،وذلك أن ما سبق من التعريفات إنما يؤدى إلى نفس الغاية. ولما كان القرآن قد أنزله الله تعالى بلسان عربى مبين فإن القيام على تفسيره لابد أن ينبني على معرفة باللغة العربية وخصائصها، ودلالات ألفاظها، وأوجه بلاغتها. ولذلك يذهب الشيخ الطاهر بن عاشور إلى: (أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعانى القرآن بالغاً حدّ الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملا على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آيه المفسَّرة، بمقدار ما تسمو إليه الهمة من تطويل واختصار، فالمفسر بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربى، وخصائص بلاغته)   (1) البرهان في علوم القرآن:2/163،164 (2) مناهل العرفان في علوم القرآن:2/3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ثم نراه ينحي باللائمة على من لم يجعل ذلك في التفسير له غرضا، فيقول (فمن أعجب ما نراه خلو معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الأسمى إلا عيون التفاسير، فمن مقل مثل معانى القرآن لأبى إسحاق الزجاج، والمحرر الوجيز للشيخ عبد الحق بن عطية الأندلسي، ومن مكثر مثل الكشاف، ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التى نحت ناحية خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن، على أن بعض أهل الهمم العالية من أصحاب هذه التفاسير لم يهمل هذا العلق النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البغدادي، وكما نراه في مواضع من أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي. (ثم إن العناية بما نحن بصدده من بيان وجوه إعجاز القرآن إنما نبعت من مختزن أصل كبير من أصول الإسلام، وهو كونه المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم وكونه المعجزة الباقية) (1) . وإذا كان كلام صاحب التحرير مبنياً على رؤية التلازم بين معرفة علوم العربية وفهم معانى القرآن الذي يعيّن طريقاً للاهتداء به، فإن هذا الاهتداء فرع آخر بل ونتيجة لتلك الدراسة التي تؤكد على إعجاز القرآن، ذلك أنا نرى أن هناك ترابطاً لا ينفك بين النص المعجز والمعنى الشامل لسبل الهداية كلها، هذا الترابط يمكن وصفه إن صح التعبير-بأنه ترابط ما بين المقدمات والنتائج، فغرض الإعجاز مقدمة نتيجته الهداية، أو إن شئت فقل إن غرض الإعجاز أمر يسبق في التقرير غرض الهداية، لأن الناس إذا دعوا إلى العمل بمنهج ما فلا بد من قناعتهم بسلامة مصدر هذا المنهج حتى ينقادوا له عن طمأنينة، والإعجاز- في هذا المجال-قد أدى الغرض فأوفى، فبه عرف أن   (1) التحرير والتنوير:1/102 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 القرآن كلام رب الناس وخالقهم، والأعلم بما يصلح لهم ويُصلحهم، ناهيك عن إعجاز ما تضمنه القرآن في مجال الهداية كذلك من سمو تشريعه، وعلو دعوته. وهذا وما سبق يؤكد على أن العناية بعلم (إعجاز القرآن) إجمالا وتفصيلا من أكثر الأمور ضرورة، وهو ما نبه إليه العلماء قديما وحديثا. قال القاضي أبو بكر الباقلانى رحمه الله تعالى. (ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لأصل دينهم قواما، ولقاعدة توحيدهم عماداً ونظاماً، وعلى صدق نبيهم صلى الله عليه وسلم برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة، لا سيما والجهل ممدود الرواق، شديد النفاق، مستول على الآفاق، والعلم إلى عفاء ودروس) . ثم يقول: (وقد كان يجوز ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن، وتكلم في فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام أن يبسطوا القول في الإبانة عن وجه معجزته والدلالة على مكانه، فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه: من القول في الجزء، ودقيق الكلام في الأغراض، وكثير من بديع الإعراب، وغامض النحو، فالحاجة إلى هذا أمس والاشتغال به أوجب) (1) . لقد منَّ الله تعالى على علماء الأمة بحفظ هذا العلم، فأولت إعجاز القرآن وبيانه للناس جل اهتمامها، وتتابعت في ذلك المصنفات –كما سيأتى بيانه- وظلت ترى- مع ذلك- أن الكلام في إعجاز القرآن واجب لا يسع الأمة في مجملها تركه.   (1) إعجاز القرآن للباقلاني:22، 23 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 قال السيد محمد رشيد رضا في تقديمه لكتاب (إعجاز القرآن) لمصطفى صادق الرافعي: (فالكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعاً، وهو من فروض الكفاية، وقد تكلم فيه المفسرون، وبلغاء الأدباء والمتأنقون) (1) . وما زال العلماء والأدباء من بعد رشيد رضا والرافعى يعنون بالقرآن الكريم من جهة إعجازه، وسيظلون على ذلك بعون الله تعالى خدمة لهذا الكتاب الكريم، الذى شرفنا الله تعالى بالانتساب إليه، ومنّ علينا بالاهتداء به: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزخرف:44)   (1) إعجاز القرآن للرافعي:20 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 مناط الإعجاز في القرآن الكريم إجماع أهل العلم المعتد بإجماعهم، والذى ارتضته الأمة منهم منعقد على أن القرآن الكريم معجز بذاته، أى بلفظه الذى نزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما يتعلق- من بين أوجه الإعجاز-بالناحية البلاغية ابتداءً، مع ما تضمنه القرآن من أوجه أخرى ترجع إلى ذاته لفظاً ومعنى، وهو ما سيأتى تفصيل له في ثنايا البحث إن شاء الله تعالى عند الكلام على تأصيل قضية الإعجاز تاريخيا في كتابات العلماء قديما وحديثا، وكذلك عند الكلام على هذه الأوجه تفصيلا فيما تمخضت عنه هذه المصنفات. ولكن يحسن قبل- ذلك- حتى يصفو ذهن القارئ وعقله لتدبر ما يمكنه من أوجه الإعجاز في القرآن الكريم-أن ننبه إلى دفع قول في مضمار الكلام على الإعجاز شاع في ساحة التناول لهذا الموضوع على الرغم من فقدانه لأى دليل معتبر يسنده من عقل صحيح، أو واقع تاريخى، بل تتظاهر الأدلة كلها ضده، مما يحكم ببطلانه. وقد كان بالإمكان- بل وكنانميل- أن نضرب عن ذكره صفحاً إلا أن تردد صداه في مصنفات الإعجاز قديما وحديثا وإن كان مقرونا ببيان بطلانه –جعلنا نرى أن الإشارة إليه مع رده ولو بإجمال أمر لازم، حتى لا يجيء البحث خلوا من ذلك فيقع في وهم القارئ ولو احتمالا أن هذا القول له حظ من القبول، وأعنى بهذا القول ما شاع بين البعض من أن أساس الإعجاز في القرآن هو الصرفه، فما شأن القول بالصرفة هذا؟؟ القول بالصرفة يقوم أساساً على اعتبار أن القرآن في ذاته، أى بلفظة وأسلوبه غير معجز، وأن عدم إتيان العرب بمثله ليس علته عدم قدرتهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ذلك، فهم البلغاء الفصحاء، ولكن العلة في ذلك راجعة إلى أن الله تعالى قد صرفهم عن المحاولة، وسلب علمهم الذى كان يمكن به- في نظر القائل بذلك-أن يأتوا بمثل القرآن، فهم كانوا قادرين، لكنهم لم ينشطوا لهذا الأمر، أو لم تتوفر الدواعى لديهم للمعارضة ابتداءً. وقد ورد هذا التفسير للقول بالصرفة في عبارات العلماء من قديم: قال الخطابى: (وذهب قوم إلى أن العلة في إعجازه الصرفة، أى صرف الهمم عن المعارضة، وإن كانت مقدوراً عليها، إلا أن العائق من حيث كان أمراً خارجاً عن مجاري العادات صار كسائر المعجزات) (1) . أي أن الصرف أو المنع الذى سماه الخطابي عائقا لما كان أمراً خارجاً عن العادة صار هو المعجز لا القرآن. وقال الرماني: (وأما الصرفة، فهى صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التى دلت على النبوة. وما قاله الرمانى قريب مما قاله الخطابى إلا أنه زاد فقال (وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التى يظهر منها للعقول) (2) . مما بشى بنوع قبول لهذا القول. وقال الباقلانى رحمه الله: (فإن قيل: فلِمَ زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات، وتصرفهم في أجناس الفصاحات؟ وهلا قلتم: إنَّ مَن قدر على هذه الوجوه البديعة، وتوجه من هذه الطرق الغريبة كان على مثل نظم القرآن قادراً، وإنما يصرفه الله عنه ضرباً   (1) "بيان إعجاز القرآن" ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص22 (2) "النكت في إعجاز القرآن" ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرباً من المنع، أو يقصر دواعيه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله من الدلالة ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة، لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلهما، وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر السورة، فالجواب:..) (1) . وظاهر مما قاله العلماء-على هذا الرأى –أن إعجاز القرآن لم ينشأ من أنه قد بلغ في بلاغته حد الإعجاز الذى لا تطيقه قدرة البشر، بل لصرف من وقع عليهم التحدي عن التوجه للمعارضة، وأن أسباب هذا الصرف ترجع إلى: أ-انعدام الدواعى الباعثة على هذه المعارضة ب- عدم النشاط والانبعاث إلى المعارضة، وبالتالي عدم تعلق الإرادة بها مع وجود الدواعي إليها. جـ- تعطيل المواهب البيانية، وتعويق القدرة البلاغية، وسلب الأسباب العادية إلى المعارضة، وذلك على نحو مفاجئ عند المحاولة، رغم تعلق الإرادة بها، وتوجه الهمة إليها. وظاهر كذلك مما سبق أن هذا القول بما بني عليه يسلب القرآن الكريم خاصة إعجازه الذاتية، وهو من الخطورة بالقدر الذى يترتب عليه فقد أهم دلائل صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإنه قول ساقط بذاته عند أدنى فكر وتأمل، ولا يحتاج في إبطاله إلى عناء، وسوف نشير بإيجاز إلى أوجه بطلانه تحقيقا لما أشرنا إليه من عدم الإطالة، وتوفيراً للجهد وادخاراً له لبيان الأوجه المعتبرة عند العلماء في إعجاز القرآن.   (1) إعجاز القرآن للباقلانى: 55،56 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وسنشير أولاً إلى ما يبطل تلك الأسباب التى ظهر من كلام العلماء أن الصرفة كانت من أجلها، ثم نعقب بذكر شواهد أخرى تدل على بطلان القول بالصرفة وسقوطه. أما أول الأسباب التى ساقوها: وهو انعدام دواعي العرب إلى معارضة القرآن، وأنهم لو توفرت تلك الدواعى عندهم فلربما عارضوه، فيرده ما سجله تاريخ هؤلاء العرب مع القرآن، وما أثبته تواتر النقل من توفر تلك الدواعي التى من بينها أن القرآن تحداهم في أكثر من موضع منه بأن يأتوا بمثله، أو بعشر سور أو بسورة من مثله، وقطع بأنهم لن يفعلوا ذلك {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ? (البقرة:23،24) ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء:88) كما أن القرآن قد أثار حميتهم- وهم مضرب المثل في الأنفة وإباء الضيم-بما شنه عليهم من حرب شعواء على معتقداتهم التى توارثوها، وسفه عقولهم، وعقول آبائهم، ونعى عليهم الشرك والجهل، وهم مع ذلك قوم صناعتهم البيان، وفخرهم في التنافس في ميدان الكلام، فكيف مع سكوتهم على هذا الضيم الذي لو وجدوا سبيلا إلى دفعه لسلكوه مسرعين،كيف يقال بعدم توفر الدواعى لديهم. أما ثاني هذه الأسباب: وهو عدم انبعاثهم ونشاطهم، وعدم تعلق إرادتهم بالمعارضة مع وجود الدواعى فينقضه كذلك التاريخ والواقع، فقد سجل هذا التاريخ محاولاتهم الدؤوبة في الكيد للإسلام، حتى وصل الأمر إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تآمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبع ذلك ما كان بعد الهجرة وإقامة دولة الإسلام في المدينة من خوضهم الحروب ضد الإسلام، وإقدامهم على بذل أموالهم وإراقة دمائهم، وسبي ذراريهم في هذه السبيل، فكيف يقال بعد ذلك إنهم لم ينشطوا إلى المعارضة، وقد بذلوا في بديلها أضعاف أضعاف ما كانوا يبذلونه فيها من جهد لو كانت في مقدورهم. وأما ثالث هذه الأسباب: وهو تعطيل مواهبهم وسلب قدراتهم فجأة مع توفر الدواعي، وانبعاث النشاط فيرده أنه: لو كان الأمر كذلك لأثر عنهم الاعتذار بهذا التفاوت العلمي بين ما في القرآن وبين ما عندهم، وذلك ليقللوا من شأن القرآن في ذاته، وأنه ما كان إعجازه إلا لصرفهم عنه، ولكن ذلك لم يذكر عنهم أبداً. فإذا أضفنا إلى ذلك: 1- أن القرآن الكريم بلفظه وعبارته قد راع العرب بتفوق بيانه، وأثار أسلوبه وعبارته إعجابهم، وأعلنوا أنهم ما رأوا مثله شعراً ولا نثراً، ومقتضى ذلك أن إعجاز القرآن لذاته لا لشيء خارج عنه، وإلا لو كان كلاماً كسائر الكلام ما لفت أنظارهم، ولا أخذ بألبابهم. قال عبد القاهر الجرجانى: (إنه لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن وعن أن يأتوا بمثله لأنه معجز في نفسه، لكن لأن أدخل عليهم العجز عنه، وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله، وكان حالهم على الجملة حال من أعدم العلم بشيء قد كان يعلمه، وحيل بينه وبين أمر قد كان يتسع له لكان ينبغي أن لا يتعاظمهم، ولا يكون منهم ما يدل على إكبارهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أمره، وتعجبهم منه، وعلى أنه قد بهرهم، وعظم كل العظم عندهم، بل كان ينبغي أن يكون الإكبار منهم والتعجب للذى دخل عليهم من العجز) (1) . 1- لو كان القول بالصرفة صحيحا لما كان القرآن معجزاً، قال الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى: (لو قلنا إن الذى منع العرب عن الإتيان بمثله هو الصرفة ما كان القرآن هو المعجز، وإنما يكون العجز منهم، ولم يكونوا عاجزين، وإنما يكون قد أعجزهم الله، ولم يعجزهم القرآن ذاته، وقد كان القرآن هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم والقول بالصرفة ينفي عنه خواص الإعجاز) (2) . 2- ثم إن القول بالصرفة يرده قول الله تعالى {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء:88) . قال السيوطي رحمه الله تعالى بعد ذكره الآية الكريمة (فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم يبق لهم فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره، هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز! بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله) (3) . هذا هو القول بالصرفة قد بيناه، وبينا ما يترتب عليه، كما بينا بطلانه! أما عن نشأته فبإيجاز نقول:   (1) دلائل الإعجاز:390،391 (2) المعجزة الكبرى:61 (3) الإتقان في علوم القرآن:2/1006. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 قد شاعت في كتابات المؤلفين نسبة هذا القول بعامة إلى المعتزلة، وأن أول من جاهر به منهم هو أبو إسحاق إبراهيم بن يسار الشهير بالنظام (ت سنة 224هـ‍) فقد ذهب إلى أن القرآن حق، ولكن تأليفه ونظمه ليس بحجة، لكن من الإنصاف أن نبين أن هذا الكلام عنه يعبر عن شطر رأيه في قضية الإعجاز، وأما الشطر الآخر فعنده أن إعجاز القرآن راجع إلى مافيه من الإخبار بالمغيبات. قال الشهرستانى يعدد المسائل التى انفرد بها النظام عن أصحابه (التاسعة: قوله في إعجاز القرآن إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية، ومن جهة صرف الدواعى عن المعارضة، ومنع العرب من الاهتمام به جبراً وتعجيزا، حتى لوخلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما) (1) . هذه المقولة للنظام وإن لم يكتب لها حظ من القبول عند جماهير العلماء، بل كانوا على خلافها، وعملوا جهدهم في ردها، إلا أنها أثرت عن البعض في فترات لاحقة مختلفة، فقد نسبت كذلك إلى الشريف المرتضى الذى عاش في القرن الرابع الهجرى، والذى فسر الصرفة بأن الله سلب العرب العلوم التى يحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن، يذكر ذلك الرافعي عنه ثم يقول (فكأنه يقول:إنهم بلغاء يقدرون على مثل النظم والأسلوب، ولا يستطيعون ما وراء ذلك مما لبسته ألفاظ القرآن من المعانى، إذ لم يكونوا أهل علم، ولا كان العلم في زمنهم، وهذا رأى بين الخلط) (2) .   (1) الملل والنحل:1/56،57 (2) إعجاز القرآن للرافعي:144 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وممن حكى عنه القول بالصرفة كذلك ابن حزم الظاهري (ت سنة 456هـ‍) الذى قال في سبب الإعجاز (لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز، لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاّما له أصاره معجزاً ومنع من مماثلته) (1) . وقد رأينا فيما سبق كيف حمل العلماء على هذا القول وفَنَّدوه كالباقلانى وعبد القاهر وغيرهم، ومع هذا فقد تردد صدى هذا القول فيما بعد، وترك آثاره في فكر بعض المفسرين- من المتكلمين- عن الإعجاز كأبى عبد الله فخر الدين الرازى (ت سنة604هـ‍) الذى قال في معرض تفسيره لقول الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء:88) ما نصه: (اعلم أنا في سورة البقرة في تفسيره قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} بالغنا في بيان إعجاز القرآن، وللناس فيه قولان: منهم من قال: القرآن معجز في نفسه، ومنهم من قال: إنه ليس في نفسه معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته مع أن تلك الدواعى كانت قوية كانت هذه الصرفة معجزة، والمختار عندنا في هذا الباب أن نقول: القرآن في نفسه إما أن يكون معجزاً أو لا يكون، فإن كان معجزاً فقد حصل المطلوب، وإن لم يكن معجزا بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته، وكانت الدواعى متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة، وما كان لهم عنها صارف ومانع، وعلى هذا التقدير كان الإتيان بمعارضته واجباً   (1) الفصل في الملل والأهواء والنجل:3/19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 لازما، فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً، فهذا هو الطريق الذى نختاره في هذا الباب) (1) . وهو كلام من الرازي فيه من التردد في الحكم ما يفتح الباب ولا يغلقه أمام جواز القول بالصرفة، بل لعله إليه أقرب وهو أسلوب غير مرضيّ في مثل هذه القضايا الحاسمة. ومهما يكن من أمر فإن القول بالصرفة وإن أنكرناه ورفضناه بشدة إلا أنه أمر واقع في مصنفات من كتبوا في الإعجاز مثل الخطابي والرماني كما أسلفنا، وكذلك من جاء بعدهم سواء كان ذلك منهم تأييداً أو رفضا، لكننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الأسى على استدعائه كل هذا الجهد حوله مما كان يمكن أن يتوفر لغيره من الدراسات القرآنية النافعة، ونحن بهذا مع الرافعى رحمه الله فيما لفت النظر إليه عندما قال: (على أن القول بالصرفة هو المذهب الفاشي من لدن قال به النظام-يصوبه فيه قوم ويشايعه عليه آخرون، ولولا احتجاج هذا البليغ لصحته، وقيامه عليه، وتقلده أمره، لكان لنا اليوم كتب ممتعة في بلاغة القرآن وأسلوبه، وإعجازه اللغوى، وما إلى ذلك، ولكن القوم-عفا الله عنهم- أخرجوا أنفسهم من ذلك كله، وكفوها مؤنته بكلمة واحدة تعلقوا عليها، فكانوا فيها جميعا كقول الشاعر الظريف الذى يقول: كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء (2 وهذا الذى ذكره الرافعى إنما يعبر عن حرص شديد على نفي الشوائب عن موضوع أوجه إعجاز القرآن الكريم وتوفير كل الجهد لدراستها   (1) مفتاتيح الغيب: مجلدا حـ21 ص55 (2) إعجاز القرآن للرافعى:146 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 بما يبرزها للأجيال المتعاقبة واضحة جلية، وإلا فإن القول بالصرفة في ذاته بما يحمله من دلائل بطلانه قد كان سببا في استنهاض همم العلماء للكتابة في إعجاز القرآن، وهذا ما سنعرض لبيانه في القضية التالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 قضية الإعجاز: تأصيل تاريخي وأقوال في أوجه هذا الإعجاز شهد القرن الثانى وأوائل القرن الثالث الهجريين مقولة النظام (ت سنة 224هـ‍) بالقول بالصرفة في إعجاز القرآن-كما سبق بيانه- وما إن شاعت تلك المقولة حتى استنفرت أمة القرآن بعقول العلماء لردها، وبيان بطلانها كما أوضحنا من قبل، وكذلك لإبراز أوجه إعجاز القرآن الكريم المتعددة. فنهض أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت سنة255هـ‍) في القرن الثالث الهجرى لهذا الأمر، فصنف كتابا سماه: (نظم القرآن) وهو كتاب غير موجود، وإنما تشير إليه المراجع الأخرى من كتب الجاحظ نفسه، أو من كتب غيره. تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن: (في القرن الثالث ظهرت كتب في الإعجاز تحمل في الغالب عنوان- نظم القرآن- وللجاحظ كتاب بهذا الاسم لم يصل إلينا وإن كان الجاحظ أشار إليه في كتابه "الحجج") (1) . وقديما قبل ذلك أشار الباقلانى رحمه الله تعالى إلى هذا الكتاب وإن لم يورده في موضع الثناء، إذ رأى أنه لم يأت فيه بجديد يعول عليه، قال: (وقد صنف الجاحظ في "نظم القرآن" كتابا لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى) (2) .   (1) الإعجاز البيانى للقرآن:19 (2) إعجاز القرآن للباقلانى:24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقد اختلفت الأنظار في حقيقة رأى الجاحظ في إعجاز القرآن، فالبعض يرى أن تلمذته للنظام أثرت في مذهبه في الإعجاز، وأنه تابع شيخه في القول بالصرفة وإن لم يصرح بذلك. قال د. أحمد جمال العمرى: (وجاء الجاحظ وعملا بمبدأ الالتزام الأدبي النقلي تابع أستاذه النظام، وإن كان لم يذكر ذلك صراحة في بادئ الأمر، ولكنه تحفظ نوعا?ولعل تحفظه أن يصرح علانية بموافقته على رأى النظام كان نتيجة لردود الفعل التى أحدثها رأى النظام في المجتمع الإسلامى خاصة عند جماعة السلف، فلم يرد الجاحظ أن يكون هو الآخر هدفاً لهذا التيار الجارف الذى تعرض له أستاذه.. لذلك نراه يدور حوله أول الأمر، لكنه لا يعلنه صراحة) (1) . بينما يرى الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله غير ذلك فيقول: (وإن أول ما كتب في إعجاز القرآن من ناحية البيان كان في الوقت الذى جاء فيه القول بالصرفة بين نفي وإثبات كما أشرنا، وأول من عرف أنه تصدى للكلام في الإعجاز في نظم القرآن هو الجاحظ تلميذ النظام، الذى أنكر عليه قوله، وعابه في منهاجه الفكرى من أنه يظن الظن، ثم يجعله أصلا يجرى عليه القياس مصححا لقياسه بالمنطق، والعيب في أصل القول الذى بنى عليه، لا في الأقيسة التى أجرى بها مشابهاته) (2) . وعلى كلٍ، فإنه حتى لوصح كلام القائلين بإضمار الجاحظ للقول بالصرفة وميله إليه فإن ذلك لا يغض من كونه أول من نهض لإبراز الإعجاز   (1) مفهوم الإعجاز القرآنى حتى القرن السادس عشر الهجرى:49 (2) المعجزة الكبرى:62،63 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 القرآنى في نظمه (1) وعرض بلاغة القرآن في آياته، في الإيجاز والحذف والزوائد والفصول والاستعارات، وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة إلى آخره، وقوله عن القرآن بصفة عامة: وفي كتابنا المنزل الذى يدل على أنه صدق: نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد مع ما سوى ذلك من الدلائل التى جاء بها من جاء به) (2) . وفي أواخر القرن الثالث الهجرى وضع أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطى (ت سنة 306هـ‍) كتابا سماه (إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه) وهو يعد بناء على ما ابتدأه الجاحظ، وإلى كتاب الواسطى هذا ينسب الرافعى السبق في بسط القول في الإعجاز، فيقول، (بيد أن أول كتاب وضع لشرح الإعجاز وبسط القول فيه على طريقتهم في التأليف إنما هو فيما نعلم كتاب "إعجاز القرآن" لأبى عبد الله محمد بن يزيد الواسطي) (3) . ثم جاء القرن الرابع الهجرى، وفيه ألف أبو الحسن على بن عيسى الرمانى (ت سنة 386هـ‍) كتابا صغيراً سماه: (النكت في إعجاز القرآن) وقد جاء في شكل جواب عن سؤال وُجِّه للرمانى عن ذكر نكت إعجاز القرآن دون التطويل والحجاج، فلخص جوانب الإعجاز في وجوه سبعة: ترك المعارضة مع توفر الدواعى وشدة الحاجة، والتحدى للكافة، والصرفة، والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة، ونقص العادة، وقياسة بكل معجزة، لكنه يوجه الاهتمام من بينها إلى البلاغة، فيبين أنها على ثلاث طبقات، منها ما هو في أعلى طبقة، وما هو في أدنى طبقة، وما هو في   (1) يراجع في ذلك:إعجاز القرآن للرافعى:151 (2) الحيوان:4/85 (3) إعجاز القرآن:152 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة، وبعد أن يشرح كل واحدة يجعل البلاغة في عشرة أقسام: الإيجاز، والتشبية، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان، ثم يفسرها باباً باباً، مستشهداً لها بالقرآن، ثم يتكلم بإيجاز في آخر الرسالة على بقية أوجه الإعجاز الستة التى سبق له ذكرها (1) . وفي القرن نفسه كتب أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابى (ت سنة 388هـ‍) الذي عاصر الرمانى (بيان إعجاز القرآن) وفيه أشار إلى أن الناس قد أكثروا الكلام في باب إعجاز القرآن قديما وحديثا، وذهبوا فيه كل مذهب، ولم يصدروا عن رأي، وناقش القول بالصرفة، وتعرض لما تضمنه القرآن من الإخبار عن غيوب المستقبل، وعَدَّه نوعاً من أنواع إعجازه، ولكنه لم يرتضه سراً للإعجاز وأساساً يعول عليه حيث إنه ليس بالأمر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن، ثم انتقل إلى موضوع البلاغة وأن إعجاز القرآن من جهتها، وأن أكثر العلماء على ذلك، ولكنه عاب عليهم في تسليمهم هذه الصفة للقرآن نوعاً من التقليد، وضرباً من غلبة الظن دون التحقيق، وبدأ معالجة ذلك على طريقته هو، فذكر أقسام الكلام المحمود وهى: البليغ الرصين الجزل، والفصيح القريب السهل، والجائز الطلق الرَّسل، وأن القسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والثاني أوسطه وأقصده، الثالث أدناه وأقربه، وأن القرآن قد حازت بلاغته من كل قسم من هذه الأقسام حصة، كما بين أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني من: توحيد، وتحليل وتحريم، وأن   (1) ينظر شواهد ذلك في رسالة (النكت في إعجاز القرآن) للرمانى،ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن في سلسلة ذخائر العرب، طبع دار المعارف ص 75 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الإتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر، وفي النهاية لفت النظر إلى وجه في الإعجاز ذهب عنه الناس –على حسب قوله- وهو صنيع القرآن بالقلوب وتأثيره القوى في النفوس (1) . وهو ما يمكن أن نسميه بالإعجاز النفسى. وجاء بعد ذلك واحد من أشهر من كتبوا في إعجاز القرآن وانتشرت كتبهم، وهو الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلانى (ت سنة403هـ‍) فألف كتابه (إعجاز القرآن) الذى قال في سبب تأليفه (وسألنا سائل أن نذكر جملة من القول جامعة: تسقط الشبهات، وتزيل الشكوك التى تعرض للجهال، وتنتهى إلى ما يخطرلهم، ويعرض لأفهامهم، فأجبناه إلى ذلك متقربين إلى الله عز وجل، ومتوكلين عليه، وعلى حسن توفيقه ومعونته) . وقد ذكر في الفصل الثالث (2) . من هذا الكتاب جملة من وجوه الإعجاز متمثلة في:الإخبار عن الغيوب المستقبلة، وقصص الأولين، وبديع نظم القرآن، وعجيب تأليفه، وما فيه من الشريعة والأحكام التى يتعذر على البشر مثلها. وفي الفصل الرابع (3) . يشرح عددا من هذه الوجوه، وهو في كل ذلك يذكر شواهد القرآن التى تؤيد كلامه وفي أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجرى أفرد القاضي عبد الجبار أحمد بن خليل بن عبد الله (ت   (1) ينظر في شواهد ذلك رسالة (بيان إعجاز القرآن) للخطابى ضمن المصدر السابق: ص 21 وما بعدها (2) إعجاز القرآن للبلاقلانى:24،25 (3) نفس المصدر:84 وما بعدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 سنة415هـ‍) من كتابه "المغنى في أبواب التوحيد والعدل" البالغ عشرين جزءاً واحداً من هذه الأجزاء لإعجاز القرآن وهو الجزء السادس عشر. يقول الدكتور/ عبد الفتاح لاشين: (وهو في هذا الجزء لايلقى الإعجاز لقاءً مباشرا، بل يقدم له بمباحث كثيرة تستنفد الجزء الأكبر من هذا الكتاب، فهو يقرر أولا صحة القرآن وتواتر نقله، والدواعى التى تقوم لهذا التواتر وتتضافر على الاحتفاظ به كاملا بعيداً من أي تحريف أو تبديل.. ثم يتعرض للإعجاز، وينصب موازين البلاغة ليقيم بها الكلام البليغ) (1) . كما أفرد أبو محمد على بن أحمد بن حزم الظاهرى (ت سنة 456هـ‍) لإعجاز القرآن فصلا من الجزء الثالث من كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) تحدث فيه عن عدد من وجوه الإعجاز باختصار، وهو ممن نسب إليهم القول بالصرفة كما مر. وفي القرن الخامس كذلك ألف الإمام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانى (ت سنة 471هـ‍) كتابه (دلائل الإعجاز) الذى كشف فيه عن وجوه إعجاز القرآن كما رآها، وأنها في بلاغته وفصاحته، وردَّ فيه على المعتزلة قولهم بالصرفة، وقد صرح بما يراه في إعجاز القرآن من أول الأمر، فقال (أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادقوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها، ومجارى ألفاظها ومواقعها) (2) .   (1) بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار، وأثره في الدراسات البلاغية:466 (2) دلائل الإعجاز:39 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 كما كتب رسالة عنوانها (الرسالة الشافية في إعجاز القرآن) (1) . وفيها تناول بعض نواح من فكرة الإعجاز ركز فيها على موقف العرب المعاصرين لنزول القرآن من أمثال الوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة وغيرهما ممن أقروا راغمين أن القرآن ليس من كلام البشر. وفي القرن السادس خصص القاضي عياض بن موسى إلىحصبي (ت سنة 544هـ‍) فصلا في الجزء الأول من كتابه: (الشفا بتعريف حقوق المصطفي) لإعجاز القرآن بدأه بقوله: (اعلم وفقنا الله وإياك أن كتاب الله العزيز منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة، وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه: أولها حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب) (2) . ثم عرض لبقية وجوه الإعجاز فعّد منها: صورة نظمة العجيب وأسلوبه الغريب، وما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما أنبأ به من أخبار القرون السابقة، والأمم البائدة، والشرائع الدائرة إلى أن قال هذه الوجوه الأربعة بينة لانزاع فيها ولامرية) (3) . ثم عرض بعد ذلك لوجوه أخرى إجمالا فقال (وقد عدّ جماعة من الأئمة ومقلدي الأمة في إعجازه وجوها كثيرة منها: أن قارئه لايمله، وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبه، ولا يزال غضا طريا، وغيره من الكلام ولو بلغ في   (1) وهي الرسالة الثالثة من:ثلاث رسائل في إعجاز القرآن التى سبق التنويه بها كما أنها مطبوعة في ذيل كتاب (دلائل الإعجاز) طبع دار المدنى، ط ثالثة 1413هـ‍ –1992 (2) الشفاء:1/217 (3) نفس المصدر:1/229 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الحسن والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد، ويُعادى إذا أعيد، وكتابنا يستلذ به في الخلوات، ويؤنس بتلاوته في الأزمات) (1) . ثم توالت المؤلفات في الإعجاز عبر القرون التالية، فكتب الإمام فخر الدين الرازي (ت سنة 604هـ‍) كتابه (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) وكتب أبو يعقوب يوسف بن أبى بكر محمد بن على السكاكى (ت سنة626هـ‍) كتابه (مفتاح العلوم) وقد بحث فيه قضية الإعجاز، فبدأ عرض هذه القضية بالتسليم بأن إعجاز القرآن من جهة نظمه وبلاغته أمر لا نقاش فيه ولا جدال عليه، إلا أنه يلزم لإدراك ذلك- وهو لا يدرك إلا بالتذوق-ما يلزم من تربية حاسة الذوق التى تكشف عن أسرار القرآن وإدراك بلاغته وأساليبه، وذلك بتدريب المبتدئين، والأخذ بأيديهم ووضعها على مفاتيح العلوم التى تربى فيهم ذلك الذوق (2) . وفي القرن السابع كذلك كتب أبوعبد الله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى (ت سنة671هـ‍) فصلا في مقدمة تفسيره: (الجامع لأحكام القرآن) ذكر فيه نكتا في إعجاز القرآن ووجوه ذلك الإعجاز عدّد فيها تلك الوجوه، وجعلها في عشرة: النظم البديع، والأسلوب المخالف لجميع أسإليب العرب، والجزالة التى لا تصح من مخلوق بحال، والتصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربى، والإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله، من أمى ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه، والإخبار عن المغيبات في المستقبل إلى آخر ما عده من ذلك (3) .   (1) نفس المصدر:1/232 (2) يراجع في ذلك: إعجاز القرآن ونظمه عند السكاكى للدكتور فوزى عبد ربه:90. (3) يراجع ذلك في مقدمة تفسير القرطبى:1/73 وما بعدها طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة1987. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وفي القرن الثامن ألف بدر الدين الزركشى (سنة 794هـ‍) كتابه (البرهان في علوم القرآن) وضمّن مباحثه نوعاً في معرفه إعجاز القرآن الكريم، قال فيه بعد استعراض بعض المصنفات في الإعجاز، وبعد استعراضه آيات التحدى بالقرآن: (وإعجاز القرآن ذكر من وجهين: أحدهما إعجاز متعلق بنفسه، والثانى بصرف الناس عن معارضته) ثم رد القول بالصرفة من وجوه، وبعدها ذكر أوجها للإعجاز من بينها: تأليف القرآن ونظمه الخاص به، وكذلك ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة، وما تضمنه من إخباره عن قصص الأولين، وإخباره عن الضمائر- أى السرائر- من غير أن يبدو من أصحابها ما أكنته ضمائرهم من قول أو فعل، مثل قول الله تعالى: وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ..} (المجادلة: 8) ?إلى آخر تلك الأوجه (1) . وفي القرن التاسع سلك برهان الدين بن عمر البقاعى (ت سنة 885هـ‍) طريقة التطبيق في إظهاره لإعجاز القرآن، فألف كتابه (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) جمع فيه من أسرار القرآن، وأتقن الكلام في فن المناسبات بين الآيات والسور كما ينبئ عنه اسم الكتاب، وهو من باب إعجاز القرآن في حسن تأليفه وتفرده في ذلك. ثم كان القرن العاشر الذى شهد فارساً من فرسان هذا الباب، وعلما من أعلام الإسلام، وهو الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى (ت سنة 911هـ‍) الذى ألف سفره القيم (الإتقان في علوم القرآن) وضمنه ثمانين نوعا من مباحث علوم القرآن، خصص النوع الرابع والستين منها للكلام في إعجاز القرآن، فقدم بين يدى الكلام في ذلك بذكر بعض من   (1) البرهان في علوم القرآن:2/101 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أفرد الموضوع بالتصنيف من أعلام العلماء الذين مضى ذكر كثير منهم، مثل: الخطابي والرماني والباقلاني والرازي وغيرهم، ثم تكلم على أنواع المعجزات، والفرق بين معجزات السابقين من الأنبياء ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم وهى القرآن، ثم عرض آيات التحدى، وردّ القول بالصرفة، ثم ذكر أقوال العلماء في وجه إعجازه، فلخص ما قاله السابقون في ذلك، ثم ختم بنقل ما أورده القاضي عياض في أوجه الإعجاز الأربعة، وما تلاها من أوجه ذكرناها عند الكلام عما تضمنه كتاب (الشفا) في موضعه. وفي القرن الثالث عشر ألف العلامة شهاب الدين الآلوسى (ت سنة 1270هـ‍) تفسيره الموسوعي (روح المعانى في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) وعلى عادة كثير من المفسرين قدم بمقدمات قيمة ضمنها فوائد جليلة، جعل الفائدة السابعة منها في بيان وجه إعجاز القرآن، تكلم فيها على أوجه الإعجاز عند كثير من العلماء، ولم يرتض الكثير من أقوالهم خاصة ما قاله المعتزلة، وما قاله الجاحظ، وكذلك المرتضى من الشيعة، وردّ أكثر هذه الأقوال، وناقش أقوالاً أخرى، حتى انتهى إلى أن قال: (وقد أطال العلماء الكلام على وجه إعجاز القرآن، وأتوا بوجوه شتى الكثير منها خواصه وفضائله، مثل الروعة التى تلحق قلوب سامعيه، وأنه لا يمله تاليه، بل يزداد حباً له بالترديد، مع أن الكلام يعادى إذا أعيد (1) . وكونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله تعالى بحفظه، والذى يخطر بقلب هذا الفقير: أن القرآن بجملته وأبعاضه حتى أقصر سورة منه معجز بالنظر إلى نظمه وبلاغته، وإخباره عن الغيب، وموافقته لقضية العقل، ودقيق المعنى، وقد تظهر كلها في   (1) يشير بذلك إلى ما قاله القاضى عياض في "الشفا" مما ذكرناه قبل قليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 آية، وقد يستتر البعض كالإخبار عن الغيب، ولا ضير ولا عيب، فما يبقى كافٍ، وفي الغرض وافٍ) (1) . وفي القرن الرابع عشر تصدى مصطفي صادق الرافعى (ت سنة 1356 هـ‍) لقضية الإعجاز بكتاب قيم هو: (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية) تكلم فيه على معنى الإعجاز ومذاهب القدماء فيه، ومؤلفاتهم في فنة، ثم تكلم على حقيقة الإعجاز، واشتدت وطأته على القائلين بالصرفة، كما نقد كثيراً من العلماء الذين ألفوا في الإعجاز مثل المرتضى من الشيعة وغيره. ففي أول كلامه يحدد مفهومه للإعجاز فيقول: (وإنما الإعجاز شيئان: ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة ومزاولته على شدة الإنسان واتصال عنايته، ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه، فكأن العالم كله في العجز إنسان واحد ليس له غير مدته المحدودة بالغة ما بلغت) (2) . أما وجه الإعجاز الذي يرتضيه فيبينه بقوله (أما الذي عندنا في وجه إعجاز القرآن وما حققناه بعد البحث، وانتهينا إليه بالتأمل وتصفح الآراء وإطالة الفكر، وإنضاج الروية، وما استخرجناه من القرآن نفسه في نظمه ووجه تركيبه، واطراد أسلوبه، ثم ما تعاطيناه لذلك من التنظير والمقابلة، واكتناه الروح التاريخية في أوضاع الإنسان، وآثاره وما نتج لنا من تتبع كلام البلغاء في الأغراض التى يقصد إليها، والجهات التى يعمل عليها، وفي رد وجوه البلاغة إلى أسرار الوضع اللغوي، التي مرجعها إلى الإبانة عن حياة المعنى بتركيب حي من الألفاظ يطابق سنن الحياة في دقة التأليف، وإحكام الوضع، وجمال التصوير، وشدة الملاءمة) .   (1) روح المعانى:1/31 (2) إعجاز القرآن للرافعى:139 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ثم يقول: (فالقرآن معجز في تاريخه دون سائر الكتب ومعجز في أثره الإنسانى، ومعجز كذلك في حقائقه) (1) . ومن بعد الرافعى كتب الكثيرون في إعجاز القرآن، مثل:الشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى في مبحث من مؤلفه (مناهل العرفان في علوم القرآن) والشيخ محمد عبد الله دراز في (النبأ العظيم) والشيخ بديع الزمان النورسى: (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) من (كليات رسائل النور) والشيخ محمد أبو زهرة في (المعجزة الكبرى) والدكتورة عائشة عبد الرحمن في (الإعجاز البيانى للقرآن) إلى جانب العشرات من الرسائل العلمية الجامعية التى تتناول إعجاز القرآن في جوانبه المختلفة. وهكذا نجد أنه لم يخل عصر من العصور عبر القرون الإسلامية المباركة سواء في فترات النشاط أو الفتور العلمي من تناول إعجاز القرآن بالتأليف تقعيداً أو تطبيقاً، مما ينطق بأن هذا المدد العلمي المتتابع إنما هو في ذاته أثر من آثار إعجاز القرآن الكريم. أما أوجه الإعجاز التي تمخضت عنها هذه المؤلفات، والتى تعمقت في دراسات العلماء، ودرست باستفاضة، وسيقت لها الأمثلة والشواهد، فذلك ما سنلقى عليه الضوء فيما يلي.   (1) نفس المصدر:156 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وجوه الإعجاز في القرآن الكريم أولا: إعجازه في بلاغته وفصاحته ... وجوه الإعجاز في القرآن الكريم نستطيع مما سبق عرضه من كتابات العلماء قديما وحديثا في إعجاز القرآن ان نستخلص ما عدوه وجوهاً لهذا الإعجاز، ذكروها صراحة واستقلالاً وبينوها، أو أشاروا إليها ضمنا وأوجزوها، وهذه الوجوه نذكرها فيما يلي: أولا: إعجازه في بلاغته وفصاحته لعل إعجاز القرآن الكريم بلفظه من أهم وجوه إعجازه إذا لم يكن أهمها على الإطلاق، لأنه يتعلق بالقرآن ذاته في بنيته اللغوية لا ينفك عنها، ولا يرتبط –كما سيأتي بيانه في وجوه أخرى- بحال المنزل عليه، أو حال المخاطبين، أو الفترات الزمانية، ومن ثم كان هذا الوجه أول ما تناوله العلماء بالبحث، وكان قدرا مشتركاً بينهم في الحديث عن الإعجاز، كما أفردوه بالتنصيف مثل الباقلاني في (إعجاز القرآن) والجرجانى في دلائل الإعجاز، والرافعى في (إعجاز القرآن) والشيخ محمد عبد الله دراز في (النبأ العظيم) أوجعلوه أكثر الأوجه بياناً إذا تكلموا فيه مع غيره، ولهذا أيضا كان حقيقا بالبدء به وجعله في صدارة وجوه الإعجاز. وبداية نقول:إنه لم يبلغ نمط من أنماط كلام العرب فيما قالوه شعراً أو نثرا، أياً كانت قوته بلاغة وفصاحة أن يكون قريبا من بلاغة القرآن وفصاحته، فقد بلغ القرآن في مضمار البلاغة والفصاحة الطرف الأعلى، وهو ما يمكن أن نسميه حدَّ الإعجاز، لأن هذا كان الميدان الذى تحدَّى القرآن فيه العرب، وهم فرسانه، ولقد اطرد هذا التفوق اللغوى في القرآن سورة سورة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وآية آية، ومن ثم كان التحدى فيه أن يأتوا بسورة من مثله مما ينطبق على طويل السور وقصيرها. وأصدق دليل على هذا الإعجاز موقف مَن تحَّداهم القرآن من فصحاء العرب من هذا التحدى عجزاً واستسلاماً مع حرصهم على تكذيب القرآن، وللقاضى عياض في ذلك عبارات جامعة تذكر جانبا من هذا الموقف في العجز، والاعتراف بإلهية المصدر القرآني- رغم الجحود والكفر-وأمثلة يسيرة تشهد لذلك نذكرها بنصها لتمام الفائدة. قال رحمه الله تعالى: (فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقرعهم أشد التقريع، ويوبخهم غاية التوبيخ، ويسفه أحلامهم، ويحط أعلامهم، ويشتت نظامهم، ويذم آلهتهم وإياهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والإغراء بالافتراء، وقولهم: إن هذا إلا سحر يؤثر، وسحر مستمر، وإفك افتراه، وأساطير الأولين، والمباهتة والرضى بالدنيئة كقولهم: قلوبنا غلف، وفي أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب، ولا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون، والادعاء مع العجز بقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، وقد قال لهم الله "ولن تفعلوا" فما فعلوا ولا قدروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم، وإلا فلم يخف على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم، بل ولّوا عنه مدبرين، وأتوا مذعنين من بين مهتد وبين مفتون، ولهذا لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} (النحل: 90) . الآية قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر، وذكر أبو عبيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) . فسجد وقال: سجدت لفصاحته، وسمع رجلاً آخر يقرأ {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} (يوسف:80) . فقال:أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام) (1) . وإذا كان العرب -وهم بهذه المنزلة بلاغة وفصاحة-قد عجزوا هذا العجز التام المطبق، فغيرهم أشد عجزاً، وأبعد هزيمة. لقد عنى العلماء بإبراز بلاغة القرآن في هذا المضمار تطبيقا، ولو تتبعنا ذلك من خلال أبواب البلاغة المتعارف عليها لاستغرق ذلك تفسير القرآن كله، ولكن حسبنا أمثلة في أبرز مجالاتها، وهى الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، نذكرها موجزة غير مطولة: فمن أشهر ما ضربوه مثلا في باب الإيجاز قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة:179) . فإنهم قارنوه بما استحسنوه من كلام العرب: (القتل أنفى للقتل) فظهر البون شاسعا، والتفاوت بعيداً في البلاغة والإيجاز كليهما، وذلك من وجوه أربعة: أولها: أن عبارة القرآن أكثر فائدة مما قاله العرب لاشتمالها على ما قالوه مع زيادة معان حسنة، منها إبانة العدل لذكره القصاص، وإبانة الغرض المرغوب فيه لذكره الحياة، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله به، الثانى: أنها أوجز، فإن عبارة القرآن (القصاص حياة) عشرة أحرف، وأما (القتل أنفي للقتل) فأربعة عشر حرفاً، الثالث: بعد عبارة القرآن عن الكلفة بالتكرير الشاق على النفس، والرابع: حسنها بتأليف الحروف المتلائمة، وهو مدرك بالحس، وموجود في اللفظ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد الهمزة من اللام، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام،   (1) الشفا: 1/219،220 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فباجتماع هذه الأمور كان القرآن أبلغ وأحسن، وإن كانت عبارة العرب بليغة. وأما التشبيه: فمن أشهر ما ذكروه فيه قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور:39) . ففيه إخراج مالا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه، وقد اجتمعا في بطلان المتوهم مع شده الحاجة إليه، ولو قيل في معناه: يحسبه الرائى ماءً ثم يظهر أنه على خلاف ما قدّر لكان بليغا، وأبلغ منه لفظ القرآن،لأن الظمآن أشد حرصا على تحقيق حسبانه، وتعلق قلبه به، ثم بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذى يصيره إلى عذاب الأبد في النار، وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن التشبيه، فكيف إذا ضمن مع ذلك حسن النظم، وعذوبة اللفظ، وكثرة الفائدة، وصحة الدلالة؟ وأما الاستعارة: فقد أوردوا فيها قول الله تعالى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} (مريم:4) .فأصل الاشتعال للنار، لكنه في هذا الموضع أبلغ، وحقيقته كثرة الشيب في الرأس، إلا أن الكثرة لما كانت تتزايد تزايداً سريعا صارت في الانتشار والإسراع كاشتعال النار، وله موضع في البلاغة عجيب، وذلك أن انتشار الشيب في الرأس لا يتلافى كاشتعال النار (1) . ويعد الباقلانى كذلك من أبرز من سلكوا هذا الباب في الموازنة بين ما ورد في القرآن من ضروب البلاغة وبين أبلغ ما حفظ عن العرب من ذلك   (1) للمزيد من ذلك يراجع (النكت في إعجاز القرآن) للرماني، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن:ص 76 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 مما عُدّ في أقصى درجاتها، وذلك في الفصلين السابع والثامن من كتابه (إعجاز القرآن) . لقد ظل القرآن أسلم وأبعد ما يكون في فصاحته وبلاغته عن أي طعن من فصحاء العرب رغم تشوف كفارهم إلى ذلك، ورغم أن انتقاد الكلام، كان دأبهم شعراً ونثراً، واستدراك بعضهم على بعض كان ديدينهم رغم قلة الدواعي. ومما ورد في ذلك ما ذكره الرافعي من استدراك الخنساء على حسان ابن ثابت في شعر أنشده بعكاظ، قال فيه: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ولدنا بنى العنقاء وابن محرق ... فأكرم بناخالاً وأكرم بنا ابنما فقالت الخنساء: ضعف افتخارك، وأبرزته في ثمانية مواضع،قال: وكيف؟ قالت: قلت"لنا الجفنات" والجفنات ما دون العشر، فقللت العدد، ولو قلت " الجفان" لكان أكثر، وقلت: "الغر" والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت:"البيض" لكان أكثر اتساعاً، وقلت:"يلمعن" واللمع شيء يأتى بعد الشيء، ولو قلت "يشرقن" لكان أكثر، لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: "بالضحى" ولو قلت: "بالعشية" لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً،وقلت: "أسيافنا"، والأسياف دون العشر، ولوقلت: "سيوفنا" كان أكثر، وقلت:"يقطرن" فدللت على قلة القتل، ولوقلت:"يجرين" لكان أكثر، لانصباب الدم، وقلت "دما" والدماء أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت، ولم تفتخر بمن ولدوك) (1) .   (1) إعجاز القرآن للرافعى: هامش ص 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ومثل ذلك أو أقل منه لم يحدث في كلمة من القرآن فضلا عن آية رغم كثرة دواعى القوم للطعن والمعارضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ثانيا: إعجازه في نظمه وأسلوبه لقد تفرد أسلوب القرآن ونظمه، وتفوق على أساليب العرب ونظمهم رغم بلاغتهم، وبلوغهم الغاية في هذا المضمار، ومن أبرز شواهد هذا التميز ما يلي: أولا: جمع القرآن في أسلوبه ونظمه بين مقصدين: مقصد الموعظة، ومقصد التشريع، فنظمه يفيد بظاهره السامع ما يحتاج إلى علمه، وهو في ذلك يشبه خطب العرب، ومع ذلك فقد ضم معناه ما يستخرج منه العلماء الأحكام الكثيرة في التشريع، وفي الآداب وغيرها. ثانيا: تفننه، وبداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتذييل والتنظير، والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنبا لثقل تكرار الكلمة، وإكثاره من أسلوب الالتفات، وهو من أعظم أساليب التفنن عند العرب. ثالثا: عدوله عن تكرار اللفظ والصيغة فيما لا يقتضي التكرار بقصد التهويل ونحوه، ومما عدل فيه عن التكرار قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم:4) . فجاء في الآية لفظ قلوب جمعاً مع أن المخاطب امرأتان ولم يكرر الصيغة ويقل "قلبا كما" تجنبا لتعدد صيغة المثنى (1) .   (1) يراجع في المزيد من ذلك: التحرير والتنوير:1/115-117 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 رابعا: براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام، إذ يبرز المعنى الواحد بألفاظ وطرق مختلفة بمقدرة عظيمة لا تباريها أو تقاربها مقدرة من فصحاء العرب، ولما كان المقام ليس مقام استقصاء، فإن الأمثلة تكفي في الدلالة على المراد:- (أ) ففي مجال طلب الفعل من المخاطبين أورد في ذلك صيغا كثيرة منها: 1- الإتيان بصريح مادة الأمر: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) . 2- الإخبار بأن الفعل مكتوب على المكلفين: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة: 183) . 3- الإخبار بكونه على الناس {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) . 4- الإخبار عن الفعل بأنه خير: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (البقرة: 220) . وغير ذلك كثير في هذا المجال (ب) وفي مجال النهى عن الفعل استعمل وسائل متعددة منها: 1- الإتيان في جانب الفعل بمادة النهى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُم} الممتحنة: 9) . 2- نفي الحل عنه: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} (النساء: 19) . 3- وصفه بأنه ليس براً: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} (البقرة: 189) . وغير ذلك كثير في هذا المجال. (ج) وفي مجال تعبيره عن إباحة الفعل استخدم طرقا كثيرة منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 1- التصريح في جانبه بمادة الحل: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} (المائدة: 1) . 2- نفي الإثم عنه: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:173) . 3- الأمر به مع قرينه صارفة عن الطلب: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} (البقرة: 187) .وغير ذلك كثير في هذا المجال (1) . خامسا: ومما تميز به أسلوب القرآن الكريم تصرفه في حكاية أقوال المحكي عنهم، بصياغتها على ما يقتضيه أسلوب إعجازه لا على الصيغة التي صدرت بها.. قال الطاهر بن عاشور: (فهو إذا حكى أقوالا غير عربية صاغ مدلولها في صيغة تبلغ حد الإعجاز بالعربية، وإذا حكى أقوالا عربية تصرف فيها تصرفا يناسب أسلوب المعبر، مثل ما يحكيه عن العرب، فإنه لا يلتزم حكاية ألفاظهم، بل يحكي حاصل كلامهم، وللعرب في حكاية الأقوال اتساع مداره على الإحاطة بالمعنى دون التزام الألفاظ، فالإعجاز الثابت للأقوال المحكية في القرآن هو إعجاز للقرآن لا للأقوال المحكية) (2) . هذا طرف من بيان إعجاز القرآن في نظمه وأسلوبه، وبالجملة فهذا الوجه والذي قبله يقوم بهما لفظ القرآن، ويتفرد عن غيره من الكلام، وما أحسن قول أبى سليمان الخطايى (وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم، وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً   (1) يراجع في ذلك مناهل العرفان للزرقاني:2/ 319 - 321 (2) التحرير والتنوير: 1/120،121 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وتشاكلاً من نظمه، وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها.. وقد توجد هذه الفضائل على التفرق في أنواع الكلام، فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه، فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شئ عددا) (1) . وكما قلنا من قبل.. فإن الإعجاز اللغوي وجه لا يتسرب إليه الطعن بأي حالة، فبلاغة القرآن وفصاحته لا تخلو منها سورة من سور القرآن الكريم، ولا آية من آياته، وهذا قد يخالف وجوه الإعجاز الأخرى التي ساقها العلماء مثل الحديث عن الأخبار الماضية وسير الأولين، أو الآيات التي تشير إلى حقائق علمية، أو نحو ذلك: (لذلك كان نظم القرآن أعدل الآراء في وجوه الإعجاز وبيان سببه، وهذا الرأي هو الذي مال إليه الحذاق من أهل الصنعة، وأخذ به الجمهور من العلماء) (2) .   (1) بيان إعجاز القرآن:ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن:ص 27 (2) مع القرآن في إعجاز وبلاغته، د. عبد القادر حسين:ص 114 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ثالثا: إعجاز في إخباره بالغيوب المستقبلة مما جاء به القرآن الكريم في مجال إعجاز البشر أنه أخبر بأمور تقع في المستقبل، فجاءت كما أخبر، لم تتخلف أو تتغير، وهذا ما لا سبيل للبشر إليه بحال، وذلك في القرآن كثير، لكنا سنضرب أمثلة منه تكون دليلا على ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 سواها. أولا: لعل أوضح ما يذكر في هذا المجال ما جاء في آيات التحدي بالقرآن ذاتها، فقد أخبر الله تعالى أن الكفار سيعجزون عجزاً كاملاً مطبقا عما ووجهوا به من التحدي أن يأتوا بمثل القرآن أو بسورة من مثله، وذلك في قوله سبحانه {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء:88) . قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة:23،24) . فكان الأمر كما أخبر، يشهد بذلك الواقع، فلم يستطع عربي فضلا عن أعجمي أن يقوم بهذا التحدي ويأتي بسورة من مثله. ثانيا: إخبار القرآن بالتمكين للمسلمين، ونصرهم وتأمينهم، وذلك في قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55) .وقد مكن الله لهم بالفعل، وظهر الإسلام، وقامت دولته، وملكت مشارق الأرض ومغاربها في وقت يسير كما هو معروف في تاريخ الإسلام، ونسأل الله تعالى أن يعيد هذا التمكين وأن يعز الإسلام وأهله. ثالثا: إخباره بنصر المؤمنين وإحقاق الحق، وهزيمة الكفار واندحارهم، أخبر ذلك قبل أول قتال في بدر، وذلك في قول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (آل عمران:12) . وقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 سبحانه: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر:45) . وقد نزلت هذه الآية في مكة، وقد حدث ما أخبرت به في المدينة في بدر بدقة كانت مثار عجب عند الصحابة رضوان الله عليهم أنفسهم، حتى إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما نزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قال: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ فلما كان يوم بدر رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الزرع وهو يقول (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فعرف تأويلها يومئذ) (1) . رابعا: إخباره بدخول النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين المسجد الحرام آمنين، وذلك في قول الله تعالى: {َقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح:27) . وقد تحقق ذلك ودخله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عمرة القضاء (2) . خامسا: إخباره بانتصار الروم بعد هزيمتهم المنكرة أمام الفرس، وذلك في قول الله سبحانه: {غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم:2-5) .   (1) يراجع في ذلك: تفسير ابن كثير 4/266 (2) السيرة النبوية الصحيحة:2/465 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وقد تحقق ذلك في أقل من عشر سنين كما ورد في حديث ابن عباس. (1) سادسا: إخباره بعدم تمنى اليهود الموت، وذلك في قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (الجمعة:6-7) . وذلك متحقق دوما، فلم يحدث- ولن يحدث-أن تمنى يهودي الموت- ولو ادعاءً- مناقضة للقرآن. والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا المقام. وبعدما ذكرنا فإن لنا تعقيبا وبيانا نسوقه فيما يلي: (أ) المقصود من هذا الوجه من وجوه الإعجاز هو إثبات أن القرآن وحي من عند الله تعالى باعتبار ذلك دليلا لا يقبل الجدل، إذ ليس في مقدور أحد من البشر أن يتنبأ بشيء فيصدق كما قال تماما، ولو حدث ذلك مرة أو مرات على سبيل الافتراض فإن ذلك لا يمكن أن يكون أمراً دائما مطرداً. (ب) أن هذا الوجه دليل إعجاز للقرآن في مجمله، بمعنى أنه قد يوجد في بعض السور ولا يوجد في الكثير منها، فهو من علامات الإعجاز التي يوصف بها القرآن باعتباره وحياً، وليس من خصائص ألفاظه، وبهذا التفسير لا يمكن المماراة في هذا الوجه بأن يقال: إن العرب معذورون   (1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الروم (3193) ، وأحمد (1/276) ، والطبراني في المعجم الكبير (12/29) ، والحاكم في المستدرك (2/410) كلهم من طريق أبي إسحاق الفزاري عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عنه. قال الترمذي: حسن صحيح غريب. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 إذا قالوا:إننا قادرون على معارضة القرآن متمكنون من الإتيان بمثله غير أنه يشتمل على ما لا يمكن معرفته، ومن ثمَّ الإتيان بمثله. وبالجملة، فإنه دليل إعجاز، ولكن لا يستقل بالغرض في إثبات إعجاز القرآن، فهو ليس بالأمر العام في كل سورة من سور القرآن، وعليه فإن موطن التحدي هنا إذا قلنا به مقدمة للإعجاز إنما يواجه به من ادعى أن القرآن من عند محمد.صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 رابعا: إعجازه في إخباره عن القرون السابقة والأمم البائدة لقد حفل القرآن بأخبار السابقين الأولين من الرسل مع أقوامهم، ومن غير الرسل، فجاء فيه قصص: آدم ونوح وإبراهيم وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى ويحيى وزكريا وعيسى وغيرهم عليهم جميعاً السلام، كما جاء فيه قصص: ابني آدم، وأصحاب الكهف، وأصحاب السبت، وأصحاب الجنة، وأصحاب الأخدود، ولقمان، وقارون وغيرهم. ولما كانت القسمة العقلية في معرفة الأحداث والوقائع وأخبارها في القرآن بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي جاء قومه بذلك تقتضي واحداً من أربعة فروض، فإن تحقيق هذا الوجه من الإعجاز يقتضي عرض هذه الفروض على واقع الرسول صلى الله عليه وسلم ليتبين أن ما جاء به وحي من عند الله تعالى: الفرض الأول: حضوره صلى الله عليه وسلم، ومشاهدته أحداث هذه القصص، وإخباره بذلك عن معاينة، وذلك مردود بالواقع والتاريخ بداهة، وعلى الرغم من ذلك لفت القرآن النظر إلى ذلك في أكثر من موضع، ففي قصة مريم يقول الله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 قْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران:44) . وفي قصة يوسف عليه السلام يقول: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:102) . وفي قصة موسى عليه السلام يقول {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص:46) . الفرض الثاني: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ هذه القصص، وعرف أخبارها من مصادر مكتوبة، ثم نقلها إلى القرآن، وذلك مردود بأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وتلك حقيقة عرفها العرب، كما سجلها القرآن واحتج بها عليهم {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت:48) . الفرض الثالث: أن يكون قد تعلمها تلقيا ومشافهة عن غيره، وذلك مردود بأنه لم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه جلس إلى معلم أو تلقى عن أحد، ولما حاول المشركون ادعاء ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وقعوا في عثرة عمرهم، وسوءة فعلهم، فقد فضحهم القرآن إذ نسبوا تعليمه إلى حداد رومي لا يدرى شيئا عن أخبار السابقين، ولا يعرف شيئا عن فصاحة العربية وبلاغتها: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل:103) . لم يبق إلا الفرض الرابع والأخير، وهو الحق الذي لا معدل عنه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوحى إليه بها في جملة ما أوحي إليه من القرآن، فهي حق من حق كما وصفها الله تعالى في أكثر من موضع: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} (آل عمران: 62) . {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} (القصص:3) . {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} (الكهف: 13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فإذا أضفنا إلى ذلك أن كثيراً من قصص القرآن قد سبق ذكره في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، وأن أحداً من هؤلاء لم يستطع أن يطعن في حقيقة من حقائق القصص القرآيى-بل القرآن هو الذي صوب لهم- عرفنا يقينا، وقامت الحجة وألزمت الجميع أن هذا القصص بما جاء فيه كله وحي من عند الله عز وجل. وهنا ننبه كما نبهنا في الوجه السابق أن هذا الوجه دليل إعجاز لا يستقل بإثبات ذلك للقرآن سورة سورة، وآية آية، فهناك سور كثيرة تخلو من القصص وأخبار السابقين، وعليه فإن موطن التحدي هنا إنما يواجه من كان في مثل حال النبي صلى الله عليه وسلم -في الفروض التي ذكرنا آنفاً- أن يجيء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 خامسا: الإعجاز النفسي يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى: (ما أظن امرأ سليم الفكر والضمير يتلو القرآن أو يستمع إليه ثم لا يزعم أنه لم يتأثر به: قد نقول: فلم يتأثر به؟ والجواب أنه ما من هاجس يعرض للنفس الإنسانية من ناحية الحقائق الدينية إلا ويعرض القرآن له بالهداية وسداد التوجيه. (إن القرآن الكريم بأسلوبه الفريد يرد الصواب إلى أولئك جميعا، وكأنه يعرف ضائقة كل ذي ضيق، وزلة كل ذي زلل، ثم تكفل بإزاحتها كلها، كما يعرف الراعي أين تاهت خرافه، فهو يجمعها من هنا وهناك، لا يغيب عن بصره ولا عن عطفه واحد منها … حتى الذين يكذبون بالقرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ويرفضون الاعتراف بأنه من عند الله.. إنهم يقفون منه مثلما يقف الماجن أمام أب ثاكل! قد لا ينخلع من مجونه الغالب عليه، ولكنه يؤخذ فترة ما بصدق العاطفة الباكية، أو مثلما يقف الخلي أمام خطيب يهدر بالصدق، ويحدث العميان عن اليقين الذي يرى ولا يرون.. إنه قد يرجع مستهزئا، ولكنه يرجع بغير النفس التي جاء بها) (1) . هذا التأثير النفسي الذي أشار إليه الشيخ رحمه الله هو من أظهر خصائص القرآن الكريم التي تبرز عند سماعه، فيمضي سامعه في تفكير يملك عليه أقطار نفسه، فيفضي به إلى الإيمان إذا صفت نفسه واستقامت فطرته، أو يفضي به إلى مزيد من العناد يدفع به هذا التأثير الغالب خشية الاقتناع به إذا كان السامع غليظ القلب جاحداً للحق مظلم النفس، وعندها يأتي من أبواب التدليس والكذب ما يعلل به هذا العناد. ولكل مما ذكرنا مما يقضي إليه تأثير القرآن في نفوس سامعيه أمثلة: فمن أمثلة التأثير المفضي إلى الإيمان ما أخرجه البخاري (2) . من حديث جبير بن مطعم أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: _ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (الطور:35-37) . كاد قلبي أن يطير. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى) قوله: " كاد قلبي أن يطير" قال الخطايى: كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها، ومعرفته بما تضمنته،   (1) نظرات في القرآن:127،128 (2) في صحيحه: كتاب التفسير، باب من سورة الطور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه، ثم قال (فلهذا انزعج جبير حتى كاد قلبه يطير، ومال إلى الإسلام) (1) . ومن هذا القبيل كذلك ما ورد في قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عند سماعه القرآن في بيت أخته فاطمة وكانت قد سبقته إلى الإسلام، والقصة وإن لم ترد من طريق صحيحة إلا أن دلالتها غير منكورة. قال الدكتور أكرم ضياء العمري في عرضه لقصة إسلام عمر رضي الله عنه: (أما قصة استماعه القرآن يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته قرب الكعبة، وعمر مستخف بأستارها، وكذلك قصته مع أخته فاطمة حين لطمها لإسلامها، وضرب زوجها سعيد بن زيد، ثم اطلاعه على صحيفة فيها آيات وإسلامه، فلم يثبت شيء من هذه القصص من طريق صحيحة. ولكن الحافظ ابن حجر ذكر بأن الباعث له على دخوله الإسلام ما سمع في بيت أخته فاطمة من القرآن. (2) (ولا شك أن القرآن ببيانه الساحر، وروعة تصويره لمشاهد القيامة، وصفة الجنة والنار كان له تأثير في اجتذاب عمر إلى صف المسلمين، لأن عمر كان يتذوق الكلام البليغ ويعجب به، وعدم ثبوت الروايات حديثياً لا يعنى حتمية عدم وقوعها تاريخياً) (3) . أما التأثير الذي قوبل بالعناد لدفعه وعدم الاستسلام له، فمن أمثلته ما ذكره السيوطي وغيره من مجيء عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه إياه فيما جاء به قومه مما يخالف ما هم عليه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تلا عليه سورة فصلت إلى   (1) فتح الباري:8/603 (2) يشير إلى ما ذكره ابن حجر في الفتح:7/176 (3) السيرة النبوية الصحيحة:1/180،181 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} وعند ذلك أمسك عتبة بيده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف، وأنه قام لا يدري بما يراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه فاعتذر لهم وقال: والله لقد كلمني بكلام والله ما سمعت أذناي بمثله قط، فما دريت ما أقول له (1) . وعاند عتبة وظل على كفره، وكان من قتلى المشركين في بدر. ومن هذا القبيل كذلك ما أخرجه الحاكم (2) . وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: يعطونكه، فإنك أتيت محمدَّا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أنى من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوا لله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (المدثر:11-26) .   (1) يراجع في ذلك: الدر المنثور للسيوطي:7/310،311 (2) المستدرك: كتاب التفسير،تفسير سورة المدثر:2/506،507 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 إن الأثر الذي يحدثه القرآن أعظم من أن تقوم له من الأرض جبالها الرواسي {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21) . وفي طبيعة هذا الأثر لدى المؤمنين جاء قول الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر:23) . وفي طبيعة هذا الأثر لدى المعاندين جاء قول الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً} (الإسراء:41) . وفي كليهما على طريق المقابلة جاء قول الله تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} (الإسراء:82) . هذا هو أثر القرآن تنطق به آياته المباركة، وينطق به كذلك واقع الناس في كل وقت، ومازلنا نشاهد هذا الأثر في نفوس سامعيه: خشوعاً وخضوعا للحق إذا صفت الفطرة واستقامت النفوس، وخوفاً من سطوة هذا الأثر إذا أظلمت القلوب وأصرت على الكفر، فتتخذ حينئذ من أجل ذلك وسائل تحول بينها وبين هذا التأثير، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت:26) . ذلك هو ما اصطلح على تسميته –من بين وجوه إعجاز القرآن-بالإعجاز النفسي، وهو موضع عناية علماء المسلمين من قديم، قال القاضي عياض مشيراً إلى تأثير القرآن في النفوس وهو يعد وجوه الإعجاز (ومنها: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيئة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله، وإنافة خطره، وهى على المكذبين به أعظم حتى كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 يستثقلون سماعه، ويزيدهم نفورا كما قال تعالى، ويودون انقطاعه لكراهتهم له … وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذابا، وتكسبه هشاشة لميل قبله إليه، وتصديقه به) (1) .   (1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى:1/230،231 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 سادسا:إعجاز القرآن في هديه وتشريعه جاء القرآن الكريم بشرائع الهدى لإصلاح الخلق، وإقامتهم على طريق الحق والفلاح، فلم تسمُ شريعة من الشرائع أن تبلغ ما في شريعة القرآن من:إحكام، ويسر، ودقة، ذلك أنها شريعة الله تعالى التي تنطلق في تكاليفها من رحمته سبحانه بعباده، ومراعاة مصالحهم وقدراتهم البشرية، قال الله تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286) وقال سبحانه {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185) . وقال عز وجل {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (المائدة: 7) . لقد ألزم تشريع القرآن بالواجبات إلزاما، ثم هو بعد ذلك جعل للضرورات أحكامها {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} (المائدة: 3) . {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام: 45) . وجعل للرخص مجالاتها: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل:106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 لقد تميز تشريع القرآن وهديه بسوقه ما يسوق من تكاليف الدين موصولة بمصدرها، وبكونها مما أمر الله به سبحانه، فهي بذلك ليست في إتيانها كمالا يمكن الوقوف دونه، أو ترفا يمكن التنازل والاستغناء عنه، وإنما هي من صميم إيمان المؤمن، وكذلك يمتاز بسوقه لهذه التكاليف في إيجاز لفظي يسهل استيعابه، ويمكن معرفة ذلك من قول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:151-153) . وكذلك من قول الله سبحانه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً. وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 مَلُوماً مَحْسُوراً. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (الإسراء: 23-35) . وكما جاء ذلك في سورة الفرقان في الآيات:63-76وفي سورة لقمان في الآيات: من 13-19. كما تميز تشريع القرآن وهديه بتوازن دقيق- لا تستقيم حياة البشر إلا به- بين تطلعهم إلى الدنيا وحاجتهم فيها، وسعيهم إلى الآخرة وتشوقهم إلى ثوابها، فجاء من آيات القرآن ما يرسى جوانب هذا المنهج في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (الأنعام:141،142) . وقوله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 31-33) . وكذلك في قول الله عز وجل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:77) . كما تميز تشريع القرآن وهديه بتلطفه إلى النفوس البشرية عند تكليفها بما يريد ليقودها قوداً جميلا إلى الامتثال، وييسر عليها المشقة بما يرتبه على صالح العمل من عظيم الأجر. فهو إذا تعرض لتشريع الزكاة- والأنفس شحيحة بالمال- جعلها طهرة للمال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:102) . وإذا تعرض لتشريع الحج- وهو عبادة مبنية على المشقة غالباً- قرنه بمنافع مشهودة للحجيج،فقال {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (الحج:27،28) . وإذا تعرض للأمر بالصلاة بين أنها طريق للطهارة من الآثام، والبعد عن الفواحش: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45) . وإذا تعرض لأصول الإيمان والعبادات مجتمعة وصفها بالبر، ورتب عليها التقوى، فقال: {ليْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة /177) . وهو يخاطب في النفس البشرية رغبتها في النعيم، ورهبتها من الجحيم: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (المؤمنون:101-103) . وهو بعد ذلك كله يعين على الأعمال الصالحة بضمان ثوابها لكل عامل دون تفرقة في جنس العاملين {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97) . ومن أشهر من لفت النظر إلى هذا الباب في القرآن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره الموسوم (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) فإنه عند تفسير قول الله تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء:9) . قال ما نصه (وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم، لشمولها جميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة، ولكننا إن شاء الله تعالى سنذكر جملاً وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بيانا لبعض ما أشارت إليه هذه الآية الكريمة، تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة) (1) . وبالفعل ساق الشيخ من ذلك مسائل متعددة ذكر فيها هدى القرآن التي هي أقوم وأعدل في مجالات كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، فليرجع إليها من شاء في هذا التفسير في المجلد الثالث منه. وممن اهتم بهذا الجانب كذلك الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى في كتابه (المعجزة الكبرى) وكذلك الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني رحمه الله تعالى في كتابه (مناهل العرفان في علوم القرآن) وبالجملة:فإن هدى القرآن وتشريعه في إصلاح حياة البشر، وفي مراعاته لكل طوائفهم، وصلاحه لكل أزمنتهم وعصورهم تشريع معجز، لا يرقى إليه ولا يستطيعه تشريع بشري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 سابعا: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ما يزيد على ألف آية تتحدث عن معالم هذا الكون، وتذكر مفرداته من: السموات والأرض، والشمس والقمر، والكواكب والنجوم، والجبال والبحار والأنهار، والمطر والرعد والبرق.. إلى آخره وإذا كانت هذه الآيات قد ذكرت تلك المفردات في سياق لفت الأنظار إلى مظاهر قدرة الله عز وجل في الخلق، استدلالاً على تفرده سبحانه بالربوبية والألوهية، وقياساً عليها أحقية البعث الذي أنكره الكفار، فإنها مع ذلك قد جاءت في أسلوب وعبارة تفتح أمام العقل البشري آفاقا واسعة للتفكير في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 دلالاتها عبر عصوره المتعاقبة من بعد نزول القرآن، فيقوم لديه من هذه الدلالات في كل عصر ما يشهد بالحق الذي جاءت به. وفي عصرنا الذي نعيشه، وفي غضون عشرات قليلة من السنين، وبالقياس إلى تاريخ البشرية الممتد وصلت المكتشفات العلمية المتعلقة بالكون في آفاقه، وفي أنفس مخلوقاته ما لم تصل إليه من قبل. وانطلاقاً من اهتمام المسلمين بكتاب ربهم تبارك وتعالى، فإن علماءهم في هذا المجال بدؤوا يمعنون النظر والفكر في هذه الآيات، ويتلمسون فيها من جوانب القدرة –فيما أشارت إليه-ما يعد جانبا من جوانب الإعجاز القرآني، يصلح لدعوة الناس إلى دين الله سبحانه، في زمن فتن الناس فيه بالعلم، وبما تحقق من منجزاته فتنة عظيمة، وهذا ما يطلق عليه- من جوانب الإعجاز القرآني- الإعجاز العلمي. وفي إيضاح يراه مهماً، يفرق أحد أبرز علماء الجيولوجيا-وهو الأستاذ الدكتور زغلول راغب النجار الذي عمل أستاذا للجيولوجيا في بعض جامعات العالم، ومنها جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران بالمملكة العربية السعودية، وضم إلى ذلك اهتماما كبيرا بدراسة القرآن الكريم وعلومه-بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي، فيقول: (إن التفسير العلمي للقرآن الكريم يقصد به أن يوظف أهل كل جيل كل المعارف المتاحة لهم في حسن فهم دلالة القرآن الكريم) ويزيد كلامه وضوحاً فيقول (في مجال التفسير العلمي لا يتردد الإنسان أن يوظف كل المعارف المتاحة، الثابت منها وغير الثابت، لأن التفسير يبقى جهداً إنسانيا يصيب الإنسان فيه ويخطئ، وخطأ الإنسان في التفسير لا ينسحب على جلال القرآن الكريم، بل ينسحب على المفسر، لذلك لا بدلنا من توظيف كل المعارف المتاحة لحسن فهم دلالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الآيات القرآنية- طبعا بعد التأهل للقيام بهذه المسؤولية الخطيرة- وهى التعرض لكلام الله، وهذا التأهل يقتضي فهماً للغة العربية وقواعدها وأسرارها، وفهما لأسباب النزول، وفهما للناسخ والمنسوخ، وفهما للمأثور من تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك لابد أن ينفر من كل جيل نفر من الناس يتأهلون لهذه العدة، ويعرضون فهما جديداً للآيات القرآنية، خاصة في مجال القضايا العلمية، والقضايا الكونية، بحيث لا يعتمد على التفسيرات القديمة فقط، ولذلك أقول:إن التفسير العلمي للقرآن الكريم لا نخاف أن نوظف فيه كل المعارف المتاحة من نظريات –فروض- حقائق علمية قطعية- القوانين،فكل هذا يوظف. (أما بالنسبة للإعجاز العلمي، فلا يجوز لنا أن نوظف فيه إلا الحقائق العلمية القاطعة، لأن الإعجاز نريد به أن نثبت للناس مسلمين وغير مسلمين أن هذا القرآن العظيم الذي نزل على نبي أمي في أمة أمية قبل 1400سنة يحتوي من حقائق هذا الكون على ما لم يستطع الإنسان أن يتوصل إلى معرفته إلا بعد جهود مضنية وقبل عشرات السنين فقط) (1) . وإذا كنا سنوافق هذا العالم الجليل على قوله، فلا بد من تحوُّط نسوقه بين يدي هذه الموافقة، وهو: أن المفسر للقرآن على هذا النحو، بل وكل مفسر ينبغي أن يصوغ عبارته بطريقة تفهم بأن ما قاله إنما هو فهمه من الآيات، الذي استطاع أن يتوصل إليه بعد أخذه بأدوات التفسير التي تؤهله لذلك، فلا يقطع بأن ما فهمه من الآية هو مراد الله تعالى منها.   (1) مجلة (العلميون) عدد يونيو سنة 1997 ص 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وهذا الأمر ينسحب على الإعجاز العلمي من جهة أن ما جاء في الآيات من مظاهره إنما هو توسيع لمدلول هذه الآيات في جوانب أخرى، إضافة إلى ما كان من جوانب سابقة، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك. على أننا نود أن ننبه هنا إلى أمرين على جانب كبير من الأهمية:- أولهما: أنه لن يكون هناك تعارض أو تناقض بأي حال، ولا من أي نوع بين أي نص قرآني صريح في دلالته، وبين أي حقيقة علميه بلغت يقين المعاينة، والمشاهدة، ضرورة أن خالق الكون سبحانه هو منزل القرآن الكريم، ولن يكون تناقض أبداً بين قول الله تعالى وبين خلقه {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) . ثانيهما: أن القرآن الكريم في الأساس كتاب هداية، أنزله الله تعالى لإخراج الناس من الظلمات إلى النور: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الإسراء:9) . {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم:1) . تلك هي مهمة القرآن الأصلية، وقد وضحت سبل الهداية فيه: في عقائده وتشريعاته، وكانت مظاهر القدرة في الآيات الكونية فيه- كما بيننا –وسيلة من وسائل الاحتجاج للحق الذي جاء به. فالقرآن- والأمر كذلك-ليس كتاباً في العلوم التطبيقية مثل الطب أو الفيزياء أو الفلك أو الهندسة أو الزراعة أو التعدين ونحوها، وإنما هو دستور للهدى والحق، لكنه مع ذلك يتضمن في سياق آياته وفي رسم طريق الهداية للبشر من المعارف فيما سبق من العلوم بطريق التبع حقائق تدهش أهل التخصص في تلك العلوم، فيستقر في عقولهم من جراء ذلك ما يرسخ يقينهم، ويثبت إيمانهم إن كانوا مؤمنين أصلا أو يقيم الدليل عندهم على حق كانوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 شك فيه- وهو صدق القرآن- إن كانوا غير مؤمنين، فيهتدون إلى الإسلام، وبذلك يتحقق المقصود النهائي من القرآن وهو الهداية –كما أسلفنا –أو تقوم الحجة عليهم في هذا الباب كما قامت في غيره من أبواب أخرى إن ظلوا على كفرهم مقيمين. ونعود إلى اهتمام علماء المسلمين بهذا الجانب من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، لنجد أن جهوداً كبيرة قد بذلت في هذا المجال، ولعل من أبرز ما تمخضت عنه هذه الجهود: إنشاء هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في إطار رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، تلك الهيئة التي حددت أهداف نشاطها فيما يلي: أولا: وضع القواعد والمناهج، وطرق البحث العلمي التي تضبط الاجتهادات في بيان الإعجاز العلمي للقرآن والسنة. ثانيا: إعداد جيل من العلماء والباحثين لدراسة المسائل العلمية والحقائق الكونية في ضوء ما جاء في القرآن والسنة. ثالثا: صبغ العلوم الكونية بالصبغ الإيمانية، وإدخال مضامين الأبحاث المعتمدة في مناهج التعليم في شتى مؤسساته ومراحله. رابعا: الكشف عن دقائق معاني الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث الشريفة المتعلقة بالعلوم الكونية في ضوء الكشوف العلمية الحديثة، ووجوه الدلالة اللغوية، ومقاصد الشريعة الإسلامية دون تكاليف. خامسا: إمداد الدعاة والإعلاميين في العالم: أفراداً ومؤسسات بالأبحاث المعتمدة للانتفاع بها، كلُ في مجاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 سادسا: نشر هذه الأبحاث بين الناس بصورة متناسبة مع مستوياتهم العلمية والثقافية، وترجمة ذلك إلى لغات المسلمين المشهورة، واللغات الحية في العالم. وكان من إصدارتها من الكتب في هذا المجال: علم الأجنة في ضوء الكتاب والسنة، المصب والحواجز بين البحار في القرآن الكريم، تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، أوجه الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في أ-عالم النحل ب- اللبن حـ- الحبة السوداء، علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة "باللغة الإنجليزية"، المفهوم الجيولوجي للجبال في القرآن والسنة "باللغة الإنجليزية"، إعجاز القرآن الكريم في وصف أنواع: الرياح والسحب والمطر، تأملات في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة حول: الإنسان في الارتفاعات العالية- الإحساس بالألم، الإعجاز العلمي في آيات السمع والبصر في القرآن الكريم، من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار، إلى غير ذلك من الكتب، والأشرطة المرئية (1) . ويطول بنا المقام إذا نحن حاولنا التوسع في ذكر الأمثلة والشواهد على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ومع ذلك لا ينبغي أن يخلو البحث من مثل هذه الشواهد، وبخاصة ما التزم فيها جانب الرشد وفق ما قدمناه من الضوابط، فلم يقطع فيه الباحث بأن ما ذكر فيه هو مراد الله تعالى، وإنما استشهد بالدلالة اللغوية لعبارة القرآن على ما كشف عنه العلم في الجانب العلمي.   (1) يراجع ذلك في نهاية كتاب: (من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم النبات) ص:46،47 وهو من إصدارات الهيئة، تأليف: د. قطب عامر فرغلي، د. السيد محمد زيدان الطبعة الأولى سنة 1417هـ‍. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وفي هذا الإطار نسوق قول الله تعالى في سورة النبأ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً. وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} ففي إبراز وجه الإعجاز العلمي فيها يقول الأستاذ الدكتور زغلول راغب النجار: (من أروع الحقائق الكونية التي وردت في هذا السياق أن الله تعالى قد جعل الجبال أوتاداً {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً. وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} النبأ:6،7- ووصف الجبال بأنها أوتاد هو من أبلغ صور الإعجاز العلمي في كتاب الله، وهذه شهادة صدق بأن القرآن الكريم كلام الله، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم أنبيائه ورسله، وأنه صلى الله عليه وسلم كان موصولاً بالوحى، معلما من قبل خالق السموات والأرض {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:3،4) . (ففي الوقت الذي يصف فيه القرآن الكريم الجبال بأنها أوتاد قبل أربعة عشر قرناً، نجد كل المجامع اللغوية والعلمية إلى يومنا هذا تعرف الجبل بأنه: نتوء أرضي يرتفع بارزاً فوق ما يحيط به من الأرض بصوره تفوق ارتفاع التل، ويختلف الدارسون في تحديد ارتفاع كل من الجبل والتل، فبينما يضع بعضهم الحد الفاصل بين هذين الشكلين من أشكال سطح الأرض عند ارتفاع 305أمتار فوق مستوى سطح البحر، نجد آخرين يرفعونه إلى ضعف هذا الرقم، ومن ثم فإنهم يقصرون الجبال على المرتفعات الأرضية التي تفوق 610 أمتار فوق سطح البحر، ويعتبرون كل مادون ذلك من التلال أو الربى، والربوة عندهم هي التل المرتفع. (وانطلاقاً من ذلك فإن "معجم مصطلحات علوم الأرض" يعرف الجبل بأنه: تل مرتفع، أو بصياغة أدق ربوة مرتفعة، أو مرتفع أرضي يفوق في ارتفاعه الأراضي المجاورة له بشكل ملحوظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ( … وفي معجم البيئة الطبيعية "الفطرية" يعرف الجبل بأنه:" نتوء أرضي مرتفع بشكل ملحوظ تحيط به منحدرات شديدة تصل ارتفاعاته إلى مستوى الجروف البارزة، أو القمم الفردية السامقة، وليس للجبل ارتفاع محدد، وإن وصل ذلك في بريطانيا عادة إلى ما فوق-600متر أو 2000قدم –إلا إذا ارتفع الجبل فجأة من أرض منخفضة محيطه به" (وفي دائرة المعارف البريطانية الجديدة يعرف الجبل بأنه:" منطقة من الأرض تعلو الأراضي المحيطة بها نسبيا بشكل واضح، وتضيف: وعليه فإن ما يدعى بالتلال في مناطق السلاسل الجبلية العظيمة كجبال الهملايا تعد جبالاً لو وجدت في إطار منطقة أخرى أقل تضاريسَ" (وبالمثل تعرف دائرة المعارف الأمريكية الجبل بأنه: جزء من سطح الأرض يرتفع فوق مستوى المنطقة المحيطة به" وتضيف:: وبصفة عامة يتناقص ارتفاع السلاسل الجبلية على مراحل حتى يصل إلى مستوى السهول مروراً بمرحلة التلال، إلا أنه في بعض الأحوال تكون عمليه الانتقال من الجبال إلى السهول فجائية على هيئة منحدرات شديدة: (ويتضح مما تقدم أن جميع التعريفات البشرية للجبال، اللغوية منها والعلمية تقتصر على تضاريس الأرض الناتئة بشموخ فوق باقي المناطق الأرضية المحيطة بها، سواء كانت تتميز بقمم سامقة أم لا، أو بسفوح متدرجة في الانخفاض، أو فجائية في الانحدار، التي عادة ما توجد في مجموعات متوازنة أو شبه متوازنة من الأطواق الطولية، أو المجموعات أو النظم أو السلاسل الجبلية، أو في محاور جبلية عملاقة للقارات، توجد بينها اتجاهات سائدة لمحاورها الطولية، وإن كان من الممكن للجبل أن يوجد على هيئة مرتفع منفرد معزول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 (إن الدراسات الميدانية قد أثبتت منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي أن القشرة الأرضية تزداد في السمك تحت كل التضاريس المرتفعة فوق سطح البحر مثل- الجبال، الربى، التلال، الهضاب، القارات- ويبلغ سمك القشرة الأرضية مداه في المناطق الجبلية، حيث تندفع مادة الجبل لتخترق الغلاف الصخري للأرض- الذي يبلغ سمكه في المتوسط مائة كيلومتر- لتطفو في مادة لزجة شبه منصهرة، عالية الكثافة، توجد تحت الغلاف الصخري للأرض مباشرة، وتعرف باسم-النطاق الضعيف- وتحكم مادة الجبل الطافية في نطاق الضعف هذا قوانين الطفو التي تؤمن لكتلة الجبل دعما طافيا يعين الجبل على الانتصاب فوق سطح الأرض، وسبحان القائل: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} (الغاشية: 17-19) وكلما أخذت عوامل التعرية من قمم الجبال ارتفعت تلك الجبال بفعل مادة وشاح الأرض، ويظل الأمر كذلك حتى تتساوى تلك الامتدادات العميقة للجبال مع سمك الغلاف الصخري للأرض، وحينئذ يتوقف الجبل عن الارتفاع وتصل الامتدادات العميقة للجبال إلى أضعاف مضاعفة لارتفاعها فوق سطح الأرض، وتتراوح بين عشرة أضعاف وخمسة عشر ضعفا بناء على التباين في كثافة الصخور المكونة للكتلة الجبلية. ( … وعلى ذلك: فإن امتدادات الجبال تحت سطح الأرض تفوق ارتفاعاتها فوق سطحها بأضعاف مضاعفة، تصل إلى أكثر من خمسة عشر ضعفا، فقمة:إفرست" التي يبلغ ارتفاعها فوق سطح البحر حوالي التسعة كيلومترات تقريبا (8848متر) لها امتدادات في الغلاف الصخري للأرض يصل إلى حوالي 135 كيلو مترا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 (وهنا تتضح صورة من أروع صور الإعجاز العلمي في القرآن الكريم الذي نزل قبل أربعة عشر قرنا ليصف الجبال بأنها "أوتاد" ففي كلمة واحدة أوتاد-شمل التعبير القرآني وصف كلٍ من الشكل الخارجي للجبال فوق سطح الأرض، وامتداداتها العميقة تحت ذلك السطح، كما وصف وظيفة الجبال، وهى تثبيت الغلاف الصخري للأرض في مادة الوشاح اللدنة، الموجودة تحت ذلك الغلاف الصخري مباشرة، تماما كالوتد الذي يندس معظمه تحت سطح الأرض، بينما يرتفع الجزء الأصغر منه فوق ذلك السطح. (فسبحان الذي أنزل هذا الوصف الدقيق للجبال قبل أربعة عشر قرنا على خاتم أنبيائه ورسله، وسبحان الذي حفظ لنا هذا الوصف الدقيق شاهداً على أن القرآن الكريم كلام الله الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته) (1) . بقى بعد ذلك أن ننبه إلى وجوب وضع هذا الوجه من الإعجاز في موضعه الصحيح، فإننا وإن قلنا به، ورغبنا فيه، وعددناه وسيلة لدعوة فريق من الناس إلى الحق،إلا أن ذلك ليس معناه أن كون القرآن حقا وصدقا يتوقف على القول بالإعجاز العلمي، حتى يتكلف البعض ذلك تكلفاً يوقع في أخطاء تعود في النهاية على الباحث في هذا المجال بعكس مقصوده، فالقرآن الكريم قد ثبت صدقه وكونه وحياً من عند الله تعالى بما سبق من وجوه الإعجاز الأخرى وبغيرها من الأدلة.   (1) مجلة (القافلة) : العدد 7، المجلد:43 رجب سنة 1415هـ‍-ديسمبر سنة1994، مقال بعنوان: " "من آيات الإعجاز العلمي في القرآن" أد/ زغلول النجار من ص1 إلى ص 4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ومن ثم فنحن مع الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى عندما نعى على المتكلفين في هذا الأمر، وبين كيفية التعامل مع هذا الوجه من الإعجاز في اعتدال لا شطط فيه ولا غلو، قال رحمه الله: (وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة- أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا –تحتوى أولا على خطأ منهجي، كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم: الأولي: هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه، والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس … والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهى أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناءً يتفق- بقدر ما تسمح به طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي، حتى لا يصطدم بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره.. والثالثة: هي التأويل المستمر- مع التمحل والتكلف- لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يجد فيها جديد. (وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن،كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا، ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات- ومن حقائق – عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن..كلا! إن هذا ليس هو الذي عنيناه بالبيان، ولقد قال الله سبحانه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فصلت: 53) . ومن هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا) (1) . فالقول بالإعجاز العلمي للقرآن، والبحث فيه أمر لا بأس به، بل هو مرغوب ومطلوب فيما أشرنا إليه من زيادة يقين المؤمن لإيناسه وتثبيته على الحق بما يرى من دلائله آناً بعد آن، وكذلك من إقامة الحجة على الكافر في مجالٍ فتن البشر بمنجزاته في مرحلة من الزمن تقدمت فيها العلوم المادية تقدما غير مسبوق. هذا وهناك وجوه الإعجاز ذكرها العلماء ولم نتطرق إليها لضيق المقام، وهي: 1- كون القرآن محفوظاً من الزيادة والنقصان على مر الدهور والأزمان. 2- تيسير حفظه. 3- شموله على جميع البراهين والأدلة على توحيد الألوهية والربوبية. 4- إعجاز القرآن في أسمائه وأوصافه. 5- إعجاز القرآن في حروف المعجم.   (1) في ظلال القرآن:1/182،183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 خاتمة البحث خاتمة البحث ... خاتمة البحث وبعد.. فهذا ما منّ الله تعالى به من الحديث في موضوع: (عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم) عالجنا فيه بقدر ما يقتضيه المقام، ويتسع له المجال ما يلي: (1) بيان الحكمة من تأييد الله تعالى رسله بالمعجزات، وأنه إذا كانت معجزات الأنبياء السابقين حسية فقد كانت المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم عقلية، وهى القرآن الكريم، إضافة إلى ما أعطاه الله تعالى كذلك من المعجزات الحسية، وذلك لكون رسالة النبيصلى الله عليه وسلم عالمية، وكونها خاتمة الرسالات. (2) التعريف بمصطلح "إعجاز القرآن الكريم" بما يحدد المراد به، ويبين غايته، وهو أن المراد به:إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به، وهو أن يأتوا بمثله أو بشيء من مثله، وأن لازم ذلك هو: إثبات أن هذا الكتاب حق، وأنه وحي الله تعالى إلى رسولهصلى الله عليه وسلم بما يقتضيه ذلك من إثبات صدقه صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الرسالة. (3) إيضاح أهمية علم الإعجاز والضرورة الداعية إلى بحثه: من أن القرآن الكريم جاء هدى للناس، والاهتداء به فرع من فهم معانيه، وأنه لما كان قد نزل بلسان عربي مبين، فإن القيام على تفسيره لابد له من معرفة تامة بالعربية وخصائصها، ودلالات ألفاظها، وأوجه بلاغتها، وذلك من علم الإعجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 (1) التأكيد على أن مناط الإعجاز المتفق عليه عند جماهير المحققين من علماء هذا الشأن هو لفظ القرآن الذي نزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما يتعلق -من بين أوجه الإعجاز- بالناحية البلاغية ابتداء، إضافة إلى ما تضمنه من أوجه أخرى ترجع إلى ذاته لفظا ومعنى، مع رد القول بالصرفة الذي شاع بين بعض العلماء رغم أنه لا يستند إلى دليل، بل يقوم الدليل على بطلانه. (2) تأصيل قضية الإعجاز، وما قاله العلماء في أوجهه مما كتبوه فيه تأصيلاً تاريخيا تبين منه أنه منذ القرن الثالث الهجري، وحتى عصرنا الحاضر لم ينقطع مدد الكتابة في إعجاز القرآن، وإبراز أوجهه مما يدل على مدى عناية المسلمين بهذا الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. (3) تحقيق القول بقدر ما سمح مجال البحث في أوجه الإعجاز القرآني، باستخلاص ما جاء بحثه منها في كتابات العلماء، وهى: إعجاز القرآن في بلاغته وفصاحته، وإعجازه في نظمه وأسلوبه، وفي إخباره بالغيوب المستقبلة، وفي إخباره عن القرون السابقة والأمم البائدة، وكذلك في إعجازه النفسي، ويقصد به تأثير القرآن الكريم في النفوس عند قراءته أو الاستماع إليه، ثم إعجازه في هديه وتشريعه، وأخيراً:الإعجاز العلمي، وهو ما أثاره وتوسع فيه العلماء في مجال العلوم الكونية في العصر الحديث، وبعد تقدم العلوم المادية، وتطور البحث في العلوم الطبيعة تطورا كبيرا في مجالاتها المتعددة،مما لم تشهده البشرية من قبل عبر عصورها المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 (1) التنبيه على أن أوجه الإعجاز في القرآن الكريم منها ما يلازم القرآن، ويطَّرد فيه: سورة سورة، وآية آية، وعليه المعول، وبه كان التحدي، وذلك مجاله الإعجاز اللغوي بمعناه العام بما يشمل الإعجاز في البلاغة والفصاحة، وفي النظم والأسلوب، ومنها ما يكون الإعجاز فيه متعلقا بجوانب منه غير مطرد فيه، مثل بقية الأوجه الأخرى، فتساق من باب كونها شواهد صدق ظاهرة لهذا الكتاب الكريم. أسأل الله الكريم سبحانه أن يجعله خالصا لوجهه، وأن يتقبله بمنه وكرمه، وأن يجعله لبنة نافعة في صرح الخدمة لهذا الكتاب الكريم الذي نفتديه بمهجنا وأرواحنا. {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على سيد ولد آدم محمد بن عبد الله النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه دكتور/محمد السيد راضى جبريل أستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم بكلية أصول الدين بالقاهرة /جامعة الأزهر.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 مصادر ومراجع ... أهم مراجع البحث 1- الإتقان في علوم القرآن- الحافظ جلال الدين السيوطي- تقديم وتعليق د. مصطفي ديب البغا- دار ابن كثير بيروت ط: أولى 1407هـ‍. 2- إعجاز القرآن –القاضي أبو بكر الباقلاني-دار إحياء العلوم بيروت ط: أولي 1408هـ‍. 3- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية –مصطفي صادق الرافعي- دار الكتاب العربي ط: ثالثة 1928م. 4- الإعجاز البياني للقرآن الكريم- د. عائشة عبد الرحمن- دار المعارف مصر ط: ثانية 1987 م. 5- البرهان في علوم القرآن-بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي- دار الكتب العلمية بيروت طـ: أولى 1408هـ‍. 6- بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار-د. عبد الفتاح لاشين-دار الفكر العربي 1987م. 7- التحرير والتنوير- الشيخ محمد الطاهر بن عاشور-دار سحنون تونس دون تاريخ. 8- تفسير القرآن العظيم- الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير-دار المعرفة بيروت 1403هـ‍. 9- ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: للرماني، والخطابي، والجرجاني- تحقيق محمد خلف الله أحمد، ود.محمد زغلول سلام-سلسلة ذخائر العرب- دار المعارف مصر ط: رابعة 1991 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 - الجامع لأحكام القرآن –أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي- الهيئة المصرية العامة للكتاب ط: ثانية 1987. 11- دلائل الإعجاز- الإمام عبد القاهر الجرجاني-دار المدني جدة ط: ثالثة 1992م. 12- روح المعاني-شهاب الدين الألوسي البغدادي-دار التراث العربي بيروت طـ: ثانية دون تاريخ. 13- السيرة النبوية الصحيحة- د. أكرم ضياء العمري –مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة ط: سادسة 1415هـ‍. 14- الشفا بتعريف حقوق المصطفي- القاضي عياض بن موسى اليحصبي –مكتبة دار التراث بالقاهرة دون تاريخ. 15- صحيح البخاري للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري مع فتح الباري للحافظ أحمد بن العسقلاني- دار المعرفة بيروت دون تاريخ. 16- صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، حققه ورقم أحاديثه محمد فؤاد عبد الباقي- دار إحياء التراث العربي- دون تاريخ. 17- الفصل في الملل والأهواء والنحل- علي بن أحمد بن حزم الظاهري- دار المعرفة بيروت 1983م. 18- في ظلال القرآن- سيد قطب- دار الشروق ط: تاسعة 1400هـ‍. 19- لسان العرب- ابن منظور- دار المعارف مصر دون تاريخ. 20- المعجزة الكبري-الإمام محمد أبو زهرة- دار الفكر العربي مصر 1998م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 21- مفاتيح الغيب- فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي- دار الفكر بيروت ط: ثالثة 1405هـ‍. 22- مفهوم الإعجاز القرآني حتى القرن السادس الهجري-د. أحمد جمال العمري- دار المعارف مصر 1984م. 23- الملل والنحل – أبو الفتح محمد بن عبد الله الشهرستاني- دار صعب بيروت 1986م. 24- مناهل العرفان في علوم القرآن –محمد عبد العظيم الزرقاني- دار الفكر بيروت 1408هـ‍. 25- من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن في عالم النبات-د. قطب فرغلي، د. السيد زيدان- هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ط: أولي 1417هـ‍. 26- نظرات في القرآن –الشيخ محمد الغزالي-دار الكتب الحديثة ط: ثالثة دون تاريخ- "من المجلات العلمية". 27- العلميّون- تصدر عن نقابة العلمين في مصر- عدد يونيو 1997م. 28- القافلة- تصدر عن شركة أرامكو بالمملكة العربية السعودية- العدد السابع، المجلد الثالث والأربعون رجب 1415هـ‍- ديسمبر 1994م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76