الكتاب: عناية العلماء بالإسناد وعلم الجرح والتعديل المؤلف: عبد العزيز محمد فارح الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- عناية العلماء بالإسناد وعلم الجرح والتعديل - عبد العزيز فارح عبد العزيز محمد فارح الكتاب: عناية العلماء بالإسناد وعلم الجرح والتعديل المؤلف: عبد العزيز محمد فارح الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة لم يختلف المسلمون منذ فجر الإسلام في أن السنة النبوية هي التطبيق العملي للإسلام والتفصيل الواقعي للقرآن، ومرجع كل مسلم في تعرُّف الأحكام، لذلك كان كل مسلم مكلفاً باحترام هذا التطبيق تكليفَه باحترام القانون نفسه، ولذلك أيضاً كانت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله عز وجل، مصداقاً لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 80] . {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر 7] .وليس من المستغرب أن يكون إهمال السنة والذهول عنها إضاعة لصرح عظيم من الدين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغاً عن الله عز وجل، وموضحا مراده ببيان المجمل وتفصيله وذكر الجزئيات والتفاصيل، وتوضيح المشكل وتقييد المطلق وتخصيص العام وإضافة أحكام جديدة، ثم إن السنة أصل دلّ عليه كتاب الله؛ ولهذا فإن أئمة المسلمين متفقون على وجوب العمل بالحديث إذا صحَّ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي" (1) ، وصحّ عن الإمام الشافعي قوله: "إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط" (2) ، وهو ما تبناه في الحقيقة غيره من علماء الأمة قبله وبعده. فلا   (1) أخرجه الإمام مالك في كتاب القدر من الموطأ باب النهي عن القول بالقدر، رقم الحديث 3 ج 2، ص899، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة والإمام أحمد في المسند 6/306. (2) الوافي بالوفيات 1/173. وانظر أيضا قواعد التحديث للقاسمي ص 87 وما بعدها، وكتاب حجية السنة للدكتور عبد الغني عبد الخالق ص 245 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 حجة إذاً إلا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما استند إليهما من إجماع وقياس مبني على علّة صحيحة، أو قواعدكلية مأخوذة منها. لذلك تمسك العلماء المسلمون بالسنة والعمل بها؛ لأنها دليل - إلى جانب الكتاب العزيز - من أدلة الأحكام ومصدر أساس للشريعة الإسلامية، وغيرهما من ينابيع الاستدلال محمول عليهما، ومقتبس من روحهما، ودائر في فلكهما. وقد قيض الله تعالى من سلف الأمة الإسلامية وخلفها من يذود عنها، ويجاهد ويصابر في صيانتها وينفي عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فنهض علماء الأمة وقادتها في عهد الخلافة الراشدة لجمع القرآن الكريم ثم كتابته في مصحف إمام، وجاء بعدهم من يخدمه كتابة ورسماً وتفسيراً وإقراءً.. ولم يأل هؤلاء وأولئك جهداً في خدمة السنة النبوية المشرفة، فقام من يكتبها في صحف خاصة، وهبّ الجميع لحفظها والعمل بها ثم روايتها وتبليغها، واستمر الأمر على هذا النحو، ثم اتّسعت آفاقه خصوصاً بعد أحداث ما يسمى بـ"فتنة الخلافة"؛ حيث لجأ بعض ضعاف الإيمان من أهل الأهواء والبدع والفرق الكلامية والسياسية إلى تزوير بعض الأحاديث النبوية وتحريفها أو وضع أحاديث على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهبّ علماء المسلمين وعامتهم إلى الذود عن السنة النبوية ومقاومة الوضع والوضاعين، فكثر الكلام في الرواة تعديلاً وتجريحاً، وقبلت أحاديث وردّت أحاديث أخرى، وكان ذلك أساساً لعلم الجرح والتعديل، علم التمحيص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وتمييز الخبيث من الطيب، وقد شهد الجميع النتائج الطيبة المباركة لهذا العلم، وعلى رأسها رواية الأحاديث النبوية الشريفة غضّة نقية صافية كما صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن استقرت في مصادرها بعد ازدهار حركة التصنيف المنهجي للحديث، وظهور الكتب المتعددة من موطآت ومصنفات ومسانيد وجوامع ومستدركات ومستخرجات ومعاجم وأجزاء … اختار فيها أصحابها مناهج معينة في ترتيب الأحاديث، وشروطاً في التصحيح والتضعيف والقبول والرد. ونظرا لأهمية علم الجرح والتعديل وتوقف التصحيح والتضعيف والقبول والرد عليه فقد أحببت المشاركة في ندوة «عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية» بموضوع «عناية العلماء بالإسناد وعلم الجرح والتعديل وأثر ذلك في حفظ السنة» ؛ رجاء أن أميط اللثام عن تاريخ هذا العلم منذ بوادره الأولى، ومروراً بعناية العلماء بالإسناد ومطالبتهم به وبياناً لأهميته، ووصولاً عند مرحلة نشأة علم الجرح والتعديل علماً مستقلاً بذاته، وتطوره وظهور أعلامه الكبار ونقاده المشاهير، وما ألفوه من كتب وما وضعوه من ضوابط وقواعد. وقد اقتضى مني ذلك وضع خطة لهذا الموضوع بدأتها بمقدمة في فضل السنة وفضل الاشتغال بها ومظاهر عناية المسلمين بها، انتقلت بعدها إلى الكلام على عناية المحدثين بالإسناد وبيان قيمته في حفظ السنة، ثم تعريف علم الجرح والتعديل لغة واصطلاحاً، ثم نشأته وتطوره، وخلصت بعد ذلك لذكر عدد من قواعده، ثم آثاره في ميادين وعلوم أخرى، ولما كان لعلماء الجرح والتعديل مؤلفات كثيرة في هذا الشأن فقد عُنيت ببيان ذلك فذكرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الاتجاهات الكبرى التي صار فيها التأليف عند هؤلاء مع ذكر نماذج قليلة تبين ذلك. وأنهيت هذا الموضوع بخاتمة في فضل علم الجرح والتعديل، وضرورة توظيف قواعد ومناهج نقاده في مجالات أخرى غير مجال الحديث النبوي. وذيلت في الأخير هذا الموضوع بلائحة للمصادر والمراجع التي استعنت بها في إنجازه، ثم بفهرس للمواضيع راجياً أن يكون ذلك وافياً بالغرض، وألا يكون الاختصار في بعض المباحث مخلاّ، وألاَّ يكون التطويل في بعضها مملاّ، ومن الله التوفيق والسداد، وللجنة المنظمة والسادة الأفاضل القائمين عليها تحية وإكبار خالصان صادقان. **************** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 عناية المحدثين بالإسناد وبيان قيمته في حفظ السنة مدخل ... عناية المحدثين بالإسناد وبيان قيمته في حفظ السنة الإسناد نعمة من الله أكرم بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم لحفظ سننه ونقلها محفوظة مصونة، وخصيصة فاضلة فضلت بها من دون سائر الأمم، ولم يشأ المحدثون أن يكونوا سالبين تلك النعمة الربانية، مفرطين فيها، وعدّوا الإسناد من السنن المؤكدة، بل من فروض الكفاية وعمدة الكلام وطريق النقل والقبول، قال العلامة علي القارئ في شرح النخبة: «أصل الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنّة بالغة من السنن المؤكدة بل من فروض الكفاية» (1) . وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ولكون الإسناد يُعلم به الحديث الموضوع من غيره، كانت معرفته من فروض الكفاية» (2) . ولذلك اتفق أهل الحديث على أن الإسناد مطلوب في رواية السنن النبوية وشرط من شروط الالتفات إلى تلك الرواية والاعتداد بها، وأن ما خلا عن السند فهو غير معتمد، قال الإمام محمد عبد الحي اللكنوي: «وقبول الحديث الذي لا أصل له أي لا سند له ليس من شأن العاقلين، فإن بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين هؤلاء الناقلين مفاوز تنقطع فيها مطايا السائرين.» (3) ،وقال أيضا: «لا يقبل حديث من غير إسناد ولو نقله معتمد ... » (4) .   (1) ص 194 (2) مرقاة المفاتيح للعلامة علي القارئ، 1/218. (3) الأجوبة الفاضلة، هامش ص 32. (4) المصدر نفسه، ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ولم يكتفوا بذلك، بل رفعوا من شأن الإسناد وجعلوه من الدين، فقال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء: ما شاء» (1) . وأتمّ بعض من روى هذه الكلمة المشهورة فذكرها بلفظ: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء: ما شاء، فإن قيل له: من حدّثك؟ بقي» أي بقي ساكتا مفحَما، أو بقي ساكتا منقطعا عن الكلام (2) . وحكى ابن خير الإشبيلي في فهرسته اتفاق العلماء على أنه لا يحل لمسلم أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا، حتى يكون هذا القول مرويا ولو على أقل وجوه الروايات.» (3) فلا غرو إذاً أن يصبح الإسناد بالشأن والقدر اللذين أعطيا له، وأن يعدّ خصيصة فاضلة من خصائص الأمة الإسلامية أكرمها الله وخصّها بها، دون سائر الأمم كلها قديمها وحديثها.   (1) مقدمة صحيح الإمام مسلم 1/15، وجامع الترمذي كتاب العلل 5/695، والمحدث الفاصل للرامهرمزي ص 209، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي 1/16، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص 6، والتمهيد لابن عبد البر 1/95. (2) تتبع الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، رحمه الله، المواطن التي وقعت فيها هذه الزيادة في المصادر المذكورة أعلاه وفي غيرها، والتحريف الكبير الذي وقع فيها من قبل بعض النساخ أو المحققين، وذلك في كتابه النافع "الإسناد من الدين" ص 51 وما بعدها، وفي تحقيقه كتاب "الأجوبة الفاضلة عن الأسئلة العشرة الكاملة" للإمام محمد عبد الحي اللكنوي، حاشية ص 33. (3) فهرست ابن خير، ص 16-17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الجرح والتعديل لغة واصطلاحا ً: الجرح لغة له معنيان: أحدهما الكسب ومنه قوله تعالى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [سورة الجاثية:21] ، وسمي ذلك اجتراحا لأنه عمل بالجوارح (1) . والثاني: شق الجلد. ثم استعمل مجازا في مثل قولهم: جرحه بلسانه إذا سبّه وشتمه وعابه. - أما في الاصطلاح فالجرح والتجريح هو وصف الراوي بما يسقط عدالته أو يخل بحفظه وضبطه مما يترتب عليه سقوط روايته والحكم عليها بالرد فتكون ضعيفة أو موضوعة. ويستعمل بعضهم أحيانا ألفاظا أخرى تفيد ذلك المعنى فيقال: لَيَّنَه، أو غمزه، أو رماه بكذا أو كذا. المجرَّح أو المجروح هو الراوي الذي وُصف بما يسقط عدالته أو ضبطه. المتكلم فيه: هو الراوي الذي تكلّم فيه بعض النقاد بجرح قد لا يكون نافذا أو مؤثرا. المجرِّح: هو الناقد المشتغل بتجريح الرواة وتعديلهم أي بنقد أحوال الرواة. التعديل: أصل التعديل في اللغة هو: عدَل يعدِل إذا حكم بالاستواء وهو المعروف عند الناس بالعدْل الذي هو   (1) قال الزمخشري في تفسير "اجترحوا السيئات": والاجتراح الاكتساب، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم. (الكشاف 4/290) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 نقيض الجور. ومنه يوم معتدل إذا تساوى حالا حره وبرده. وعدَلته وعدّلته حتى اعتدل أي أقمته حتى استقام واستوى. وعَدَلتُ الدابة إلى طريقها: عطفتها. فالتعريف اللغوي يقوم على معنى الاستقامة والاستواء، وهو الذي سيكون حاضراً في التعريف الاصطلاحي. أما في الاصطلاح، فالتعديل هو وصف الراوي بصفة أو صفات تزكيه وتظهر أو تثبت عدالته، ويسمى أيضاً التوثيق، والتزكية. والعدالة هي ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى واجتناب الكبائر والابتعاد عن الصغائر أو هي حالة أو هيئة نفسانية تحمل صاحبها وتدفعه إلى ملازمة التقوى ... والعدْل هو الراوي الذي وُصف بما يزكيه ويثبت عدالته. وهو أيضا كل من لم يَظْهر في أمر دينه ومروءته ما يُخل بهما. المعدِّل: هو الناقد الذي يشتغل بنقد الرواة وتتبع أحوالهم، فيعدل رواة ويجرح آخرين. وبناء على ذلك فعلم الجرح والتعديل هو علم يبحث فيه عن أحوال الرواة من حيث قبول روايتهم أو ردها بألفاظ أو عبارات مخصوصة. ينصب هذا العلم بالأساس على رواة الأحاديث النبوية وآثار الصحابة، ويقوم على ذكر أحوالهم مما له مدخل في قبول أخبارهم أو ردها، فيقتصر في بعض الأحيان على لفظة أو لفظتين تفيدان التعديل أو التجريح، أو إنه تلخيص الكلام على الراوي أي بيان حاله بخصوص الرواية بعبارة قصيرة جامعة محررة بعد تمحيص ودراسة وتتبع. وذلك أمر جَلَل، فهو نصف علم الحديث لأن الحديث سند ومتن، والسند عبارة عن الرواة ومعرفة أحوالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 نصف هذا العلم بلا ريب، ولذلك قال الإمام علي بن المديني: "التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم" (1) . وبين علم الجرح والتعديل وعلم الرجال عموم وخصوص، إذ إن علم الرجال هو العلم الذي يعنى بمعرفة الرواة من حيث أحوالهم عدالة وجرحاً، ويعنى أيضاً بما يخدم ذلك ويحققه كمعرفة أسمائهم وأنسابهم وكناهم وألقابهم ومواليدهم ووفياتهم وطبقاتهم، مما يعين على التمييز بينهم ولا سيما مع كثرتهم وتشابه أسمائهم أو أسمائهم وأنسابهم وكناهم إلى غير ذلك مما يوقع في الخلط الشنيع كتضعيف الثقة وتوثيق الضعيف، وردِّ الحديث المقبول وقبول الحديث المردود ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 مشروعيته : في القرآن الكريم آيات كثيرة فيها تزكية أو تجريح كانت نبراسا للمحدثين اقتبسوا منها بعض الألفاظ المفيدة لذاك كما في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] ففي هذه الآية تجريح للمنافقين ورميهم بالكذب. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] وفي هذه الآية تنبيه للمؤمنين بضرورة التثبت والتريث في قبول الخبر خاصة إذا كان راويه متهما بالفسق وفيها أيضاً تنبيه على ضرورة التمييز بين نقلة الأخبار، فليسوا سواء.   (1) كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي، ص 95-96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] وفيها تعديل عام للصحابة الكرام، فهم بشهادة هذه الآية مرضيون. ولم تخل السنة من أحاديث كثيرة فيها تجريح أو تعديل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس عندما شاورته فيمن خطبها: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد ... " (1) . وفي حديث مشهور قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل استأذن للدخول عليه: "ائذنوا له بئس أخو العشيرة". ولم يجد كثير من المحدثين الحرج الكبير في اتهام من يغير الحديث قصدا بالكذب بعد سماعهم الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من الكذب عليه وهو حديث: "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".   (1) الجامع الصحيح للإمام مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثا، 10/96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 نشأة الجرح والتعديل وتطوره ... نشأة علم الجرح والتعديل وتطوره: حظيت السنة النبوية باهتمام منذ عهد الصحابة الكرام باعتبارها مصدرا تشريعيا للأحكام في العبادات والمعاملات وغيرهما، فكان حرص هؤلاء على أن لا يفوتهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعوا من بعضهم بعضا حينما كان يفوتهم حضور المجالس النبوية. ولم يكن الأتباع أقل حرصاً من الصحابة على سماع الحديث النبوي فرحلوا إليهم ولازموهم وسمعوا منهم. ونظرا لما جُبل عليه الإنسان من الوهم والنسيان والخطأ، وما يعتريه من حالات التغيير من النشاط والقوة إلى الضعف وكبر السن وما ينجم عن ذلك أحيانا من الذهول والنسيان، قام الصحابة وكذا كبار التابعين بنقد بعض المرويات وباستدراكات على بعض الصحابة الرواة أو التابعين عن طريق المعارضة بين الروايات المختلفة أو عرضها على القرآن الكريم أو المطالبة بالشهود ... وقد بدأ ذلك في عهد مبكر جدا، ولعل أول نقل يثبت هذا الأمر هو الذي وصلنا من عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد ذكر غير واحد (1) أن الجَدَّةَ جاءت إلى أبي بكر تلتمس ميراثها، فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا. ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله يعطيها السدس.   (1) انظر مثلا: الموطأ للإمام مالك في كتاب الفرائض باب ميراث الجدة. وسنن أبي داود كتاب الفرائض باب في الجدة. وجامع الترمذي كتاب الفرائض باب ميراث الجدة. وسنن ابن ماجه كتاب الفرائض ميراث الجدة. وانظر كذلك الكفاية للخطيب ص 26 وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة مثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقد أشار الحاكم إلى هذه القصة وقال: ((وأول من وقى الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق رضي الله عنه)) (1) وقال الذهبي: "كان أبو بكر أول من احتاط في قبول الأخبار" (2) ،وقال أيضاً: "وإليه المنتهى في التحري في القول والقبول" (3) . وقد مضى على هذا النهج الخليفتان عمر بن الخطاب (4) ، وعلي بن أبي طالب (5) ، والسيدة عائشة (6) وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. وقد ذكر الحاكم أن أبا بكر وعمر وعليا وزيد بن ثابت جرحوا وعدلوا، وبحثوا عن صحة الروايات وسقيمها ... (7)   (1) المدخل في أصول الحديث ص 34. (2) تذكرة الحفاظ 1/2. (3) المصدر نفسه 1/5. (4) احتاط عمر وتثبت في قبول عدد من الأحاديث انظر: صحيح البخاري كتاب الاستئذان باب التسليم والاستئذان ثلاثا. وصحيح مسلم كتاب القسامة الحديث 39. وكتاب الآداب: الحديث 36.وطبقات ابن سعد 4/21. وتذكرة الحفاظ 1/6. (5) كان الإمام علي في بعض الأحيان يستحلف من يحدثه. انظر المدخل للحاكم ص 34. وتذكرة الحفاظ 1/10. (6) اشتهرت السيدة عائشة بمعرفتها الكبيرة بالأحاديث النبوية، وقد انتقدت عددا من الصحابة واستدركت عليهم وبينت أوهامهم. ومجموع ما ورد عنها في ذلك قد جمعه الإمام الزركشي في كتاب مستقل سماه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" مطبوع بتحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني وكذلك جمع أبو منصور عبد المحسن بن محمد بن علي البغدادي في هذا كتابا سماه "استدراك أم المؤمنين عائشة على الصحابة" ذكره ابن خير في فهرسته ص 174. (7) معرفة علوم الحديث للنيسابوري بتحقيق د. السيد معظم حسين ص 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 بداية الكلام في الرواة : يحدث هذا وكثير من الصحابة على قيد الحياة يروون الأحاديث الصحيحة ويقومون حراسا للسنن النبوية، يذودون عنها كل خطر ناشئ، فيقوم واحد منهم وهو حبر الأمة عبد الله بن عباس بالتنبيه على وسيلة أخرى للاحتياط والتثبت في الرواية، فقد جاء بشير العدوي وأخذ يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه سلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه. فقال: يا ابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: "إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف" (1) . هذا بداية التمييز بين من يقبل حديثه ومن يردّ حديثه، وسيكون ذلك بداية للمطالبة بالإسناد ليعرف مقبول الحديث من مردوده، قال ابن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم" (2) . وروى الخطيب في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" عن خيثمة بن عبد الرحم?ن قال: "لم يكن الناس يسألون عن الإسناد حتى كان زمن المختار فاتهموا الناس"، والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي ضال مضل كان   (1) مقدمة صحيح مسلم، ص 15. (2) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 يزعم أن جبريل ينزل عليه، أحدث فتنا بين المسلمين في العراق وغيره، قتله مصعب بن الزبير سنة 67?، ومن صنيع هؤلاء المطالبين بالإسناد وغيرهم في هذه المرحلة المبكرة سيستلهم نقاد التابعين وأتباعهم أهمية الإسناد في الرواية، وسيبينون للناس شأنه وضرورته، كما وجدنا ذلك عند الأئمة الزهري وابن المبارك ومالك وشعبة وغيرهم. هكذا استمرت العناية بالحديث النبوي تقيه من التحريف، فظهر نقاد بدؤوا في نقد بعض الرواة وتنبيه الناس لعدم أهليتهم للرواية، من هؤلاء النقاد الحسن البصري الذي تكلم في عطاء الخراساني وعكرمة مولى ابن عباس، ومنهم سعيد بن جبير الذي تكلم في نافع مولى ابن عمر، ومنهم عطاء بن أبي رباح، وعروة بن الزبير، وعبد الرحم?ن الأعرج وأبو صالح ذكوان بن صالح السمان وابن سيرين. قال الإمام الذهبي: "وأول من زكّى وجرّح، عند انقراض عصر الصحابة: الشعبي وابن سيرين ونحوهما، حفظ عنهم توثيق أناس وتضعيف آخرين" (1) . لكن الأمر لم يكن كثيرا غالبا لقلة الكذب وقلة تعمد التغيير والتبديل، فلم تكن ساحة الكذب كبيرة فما زال الإيمان غالبا على النفوس متمكنا منها ومانعا الناس من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوير شريعته. قال الإمام الذهبي: "وأما التابعون فيكاد يُعدم فيهم من يكذب عمدا ولكن لهم غلط وأوهام، فمن ندر غلطه في جنب ما قد جَلّ احتُمل، ومن تعدّد غلطه من أوعية العلم، اغتُفِر له أيضا، ونُقل حديثه وعُمل به على تردد   (1) معرفة من يعتمد قوله في الجرح والتعديل، ص 45-46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 بين الأئمة الأثبات في الاحتجاج عمن هذا نعته، كالحارث الأعور وعاصم ابن ضمرة وصالح مولى التوأمة، وعطاء بن السائب، ونحوهم، ومَنْ فحُش خطؤُه وكثر تفرده لم يُحتج بحديثه، ولا يكاد يقع ذلك في التابعين الأولين ويوجد ذلك في صغار التابعين فمن بعدهم" (1) . مع بداية المائة الثانية، ومع ازدياد عدد طلبة الحديث النبوي واتساع روايته كثر من يتتبع رواته بالنقد ورواياتهم بالتمحيص وكان ذلك غالبا في مجالس رواية الحديث عبارة عن ملاحظات وتصويبات مزجت بالرواية ضمن خليط من المعلومات والمعارف، كتوثيق الرواة أو تضعيفهم، أو بيان وفاة، أو ضبط غريب، أو بيان مشكل، أو توضيح كنية أو نسب أو غير ذلك. لكن سرعان ما اتسع أفق علم الرجال وكثر النقاد المتتبعون لأحوال الرواة لكثرة الطلبة الذين أقبلوا على العلم، وكثرة الشيوخ الذين تصدروا مجالس التحديث، فظهر مَنْ يواجه الأحوال الجديدة، ويفضح الكذبة من الرواة، فهذا أيوب السختياني (131?) يذكر يوما أحد الرواة فيقول: "لم يكن بمستقيم اللسان". وقال يوما: "إن لي جارا، ثم ذكر من فضله، ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة". وقال في عبد الكريم -يعني أبا أمية-: "كان غير ثقة ... "، وقال لسلام بن أبي مطيع ينصحه ليحجم عن الرواية عن أحد الضعفاء: "أرأيت رجلا لا تأمنه على دينه، كيف تأمنه على الحديث؟ " (2) .   (1) المصدر نفسه، ص 46. (2) صحيح مسلم، ج 1، ص 23-104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ومن أبرز النقاد في هذه الفترة الأعمش سليمان بن مهران (148?) الذي كان يجلس في طريق الطلبة. حتى إذا مروا عليه سألهم عن الشيوخ الذين سمعوا منهم، فيوثق مَنْ كان ثقة، ويحذرهم من غير الثقات (1) . اتسع علم الرجال في هذا العصر أكثر فأكثر حتى ليعد المرحلة التأسيسية الناضجة له، حيث بدأت تعقد المجالس الخاصة به، واشتهر علماء ونقاد كبار متضلعون في الحديث متناً وسنداً يُسألون عن الحديث ورجاله كهشام الدستوائي (154?) وعبد الرحم?ن الأوزاعي (156?) وسفيان الثوري (161?) ومالك بن أنس (179?) ، الذي كان إلى جانب الإمام شعبة بن الحجاج (160?) من أكثر النقاد بحثا عن المحدثين وأغزرهم تتبعا لأحوال الرواة، حيث عُدّ الإمام شعبة: "أول من تكلم في الرجال" (2) . وأول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين وصار عَلماً يقتدى (3) . وحتى وُصف بأنه "كان أمة وحده في هذا الشأن، يعني في نقد الرجال وبصره بالحديث وتثبته وتنقيته للرجال" (4) .   (1) انظر كتاب تحذير الخواص من أحاديث القصاص، وكتاب تهذيب التهذيب 4/223، وبحوث في تاريخ السنة ص 33. (2) التهذيب 4/345. (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه، 4/344، وتاريخ بغداد 9/233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 نماذج من عناية العلماء بالإسناد والجرح والتعديل ومناهجهم في النقد 4 شعبة ونقد الرواة : اشتغل شعبة بن الحجاج بالحديث النبوي، وجدّ في طلبه، ولم يزل طول عمره يطلبه حتى مات على غاية الحرص في جمعه لا يشتغل بشيء سواه، ويكتب حتى عمّن دونه في السن والإسناد، فكان مِنْ أشدِّ أصحاب الحديث عنايةً بما سمع، وأحسنهم إتقاناً لما حفظ، وقد سمحت له كثرة الاشتغال بالحديث باكتساب معرفة كبيرة بأحوال الرواة، ودراية فائقة بأحاديث الشيوخ، حتى عُدَّ مِنْ أعلم الناس بالرجال، (1) بل ولُقِّبَ بأمير المؤمنين في الحديث (2) . لم تعد مجالس شعبة بن الحجاج تعقد قصد رواية الأحاديث فقط، بل أصبحت تعقد للبحث في أحوال الرواة تعديلا وتجريحا، حكى أبو زيد الأنصاري النحوي فقال: أتينا شعبة يوم مطر، فقال: ليس هذا يوم حديث، اليوم يوم غيبة تعالوا نغتاب الكذابين (3) . وقصر المجالس على نقد الرجال أمر ظهر بعد ذلك على يد الطبقة التي تلت شعبة، وعلى رأسها يحيى بن معين والإمام أحمد وابن المديني، يوجه خلالها الطلبة أسئلة تتعلق بالرواة، وردود الشيوخ هي التي يدونها تلامذتهم أو يروونها عنهم بعناوين مختلفة مثل سؤالات أحمد وسؤالات علي بن المديني وغير ذلك.   (1) تقدمة المعرفة 127. (2) شرف أصحاب الحديث 15. (3) الكفاية ص: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 من الذي يُترك حديثه في رأي شعبة؟ يرى شعبة أن أصنافاً أربعة من الرواة يترك حديثهم ولا يعتد به: أولاً: مَنْ يُتَّهَمُ بالكذب: إن الراوي المتهم بالكذب هو الذي يعرف بكذبه في حديثه العادي بين الناس، فلا يؤتمن حينئذ على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إن جرأته على الناس دليل على جرأته على الله ورسوله. ولأن العدالة لا تتجزأ، فلا يكون الراوي ثقة عدلاً في جهة، وكذاباً فاسقاً في جهة أخرى، وهذا ما تشترك فيه الرواية والشهادة. وطرح حديث المتهم بالكذب في كلامه العادي مع الناس ضرب من الاحتياط والحذر اللذين مَيَّزا منهج المحدثين في تلقي الأخبار وروايتها، وأضفيا عليه صفة الدقة والسلامة. ثانياً: من يكثر الغلط: إن الراوي الذي يتهم بفحش الغلط وتزايده يفقد صفة الضبط فلا يؤخذ بحديثه في معرض الاحتجاج، ولا يعتمد في أحاديث الأحكام، بل يستأنس به استئناسا. (1) ثالثاً: من يخطئ في حديث يجمع عليه فلا يتهم نفسه، ويقيم على غلطه ويصر على روايته لذلك الحديث، وإن الراوي الذي يعرف عنه هذا الأمر تسقط روايته ولا يكتب عنه بشرط أن يكون ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك. رابعاً: من روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون. (2)   (1) انظر كتاب المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل ص: 318 ـ 319. (2) الكفاية 145، وفتح المغيث 160-161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 موقف شعبة من الرواة المدلسين: ذكر غير واحد أن شعبة بن الحجاج كان من أصدق الناس وأثبتهم في الحديث حتى قال عبد الله بن إدريس: شعبة قبان المحدثين، (1) أي أمينهم. وقال أحمد في معرض المفاضلة بينه وبين سفيان الثوري: « ... وكان شعبة أثبت منه وأتقى رجلا.» (2) ولذلك فقد كان له موقف صارم من التدليس والمدلسين، فكان يجعل التدليس في مرتبة أكبر من الزنى، فهو القائل -إن صحت الرواية عنه-: «لأن أزني أحب إلي من أن أدلس، وفي رواية أخرى: التدليس في الحديث أشد من الزنى» (3) . وقال أيضا مستعظما أمر التدليس مستبعدا إياه: «لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أقول: زعم فلان ولم أسمع ذلك الحديث منه» (4) . منهج شعبة في نقد الرواة 1) الرجوع إلى مصدر الخبر: يعد رجوع المحدث الناقد إلى مصدر الخبر الذي استقى منه الراوي حديثه وسيلة من وسائل التثبت من صدق المخبر وعدالته وضبطه. ولقد كان هذا النهج من ديدن شعبة بن الحجاج وهو القائل في معرض التنويه بمكانة سفيان الثوري: ما حَدَّثني سفيان عن السدي بحديث فسألته عنه إلا كان كما حدثني. (5)   (1) التهذيب 346. (2) المصدر نفسه 344. (3) التهذيب 1/15-16 وتقدمة المعرفة ص: 173. (4) التمهيد 1/16. (5) طبقات ابن سعد 6/372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وفي رواية: "ما حدثني أحد عن شيخ إلا وإذا سألته -يعني ذلك الشيخ- يأتي بخلاف ما حدث عنه ما خلا سفيان الثوري، فإنه لم يحدثني عن شيخ إلا وإذا سألته وجدته على ما قال سفيان" (1) 2) الرحلة: وذلك من أجل تتبع الحديث الواحد، والرجوع إلى مصدر الخبر للأمن من كذب الراوي أو تدليسه أو غلطه. ولعل رحلة شعبة إلى مكة ثم إلى المدينة ثم البصرة لتتبُّع حديث واحد، والتأكد من اتصال سنده (2) وصحته، دليل واضح على عنايته الكبيرة بالحديث النبوي عن طريق التتبع الدقيق لرواته وفحص أحوالهم ومعرفة عدالتهم وضبطهم. 3) اختبار الراوي: وذلك بمعاودة السماع منه مرات متعددة قصد التأكد من حفظه وضبطه وثبوته على رواية نفس الحديث، وقد كان هذا النهج أيضا من المسائل التي اعتاد عليها شعبة، فسمع مرة حديثا واحدا من طلحة بن مصرف فكان كلما مر عليه يسأله عنه، فقال له: لِمَ يا أبا بسطام؟ قال: "أردت أن أنظر إلى حفظه فإن غيّر شيئا تركته". (3) وقال أيضا: "ما رويت عن رجل حديثاً إلا أتيته أكثر من مرة، والذي رويت عنه عشرة، أتيته أكثر من عشر مرار". (4) ولذلك لم يكن يقبل الراوي الذي يلقن، قال: كانوا يقولون لسماك:   (1) تقدمة المعرفة 67. (2) انظر المحدث الفاصل، ص 131-132، والتمهيد، 1/48-49-50. (3) الكفاية 113. (4) تهذيب التهذيب 4/346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 عكرمة عن ابن عباس؟ فيقول: نعم، فأما أنا فلم أكن ألقنه. (1) وقد روى قتادة عن أبي الأسود الدؤلي قال: "إن سَرّك أن يكذب صاحبك فلقِّنه". (2) وبالإضافة إلى هذه السبل لمعرفة أحوال الرواة، كان شعبة يرد حديث من يروي ما لا يقبله العقل، قيل له: من أين تعلم أن الشيخ يكذب؟ قال: إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تأكلوا القرعة حتى تذبحوها، علمت أنه يكذب (3) ، بل إن شعبة -مبالغةً في الاحتياط- اشترط في الراوي أن يرى وجه محدثه وقت التلقي، فها هو يوصي أحد تلامذته بذلك قائلا: "إذا سمعت من المحدث ولم تر وجهه، فلا ترو عنه" (4) .   (1) ميزان الاعتدال 2/233. (2) المصدر نفسه 2/233. (3) المحدث الفاصل 316. (4) المصدر نفسه 599، والإلماع ص 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 مكانة شعبة في علم الرجال : لقد بلغ شعبة بن الحجاج شأوا كبيرا في علم الرجال بفضل هذا التفاني الكبير في تتبع أحوال الرواة، وشدة تمحيصه وتفتيشه وسلوكه مناهج متعددة لكشف صدق الرواة أو كذبهم. لقد أعطت هذه الجهود الكبيرة ثمارها الطيبة ونتائجها المرجوة حيث بلغ من علمه بالرَّاوي أن كان يعرف ما سمع -يعني الراوي- من شيخه وما لم يسمع، فقد روى علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان قال: قال شعبة: لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أشياء. وكان من نتائج هذه المعرفة والخبرة الدقيقتين: أن قتادة نفسه كان يسأله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عن حديثه يعني حديث نفسه. (1) وقال شعبة أيضا بنفس الروح التي تنم عن هذه المعرفة الكبيرة بالرواة وأحوالهم:" أحاديث محمد بن سيرين عن ابن عباس إنما سمعها محمد عن عكرمة، لقيه أيام المختار وفي رواية أخرى: أحاديث محمد بن سيرين إنما سمعها من عكرمة لقيه أيام المختار ولم يسمع ابن سيرين من ابن عباس شيئا". (2) وقال أيضا في حق شيخه عطاء بن السائب:"إذا حَدَّثَكَ عن رجل واحد فهو ثقة، وإذا جمع فقال: زادان وميسرة وأبو البحتري فاتَّقِهْ، كأن الشيخ قد تغير" (3) . وهذا كلام مَنْ خَبِرَ أحاديث عطاء بن السائب ومحصها حتى غدا عارفا بمواطن الخلل والعلة القادحة فيها. ولا غرو بعد هذا كله أن يكثر تلاميذه وتكبر حلقات الدروس حوله لأن أصحاب الحديث كانوا يريدون -كما بين ذلك خلف المخرمي- حسن المعرفة بالرجال وبمعرفة الحديث، وهكذا كان هذا المعنى بينا في شعبة، (4) وأن تُسَجِّل له كتب الرجال والجرح والتعديل أقواله في الرواة وتصبح عمدة من يعدل ويجرّح، فهذا ابن عون يأبى الأخذ من أحد الرواة، ولما قيل له مالك لا تحدث عن فلان قال: لأن أبا بسطام تركه. (5) ولا غرو أيضا أن يصفه سفيان بأنه أمير المؤمنين في الحديث، (6) وأن   (1) المحدث الفاصل ص: 127 وص: 175. (2) العلل لابن المديني ص: 60. (3) طبقات ابن سعد 6/336. (4) تقدمة المعرفة 176. (5) تهذيب التهذيب 4/338. (6) شرف أصحاب الحديث 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 يصفه القطان بأنه كان أعلم الناس بالرجال (1) . ورغم هذه المكانة العليا التي سما إليها فإنه كان متواضعا أشد ما يكون التواضع ومحباً للحديث وطلاب الحديث، فمن تواضعه ما يحكيه وكيع أنه ذكر حديثا عن أبي إسحاق فقال رجل: إن سفيان خالفك فيه، فقال: دعوه، سفيان أحفظُ مني، وفي رواية:"إذا خالفني سفيان في حديث فالحديث حديثه". (2) ومن حبه للحديث والمحدثين قوله: "كل مَنْ كتبت عنه حديثا فأنا له عبد" (3) ، وقوله: "إذا رأيت المحبرة في بيت إنسان فارحمه، وإن كان في كمك شيء فأطعمه" (4) . لقد جادت طبقة شعبة بن الحجاج والطبقة التي تلتها بعدد كبير من الجهابذة النقاد الذين كرسوا حياتهم لخدمة الحديث النبوي الشريف من التحريف والتزييف. وإن مجرد عرض أسماء بعض هؤلاء الجهابذة يثبت صحة هذا الحكم ويؤكده، إذ لا يماري أحد في مكانة مالك بن أنس (179هـ) ، وسفيان بن عيينة (198هـ) ، وحماد بن زيد (179هـ) ، ووكيع بن الجراح (199هـ) ، وعبد الله بن المبارك (181هـ) وأبي الوليد الطيالسي (227هـ) ، وأبي داود الطيالسي (203هـ) ، ويحيى بن سعيد القطان (198هـ) وعبد الرحمن بن مهدي (198هـ) ...   (1) تقدمة المعرفة 127. (2) المصدر نفسه ص: 63 وص: 65. (3) جامع بيان العلم 1/ص: 127 وص: 133، الإلماع ص: 227 وص: 230. (4) سير أعلام النبلاء: (7/225) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ثم إن أغلب هؤلاء النقاد الكبار من تلاميذ وخرّيجي مدرسة شعبة بن الحجاج، وقد ورثوا عنه أسس علم الرجال ونهلوا من معينه الفياض ليتابعوا تشييد أركان هذا العلم باجتهاداتهم ودراساتهم الخاصة التي كانت معالم وشواهد على ما بذلوه من جهود متواصلة، وقد تم بالفعل إرساء أسس هذا العلم وأركانه على يد هذه الطبقة، لينصرف اهتمام من جاء بعدهم إلى جمع آرائهم وأقوالهم وعلى التصنيف في متفرقات ما وضعوه من أسس ودعائم. وحتى تظهر لنا بعض جهود هذه الفئة في نقد الرواة وتتبع أحوالهم، يجدر بي استعراض بعض مساهماتهم في هذا المجال. أ - مالك بن أنس (179هـ) (1) لقد عاصر الإمام مالك شعبة بن الحجاج، بل لقد كان من شيوخه، وإنما ذكرته مع الطبقة التي تلت شعبة لتأخر وفاته بعده بتسع عشرة سنة، ولا شك أنها مليئة بالعطاء، غنية بالمساهمة في علم الرجال. من الذي يرد حديثه عند مالك؟ يرى الإمام مالك أن الحديث النبوي «لا يؤخذ من أربعة ويؤخذ من سوى ذلك: - لا يؤخذ من رجل صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه. - ولا من سفيه معلن بالسفه، وإن كان من أروى الناس. - ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا أتهمه أن يكذب   (1) مصادر ترجمته: تقدمة المعرفة 19 والانتقاء لابن عبد البر ص 9-63 والمعارف لابن قتيبة 498 والتاريخ لابن معين 2/543-546 والحلية 6/316 وترتيب المدارك 1/102-254 وصفوة الصفوة 2/177 ووفيات الأعيان 4/135 وسير أعلام النبلاء 8/48-136 وتذكرة الحفاظ 1/207 والديباج المذهب 1/82-139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 على رسول الله صلى الله عليه وسلم. -ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة، لا يعرف ما يحدث» (1) ومن هذا الكلام وغيره مما ورد عن مالك وأضرابه استلهم المحدثون الذين جاؤوا من بعد القواعد ووضعوا الحدود والتعاريف بما تقتضيه صناعة الحدود والتعاريف من عبارات جامعة مانعة وباستعمال مصطلحات اتفق عليها القوم، وهي من صميم لغتهم. - معرفة مالك بأحوال الرواة: لقد تكلم الإمام مالك في العديد من الرواة مبينا أحوالهم، حاضا على الأخذ والرواية عن بعضهم لعدالتهم وضبطهم، ومحذرا من بعضهم الآخر لضعفهم أو كذبهم. فعن عبد الرحمن بن القاسم أنه سأل مالكا عن ابن سمعان فقال: كذاب. (2) وقال بشر بن عمر: نهاني مالك بن أنس عن إبراهيم بن أبي يحيى، قلت: من أجل القدر تنهاني عنه؟ قال: ليس دينه بذاك. وعن هذا الراوي نفسه يسأله يحيى بن سعيد القطان قائلا: أكان ثقة؟ قال: لا، ولا ثقة في دينه (3) . ولقد انعكست معرفة الإمام مالك بالرواة على روايته للحديث النبوي، فكان لا يشق له غبار في ضبط ما يصح من الأخبار والآثار والأقضية ووقائع الصحابة، ومعرفة الطرق التي منها يتطرق الخلل وإمكان الزلل إلى النقلة رواة الأحاديث، وفي هذا قال سفيان بن عيينة: ما كان أشد انتقاءه للرجال   (1) الكفاية ص: 160. (2) تقدمة المعرفة 21. (3) تقدمة المعرفة ص: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وأعلمه بشأنهم (1) . وقال ابن عبد البر: ومن اقتصر على حديث مالك رحمه الله فقد كُفِي تعب التفتيش والبحث ووضع يده من ذلك على عروة وثقى لا تنفصم، لأن مالكا قد انتقد وانتقى، وخلّص ولم يرو إلا عن ثقة حجة ... (2) . وكان الإمام أحمد قد أكد هذه المسألة فقال: "كان مالك من أثبت الناس في الحديث، ولا تبالي ألاَّ تسأل عن رجل روى عنه مالك بن أنس ولا سيما مديني. (3) ولهذا فقد استغرب يحيى بن معين حينما سئل عن أحد رجال مالك فقال: أتريد أن تسأل عن رجال مالك، كل من حدث عنه ثقة إلا رجلا أو رجلين (4) . بهذا الجواب نفسه وبهذه الثقة نفسها كان الإمام مالك ذاته قد أجاب بشر بن عمر حينما سأله عن رجل، قال مالك: هل رأيته في كتبي، قال: لا، قال: لو كان ثقة رأيته في كتبي (5) . ولا غرابة في أن يكون مالك بهذه الدراية الكبيرة برواة الحديث النبوي، وبهذا التمحيص والمعرفة لأحوال من يبلّغون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أُثر عنه أنه كان يشدد في الحديث النبوي في الياء والتاء ونحو هذا.   (1) التمهيد 1/665، وتقدمة المعرفة ص: 23. (2) التمهيد 1/60. (3) تقدمة المعرفة ص: 17. (4) المصدر نفسه ص: 24. (5) مقدمة صحيح مسلم 1/26 وتقدمة المعرفة ص: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ب- وكيع بن الجراح (199هـ) (1) ساهم وكيع بن الجرّاح في مسيرة علم الرجال مبيّنا أحوال من ينقلون حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالدقة المعهودة في غيره من النقاد، من ذلك تتبعه لأحاديث الأعمش عن مجاهد فكان يقول: لم يسمع الأعمش من مجاهد إلا أربعة أحاديث، وفي رواية أخرى عن عمرو بن علي قال: سمعت وكيعا يقول: كنا نتتبع ما سمع الأعمش من مجاهد فإذا هي سبعة أو ثمانية، ثم حدَّث بها. (2) وبنفس هذه الخبرة والتدقيق قال: يحيى بن الضريس من حفاظ الناس لولا أنه غلط في حديثين، فذكر حديثا لمنصور. (3) وقد كان وكيع يُنَفِّر من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين خطورة هذا الجرم ونتائجه الوخيمة. وقد تعرض عليه أحاديث المعلّى ابن هلال فيقول: "قال أبو بكر الصديق: الكذب مجانب للإيمان". (4) وقوله هذا بمنزلة الحكم على المعلى بن هلال، وهو أيضا جواب توخى منه تذكير الناس بخطورة الكذب في الرواية، وتنفيرهم من الرواية عن الكذَّابين، وقد كان يقول: "هذه بضاعة لا يرتفع فيها إلا صادق". وكان وكيع أيضا إذا أتى على حديث حنظلة بن أبي سفيان يقول: حدثنا حنظلة وكان ثقة ثقة (5) .   (1) مصادر ترجمته: الطبقات لابن سعد 6/394، التاريخ الكبير للبخاري 4/ القسم الثاني 179، تقدمة المعرفة 219. (2) تقدمة المعرفة 224 و227. (3) المصدر نفسه ص 224. (4) المصدر نفسه 225-226. (5) تقدمة المعرفة 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ج- عبد الله بن المبارك (181?) (1) كان عبد الله بن المبارك من مشاهير الأئمة النقاد في هذه الفترة، فقد عني بنقد الرجال وتتبع أحوالهم من أجل سلامة السنة النبوية وهو الذي -حين قيل له: هذه الأحاديث المصنوعة؟ - قال كلمته المشهورة: "يعيش لها الجهابذة" (2) . وقال أيضا: ليست جودة الحديث قرب الإسناد، جودة الحديث صحة الرجال (3) . وتبعا لذلك فقد بيَّن ابن المبارك مَنْ يؤخذ حديثه ومن يُرَدُّ، بناء على أوصاف حددها فقال: (4) "يكتب الحديث، إلا عن أربعة: - غلاط لا يرجع، وكذاب، وصاحب بدعة وهو يدعو إلى بدعته، ورجل لا يحفظ فيحدِّث مِنْ حِفْظه. وقال مرة مجيبا وقد سئل عمن نأخذ؟: "من طلب العلم لله، وكان في إسناده أشد، قد تلقى الرجل ثقة وهو يحدث عن غير ثقة، وتلقى الرجل غير ثقة وهو يحدث عن ثقة، ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة" (5) . وقد تصدَّى ابن المبارك كغيره من النقاد للتفتيش عن أحوال الرواة وكشف حقيقتهم للمسلمين عموما ولطلاب الحديث على وجه الخصوص، وهذا الإمام مسلم يذكر في مقدمة صحيحه عدة أمثلة عن نقده للرجال،   (1) مصادر ترجمته: التاريخ الكبير 3 القسم الأول، تاريخ بغداد 10/152، تقدمة المعرفة 262، تذكرة الحفاظ 1/274، التهذيب 5/362، تاريخ التراث العربي 1/270. (2) الكفاية 37. (3) أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني ص: 57. (4) الكفاية ص: 143. (5) تذكرة الحفاظ 1/277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وكلها تبرز مدى مساهمته في علم الرجال وباعه الكبير فيه، من ذلك أن أبا إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني سأله قائلا: يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء أن من البر بعد البر أن تُصَلِّي لأبويك وتصوم لهما مع صومك؟ فقال عبد الله: يا أبا إسحاق عَمَّن هذا؟ قال: هذا من حديث شهاب بن خراش، فقال ثقة عمن؟، قال أبو إسحاق: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة عمن؟، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن المبارك: يا أبا إسحاق، إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوزَ تنقطع فيها أعناق المطي، ولكن ليس في الصَّدَقَة اختلاف (1) . وأخرج مسلم أيضا بسنده إلى علي بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يَسُبُّ السلف (2) . وأخرج ابن أبي حاتم عن نعيم بن حماد قال: قلت لابن المبارك: لأي شيء تركوا عمرو بن عبيد؟ قال: إن عمرا كان يدعو، يعني إلى القدر (3) . ولقد أشاد العلماء بمكانة ابن المبارك وصولته على الضعفاء والوضاعين، فهذا شعبة يقول فيه -وهو شيخه-: ((ما قدم علينا من ناحيته مثله)) (4) ، وهذا أبو إسحاق الفزاري يقول: ((ابن المبارك إمام المسلمين)) ، ويجلس بين يديه   (1) مقدمة صحيح مسلم 1/16 ـ وتقدمة المعرفة ص: 274. (2) مقدمة مسلم 1/16. (3) تقدمة المعرفة 173. (4) المصدر نفسه ص: 265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 يسأله، وهو يكبره بعشر سنين (1) . وتأتي شهادة أخرى على لسان أمير المؤمنين هارون الرشيد حينما قال له أحد الزنادقة وقد أخذه ليقتله: أين أنت من ألف حديث وضعتها. فرد عليه الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك، ينخلانها ويخرجانها حرفا بحرف؟ (2) . وروى الخطيب في «تاريخ بغداد» قصة اجتماع الناس على ابن المبارك على نحو لا يتم لهارون الرشيد رغم الجند والأعوان (3) . ولا يستقيم حديث عن علم الرجال في هذه الفترة، وعن مدى مساهمة نقادها الجهابذة دون التعرض بالذكر لعالمين اثنين هما يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن ابن مهدي إذ إنهما من أكثر طبقتهما بحثا عن المحدثين وأتركهم للضعفاء والمجروحين، حتى كان هذا الشأن تخصصا لهم، لم يتعدوه إلى غيره، وكان للناس بهما وثوق فصار مَنْ وثقاه مقبولاً، ومن جَرَّحاه مجروحاً، لا يندمل جرحه. د - يحيى بن سعيد القطان (198هـ) (4) : كان يحيى القطان خير خلف لشعبة بن الحجاج بمدينة البصرة، وهي حقيقة أكدها غير واحد (5) حتى قال فيه الإمام أحمد: ما رأينا مثل يحيى بن سعيد في هذا الشأن ـ يعني في معرفة الحديث ورواته ـ هو كان صاحب   (1) المصدر نفسه ص: 165 وص: 176. (2) تذكرة الحفاظ 1/273. (3) تاريخ بغداد 10/166. (4) مصادر ترجمته: التاريخ لابن معين 2/645 وطبقات ابن سعد 7/293 وتاريخ خليفة 468 وطبقاته، الترجمة: 1909 والتاريخ الكبير 8/276 والمعارف 514 والجرح والتعديل 9/150 وتقدمة المعرفة 232 وحلية الأولياء 8/380 وتاريخ بغداد 14/135 وسير أعلام النبلاء 9/175 وتذكرة الحفاظ 1/298 وتهذيب التهذيب 11/216. (5) تقدمة المعرفة 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 هذا الشأن، فقيل له: ولا هشيم؟ فقال: "هشيم شيخ، وما رأينا مثل يحيى"، وجَعَلَ يرفع أمره (1) . بل لقد بلغ من مكانته ومعرفته بأحوال الرواة أن كان شعبة بن الحجاج يرتضيه حكما بينه وبين طلبة الحديث إذا اختلف معهم في مسألة من المسائل، فقد روى ابن أبي حاتم أن طلبة الحديث اختلفوا يوما عند شعبة فقالوا: اجعل بيننا وبينك حكما، فقال: قد رضيت بالأحول -يعني يحيى بن سعيد القطان- فلما حضر تحاكموا إليه، فقضى على شعبة، فقال شعبة: ومن يطيق نقدك (2) . وهذه غاية المنزلة كما قال ابن أبي حاتم إذ اختاره شعبة من بين أهل العلم، ثم بلغ من ثقته بنفسه وصلابته في دينه أن قضى على شعبة. وما كان لهذا الجهبذ أن يصل إلى هذا الشأو الكبير في معرفة أحوال الرواة ومروياتهم، وكشف علل الأحاديث وخللها، دون أن يصرف الأيام والشهور، بل السنين الطوال في ملازمة العلماء والشيوخ ينهل منهم العلم والمعارف المختلفة، فقد صرح بأنه اختلف إلى شعبة سنة (3) . وحرصاً على طلب العلم والصبر عليه، فقد كان يخرج من البيت لطلب الحديث فلا يرجع إلا بعد العتمة (4) . ولم تكن هذه الجهود المتواصلة لتذهب سدى، بل لقد أثمرت ثمارها   (1) المصدر نفسه 233. (2) المصدر نفسه 232 وانظر أيضا تذكرة الحفاظ 1/299. (3) تقدمة المعرفة 249. (4) المصدر نفسه ص: 249-250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الطيبة، فها هو يبيّن للمسلمين مَنْ يؤخذ حديثه ومن يرد، ويؤكد عدالة بعض الرواة وضبطهم، ويفضح آخرين ويكشف ضعفهم أو كذبهم، فيقال له: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله عز وجل، فيرد قائلا بكل ثقة واطمئنان: "لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لي: لِمَ لَمْ تذب الكذب عن حديثي" (1) . يبيّن يحيى بن سعيد القطان مَنْ يؤخذ حديثه من الرواة ومَنْ يُرَدُّ، فيقول: (2) ينبغي في هذا الحديث غير خصلة، ينبغي لصاحب الحديث: أن يكون ثَبْتَ الأخذ، ويكون يفهم ما يقال له، ويبصر الرجال، ثم يتعاهد ذلك. ولذلك فإنه كان ينصح طلبة الحديث بتجنب الرواية عن المعتمر بن سليمان لأنه كان سيئ الحفظ، (3) ، وبتجنب الرواية عن حنظلة السدوسي لاختلاطه. (4) وحذرهم من الراوي الذي يقبل التلقين فقال: "إذا كان الشيخ إذا قبل فذاك بلاء، وإذا ثبت على شيء واحد فذاك ليس به بأس". (5) كما كان ينصح بتجنب أخذ الحديث عمن ينسب إلى الخير والزهد (6) ،إذلا مجال هنا إلى حسن الظن، وهو الذي كان يقول: "آتَمِنُ   (1) الكفاية ص: 37. (2) المصدر نفسه، ص: 165. (3) الكفاية ص: 223. (4) المصدر نفسه ص: 135 (5) المصدر نفسه ص: 149. (6) التمهيد 1/52: وقد علق ابن عبد البر على كلام القطان فقال: هذا معناه والله أعلم أنه ينسب إلى الخير، وليس كما نسب إليه وظن به، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا. ومعنى كلام ابن عبد البر أن القول بأن من الوضاعين الزهاد لا يمكن قبوله لأنه لا يجتمع الزهد والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الجهابذة الذين حاربوا الوضع والوضاعين كانوا من كبار الزهاد كمالك وابن المبارك وغيرهما، ومع ذلك فإن عددا من الزهاد غلب عليهم الصلاح والزهد وغفلوا عن الحفظ والضبط والإتقان، قال ابن حبان في سلم بن ميمون الزاهد: "كان من كبار عباد أهل الشام، غلب عليه الصلاح حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه، فلا يحتج به". وقال ابن يونس المصري في رشدين بن سَعْد بن مفلح المهري أبي الحجاج المصري (188 هـ) : كان رجلا صالحا لا يشك في صلاحه وفضله فأدركته غفلة الصالحين فخلط في الحديث. أساء فيه يحيى بن معين القول ولم يكن النسائي يرضاه ولا يخرج له. (تهذيب التهذيب 3/278) . ضعفه أيضا أبو زرعة وأبو داود وابن قانع والدارقطني والجوزجاني وأبو حاتم (الجرح والتعديل وميزان الاعتدال 2/49 وتهذيب التهذيب 3/278) . عقد الخطيب في كتابه الكفاية بابا تحت عنوان: باب ترك الاحتجاج بمن لم يكن من أهل الضبط والدراية وإن عرف بالصلاح والعبادة، ص 158. وليس من المدفوع أن يكون مَنْ نُسب إلى الزهد من الضعفاء والمجروحين، وذلك من نتائج صرامة المحدثين علماء الجرح والتعديل وعدم محاباتهم في النقد، وقد جرّحوا أحمد بن محمد بن عمرو الكندي المروزي (323 هـ) وكان ممّن ينافحون عن السنة ويردون على المبتدعة؛ قال الدارقطني: كان حافظا عذب اللسان مجردا في السنة والرد على المبتدعة، لكنه كان يضع الأحاديث (تاريخ بغداد 5/74) وقال ابن حبان: كان ممن يضع المتون ويقلب الأسانيد (كتاب المجروحين 1/156) وقال أيضا: على أنه كان من أصلب أهل زمانه في السنة وأنصرهم لها، وأذبّهم لحريمها، وأقمعهم لمن خالفها، وكان مع ذلك يضع الحديث ويقلبه، فلم يمنعنا ما علمنا من صلابته في السنة ونصرته لها أن نسكت عنه، إذ الدين لا يوجب إلا إظهار مثله فيمن وجد ... (كتاب المجروحين 1/161-162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الرجل على مائة ألف ولا آتَمِنُه على حديث" (1) . هـ - عبد الرحمن بن مهدي (198هـ) (2) :   (1) الكفاية 247. (2) مصادر ترجمته في التاريخ لابن معين 2/359 وطبقات ابن سعد7/297 والتاريخ الكبير 2/283 والمعارف 513. تقدمة المعرفة 251 - تذكرة الحفاظ 1/329 وسير أعلام النبلاء 9/192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 نشأ عبد الرحمن بن مهدي في البصرة أيضا، مشتركا مع يحيى بن سعيد القطان في العديد من الشيوخ وحلقات العلم وطلب الحديث، وتبوأ هو الآخر مرتبة عالية في علم الرجال إلى جانب القطان حتى قال علي بن المديني: ((كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس)) -قالها مراراً- (1) بل لقد ذهب إلى أبعد من ذلك فقال: "لو أخذت فأحلفت بين الركن والمقام لحلفت بالله عز وجل أني لم أر أحداً أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي" (2) . قسم عبد الرحمن بن مهدي الرواة من حيث ضبطهم أو عدمه إلى ثلاثة أصناف (3) ، وبيَّن إمكان الرواية عن كل صنف أو ردها فقال: رجل حافظ متقن فهذا لا يختلف فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة، فهذا لا يُترك حديثه، وآخر يَهِمُ، والغالب على حديثه الوهم فهذا يترك حديثه. ولذلك فقد كان عبد الرحمن بن مهدي -كما يقول الخطيب البغدادي- لا يترك حديث رجل إلا رجلا متهما بالكذب أو رجلا الغالب عليه الغلط (4) . وسأله نعيم بن حماد: كيف تعرف الكَذَّاب؟ قال: "كما يعرف الطبيبُ المجنونَ" (5) ولا يفهمنّ من هذا الجواب أن معرفة حال الراوي تكون دائما سهلة متيسرة، فغالبا ما يعسر الوصول إليها ولا يتسنى لغير الجهبذ الخبير   (1) تقدمة المعرفة 251. (2) المصدر نفسه ص: 252. (3) الكفاية ص: 143. (4) الكفاية ص: 143. (5) تقدمة المعرفة ص: 252 - تذكرة الحفاظ 1/331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بلوغها، فدونها خرط القتاد؛ إذ يستحيل ذلك على من لم يدمن الطلب والفحص، وكتب الأحاديث وحفظها، والمذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والإتقان ... كما قال الإمام الذهبي (1) . و يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل: تلت طبقة القطان وابن مهدي طبقة أخرى بلغ علم الرجال عندها الذروة، وبدأ التصنيف في هذا العلم في عصرها، ودونت العلل، من هذه الطبقة الإمام يحيى بن معين (233 هـ) والإمام أحمد بن حنبل (241 هـ) وعلي المديني (234 هـ) ومحمد بن سعد كاتب الواقدي وصاحب الطبقات المتوفى سنة (230هـ) ومحمد بن عبد الله بن نمير (199 هـ) وإسحاق بن راهويه (238 هـ) وأبو خيثمة زهير بن حرب (234 هـ) . إلا أنَّ ألزمهم لهذا الشأن وأكثرهم اختصاصا به الإمام أبو زفر يحيى بن معين الذي كان يروي الحديث وينتقد الرواة، فإذا روى كان حجة، وإذا تكلم في أسانيد الرجال كان كالبحر الذي لا تُعَكِّره الدلاء، وكم من عالم شهد له بأنه خلق لهذا الفن (2) . سمع من مجموعة كبيرة من الشيوخ، أغلبهم صرفوا همتهم إلى نقد الرواة وتمحيص الروايات، ولاشك أن لهذا الأثر الكبير في نبوغه وبلوغه مرتبة   (1) انظر تذكرة الحفاظ 1/4. (2) مصادر ترجمته: طبقات ابن سعد 7/354 ـ التاريخ الكبير للبخاري 4 القسم الثاني وتقدمة المعرفة 314-319 وتاريخ بغداد 14/177-178 وطبقات الحنابلة 1/402 ووفيات الأعيان 6/139 وتذكرة الحفاظ 1/459 وسير أعلام النبلاء 11/71 وميزان الاعتدال 4/410. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الإمامة في الجرح والتعديل وتقويم الرجال ومروياتهم؛ ولهذا فإن ما استفاده من شيوخه وما قام به من دراسات وأبحاث حول الروايات ونَقَلَتها كانت حصيلة أساسية استطاع بها خوض لجج هذا الميدان ومتابعة دراسات وجهود من قبله من النقاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 منهجه في هذا الميدان : - الرحلة: لقد ولع ابن معين بالرحلة في طلب الحديث والسماع من الشيوخ، فرحل إلى الكوفة ثم البصرة، وزار اليمن والشام ومصر، وتردد كثيرا على بلاد الحجاز حيث وافته المنية بالمدينة المنورة. ونظرا لأهمية الرحلة عند ابن معين فإنه كان يقول: أربعة لا يؤنس منهم رشد، فذكرهم، ومنهم: رجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث. - الإكثار من كتب الحديث: أدرك ابن معين الأهمية القصوى للإكثار من تدوين الحديث وجمعه والوقوف على أكبر عدد من طرقه، إذ من شأن ذلك التأكدُ مِنْ ثبوتِ الرواية وصحتها وصدق الراوي وضبطه عن طريق كشف ما بالحديث من علة أو خلل أو زيادة أو غير ذلك مما قد يطرأ على المتن أو الإسناد. وفي المثال التالي ما يؤكد هذه الحقيقة، قيل لابن معين: الاختلاف الذي جاء عن يحيى بن أبي كثير، هو منه أو من أصحابه؟ فقال: من أصحابه. قيل له: مَنْ أَحَبُّ إليك في يحيى بن أبي كثير؟ قال: الأوزاعي وهشام الدستوائي، قيل له: فأبان بن يزيد؟ قال: وأبان بن يزيد ليس به بأس (1) . أدرك أهمية هذا فكان يقول: سيندم المنتخب في الحديث حين لا ينفعه الندم، وكان يقول أيضا: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفناه (2) .   (1) التاريخ ليحيى بن معين برواية الدوري رقم 5279. (2) تذكرة الحفاظ 1/430. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وقد بلغ مِنْ كثرة ما كتب من الأحاديث وطرقها المتعددة: أنه كان يرى كل حديث ليس عنده فهو كذب، أكد هذا حينما دخل عليه محمد بن نصر الطبري ووجد عنده أسفاطا (1) كثيرة فقال له: ((كل حديث لا يوجد هاهنا - وأشار بيده إلى الأسفاط- فهو كذب)) (2) وأيد كثير من العلماء قوله ذلك فقال أحمد: ((كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث)) . وفي رواية: ((فليس هو ثابتا)) (3) . وقال ابن المديني مؤكداً كثرةَ كَتْبِه للحديث: "لا نعلم أحدا من لدن آدم عليه السلام كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين" (4) . وصرح ابن معين نفسه بذلك فقال: "كتبت ألف ألف حديث" (5) . - الإكثار من كتب الحديث عن الكذّابين: إذ كان يكتب أيضا عن الكذّابين والوضّاعين، ورآه أمرا ضروريا للمحدث الناقد حيث قال: "وأي صاحب حديث لا يكتب عن كذَّاب ألف حديث! " (6) . وقد بيّن ابن معين فضل ذلك فقال: "أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها وأعلم أنها موضوعة، حتى لا يجيء إنسان بعده فيجعل أبان ثابتا ويرويها عن معمر عن ثابت لا عن أبان» (7) .   (1) الأسفاط مفردها سفط وهي الدفاتر، فارسي معرب، قال الأصمعي: هو بالرومية (انظر مختار الصحاح ص 301 مادة س - ف - ط) . (2) تهذيب التهذيب 11/282. (3) تاريخ بغداد 14/180. (4) تذكرة الحفاظ 1/430. (5) المصدر نفسه 1/430. (6) تاريخ بغداد 1/43. (7) تهذيب التهذيب 1/101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وإن كتب أحاديث الكذابين تعين النقاد على كشف من يحاول الوضع والكذب عن طريق التستر والانتحال والتلبيس، وتكسبه خبرة ودراية دقيقتين حتى إذا حاول الكذَّابون أو غيرهم رواية تلك الأحاديث سارع إلى كشف حقيقتها وبيان مصدرها. -اختبار الراوي: كان المحدثون النقاد يختبرون عدالة الراوي وصدقه وضبطه بوسائل مختلفة كمعاودة السماع منه مرات متعددة وطرح أسئلة لاختبار ثباته على المَرْويِّ نفسه، وفي هذا الصدد حُكِيَ قصة امتحان ابن معين بالكوفة (1) . -طلبه العلم وتفانيه فيه: بهذه الروح المحبة للحديث النبوي ومقاومة الوضع والوضاعين، كان ابن معين يبذل الجهود الكبيرة ويحرص الحرص الشديد على الرحلة وملاقاة الرواة والشيوخ والمذاكرة والحفظ، فيقول: "إني لأحدث بالحديث، فأسهر له مخافة أن أكون قد اخطأت فيه" (2) . -إمامته في علم الرجال: لقد أثمرت جهوده المتواصلة وتضحياته الكبيرة، فبوأته مكانة عالية في علم الجرح والتعديل بعدما أكسبته قدرات عالية من اليقظة والذكاء والمقارنة والمعرفة الكبيرة والخبرة الدقيقة بالروايات وحملتها حتى قال فيه الإمام أحمد: ((كان ابن معين أعلمنا بالرجال)) (3) وقال فيه أيضا: "هاهنا رجل خلقه الله لهذا الشأن، يُظْهر كذب الكذابين (4) .   (1) تاريخ بغداد 12/353 والمجروحين 1/23. (2) تاريخ بغداد 14/184، وانظر أيضا تقدمة المعرفة، ص 316. (3) تذكرة الحفاظ 1/430 وتهذيب التهذيب 11/284. (4) تاريخ بغداد 14/180. وسير أعلام النبلاء 11/80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وسماه صاحب الرسالة المستطرفة: "الحافظ المشهور سيد الحفاظ وملكهم وإمام الجرح والتعديل" (1) . وهذه أمثلة على إمامته في علم الرجال ومعرفته الدقيقة بأحوالهم وبأسمائهم وأنسابهم فعن عباس بن محمد أن يحيى بن معين كان يقول: "إسماعيل بن أبان الغنوي كذاب لا يكتب حديثه، وإسماعيل بن أبان الورّاق ثقة". (2) فتراه يفرق بين راويين يشتركان في الاسم واسم الأب ولا يصدر هذا التفريق إلا بفضل معرفة دقيقة لأحوال الرواة وأسمائهم وأنسابهم. ومما يضاهي المثال السابق أنَّ مِنْ رواة الحديث راويين يقال لكل واحد منهما: إسماعيل بن مسلم وهما معا بصريان، وكان أحدهما ثقة، والآخر متروك الحديث، فقد قال عثمان بن سعيد الدارمي: "سألت يحيى بن معين عن إسماعيل بن مسلم المكي - وكان قد نزل مكة ونسب إليها- فقال: ليس بشيء، قلت: فإسماعيل بن مسلم العبدي؟ فقال: ثقة" (3) . - صرامته وعدم محاباته في الجرح والتعديل: لقد برهن النقاد المتتبعون لأحوال الرواة عن نزاهة وتجرد كبيرين، وتخلوا عن الأهواء والشهوات والمحاباة، فهذا يحيى بن معين ينعت عبيد بن إسحاق العطار بأنه كَذَّاب. وكان صديقا له، وحين سأله عبد الخالق بن منصور عن علي بن قرين قال له: كذاب، فقال له: يا أبا زكريا إنه ليذكر أنه   (1) الرسالة المستطرفة 129. (2) الكفاية 371. (3) الكفاية، 372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 كثير التعاهد لكم، فرد قائلا: صدق إنه ليكثر التعاهد لنا، ولكني أستحي من الله أن أقول إلا الحق (1) . إن كمال معرفة ابن معين بنقد الرواة، وسعة حفظه وتبحره في هذا الشأن مع ما صاحب ذلك من صرامة في إصدار الحكم على الرواة تعديلا وتجريحا قد أثار الفزع والخوف لدى رواة الأحاديث النبوية، وأرعب قلوبهم. قال هارون بن معروف: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام، فكنت أول مَنْ بَكَّر إليه، فسألته أن يملي علي شيئا، فأخذ الكتاب يملي، فإذا بإنسان يدق الباب، فقال الشيخ: من هذا؟ قال: أحمد بن حنبل، فأُذِنَ له والشيخ على حالته، والكتاب في يده لا يتحرك، فإذا بآخر، فذُكر أحمد بن الدورقي، وعبد الله بن الرومي، وزهير بن حرب، وكلهم يدخل والشيخ على حالته، فإذا بآخر يدقُّ الباب، قال الشيخ من هذا؟ قال: يحيى بن معين، فرأيت الشيخ ارتعدت يده، ثم يسقط الكتاب من يده (2) . وعن يحيى بن معين قال: لما قدم عبد الوهاب بن عطاء أتيته فكتبت عنه، فبينما أنا عنده إذ أتاه كتاب من أهله من البصرة فقرأه وأجابهم، فرأيته كتب على ظهره: وقد قدمت بغداد وقبلني يحيى بن معين والحمد لله رب العالمين (3) . - مؤلفاته في علم الرجال: إن معظم آثار ابن معين هي في ميدان الجرح والتعديل وعلل الأحاديث   (1) تاريخ بغداد 12/51. (2) تاريخ بغداد 14/181 والتهذيب 11/284. (3) تاريخ بغداد 14/181 والتهذيب 11/184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وما يتعلق بهما، رواها تلامذته، وأتت بأسماء مختلفة منها: *كتاب التاريخ (1) : رواية عباس الدوري عن ابن معين. * معرفة الرجال: رواية أحمد بن القاسم بن محرز عنه. * سؤالات ابن الجنيد ليحيى بن معين في الرجال. * تاريخ الدارمي عن ابن معين في الرجال. * الضعفاء: ذكره له الذهبي في مقدمة كتابه المغني في الضعفاء (2) ، والسخاوي في الإعلان بالتوبيخ (3) . وقد ذكر الدكتور فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي (4) أن من آثار ابن معين كتاب "المجروحين" وذكر عدة مراكز لنسخ مخطوطة منه.   (1) الرسالة المستطرفة 129. وانظر مقدمة المحقق الأستاذ أحمد محمد نور سيف لكتاب التاريخ، 1/61. (2) ج 1 ص 4. (3) ص 109. (4) ج 1 ص 292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 قواعد الجرح والتعديل إن الكلام في الرواة تعديلاً وتجريحاً ذو شأن كبير، فإن من نتائجه قبول الحديث أو رده، وقبول الحديث معناه قبول ما يفيده من تحليل أو تحريم، أو أمر أو نهي، أو ترغيب أو ترهيب، وإدخال ذلك كله في دائرة الشرع، ثم إن جرح الرواة جرح لا يندمل ويبقى سبة مدى الدهر، فكان لزاماً أن يحاط التعديل والتجريح بسياج من الضوابط والقواعد والآداب تقيه من الزلل والشطط والمحاباة والمغالاة، وتمنع أن يميل صاحبه تأثراً بالحب أو البغض كالصداقة أو القرابة بين الأفراد، أو التنافس والتباغض بين الأقوام. وإن لهذه القواعد والآداب آثارا كبيرة في مجالات الرواية والشهادة وتقويم الرجال، فإذا كان الكلام في الرواة أو الشهود منضبطاً بتلك القواعد ومتقيدا بها فإنه يكون مَقْبُولا، وإلا كان من قبيل الكلام المهدر الذي لا يلتفت إليه. من تلك القواعد: 1) الجرح واجب عند الحاجة. أجمع العلماء على أن الجرح ليس بالغيبة المحرمة، بل هو نصيحة يُعرف بها الحق من الباطل ونوع من التدين، وأما تركه مع العلم بخطورته فإثم وخيانة للشرع وأهله. قال الإمام مسلم ((وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل، أو تحريم، أو أمر، أو نهي، أو ترغيب، أو ترهيب، فإذا كان الراوي ليس لها بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه مَنْ قد عرفه، ولم يبين لغيره مِمَّنْ جَهِلَ معرفته، كان آثما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 بفعله ذلك، غاشا لعوام المسلمين.)) (1) وقال الإمام الذهبي في حديث: ((من يحمل رايتك يوم القيامة؟ قال: الذي حملها في الدنيا: علي)) : وقد رواه ابن مردويه من طرق في أمثاله، وما بَيَّنَ بطلانها، إن هذه لخيانة وقلّة وَرَع. (2) وقال أيضا: ((كلام الناقد الورع في الضعفاء من النصح لدين الله، والذَّبَّ عن السنة.)) (3) ولكن العلماء لم يجوزوه مطلقا، وإنما ربطوه بالحاجة الداعية إليه، ولذلك اشترطوا فيه حسن النية وأن يكون خالصا لله تعالى، وكل ما كان بسبب عداوة أو حسد أو تفكه بأعراض الناس أو جريان مع الهوى أو غير ذلك من حظوظ النفس فإثم محرم وإن حصلت به المصلحة بعد ذلك. قال الإمام الشافعي: "من أبغض الرجل لأنه مِنْ بني فلان، فهو متعصب مردود الشهادة". 2) لا يجوز الجرح بما فوق الحاجة. إذا كان جرح الرواة جائزا دفعا للاعتزاز بهم، بل واجبا للحاجة وضرورة شرعية، فإنه مع ذلك لا يجوز إذا كان زائدا عن الحاجة فمن أمكنه الجرح بالإشارة المفهمة أو بأدنى تصريح لا تجوز له الزيادة على ذلك، فالأمور المرخص بها للحاجة لا يُرتقى فيها إلى زائد على ما يحصل به الغرض 3) لا يجوز نقل الجرح فقط فيمن وُجِدَ فيه الجرح والتعديل. التعديل والتجريح شهادة من الناقد يلزمهما الصدق والتحري والإنصاف، فلا يجوز أن يصدر تعديل أو تجريح يحكمهما الهوى أو المحاباة   (1) مقدمة صحيح مسلم 1/28. (2) ترتيب الموضوعات الكبرى ص 187. (3) سير أعلام النبلاء 3/228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ونحو ذلك، فلا يحل للناقد أن ينقل الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل كلاهما فإن ذلك ظلم له: قال الإمام ابن سيرين (110 هـ) : "ظلمت أخاك إذا ذكرت مساوئه ولم تذكر محاسنه" (1) . وقال الإمام الذهبي في ترجمة أبان بن يزيد العطار: "قد أورده العلامة ابن الجوزي في "الضعفاء". ولم يذكر فيه أقوال مَنْ وثَّقه، وهذا من عيوب كتابه يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق" (2) . 4) لا يقبل الجرح والتعديل ممن ليست له معرفة بأسبابهما. اتفق العلماء على عدم قبول الكلام في الرواة الصادر عمن يجهل أسباب الجرح والتزكية، وقال تاج الدين السبكي: "من لا يكون عالما بأسبابهما -أي الجرح والتعديل- لا يقبلان منه لا بإطلاق ولا بتقييد" (3) . وقال الحافظ ابن حجر: "وينبغي ألاَّ يقبل الجرح والتعديل إلا من عدل متيقظ، فلا يقبل جرح من أفرط فيه فجرح بما لا يقتضيه رد حديث المحدث، كما لا يقبل تزكية من أخذ بمجرد الظاهر فأطلق التزكية" (4) . 5) لا يعدل ويجرح إلا من كان عدلا غير مجروح. لا يقبل الجرح والتعديل ممن هو مجروح ساقط العدالة، ففي الحديث: "ألا لا تجوز شهادة الخائن ولا الخائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا الموقوف على حد". (5)   (1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب كما نسبه إليه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 9/275. (2) ميزان الاعتدال 1/9. (3) انظر جمع الجوامع 2/112. (4) شرح نخبة الفكر ص 41. (5) ابن ماجه كتاب الأحكام باب من لا تجوز شهادته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 6) التعديل مقبول من غير ذكر سببه. هذا على المذهب الصحيح المشهور كما يقول ابن الصلاح، (1) لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها، فإن ذلك يُحْوِج المعدل إلى أن يقول: لم يفعل كذا لم يرتكب كذا، فيعدد جميع ما يُفَسَّقُ بفعله أو تركه، وذلك شاق جدا. 7) لا يقبل الجرح إلا مفسرا مبين السبب (2) . والسبب في ذلك يرجع إلى أنه لا يصعب ذكره إذ يجرح الراوي، بالمجرح الواحد. فالراوي قد يكون عدلا، إلا أنه غير متقن مثلا بسبب سوء حفظ أو كثرة غفلة" فيُجرّح بسبب ذلك. ولا يقبل الجرح إلا مفسرا أيضا لاختلاف الناس فيما يجرح وما لا يجرح. فقد يتكلم بعضهم في الرواة بما لا يوجب الرد تأويلا أو جهلا، فيطلق جرحا مردودا لا يثبت اعتقادا منه أنه مجرح، أو تشدداً منه بحيث يَغْمِز الراوي بالغلطتين والثلاث. (3) فلا بد إذاً من بيان سبب الجرح ليُنظر فيه أهو جائز مقبول أم لا؟. 8) لا يقبل التعديل على الإبهام. التعديل على الإبهام هو أن يقول القائل: حدثني "الثقة"، أو: "من لا   (1) انظر علوم الحديث ص 106. (2) هذا عند تعارض الجرح والتعديل فلابد أن يكون الجرح مفسراً على الراجح كما ذكر الباحث، أمّا إذا خلا المجروح من التعديل، فيقبل الجرح وإن لم يفسّر انظر نزهة النظر/193 وعلوم الحديث لابن الصلاح/106-107 (اللجنة العلمية) . (3) انظر تقسيم الإمام الذهبي للنقاد الذين تكلموا في الرواة وذكره لقسم متعنت في الجرح متشدد في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 أتهم"، من غير أن يُسَمِّيه، وقد وقع ذلك عند العديد من الأئمة كمالك في الموطأ، والشافعي. (1) هذا التعديل مردود إذا لم يصدر عن إمام من النقاد المجتهدين كمالك والشافعي وأحمد، لأن من أُبْهم وعُدِّل فربما لو ذكر بما يُعرف به كان مِمَّن جَرَّحه غيرُه بجرح قادح، لذلك فإن عدم تسميته سبب في إثارة الشك والريبة حوله، وقد توجب التوقف في قبول حديثه. 9) ليس كل من تُكُلِّم فيه بمجروح إن مجرد الكلام في الرجل لا يعني أنه مجروح ساقط العدالة، مردود الرواية أو الشهادة، ولو اعتبرنا ذلك لذهب معظم السنة، إذ لم يسلم من كلام الناس إلا من عصمه الله، وما سلم فاضل من طاعن، ولذلك خُرِّج في الصحيحين لخلق ممن تُكُلِّم فيهم منهم جعفر بن سليمان الضبعي، والحارث ابن عبد الله الإيادي، وخالد بن مخلد القطواني وغيرهم. 10) لا يقبل جرح الأقران إلا ببينة وحجة. امتنع علماء الجرح والتعديل من قبول كلام الأقران بعضهم في بعض، واحتاطوا في تقديم الجرح على التعديل فيما دار بينهم من قدح أو خلاف مذهبي أو غير ذلك. وقد عقد الحافظ ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" بابا لكلام العلماء المتعاصرين بعضهم في بعض (2) .ورأى أن أهل العلم لا يقبل الجرح فيهم إلا ببيان واضح فإذا انضم إلى ذلك عداوة فهو أولى بعدم القبول.   (1) انظر مثلا الرسالة ص 448-450. (2) جامع بيان العلم وفضله 2/150 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 11) الجرح (1) مقدم على التعديل ولو كان المعدلون أكثر. 12) لا يجوز جَرْحُ مَنْ لا يُحتاج إلى جرحه. 13) رواية العدل ليست تعديلا لمن روى عنه. 14) عدم العمل بالحديث ليس تجريحا لمن روي عنه.   (1) ولابد من تقييد ذلك "بالجرح المفسّر"،كما تقدم في التعليق على القاعدة رقم (7) . (اللجنة العلمية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 آثار علم الجرح والتعديل : -حفظ السنة النبوية بعيدة عن التغيير والتبديل، سليمة من التزوير والتحوير، ولتكون حجة الله على خلقه ملزمة قاطعة، لا عذر لهم بتجاهلها والتنكر لها. قال الإمام يحيى بن معين: "لولا الجهابذة لكثرت السرقة والزيوف في رواية الشريعة" (1) . وقال الحاكم: "فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له وكثرة مواظبتهم على حفظه لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث وقلب الإسناد، فإن الأخبار إذا تَعَرَّتْ عن وجود الأسانيد فيها كانت بُتراً" (2) . - جمع أسماء رواة الأحاديث والآثار، وبيان أحوالهم، تعديلا وتجريحا رغم كثرة عددهم، وتباين أحوالهم في كتب خاصة بهم. - تبيين أسباب تجريح الرواة، وهي التي تسمى أسباب اختلال العدالة والضبط، وفي المقابل بُينت خصال تشترط في الراوي الثقة. -إمكان الاطلاع على تلبيس التدليس والوقوف على حقيقة المراد من العنعنة بعد التأكد من سماع الراوي عَمَّنْ يروي عنه أو عدمه. -معرفة سنة اختلاط الراوي ليحتج بمروياته قبل الاختلاط، وتطرح التي كانت بعد الاختلاط. -معرفة تاريخ ولادة الرواة وتاريخ وفاتهم، وبذلك يستدل العلماء على   (1) معرفة السنن والآثار ص 5. (2) معرفة علوم الحديث للحاكم ص 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 كذب الكاذب في روايته عمن لم يدركه (1) . - معرفة بلدانهم وأوطانهم، وفائدة ذلك الأمن من تداخل الاسمين إذا اتفقا لكن افترقا بالنسبة. - إحصاء ما لكل صحابي من الرواة من التابعين أو ما يرويه من الأحاديث، وما لكل تابعي من الرواة، حتى إذا ادَّعى مُدَّعٍ روايةَ حديث ما كشفوا أمره، وبيَّنوا صدقه أو كذبه. - وفي علم الرجال إبراز لمنهج المحدثين، وبيان أنهم لا يخبطون في دين الله خبط عشواء بل كانوا يحكمون الخطة ويحددون المنهج، ثم يخطون إلى أهدافهم بخطى ثابتة وعقل واع، فإذا بهم يدركون الغاية من وجهها الصحيح. - وفيه إشادة بعبقرية تلك العقول المبدعة التي عرفت كيف تضع المنهج الصحيح لإدراك غاية صحيحة؛ ولذلك فإن هذا المنهج قد تمَّ اعتماده في علم التفسير والقراءات (2) وعلم اللغة وعلم التاريخ (3) . وحق لمن ينادي اليوم بضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وتمحيصه ونفي ما وقع فيه من الأكاذيب، عنه، أن يستند إلى منهج نقاد الحديث، ويخطو خطواتهم، ويسلك سبيلهم ليثبت الحقائق والوقائع مهما كانت طبيعتها، ويبين زيف الأكاذيب والتضليلات. - تكوين رأي عام واع بمكانة السنة النبوية، ومدرك لخطورة تحريفها   (1) نزهة النظر ص: 40. (2) التفسير ورجاله: محمد الفاضل بن عاشور ص: 39 وما بعدها. (3) انظر كتاب المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل لشيخنا الدكتور فاروق حمادة ص 100 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ساهم الناس إلى جانب العلماء في الذود عن السنة ومقاومة الوضع والوضّاعين. وبناء على ذلك فإن من ثمراته أيضا الرد على حملات التشكيك في السنّة التي تقودها الدوائر الاستشراقية، وعلى الشبهات التي يروجها الأدعياء من بني جلدتنا الذين رضعوا من ألبان أعدائنا فأصبحوا يتكلمون، بألسنتهم ويضربون بسيوفهم. وخلاصة القول: إنه حين نتأمل مليًّا في علم الرجال، وما بذله المحدثون النقاد من جهود طيبة من تجريح وتعديل وتتبع دقيق لأحوال الرواة، ووضع لألوان الكتب وأنواع المصنفات، نوقن إيقانا ثابتا أن الله تعالى تولى حفظ الحديث النبوي بمثل ما تولَّى به كتابه العزيز، وأن شريعة الله كما ذكر ابن الوزير في "الروض الباسم" لا تزال محفوظة، وسنة رسوله لا تبرح بحمد الله محروسة يقوم على ذلك رجال صادقون وَفَّوا بما عاهدوا الله، وانقطعوا لخدمة هذا الدين، إذ حققوا هدفهم المنشود: وهو معرفة أحوال الرواة تعديلا وتجريحا، وتمّ التمييز بين الثقات والضعفاء منهم، وذلك طريق إلى معرفة الصحيح والسقيم من الأحاديث؛ قال الإمام ابن حبان: "إذ لا يتهيأ معرفة السقيم من الصحيح، ولا استخراج الدليل من الصريح، إلا بمعرفة ضعفاء المحدثين وثقاتهم" (1) .   (1) كتاب المجروحين 1/4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 كتب علم الجرح والتعديل وكتب علم الرجال وأثرهما في حفظ السنة مدخل ... كتب علم الجرح والتعديل وكتب علم الرجال وأثرهما في حفظ السنة كتب الرجال ثمرة من ثمار جهود علماء الجرح والتعديل للمحافظة على السنن النبوية الشريفة، وأعظم دليل على اهتمام المسلمين بها، فهي إلى جانب القرآن الكريم أعظم مقومات الأمة وأساس وجودها الحر الكريم. إن المؤلفات في هذا الميدان كثيرة جداً؛ ولذلك فإن الناظر في عناوينها فقط ليندهش أمام هذه الكثرة الوافرة. ويقف مندهشا أيضا أمام ما فيها من ضبط وتدقيق في التعريف بالرواة وبأحوالهم وغير ذلك. لقد وضعت هذه المؤلفات في تاريخ الفكر الإسلامي والإنساني مسالك للنظر وقواعد للنقد ومثالا للنقد العلمي النزيه. ولم تكن أبدا مجرد حشد لأسماء الأعلام من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ... و"إنما هو اتجاه يؤكد أن كل فكرة إنما يحملها رجال، وأن هذه الفكرة تتكوَّن وفقا لاتجاهات الرجال الذين يحملونها. (1) يمكن أن نجمل كتب الرجال في قسمين كبيرين: قسم مباشر في أحوال الرواة، وقسم غير مباشر: فأما الأول ففيه أنواع ثلاثة: أ- كتب الثقات، وهي خاصة بأسماء الثقات من الرواة، ككتاب "الثقات والمتثبتون" للإمام علي بن المديني، و"الثقات" لأحمد بن عبد الله بن صالح البستي (261 ?) و"الثقات" لابن شاهين، و"الثقات" لابن حبان. ب- كتب الضعفاء والمتروكين، وهي خاصة بأسماء المجروحين لبيان   (1) مصطلح الحديث وأثره على الدرس اللغوي عند العرب للدكتور شرف الدين علي الراجحي ص 284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أحوالهم، ككتاب "الضعفاء والمتروكين" للإمام يحيى بن سعيد القطان (1) ، وكتاب "الضعفاء" لأبي الحسن المدائني (225?) ، و"الضعفاء" ليحيى بن معين، و"الضعفاء" لعلي بن المديني، و"الضعفاء والمتروكين" لأبي زرعة الرازي، و"الضعفاء الكبير" للإمام البخاري، و"الضعفاء" للإمام الدارقطني ... ج- كتب جامعة بين الثقات والضعفاء، منها: -كتب التواريخ، أي تواريخ المحدثين، كـ"التاريخ" للإمام عبد الله بن المبارك، و"التاريخ" ليحيى بن معين، و"التاريخ" لابن المديني، و"التاريخ" لأحمد ابن حنبل، و"التاريخ الكبير" للبخاري، و"المعرفة والتاريخ" ليعقوب الفسوي، و"التاريخ الكبير" لابن أبي خيثمة ... -كتب الجرح والتعديل ومعرفة الرجال، كـ"معرفة الرجال" ليحيى بن معين، و"العلل والرجال" لأحمد بن حنبل، و"الجرح والتعديل" للجوزجاني، و"الجرح والتعديل" لأحمد بن صالح العجلي، و"الجرح والتعديل" للعقيلي، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم الرازي، ... هذا بالإضافة إلى كتب أخرى أفردت لبيان أحوال رواة مخصوصين ككتب المدلسين، وكتب المختلطين، وكتب المعمرين ... وأما القسم الثاني، فعبارة عن كتب مساعدة لا تعنى ببيان أحوال الرواة مباشرة، إنما تعنى بطبقات الرواة وأسمائهم وأنسابهم وكناهم وغير ذلك مما يبيّن شخص الراوي لا حاله، ومن هذه الكتب: -كتب الطبقات، كـ"طبقات ابن سعد"، و"طبقات ابن خياط".   (1) ذكره له الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، 9/183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 -وكتب الإخوة والأخوات من الرواة والعلماء، وكتب الأقران، وكتب رواية الأكابر عن الأصاغر، وكتب رواية الآباء عن الأبناء، ورواية الأبناء عن الآباء، وكتب المبهمات، وكتب من ذكر بنعوت متعددة. -ومنها كتب الأسماء والكنى، والمتفق والمفترق، والمؤتلف والمختلف، إلى غير ذلك من أنواع الدراسات والأبحاث المبينة لشخص الراوي، (1) وهو أمر ينم عن ضبط وتدقيق نقاد الحديث منذ القرن الأول، وعن شمول أبحاثهم لكل ما يتوصل به إلى معرفة شخص الراوي وتحديده من جميع النواحي الزمانية والمكانية والاسمية ...   (1) انظر معرفة علوم الحديث ص: 152-183 ... ومقدمة ابن الصلاح والرسالة المستطرفة ص: 114-120-122 ... وكتاب الحطة في ذكر الصحاح الستة للسيد حسن القنوجي ص: 91-92-93 ... وكتاب المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل لشيخنا الدكتور فاروق حمادة حفظه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 مصادر ومراجع ... المصادر والمراجع 1 ـ الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، للإمام بدر الدين الزركشي، تحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني. 2 ـ الأجوبة الفاضلة عن الأسئلة العشرة الكاملة، للشيخ محمد عبد الحي اللكنوي، تحقيق الأستاذ عبد الفتاح أبي غدة، الطبعة 3، 1414هـ /1993م، مكتبة دار السلام، القاهرة. 3 ـ الإسناد من الدين للشيخ عبد الفتاح أبي غدة، الطبعة الأولى. 4 ـ التاريخ الكبير للإمام البخاري، الطبعة الأولى. 5 ـ التاريخ للإمام يحيى بن معين، دراسة وتحقيق الأستاذ الدكتور أحمد محمد نور سيف منشورات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي – جامعة الملك عبد العزيز، كلية الشريعة، مكة المكرمة. 6 ـ التفسير ورجاله لمحمد الفاضل بن عاشور. ط 2 / 1972م، دار الكتب الشرقية - تونس. 7 ـ التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر، تحقيق مجموعة من الأساتذة. طبعة وزارة الأوقاف المغربية. 8 ـ الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي، ط 1 / دائرة المعارف العثمانية، 1271 هـ/1952. 9- الحطة في ذكر الصحاح الستة، السيد صديق حسن القنوجي 1284 هـ-1307 هـ. الطبعة الأولى 1905 هـ-1985م، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 10- الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة، لمحمد بن جعفر الكتاني، بعناية محمد المنتصر بن محمد الزمزمي بن محمد بن جعفر الكتاني. الطبعة الثالثة 1383-1964، مطبعة دار الفكر ـ دمشق. 11- الكشاف للإمام جار الله الزمخشري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 12- الكفاية للخطيب البغدادي، منشورات المكتبة العلمية بالمدينة المنورة. 13- المحدث الفاصل للحسن بن خلاد الرامهرمزي، دراسة وتحقيق د. محمد عجاج الخطيب، ط 1 / 1391-1971 دار الفكر، بيروت. 14- المدخل في أصول الحديث، للحاكم النيسابوري نشر المطبعة العلمية بعناية محمد راغب الطباخ، 1351-1932. 15- المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل، للدكتور فاروق حمادة، ط. 1/1402-1982، مكتبة المعارف، الرباط. 16- الموطأ للإمام مالك بن أنس، تحقيق وترقيم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، دار إحياء الكتب العربية، بيروت، لبنان. 17- تاريخ التراث العربي، لفؤاد سزكين، نقله إلى العربية محمد فهمي جحازي، ود. فهمي أبو الفضل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر. 18- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، الطبعة 1 / 1349 هـ-1931م، مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر. 19- تذكرة الحفاظ للإمام الذهبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 20- ترتيب الموضوعات لابن الجوزي، تأليف الحافظ الذهبي، الجزء الأول، تحقيق د. عبد البصير خليفة حسن، الطبعة الأولى 1406-1986، دار الطباعة المحمدية، القاهرة - مصر. 21- تقدمة المعرفة لابن أبي حاتم الرازي، ط 1 / دائرة المعارف العثمانية 1271 ?/1952. 22- تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني، ط. 1، 1325 ?-، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد الدكن، الهند. 23- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، لابن عبد البر النمري. 1398-1978، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان. 24- جامع الترمذي للإمام الترمذي، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر وآخرين. دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان. 25- ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل، للإمام شمس الدين الذهبي، تحقيق الأستاذ عبد الفتاح أبي غدة، 26- سنن ابن ماجه، تحقيق وترقيم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1 دار الفكر، بيروت. 27- سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي، تحقيق مجموعة من الأساتذة، تقديم د. بشار عواد معروف. ط 3 / 1405-1985، مؤسسة الرسالة ـ بيروت. شرح نخبة الفكر، للحافظ ابن حجر. طبعة 1352 هـ-1934م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي. 28- شرح نخبة الفكر، للحافظ ابن حجر. طبعة 1352هـ ــ 1934م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 29- شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي، تحقيق د. محمد سعيد خطيب أوغلي، دار إحياء السنة النبوية، منشورات كلية الإلهيات، جامعة أنقرة. 30- صحيح مسلم، تحقيق وترقيم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 31- طبقات ابن سعد بعناية إحسان عباس – دار صادر – بيروت. 32- علوم الحديث لابن الصلاح، حققه الدكتور نور الدين عتر، 1401هـ-1981م، المكتبة العلمية ـ بيروت. 33- فهرست ما رواه عن شيوخه، لابن خير الإشبيلي، تحقيق فرنسشكه قدارة زيدين وتلميذه خليان ربارة طرغوه، طبعة منقولة عن طبعة قومش بسرقسطة عام 1893م، ط 3، 1417 ?/1997، الناشر مكتبة الخانجي القاهرة. 34- كتاب الضعفاء والمتروكين للإمام النسائي، تحقيق الأستاذين بوران الضناوي وكمال الحوت، ط 1 / 1405-1985، دار الفكر، بيروت. 35- كتاب المجروحين، للإمام محمد بن حبان البستي، تحقيق محمد إبراهيم زايد، دار المعرفة - بيروت. 36- مصطلح الحديث وأثره على الدرس اللغوي عند العرب، للدكتور شرف الدين علي الراجحي. 37- معرفة علوم الحديث، لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق د. السيد معظم حسين، ط. 3، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 38- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للإمام الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي. الطبعة الأولى 1382-1963، الناشر دار المعرفة ـ بيروت. 39- نزهة النظر في شرح نخبة الفكر، للإمام ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الكريم الفضيلي. ط 1 / 1418-1998، المكتبة العصرية صيدا - بيروت، وطبعة 1352-1934 مطبعة مصطفى البابي الحلبي. 40- وفيات الأعيان، لابن خلكان، تحقيق إحسان عباس. 1972، دار صادر - بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58