الكتاب: عقيدة التوحيد في القرآن الكريم المؤلف: محمد أحمد محمد عبد القادر خليل ملكاوي الناشر: مكتبة دار الزمان الطبعة: الأولى 1405هـ - 1985م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- عقيدة التوحيد في القرآن الكريم محمد خليل ملكاوي الكتاب: عقيدة التوحيد في القرآن الكريم المؤلف: محمد أحمد محمد عبد القادر خليل ملكاوي الناشر: مكتبة دار الزمان الطبعة: الأولى 1405هـ - 1985م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ال مقدمة الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن عقيدة التوحيد هي العقيدة التي بعث الله بها رسله، وأنزل بها كتبه من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان كل رسول يدعو قومه إلى التوحيد الخالص بأقرب الطرق وأيسرها على أفهام الناس، بحيث كان القوم كلهم يفهمون ما يريده رسولهم منهم بكل وضوح ويسر. حتى جاء آخر الرسل ونبي الإنسانية كافة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل الله عليه القرآن هدى وشفاء ورحمة للمؤمنين، وداعيا إلى عقيدة التوحيد متبعًا في ذلك منهجًا خاصًّا يناسب جميع الناس ومختلف الفئات. وكان الصحابة رضي الله عنهم يفهمون هذه العقيدة من القرآن الكريم مباشرة، ومن النبي صلى الله عليه وسلم دون أن ينهجوا طرق الجدل العقيم الذي سلكته طوائف من بعدهم ودون أن يعرفوا شيئا من فلسفة اليونان. فلما كانت حركة الترجمة للكتب اليونانية وترجمت كتب الفلاسفة وأبحاثهم في الإلهيات تأثر كثير من المدافعين عن عقيدة الإسلام ضد الزنادقة بالفلاسفة ظانين أن طرقهم الجدلية طرق صحيحة ولا يكون الانتصار على الخصم إلا بسلوكهم هذه الطرق، مما أدى إلى تعقيد مسائل العقيدة وخروجها عن طابعها السهل الواضح الذي تلقاه الصحابة من القرآن والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وقد فكرت طويلًا في الموضوع الذي أختاره لنيل درجة الماجستير في العقيدة إلا أنني لما كانت طريقة القرآن في تقريره لعقيدة التوحيد ومحاربة الشرك قد بهرتني وأنا أطالع آيات الكتاب الكريم لبساطتها ووضوحها وملاءمتها للفطرة، ولم أجد فيها ذلك التعقيد الذي يشمئز منه الدارس لكتب الفلاسفة ومن تأثر بهم من المتكلمين -لما كان الأمر كذلك- رأيت أن يكون عنوان الرسالة: عقيدة التوحيد في القرآن الكريم. هذا وبعد أن انتهيت مع جمع مادة البحث واتضحت لي أكثر مسائلة رأيت من المناسب أن يكون الموضوع مشتملًا على مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة فجاء على الصورة التالية: الباب الأول: العقيدة ومكانتها وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: تعريف العقيدة: وقد عرفت فيه العقيدة لغة وشرعًا. الفصل الثاني: مصدر العقيدة الإسلامية: وقد بينت فيه أن العقيدة الإسلامية عقيدة توفيقية تعتمد على الكتاب والسنة. الفصل الثالث: مميزات العقيدة الإسلامية: وقد بينت فيه ما تمتاز به العقيدة الإسلامية من مميزات على غيرها من العقائد. الفصل الرابع: أثر العقيدة الإسلامية في سلوك الفرد والمجتمع وجاء الكلام فيه بخمس نقاط: أ- سلطان العقيدة على النفوس. ب- حالة العرب قبل الإسلام. جـ- أثر العقيدة في سلوك الفرد. د- أثر العقيدة في سلوك المجتمع. هـ- أمثلة لآثار العقيدة. الفصل الخامس: ثبات عقيدة التوحيد وأنها أصل الرسالات: وفيه أربع نقاط: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 أ- مذاهب التطوريين والدر عليها. ب- أسباب القول بفكرة التطور. جـ- خطأ التطوريين في منهاجهم الذي سلكوه وأسباب هذا الخطأ. د- الرد الإجمالي على نظرية التطور. الباب الثاني: حقيقة التوحيد وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: وقد بينت فيه معنى كلمات الإله والرب والدين والعبادة. الفصل الثاني: أنواع التوحيد وفي أيها وقع النزاع بين الرسل وأممهم وفيه أربع مسائل: أ- أقسام التوحيد. ب- شبهة المنكرين لهذا التقسيم والرد عليها. جـ- معاني أنواع التوحيد الثلاثة. د- العلاقة بين أنواع التوحيد. الفصل الثالث: الضرورة إلى عقيدة التوحيد، وقد تكلمت فيه عن الحاجة إلى التوحيد في الدنيا والآخرة. الباب الثالث: المنهج القرآني في تقرير عقيدة التوحيد وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: تقرير القرآن للتوحيد بالأدلة الكونية وفيه أربع نقاط: أ- اشتمال الآيات القرآنية على دليلي الخلق والعناية. ب- آية السماوات والأرض. جـ- آية الشمس والقمر والليل والنهار. د- آية الرياح والمطر والنبات. الفصل الثاني: تقرير القرآن للتوحيد بضرب الأمثال: والأمثال التي ذكرتها في هذا الفصل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 1- إما أن تكون مضروبة لله ولما يعبد من دونه. 2- وإما أن تكون مضروبة لكلمة التوحيد وكلمة الشرك. 3- وإما أن تكون مضروبة للحق والباطل. 4- وإما أن تكون مضروبة لعجز آلهة المشركين. 5- وإما أن تكون مضروبة لوصف حالة المشرك وحالة الموحد. 6- وإما أن تكون مضروبة لقلب الموحد وقلب المشرك. 7- وإما أن تكون مضروبة لحواس الموحد وحواس المشرك. 8- وإما أن تكون مضروبة لبيان فساد أعمال المشركين. الفصل الثالث: تقرير القرآن للتوحيد بالقصص القرآني وفيه ثلاثة أقسام: القسم الأول: قصص أربعة من أولي العزم من الرسل: هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. القسم الثاني: قصص رسل من غير أولي العزم هم: هود وصالح وشعيب ويونس ويوسف وسليمان عليهم السلام. القسم الثالث: قصتان لغير الرسل من الموحدين وهما قصة أصحاب الكهف وقصة أصحاب الأخدود مع الموحدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الفصل الرابع: تقرير القرآن للتوحيد بالتذكير بنعم الله، والكلام فيه على سبع نعم هي: 1- نعمة الشمس والقمر والليل والنهار. 2- نعمة الأرض والجبال. 3- نعمة البحر. 4- نعمة الرياح والمطر والنبات. 5- نعمة الأنعام. 6- نعمة السمع والبصر. 7- نعمة الأمن. الفصل الخامس: تقرير القرآن للتوحيد بالأدلة العقلية: والكلام فيه بمبحثين: المبحث الأول: الكلام على الأدلة العقلية المتعلقة بالله وفيه خمسة أدلة: 1- دليل الخلق والملك. 2- دليل عدم فساد الكون. 3- دليل نفي الولد عن الله. 4- دليل الرزق. 5- دليل النوائب. المبحث الثاني: الكلام على الأدلة العقلية المتعلقة بالأصنام وفيه دليلان: 1- دليل النقص. 2- دليل العجز. الباب الرابع: مميزات طريقة القرآن الكريم على طريقة المتكلمين والفلاسفة في تقرير عقيدة التوحيد. والكلام فيه بثلاثة فصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الفصل الأول: ميزة طريقة المتكلمين. الفصل الثاني: ميزة طريقة الفلاسفة. الفصل الثالث: ميزة طريقة القرآن الكريم. الخاتمة: وفيها خلاصة البحث. وقد حاولت منذ بداية البحث أن أسير مع النصوص القرآنية حيث سارت دون محاولة للي أعناقها فكنت حريصا على أن أبقى في دائرة النص القرآني مستشهدا لما أقول بالآيات وأقوال المفسرين فيها، لذلك اعتمدت بالدرجة الأولى على أمهات كتب التفسير كالطبري وابن كثير والقرطبي والكشاف والبحر المحيط، كما أنني اعتمدت كثيرًا على كتب العقيدة لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله وغيرها من المراجع مما نجده موضحا في آخر البحث. وأحب أن أشير إلى أنني لا اعلم أن أحدًا سبقني إلى الكتابة في هذا الموضوع على هذا المنهج المبوب وما تحت كل باب من الفصول. كذلك أحب أن أنبه إلى أن المادة التي دونت تحت كل فصل منها ما هو منقول عن العلماء نصا وأشير في الحاشية إلى نفس المرجع الذي أخذت منه، ومنها ما أختصره وأشير إلى المواضع المحذوفة منه بوضع نقط وأذكر بعد نهايته "انتهى بتصرف أو باختصار"، وأذكر في الهامش اسم المرجع الذي نقلت منه، ومنها ما يكون معناه من غيري وأصوغه بلفظي وهذا أعبر عنه في الهامش بكلمة "انظر كذا"، ومنها ما يكون إنشاؤه مني وهذا يبقى بدون إشارة. وأحب أن أشير إلى أنني لم أفهرس للآيات القرآنية لكثرتها واكتفيت بفهرس للمراجع والموضوعات. على أنني لا أبرئ نفسي من النقص والعيوب والأخطاء فأن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وفي الختام أحمد الله تعالى الذي أعانني على إتمام هذا المبحث وأقدم شكري لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان عضو هيئة كبار العلماء بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الذي تكرم بالإشراف على هذا البحث. كما أقدم شكري لكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض حيث أتاحت لي فرصة تقديم هذا البحث لنيل درجة الماجستير، أسأل الله أن يجزي الجميع خير الجزاء وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 العقيدة ومكانتها تمهيد الباب ... تمهيد الباب إن للعقيدة الصحيحة مكانتها العظمى في إصلاح حياة الناس ونشر الطمأنينة والإستقرار في جوانب النفس وفي ربوع الأرض. ولما كانت العقيدة تتعرض دائمًا إلى هجوم مستمر من أعداء الله على مدى الأيام حتى أثرت هذه الهجمات على كثير من الشباب في مختلف أقطار العالم الإسلامي، فأضعفت العقيدة في نفوسهم -وبدا ذلك واضحا في انحراف الشباب إلى الاقتداء بالغرب والارتواء من عقائدهم الفاسدة- اشتمل هذا الباب على فصول خمسة: أولها: عرفت فيه العقيدة لغة وشرعًا. وثانيها: بينت فيه أن العقيدة الإسلامية توقيفية لاعتمادها على الكتاب الكريم والسنة النبوية. وثالثها: وضحت فيه مميزات العقيدة الإسلامية على غيرها من العقائد. ورابعها: بينت فيه أثر العقيدة الإسلامية في سلوك الفرد والمجتمع. وخامسها: بينت فيه أن عقيدة التوحيد ثابتة لا متطورة. وقد مهدت لكل فصل منها عند افتتاحه بمزيد من البيان لمحتوياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 تعريف العقيدة تعريف العقيدة لغة تمهيد ... الفصل الأول: تعريف العقيدة تمهيد اعتمدت في هذا الفصل على كتب اللغة وغيرها من الكتب العلمية لتعريف العقيدة لغة وشرعًا. أ- تعريف العقيدة لغة كلمة العقيدة في اللغة مأخوذة من العقد، وهو نقيض الحل، وهو يدل على الشدة والوثوق، ومنه: عقد الشيء يعقده عقدا وانعقد وتعقد، والمعاقد: هي مواضع العقد، والعقدة: القلادة، والعقد: الخيط ينظم فيه الخرز وجمعه عقود، ويقال: اعتقد الدر والخرز وغيره وغيره: إذا اتخذ منه عقدا، وعقدت الحبل اعقده عقدا وقد انعقد، ومعقد الحبل مثل مجلس، وهو موضع عقده يقال له: عقده، وجمعها عقد، لأنها تمسكه وتوثقه، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد} 1: أي السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن فيها2. هذا هو أصل العقد: وهو أنه نقيض الحل، وهو وصل الشيء بغيره كما تعقد الحبل بالحبل، ثم استعمل في جميع أنواع العقود في المعاني والأجسام3، فمن   1 سورة الفلق آية 4. 2 انظر معجم مقاييس اللغة 4/87 ولسان العرب 3/413. 3 انظر الآية الأولى من سورة المائدة بتفسير القرطبي 6/31 والبحر المحيط 3/409. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 استعمالاته في المعاني أن يقال: عقد العهد واليمين يعقدهما عقدا وعقدهما: أي أكدهما، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُم} 1 وقرئ بالتشديد ومعناه التوكيد والتغليظ كقوله تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 2، ومنه قول الحطيئة: قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا3 فجعلوا العناج والكرب مثلين لتأكيد الوفاء بالعهد4. والمعاقدة: المعاهدة، وفي قراءة ابن عباس: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} 5، وكقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَان} 6، ويجوز أن تقرأ بالتخفيف. ثم أطلق العقد على العهد وجمعه عقود، وهي أوكد العهود، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 7، فإذا قلت: عاقدت فلانا وعقدت عليه، فتأويله: عاهدته وألزمته ذلك باستيثاق. كذلك استعمل العقد في البيع والنكاح وغيره فيقال: عقد البيع وعقد النكاح، وعقدته: أي إبرامه وإحكامه ووجوبه، ومنه: اعتقد الأمر: أي صدقه، واعتقد   1 سورة النساء آية 33. 2 سورة النحل آية 91. 3 العناج خيط أو سير يشد في أسفل الدلو ثم في عروقها أو في إحدى آذانها، فإذا انقطع الحبل أمسك العناج الدلو أن تقع في البئر، والكرب: حبل يشد على عراقي الدلو ثم يثنى ثم يثلث والجمع أكراب. 4 انظر تفسير الطبري 6/27. 5 سورة النساء آية 33. 6 سورة المائدة آية 89. 7 سورة المائدة آية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الأخاء: ثبت، واعتقد كذا: عقدت عليه القلب والضمير، حتى قيل: العقيدة: هي ما يدين الإنسان به1. ومن استعمالاته في الأجسام كأن نقول: اعتقد الشيء: أي صلب، وعقد العسل: أي اشتد، وإذا أطبق الوادي على قوم فأهلهكهم يقال: عقد عليهم، وعقد الحبل أو الخيط: إذا شده. إذن فلفظ العقد أصل وضعه: نقيض الحل، قال في تاج العروس عند لفظ عقد: "والذي صرح به أئمة الاشتقاق: أن أصل العقد نقيض الحل، ثم استعمل في جميع أنواع العقود في البيوعات وغيرها، ثم استعمل في التصميم والاعتقاد الجازم". والمعتقد: مصدر ميمي بمعنى الاعتقاد: أي ما يعتقده الإنسان. بناء على ما تقدم في كلمة عقد واشتقاقها، يتبين لنا أن كلمة العقيدة لغة: فعيلة، من عقد بمعنى معقودة "أي بمعنى اسم المفعول" فهي تطلق لغة على الأمر الذي يعتقده الإنسان ويعقد عليه قلبه وضميره، بحيث يصير عنده حكمًا لا يقبل الشك فيه لدى معتقده، فاعتقد كذا بقلبه: أي صار له عقيدة؛ لأنه لما كان العقد لغة: هو الجمع بين أطراف الشيء، فكأن المعتقد قد جمع أطراف قلبه وعقد ضميره على معتقده فأحكم وثاقه بالأدلة القاطعة لديه والبراهين التي قامت على معتقده حتى يكون لانعقاد القلب عليه أثر ظاهر من الإذعان والخضوع له، فأشبهت العقيدة العهد المشدود والعروة الوثقى لاستقرارها في القلب ورسوخها في الأعماق2.   1 انظر معجم مقاييس اللغة 88/4 والمصباح المنير 2/ 71. 2 انظر المصباح المينر 2/ 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ب - تعريف العقيدة شرعًا والعقيدة شرعًا: هي ما يدين به الإنسان ربه وجمعها عقائد، والعقيدة الإسلامية مجموعة الأمور الدينية التي تجب على المسلم أن يصدق بها قلبه، وتطمئن إليها نفسه، وتكون يقينًا عنده لا يمازجه شك ولا يخالطه ريب، فإن كان فيها ريب أو شك كانت ظنًّا لا عقيدة، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 1، وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه} 2 وقوله تعالى: {إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيه} 3 فالعقيدة إذًا ليست أمورًا عملية، إنما هي الأمور الدينية العلمية التي تجب على المسلم اعتقادها في قلبه لإخبار الله تعالى بها بكتابه أو بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول صاحب لسان العرب: "والعقيدة في الدين ما يقصد به الإعتقاد دون العمل كعقيدة وجود الله وبعثه الرسل وجمعها عقائد"4. وزاد هذا المعنى كذلك إيضاحًا محمود خطاب فقال: "العقيدة هي مثل عليا يؤمن بها الإنسان فيضحي من أجلها بالأموال والنفس؛ لأنها عنده أغلى من الأموال والنفس"5.   1 الحجرات آية 15. 2 سورة البقرة 2. 3 سورة آل عمران 9. 4 لسان العرب 3/413. 5 بين العقيدة والقيادة ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الفصل الثاني: مصدر العقيدة الإسلامية العقيدة الإسلامية من الأمور التوقيفية التي لا يجوز الاجتهاد فيها، لذلك كان السلف الصالح رضي الله عنهم يكتفون بما ورد في القرآن والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، ويوضح ذلك منهج الإمام أحمد رحمه الله في العقائد، كما في رسالته لعبيد الله بن يحيى، فقد روي ابن الجوزي بسنده عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: "كتب أبي إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان: لست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان في كتاب أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود"1. هذا النص يبين لنا أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، التزم في كلامه بالعقائد بهذين الأصلين الجليلين، الكتاب والسنة، فطريقته هي طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين، مبتعدًا عن الجدل والفروض والفلسفات العقيمة، مثبتًا لله تعالى ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص، ولذلك ذم الإمام أحمد رحمه الله علم الكلام والمتكلمين؛ لأنهم يقدمون العقل على النص، ويجعلونه حاكمًا على الكتاب والسنة، فإن كان المنقول -يعني النص- موافقًا لعقولهم قبلوه، وإلا فتحوا باب التأويل لكي يجمعوا بين النقل والعقل، بدعوى أن العقل أصل يرجع إليه في كل نقل يتعرضون له، حتى جانبوا الصواب وحادوا عن منهج القرآن لمناهج فلاسفة اليونان.   1 أصول مذهب الإمام أحمد د. عبد الله التركي ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 إذن فالعقيدة عند السلف رحمهم الله تعالى -توقيفية، لا مجال لآراء البشر فيها، وكثير من نصوصها بكلمة "قل" التلقينية مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 1. وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌِ} 2. وقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 3. وقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} 4، وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 5، وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} 6، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} 7، وقوله   1 سورة الإخلاص. 2 سورة الكافرون. 3 سورة البقرة آية 136. 4 سورة الأنعام آية 14- 16. 5 سورة الأنعام آية 19. 6 سورة الأنعام آية 56- 58. 7 سورة الأنعام آية 63- 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 2. وهكذا نجد أن مسائل العقيدة الإسلامية توقيفية، لا تؤخذ من آراء البشر لورود أكثرها في القرآن بكلمة "قل" التلقينية.   1 سورة الأنعام آية 71. 2 سورة الإسراء آية 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 مزايا العقيدة الإسلامية مدخل ... الفصل الثالث: مزايا العقيدة الإسلامية سبق أن بينا أن العقيدة الإسلامية عقيدة توقيفية بمعنى أنها موحى بها من عند الله تعاالى، ولم تكن نتاج عقل بشري، ولا تستمد من غير الوحي، وذلك تمييز لها عن الفلسفة التي ينشئها الفكر البشري حول الإله، وتمييز لها كذلك عن المعتقدات الوثنية التي تنشئها المشاعر والأخيلة والأوهام والتصورات البشرية. وهذه العقيدة الإسلامية هي العقيدة الوحيدة التي سلم أصلها من التحريف، كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} 1. بينما العقائد السماوية التي جاءت بها الديانات السابقة، قد دخلها التحريف في كل صورة من صورها، وقد أضيفت إلى أصول الكتب المنزلة شروح وتأويلات وزيادات ومعلومات بشرية، وأدمجت في صلبها حتى صار الحق فيها باطلًا، وبقي الإسلام وحده محفوظ الأصول، ولم يشب نبعه الأصيل كدر، ولم يلبس فيه الحق بالباطل، قال تعالى عن أهل الكتاب: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2، وقال تعالى عنهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} 3. وبما أن العقيدة الإسلامية امتازت عن غيرها من العقائد بالميزة الكبرى، حيث   1 سورة الحجرات آية 9. 2 سورة البقرة آية 75. 3 سورة البقرة آية 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 إن أصولها سلمت من التحريف وأن مسائلها توقيفية، لذلك كان لها مميزات أخرى نجملها فيما يلي1:-   1 انظر الإيمان والحياة للدكتور يوسف القرضاوي ص 47- ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 1- أنها عقيدة واضحة سهلة بعيدة عن تعقيدات المذاهب الأخرى، وليس فيها أشياء غامضة ولا جوانب محتكرة لرجال الدين كما في بعض العقائد جوانب مقصور حق فهمها على رجال الدين، وتنادي بالمبدأ القائل: "اعتقد وأنت أعمى"1. إن العقيدة الإسلامية يستوى في فهمها وحق العلم بها كل مسلم، سواء أكان متعلمًا أو أميًّا؛ وذلك لأنها خالية من تعقيدات المذاهب الأخرى، كالتثليث والمثنوية والبرهمية وغيرها، فهي تتلخص بأنه يجب على كل مسلم أن يعتقد أن لهذا الكون خالقًا أحكم صنعه وقدر كل شيء فيه تقديرًا، وهذا الخالق هو الإله الواحد الذي ليس له شريك ولا شبيه ولا صاحب ولا ولد, ويتصف بجميع صفات الكمال, منزه عن جميع صفات النقص. وما دامت هذه العقيدة توقيفية، فهي مبرأة من كل نقص, سالمة من كل عيب, بعيدة عن الحيف والظلم؛ لأن الله له المثل الأعلى في السموات والأرض: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرًا} 2.   1 انظر مناهج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر الألمعي ص15. 2 سورة النساء آية 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 2- ومن مزايا العقيدة الإسلامية أنها عقيدة فطرية ، بمعنى أنها ليست غريبة عن الفطرة أو مغايرة لها، بل هي تلائم الفطرة وتنميها ولا تصادمها، وهي عقيدة تشبع الجوعة الفطرية التي لا تشبعها النظم الفلسفية, ولا المذاهب الوثنية, ولا السلطان السياسي, ولا الثراء المالي، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} " 2. والفطرة هنا هي دين الإسلام وعقيدته، ولم يقل في الحديث: أو يسلمانه؛ لأن الإسلام فطرة مركوزة في النفس الإنسانية، وهو الوضع الطبيعي لها، فلا يحتاج إذن لتأثير الأبوين، أما باقي المذاهب الإلحادية فهي تغطي الفطرة وتنكسها وتصادمها، لذلك فهي لا تأتي على النفس من داخلها، إنما تأتي بمؤثر خارجي كما بان لنا من الحديث السابق.   1 سورة الروم آية 30. 2 الحديث رواه عن أبي هريرة البخاري في كتاب الجنائز ومسلم في كتاب القدر واللفظ له 4/ 2047. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 3- ومن مزايا هذه العقيدة الإسلامية أنها عقيدة ثابتة محددة ، بمعنى أنها لا تتغير ولا تتطور بمرور الأزمان وتعاقب الأجيال، فلا مجال فيها للزيادة والنقص, ولا تقبل التحريف والتبديل، فلن يستطيع حاكم أو مجمع أو مؤتمر أن يضيف إليها ما ليس منها أو ينقص منها ما هو داخل فيها، وكل محاولة في ذلك يوصف صاحبها بالكفر، لأن الوحي قد انقطع بالتحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وبقيت النصوص ثابتة إلى يوم الدين لا ينسخها ناسخ ولا يبدلها إلا كافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 أما غيرها من العقائد فقد زيد فيها ونقص منها؛ لأنها كانت تخضع لأهواء الحكام والمجامع الدينية، ثم يجبر الناس على ما يتخذه هؤلاء من القرارات في أمر دينهم وعقيدتهم كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. فالعقيدة اليهودية، والعقيدة النصرانية كذلك، رغم أن أصلهما وحي من عند الله، إلا أن التحريف قد دخلهما حتى أصبح وصف الإله فيهما لا يختلف كثيرًا عن أوصاف البشر، بل قد تضمنت كتبهم المحرفة أوصافًا لله لا ترتفع كثيرًا على أوصاف الإغريق لآلهتهم الوثنية، فاليهود يصفون الإله بالأكل والشرب والنوم والراحة والتعب وما إلى ذلك من النقائص التي لا تليق بالله سبحانه، وأما العقيدة النصرانية فكانت حالتها أدهى وأمرّ، حيث اختلطت مبادؤها بالوثنية اليونانية، ونشأ من هذا الخلط دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء، واختلاف النصارى في طبيعة المسيح وتفرقهم إلى طوائف عديدة، يبين لنا بوضوح مدى التلاعب والتحريف بعقيدتهم، ومدى التخبط الذي يعيشونه. إن أي مسلم عادي ولو كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، يرد بكل بساطة واطمئنان على كل من يحاول أن ينحرف في مفهومه لهذه العقيدة. وقد قيض الله سبحانه وتعالى على مدار القرون من العلماء الأثبات والفحول الثقات من يرد على زيغ المنحرفين، ويظهر باطلهم ويزهقه، ويبين ما في كتبهم من البدع والخرافات، كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: - في القرن الثالث الهجري. وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله تعالى- في القرن الثامن الهجري.   1 سورة التوبة آية 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 4- ومن مميزات العقيدة الإسلامية أنها عقيدة مبرهنة ، بمعنى أنها تقيم البراهين الساطعة والحجج الباهرة على كل مسألة فيها، ولا تلزم الناس بالتسليم الأعمى كما في بعض العقائد الأخرى: "اعتقد وأنت أعمى" أو "أغمض عينيك ثم اتبعني"، بل كان القرآن الكريم يقيم الدليل على كل مسألة من مسائل العقيدة، ثم يطلب من خصومه إقامة الدليل على ما يعتقدون بقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين} 1. ولا يقول عالم مسلم بأن هذه العقيدة تكتفي بإثارة العواطف ومخاطبة القلب والوجدان، بل إنها تخاطب العقل بالحجج الدامغة، ثم تأخذ طريقها إلى القلوب والأفئدة؛ لأن العقل الصريح يوافق المنقول الصحيح. وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كتابًا اسمه: "درء تعارض العقل والنقل" وهو مشتهر باسم آخر وهو: "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول"، وقد بين -رحمه الله- في هذا الكتاب أنه لا يوجد قط نص صحيح يخالف العقل، وإذا وجدت المخالفة، فإما أن تكون مخالفة ظاهرية وإمكانية الجمع بينهما حاصلة، وإما أن تكون المخالفة ناشئة عن علة في العقل، كأن يكون صاحبه من أهل البدع والأهواء، فيحاول أن يلوي النص ليوافق عقله؛ لأنه من الذين يقدمون العقل على النص، وإما أن تكون المخالفة من جهة أن نسبة النقل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- غير صحيحة. إن القرآن الكريم يقيم الأدلة من الكون والنفس والتاريخ على ربوبية الله وألوهيته وكماله، ويقيم الأدلة على البعث كذلك بخلق الإنسان أول مرة, وخلق السموات والأرض, وإحياء الأرض بعد موتها، ولن تجد مسألة واحدة من مسائل العقيدة الإسلامية إلا وهي مبرهنة وفيها أدلة كافية لمن كان له قلب يفقه به ويتذكر، ولنضرب بعض الأمثلة:-   1 سورة البقرة أية 111 وسورة النمل آية 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ, هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. ويقول تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ, هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} 2، ويقول تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ, فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ} 3، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ, ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 4، ويقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5، والآيات التي تقيم الأدلة على مسائل العقيدة كثيرة جدًّا6.   1 سورة آل عمران آية 5-6. 2 سورة الأنعام آية 1-2. 3 سورة يونس آية 31-32. 4 سورة الحج آية 5-7. 5 سورة الروم آية 27. 6 انظر هذه النقطة في مناهج الجدل ص97 وص415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 5- ومن مميزات العقيدة الإسلامية كذلك أنها عقيدة وسط ، لا إفراط فيها ولا تفريط، فهي وسط بين العقائد التي تنكر الخالق وتنكر كل ما وراء الطبيعة المحسوسة، وبين العقائد التي تزعم أن للعالم أكثر من إله وتقول بالتعدد وتدعى حلول الإلهية في الملوك والحكام والأنبياء والأشياء والحيوانات. إن عقيدة الإسلام بريئة من الإلحاد وإنكار وجود الله، كما هي بريئة من الشرك والوثنية، إنها عقيدة تفرد الله سبحانه بالربوبية والألوهية لأنه لا يستحق ذلك غيره، يقول تعالى: {قُلْ لِمَنٍِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ, قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ, قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ, بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ, مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ, عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وهذه العقيدة الإسلامية وسط في صفات الله تعالى، فلا مغالاة في التجريد الذي يجعل صفات الله بلا معنى كالجهمية المعطلة وأساتذتهم من فلاسفة اليونان، إنما تقول هذه العقيدة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 2، فإجمال في النفي وتفصيل في الإثبات. وقد خلت العقيدة الإسلامية كذلك من التشبيه والتمثيل الذي لجأت إليه اليهودية والنصرانية والرافضة وغيرهم من المشبهة الذين وصفوا الله   1 سورة المؤمنون آية 84-92. 2 سورة الشورى آية 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 بصفات المخلوقين، كوصفه بالتعب والراحة والنوم والمحاباة والقسوة وغير ذلك مما لا يليق بجلال الله سبحانه وتعالى. إن عقيدة الإسلام وسط بين المقلدين لآبائهم تقليدًا أعمى، كما حكى القرآن أنهم قالوا: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ, وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 1، وبين الذين يبحثون عن كنه ذات الله تعالى, وهم بعدُ لم يعرفوا حقيقة أنفسهم كما قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} 2، لكنها عقيدة تفتح الباب للنظر في هذا الكون المفتوح للتفكير في مخلوقات الله تعالى، قال سبحانه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} 3، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} 4، وقال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ, وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 5.   1 سورة الزخرف آية 22-23. 2 سورة الكهف آية 51. 3 سورة يونس آية 101. 4 سورة الروم آية 8. 5 سورة الذاريات آية 20- 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أثر العقيدة في سلوك الفرد والمجتمع مدخل ... الفصل الرابع: أثر العقيدة في سلوك الفرد والمجتمع تمهيد لا ريب في أن للعقيدة التي يحملها الإنسان أثرًا في توجيه سلوكه وتصرفاته, وأن أي انحراف في هذه العقيدة، يبدو واضحًا في حياة الإنسان العملية والخلقية، ومن ثم يؤثر ذلك بشكل ملموس في حياة المجتمع؛ لأننا لا نستطيع الفصل بين المجتمع وأفراده، لذلك سأقوم في هذا الفصل ببيان سلطان العقيدة على النفوس ، ثم بيان حالة العرب قبل الإسلام، ثم أثر العقيدة في حياة الفرد ثم أثرها في حياة المجتمع، وسأضرب أمثلة لآثار هذه العقيدة في حياة الناس. وأحب أن أشير إلى أنني لن أطيل في هذا الفصل؛ لأنني لو أردت استقصاء كل جزئيات الحياة لطال بي البحث، ولكني أشير كذلك إلى قاعدة عامة، وهي أننا نستطيع أن نعزو كل فضيلة قام بها الفرد أو حث عليها المجتمع إلى العقيدة، وكل رذيلة أتاها الفرد وأغضى عنها المجتمع إلى ضعف العقيدة في النفوس لا في ذاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أ- سلطان العقيدة على النفوس كل عقيدة يحملها الفرد وتدين بها الأمة سواء أكانت صحيحة أم باطلة لا يقتصر أثرها على الناحية الفكرية استقامةً وانحرافًا، هدًى وضلالًا، بل لا بد وأن يظهر أثر هذه العقائد في جوانب الحياة المختلفة، ومن هنا جاءت الضرورة للعقيدة السليمة؛ لأنها الغذاء الروحي والضروري لسير الفرد والمجتمع في مضمار التقدم والحضارة. وبمقدار تمسك الأمة وأفرادها بالعقيدة السليمة، بمقدار ما يكتب لهذه الأمة البقاء بشخصيتها المستقلة دون الذوبان في الأمم الأخرى. وليس هناك عقيدة تحرر الإنسان من الشرك والعبودية لغير الله، كالعقيدة الإسلامية؛ لأنها عقيدة تصدر عن الله أولًّا، ولأنها تسيطر على جميع مجالات الحياة وعلى النفس الإنسانية بقوة أكثر من قوة القانون وسلطته، وبتكاليف أقل من تكاليف تنفيذ القانون. والقانون وحده ما لم يستند إلى العقيدة فإنه يعتبر فاقدًا للقوة الروحية التي ينشأ عنها احترامه، فهو لن يضبط السلوك الإنساني في كل وقت ومكان، لإمكانية التحايل عليه والهرب من العقاب. والعقيدة سارية المفعول على الحاكم والمحكوم؛ لأنها مستندة إلى سلطان الله، وأما القانون المستند لسلطان الحاكم فلا يسري عليه؛ لأنه هو منفذ هذا القانون ويفسره كما يشاء. والعقيدة تمتاز عن القانون كذلك بأنها تنبع من الداخل, وتمتزج بضمير الإنسان ولا تفرض عليه من خارجه كالقانون، فهي تحكم التصرفات الظاهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 والباطنة التي تقع خفية عن القانون، ولهذا فهي تملك أن تورث الأخلاق والفضائل، وتملك أن تقول للإنسان: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه, وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} 1، ولا يملك ذلك القانون إن لم يكن مستندًا إلى العقيدة والإيمان بالجزاء الآخروي؛ لأن سلطانه وجزاءه دنيوي جسدي، وسلطان العقيدة روحي وأخروي: روحي؛ لأنه ينفذ إلى روح الإنسان ويحكمه داخليًّا، وأخروي؛ لأنه يدفع صاحب العقيدة عند الزلل للتوبة والاستغفار وإن وجب عليه حد يدفعه ليكشف نفسه للحاكم ليقيم عليه الحد ولو كان حد الرجم حتى الموت، وهو مطمئن لهذا الحكم خوفًا من سخط الله وعقوبته في الآخرة، كما فعل ذلك ماعز الأسلمي والغامدية زمن الرسول صلى الله عليه وسلم2. ومن هنا تبرز قيمة العقيدة كدافع وباعث نفسي داخلي للفرد لسلوك المسلك العملي والخلقي الصحيح؛ لأن صاحب العقيدة الصحيحة لا يخالف بعمله عقيدته، وإذا انفلت المرء من هذه العقيدة يكون قد ارتكس في حمأة الشهوات البهيمية التي لا يضبطها ضابط، ويضعف عقله وقوته باستمرار أمام نزواته وأهوائه؛ لأنه ليس له ركن شديد يأوى إليه. وإذا استقرت العقيدة في النفوس أصبحت مستعدة للتلقى للتنفيذ في الشرائع والأعمال، ولذلك نجد القرآن دائمًا يربط بين العقيدة والتشريع في كل آياته، وعلى سبيل المثال لا الحصر: يقول تعالى في مسائل التحريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3، فربط تحريم الربا بالإيمان، ويقول تعالى في   1 سورة الزلزلة آية 7-8. 2 روي قصتهما مسلم في صحيحه في كتاب الحدود، عن جابر بن سمرة وابن عباس وأبي سعيد, مجلد3 حديث رقم 1692، وانظر كتاب الإيمان وآثاره والشرك ومظاهره. لزكريا يوسف ص11. 3 سورة البقرة آية 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 مسائل الحدود: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 1، ويقول تعالى في مسائل المعاملات والأوزان: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ, الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ, وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ, أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ, لِيَوْمٍ عَظِيمٍ, يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2.   1 سورة النور آية 2. 2 سورة المطففين آية 1-6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ب- حالة العرب قبل الإسلام 1 كانت الفوضى والاضطراب الصبغة العامة لحياة العرب في جاهليتهم، من جميع النواحي الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والداخلية، والخارجية. فمن الناحية الدينية: كانوا يدينون لأكثر من إله، ويعبدون الأصنام ويقدمون لها النذور والقرابين، ويحرمون ويحللون كما يشاءون، وقد نسبوا إلى الله الولد فاعتقدوا أن الملائكة بنات الله، واستغربوا الدعوة لعبادة الله الواحد الأحد فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2، وقال تعالى عنهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ, لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 3، وقال تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} 4، وقال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ, وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ, أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ, مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 5، والقرآن ينبه على عقائد العرب في معظم سوره.   1 انظر دعوة التوحيد للهراس ص259-264. 2 سورة ص آية 5. 3 سورة الأنبياء آية 26-27. 4 سورة الإسراء آية 40. 5 سورة الصافات آية 151-154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ومن الناحية الاجتماعية: فكانت حياتهم مليئة بالمآسي والظلم والفواحش، ويقتلون الأولاد خشية الفقر أو العار، ويأكلون الربا، ولا حق عندهم للضعيف كاليتيمات والنساء والرقيق. ومن الناحية الاقتصادية: فلقد كان الفقر طابَعًا عامًّا لكل الجزيرة إلا بقاعًا محدودة مثل مكة، بفضل ما سخر الله لهم من موسم الحج ورحلتي الشتاء والصيف، وكان المصدر الرئيسي للرزق عندهم الرعي، ويغزون بعضهم للنهب والسلب، وكان قطاع الطريق منتشرين يخيفون الآمنين والمسافرين. ومن الناحية الداخلية: فقد كانت الحروب الداخلية تستنفد جهودهم وطاقاتهم بسبب التعصب للقبيلة، وكانت تثار الحروب أيامًا وسنين لسبب يسير كنزاع على الشرب والمرعى أو لكلمة طائشة، وشعارهم في ذلك قول زهير بن أبي سلمى: ومن لم يذِد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم وقول لبيد بن ربيعة: وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد ومن الناحية الخارجية: فقد كان العرب في الجاهلية لا يحسب حسابهم في ميزان القوى، فقد كان عرب المناذرة تحت حكم الفرس، وعرب الغساسنة تحت حكم الروم، وعرب اليمن تحت حكم الحبشة. وأما حالة شعوب الأرض يومئذ فلم تكن بأحسن حالًا في معظم النواحي من حالة العرب، فكانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة وخارجها, وقد خيم الشرك والوثنية عليهما وعلى من دان بهما لما حكاه الله تعالى عن اتباع الملتين: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ, اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وبعبارة أخرى لقد أطبق ليل الجهل وظلام الشرك على الأرض كلها فكانت الزندقة الشهوانية، والمجوسية النارية، والصابئية الكواكبية، والبراهمية والبوذية والوثنية، تعم مختلف مناطق العالم، فكانت الحاجة ماسة لظهور النور الجديد ليرتفع بالبشرية الضالة عن حقيقة التوحيد، الغارقة في بحار الشرك والشهوة والجهالة، إلى القمة الصافية في العقائد والسلوك ونظم الحياة، فكانت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا وسراجًا منيرًا. وبقي القرآن يتنزل خلال ثلاث وعشرين سنة يبين للناس حقائق العقيدة والعمل؛ ليستنقذهم من هاوية الضلال والردى إلى الإيمان والهدى، فما أن تلقَّوا هذا القرآن وجرت تعاليمه في دمائهم وأرواحهم حتى تغيرت حياتهم، فأخلصوا التوحيد والعبادة لله الذي لا شريك له، ثم انطلقوا بعد ذلك إلى البشرية جمعاء ليفيضوا عليها الهدى والنور، مشفقين على شعوب الأرض مما هي فيه من الظلام والجهل والشرك.   1 سورة التوبة آية 30-31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 جـ- أثر هذه العقيدة في سلوك الفرد 1 يمتاز رجل العقيدة عن غيره بمحافظته على جميع ما أمر به الله واجتنابه جميع ما نهى عنه الله، وإذا خالف لله أمرًا أو نهيًا فسَرعان ما يؤنبه ضميره ويرجع إلى ربه تائبًا مستغفرًا، ولذلك لن أتناول أثر العقيدة على الفرد في محافظته على الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدق والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرحمة   1 انظر الإيمان والحياة للقرضاوي ص61 - ص198 وانظر الإيمان وآثاره لزكريا يوسف ص10- 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والعدل والإيثار وغيرها من الفضائل، ولن أتناول كذلك أثر العقيدة على الفرد من ناحية بعده عن الربا والزنا والسكر والكذب والظلم والعقوق والأنانية والحسد والحقد والسرقة والغش والخداع وغيرها من الرذائل؛ لأن تحلي رجل العقيدة بالفضائل وتخليه عن الرذائل أمر بدهي لمن استقام على عقيدته وتفاعل معها تفاعلًا إيجابيًّا، ولأن كل آية في القرآن إنما هي دعوة لفضيلة أو نهي عن رذيلة، ولو أردت استقصاء ذلك لطال بي البحث, ولذلك أكتفي بذكر أهم المميزات التي يمتاز بها رجل العقيدة غير ما تقدم وهي: 1- العقيدة تهب صاحبها عزة النفس؛ لما يشعر به من معية الله تعالى، لقوله سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين} 1، ومن كانت هذه عقيدته فلن يستكين ولن يستعبد لغير الله تعالى. وهذه الأنفة من الخضوع والعبودية لغير الله تعالى يصاحبها التواضع والرحمة لعبادة المؤمنين انطلاقًا من قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} 2، والمؤمن يعلم أن واهب العزة هو الله {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاء} 3. فعزة المؤمن عزة إيمان وحق، وعزة غيره عزة غرور وفجور وكبرياء. 2- رجل العقيدة رجل يحتكم إلى كتاب الله ولا يستبدل به حكمًا آخر، ويرضى بحكم الله ولو كان الحق عليه؛ لقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 4.   1 سورة التوبة آية 36، 123. 2 سورة المائدة آية 54. 3 سورة آل عمران آية 26. 4 سورة النساء آية 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وغير المؤمن يحتكم لقانون البشر الجائر قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1. 3- رجل العقيدة رجل نشيط عامل منتج, لا يتكاسل ولا يتواكل, حريص على الوقت, لعلمه أن الله سائله عن عمره وعمله، فهو يعبد ربه باتقانه عمله كما يعبد ربه بالصلاة والصيام, لقوله سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه} 2. 4- رجل العقيدة عنده إيثار وتضحية وشجاعة، لا يخاف من بذل الروح والمال؛ لأنه يرى أن ذلك عبادة لله، وغيره يحسب أن دفع الزكاة ضريبة، وأن الجهاد بالمال خسارة وبالنفس إلقاء في التهلكة، فيحسب أن الرزق والأجل بيده، فالبذل يفقر والجهاد يقصر العمر. والمؤمن يعلم أن كل ذلك بيد الله وأن روحه وماله ملك لدينه وعقيدته، يبذلهما عند الطلب، لإيمانه بقوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} 3، وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون} 4، وقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون} 5. 5- رجل العقيدة عنده سعة نظر ووضوح في الهدف؛ لأن عقيدته الصحيحة تجبيه على كل سؤال من الأسئلة التالية: من أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب؟   1 سورة المائدة آية 50. 2 سورة الجمعة آية 10. 3 سورة النحل آية 96. 4 سورة يونس آية 49. 5 سورة العنكبوت آية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فهو يرى نفسه إذن أنه لم يخلق عبثًا لقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 1، إنما خلق لعبادة الله القائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} 2. وغير المؤمن محتار في الأسئلة السابقة, ممزق النفس، نظره ضيق، وهدفه غير واضح، يمثل هذا عمر الخيام في قصيدته التي يقول فيها: لبست ثوب العمر لم أُستَشر ... وجرت فيه بين شتى الفكر وسوف أنضو الثوب عني ولم ... أدر لماذا جئت أين المفر؟ 6- والعقيدة توقظ الضمير فتجعله مراقبًا لله دائمًا لا يعتريه ضعف ولا يتبدل بالأمكنة والأزمنة؛ لأنه مستند لعقيدة سليمة، فهو في حذر دائم ضد الشر وبواعثه, وضد النفس وشهواتها, وضد الشيطان ونزغاته, لقوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّا} 3. لذلك عندما عمرت العقيدة الضمائر والقلوب، صلح الظاهر والباطن حتى كأن على كل إنسان شرطيًّا يراقبه لإيمانهم بقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد} 4، وبقوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} 5، وبقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاء} 6، وبقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ   1 سورة المؤمنون آية 115. 2 سورة الذاريات آية 56. 3 سورة فاطر آية 6. 4 سورة ق آية 18. 5 سورة غافر آية 19. 6 سورة آل عمران آية 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 1، فضمير المسلم إذن لا يعتمد على المراقبة الخارجية، بل هو نفسه مراقبة داخلية وحراسة مستمرة تمنع صاحبها عن اقتراب المعاصي ولو أتيحت له بعيدًا عن الأنظار. 7- يمتاز رجل العقيدة عن غيره بأنه مطمئن البال, مستريح الفكر, غير قلق على المستقبل ولا تمزق الأوهام نفسه؛ لأن له هدفًا يسعى إليه ومثلًا أعلى يطلبه، ألا وهو نيل رضوان الله وجنته. وهو واثق أنه على الحق ولن يتسرب اليأس والقنوط إلى نفسه مهما واجهته من أخطار؛ لإيمانه بقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} 2، وبقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّون} 3، وبقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} 4. هذه الطمأنينة والثقة يفقدها غير المؤمن ولا يعوضها الغنى والترف لما نرى من كثرة حوادث الانتحار والتمزق النفسي في أكثر الدول غنى ورفاهية. 8- رجل العقيدة عنده قيم وموازين ثابتة يزن بها الناس وهي موازين عقيدته الثابتة، فالحق فيها حق والباطل باطل، والرذيلة فيها رذيلة والفضيلة فضيلة من عهد آدم إلى يومنا هذا, لقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} 5.   1 سورة المجادلة آية 7. 2 سورة يوسف آية 87. 3 سورة الحجر آية 56. 4 سورة الانشراح آية 5-6. 5 سورة الحديد آية 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فالمؤمن إذن ذو شخصية ثابتة, ومن موازينه في الناس قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} 1، ومن موازينه في الخسارة قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة} 2. ومن موازينه في الربح قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} 3. 9- رجل العقيدة يوالي ويعادي لله، ويحب ويبغض لله، فلن يوالي عدو الله ولو كان أباه أو ابنه، ولن يعادي ولي الله ولو كان بعيدًا منه، ولن يحب من أبغضه الله، كما أنه لن يعادي من أحبه الله، كل ذلك لإيمانه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 4، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ} 5. 10- رجل العقيدة تتوازن فيه الروح والعقل والجسم, فلا يطغى فيه جانب على جانب، فلا هو مفرط في الروحانية المعذبة لجسده والملغية لعقله، ولا هو مفرط في العقل حتى يحكِّمه في الوحي والشرع، ولا هو مفرط في التربية الجسمية حتى يرتد كبهيمة هدفها الطعام والشراب كما تعتبره المذاهب المادية, وشعارهم في ذلك: إنما الدنيا طعام وشراب ومنام ... فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام   1 سورة الحجرات آية 13. 2 سورة الزمر آية 15. 3 سورة آل عمران آية 185. 4 سورة التوبة آية 23 5 سورة الممتحنة آية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وهم في هذا كما وصفهم سبحانه وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُم} 1. فالعقيدة توازن في الإنسان بين عقله وروحه وجسمه، فتجعله إنسانًا سويًّا، والمذاهب المادية التي ألغت اعتبار الروح جعلته نصف إنسان، ومن هنا يحصل القلق والاضطراب والحيرة والتمزق النفسي.   1 سورة محمد 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 د- أثر العقيدة في سلوك المجتمع 1 إن ما تقدم من تأثير العقيدة في سلوك الفرد هو كذلك تأثير للعقيدة في المجتمع، لأن الأفراد هم لبنات المجتمع، فصلاحهم صلاحه وفسادهم فساده، وكل جهد لتربية الفرد الصالح على العقيدة، هو جهد أصيل لتكوين المجتمع الصالح, لما يوجد من علاقة وثيقة بين الفرد والمجتمع. وليس من السهل أن تؤثر عقيدة ما في الفرد دون أن ينعكس ذلك على المجتمع ولو على المدى البعيد؛ ولذلك كان صلاح المجتمع بعد تطهير العقيدة من الشوائب الدخيلة عليها معتمدًا على تطهيره مما شانه من أعمال يقوم بها أفراده مناقضة للعقيدة. والآن نلخص أبرز آثار العقيدة في المجتمع:- 1- أمة العقيدة أعرق أمة في التاريخ، وتاريخها حافل بالوقائع والتجارب، قادتها الرسل، وقد بين الله للمؤمنين أمتهم الواحدة من اتباع الرسل بقوله تعالى   1 انظر الإيمان والحياة للقرضاوي ص201 - ص324. والإيمان وآثاره لزكريا يوسف ص10- 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 في نهاية عرض قصص الأنبياء مع أقوامهم المكذبين: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} 1، وأول قائد لهذه الأمة العريقة هو آدم عليه السلام - وآخر قادتها وأجلهم محمد صلى الله عليه وسلم ثم من سار على نهجه إلى يوم الدين. هذا التراث الكبير والتجارب العميقة تشكل الذخيرة الحية لأمة العقيدة، وهي الحضارة التي تملك الأمة أن تقدمها للإنسانية وهي واثقة ومطمئنة أنها ليست بحاجة لاستيراد القيم والأخلاق والعقائد من الأمم الكافرة؛ لأنها أمة متبوعة لا تابعة لغيرها. 2- أمة العقيدة تتلقى للتنفيذ، لا مجال عندها للتردد ومخالفة الأوامر, فإذا نزل القرآن يأمر بشيء أو ينهى عن شيء انقلب كل رجل إلى أهله يتلو عليهم ما أنزل الله تعالى، فيبادر الجميع لامتثال المأمور به واجتناب المنهي عنه. 3- إن أمة العقيدة أمة لا تعيش لذاتها ومصالحها فقط، بل هي أمة ترى على عاتقها مسئولية إنقاذ البشرية مما هي فيه من الضلال، لأنها تشعر بنعمة اهتدائها إلى الله, لذلك تحب أن تهدي غيرها من الأمم. إن أمة العقيدة تشعر بخيريتها على سائر الأمم، لا خيرية الجنس واللون، لكن خيرية الدين والعقيدة انطلاقًا من قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 3. فأمة العقيدة تتعامل مع غيرها على هذا الأساس، وهذا هو الذي   1 سورة الأنبياء آية 92. 2 سورة آل عمران آية 110. 3 سورة البقرة آية 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أخرج الصحابة -رضوان الله عليهم- من ديارهم وأموالهم يطوفون مشارق الأرض ومغاربها يهدون للنور الذي هداهم الله إليه، لا كما يزعم أعداء الله أنهم خرجوا طلبًا للقوت واستعمار الأمم والشعوب. 4- أمة العقيدة هي الأمة الوحيدة التي يستوي فيها الناس جميعًا حاكمهم ومحكومهم، ويستطيع الفرد العادي فيها أن ينصح الحاكم دون هيبة من سلطانه؛ لأنه يعلم أن الحاكم منفذ للدين وحارس للشريعة، ولذلك كان علماء الإسلام يناقشون الحكام وينصحونهم وإن زلوا يحاكمونهم إلى الشرع. 5- أمة العقيدة أمة عزيزة الجانب مصونة لا تقيم حربًا أو سلمًا إلا على أساس عقيدتها كما كان عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أول مقدمه إلى المدينة مع مختلف الطوائف داخل المدينة وخارجها من الممالك والإمارات، وإذا جاهدت أمة العقيدة فليس هدفها من الجهاد إراقة الدماء ونهب الأموال، إنما هدفها تحرير الإنسانية من الحكام الكفرة، الذين يحولون بين أممهم وبين الدين الحق. إن أمة العقيدة تعلل كل وقائعها وانتصاراتها على ضوء عقيدتها، وكذلك إذا هزمت فإنها تقيس ذلك بميزان عقيدتها لتتعرف على عوامل هزيمتها مؤمنة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} 1. 6- أمة العقيدة تقوم الروابط بين أفرادها على العقيدة؛ لأن الروابط الأرضية من الجنس واللون واللغة والأرض والمصالح المشتركة، روابط ليس للإنسان فيها اختيار، فهو لن يستطيع اختيار جنسه ولونه ولغة قومه والأرض التي   1 سورة الرعد آية 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 يولد فيها، وهذه الروابط الأرضية لا تدوم, فسَرعان ما يدب الخلاف بين أصحابها، أما رابطة العقيدة فهي أقوى وأقوم، ولذلك كان المجتمع الإسلامي الأول يضم العربي والفارسي والرومي والحبشي والهندي، هذه الجنسيات كلها يجمعها اسم الأمة الإسلامية، بدون فوارق عرقية أو طبقية. لقد قامت الإمبراطورية الرومانية قديمًا على أساس طبقي: العبيد والأشراف, وتقوم الشيوعية حاليًا بالتفريق بين العمال وأصحاب رءوس الأموال، وكذلك المجتمعات الغربية تفرق على أساس العرق واللون، وهذا ما يؤكد أنه ليس هناك مجتمع عالمي إنساني مفتوح لكل أبناء البشرية غير مجتمع العقيدة الإسلامية. لذلك لما شعر أعداء الأمة الإسلامية بالخطر، وتنبهوا لسر قوتها، لجأوا لتحطيم هذه القوة بإقامة أصنام سموها الوطن والقوم والجنس وهي التي ظهرت على مدى التاريخ باسم الجنسية الطورانية أو القومية الفرعونية والفنيقية والفارسية والعربية، وغيرها من الأسماء والشعارات التي لم تلق رواجًا إلا عندما ضعفت العقيدة في النفوس، فأصبحت هذه الأصنام والشعارات مقدسات ويعتبر الخارج عليها كافرًا بوطنه وقوميته خائنًا لبلده يجب محاربته والقضاء عليه. 7- مجتمع العقيدة مجتمع يفتخر بأصله ويعتز بانتسابه لآدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، وكل ما في الكون مسخر لخدمته ونفعه لقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ, وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} 1، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ   1 سورة إبراهيم آية 32- 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ, وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 1، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} 2. هذا المجتمع لا تساويه المجتمعات التي تعلم أفرادها أن أصلهم قرد أو حيوان أحط من القرد، وأن كل ما في الكون عدو له ويقف ضده, فهو في صراع مع الكون ويعتبر أن أي اكتشاف علمي إنما هو تغلب على الكون وقهر للطبيعة، بينما مجتمع العقيدة يرى أن من واجبه الاهتداء لهذه السنن والاستفادة منها, وأن الإنسان مهما بلغ في العلم فهو من تعليم الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم. 8- مجتمع العقيدة مجتمع قوى متماسك يشد أفراده على أيدي بعضهم بعضًا كأنهم بنيان مرصوص, آمالهم وآلامهم واحدة؛ لأنها نابعة من عقيدتهم, وكلهم يسعون لتحقيق العدل والمحبة والأخوة، ليعيش كل فرد في هذا المجتمع آمنًا على دينه وروحه وعقله وماله وعرضه, ولكل فرد في المجتمع العقيدة حق العمل، وإلا فالدولة توفر الضروريات للعاجزين عن العمل وللذين لا يجدون ما يكفيهم.   1 سورة الجاثية آية 12- 13. 2 سورة لقمان آية 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 هـ- أمثلة لآثار العقيدة نذكر فيما يلي أمثلة من أبرز آثار العقيدة على سبيل الاختصار فنبدؤها: 1- سحرة فرعون يقولون له بعد أن هددهم لما آمنوا بموسى ما قاله تعالى عنهم: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا, إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1، ويصبرون للصلب والتقطيع حتى الموت, ونالوا الشهادة صابرين.   1 سورة طه آية 72- 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 2- أصحاب الأخدود يلقون الموحدين في النار فيموتون فيها، حتى لا يكفروا وقد ذكرهم القرآن بالثناء عليهم وذم من عذبوهم فقال: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ, الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ, إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ, إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} 1. 3- عندما استشار يهود بني قريظة أثناء الحصار أبا لبابة فأشار لهم بأنه الذبح قال: "والله مازالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم"، ثم انطلق إلى المسجد فربط نفسه بعموده حتى نزلت توبة الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم2. 4- عمير بن سعد في حجر زوج أمه جلاس بن سويد بن الصامت، فقال جلاس في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة نابية, فقال عمير: "يا جلاس, إنك لأحب الناس إليّ وأحسنه عندي يدًا, وأعزه أن يصيبه شيء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك, ولئن صمت ليهلكن ديني ولأحدهما أيسر على من الآخر، ثم أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم"3. 5- الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- يطلب منه المأمون أن يقول بخلق القرآن فيرفض، فيسجنه ببغداد مقيدًا بالسلاسل، ويأتي المعتصم بعد المأمون فيزيد البلاء بالضرب والسحب ويتناوب عليه الجلادون وبعضهم يقول: يا أمير المؤمنين: دمه في عنقي ليغريه بقتله، ولا يزيد الإمام أحمد   1 سورة البروج آية 8-11. 2 انظر سيرة ابن هشام 3/ 255 - 256 وبين العقيدة والقيادة ص 185. 3 انظر سيرة ابن هشام 2/ 141 وبين العقيدة والقيادة ص 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 على قوله: "أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم"، ويبقي في السجن ثلاثين شهرًا يقاوم السلطان، حتى انتصر رحمه الله عليهم بغير جيش ولا سلاح، إلا سلاح الإيمان والصبر والتمسك بالعقيدة الصحيحة، فكانت فتنته -رحمه الله- نهاية لهذا المذهب، فمن زمانه دفنت هذه العقيدة في بطون الكتب فأصبح حب أحمد شعار أهل السنة1. 6- شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يحاسب غازان التتري رابع ملك مسلم من التتار الذي احتل دمشق حتى شرد أهلها وبقي شيخ الإسلام بفئة قليلة فخرج إليه وقال له: "أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاضٍ وإمام ومؤذن، فعلام تغزو بلادنا؟ أبوك وجدودك كانوا كافرين وما ؤغزونا بعد أن عاهدونا وأنت عاهدت فغدرت". ولما قدم له غازان الطعام رفض أكله قائلًا: "نهبتم أغنام الناس وطبختموها بأشجار الناس".. ودار بينه وبين غازان جدال طويل لم يخش فيه سلطانه وهيبته3.   1 أحمد بن حنبل بين محنة الدين ومحنة الدنيا لعبد الجواد الدومي ص 118 إلى ص 138. 2 ابن تيمية "حياته وعصره أراؤه وفقهه" لمحمد أبي زهرة ص36 - ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ثبات عقيدة التوحيد وأنها أصل الرسالات مدخل ... الفصل الخامس: ثبات عقيدة التوحيد وأنها أصل الرسالات لقد شاعت في أوروبا خلال القرن التاسع عشر آراء تقول بأن كل شيء في هذا العالم متطور، وهذا التطور يشمل العلوم والصناعات والأخلاق والعقائد وكل شيء، وبناء عليه ظهرت عدة تفسيرات لنشأة العقيدة الدينية تبين مراحل تطوراها خلال التاريخ من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد. وسأقوم في هذا الفصل بإذن الله تعالى ببيان مذاهب التطوريين والرد عليها ، ثم بيان أسباب القول بفكرة التطور، ثم بيان أسباب خطئهم في المنهاج الذي سلكوه، ثم ختمت الفصل برد إجمالي على نظرية التطور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 مذاهب التطوريين والرد عليها مدخل ... أ- مذاهب التطوريين والرد عليها تعددت مذاهب علماء الأديان المقارنة في نشأة العقيدة، وأستطيع حصرها في ثلاثة مذاهب رئيسية هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 1- المذهب الطبيعي : وقد نادى به "ماكس مولر" سنة 1856م و"كوهن" سنة 1859م و"شغارتز" سنة 1863م، وملخصه أن الإنسان البدائي عندما نشأ وجد نفسه ضعيفًا بين المظاهر الكونية المختلفة، كالشمس والقمر والنجوم والرياح والصواعق والأنهار وغيرها، فاعتقد أن باستطاعتها أن تنفعه أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 تضره، فأخذ يتقرب إليها ويقدم لها سائر أنواع العبادات دفعًا لشرها. ورد العالمان جيفونس ودريكايم على هذا المذهب بأن الخوف لا يصلح سببًا لنشوء العقيدة، لأنه مع الزمن يألف الإنسان هذه الأشياء بتكررها على نسق واحد، ويذهب خوفه منها ويترك التقرب إليها1.   1 انظر الدين لمحمد دراز ص 119- ص132 ونشأة الدين للنشار ص 70- 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 2- المذهب الروحي : وقد نادى به سبنسر وتيلور، وملخصه أن الإنسان البدائي عندما كان يرى الأحلام فيرى أشخاصًا كانوا قد ماتوا، اعتقد ببقاء أرواح الموتى وأن لها القدرة على الإيذاء أو النفع، وكان يعلل كل ما يصيبه من أمراض بغضب هذه الأرواح عليه وخاصة أنها تمثل أرواح أسلافه، فأخذ يتقرب لها بالعبادة خوفًا من شرها وتقديسًا لآبائه وأجداده. ورد دور كايم على هذا المذهب بأن اعتقاد الإنسان الأولي ببقاء الأرواح لا يكفي لنشوء عقيدة دينية؛ لأن عبادة الأسلاف وجدت عند الأمم المتحضرة كما وجدت عند الأمم البدائية، بجانب عبادة أشياء أخرى، بل بعض الأمم لم تعبد الأسلاف، فلم يكف هذا لتفسير نشأة العقيدة1.   1 انظر الدين لمحمد دراز ص 139-140 ونشأة الدين للنشار ص 32- 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 3- المذهب التوتمي : قال به "دور كايم"، والتوتم عبارة عن رمز تتخذه العشيرة شعارًا لوحدتها وقوتها وتعتقد أنه جدها الأعلى ومنه تناسلت، فتقدس العشيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 هذا التوتم ولا تسمح للنساء والغرباء بلمس هذا التوتم، وتحمله معها في الحروب للنصر. وقد يكون التوتم جمادًا أو نباتًا أو حيوانًا وعندها يحرم أكله وقتله. وقد رد كل من "لانج وتيلور وفوكارت وفريزر وشمت" على هذا المذهب بأن هذا التوتم لا يصلح كمبدأ للعقيدة، لأنه من خلال الأبحاث الكثيرة تبين أن هناك أممًا بدائية كانت تعبد مع التوتم آلهة أخرى، وربما لم تعبد التوتم إطلاقًا وإن كان رمزًا لها1. هذا هو ملخص أقوال أصحاب المذاهب الثلاثة في تفسير نشأة العقيدة الدينية، واعتقد كل فريق منهم أن تفسيره هو الصحيح وأن باقي المذاهب الأخرى تابعة من حيث الزمن لمذهبه، وأخذ يرد على مذاهب غيره ويبطل صحتها، ولكنهم جميعًا متفقون على أن العقيدة الدينية من إنتاج البشر وتخيلاتهم، وأن تعدد الآلهة هو الأصل وأن التوحيد مرحلة متأخرة جدًّا، وذلك بعد أن أخذت الأمم تترقى في عقائدها وتقلل من عدد المعبودات، وكانت الأمة الغالبة في الحرب تخضع إله الأمة المغلوبة لإلهها، وهكذا حتى انتهى عدد الآلهة لإلهين, ثم آل الأمر إلى الاعتقاد بوحدانية الإله , إذن فالتوحيد حادث ومتطور عن التعدد. وقد تأثر كثير من الكتاب المعاصرين بهذه الفكرة التطورية وألفوا مؤلفات - إما عن خبث وإما عن جهالة وانخداع- يؤيدون فيها فكرة التطور هذه، ومن هؤلاء الكتاب عباس محمود العقاد، ويظهر ذلك واضحًا في كتابه الذي سماه الله، فقد افتتح الكتاب بالعبارة التالية:   1 انظر الدين لدراز ص159- 165 ونشأة الدين للنشار ص100 - ص174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 "ترقى الإنسان في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات، فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته، فليست أوائل العلوم والصناعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات.." 1. وكتابه كله ينم عن تأييده لفكرة التطور، وهو وإن كان لا يرجح مذهبًا بعينه من المذاهب التطورية، إلا أنه لا يمانع أن تكون التفسيرات التطورية كلها أسبابًا مختلفة لنشأة العقيدة الدينية، فهو يقول في كتابه: "وجملة ما يقال فيها أننا لا نجد فرضًا منها يستوعب أسباب العقيدة كلها ويغنينا عن التطلع إلى غيره، ومسألة العقيدة أكبر من أن يحصرها تعليل واحد وأنها قد تتسع لجميع تلك التعليلات معًا ولا تزال مفتحة الأبواب لما يتجدد من البحوث والدراسات ... ويجوز على هذا أن تنبعث العقيدة عن أكثر الفروض المتقدمة لا عن فرض واحد، فنحن لا نهمل سببًا يخطر على البال.." 2 انتهى باختصار. ويعتقد العقاد أن عبادة الشمس هي أرقى مرحلة توصل إليها العقل البشري، وأنها هي المرحلة السابقة لمرحلة التوحيد مستدلًا بقصة إبراهيم فيقول: "وهذه الطبقة من طبقات العبادة هي أرقى ما بلغته الإنسانية في أطوارها المتوالية واستعدت بعده للإيمان بإله واحد لجميع الأكوان والمخلوقات.. فديانة الشمس كانت الخطوة السابقة لخطوة التوحيد الصحيح لأنها أكبر ما تقع عليه العين وتعلل به الخليقة والحياة.. ولنا أن نقول إن ديانة الشمس كانت هي القنطرة الكبرى بين عدوة التعديد وعدوة التوحيد" 3 انتهى باختصار.   1 موسوعة العقاد 1/25. 2 موسوعة العقاد 1/36- 37. 3 موسوعة العقاد 1/43- 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ويعتبر أن العرب مروا بهذه الأطوار, ثم يختم بحثه بقوله: "فالتطور في الديانات محقق لا شك فيه.. هذا التاريخ الطويل هو تاريخ العقل في الترقي إلى التوحيد" 1 انتهى باختصار. ويعتبر العقاد أن التوحيد ليس نهاية التطور؛ حيث يقول عن العقل: "فترقى في فهم التوحيد ولم تنته جهوده بالوصول إليه" 2، فعلى رأيه هذا سيكون هناك مرحلة بعد مرحلة التوحيد. ثم تَبِعَت العقاد في ذلك ثريا منقوش في كتابها "التوحيد في تطوره التاريخي" تؤيد فيه آراء العقاد وتزيد عليها حيث تقول: "فتاريخ التوحيد ليس سوى تتابع لمختلف التطورات التي حدثت في تاريخ الفكر العقائدي, ابتداء بالكثرة الكثيرة إلى التعدد الثلاثي ثم إلى الوحدانية المتجسدة ممثلة بإله سماوي أي طبيعي مرئي ثم بمفهوم للواحد مجرد كلي القدرة والفعالية.." 3. وتَعتبر أن الظروف المختلفة في الجزيرة واليمن أدت إلى فكرة التوحيد, وأن اليهود أخذوا التوحيد من السبأيين, وتأثر المسلمون باليهود فقالوا بعقيدة التوحيد، فهي تقول في ذلك: "لقد دفع اليمنيون التوحيد القومي إلى شمال الجزيرة واحتضنه اليهود وأضافوا عليه مفاهيم ذلك العصر الفلسفية التجريدية ونقلوه بدروهم إلى الفكر الديني الذي يليهم وبخاصة الإسلام.."4 انتهى بلفظه. وسنعرض فيما يلي الأسباب التي دفعت الكثيرين للقول بفكرة التطور.   1 موسوعة العقائد 1/45 - 53. 2 موسوعة العقاد 1/53. 3 التوحيد في تطوره التاريخي لثريا منقوش ص91. 4 التوحيد في تطوره التاريخي ص126. وانظر ص92 من نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أسباب القول بفكرة التطور مدخل ... ب- أسباب القول بفكرة التطور 1 نذكر فيما يلي ثلاثة مصادر للأسباب الدافعة للقول بفكرة التطور هي:   1 انظر الدين لمحمد دراز ص81- ص83 وكتاب أخطاء المنهج الغربي الوافد لأنور الجندي ص73- ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 1- المصدر الأول: الكنيسة : كانت الكنائس الأوروبية في القرنين المنصرمين مصدرًا لفكرة التطور لعدة نواحي: أ- كانت الكنائس تفرض على أتباعها ضرائب باهظة. ب- كانت الكنائس تمنع تفسير الإنجيل إلا للباباوات والقساوسة. جـ- الانحلال الخلقي عند رجال الكنسية. د- كانت الكنائس تحارب العلم والاكتشافات العلمية. كل هذه الأسباب مجتمعة، أدت لنتائج سيئة، حيث ثار الشعب على الكنيسة وكفر بالدين وبكل ما تقوله الكنيسة، ونادى بالفكرة القائلة: الدين أفيون الشعوب، معتبرًا الدين من اختراع رجال الكنيسة ليخدروا الشعوب وتتم لهم السيطرة عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 2- المصدر الثاني: المبشرون : وهناك طائفة من علماء الأجناس والأديان المقارنة كانوا مبشرين بالنصرانية، وممهدين لدولهم للسيطرة العسكرية والاقتصادية، مدفوعين بدافع الحقد الصليبي، ولا يتم لهم ذلك إلا بتشويه عقيدة الإسلام الصافية وشريعته النقية، فلذلك كثر تهجمهم على التوحيد والوحي والرسول صلى الله عليه وسلم والهجرة والجهاد والحدود وغيرها، وأخذوا يبثون الشبه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الإسلام وعقائده الصافية، وكان من جملة هذه الشبه وأخطرها شبهة فكرة تطور عقيدة التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 3- المصدر الثالث: الكتاب المعاصرون : هناك طائفة من الكتاب الجهلة الذين خدعهم بريق التقدم العلمي فظنوا أن كل ما يأتي من الغرب صحيح ومخالفته لا تجوز, ليس في العلوم والصناعات فحسب بل في العقائد والأخلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 جـ- بيان أسباب خطئهم في المنهاج الذي سلكوه 1 لقد أخطأ علماء الأديان المقارنة في المنهاج الذي سلكوه فترتب على ذلك خطؤهم في النتائج التي توصلوا إليها, وتتركز أسباب خطئهم في النقاط الأتية: 1- عدم إيمانهم ببعثة الرسل وإنزال الكتب عليهم؛ لأن ذلك يستلزم إيمانهم بالوحي، ولو تم ذلك لكان فيه هدم لمذهبهم من أساسه، ولذلك فهم يصفون الأنبياء بأنهم عباقرة ملهمين استطاعوا أن يبرزوا على غيرهم. 2- عدم تمييزهم بين العقائد الإسلامية الموحي بها إلى الرسل، والعقائد الوثنية والأساطير الهمجية، بدليل أنهم يعتبرون عقائد الإسلام على قدم المساواة مع غيرهم في مقارنتهم فلا يميزون بين دين الله ودين البشر. 3- يعتبرون المفهوم الإسلامي للدين والعقائد الإسلامية الصحيحة نوعًا من التعصب وانعدام الروح العلمية في البحث. ونحن وإن كنا لا نلوم الباحثين غير المسلمين في هذا لأنهم يعبرون بذلك عن   1 انظر الدين لدارز ص81- ص83 وأخطاء المنهج الغربي الوافد لأنوار الجندي ص73- ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أحقادهم ضد الإسلام وأهله، إلا أننا لا نعفي الكتاب المسلمين الذين تأثروا بتلك النظريات مبهورين بهذه الاكتشافات الخاطئة، ونلوم كذلك الذين يحاولون الدفاع عن خاتمة الرسالات فيقولون بأنها أول رسالة جاءت بالتوحيد الصحيح، ونسوا أن القرآن أخبرنا بأن التوحيد هو دين الأنبياء جميعًا على مرور الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 د- الرد الإجمالي على نظرية التطور سبق أن بينا الرد على كل قول من الأقوال في نظرية التطور, ولما لهذه النظرية من الخطورة أعقبتُ هذا الرد المفصل برد إجمالي للنظرية وبيانه في الكتاب والسنة وأبحاث العلماء القائلين بنظرية أصالة التوحيد المنكرين لنظرية التطور، وفيما يلي بيان ذلك: 1- الرد من الكتاب والسنة: وقد جمعت بينهما لارتباط الكلام عن الآيات والأحاديث ببعضه, ولأن الأحاديث الواردة هي تفسير للآيات الواردة في هذه النقطة, فنقول: أ- أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابة أن الفطرة التي فطرت عليها البشرية كلها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 2.   1 الروم آية 30. 2 الأعراف 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فهاتان الآيتان تبينان أن العباد كلهم مفطورون على التوحيد, وأنه الأصل في بني آدم، وقد فسر مجاهد الفطرة بأنها الإسلام1. قال الطبري: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "واذكر يا محمد ربك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم، فقررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك وإقرارهم به.. عن ابن عباس: مسح ربك ظهر آدم فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة" 2، انتهى باختصار. عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا" 3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} 4.   1 انظر تفسير الطبري 21/40. 2 تفسير الطبري 9/110- 111. 3 رواه مسلم ورواه الترمذي عن أنس. انظر صحيح مسلم ج 17 ص196، رقم 2865. 4 رواه البخاري في كتاب الجنائز بلفظ كل مولود، ورواه مسلم في كتاب القدر ج 4/2047. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الحديث: "فالصواب أنها فطرة الإسلام وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة.. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ " بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن وأن العيب حادث طارئ "1. انتهى باختصار. وقال ابن القيم رحمه الله: "فجمع عليه الصلاة والسلام بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير، وتغيير الخلقة بالجدع وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لا بد أن يغيرهما، فغير فطرة الله بالكفر وهو تغيير الخلقة التي خلقوا عليها وغير الصورة بالجدع والبتك، فغير الفطرة إلى الشرك، والخلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الروح وهذا تغيير خلقة الصورة" 2. ويقول كذلك: "فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه، فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة" 3. وبما أن معرفة الله وتوحيده فطرة في النفوس لذلك لما شك الأقوام المكذبون لرسلهم في الدعوة لتوحيد الله استغرب الرسل هذا الشك فقالوا: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} 4.   1 الفتاوى 4/245 وانظر تلبيس الجهمية 2/480 والتنبيهات السنية ص11. 2 إغاثة اللهفان 2/107. 3 إغاثة اللهفان 2/158 وانظر الفتاوى 4/32 والدين الخالص 3/180. 4 سورة إبراهيم آية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ب- بين الله سبحانه أن البشرية كانت أول أمرها على التوحيد ثم طرأ عليها الشرك وتعدد الآلهة لقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} 1، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} 2. وجمهور المفسرين يقولون بأن الناس كانوا أمة واحدة على الهدى والتوحيد، فظهر فيهم الشرك عن طريق تعظيم الموتى، فبعث الله إليهم رسله ليردوهم إلى التوحيد. قال الطبري: "وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة.. وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة في عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام كما روى عكرمة عن ابن عباس وكما قاله قتادة" 3 انتهى باختصار. وعن ابن عباس: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" 4. وعن قتادة قال: "ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عليهما   1 سورة البقرة آية 213. 2 سورة يونس آية 19. 3 تفسير الطبري 2/336 وانظر كذلك 11/98 وتفسير الكشاف 1/355. 4 الفتاوى 20/106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 السلام عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحًا وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض"1. ورجح ابن كثير قول ابن عباس وقتادة معللًا ترجيحه بقوله: "لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض2"، ويقول: ثم أخبر الله تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام"3. (ج) بين الله في كتابه أن التوحيد هو أصل دعوة الرسل وإليه دعوا أقوامهم، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 4، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 5، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 6، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 7، وكل رسول افتتح دعوته لأمته بالدعوة   1 انظر إغاثة اللهفان 2/203 - 205. 2 تفسير ابن كثير 1/250. 3 تفسير ابن كثير 2/411. 4 سورة الشورى آية 13. 5 سورة الأنبياء آية 25. 6 سورة النحل آية 36. 7 سورة الزخرف آية 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 إلى عبادة الله فقال: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} 1.قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والإخلاص كما كان أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان بدعة من تلقاء أنفسهم لم ينزل الله بها كتابًا ولا أرسل بها رسولًا بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة، قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية، وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين، وقوم جعلوهم لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين وقوم على مذاهب أخرى.. فابتعث الله نبيه نوحًا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه.. وجاءت الرسل بعده تترى إلى أن عم الأرض دين الصابئة والمشركين لما كانت النماردة والفراعنة, فبعث الله تعالى إليهم إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة والكلمة الباقية إبراهيم خليل الرحمن فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام.. فجعل الأنبياء والمرسلين من أهل بيته، وبعث الله بعده أنبياء من بني إسرائيل.. ثم بعث الله عيسى المسيح ابن مريم.."2 انتهى باختصار.   1 سورة الأعراف آية 59، والمؤمنون آية 32. 2 الفتاوى 28/603 وانظر الفتاوى 1/154، 3/397، 19/106، ومدراج السالكين 3/447 وإغاثة اللهفان 2/203 وشرح الطحاوية ص22 والتفسير القيم ص201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 من هذا يتبين لنا أن الشرك لم يكن أصلًا في بني آدم بل كان آدم ومن جاء بعده من ذريته على التوحيد إلى أن وقع الشرك. 2- وأما ردنا على نظرية التطور من أبحاث العلماء القائلين بنظرية أصالة التوحيد المنكرين لنظرية التطور فنقول: أ- انقسم علماء الأجناس والأديان المقارنة إلى فريقين: فريق قال بنظرية التطور وقد سبق ذكرها، وفريق آخر من العلماء قال بنظرية معاكسة تمامًا للنظرية الأولى، من أمثال هؤلاء العلماء: لانج وشريدر، وفريزر، وشميدت، وبتا تزوني، وفوكارت، فقد توصل هؤلاء العلماء من خلال أبحاثهم التي قاموا بها إلى أن الأصل هو التوحيد وليس الشرك، وسموا نظريتهم نظرية فطرية التوحيد وأصالته1، وقد انتصر لهذه النظرية فريق كبير من العلماء وأيدوها بما توصلوا إليه من اكتشافات وحفريات قديمة تدل على أن هناك أممًا عريقة في القدم لم تكن تعرف تعدد الآلهة وكانت تؤمن بالإله الواحد، وبنوا على هذه الحفريات والكتابات المكتشفة نظريتهم القائلة بأن عقيدة الوحدانية هي أقدم ديانة عرفها البشر وأن التعدد والوثنية طارئة ومتطفلة على عقيدة التوحيد. ب- ونرد عليهم كذلك بأن المنهج الذي سلكه العلماء القائلون بنظرية التطور حتى توصلوا لما توصلوا إليه من نتائج تطورية، هو منهج خاطئ؛ لأن مقارناتهم كانت لا تفرق بين الدين الصحيح والخرافات الأسطورية الهمجية، التي كانت منتشرة   1 انظر الدين لدراز ص112 ونشأة الدين للنشار ص202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 عند الشعوب القديمة عن الأرواح والأحلام وما إلى ذلك، جعلوا عقيدة التوحيد على قدم المساواة بالعقائد الأخرى الباطلة، فهم لا يفرقون بين اليهودية والنصرانية والصابئية والمجوسية والبوذية والهندوكية وسائر أنواع الشرك من جهة، وبين الإسلام من جهة أخرى. ج- ونرد عليهم كذلك بأن بحوثهم قامت على افتراضات وتخمينات بسبب أنهم بحثوا في أمم مر عليها آلاف السنين وهي تعتبر في عالم الغيب الذي لا مصدر صحيح لمعرفته إلا بالوحي، ولذلك جاءت أبحاثهم مناقضة للمنهج العلمي الصحيح؛ لأنهم بحثوا فيما لا يستطيع العقل أن يبحث فيه، وكانت أقوالهم رجمًا بالغيب ليأتوا بما يوافق أهواءهم من النتائج1. وبهذا بتبين لنا أن القائلين بنظرية التطور كانوا في أحكامهم مخطئين في الهدف الذي دفعهم لهذه النتائج وفي الوسيلة التي سلكوها في أبحاثهم، وبالتالي فلا قيمة علمية لأبحاثهم تلك. وبهذا تبطل نظرية التطور التي نادى بها هؤلاء، ونحن لا ننفي أن عبادة الأسلاف والكواكب وسائر مظاهر الطبيعة والحيوانات كانت موجودة في بعض الأمم والشعوب، ولكن الذي ننفيه هو ادعاؤهم أن هذه العبادة للآلهة المتعددة كانت هي أصل نشأة العقيدة، وأن التوحيد لاحق لهذه المرحلة؛ لأن هذا معناه أن الدين من اختراع البشر أولًّا، وأن التوحيد طارئ على البشرية ثانيًا، وأن عقيدة التوحيد لا مانع أن تتطور إلى مرتبة أرقى كما زعم العقاد وغيره، ولا أرى هذه المرتبة التالية للتوحيد في نظرهم إلا الإلحاد، وهذا ما يريده أعداء الله لهذه الأمة.   1 انظر الدين لدراز ص118 ونشأة الدين ص180 وأخطاء المنهج الغربي الوافد ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 حقيقة التوحيد تمهيد الباب ... تمهيد إن كثيرًا من الناس في مختلف أقطار العالم الإسلامي في عصرنا هذا قد غفلوا عن حقيقة التوحيد الذي طالبهم به رب العالمين وبعث به رسله وأنزل به كتبه، فيعملون أعمالًا ويعتقدون عقائد تدخلهم في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون، وما ذلك إلا أنهم غفلوا عن معاني الكلمات الأربع وهي كلمات: الإله والرب والدين والعبادة، ولم يفرقوا بين توحيد الألوهية والربوبية، فيؤمنون بالخالق ويحسبون أنهم بذلك وحدوا الله، وهم في الواقع يعبدون غيره. وسأتناول في هذا الباب ثلاثة فصول: الأول: أذكر فيه معنى الكلمات الأربع وهي: الإله والرب والدين والعبادة. والثاني: أبين فيه أنواع التوحيد وفي أيها وقع النزاع بين الرسل وأممهم. والثالث: أوضح فيه الضرورة إلى عقيدة التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 معنى كلمة الإله، الرب، الدين، العبادة مدخل ... تمهيد إن كثيرًا من الناس في مختلف أقطار العالم الإسلامي في عصرنا هذا قد غفلوا عن حقيقة التوحيد الذي طالبهم به رب العالمين وبعث به رسله وأنزل به كتبه، فيعملون أعمالًا ويعتقدون عقائد تدخلهم في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون، وما ذلك إلا أنهم غفلوا عن معاني الكلمات الأربع وهي كلمات: الإله والرب والدين والعبادة، ولم يفرقوا بين توحيد الألوهية والربوبية، فيؤمنون بالخالق ويحسبون أنهم بذلك وحدوا الله، وهم في الواقع يعبدون غيره. وسأتناول في هذا الباب ثلاثة فصول: الأول: أذكر فيه معنى الكلمات الأربع وهي: الإله والرب والدين والعبادة. والثاني: أبين فيه أنواع التوحيد وفي أيها وقع النزاع بين الرسل وأممهم. والثالث: أوضح فيه الضرورة إلى عقيدة التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 "1" معنى كلمة "الإله" تمهيد : أذكر في هذه النقطة: أ- الله علم الذات الواجب الوجود. ب- أصل لفظ الجلالة "الله" هل هو جامد أو مشتق. ج- معنى لفظ الجلالة والاشتقاقات التي يرجع إليها. د- سبب تسمية الأصنام آلهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 أ- "الله" علم على الذات الواجب الوجود اسم "الله": علم على الذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال الإلهية, المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، فهو اسم للموجود الحق الواجب الوجود المستحق للعبادة1. وهذا الاسم أعظم أسمائه سبحانه وأجمعها حتى قال بعض العلماء بأنه اسم الله الأعظم، ولم يتسم به غيره ولذلك لم يثنَّ ولم يجمع، وهو أحد تأويلي قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 2، أي هل تعلم من تسمى باسمه الذي هو "الله". ولأن اسم الله علم دال على الإله الحق دلالة جامعة لجميع الأسماء الحسنى، فهو يوصف بجميع الصفات ولا يوصف به غيره، لأنه الغاية لجميع الأسماء، فكل اسم بعده لا يتعرف إلا به كما قال تعالى: {ُهوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ   1 انظر تاج العروس 9/374 وتفسير القرطبي 1/102 والتنبيهات السنية ص4. 2 سورة مريم آية 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ, هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ, هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1، ولذلك نقول مثلًا: الله هو السلام المؤمن المهيمن الرحمن الرحيم القابض الباسط، ولا نقول: السلام المؤمن المهيمن الرحمن الرحيم القابض الباسط الله؛ لأن لفظ الله يعرِّف غيره وغيره لا يعرفه2. قال الزمخشري: "فإن قلت أسم هو أم صفة؟ قلت: بل اسم غير صفة، ألا تراك تصفه ولا تصف به ولا تقول: شيء إله كما لا تقول: شيء رجل، وتقول: إله واحد صمد كما تقول: رجل كريم خير، وأيضًا فإن صفاته تعالى لا بد لها من موصوف تجري عليه، فلو جعلتها كلها صفات بقيت غير جارية على اسم موصوف بها وهذا محال"3.   1 سورة الحشر آية 22-24. 2 انظر الدين الخالص 1/67. 3 تفسير الكشاف 1/37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ب- أصل لفظ الجلالة "الله" اختلف النحاة في لفظ الجلالة هل هو موضوع للذات علم فيكون اسمًا جامدًا، أو هو مشتق وله أصل في اللغة؟ أولًّا: ذهب الشافعي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم إلى أن لفظ الجلالة "الله" اسم جامد غير مشتق من شيء البتة؛ لأنه علم لزمته الألف واللام ولا يجوز حذفهما منه1، قال الرازي وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء، وقال الخليل: لا تطرح الألف من لفظ الجلالة فإنما   1 انظر المصباح المنير 1/24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 هو الله عز ذكره على التمام، فليس هو من الأسماء التي يجوز اشتقاق فعل منها كما يجوز في الرحمن الرحيم1. وقد استدل أصحاب هذا الرأي بأدلة منها: 1- أن لفظ الجلالة لو كان مشتقًّا لاشترك في معناه كثيرون. 2- أن بقية الأسماء تذكر صفات له فنقول: الله الرحمن الرحيم الملك القدوس، فدل على أنه ليس بمشتق، فأما قول تعالى: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ, اللَّهِ} 2، على قراءة الجر فذلك من باب عطف البيان. 3- قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا} 3، فدل على أن لفظ الجلالة اسم جامد غير مشتق. قال ابن كثير: وفي الاستدلال بها على كون الاسم جامدًا نظر. 4- أن الألف واللام من بنية هذا الاسم ولم يدخلا للتعريف لدخول حرف النداء عليه كقولك: يا ألله وحروف النداء لا تجتمع مع أل التعريف، ألا ترى أنهما من بنية الاسم وأنه اسم جامد غير مشتق4. 5- قال السهيلي وشيخه أبو بكر ابن العربي أن اسم "الله" غير مشتق؛ لأن الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها واسمه تعالى قديم فيستحيل الاشتقاق5.   1 انظر لسان العرب 13/467. 2 سورة إبراهيم آية 1-2. 3 سورة مريم آية 65. 4 انظر تفسير القرطبي 1/103. 5 انظر تيسير العزيز الحميد ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ثانيًا: قال سيبويه: وأكثر أهل العلم أن لفظ الجلالة "الله" مشتق وله أصل في اللغة، وهو الأصح لقراءة ابن عباس رضي الله عنهما "ويذرك وإلاهتك" لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد. ولفظ الجلالة "الله" أصله "إلاه" دخلت عليه الألف واللام فبقي الإله ثم نقلت حركة الهمزة التي هي فاء الاسم إلى اللام وأسقطت الهمزة فبقي "ألِلَاه" فالتقت اللام التي هي عين الاسم واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة فأسكنت اللام الأولى التي هي فاء الاسم ثم أدغمت في اللام الأخرى التي هي عين الاسم فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة, فقالوا: الله بالتفخيم، والتفخيم بلفظ الجلالة "الله" للتعظيم لكنها ترقق مع كسر ما قبلها1. وهذا القول بأن أصل لفظ الجلالة "الله" هو "إلاه" قال به الخليل والكسائي والفراء, حيث قالوا بأن أصل لفظ الجلالة "الله" هو "إلاهٌ" مثل فِعال فحذفوا الهمزة وأدخلوا بدلها الألف واللام. قال سيبويه: ونظيره الناس أصله أُناس, ولذلك قيل في النداء يا ألله بالقطع كما يقال يا إله2، وقد مثل الكسائي لهذا الحذف والإدغام في لفظ الجلالة بقوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} 3، فأصله لكن أنا، ثم إن العرب   1 انظر تاج العروس 9/374 ولسان العرب 3/367 والمصباح المنير 1/24 وتفسير الطبري 1/54 ومخطوطة سفر السعادة وسفير الإفادة للسخاوي الهمداني ج1 ص4. 2 انظر تفسير الكشاف 1/36. 3 سورة الكهف آية 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لما سمعوا اللهم جرت في كلام الخلق توهموا أنه إذا ألقيت الألف واللام من لفظ الجلالة كان الباقي "لاه" فقالوا: لاهمّ وأنشدوا: لاهمَّ أنت تجبر الكسيرا ... أنت وهبت جلة جُرجُورا واستدل أبو الهيثم بأن أصل لفظ الجلالة "إلاه" بقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} 1. وأما بالنسبة لتفخيم لفظ الجلالة "الله" فقد ذكر الزمخشري عن الزجاج أن العرب كلهم على ذلك، واطباقهم عليه دليل على أنهم ورثوه كابرًا عن كابر2. وقيل بأن أصل الكلمة "لاه" وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم فصار "الله" ومنه قول الشاعر: لاهِ ابنُ عمك لا أفضلت في حسبٍ ... عني ولا أنت دياني فتخزوني أي تسوسني3. وقد رد ابن القيم رحمه الله على القائلين بأن لفظ الجلالة جامد غير مشتق وليس له أصل في اللغة، فبين أنه ليس مراد القائلين بالاشتقاق أن هناك مادة لغوية تسبق هذا الاسم فاشتق منها؛ لأن اسم الله تعالى قديم وليس مستمدًا من أصل آخر، ومن اعتقد هذا منهم فاعتقاده باطل، والحق أنهم لم يريدوا هذا المعنى ولا ألمّ بقلوبهم، وإنما أرداوا أنه دال على صفة له تعالى وهي صفة الإلهية كسائر أسمائه الحسنى كالعليم والقدير والغفور والرحيم والسميع والبصير، فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها   1 سورة المؤمنون آية 91. 2 تفسير الكشاف 1/40. 3 تفسير القرطبي 1/102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 بلا ريب وهي قديمة, والقديم لا مادة له ولا شيء قبله، ومعنى اشتقاقها أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله، وتسمية النحاة للمصدر المشتق منه أصلًا وفرعًا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر, وإنما باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة؛ لأن معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعدًا معنى واحد1. ويرد الطبري كذلك فيقول: "فإن قال قائل: فهل لذلك في فعل ويفعل أصل كان منه بناء هذا الاسم؟ قيل: أما سماعًا من العرب فلا ولكن استدلالًا، فإن قال: وما دل على أن الألوهية هي العبادة وأن الإله هو المعبود وأن له أصلًا في فعل ويفعل؟ قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل يصف رجلًا بعبادة ويطلب مما عند الله جل ذكره: تأله فلان"2.   1 انظر تيسير العزيز الحميد ص14- وبدائع الفوائد ج1 ص22. 2 تفسير الطبري 1/54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 جـ- معنى لفظ الجلالة "الله" والاشتقاقات التي يرجع إليها أجمع العلماء على أن الهمزة واللام والهاء أصل واحد في الكلمة1، وقد وردت في كتبهم عدة معاني للفظ الجلالة والأصل الذي اشتق منه نجملها فيما يلي: 1- قال بعضهم: هو مشتق من ألِهَ يألَهُ على وزن تعب يتعب، أي عبد يعبد   1 قال في المصباح المنير: قال أبو حاتم: وبعض العامة يقول: لا "والله" فيحذف الألف ولا بد من إثباتها في اللفظ، وهذا كما كتبوا الرحمن بغير ألف ولا بد من إثباتها في اللفظ، واسم الله تعالى يجل أن يُنطق به إلا على أجمل الوجوه، قال: وقد وضع بعض الناس بيتًا حذف فيه الألف، فلا جزي خيرًا، وهذا خطأ, ولا يعرف أئمة اللسان هذا الحذف, ويقال في الدعاء: "اللهم, ولاهمّ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 والإلاهة: العبادة، يقال: ألِه الرجل وتأله: إذا تعبد، فالإله: هو المبعود، والتأليه التعبيد، والتأله التعبد والتنسك، ومنه قول رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المُدَّهِ ... سبحن واسترجعن من تألهي أي من تعبدي، والتأله: التفعل من ألِه يَأْلَهُ، و"أَلِه إِلاهةً" بالكسر و"أُلوهة وأُلوهية" بالضم معناه: عبد عبادة، ومنه قراءة ابن عباس: ويذرك وإلاهتك بكسر الهمزة: أي يترك عبادته. قال الطبري: "ولاشك أن الإلاهة على ما فسره ابن عباس ومجاهد، مصدر من قول القائل: ألِه اللهَ فلان إلاهةً, كما يقال: عبد الله فلان عبادة وعبر الرؤيا عبارة" فقد بين تفسيرهما: أن أله عبد وأن الإلاهةَ مصدره1. مما سبق يتبين لنا أن معنى لفظ الجلالة "الله" أنه المقصود بالعبادة، ومنه قول الموحدين لا إله إلا الله: أي لا معبود غير الله، ولفظ إلا في كلمة التوحيد بمعنى غير لا بمعنى الاستثناء2. فالإله: هو المعبود وهو الله سبحانه، وهو على وزن فِعال بمعنى مفعول مثل كتاب بمعنى مكتوب وبساط بمعنى مبسوط، فالإله إذن على معنى ما روي عن ابن عباس: "هو الذي يألهه كل شيء ويعبده كل خلق، والله ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين"3. 2- وقال بعضهم: إن اسم الباري سبحانه مأخوذ من أَلِهَ يَأْلَه إذ تحير، وأصله وَلِهَ يَوْلَهُ وَلهًا على وزن تَعِبَ يَتْعَبُ تَعَبًا، والوَلَهُ ذهاب العقل، يقال: رجل واله وامرأة والهة ووالِه وماء مُولَه أو ماء مُولَّه: إذا أرسل في الصحراء، فالله   1 تفسير الطبري 1/54 والمخطوطة السابقة ص 5-6. 2 انظر تفسير القرطبي 1/103. 3 انظر تفسير الطبري 1/54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 سبحانه وتعالى تتحير الألباب والفكر في حقائق صفاته ومعرفته، وعلى هذا فأصل كلمة إله: ولاه وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في إشاح ووشاح وإسادة ووسادة، فأصل الكلمة منتظمة معنى التحير والدهشة، ويقال ألهت على فلان، واشتد جزعي عليه مثل ولهت1، وقد أنكر أبو الحسين ابن فارس هذا المعنى واعتبر أن قولهم في التحير أله يأله ليس من الباب لأن الهمزة واو، وعنده أن الشمس تسمى الإلاهة لأن قوما كانوا يعبدونها ومنه قول شاعرهم: فبادرنا الإلاهة أن تؤوبا2 3- وقال بعضهم أن لفظ الجلالة مأخوذ من أله يأله إلى كذا: أي لجأ إليه فيقال: أله الرجل إلى الرجل: إذا فزع إليه من أمر نزل به فألهه أي أجاره، وروي عن الضحاك أنه قال: إنما سمي الله إلها لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم ويتضرعون إليه عند شدائدهم، وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه "بنصب اللام" ويألهون أيضًا "بكسرها" وهما لغتان3. فيكون معنى لفظ الجلالة على هذا الإشتقاق هو من يفزع إليه في النوائب لأنه المجير لجميع الخلائق من كل المضار كما قال تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْه} 4، وهو وحده المنعم بجميع النعم كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} 5، وقوله   1 انظر لسان العرب13/367 والقرطبي 1/103 وابن كثير 1/19. 2 انظر معجم مقاييس اللغة 1/127. 3 انظر تفسير القرطبي 1/103 وتفسير ابن كثير 1/19 والمخطوط السابقة ص5. 4 سورة المؤمنون آية 88. 5 سورة النحل آية 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} 1، وهو وحده المطعم الرازق كما قال تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَم} 2. 4- وقال بعضهم بأن لفظ الإله مشتق من "لاه يليه ويلوه لِيهًا" إذا احتجب3 فلفظ الجلالة يتضمن معنى الاحتجاب، كما قال تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 4. 5- وقال الرازي: إنه مشتق من ألِهتُ "إلى فلان" أي سكنت إليه، فالقلوب لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته، والنفوس لا تطمئن إلا بالتقرب إليه، فكل شيء تخافه فتهرب منه، ومن خاف الله تقرب إليه فيحصل له الاطمئنان والسكون5، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} 6. 6- وقيل: إنه مشتق من "ألِه الرجل إلى الرجل" إذا اتجه إليه لشدة شوقه إليه، ومنه "ألِه الفصيل بأمه" إذا أولع بأمه، وعلى هذا فيكون لفظ الجلالة متضمنًا لمعنى أن العباد يتوجهون إليه وحده سبحانه وتعالى، والمعنى كما قال ابن كثير: إن العباد مألوهون: أي مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال, لقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} 7 8.   1 سورة النمل آية 62. 2 سورة الأنعام آية 14. 3 انظر تفسير ابن كثير 1/19. 4 سورة الأنعام آية 103. 5 انظر تفسير ابن كثير 1/19. 6 سورة الرعد آية 28. 7 انظر تفسير ابن كثير 1/19. 8 سورة الإسراء آية 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 7- وقيل: إنه مشتق من الارتفاع, فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاها, وإذا طلعت الشمس يقولون: لاهت1، وعلى هذا يتضمن لفظ الجلالة معنى العلو والارتفاع. وقد رجح جماعة من العلماء القول الأول وأن لفظ الجلالة "الله" مشتق من ألِه يألَه إذا عبد، فهو إله بمعنى مألوه أي معبود، وكل الاشتقاقات والمعاني الأخرى تدخل تحت هذا المعنى الأول, فهو متضمن لها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إذ الإله هو الذي يُؤْله فيعبد محبة وإنابة وإجلالًا وإكرامًا، فالإله من يستحق أن يألهه العباد ويدخل فيه حبه وخوفه, فما كان من توابع الألوهية فهو حق الله محض"2. وفي معرض الرد على من زعم أن الإله بمعنى الفاعل، فهو القادر على الاختراع, والإلهية هي القدرة، يقول رحمه الله: "والإله" هو المألوه أي المستحق لأن يُؤْله أي يعبد، ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا الله وحده, وكل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل.. وقد غلط طائفة من أهل الكلام فظنوا أن الإله بمعنى الفاعل وجعلوا الإلهية هي القدرة والربوبية، فالإله هو القادر وهو الرب، وجعلوا العباد مألوهين كما أنهم مربوبون، يقول ابن عربي: الأعيان ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها، فلهذا قال: فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهًا، فزعم أن المخلوقات جعلت إلهًا لها حيث كانوا مألوهين،   1 انظر تفسير القرطبي 1/103. 2 الفتاوى 1/22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ومعنى مألوهين عنده مربوبين، وكونهم مألوهين حيث كانت أعيانهم ثابتة في العدم، وفي كلامهم من هذا وأمثاله مما فيه تنقص بالربوبية ما لا يحصى"1. وقال كذلك: "وليس المراد بالإله هو القادر على الاختراع، كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع فقد شهد بأن لا إله إلا هو، فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون ... بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد، فهو إله بمعنى مألوه.. والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلهًا آخر"2.   1 الفتاوى 13/203. 2 الفتاوى 3/101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 د- سبب تسمية الأصنام آلهة قلنا: إن لفظ الجلالة "الله" أصله "إله" فحذفت همزته وأدخل عليه الألف واللام فخص بالباري تعالى ولاختصاصه به سبحانه قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا} 1، ولفظ الإله اسم من أسماء الأجناس كالرجل والفرس، فهو اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق, كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا, وكذلك السنة اسم لكل عام ثم غلبت على عام القحط، وغلب اسم البيت على الكعبة2، فكل ما اتخذه المشركون معبودًا من دون الله، فهو إله عندهم وجمعه آلهة, والآلهة الأصنام سميت بذلك لاعتقاد المشركين أنها تستحق العبادة، وأسماؤها تتبع اعتقاداتهم فيها لا ما هي عليه في نفس الأمر وحقيقته3، فكون هذه الأصنام أُطلق عليها اسم الآلهة، وعبدت من دون الله عز وجل، لا   1 سورة مريم آية 65. 2 انظر الكشاف 1/36. 3 انظر لسان العرب 13/467. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 يغير من حقيقتها شيئًا وأنها مخلوقة، ولا تكون آلهة حقيقة لأن الإله الحق لا يكون معبودًا بحق حتى يكون لعابده خالقًا ورازقًا ومدبرًا له، وعليه مقتدرًا، فمن لم يكن كذلك كالأصنام وغيرها فليس بإله على الحقيقة، وإطلاقهم اسم الآلهة عليها، إنما هو من حيث المعاني والاعتقادات، ومن حيث أنهم خصوها ببعض صور العبادة التي هي حق الله تعالى, ومن حيث أنهم كانوا يرجون شفاعتها ويعتقدون فيها النفع والضر كما قال تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1.. وغير ذلك مما كان من توابع الألوهية وهو حق محض لله تعالى، لأنه هو سبحانه المستحق لجميع صفات الكمال والمنزه عن جميع صفات النقص، فلا يستحق أن يكون معبودًا محبوبًا لذاته إلا هو تعالى, فعبادة غيره وحب غيره موجب للفساد كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 2 3. يقول ابن القيم رحمه الله حول قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم} 4: "ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة، فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها، وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى، فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها، وهذا كمن سمى قشور البصل لحمًا وأكلها فيقال: ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه، وكمن سمى التراب خبزًا وأكله فيقال:   1 سورة الزمر آية 3. 2 سورة الأنبياء آية 22. 3 انظر لسان العرب 13/467 والتنبيهات السنية ص4 4 سورة يوسف آية 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ما أكلت إلا اسم الخبز، بل هذا النفي أبلغ في نفي الإلهية عن آلهتهم فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه، وما الحكمة ثَمَّ إلا مجرد الاسم"1.   1 التفسير القيم ص481. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 2- معنى كلمة "الرب" وردت كلمة "رب" لعدة معاني في معاجم اللغة, ولكنها عند التحقيق ترجع إلى ثلاثة أصول وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الأصل الأول : وردت كلمة "رب" لغة بمعنى مالك الشيء وصاحبه، ومنه: فلان رب الدار أي صاحبها ومالكها ورب الدابة كذلك، وكل من ملك شيئًا فهو ربه1. قال ابن منظور: "وفي حديث إجابة المؤذن: "اللهم رب هذه الدعوة" 2.. أي صاحبها، وقيل المتمم لها والزائدة في أهلها والعمل بها والإجابة لها. فأما الحديث في ضالة الإبل: "حتى يلقاها ربها" 3: فإن البهائم غير متعبدة ولا مخاطبة، فهي بمنزلة الأموال التي تجوز إضافة مالكيها إليها وجعلهم أربابًا لها.. والعباد مربوبون لله عز وجل: أي مملوكون"4 انتهى باختصار. وقال الزبيدي: "الرب هو الله عز وجل وهو رب كل شيء أي مالكه، وله الربوبية على جميع الخلق لا شريك له, وهو رب الأرباب ومالك الملوك والأملاك6" انتهى بلفظه.   1 انظر لسان العرب 1/399، والمصباح المنير 1/229، ومعجم مقاييس اللغة 2/381، وتفسير الطبري 1/62. 2 رواه البخاري في الأذان 8 عن جابر بن عبد الله. 3 رواه ابن ماجه في اللقطة /1 عن زيد بن خالد الجهني في البخاري رقم 91 وفي مسلم رقم 172. 4 انظر تاج العروس 1/260 ولسان العرب 2/399. 5 تاج العروس 1/260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وقال القرطبي: "رب العالمين: أي مالكهم وكل من ملك شيئًا فهو ربه, فالرب المالك ... فالله سبحانه رب الأرباب، يملك الملك والمملوك وهو خالق ذلك ورازقه، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فمملَّك بعد أن لم يكن ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيئًا دون شيء، وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني، فهذا الفرق بين الخالق والمخلوق"1. انتهى باختصار.   1 تفسير القرطبي 1/136 - 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الأصل الثاني : ووردت كلمة "رب" في اللغة كذلك بمعنى السيد المطاع1. قال الطبري: "وأما تأويل قول: "رب" فإن الرب في كلام العرب متصرف على معانٍ: فالسيد المطاع فيها يدعى ربًّا ومن ذلك قول لَبيد بن ربيعه: وأهلِكنْ يوما رب كِندة وابنه ... ورب معدٌّ بين خبت وعَرْعَرِ يعني رب كندة: سيد كندة، ومنه قول نابغة بني ذبيان: تخب إلى النعمان حتى تناله ... فدًى لك من ربٍّ طريفي وتالدي2 وقال ابن منظور: "ربيت القوم: سستهم، أي كنت فوقهم وقال أبو نصر: هو من الربوبية، والعرب تقول: لأن يربني فلان أحب إلي من أن يربني فلان: يعني أن يكون ربًّا فوقي وسيدًا يملكني"3 انتهى بلفظه. ورب فلان قومه: أي ساسهم وجعلهم ينقادون له، ورببت القوم: أي حكمتهم   1 انظر تاج العروس 1/260، ولسان العرب 1/399، وتفسير الطبري 1/62، وتفسير القرطبي 1/137، وتفسير ابن كثير 1/23. 2 تفسير الطبري 1/62. 3 لسان العرب 1/399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وسدتهم، ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَاي} 1. وقوله تعالى عنه: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} 2، وقوله تعالى عنه: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك} 3، وقوله تعالى عنه: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّك} 4، ومعنى كلمة رب في هذه الآيات: السيد الذي له عليه الطاعة، وفي حديث أشراط الساعة ... "أن تلد الأمة ربتها" 5: أي سيدتها.   1، 2، 3، 4 سورة يوسف آيات رقم 23/41/42/50. 5 رواه البخاري في تفسير سورة لقمان ورقمه 4777، وفي كتاب الإيمان رقم 50، ومسلم في الإيمان1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الأصل الثالث : وتطلق كلمة "رب" في اللغة كذلك على المصلح للشيء المدبر له، القائم على تربيته، حتى أن بعض العلماء قال بأن كلمة رب مشتقة من التربية؛ لأنه سبحانه مدبر الخلق ومربيهم1. قال أحمد بن فارس: "والرب المصلح للشيء، يقال: ربَّ فلانٌ ضيعته: إذا قام على إصلاحها"2 انتهى بلفظه. وقال القرطبي: "والرب المصلح والمدبر والجابر والقائم، قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يرُّبه فهو ربٌّ له ورابٌّ، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب"3 انتهى بلفظه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "هل لك نعمة تَرُّبَها.."4 أي تحفظها وتراعيها وتقوم بها وتصلحها وتربيها كما يربى الرجل ولده5.   1 رواه البخاري في تفسير سورة لقمان ورقمه 4777، وفي كتاب الإيمان رقم 50، ومسلم في الإيمان1. 2 انظر تفسير القرطبي 1/137. 3 معجم مقاييس اللغة 2/381. 4 تفسير القرطبي: 1/137. 5 رواه أحمد بن حنبل في مسنده 2/292. 10 انظر لسان العرب 1/400 وتفسير القرطبي 1/137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قال الزبيدي: "ربَّ ولده والصبي يربُه ربا: أحسن القيام عليه ووليه حتى أدرك وفارق الطفولية كان ابنًا أو لم يكن"1. انتهى بلفظه. وقال الفيومي: "ومنه قيل للحاضنة: رابة. ورابية أيضًا - فعيلة بمعنى فاعلة. وقيل لبنت امرأة الرجل ربيبة: فعلية بمعنى مفعوله، لأنه يقوم بها غالبًا تبعًا لأمها، والجمع ربائب، وجاء: ربيبات على لفظ الواحدة والابن ربيب"2 انتهى بلفظه. ومنه قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} 3: فسمى بنت الزوجة: ربيبة لتربية الزوج لها, فالزوج رابٌّ؛ لأنه قام على أمر الربيبة. ويقال للصبي والفرس: مربوب. والمربوب: المربَّى. وتطلق كلمة الربيبة أيضًا على الغنم التي يربيها الناس في البيوت لألبانها، وغنمٌ ربائب وهي التي تربط قريبًا من البيوت وتعلف لا تُسام، وواحدتها ربيبة: بمعنى مربوبة؛ لأن صاحبها يربيها4. قال الطبري: ومنه قول علقمة بن عبدة: فكنت أمرأً أفضت إليك ربابتي ... وقبَلك ربَّتْني فضِعتُ رَبُوبُ يعني يقول: أفضت إليك: أي أوصلت إليك ربابتي فصرت أنت الذي ترب أمري فتصلحه لما خرجت من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك عليّ فضيعوا أمري وتركوا تفقده، وهم الربوب واحدهم رب"5 انتهى بلفظه.   1 تاج العروس 1/261. 2 المصباح المنير 1/229. 3 سورة النساء آية 23. 4 انظر لسان العرب 1/400 وتفسير القرطبي 1/137. 5 تفسير الطبري 1/62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 هذه المعاني الثلاثة لكلمة رب "وأعني بها: المالك الصاحب، والسيد المطاع، والمربي المصلح للشيء" هي التي أقرها العلماء والمفسرون لأنها هي الأصول اللغوية لمعنى الكلمة، وأي معنى آخر فهو مندرج تحت أصل من هذه الأصول الثلاثة. قال ابن منظور: قال ابن الأنباري: الرب: ينقسم على ثلاثة أقسام: يكون الرب: المالك، ويكون الرب: السيد المطاع، {فَيَسْقِيْ رَبَّهُ خمرًا} ، والرب: المصلح، ربَّ الشيء: إذا أصلحه"1 ا. هـ. وقال الطبري بعد أن ذكر هذه الوجوه الثلاثة: "وقد يتصرف أيضًا معنى الرب في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة، فربنا جل ثناؤه السيد الذي لا شبه له ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمة، والمالك الذي له الخلق والأمر"2 أ. هـ. وكلمة رب لا تطلق على المخلوق إلا مقيدة بالإضافة، كأن نقول: زيد رب الدار. وإذا خلت من قيد الإضافة، فتنصرف إلى الله وحده، ولكن إذا جاءت قبل كلمة "رب" الألف واللام فقلنا الرب؛ فلا تدل إلا على الله سبحانه وتعالى، وفي هذا يقول ابن منظور: "الرب" هو الله عز وجل, هو رب كل شيء: أي مالكه، وله الربوبية على جيمع الخلق لا شريك له، وهو رب الأرباب وملك الملوك والأملاك.. ولا يطلق غير مضاف إلا على الله عز وجل، وإذا أطلق على غيره أضيف فقيل رب كذا"3 أ. هـ. وقال القرطبي: "متى دخلت الألف واللام على "رب" اختُصَّ الله تعالى به،   1 لسان العرب 1/400. 2 تفسير الطبري 1/62. 3 لسان العرب 1/399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 لأنها للعهد، وإن حذفتا صار مشتركًا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد، وزيد رب الدار"1 أ. هـ. وعلى هذا انعقد إجماع أهل اللغة والمفسرون ولم يؤثر عن العرب أنهم استعملوا كلمة الرب المعرفة بالألف واللام لغير الله تعالى، وأما بيت الحارث بن حلزة الذي استعمل فيه كلمة الرب معرفة بالألف واللام حيث يقول: فهو الرب والشهيد على يو ... م الحِيَارَيْنِ والبلاءُ بلاءُ2 فأجيب عنه بأن اللام فيه جاءت عوضًا عن الإضافة لأن كلمة رب في هذا البيت بمعنى السيد3. فاختصاص الله سبحانه بإطلاق لفظ الرب معرفًا بالألف واللام عليه وحده وعدم إطلاق ذلك على المخلوق هو الحق الذي لا مرية فيه، لأن اللام للعموم، والمخلوق لا يملك جميع المخلوقات وليس بسيد عليها كلها، ولا هو يصلحها ويربيها، لكن الله تعالى والمالك لجميع الخلائق والسيد العالي والمدبر المربي المصلح لشئون الخلق كلهم، وعلى معنى الملك والسيادة يكون لفظ الرب لله سبحانه صفة ذات، وعلى معنى التدبير والتربية يكون لفظ الرب لله سبحانه صفة فعل4. وأما بالنسبة لكلمة "رب" بغير الألف واللام إذا خلت من قيد الإضافة فإنها   1 تفسير القرطبي جـ1 ص 137 وانظر البحر المحيط ط 1/19 وتفسير ابن كثير 1/23. 2 انظر تاج العروس 1/260 والمصباح المنير 1/229 وتفسير القرطبي 1/137. 3 انظر المصباح المنير 1/229. 4 انظر تفسير القرطبي 1/137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 تدل على الله سبحانه، وتكون شاملة لجميع معانيها، ولكنها إذا أطلقت على المخلوق فلا بد من أن تكون مقيدة بالإضافة، ويكون معناها حينئذ حسب المضاف إليه، فإن أضيفت لما لا يعقل، فتكون بمعنى مالك الشيء وصاحبه، كأن نقول: رب الدين، ورب المال، ورب الإبل، ورب الدار، وإن أضيفت إلى العاقل فتكون بمعنى السيد، ومنه الحديث في علامات الساعة: "حتى تلد الأمة ربتها" أي سيدتها، وفي التنزيل حكاية عن يوسف عليه السلام: {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} أي سيده. وأما استعمالها بمعنى المصلح المربي القائم على الشيء فتطلق على العاقل وغيره، كأن نقول: فلان يرب المزرعة، والغنم والصبي، أي يقوم بشئونهم ويربيهم ويصلح أمرهم ويتعاهدهم. مما تقدم يتبين لنا أن كلمة الرب لا تطلق إلا على الله تعالى؛ لأنه هو الخالق الرازق المحيي المميت المالك للخلق كلهم، المدبر أمرهم, قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والرب هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله، من العبادة وغيرها"1. وقال محمد صديق حسن: "فالرب مصدر رب يربُّ ربًّا فهو رابٌّ، فمعنى قوله: رب العالمين: أي رابّهم، وهو الرب الخالق الموجد لعباده، القائم بتربيتهم وإصلاحهم، المتكفل لهم من خلق ورزق وعافية وإصلاح دين ودنيا"2 أ. هـ. ويقول ابن القيم رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ, مَلِكِ النَّاسِ, إِلَهِ النَّاسِ} وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب.   1 مجموع الفتاوى 1/22. 2 الدين الخالص 1/18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وأخّر الإلهية لخصوصها؛ لأنه سبحانه إنما هو إلهُ مَنْ عبده وحده واتخذه دون غيره إلهًا، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكن المشرك ترك إلهه الحق واتخذ إلهًا غيره باطلًا. ووسّط صفة الملك بين الربوبية والإلهية؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، فهو المطاع إذا أمر، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكه من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها، فهو الرب الملك الحق، الإله الحق، خلقهم بربوبيته وقهرهم بملكه، واستعبدهم بإلهيته. فتأمل هذه الجلالة، وهذ العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام وأحسن سياق {رَبِّ النَّاسِ, مَلِكِ النَّاسِ, إِلَهِ النَّاسِ} . وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاثة على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى. أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى: فإن الرب هو القادر الخالق البارئ المصور، الحي القيوم، العليم السميع البصير، المحسن المنعم، الجواد المعطي المانع، الضار النافع المقدم المؤخر، الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويسعد من يشاء ويشقي من يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء, إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى. وأما الملك: فهو الآمر الناهي، المعز المذل، الذي يصرف أمور عباده كما يحب ويقلبهم كما يشاء، وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى كالعزيز الجبار المتكبر، الحكم العدل، الخافض الرافع، المعز المذل، العظيم الجليل الكبير، الحسيب المجيد، الوالي المتعالي, مالك الملك المقسط الجامع -إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وأما الإله: فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فيدخل في هذا الإسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح أن "الله" أصله الإله، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى، فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى"1 أ. هـ. واختلفوا في الرِّبى والرَّباني -وهو العالم المتبحر في العلم، القائم على الكتب- لماذا سمي بهذا الاسم؟ قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّون} 2 وقال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} 3. فقال جماعة: لأنه منسوب إلى الرب تعالى فهو عارف بالرب عابد له، فسمي ربيًّا, وزيدت الألف والنون للمبالغة، فهو رِبي ورَبَّاني: أي فيه ربانية4. وقال سيبويه بأن زيادة الألف والنون ليست للمبالغة، ولكنها لإفادة تخصيصه بعلم الرب دون غيره، كأن معناه: صاحب علم بالرب دون غيره من العلوم5.   1 التفسير القيم ص598- ص599- والبدائع ص248جـ1. 2 سورة آل عمران آية 146. 3 سورة آل عمران آية 79. 4 انظر تاج العروس 1/260 ومعجم مقاييس اللغة 2/381 وأساس البلاغة ص214. 5 معجم مقاييس اللغة 2/319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 3- معنى كلمة "الدين" قال أحمد بن فارس: الدال والياء والنون أصل واحد إليه ترجع فروعه كلها. وهو جنس من الانقياد والذل"1 أ. هـ.   1 معجم مقاييس اللغة 2/319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وكلمة الدين تطلق في اللغة على معانٍ عديدة منها: 1- القهر والاستعلاء والغلبة من ذي سلطة عليا: يقال: دِنتهم فدانوا أي قهرتهم فأطاعوا، والديان القهار من دان القوم: إذا ساسهم وقهرهم فدانوا له، ومنه قول ذي الأصبع العدواني: لاه ابنُ عمك لا أفضلتَ في حسب ... فينا ولا أنت ديّاني فتخزوني أي لست بقاهر علي فتسوس أمري، وفسرت كلمة دان بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه" 1 بالقهر أي قهر نفسه وذللها، ومن ذلك أن يقال: ديان للقاهر الغالب على قطر أو أمة أو قبيلة والحاكم عليها، كما قال الأعشى الحرمازي مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم: يا سيد الناس وديان العرب. ومنه سمى الله الديان؛ لأنه يقهر الناس على الطاعة ويحكمهم، قال ابن منظور "الديان من أسماء الله عز وجل معناه: الحكم القاضي, والديان القهار"2. 2- وتطلق كلمة الدين لغة كذلك على الطاعة والانقياد والخضوع والذل، يقال: دان له يدين دِينًا: إذا أصحب وانقاد له وأطاعه وخضع وذل له، قال الزبيدي: "والدين الطاعة وهو أصل المعنى وقد دنته ودنت له أي أطعته"3 أ. هـ.   1 الحديث رواه الترمذي في صفة القيامة جـ9 ص282 طبعة دار الكتاب العربي ببيروت. 2 لسان العرب 13/167 وتاج العروس 9/208 وأساس البلاغة ص200. 3 تاج العروس 9/208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 والدين لله: إنما هو طاعته والتعبد له، ودانه دِينًا: أي أذله واستعبده يقال: دنته فدان وقوم دِين: أي دائنون مطيعون منقادون قال الشاعر: ويوم الحزن إذ حشَدتْ مَعدٌّ ... وكان الناس إلا نحن دِينا يعني بذلك مطيعين على وجه الذل1. والمدينة: مفعلة: سميت بذلك لأنها تقام فيها طاعة ذوي الأمر, والمدينة الأمة، والعبد: مدين, سميا بذلك لأنهما أذلهما العمل. وقد فسر الخطابي كلمة الدين بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم "يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية" 2. بالطاعة والخضوع: أي أنهم يخرجون من طاعة الإمام المفترض الطاعة وينسلخون منها ولا يخضعون له3. ومن النظر في المعنيين السابقين نرى أن كلمة الدين استعملت في الضدين العزة والقهر والاستعلاء, وضدها الذل والطاعة والخضوع. قال القرطبي: "قال ثعلب: دان الرجل: إذا أطاع، ودان: إذا عصى، ودان، إذا عز، ودان: إذا قهر, فهو من الأضداد"4 أ. هـ. 3- وتطلق كلمة الدين لغة كذلك على الجزاء والمكأفأة والحساب، ومنه دنته بفعله دَِينا "بفتح الدال وكسرها": أي جزيتة، يوم الدين يوم الجزاء، وفي المثل: كما تدين تدان: أي كما تجازي تجازى، ودانه دِينا: أي جازاه وحاسبه، ومن ذلك قول الشاعر:   1 انظر لسان العرب 13/170 ومعجم مقاييس اللغة 2/319 والطبري 3/211. 2 رواه البخاري في فضائل القرآن 26 والأنبياء 6 والمناقب 25 والمغازي 61 عن علي بن أبي طالب ورواه مسلم في الزكاة. 3 انظر لسان العرب 13/170 وتاج العروس 9/208. 4 تفسير القرطبي 1/144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 واعلم وأيقِن أن ملكك زائل ... واعلم بأنك ما تدين تدان1 قال القرطبي: "الدين، والجزاء على الأعمال والحساب بها.. يدل عليه قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَق} 2: أي حسابهم ... ومنه: الديان في صفة الرب تعالى: أي المجازي. وفي الحديث: "الكيس من دان نفسه": أي حاسبها3. وقوله تعالى: {أَئِنَّا لَمَدِينُون} 4: أي هل نحن مجزيون محاسبون، وقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِع} 5. 4- وتطلق كلمة الدين في اللغة كذلك على العادة والشأن والسيرة والطريقة, يقال: دِينَ: أي عُوِّد, ويقال: ما زال ذلك ديني وديدني، أي دأبي وعادتي, وعدّه الزبيدي بأنه هو أصل المعنى، وكان صلى الله عليه وسلم على دين قومه: ليس معناه على الشرك وعبادة الأصنام, إنما معناه: على عادتهم من الكرم والشجاعة وغير ذلك من أخلاقهم الحميدة. فكأن الدين أطلق على العادة؛ لأن النفس إذا اعتادت شيئًا مرنت معه وانقادت له6.   1 تفسير الطبري 1/68. 2 سورة النور آية 25. 3 تفسير القرطبي 1/143 وانظر لسان العرب 13/169 ومعجم مقاييس اللغة 2/220 وتاج العروس 9/208 والمصباح المنير 1/221. 4 سورة الصافات آية 53. 5 الذاريات 6. 6 انظر معجم مقاييس اللغة 2/319 ولسان العرب 13/167وتاج العروس 9/208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 5- وتطلق كلمة الدين في اللغة أيضًا على ما يتدين به الرجل، ومنه: دان بالإسلام ديِنًا وتدين به: أي تعبد به واتخذه دينا، ودَيِّن: مثل سيد أي صاحب دين وديّنته: بالتثقيل: وكلته إلى دينه وتركته وما يدين به، قال الزبيدي: "والدين: اسم لما يتعبد الله عز وجل به عباده, والدين الملة، يقال اعتبارًا بالطاعة والانقياد للشريعة، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} 1 2 أ. هـ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والدين يتضمن الخضوع والذل, يقال: دِنته فدان: أي ذللته فذل، ويقال: يدين الله ويدين لله: أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له"3 أ. هـ. وقد ذكر الزبيدي، عدة معان لكلمة الدين في اللغة منها: الجزاء، والمكافأة والإسلام، والعادة والشأن، والعبادة، والطاعة والذل، والانقياد، والحساب والقهر، والغلبة، والاستعلاء، والسلطان، والملك والحكم والسيرة والتوحيد والدين اسم لما يتعبد به، والدين الملة, والدين الورع، والمعصية، والإكراه، والحال، والقضاء4. هذه المعاني الكثيرة التي تدخل تحت مفهوم الدين، متقاربة حسب ارتباط بعضها ببعض, ونستطيع حصرها حسب اشتقاقات الكلمة، وبالنظر إلى تعديتها بالباء أو باللام أو بنفس الكلمة بثلاثة وجوه5.   1 سورة آل عمران آية 19. 2 تاج العروس 9/208 وانظر لسان العرب 13/170 والمصباح المنير 1/221. 3 الفتاوى 1/43. 4 تاج العروس 9/208. 5 الدين لدراز 25-27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 1- إذا عديت الكلمة بنفسها فقلنا: "دانه دينا": شملت معاني: الملك والحكم والقضاء والقهر والمحاسبة والجزاء والأمر والإكراه والغلبة والاستعلاء والسلطان وما في معناها. 2- وإذا عديت الكلمة باللام فقلنا: "دان له" شملت معاني: الطاعة والخضوع والعبادة والذل والانقياد وما في معناها. ونلاحظ هنا أن بين المعنيين تلازمًا، وكلاهما مرتبط بالآخر: فقولنا: "دانه فدان له": أي قهره فخضع له وأطاع وذل. 3- وإذا عديت بالباء فقلنا: "دان به", شملت معاني: العادة والشأن والملة والطريقة والسيرة ومافي معناها، لأن كل من دان بشيء فقد اتخذه مذهبًا ودينًا واعتاده وتخلق به، وعلى هذا فكل طريقة يسير عليها المرء في حياته نظرية كانت أو عملية تسمى دينًا، وهذا المعنى الأخير مرتبط بما قبله كذلك، لأن من دان بالشيء يكون قد خضع له وانقاد والتزم طاعته واتباعه، وقد بين كيفية التلازم بينها الدكتور محمد عبد الله دراز فقال: "وجملة القول في هذه المعاني اللغوية: أن كلمة الدين عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الآخر ويخضع له، فإذا وصف بها الطرف الأول, كانت خضوعًا وانقيادًا. وإذا وصف بها الطرف الثاني، كانت أمرًا وسلطانًا وحكمًا وإلزامًا، وإذا نظر بها إلى الرباط الجامع بين الطرفين، كانت هي الدستور المنظم لتلك العلاقة والمظهر الذي يعبر عنها، ونستطيع الآن أن نقول: إن المادة كلها تدور على معنى لزوم الانقياد، فإن الاستعمال الأول: الدين هو إلزام الانقياد، وفي الاستعمال الثاني: هو التزام الانقياد، وفي الاستعمال الثالث: هو المبدأ الذي تلتزم الانقياد له "1. انتهى بلفظه.   1 الدين لدراز 25- 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وقد عرف العلماء المسلمون الدين بتعاريف مختلفة منها تعريف ابن الكمال بأنه: وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عن الرسول، وقال غيره بأنه: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل، وعرفه الدكتور محمد عبد الله دراز: بأنه ما شرعه الله على لسانه نبيه من الأحكام, وسمى دينًا لأننا ندين به وننقاد له1. إن مفهوم الدين في الإسلام واسع لا يقتصر على النواحي الاعتقادية والتعبدية فهو يشمل نظام الحياة الكامل الشامل لنواحيها الاعتقادية والتعبدية والفكرية والخلقية والعلمية والعملية والاقتصادية وغيرها، فإن كان هذا النظام مستندًا إلى شرع الله وسلطته، فهو دين الله الحق، وإن كان هذا النظام مستندًا إلى شرع البشر والحكام وسلطانهم فهو دين الحكام، وهو دين باطل، ويجب البراءة منه كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوجيه الله تعالى له أن يقول للكفار الذين عبدوا الأصنام وشرعوا من عند أنفسهم ما لم يأذن به الله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين} 2، وقد بين ابن القيم رحمه الله3: بأن هذه الآية ليست إقرارًا من الرسول صلى الله عليه وسلم لدين الكفار ورضًا به, بل هو أمرَ بالبراءة من دينهم وكلِّ دين باطل، والمعنى أن الدين الذي أدين به غير دينكم الباطل الزائف. وقال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} 4، فواضح في هذه الآية أن الدين يشمل النظام العام في البلاد وفي جميع مناحي الحياة؛ لأن نظام الملك وشرعه، ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه جزاء سرقته، إنما كان هذا نظام يعقوب وشريعة دينه، فالدين هنا هو النظام والشرع،   1 انظر الدين 28. 2 سورة الكافرون آية 6. 3 انظر كتاب بدائع الفوائد 1/138-141. 4 سورة يوسف آية 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وإن كثيرًا من الناس يقصرون مفهوم الدين على الاعتقاد والشعائر, ويعتبرون أن كل من يعتقد وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ويؤدي الشعائر المكتوبة، داخلًا في دين الله وإن كان خاضعًا بالطاعة لغير الله من الأرباب والآلهة المتفرقين في الأرض, وإنما سمى الله الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، لإعطائهم لأنفسهم حق التشريع في الحلال والحرام, فقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1. إن هذا الانكماش في مفهوم الدين حتى أصبح لا يعني في تصور كثير من الناس إلا الاعتقاد والشعائر، لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم السلام، لقد كان هذا الدين يعني دائمًا الالتزام بشرع الله في العقائد والشعائر والشرائع، ورفض ما يشرعه غيره وإفراده تعالى بالألوهية، وهذه هي الصورة الوحيدة التي تدخل الناس في دين الله، وأما إذا حكموا في حياتهم نظامًا وشرعًا من عند غير الله من الحكام والرؤساء، فهم في دين الحاكم الذي قبلوا نظامه وشرعه, ولا يجوز لمسلم أن يجهل هذه الحقيقة، وجهله لا يعفيه من أنه قد أشرك بالله غيره، وخرج من دينه لدين غيره من الأرباب والآلهة، لأن دين الله منهج شامل لجزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها، وكل جزئية من جزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها فضلًا عن أصولها وكلياتها داخلة في دين الله، وهي الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينًا غيره، وأن الشرك بالله لا يتمثل فحسب في الاعتقاد بألوهية غيره معه، ولكنه يتمثل ابتداء في تحكيم أرباب غيره، وأن عبادة الأصنام لا تقتصر على الأحجار والأشجار، بل تتمثل في إقامة شعارات ومبادئ ونظم لها كل ما لتلك الأصنام من نفوذ، يقول ابن تيمية رحمه الله: وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله, ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، وكما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 2، ففي الأولى:   1 سورة التوبة آية 31. 2 سورة الكهف آية 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمدًا هو رسوله المبلغ عنه, فعلينا أن نصدق خبره، ونطيع أمره، وقد بين لنا ما نعبد الله به1 أ. هـ. وقال في موضع آخر: "ودين الإسلام بني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب، فيعبد في كل زمان بما أمر به في ذلك الزمان، فلما كانت شريعة التوراة محكمة، كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل، وكذلك في أول الإسلام، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس، كانت صلاته إليه من الإسلام, ولما أمر بالتوجه إلى الكعبة، كانت الصلاة إليها من الإسلام، والعدول عنها إلى الصخرة خروجًا عن دين الإسلام2أ. هـ.   1 العبودية ص170. 2 الفتاوى 1/189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 معنى كلمة "العبادة" معنى كلمة عبد ... 4- معنى كلمة "العبادة" أذكر تحت هذه الكلمة معنى كلمة العبادة ثم العبودية الخاصة والعامة ومعناهما والفرق بينهما, وأن الرسل جميعًا دعوا إلى عبادة الله, وما هي شروط صحة العبادة وأنواعها - باختصار. أ- كلمة عبد تدل لغة على اللين والذل، وسمى المملوك عبدًا؛ لأن فيه معنى الذل والخضوع والطاعة لغيره، وكلمة العبد تطلق على الإنسان حرًّا كان أو رقيقًا على معنى أنه مربوب لباريه وذليلًا لمولاه. ومعنى العبادة لغة على هذا الأصل: الطاعة مع الذل والخضوع والاستكانة. والتعبيد: التذليل، واستعباد الشخص وتعبيده أن يتخذ عبدًا، وفي القرآن أن موسى قال لفرعون: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} 1. أي اتخذتهم   1 سورة الشعراء آية 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 عبيدًا لك، والطريق المعبد: هو المسلوك المذلل بكثرة الوطء عليه، قال طرفة بن العبد: تُباري عتاقًا ناجياتٍ وأتبعت ... وظيفًا وظيفًا فوق موْر مُعبَّدِ1 وقيل كذلك للبعير: المبعد من جهة أنه مذلل بالركوب أو هو المهنؤ بالقطران لأن ذلك يذله2. قال الطبري في تفسير سورة الفاتحة عند قوله: {إياك نعبد} : "وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نخشع ونذل ونستكين.. لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة" أ. هـ. وفسر قوله تعالى عن فرعون: {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُون} 3 أي دائنون, وكل من دان لملك فهو عابد له، والعابد: الخاضع المستسلم المنقاد لأمره. وقد عرّف شيخ الإسلام ابن تيمية العبادة بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الباطنة والظاهرة، أو هي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل4 وهذا تعريف جامع لكل عمل يقوم به العبد إذا أخلص فيه نيته لله تعالى. والعبادة المأمور بها، يؤديها المسلم وهو ذليل خاضع لمولاه، مع حبه له، فهي   1 تباري: تسابق, والعتيق: الكريم، والناجيات: المسرعات, وعني بالوظيف: الخف. 2 انظر معجم مقاييس اللغة 1/206 وتاج العروس 2/410 ولسان العرب 3/279 والمصباح المنير 2/37. والمخصص 13/96 وتفسير الطبري في تفسير قوله: "إياك نعبد" من سورة الفاتحة. 3 سورة المؤمنون آية 47. 4 انظر العبودية ص38 - 40 والتنبيهات السنية ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 تتضمن غاية الذل لله بغاية الحب له، وليس ذلك لأحد إلا لله تعالى، فمن خضع لإنسان وهو يبغضه لم يكن عابدًا له، ومن أحب إنسانًا ولم يخضع له، لا يسمى عابدًا له، فحب الرجل لولده وأهله لا يسمى عبادة لأنه حب طبيعي، وفي حق الله تعالى لا يكفي أحدهما منفردًا عن الآخر، فالخضوع الذي ليس فوقه خضوع والحب الذي ليس فوقه حب، هو حق لله وحده ولا يستحقه غيره؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1، 2.   1 سورة التوبة آية 24. 2 انظر العبودية ص42 - 45 ومدارج السالكين 1/74 وإغاثة اللهفان 2/133 والدين الخالص 1/18 والتنبيهات السنية ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ب- انقسام العبودية إلى عبودية عامة وعبودية خاصة 1. والعبودية العامة: هي عبودية القهر والملك, أو هي العبودية القسرية، وتتمثل في عبودية الخلق كلهم لله تعالى، أبرارًا وفجارًا، مؤمنين وكافرين، لأن الله ربهم ومليكهم لا يخرجون عن ملكه ومشيئته وقدرته، يقول تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 2، فالكائنات كلها مسلمة لله، ومتعبدة له التعبد التام، سواء من أقر ومن أنكر، هذه هي عبودية الربوبية التي لا تخرج صاحبها من الكفر إلى الإيمان, وقد ذكرت في القرآن بعدة مواضع مثل قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 3 أي ذليلًا خاضعًا وقال:   1 انظر هذا البحث في كتاب العبودية ص48- 51 وص 117 والفتاوى 1/44 ومدارج السالكين 1/103 - 105 والروضة الندية ص378. 2 سورة آل عمران آية 83. 3 سورة مريم آية 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَاد} 1 وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَاد} 2 وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْها} 3 وقال: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُون} 4، فالخلق كلهم عبيد ربوبيته مع كون كثير منهم مشركين لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُون} 5. والعبودية الخاصة: هي الفرق ما بين أولياء الله وأولياء الشيطان، فلما كان الخلق جميعًا عبيدًا للربوبية، انفرد المؤمنون بالعبودية الخاصة، فهم عبيد ألوهيته تعالى؛ لأنهم خضعوا طوعًا واختيارًا وحبًّا، وتسمى هذه العبودية عبودية الطاعة والمحبة أو العبودية الإرادية أو عبودية الألوهية، لأن المؤمنين أفردوا الله بالألوهية, وقد وردت هذه العبودية الخاصة بالقرآن حيث نسب أصحابها إليه تعالى فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} 6، وقال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّه} 7، وقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 8، وقال: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُون} 9، وهم الذين خرجوا من سلطان إبليس وإنما سلطانه على من تولاه, فقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} 10.   1 سورة غافر آية 48. 2 سورة غافر آية 31. 3 سورة الرعد آية 15. 4 سورة البقرة آية 116. 5 سورة يوسف آية 106. 6 سورة الفرقان آية 63. 7 سورة الإنسان آية 6. 8 سورة الزمر آية 18. 9 سورة الزخرف آية 68. 10 سورة الحجر آية 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 جـ- الفرق بين العبودية العامة والخاصة : 1- العبودية العامة تشمل الخلق كلهم, والخاصة لا يدخل فيها إلا المؤمنون, فيشترك المؤمنون مع الكافرين بالعبودية العامة وينفرد المؤمنون بالعبودية الخاصة. 2- العبودية العامة قهرية قسرية لا خروج للكائنات عنها، وأما العبودية الخالصة فهي إرادية اختيارية. 3- أن الحساب والجزاء يوم القيامة على العبودية الخاصة؛ لأنها هي المطلوبة من العباد, ولذلك كانت العبودية العامة لا تدخل في الإيمان ولا في الجنة ولا تخلص صاحبها من النار ما لم يدخل في العبودية الخاصة. 4- العبودية العامة لا تأتي في القرآن إلا مقيدة, وتأتي العبودية الخاصة مطلقة , فإذا أضيف العباد إلى الله في القرآن مطلقًا عني بهم عبيد إلهيته, وأما إضافة عبيد الربوبية فتأتي مقيدة, كما بين ذلك ابن القيم بقوله: "فالخلق كلهم عبيد ربوبيته, وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته، ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقًا إلا لهؤلاء". وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية فلا يأتي إلا أحد خمسة أوجه: 1- إما منكرًا كقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدا} 1. 2- معرفًا باللام كقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَاد} 2. 3- مقيدًا بالإشارة أو نحوها كقوله: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاء} 3.   1 سورة مريم آية 93. 2 سورة غافر آية 31. 3 سورة الفرقان آية 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 4- أن يُذكروا في عموم عباده فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر كقوله: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك} 1. 5- أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} 2، وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة لأن معنى اللفظة الذل والخضوع.. لكن أولياءه خضعوا له وذلوا طوعًا واختيارًا وانقيادًا لأمره ونهيه, وأعداؤه خضعوا له قهرًا ورغمًا3 انتهى باختصار.   1 سورة الزمر آية 46. 2 سورة الزمر آية 53. 3 مدارج السالكين 1/105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 د - دعوة الرسل جميعًا إلى عبادة الله: كانت وظيفة الرسل جميعًا هي الدعوة إلى الله وإفراده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وقد وردت هذه الوظيفة على لسان كل رسول إلى قومه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1، وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 2، وقد قرر القرآن هذه الحقيقة بصيغتين مختلفتين ومدلوهما واحد، فقال تعالى: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3، وقال: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} 4. إن مدلول الصيغة الأولى: الأمر بعبادة الله، وتقرير أن ليس هناك إله يعبد غيره، ومدلول الصيغة الثانية: النهي عن عبادة غير الله. فالقرآن الكريم دعا لعبادة الله ونهى عن عبادة غيره؛ لأن النفس البشرية بحاجة إلى   1 سورة الأنبياء آية 25. 2 سورة الزخرف آية 45. 3 سورة هود آية 50. 4 سورة هود آية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 النص القاطع على شطري هذه الحقيقة، فلم يكتفِ القرآن بالنهي الضمني المفهوم من الأمر الصريح على ما هو مقرر في علم الأصول من أن الأمر بالشيء نهى عن ضده الذي لا يجتمع معه, بل أتى بالنهي الصريح عن عبادة غير الله؛ لأن كثيرًا من الناس يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فيقعون في الشرك ويحسبون أنهم مسلمون. وقد وصف الله بالعبودية أخص أوليائه ورسله وأنبيائه فقال في وصف الملائكة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} 1، وقال عن نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُورا} 2، وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} 3، وقال عن عيسى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْه} 4، فجعل صفته العظمى أنه عبد لا كما يدعي أعداؤه النصارى من وصفه بالإلهية، وقد وصف أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية في أشرف مقاماته في عدة مواضع من كتابه, فقال في مقام إنزال الكتاب: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} 5 وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} 6، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَاب} 7، وقال في مقام الدعوة إلى الله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوه} 8، وقال في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه} 9، وآيات كثيرة تبين أن الله وصف رسله في أشرف مقاماتهم بالعبودية وخاصة صفوتهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أمره ربه بالعبادة حتى يأتيه الأجل, قال   1 سورة الأنبياء آية 26. 2 سورة الإسراء 3. 3 سورة ص آية 17. 4 سورة الزخرف آية 59. 5 سورة البقرة آية 23. 6 سورة الفرقان آية 1. 7 سورة الكهف آية 1. 8 سورة الجن آية 19. 9 سورة الإسراء آية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} 1؛ وذلك لأن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله, وكلما ازداد عبودية لله كلما ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن الخروج عن العبودية أكمل وأنه سقط عنه التكليف الشرعي أو عن غيره كالخضر أو الرسول، فهو جاهل ضال كافر، وذلك لأن الغاية الوحيدة التي خلق الله من أجلها الخلق وأحبها ورضيها لهم هي العبادة, قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} 2، ومن لم يكن عابدًا لله فلا شك أنه واقع في عبودية غيره، لأنه لا بد أن يكون للقلب مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله محبوبه ومعبوده، كان غير الله له محبوبًا مرادًا، إما الصنم أو الشمس والقمر الكواكب، أو الملائكة والأنبياء والصالحين أو المال والجاه والسلطان، أو المبادئ والشعارات واللافتات اللا إسلامية، لما لها عليه من سلطان وقهر، ولما يعطيها من الخضوع والطاعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطى رضي وإن لم يُعط لم يرض" 3، فمن لم يكن عبدًا لله كان عبدًا لهواه ولما يهواه, لأن الرق والعبودية الحقيقية هو رق القلب وعبوديته4.   1 سورة الحجر آية 99. 2 سورة الذاريات آية 56. 3 رواه البخاري في الجهاد 70 وفي كتاب الرقاق. 4 انظر كتاب العبودية ص38 - 99 ومدارج السالكين 1/101 والتنبيهات السنية ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 هـ- شروط صحة العبادة وأنواعها : إن الأساس الذي تدور عليه العبادة هو توحيد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ولذلك يرد في القرآن اقتران الأمر بالعبادة بالتوحيد كقول الله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 1. وكقوله تعالى   1 سورة طه آية 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 1، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2، ولذلك لا تصح العبادة إلا إذا توفر شرطاها وهما: الإخلاص والمتابعة, وأعني بالإخلاص: أن تكون العبادة خالصة لله ولا شريك معه فيها غيره سواء بالعمل أو بالنية، وأعني بالمتابعة: أن تقع وفق ما سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المبين عن الله مراده في آياته, وليس لنا حق الاعتراض أو الزيادة أو النقص, ومن استحل ذلك خرج من الملة، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون} 3، فقوله: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} ، إشارة إلى الإخلاص، وقوله {وَهُوَ مُحْسِنٌ} إشارة إلى المتابعة، وقد قيل للفضيل بن عياض عن قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 4 فقال: أخلصه وأصوبه قيل: يا أبا علي, ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل, حتى يكون خالصًا وصوابًا، فالخالص: أن يكون لله وحده، والصواب: أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم5. وأما أنواع العبادة فهي تشمل الإنسان كله، حتى لم يبق فيه جزء لم يشترك في العبادة، وعليه تتنوع العبادة إلى خمسة أنواع: 1- العبادات القلبية: وهي الأساس لما بعدها؛ لأنه يترتب على الإخلال بها الدخول في الشرك الأكبر أو الأصغر، وسميت قلبية؛ لأنها من عمل القلب   1 سورة مريم آية 65. 2 سورة الأنبياء آية 25. 3 سورة البقرة آية 112. 4 سورة تبارك الملك آية 2. 5 التنبيهات السنية ص 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وحده, وأعظمها: أن يعتقد الإنسان بانفراد الله تعالى بالربوبية والألوهية والأسماء الحسنى والصفات العلى، وأن له الكمال المطلق من غير تشبيه أو تمثيل أو تكييف أو تعطيل, ويعتقد بجميع ما أنزل الله على رسوله مما هو معلوم من الدين بالضرورة ولا يسع المسلمَ جهلُه. ومنها الحب، والخوف، والإخلاص، والتوكل, والصبر، والرجاء, وغيرها، والمقصود: أن لا نشرك فيها أحدًا مع الله، أما الحب الطبيعي كحب الولد، أو الخوف الطبيعي كخوف الحيوان المفترس، فلا يدخل في النهي. 2- العبادات القولية: وتسمى اللفظية لأنها تنطق باللسان، وأعلاها: كلمة التوحيد، فمن اعتقد بكل ما سبق ولم ينطق بكلمة التوحيد من غير عذر كالأبكم, لم يحقن دمه ولا ماله، ومنها الذكر والدعاء والتسمية وكذلك الاستعاذة والاستغاثة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ونشر العلوم. 3- العبادات البدنية: وهي التي يؤديها الجسم، كالصلاة والصوم وأفعال الحج والجهاد بالنفس, والرحلة في طلب العلم أو لكسب القوت الحلال. 4- العبادات المالية: وهي التي تعتمد على المال وحده، كالزكاة والصدقات والنذور والذبائح والهدي1. 5- العبادات البدنية المالية كالحج.   1 انظر دعوة التوحيد ص48 - 69، وتطهير الاعتقاد ص10- 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الفصل الثاني: أنواع التوحيد وفي أيها وقع النزاع بين الرسل وأممهم أحببت أن أكتب في هذا الفصل لجهل الكثيرين بأنواع التوحيد وعدم التفرقة منهم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، بل قد أنكر هذا التقسيم بعض العلماء والسبب عدم تفريقهم بين معنى كلمتي الإله والرب وحيث أنهم فسروا كلمة الإله بالقادر على الاختراع والخالق المالك، وهذا المعنى مختص بالرب, وأما الإله فهو المعبود كما مر معنا في الفصل السابق. وسأبين في هذا الفصل أقسام التوحيد ثم شبهة المنكرين لهذا التقسيم والرد عليها، ثم أبين معنى أنواع التوحيد الثلاثة وفيما يلي يبان ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أ- أقسام التوحيد ينقسم التوحيد إلى قسمين: الأول: توحيد المعرفة والإثبات ويقال له التوحيد العلمي الاعتقادي الخبري، وذلك لتعلقه بالأخبار المعروفة ولأنه مختص بالاعتقاد المحض، وهو يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. والثاني: توحيد الإرادة والقصد والطلب ويقال له كذلك: توحيد العبادة والعمل, وذلك لتعلقه بالقصد والإرادة، وهذا النوع هو توحيد الألوهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وهذا التقسيم إذا نظرنا إليه من جهة الشخص الموحد فهو قسمان: توحيد العلم والاعتقاد, وتوحيد العبادة والعمل. وبالنظر إلى توحيد الله سبحانه وتعالى فهو ثلاثة أنواع: فمن جهة انفراده بالخلق والرزق والتدبير يسمى توحيد الربوبية، ومن جهة انفراده بالأسماء الحسنى للعبادة يسمى توحيد الألوهية، أو توحيد العبادة والعمل.   1 انظر اقتضاء الصراط المستقيم ص464 ومدارج السالكين 3/449 وشرح الطحاوية ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ب- شبهة المنكرين لهذا التقسيم والرد عليها أنكر بعض العلماء هذه التقسيم بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك ولم يرد عنه مثل هذا التقسيم، ويُرد عليهم بنقطتين: أولًا: أن هذا التقسيم وإن كان لم ينطق به الرسول صلى الله عليه وسلم لفظًا إلا أن معناه قد ورد على لسانه عليه الصلاة والسلام، فهو يقول: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة, فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" 1، ومعروف أن العرب ما نازعوه في توحيد الرب, لإقرارهم بذلك كما سيأتي معنا، إنما نازعوه في توحيد الإله المعبود فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} 2 وعلى هذا لا يضرنا كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد على لسانه لفظ توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية, فإن المعنى كان واردًا   1 الحديث رواه البخاري عن ابن عمر. في كتاب الإيمان باب 17 حديث رقم 25 وفي مسلم جـ1 ص212. 2 سورة ص آية 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فهو وإن لم يقسم هذا التقسيم لكنه لم يحصره في نوع واحد, واستقراء الأدلة من القرآن والسنة يدل على أن التوحيد ينقسم للأقسام التي ذكرناها. ثانيًا: هذا التقسيم راجع للفرق بين معنى كلمتي الرب والإله، والخلق والقدرة على الإنشاء من معنى كلمة الرب، أما معنى كلمة الإله فهو المعبود، وغاية قول المنكرين أنهم فسروا الإله بالقادر على الاختراع فحصل عندهم الخلط وعدم التمييز، والقرآن لم ينزل ليقول للناس وحدوا الرب فحسب، بل أمرهم بتوحيد الإله المعبود1.   1 انظر العقائد السلفية شرح الدرر السنية 1/46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 جـ- معاني أنواع التوحيد الثلاثة وكيف يحصل الإشراك بكل نوع منها 1- توحيد الربوبية : أ- معناه: هو الاعتقاد الجازم بأن الله وحده هو رب كل شيء ومليكه وهو الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع المعطي المانع المتصرف في هذا الكون بمشيئته المطلقة وليس معه رب آخر يشركه. والقلوب مفطورة على الاعتراف بالرب سبحانه أكثر من اعترافها بأي شيء آخر، ولذلك أجاب الرسل أممهم بالاستفهام الإنكاري بقولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} 2. وقد كان المشركون مقرين بتوحيد الربوبية، وذلك واضح في كثير من آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ   2 سورة إبراهيم آية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1، ومنها قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ, قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 2، ومنها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3، ومنها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 4، ومنها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون} 5. وهكذا نرى أن مشركي العرب ومن سبقهم من الأمم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية؛ لأن دلائل ربوبيته تعالى واضحة في كل شيء، فأشد الناس إلحادًا لا يصدق بأن يكون الأثر بلا مؤثر، وأن تكون الصدفة هي التي نظمت هذا الكون بما فيه أبدع تنظيم وأحكمه، ولهذا كان إقرار الخلق بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته6، فقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل7.   1 سورة يونس آية 31. 2 سورة المؤمنون آية 84- 89. 3 سورة لقمان آية 52. 4 سورة الزخرف آية 9. 5 سورة الزخرف آية 87. 6 انظر شرح الطحاوية ص24 والتنبيهات السنية ص9 والعقائد السلفية 1/14 وتطهير الجنان ص5. 7 انظر الفتاوى 16/328 والتنبيهات السنية ص111 وشرح الطحاوية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ومن هنا يتبين خطأ المتكلمين الذين بذلوا جهدهم وأتعبوا أنفسهم لتقرير توحيد الربوبية وأنكروا معرفة الله الفطرية -ومنهم الجهمية والقدرية الذين هم عند سلف الأمة من أجهل الطوائف وأضلهم- ظانين أن مشكلة البشرية من أول التاريخ أنها لا تعرف وجود الرب، وقد غفلوا عن هذه المعرفة الفطرية وأن المشكلة الحقيقية هي انحراف البشرية عن توحيد الألوهية1. ب- الشرك في الربوبية: المثبتون للخالق نوعان: أهل توحيد وأهل إشراك في الربوبية، ولم يقع الشرك في الربوبية إلا من طوائف معدودة، والشرك في الربوبية نوعان: أ- شرك التعطيل: وهو من أقبح أنواع الشرك كشرك فرعون عندما قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين} 2 فهو أشهر مَن أنكر الصانع لكنه كان في الباطن مستيقنًا أن موسى أصدق منه في الدعوة لربوبية الله، قال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّا} 3، لذلك كان رد موسى عليه: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} 4. وكذلك القائلون بالصدفة والطبيعة، والدهريون الذين قالوا: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْر} 5، وهم الشيوعيون في زماننا   1 انظر الفتاوى 14/14 و 2/14 وصيانة الإنسان ص147 وتيسير العزيز الحميد ص17. 2 سورة الشعراء آية 23. 3 سورة النمل آية 14. 4 سورة الإسراء آية 102. 5 سورة الجاثية آية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وكذلك الفلاسفة القائلون بقدم العالم وأبديته وأن العقل الفعال هو الخالق المدبر لكل ما تحته, ومنهم الذين يقولون بأن النجوم أحياء فاعلة مؤثرة بالخلق، وكذلك من أهل شرك التعطيل القائلين بوحدة الوجود كابن عربي وابن سبعين. ب- النوع الثاني من شرك الربوبية يكون باعتقاد أكثر من صانع للعالم كالثنوية من المجوس الذين يقولون بوجود أصلين خالقين للعالم وهما: يزدان إله النور ويخلق الخير، وأهرمن: إله الظلمة ويخلق الشر، لكن إله الخير عندهم أحسن من إله الشر. وكذلك شرك النصارى الذين يقولون بالآب والابن والروح القدس، ولكنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب منفصلة بل يقولون بأن صانع العالم واحد وهم مضطربون جدًّا في تعبيرهم بالأقانيم الثلاثة لأنهم يفسرون الأقنوم تارة بالخواص وتارة بالأشخاص وأخرى بالصفات1. مما سبق يتبين لنا أن العباد جميعًا حتى المشركون في الربوبية هم مفطورون على فساد شرك الربوبية؛ لأن المعطلة كفرعون والدهريين الطبيعيين والشيوعيين والفلاسفة وأهل وحدة الوجود وأمثالهم من المعطلين للصانع هم مقرون في الباطن بالرب سبحانه بدليل رجوع فرعون وماركس ولينين إلى الإيمان عند موتهم. وأما الذين قالوا بأكثر من صانع للعالم كالثنوية والنصارى، فإنهم لم يسووا بينهم كما بينا, بل يفاضلون بينهم, فيكون شركهم شركًا في بعض الربوبية. وبهذا يتبين أنه ليس في طوائف العالم قط من يثبت صانعين خالقين متماثلين في   1 انظر الفتاوى 3/96 ودعوة التوحيد للهراس ص33 وتيسير العزيز الحميد ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 جميع الصفات. فالشرك في الربوبية إذن بهذا الاعتبار معلوم الامتناع عند جميع طوائف أهل الأرض من الموحدين والمشركين1.   1 انظر الفتاوى 3/97 ومدارج السالكين 1/62 وشرح الطحاوية ص25 والدين الخالص 1/71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 2- توحيد الألوهية : أ- معناه: وهو المسمى بتوحيد العبادة أو التوحيد العملي، ومعناه الاعتقاد الجازم بأن الله وحده هو المستحق لجميع أنواع العبادة, مع القيام بصرف هذه العبادات له وحده ولا يصرف منها شيء لغيره، والكلمة المعبرة عن هذا المعنى أدق تعبير هي كلمة الشهادة: لا إله إلا الله، فمعناها أنه لا معبود بحق إلا الله1. وهذا التوحيد هو الذي جاءت به الرسل ودعوا إليه أقوامهم، فالرسل مقررون لتوحيد الربوبية داعون لتوحيد الألوهية كما أخبر الله عنهم2، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3، وقال تعالى: عن نوح عليه السلام: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ, أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 4، وقال تعالى عن هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} 5 وقال تعالى عن صالح عليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا   1 انظر الفتاوى 1/104 و19/106 ومدارج السالكين 1/25 واجتماع الجيوش الإسلامية ص47 وشرح الطحاوية ص23 والعقائد السلفية ص23 ودعوة التوحيد ص47. 2 انظر تيسير العزيز الحميد ص20 ودعوة التوحيد ص37. 3 سورة الأنبياء آية 25. 4 سورة هود 25- 26. 5 سورة هود آية 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} 1، وقال تعالى عن شعيب عليه السلام: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2، وقال تعالى عن موسى عليه السلام قوله لقومه: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} 3، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام قوله لقومه: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4 وقال تعالى آمرًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 5 وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} 6، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ, لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ, وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ, وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ, وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ, لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 7 , وهذه السورة قد اختصت بتوحيد الإلهية أو التوحيد العملي وهو توحيد العبادة, كما اختصت سورة الإخلاص بتوحيد الأسماء والصفات8. وبالجملة: فكل الرسل بعثوا بالدعوة لتوحيد الألوهية وإفراد الله بالعبادة وترك عبادة الطواغيت والأصنام كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 9، فكان كل رسول أول ما يقرع به سمع قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} . وافتتاح الدعوة بهذا النداء دليل أكيد على أن الرسل لم يبعثوا لتعريف الخلق بخالقهم وإثبات وجوده؛ لأن معرفته والإيمان بوجوده فطري   1 سورة هود آية 61. 2 سورة هود آية 84. 3 سورة الأعراف آية 140. 4 سورة آل عمران آية 51. 5 سورة الزمر آية 14. 6 سورة يونس آية 104. 7 سورة الكافرون 8 انظر الصراط المستقيم ص464. 9 سورة النحل آية 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 إنما بعثوا لتعبيد الخلق لإلههم ومعبودهم الحق ونبذ كل ما يعبد من دونه من الآلهة المزعومة1. وفي هذا النوع من التوحيد -توحيد الألوهية- وقع النزاع بين الرسل وأممهم حيث أنكر المشركون الدعوة لتوحيد الإله المعبود بقولهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2، ولهذا كان سياق الآيات الدالة على الربوبية يأتي بالاستفهام التقريري لأنهم مقرون بالرب كقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 4، وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 5. ويتضح هذا المعنى تمامًا إذا علمنا أن مبدأ انحراف البشرية عن حقيقة التوحيد لم يكن شركًا في الربوبية إنما كان شركًا في الألوهية، وهكذا كل انحراف خلال التاريخ البشري إنما كان عن طريق الانحراف في العبادة، قال تعالى عن قوم نوح عليه السلام: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 6. وهي أسماء رجال صالحين ماتوا فصورهم قومهم ثم جاء مَن بعدهم فعبدوهم7. وكذا شرك كل قوم كان مبدؤه من عبادة غير الله، كذلك العرب   1 انظر الفتاوى 16/332 ومدارج السالكين 3/443 ومفتاح دار السعادة 1/212، وانظر تطهير الاعتقاد للصنعاني ص6. 2 سورة ص آية 5. 3 سورة النحل آية 17. 4 سورة لقمان آية 11. 5 سورة فاطر آية 3. 6 سورة نوح آية 23. 7 انظر إغاثة اللهفان 2/209 وفتح الباري 8/667 كتاب التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الذين كانوا على بقية من دين إبراهيم حتى جاء عمرو بن عامر الخزاعي بأصنام من الشام إلى الجزيرة فنصب هبل وعبده وعظمه وتبعه الناس في ذلك1. ب- الشرك في الألوهية: هذا أدق أنواع الشرك وأكثرها شيوعًا بين الناس, فمن صرف أي نوع من أنواع العبادات لغير الله أو صرفها لله ولغيره، فهو مشرك في الألوهية2، ولذلك حارب القرآن هذا النوع من الشرك وهدم كل وسائله, فقال تعالى في عبادة الحب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 3، وقال تعالى في عبادة التوكل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِين} 4، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُون} 6، وقال تعالى في عبادة الرجاء: {أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّه} 7، وقال: {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} 8، وقال تعالى في عبادة الدعاء: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 9. وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُون   1 فتح الباري 8/383 كتاب التفسير وانظر إغاثة اللهفان 2/221 وشرح الطحاوية ص26 وتطهير الاعتقاد ص13 والتحفة المهدية 2/68 وصيانة الإنسان ص465. والعقائد السلفية ص37. 2 انظر الفتاوى 1/91 واقتضاء الصراط المستقيم ص357 والدين الخالص 1/69. 3 سورة البقرة آية 165. 4 سورة المائدة آية 23. 5 سورة المجادلة آية 10. 6 سورة التوبة آية 13. 7 سورة البقرة آية 218. 8 سورة الزمر آية 9. 9 سورة يونس آية 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ, إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 1، وقال في عبادة الصلاة والذبح: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر} 2، وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 3، وقال في عبادة الصلاة والزكاة: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 4، وقال في عبادة الطواف والنذر: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 5، وقال في عبادة الاستغفار: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} 6، وقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 7، وقال في عبادة الاستعاذة: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} 8، وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} 9، وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} 10،وقال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 11، وقال في عبادة الاستغاثة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 12، والأمثلة في القرآن كثيرة جدًّا.   1سورة فاطر آية 13- 14. 2 سورة الكوثر آية 2. 3 سورة الأنعام آية 162-163. 4 سورة الحج آية 78. 5 سورة الحج آية 29. 6 سورة آل عمران آية 135. 7 سورة النور آية 31. 8 سورة النحل آية 98. 9 سورة الفلق. 10 سورة الناس. 11 سورة الأعراف آية 200. 12 سورة الأنفال آية 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وبهذا نرى أن القرآن قد ركز تركيزًا شديدًا على توحيد الألوهية وإخلاص العبادة لله بجيمع أنواعها، وهذا التركيز يتمثل من جانبين: إما بالدعوة لعبادة الله وحده, وإما بنفي استحقاق غير الله للعبادة؛ لأنه لا يتم توحيد الألوهية إلا بهذين الجانبين المتلازمين, وهذا كما سبق أن بينا أن كل رسول دعا قومه إليه، وتمثل ذلك بدعوة نوح عليه السلام لقومه فقال تعالى عنه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1، وقال عنه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ, أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} 2، فهو عليه السلام دعا قومه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما دونه وهذا هو المقصود بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} 3، وبقوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُون} 4 أي تخصيص الله بالعبادة دون غيره؛ لأن تقديم إياك على العبادة لا يفيد إلا هذا، حيث إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر5، وهذا هو مدلول كلمة الشهادة لا إله إلا الله، ففيها نفي وإثبات، أي نفي استحقاق ما سوى الله للعبادة وحصر استحقاق الله -وحده لا شريك له- للعبادة؛ولذلك كانت هذه الكلمة أعظم واجب وأول واجب على الإنسان على الإطلاق؛ لأن إلهية ما سواه من أبطل الباطل وأظلم الظلم فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، فكما نفت الإلهية عما سواه وإثباتها له وحده، كذلك نفت استحقاق ما سواه للعبادة, وإثباتها له وحده, وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات6.   1 سورة الأعراف آية 59. 2 سورة هود آية 25-26. 3 سورة الفاتحة آية 4. 4 سورة العنكبوت آية 56. 5 انظر تطهير الاعتقاد ص13. 6 انظر تيسير العزيز الحميد ص54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وبهذا يتبين أن الأمم لم يخالفوا رسلهم من حيث الدعوة لتوحيد الربوبية والخالقية والرازقية بذلك كما بينا، إنما خالفوهم من حيث دعوتهم لتوحيد الإلهية الذي هو المقصود الأعظم من بعثة الرسل، وهذا التوحيد لا يتحقق إلابصرف العبادات كلها لله وحده دون سواه1.   1 انظر دعوة التوحيد ص37 والتنبيهات السنية ص9 وتيسير العزيز الحميد ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 3- توحيد الأسماء والصفات وسأبين معناه عند أهل السنة والجماعة ومذهب من خالفهم في ذلك إجمالًا 1- أما معناه فقد أوضحه شيخ الإسلام بما لا مزيد عليه، حيث يقول في الرسالة التدمرية: "فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسله نفيًا وإثباتًا، فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه, وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها: إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته, كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 2، فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات: إثباتًا بلا تشبيه وتنزيهًا بلا تعطيل, كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 3, ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله:   1 سورة الأعراف آية 180. 2 سورة فصلت آية 40. 3 سورة الشورى آية 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} رد للإلحاد والتعطيل"1. وكما اختصت سورة "الكافرون" بتوحيد العبادة, فقد اختصت سورة "الإخلاص" بتوحيد الأسماء والصفات، ففيها إثبات الوحدانية والصمدية لله تعالى, كما فيها تنزيه الله عن الولد والوالد والزوجة والنظير، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الصمد المستحق للكمال وهو السيد الذي كمل في سؤدده والشريف الذي قد كمل فيشرفه والعظيم الذي قد كمل في عظمته.. وهو الله سبحانه وتعالى, وهذه صفة لا تنبغي إلا له, ليس كفوء ولا كمثله شيء"2. (ب) أما مذهب من خالفهم إجمالًا فبيانه فيما يلي: إن هذا التوحيد يضاده أمران: الأول: التمثيل: وهو تمثيل الله بخلقه, ويدخل في هذا اليهود والنصارى والرافضة الذين يصفون الله بالأكل والنوم والتعب والراحة3. الأمر الثاني: التعطيل وهو أربعة أقسام ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة التدمرية وهي: 1- سلب النقيضين عن الله تعالى، كقولهم: لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل, ويقول بهذا الباطنية والجهمية والقرامطة. 2- وصف الله بالسُّلُوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعله هو الوجود المطلق, ويقول بهذا الفلاسفة. 3- إثبات الأسماء دون الصفات, كقولهم: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة, سميع بلا سمع, بصير بلا بصر, فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفة أو إخراج   1 الرسالة التدميري ص4. 2 تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال ص41. 3 انظر الروضة الندية ص63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الصفة عن ظاهرها إلى غير المراد منها كتأويل الوجه بالذات واليد بالقدرة والاستواء بالاستيلاء1 وهم المعتزلة. 4- إثبات بعض الصفات دون بعض, كمن بثبت سبع صفات وينفي غيرها وهم الأشعرية.   1 انظر الرسالة التدمرية ص7- 8 وانظرالروضة الندية ص 25 وتيسير العزيز الحميد ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 د- العلاقة بين أنواع التوحيد أذكر في هذه النقطة استلزام التوحيد العلمي للتوحيد العملي, وتضمن التوحيد العملي للعلمي, واحتجاج الله سبحانه على المشركين بتوحيد الربوبية داعيًا إياهم لتوحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية لا يدخل الجنة ولا ينجي من النار ولا يعصم الدم والمال إن لم يتبعه توحيد الألوهية، وفيما يلي بيان ذلك. 1- توحيد العلم والاعتقاد -وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات- مستلزم لتوحيد الألوهية الذي هو التوحيد العملي، بمعنى أن الإيمان بوحدانية الرب الخالق الرازق المحيي المميت وبكافة أسمائه وصفاته يستلزم الموحد أن يعبد الله ويوحده في ألوهيته؛ لأنه مادام أقر بالرب الواحد لزم لأن يتبع ذلك بتوحيد الإله. وأما توحيد الألوهية فهو متضمن لتوحيد الربوبية والأسماء والصفات, بمعنى أن الإيمان بوحدانية الله وتقديم العبادة له لا يحصل إلا ممن أقر بأن هذا الإله المعبود رب العالمين، لأن العبادة لا تصرف حقيقة إلا للرب المتصف بالكمال المنزه عن النقص. ونقول بعبارة أخرى: إن التوحيد علمي اعتقادي وعملي طلبي، والعملي متضمن للعلمي, فإذا علم العبد أن ربه لا شريك له في خلقه وأمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وأسمائه وصفاته نتج عنه أن يعمل على طاعته وعبادته، ومن عبد إلهه ووحده يكون قد اعترف أولًا بأن لا رب غيره يشركه فيخلقه وأمره، ولا يجوز العكس لأن القلب يتعلق أولًا بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الألوهية1. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "والإلهية التي دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها هي العبادة والتأليه, ومن لوازمها توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون فاحتج الله عليهم به, فإنه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الإلهية2". وقال شارح الطحاوية: "وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس , فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزًا والعاجز لا يصلح أن يكون إلهًا" 3. قال الشيخ عبد الله بن حسن تعقيبًا على كلام شارح الطحاوية السابق: قوله: "وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس" وقد تقدم من كلامه أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية, فالمعنى أن الاستلزام غير التضمن، فمن لازِم الإقرار بتوحيد الربوبية وأن الله هو الذي تفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة الإقرار بتوحيد الألوهية وأنه هو المعبود المرجو المسئول وحده دون سواه، وأما التضمن فلا يقال: إن الإقرار بتوحيد الربوبية يتضمن توحيد الألوهية لا بالعكس"4.   1 انظر العبودية ص49 ومدارج السالكين 1/411 وصيانة الإنسان ص47 ودعوة التوحيد ص84. 2 إغاثة اللهفان 2/135. 3 شرح الطحاوية ص29. 4 شرح الطحاوية هامش ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 2- بناء على النقطة السابقة فقد احتج الله بتوحيد الربوبية على المشركين داعيًا الناس عن طريقه لتوحيد الألوهية؛ لأن القادر على الخلق والأمر والتدبير يستحق أن يكون إلهًا يعبد, والعاجز عن ذلك لا يستحق أن يكون إلهًا1, فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ, الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3، وقال تعالى عن المسيح عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} 4. والقرآن مملوء بهذه الآيات التي تدعو لتوحيد العبادة عن طريق الاحتجاج بتوحيد الربوبية المركوز في الفطر، لأنه ما دام أنهم مقرون بربوبيته فينبغي أن يتخذوه إلهًا لهم دون غيره، وإذا كانوا مقرين ببطلان ربوبية ما سواه فإلهية ما سواه باطلة كذلك5. 3- توحيد الربوبية والأسماء والصفات وحده لا يكفي لإدخال صاحبه في الإسلام ولا ينقذه من النار ولا يعصم دمه ولا ماله، وهذا كان توحيد العرب ومع ذلك قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 6، فعن ابن عباس ومجاهد: إيمانهم بالله: قولهم: إن الله   1 انظر التحفة المهدية 2/47 وصيانة الإنسان ص485 ودعوة التوحيد ص35. 2 سورة البقرة آية 21-22. 3 سورة الأعراف 191. 4 سورة آل عمران آية 51. 5 انظر مدرج السالكين 1/412 ومفتاح دارالسعادة 2/8. 6 سورة يوسف آية 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 خلقنا ورزقنا ويميتنا إيمان مع شرك في عبادتهم غيره؛ لأنهم يؤمنون بأنه خالق ويعبدون غيره1، ولذلك لم يطالبهم القرآن بأن يشهدوا أن لا رب إلا الله إنما طالبهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله؛ لأنهم مقرون بالأولى منازعون في الثانية التي هي أدل على المقصود من الخلق وهو العبادة المأمور بها, كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} 2 3. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "يا معاذ, أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن لا يعذبهم" 4، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمين: "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله" 5. وبهذا يتبين أن توحيد الربوبية وحده لا يكفي في تحقيق مقام "إياك نعبد وإياك نستعين", ولا يتم هذا المقام إلا بتوحيد الألوهية, فإذا أقر العبد بتوحيد الربوبية والألوهية يتحقق هذا المقام علمًا وحالًا وهذا هو المطلوب للنجاة من النار ودخول الجنة6. وكلمة الشهادة التي دعا إليها الرسل "لا إله إلا الله" تشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة، فقد دلت على توحيد الألوهية؛ لأن معناها: لا معبود بحق إلا الله, ففيها إثبات العبادة لله ونفيها عما سواه.   1 انظر تفسير الطبري 2/494 و16/286. 2 سورة الذاريات آية 56. 3 انظرالفتاوى 1/23 و2/14، وتيسير العزيز الحميد ص17 وتطهير الجنان ص6، 8. 4 رواه البخاري في التوحيد ومسلم في الإيمان 48. 5 رواه البخاري في التوحيد عن ابن عباس. 6 انظر مدارج السالكين 1/411 والدين الخالص 1/57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ودلت على توحيد الربوبية؛ لأن العاجز لا يكون إلا إلهًا معبودًا, ولابد للإله أن يكون خالقًا مدبرًا. ودلت على توحيد الأسماء والصفات؛ لأن فاقد الأسماء الحسنى وصفات الكمال غير كامل, ولا يصلح من هذا حاله أن يكون إلهًا خالقًا. فكلمة الشهادة هذه جمعت الأصول الثلاثة, وعليها تدور بعثة الرسل وما أنزل إليهم من الكتب1. وغالب سور القرآن متضمنة لأنواع التوحيد الثلاثة, بل كل سورة في القرآن, بل كل آية, يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن كل آية في القرآن الكريم متضمنة للتوحيد, شاهدة به, داعية إليه, فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري, وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي, وإما أمر أو نهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره فهي حقوق التوحيد ومكملاته, وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده, وإما خبر عن أهل الشرك وما فُعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم"2.   1 انظر التنبيهات السنية ص9. 2 مدارج السالكين 3/450 وانظر شرح الطحاوية ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الفصل الثالث: الضرورة إلى عقيدة التوحيد في هذا الفصل سأبين لماذا عقيدة التوحيد ضرورية لانتظام حياة الفرد والجماعة, وكيف تختلف حياة الفرد بين كونه موحدًا ومشركًا. والتوحيد هو الاعتقاد بأن الله واحد في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفات كماله، فهو سبحانه واحد في ذاته وأفعاله, فليس له شريك في الخلق والأمر كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر} 1، وواحد في أفعاله فليس له معين من مخلوقاته, وله الكمال المطلق المنزه عن جميع النقائض كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} 2، 3. ونظرًا لأهمية التوحيد في حياة البشر فقد عمت الدعوة إليه جميع الأمم وأرسل الله به الرسل, وأنزل عليهم الكتب فدعوا الناس إلى التوحيد الخالص وكان هو أول مطلوب من العباد كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} 4، وهو المقدمة الأولى لكل رسالة, قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} 5، إلا أنه لم تبق ديانة من   1 سورة الأعراف آية 54. 2 سورة الشورى آية 11. 3 انظر الدين الخالص ص19. 4 سورة الأنبياء آية 25. 5 سورة النحل آية 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الديانات السماوية السابقة إلا دخلها التحريف والتبديل حتى صار الشرك طابعها، ما عدا دين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى حفظ كتابه من التحريف, قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1، وقال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد} 2. وحاجة العباد إلى التوحيد كحاجتهم إلى الله في الخلق والرزق واستمرار الحياة, بل أعظم لأن أقصى ما يترتب على فقدان الطعام والشراب والحياة موت الأبدان, بينما يترتب على عدم التوحيد موت الأرواح واندثار الأديان والشقاء في الدنيا والآخرة ودخول النار والحرمان من الجنة3. والتوحيد الذي نتكلم عن ضرورته وحاجة العباد إليه ليس هو جعل الله واحدًا، فالله سبحانه واحد أحد بدون جعل جاعل، ولا نعني به كذلك التوقف عند الاعتقاد بوحدانية الله ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا فحسب، بل يتبع هذا الاعتقاد حقه من التسليم المطلق لله والخضوع والطاعة والانقياد التام، وعدم صرف شيء من العبادات القولية والفعلية والمالية والقلبية لغيره سبحانه؛ لأن التوحيد ليس كلمة تقال باللسان دون أن تستقر في القلب وتظهر آثارها على الإنسان في منهج كامل للحياة يبدأ من الاعتقاد الصحيح وينتهي بتنظيم شامل لحياة الفرد والجماعة، والتوحيد الصحيح لاحد لتأثيره في رقي الحياة البشرية في كل جوانبها؛ ولذلك استحق أن يرسل الله من أجله كل هؤلاء الرسل, وأن يبذلوا في سبيله كل هذه الجهود ويتحملوا الآلام، لا لأن الله سبحانه في حاجة لتوحيد العباد إياه؛ ولكن لأن استقامة الحياة البشرية وصلاحها متوقف على التوحيد.   1 سورة الحجر آية 9. 2 سورة فصلت آية 42. 3 انظر إغاثة اللهفان 1/30 والفتاوى 19/96 ومفتاح دار السعادة 2/2 وشرح الطحاوية ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وجه الحاجة إلى التوحيد: إن صلاح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة مرتبط بالتوحيد ونبذ الشرك ووسائله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 أما الحاجة للتوحيد في الآخرة : فمن المقطوع به أنه لن يدخل الجنة وينجو من النار إلا من حقق التوحيد الذي أمر الله به عباده استنادًا لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، والشرك الأكبر يناقض التوحيد ويبطله, وإذا مات العبد عليه حُرم من الجنة ووجبت له النار, وإن مات على التوحيد الصحيح حُرِّمت عليه النار ودخل الجنة، لما روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وهو رديفه على الرحل: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرّمه الله على النار. قال: يا رسول الله, أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذًا يتكلوا. وأخبر بها معاذ عند موته تأثُّمًا" 2، والأحاديث في هذا كثيرة3. وأما غير الموحد فإنه لو جاء بأعمال كثيرة يوم القيامة فإنها لن تنفعه, لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4, وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} 5، وقال في انخداع الكافرين بأعمالهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} 6.   1 سورة النساء آية 48، 116. 2 متفق عليه واللفظ للبخاري في كتاب العلم 49. 3 انظر تيسير العزيز الحميد ص65-69. 4 سورة الزمر آية 65. 5 سورة إبراهيم آية 18. 6 سورة النور آية 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الشرك نوعان أكبر وأصغر فمن خلص منهما وجبت له الجنة ومن مات على الأكبر وجبت له النار, ومن خلص من الأكبر وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة، فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر, ومن خلص من الشرك الأكبر ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار"1.   1 انظر تيسير العزيز الحميد ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 واما الحاجة للتوحيد في الدنيا : فأما بالنسبة للحياة العامة : فإن الحياة لا تستقيم ولا تصلح إلا على أساس الإيمان بالله الواحد وأنه المتصرف الوحيد في هذا الكون، ثم العبودية الكاملة لهذا الإله الواحد، لأن الأرض عندما يحكمها إله غير الله يتعبد الناس تفسد الحياة على ظهرها ويعمها الشر، ولذلك لما دمر الله فرعون علل ذلك بكونه مفسدًا فقال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1، فاستعمل هنا كلمة المفسدين وهي مرادفة لكلمة الكفر والظلم؛ لأن الكفر والظلم أشنع الفساد في الأرض، لا لأنه يضر الله سبحانه، ولكن لأنه اعتداء على عقائد الناس وإفسادها حتى يسلس للطواغيت أن يتحكموا في رقاب العباد وتعبيدهم لهم من دون الله, كما حكى الله تعالى عن قول فرعون لموسى: {لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 2. وليست الحياة على الأرض فقط متوقفةً على الوحدانية، بل الكون كله بما فيه ومن فيه لا يستقيم أمره إلا بإله واحد مدبر له: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 3.   1 سورة الأعراف آية 103. 2 سورة الشعراء آية 29. 3 سورة الأنبياء آية 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وأما بالنسبة للمجتمع : فالتوحيد يعطي المجتمع صبغة ثابتة ومنهجًا واضحًا يميزه عن غيره من المجتمعات الكافرة، والتوحيد يدفع بالمجتمع في مضمار التقدم والرقي؛ لأنه ينفي عن المجتمع المساوئ الكثيرة للشرك، ولأنه يهيئ الأذهان لرفض الأوهام والخرافات والأساطير التي تفتك بالمجتمع وتهدم كيانه وتضعفه وتجعله في اضطراب مستمر وتقف حاجزًا دون رقيه وازدهاره، ولا تخفى الحاجة للتوحيد في سائر أوضاع الحياة البشرية والدينية والاقتصادية والسياسية والزراعية والاجتماعية وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وأما بالنسبة للفرد : فالموحد هو الفرد الصالح في كيان المجتمع، لأن التوحيد يحرره من عبودية العباد والخضوع لغير الله ويسمو به للخضوع للواحد الأحد، ويمنحه الاستقلال والحرية ويطلق قواه من سلطان غير الله، وأما المشرك فعنده استعداد داخلي للخضوع للقوى البشرية كالرؤساء والمسيطرين -خاصة إن اعتقد أن فيهم جزاءًا من الألولهية- وللقوى الوهمية سواء أكانت حجرًا أو شجرًا أو حيوانًا أو كوكبًا أو قبرًا وما إلى ذلك، والموحد لا يتعلق قلبه بهذه الأشياء قط، لعلمه بقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 1، ولقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 2، ولهذا فإن الموحد عنده وضوح تام في الحياة بحيث لا يتوجه إلا إلى الله ولا يدعو إلا إياه ولا يتقرب لغيره، لعلمه أنه وحده المعبود الحق واهب الكرامة الحقة، والموحد قوي في مجابهة المحتالين والدجالين ممن يستغلون جهل العوام وضعف عقولهم ويزعمون أن لهم حق الولاية عليهم وأنهم يتحكمون في مصائرهم لأنهم يقومون بدور الوساطة والشفاعة، والموحد يعلم أنه   1 سورة العنكبوت آية 41. 2 سورة الحج آية 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِه} 1، ويقول تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 2. والمشرك بالإضافة لتعطيل عقله, عنده خلل وعمى في البصيرة بتقربه لغير الله من الآلهة المزعومة وصرفه شتى أنواع القربات لها كالنذور والذبائح وطلب الشفاعة والتوسل بها ودعائها في حوائجه، واعتقاده نفعها وضرها، فيكون قد عطل مواهبه وأذل نفسه, وسخر قواه في خدمة من لا يضر ولا ينفع بل هو مخلوق لأجله مسخر لخدمته, فقال تعالى في حقه: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِير} 4. إن الموحد لله لا تتوزع طاقاته, ولا تتبدد جهوده ومشاعره بين آلهة شتى, كما وصف الله بذلك المشرك فقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 5، فهو دائمًا في تمزق داخلي وعدم استقرار وطمأنينة، لدينونته لآلهة متعددة؛ لأنه لن يبلغ رضاهم جميعًا، وبين الله حالة المشرك هذه بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} 6، فمثله كمثل العبد المملوك لعدة أشخاص لا يمكنه أن يبلغ رضاهم كلهم, فهو في شقاء دائم لتصارع رغباتهم عليه ومطالبهم منه، بينما الموحد مرتاح الضمير مطمئن البال، لدينونته لإله واحد يعرف ما يطلبه منه وما يرضيه وما يسخطه، فيتجه بكل أشواقه وطاقاته وحاجاته لإله واحد يرجوه   1 سورة يونس آية 3. 2 سورة الأنبياء آية 28. 3 سورة فاطر آية 19. 4 سورة الملك آية 22. 5 سورة الحج آية 31. 6 سورة الزمر آية 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ويخافه ويتقي غضبه ويطلب رضاه؛ لأنه وحده هو المالك الخالق الرازق المانع المانح، فلا تصادم عند الموحد بين عقيدته وفطرته كما هو حال المشرك, ولا يعبد ما كتب عليه الهلاك والفناء، إنما يعبد الذي يغير ولا يتغير ولا يلحقه فناء ولا هلاك، لذا نجد المشرك دائمًا مصادمًا لفطرته، مضطربًا في وجهته وغايته ودوافع عمله وسلوكه، ولن يستوي من يعبد الباقي الحي الذي لا يموت وله الكمال المطلق، ومن يعبد الفاني الموصوف بالنقص, والفرق بين النقص والكمال كالفرق بين الشرك والتوحيد. والتوحيد يضيء جوانب النفس ويطهرها, وينقي الضمير ويحييه, ويرقق القلب والروح، بينما الشرك حجب كثيفة على القلب والروح، وما يصدر عن القلبين الموحد والمشرك كما يصدر عن الشجرة الطيبة والخبيثة, لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ, تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ, وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} 1. قال ابن القيم رحمه الله: "فالله سبحانه شبَّه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوًا, ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة في كل وقت بحسب ثباتها في القلب وإخلاصه فيها.."2 ا. هـ. فإذا استقرت عقيدة التوحيد في القلب صلح وصلح سائر الجسد حتى يعم النفع لغيره، وإذا فسد القلب بالشرك فسد سائر الجسد حتى لا يصدر عنه إلا كل خبيث كما قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} 3.   1 سورة إبراهيم آية 24- 26. 2 إعلام الموقعين 1/171. 3 سورة الأعراف آية 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 يقول ابن القيم رحمه الله: "فليس في الكائنات شيء غير الله عز وجل يسكن القلب إليه ويطمئن به ويأنس به ويتنعم بالتوجه إليه، ومن عبد غيره سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة, فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته وهو بمنزلته أكل الطعام المسموم اللذيذ، وكما أن السموات والأرض {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1 فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فسادًا لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود منه, ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه.."2 انتهى بلفظه. والتوحيد هو مفزع أعداء الله وأوليائه؛ لأن الله وحده هو الذي ينجي أعداءه من الكروب الدنيوية والشدائد التي تحل بهم, لقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 3، ولقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} 4. وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة وأهوالها، ولذلك فزع إليه الأنبياء جميعًا في شدائدهم, ومنهم يونس عليه السلام عندما نادى في الظلمات فقال: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين} 5. وفزع إليه أتباع الرسل: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين} 6.   1 سورة الأنبياء آية 22. 2 إغاثة اللهفان 1/30. 3 سورة العنكبوت آية 65. 4 سورة الزمر آية 38. 5 سورة الأنبياء آية 87. 6 سورة الأعراف آية 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وفزع إليه فرعون عندما غرق، ولكن لم ينفعه فزعه حينئذ، وهذه هي سنة الله في خلقه, ولا تدفع الشدائد إلا بتوحيده, ولا يُلقي في الكربات والظلمات إلا الشرك به1.   1 انظر الفوائد لابن القيم ص53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المنهج القرآني في تقرير عقيدة التوحيد تمهيد الباب ... تمهيد إن للقرآن الكريم منهجه الخاص به في تقرير عقيدة التوحيد، وذلك لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه. ومحاولتي هنا لإبراز المنهج الذي سلكه القرآن الكريم في تقرير عقيدة التوحيد تبقى محاولة ناقصة؛ لأنها محاولة بشرية, والكمال المطلق لله وحده، وهي محاولة لبيان الخطوط العريضة للطريقة التي سلكها القرآن في تقرير عقيدة التوحيد ومحاربة الشرك. وقد كتبت كتابات كثيرة عامة حول موضوعات فصول هذا الباب، ولكن لم أجد من كتب عن هذه الموضوعات متقيدًا بموضوع الباب وهو المنهج الذي سلكه القرآن لإثبات عقيدة التوحيد وإبطال الشرك، ولذلك كان الاعتماد الكبير في مراجع هذا الباب على كتب التفسير, وعلى رأسها خمسة تفاسير هي: 1- تفسير الطبري. 2- تفسير القرطبي. 3- تفسير البحر المحيط. 4- تفسير ابن كثير. 5- تفسير الزمخشري. وبالنسبة لتفسير الزمخشري فقد كنت حذرًا جدًّا في النقل عنه؛ لاعتناق صاحبه للاعتزال, ولكن النسخة التي اعتمدت عليها حققها ابن المنير الذي يقول بأنه أخرج الاعتزال من الكشاف بالمناقيش. وإنني أعتبر أن الباب ما زال مفتوحًا للدراسة ولكل من يرى زيادة عليه وإضافة ما يراه مناسبًا. وقد جاء هذا الباب مشتملًا على خمسة فصول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 أولها: تحدثت فيه عن استعمال القرآن للأدلة الكونية في دعوته للتوحيد وإبطاله للشرك, وأن النظر في الكون وآياته المبثوثة يؤيد عقيدة التوحيد. ثانيها: بينت فيه ضرب القرآن للأمثال في تثبيته لعقيدة التوحيد، وفي القرآن أمثال كثيرة, إلا أن منها ما اختص للدعوة إلى التوحيد وإبطال الشرك. وثالثها: تحدثت فيه عن استعمال القرآن للقصص في بيان مصارع الأمم المشركة المنحرفة عن التوحيد ونصر الله تعالى لأتباعه المؤمنين الموحدين أفرادًا وجماعات، أنبياء وغير أنبياء. ورابعها: بينت فيه تذكير القرآن بنعم الله التي لا تحصى على هذا الإنسان، ومن ثم دعوته لتوحيد الله وعبادته شكرًا له على هذه النعم, وأن من الظلم عبادة غير المنعم من الآلهة والأوثان المصنوعة. خامسها: تحدثت فيه عن الأدلة العقلية التي جاءت مقررة للتوحيد مبطلة للشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الفصل الأول: تقرير القرآن للتوحيد بالأدلة الكونية تمهيد إنني لن أتحدث في هذا الفصل عن الآيات القرآنية الكونية بمنطق النظريات العلمية؛ لأن القرآن الكريم كتاب هداية وإعجاز لا كتاب فيزياء وكيمياء وجيولوجيا وغيرها من العلوم العصرية، وكلامي على الآيات القرآنية الكونية من حيث بساطتها ووضوحها, وأن النظر فيها يؤدي لمعرفة الله ووحدانيته كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "النظر لا ريب في صحته في الجملة، وأنه إذا كان في دليل أفضى إلى العلم بالمدلول, وإذا كان في آيات الله أفضى إلى الإيمان به الذي هو رأس العبادة"1. وقد تحدثت في هذا الفصل عن أربع نقاط هي: أ- اشتمال الآيات القرآنية الكونية على دليلي الخلق والعناية . ب- آية السموات والأرض. جـ- آية الشمس والقمر والليل والنهار. د- آية الرياح والسحاب والمطر والنبات. ولم أذكر في هذا الفصل جميع ما ورد في القرآن من الآيات الكونية؛ لأن استقراءها يجعل الموضوع طويلًا جدًّا, والغرض هو التنبيه على الاستدلال بهذا النوع من الآيات, فرأيت الاكتفاء بما يدل على المقصود، وفيما يلي الكلام على هذه النقاط مرتبًا.   1 الفتاوى 2/47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 اشتمال الآيات القرآنية الكونية على دليلي الخلق والعناية مدخل ... أ- اشتمال الآيات القرآنية الكونية على دليل الخلق والعناية إذا نظرنا إلى الآيات القرآنية الكونية نرى أنها تنبه إلى دليلي الخلق والعناية في الكون, وهما دليلا الشرع, وقد يكون الدليلان معًا في الآية الواحدة, فآيات القرآن: أ- إما أن تتضمن التنبيه على دليل الاختراع. ب- وإما أن تتضمن التنبيه على دليل العناية. جـ- وإما أن تتضمن التنبيه على الدليلين السابقين معًا1. وهذان الدليلان ترد عليهما شبهتا الطبيعة والصدفة، وفيما يلي بيان كل دليل ورد الشبهة الواردة عليه.   1، 2 انظر تلبيس الجهمية 1/173 وانظر مناهج الجدل ص 136- 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 1- دليل الخلق ويسمى دليل الإبداع أو الاختراع وهو مبني على أصلين: أ- أن الموجودات مخترعة. ب- كل مخترَع لا بد له من مخترع1. ويعتمد هذا الدليل على إثارة الفكر للتعرف على خالق الموجودات جميعها والاستدلال بذلك على وحدانيته تعالى، وهو أول دليل تلفت الآيات النظر إليه, كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ, بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، وقوله   1 انظر تلبيس الجهمية 1/173 وانظر مناهج الجدل ص 136- 137. 2 سورة البقرة آية 116- 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ, وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1. وملخص هذا الدليل أن كل ما في الكون مخلوق، والمخلوق لا بد له من خالق؛ لأنه يستحيل أن يكون خُلق من غير خالق، ولهذا كان كل رسول يقول لقومه: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} 2. وقد كان المشركون يؤمنون بهذا الدليل من حيث دلالته على توحيد الربوبية ولا يؤمنون بدلالته على توحيد الألوهية. قال تعالى عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 4. وقد أقام القرآن الحجة عليه بهذا التوحيد توحيد الربوبية ليكون موصلًا لهم لتوحيد الألوهية, حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 5، وقال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 6، والمعنى: كما أنه المتفرد بربوبية المشرق والمغرب وربوبية السموات والأرض وليس لذلك رب سواه, فكذلك ينبغي أن لا يُتخذ إلهٌ سواه7.   1 سورة الجاثية آية 3-4. 2 سورة إبراهيم آية 10. 3 سورة العنكبوت آية 61. 4 سورة العنكبوت آية 63. 5 سورة البقرة آية 21. 6 سورة المزمل آية 9. 7 انظر التبيان لابن القيم ص142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وكذلك لما أقسم سبحانه وتعالى على الوحدانية في سورة الصافات، أتبع هذا القسم بذكر ربوبيته تعالى للسموات والأرض ومشارقها فقال تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً, فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً, فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً, إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ, رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 1. يقول ابن القيم: فإن الإقسام كالدليل والآية على صحة ما أقسم عليه من التوحيد.. وأقسم سبحانه بذلك على توحيد ربوبيته وإلهيته وقرر توحيد ربوبيته فقال: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ, رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} من أعظم الأدلة على أنه إله واحد ولو كان معه إله آخر لكان الإله مشاركًا له في ربوبيته كما شاركه في إلهيته، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وهذه قاعدة القرآن يقرر توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية, فيقرر كونه معبودًا واحدًا بكونه خالقًا ورازقًا وحده"2 انتهى باختصار.   1 سورة الصافات آية 1-5. 2 التبيان لابن القيم ص309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الشبهة على هذا الدليل: ويورد الملحدون شبهًا على هذا الدليل أعظمها شبهة الطبيعة ، وملخص هذه الشبهة: أننا إذا سألنا الطبيعيين عمن خلق الكون بما فيه, فالجواب عندهم: الطبيعة، فالطبيعة هي التي خلقت الكون بما فيه من سماوات وأرضين وشمس وقمر ونجوم وبحار وإنسان وحيوان وغير ذلك. الرد على هذه الشبهة: للرد على شبهة الطبيعيين نسألهم: ماذا تعنون بكلمة الطبيعة؟ هل تعنون بها ذات الأشياء أو صفاتها؟ فإن عنوا بالطبيعة ذات الأشياء فيكون على قولهم كل شيء خلق نفسه، فالسماء خلقت السماء، والأرض خلقت الأرض، فيصبح كل شيء هو الخالق والمخلوق بنفس اللحظة، وبما أن المخلوق مفتقر إلى الخالق فيكون هذا الشيء مفتقرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 لنفسه وهو موجود فيجتمع فيه النقيضان بنفس الوقت؛ لاستحالة أن يكون موجودًا معدومًا بنفس الوقت كما يستحيل أن يكون خالقًا ومخلوقًا، وبهذا يظهر بطلان هذا الادعاء وتهافته. وإن عنوا بكلمة الطبيعة صفات الأشياء وقابلياتها من حرارة وبرودة وملاسة وخشونة, فقولهم هذا أكثر تهافتًا من سابقه؛ لأن من البدهيات أن الصفات والقابليات لا تقوم إلا بذات الأشياء، فهي مفتقرة للأشياء, فالصفة دائمًا مفتقرة إلى الموصوف لأنها لا تظهر إلا به، وإذا كانت الأشياء الموصوفة ذاتها عاجزة عن إيجاد نفسها فعجز الصفة والقابلية عن إيجاد موصوفاتها من باب أولى -بل إن الصفة نفسها بحاجة إلى موجد يوجدها في موصوفها؛ لأن الموصف كما هو عاجز عن إيجاد نفسه فهو عاجز عن إيجاد صفته. وبهذا يظهر بطلان قول أهل الطبع الذين جعلوا من الأشياء آلهة ونحلوها أسماء باطلة، فالطبيعة ليست إلهًا يخلق، وإنما هي أصنام الملحدين الذين فروا من التوحيد تحت شعار هذا الاسم الخادع، يقول تعالى على لسان هود عليه السلام قوله لقومه عندما جادلوه في أصنامهم: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} 1، وقال تعالى عن يوسف قوله لصاحبيه في السجن: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} 2. وقد رفض هذا التفسير للخلق عدد من العلماء الغربيين, وهذه جملة من أقوالهم؛ يقول "كلودم هاثاوي" المصمم للعقل الإلكتروني في مقال له بعنوان المبدع العظيم: "إن فلسفتي تسمح بوجود غير المادي لأنه بحكم تعريفه لا يمكن إدراكه   1 سورة الأعراف آية 71. 2 سورة يوسف آية 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 بالحواس الطبيعية، فمن الحماقة إذن أن أنكر وجوده بسبب عجز العلوم عن الوصول إليه، وفوق ذلك فإن الفيزياء الحديثة قد علمتني أن الطبيعة أعجز من أن تنظم نفسها أو تسيطر على نفسها"1. ويقول كذلك: "إن الطبيعة لا تستطيع أن تصمم أو تبدع نفسها؛ لأن كل تحول طبيعي لا بد أن يؤدي إلى نوع من أنواع ضياع النظام أو تصدع البناء العام, إن هذا الكون ليس إلا كتلة تخضع لنظام معين لا بد له من سبب أول لا يخضع للقانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية, ولا بد أن يكون هذا السبب غير مادي في طبيعته"2 انتهى باختصار. ويقول "كريسي موريسون": "والطبيعة لم تخلق الحياة, فإن الصخور التي حرقتها النار والبحار الخالية من الملح لم تتوافر فيها الشروط اللازمة"3. ويقول عالم الطبيعة الدكتور "أدوين فاست" في مقال له بعنوان نظرة إلى ما وراء القوانين الطبيعية: "إن جميع القوانين الطبيعية التي نصفها ونستخدمها ليست إلا مجرد وصف لما يحدث أو يشاهد, فهي بذلك ليست تدبيرًا أو إلزامًا, فليس الوصف في ذاته سببًا لحدوث ظاهرة من الظواهر.. ومهما بالغنا في تحليل الأشياء وردها إلى أصولها الأولى، فلا بد أن نصل في نهاية المطاف إلى ضرورة وجود قوانين طبيعية تخضع لها ذرات هذا الكون, ويعد ذلك في ذاته دليلًا على وجود إله قادر مدير هو الذي قدر لكل ظاهرة من ظواهر هذا الكون أن تسير في طريقها المرسوم"4. انتهى باختصار.   1 كتاب الله يتجلى في عصر العلم ص90. 2 المصدر السابق ص91. 3 العلم يدعو للإيمان ص89. 4 كتاب الله يتجلى في عصر العلم ص93- 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ويحسن بنا أن نختم الجواب عن هذه الشبهة بكلام لابن القيم حيث يقول في حديثه عن عجائب خلق الإنسان: "من أين للطبيعة هذا الاختلاف والفرق الحاصل في النوع الإنساني بين صورهم, فقلّ أن يرى اثنان متشابهان من كل وجه وذلك من أندر ما في العالم, بخلاف أصناف الحيوان كالنعم والوحوش والطير وسائر الدواب.. فمن الذي ميز بين صورهم وأصواتهم وفرق بينها بفروق لا تنالها العبارة ولا يدركها الوصف، فسل المعطِّل أهذا فعل الطبيعة؟ وهل في الطبيعة اقتضاء هذا الاختلاف والافتراق في النوع؟ وأين قول الطبائعيين أن فعلها متشابه لأنها واحدة في نفسها لا تفعل بإرادة ولا مشيئة فلا يمكن اختلاف أفعالها؟ فكيف يجمع المعطل بين هذا وهذا؟ فإنها لا تعمى الأبصار, ولكن تعمى القلوب التي في الصدور1. انتهى باختصار.   1 مفتاح دار السعادة 1/267 وانظر كذلك ص 261 - 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 2- دليل العناية : ويسمى دليل النظام أو التناسق؛ لأنه ينطلق بنا ضمن الآيات الكونية ليوصلنا إلى أن الذي نظم الكون وربط أجزاءه بحيث يكمل بعضها بعضًا وقدر كل شيء فيه تقديرًا, هو الله الواحد الأحد, ومن الآيات القرآنية التي ورد فيها دليل العناية قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ, وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ, وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1، وقوله تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ, وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ, وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ, وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} 2، وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً, وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً, وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً, وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ   1 سورة الأنبياء 31-33. 2 سورة الحجر 19-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 سُبَاتاً, وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً, وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً, وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً, وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً, وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً, لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً, وَجَنَّاتٍ أََلْفَافاً} 1. هذه الآيات القرآنية التي ذكرناها وآيات أخرى كثيرة تلفت نظر الإنسان لما في هذا الكون من التنظيم الدقيق والتناسق بين أجزاء الكون أقصى غايات الدقة والإتقان ليدل دلالة قاطعة على العناية التامة بهذا الكون وما فيه، وأن إلهًا واحدًا قادرًا هو الذي نظم كل ما فيه أحسن تنظيم2. إنه لا يوجد أي شيء في الكون إلا في محله المناسب وبالقدر المناسب، فكل ما فيه في غاية الحكمة والعناية والإتقان، والناظر لهذا الإتقان العجيب والتنظيم المدهش في كل شيء في الأرض وفي السماء وما بينهما -بحيث أن أي تغيير فيه يؤدي إلى الخلل والفساد؛ لا يسعه إلا أن يؤمن بوحدانية الله تعالى. إننا لو سألنا عالم الفلك فإنه يبين لنا من دقائق الحسابات الفلكية وتنظيم الكواكب وأحجامها وأبعادها ما يحير العقول. ولو سألنا عالم التشريح عن جسم الإنسان، وعالم الحيوان عن أنواع الحيوان الطائر والسابح والماشي والزاحف بأشكاله وألوانه وخواصه ومعيشته وغرائبه؛ لأسلمنا ذلك بلا شك إلى وحدانية الله. ولو سألنا عالم النبات عن أنواعه وثماره وأوراقه وطعومه وخواصه لأجابنا بما يدل دلالة قاطعة على وحدانية الله. ولو نظرنا إلى التنظيم الدقيق في الأرض ببجرها ويابسها وجبالها وأغوارها وسهولها   1 سورة النبأ آية 6-16. 2 انظر تلبيس الجهمية 1/174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وصخورها ورمالها ومعادنها وينابيعها وأنهارها وطبقاتها، لأدى بنا ذلك إلى الاعتراف بوحدانية الله. إن العقل السليم يرفض رفضًا تامًّا أن يكون أي ترتيب وتنظيم لشيء ما حدث بصورة عفوية وبطريق الصدفة، فلو دخلنا دارًا أو محلًّا تجاريًّا منظمًا لأدى بنا النظر لأول وهلة إلى أن منظمًا نظم هذه الدار وهذا المحل، فكيف بهذا الكون المنظم كل شيء فيه أحسن تنظيم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الشبهة على هذا الدليل: والشبهة الواردة على دليل النظام هي شبهة المصادفة ، وملخص هذه الشبهة: أن هذا العالم كله بما فيه من تناسق وتنظيم وجد بطريق الصدفة من غير إله خالق نظمه, وكل ما نرى فيه من ألوان التناسق كعدد النجوم وأبعادها عن بعضها بحيث لا تصطدم في مداراتها والشمس والقمر وحركتهما في مسارهما, والأرض بوضعها الحالي الصالح للحياة وبعدها عن الشمس والقمر وقشرتها وهوائها ومائها وجبالها, كل ذلك رتب بطريق الصدفة. وللرد على هذه الشبهة نورد المثال التالي: لو أن هزة أرضية قلبت صناديق الحروف في مطبعة بها نصف مليون حرف فخلطتها ببعضها, فأخبرنا صاحب المطبعة أنه تكوّن من اختلاف الحروف صدفة عشر كلمات متفرقة، فالمسألة تحتمل التصديق وتحتمل النفي، لكنه لو أخبرنا بأن الكلمات العشر كونت جملة مفيدة لازدادت درجة النفي والاستبعاد, لكننا قد لا نجزم بالاستحالة, ولو أخبرنا بأن الحروف المبعثرة كونت كتابًا من مائة صفحة وبه قصيدة كاملة منسجمة بألفاظها وأوزانها فالاستحالة في هذه الحالة بحكم البديهة. والمسألة في الكون وأجزائه وما فيها من إتقان وإحكام وعناية أعقد بكثير من مثال حروف المطبعة؛ لأن الحروف هنا جاهزة معبأة في صناديقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 إن الصدفة في مجال الكون مستحيلة في ذاتها فضلًا عن أن ينبثق عنها هذا الإحكام والنظام، ولو سلمنا جدلًا بصدفة واحدة في البداية فهل يقبل عقلنا بسلسلة طويلة متتابعة من المصادفات؟ إن أقوال مفكري العالم الذين لا يصدرون في آرائهم إلا عن علم وتجارب كثيرة تنفي فكرة المصادفة من أساسها, ويعتبرون أن القول بالصدفة مغالطة واضحة وبعد عن الحق، وهذه جملة من أقوالهم يسخرون بها من القول بالصدفة: يقول عالم الوراثة والبيئة الدكتور "جون وليان كلوتس": "إن هذا العالم الذي نعيش فيه قد بلغ من الإتقان والتعقيد درجة تجعل من المحال أن يكون قد نشأ بمحض المصادفة، إنه مليء بالروائع والأمور التي تحتاج إلى مدبر، والتي لا يمكن نسبتها إلى قدر أعمى, ولا شك أن العلوم قد ساعدتنا على زيادة فهم وتقدير ظواهر هذا الكون المعقدة, وهي بذلك تزيد من معرفتنا بالله ومن إيماننا بوجوده"1، ويقول كذلك: "إنه من الصعب على عقولنا أن تتصور أن كل هذا التوافق العجيب قد تم بمحض المصادفة, إنه لا بد أن يكون نتيجة توجيه محكم احتاج إلى قدرة وتدبير"2. ويقول الفلكي الشهير "كريسي موريسون": ".. ومثل هذه المجموعة من المعجزات لا يوجد ولا يمكن أن يحدث بأي حال في غيبة الحياة, وكل ذلك يتم في نظام كامل والنظام مضاد إطلاقًا للمصادفة, أليس ذلك كله من صنع الخالق؟ "3. ويقول الكيماوي الدكتور "دافيد باركس": "إنني أقرأ النظام والتصميم في كل ما يحيط بي من العالم غير العضوي ولا أستطيع أن أسلم بأن يكون كل ذلك   1 كتاب الله يتجلى في عصر العلم ص46. 2 تفس المصدر السابق ص48. 3 العلم يدعو للإيمان ص156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 قد تم بمحض المصادفة العمياء التي جعلت ذرات هذا الكون تتألف بهذه الصورة العجيبة, إن هذا التصميم يحتاج إلى مبدع ونحن نطلق على هذا المبدع اسم الله"1. ويحسن أن نختم الجواب عن هذه الشبهة بكلام ابن القيم فيقول: "فَسَلِ المعطل الجاحد: ما تقول في دولاب دائر على نهر قد أحكمت آلاته وأحكم تركيبه وقدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه بحيث لا يرى الناظر فيه خللًا في مادته ولا في صورته, وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل أنواع الثمار والزروع يسقيها حاجتها, وفي تلك الحديقة من يلم شعثها ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها, فلا يختل منها شيء ولا يتلف ثمارها, ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم, فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به ويقسمه هكذا على الدوام, أترى هذا اتفاقًا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقًا من غير فاعل ولا مدبر؟ أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان، وما الذي يفتيك به وما الذي يرشدك إليه؟ "2.   1 كتاب الله يتجلى في عصر العلم ص42-43. 2 مفتاح دار السعادة 1/214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 آية السماء والأرض ... ب- آية السماوات والأرض ذكرت آية الأرض مع آية السماء لأنهما تذكران معًا في معظم آيات القرآن الكريم ولارتباط الاستدلال بهما ببعضه البعض, وفيما يلي البيان: 1- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ, الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. في هذه الآية يطلب الله تعالى من الناس جميعًا أن يوحدوه ولا يشركوا به الأصنام والأنداد وهم يعلمون أنه الذي بنى السماء وفرش الأرض. قال ابن كثير: "وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له"2. وقال الزمخشري: "أي هو الذي خصكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالواحدانية، فلا تتخذوا له شركاء"3. 2- قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ, إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 4.   1 سورة البقرة آية 21-22. 2 تفسير ابن كثير 1/58. 3 الكشاف 1/233. 4 سورة البقرة آية 163-164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 هذه الآيات الكونية بدئت بالنص على الوحدانية, ثم نبه تعالى عباده على تفرده بالألوهية بخلق السموات والأرض وما بينهما؛ لأن من نظر إلى السماء في ارتفاعها وسعتها وإلى الأرض واستقرارها أداه لتوحيد الله وعبادته؛ لأن في خلق السماوات والأرض دلالات واضحة لقوم يعقلون عن الله حججه وأدلته على وحدانيته1. قال الطبري: "وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهل الشرك به على ضلالهم ودعاء منه لهم إلى الأوبة من كفرهم والإنابة من شركهم, ثم عرفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها موضع استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبههم عليه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عذرهم, فقال تعالى ذكره: أيها المشركون, إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر من أن إلهكم إله واحد دون ما تدعون ألوهيته من الأنداد والأوثان، فتدبروا حججي وفكروا فيها, فإن من حججي خلق السماوات والأرض"2. انتهى بلفظه. 3- قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} 3، وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 4، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 5، ففي هذه الآيات نبه سبحانه وتعالى إلى وقوف السماء بغير عمد، وأن الله ممسكها بقدرته وعظيم سلطانه, وجعلها من البعد بحيث لا تنال, وسمكها في نفسها   1 انظر تفسير ابن كثير 1/201 وتفسير الطبري 2/61. 2 تفسير الطبري 2/61. 3 سورة الحج آية 65. 4 سورة لقمان آية 10. 5 سورة الرعد آية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 مسيرة خمسمائة عام, كما أن بعد ما بين كل سماء والتي تليها خمسمائة عام، ومن كان هذا خلقه فهو متعالٍ عن الشريك كما قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. فأنى يكون له شريك وقد خلقهما بالحق وهو التوحيد، منفردًا بخلقهما وإبداعهما من غير حاجة لأحد2.   1 سورة النحل آية 3. 2 انظر تفسير الطبري 13/95 ومفتاح دار السعادة 1/ 196وتفسير ابن كثير2/ 499, 3/ 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 جـ- آية الشمس والقمر والليل والنهار ذكرت آية الشمس والقمر مع آية الليل والنهار لورودها مجتمعة في بعض المواضع من آيات القرآن الكريم: 1- قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ, إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} 1. في هاتين الآيتين تنبيه على أن الله وحده هو الذي خلق الشمس والقمر والليل والنهار بغير معين ولا شريك, فقوله: "هو" دلالة على الوحدانية أي هو الذي جعل الشعاع الصادر عن الشمس ضياء وجعل الشعاع الصادر عن القمر نورًا، وفاوت بينهما بأن جعل سلطان الشمس نهارًا وسلطان القمر ليلًا وقدر القمر منازل. فالمتدبر لذلك يعلم حقيقة الوحدانية, قال الطبري: "لقوم يعلمون إذا تدبروها حقيقة وحدانية الله"2 ا. هـ. وانظر كيف وضعت الشمس في مكانها الخاص بها والقمر في مكانه الخاص به ووضعت الكواكب في أمكنتها الخاصة بها ودوران ذلك كله, كما قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون} 3. قال ابن عباس: "أي يدورون كما يدور المغزل في الفلكة" قال مجاهد: فلا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا   1 سورة يونس آية 5-6. 2 تفسير الطبري 11/86 وانظر تفسير ابن كثير 2/407. 3 سورة الأنبياء آية 33 وسورة يس آية 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الفلكة إلا بالمغزل, كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلا به ولا يدور إلا بهن"1. وانظر هذا التقدير الحكيم بأن جعل الله الليل والنهار مرتبطين بدورة الشمس, فلا يستطيع أحد إيقاف الشمس عن دورتها، أو حبس الليل والنهار عن جزء من الأرض؛ لأن الله وحده هو الذي يتولى ذلك كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ, ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2. يقول الطبري في تفسيره لهذه الآية: "فعلت هذا الفعل من إيلاجي الليل والنهار وإيلاجي النهار في الليل؛ لأني أنا الحق الذي لا مثل لي ولا شريك ولا ند, وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون إلهًا من دونه هو الباطل الذي لا يقدر صنعة شيء بل هو المصنوع"3. 2- قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 4. في هذه الآية يبين تعالى أن الليل والنهار والشمس والقمر من دلائل وحدانيته ووجوب عبادته, ولا تستحق الشمس أو القمر العبادة، إنما يستحق ذلك خالقها دون كل شيء سواه. يقول ابن كثير: "يقول تعالى منبهًا خلقه على قدرته العظيمة, وأنه الذي   1 انظر تفسير الطبري 17/22 وتفسير ابن كثير 3/178. 2 سورة الحج آية 61-62. 3 تفسير الطبري 17/196 وانظر تفسير ابن كثير 3/232. 4 سورة فصلت آية 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 لا نظير له وأنه على ما يشاء قدير: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي أنه خلق الليل بظلامه والنهار بضيائه وهما متعاقبان لا يفتران، والشمس ونورها وإشراقها, والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه واختلاف سيره في سمائه؛ ليعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار والجمع والشهور والأعوام, ويتبين بذلك حلول الحقوق وأوقات العبادات والمعاملات، ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده تحت قهره وتسخيره فقال: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي لا تشركوا به, فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره, فإنه لا يغفر أن يشرك به"1. إذا نظرنا إلى العلم وجدناه يقول بأن مجموعتنا الشمسية ليست إلا جزءًا من أجزاء المجموعة المجرية, ومجرتنا هذه واحدة من مجرات عديدة، ويقول العلم بأن هناك نجومًا كثيرة أكبر من الشمس وأشد حرارة منها، وأن الشمس التي يستفيد من حرارتها كل نبت وحيوان درجة حرارة سطحها 12000 درجة فهرنهايت، وأن الأرض موضوعة بالمكان المناسب لاستمرار الحياة عليها, ولو زادت درجة الحرارة أو نقصت عن حد معين قدره الله تعالى لمات كل الأحياء على سطح الأرض حرقًا أو تجمدًا، وأن مسار القمر له علاقة بالمد والجزر الذي يحصل في البحار مرتين في العام, ولو كان القمر في غير هذا المسار الذي رسمه له خالقه لعم الماء جميع اليابسة وفاض عليها بحيث تصبح الحياة مستحيلة على ظهرها2. إن هذا الخلق العظيم والتنظيم الدقيق يدل دلالة قاطعة على وحدانية الله، وأنه المستحق أن يفرد بالعبادة دون كل شيء سواه.   1 تفسير ابن كثير 4/102 وانظر تفسير الطبري 7/286 والتبيان لابن القيم ص208 ومفتاح دار السعادة 1/198-212. 2 انظر كتاب العلم يدعو للإيمان لكريسي موريسون ص50-59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 د- آية الرياح والمطر والنبات ذكرت الكلام عن هذه الآيات معًا لارتباطها ببعضها ولأنه يرد في القرآن اقتران الرياح بإنزال المطر ثم إنبات المزروعات والثمار, وهي من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى, وفيما يلي البيان: 1- يقول تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} 1. في هذه الآية وصف الله تعالى الرياح بأنها لواقح؛ لأنها تلقح السحاب فتدر ماء, وتلقح الشجر فتفتح عن وأوراقها وأكمامها فيبعث الله الرياح المثيرة فتثير السحاب, ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب, ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر, أليس ذلك آية دالة على وحدانية الله المتصرف في هذا الكون؟ 2. 2- يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} 3, ويقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ, يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} 4.   1 سورة الحجر آية 22. 2 انظر تفسير الطبري 14/19 وتفسير ابن كثير 2/549 ومفتاح دار السعادة 1/200 والتبيان ص206. 3 سورة الحج آية63 4 سورة النور آية 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 هذا تنبيه من الله تعالى لعباده على آية السحاب الحامل للماء الكثير, حيث ينزل الله منه الأمطار بالحكمة البالغة بحيث لا تختلط قطرة بأخرى، ثم انظر كيف تعم الأمطار الأرض سهولها ووعورها وشعابها لينبت العشب للأنعام وسائر الهوام ويسقي المزروعات وتنبت الأشجار ويمد البحار والأنهار والآبار، وما يزيد منه يودعه الله في الأرض ليستخرجه الناس وقت الحاجة إليه. يقول ابن القيم: "فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقًا للعباد والدواب والطير والذر والنمل, يسوقه رزقًا للحيوان الفلاني في الأرض الفلانية بجانب الجبل الفلاني فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش, وفي الوقت كذا وكذا ثم كيف أودعه في الأرض فأخرج به أنواع الأغذية والأدوية والأقوات"1. 3- يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 2. في هذه الآية نبهنا الله تعالى إلى أنه هو وحده الذي يشق الحب والنوى في الثرى, فتنبت منه الزروع والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها، ثم قال مشيرًا إلى وحدانيته تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} : أي فاعل ذلك هو الله وحده لا شريك, فكيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل بعبادتكم غير الله تعالى. يقول الطبري: "وهذا تنبيه من الله جل ثناؤه هؤلاء العادلين به الآلهة والأوثان على موضع حجته عليهم وتعريف منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياهم, يقول تعالى ذكره: إن الذي   1 مفتاح دار السعادة 1/202 وانظر تفسير ابن كثير 3/297. 2 سورة الأنعام آية 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 له العبادة أيها الناس دون كل ما تعبدون من الآلهة والأوثان هو الله الذي فلق الحب يعني شق الحب من كل ما ينبت من النبات فأخرج منه الزرع والنوى من كل ما يغرس مما له نواة فأخرج منه الشجر.."1. 4- ويقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. الخضر: هو الزرع والشجر الأخضر. والمتراكب: هو الحب والثمر لأنه يركب بعضه بعضًا. والمشتبه وغير المتشابه: أي متشابه في الورق والشكل وهو مختلف في الطعم واللون. إن التفكير في النبات والثمار وكيفية تكونها من البذرة حتى صارت زرعًا أخضرَ وثمرًا طيبًا بعد جفافها, واختلاف ألوان الثمار وطعومها مع كونها متشابهة في الشكل والورق لا شك يؤدي لمعرفة الله ووحدانيته، ولذلك حثنا الله على النظر للثمار فقال: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} فهي تدل دلالة واضحة على وحدانية الله، لذلك ذم الله تعالى المشركين بعد هذه الآية مباشرة فقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} إلى قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 3. قال الطبري في تفسيره لهذه الآية: "يا أيها الناس إذا نظرتم إلى ثمره   1 تفسير الطبري 7/280، وانظر تفسير ابن كثير 2/158. 2 سورة الأنعام آية 99. 3 سورة الأنعام من آية 100- 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 عند عقد ثمره وعند ينعه وانتهائه, فرأيتم اختلاف أحواله وتصرفه في زيادته ونموه, علمتم أن له مدبرًا ليس كمثله شيء ولا تصلح العبادة إلا له دون الآلهة والأنداد"1. وقد استنكرالهدهد على قوم بلقيس سجودهم للشمس من دون الله، مستدلًا على وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة بأنه خلق الماء والنبات وأخرجه بعد أن كان مخبوءًا في السماء والأرض وجعل ذلك حجة على المخالفين2. حيث قال تعالى عنه: {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ, اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 3.   1 تفسير الطبري 7/292 وانظر تفسير ابن كثير 2/159 ومفتاح دار السعادة 1/141. 2 انظر تفسير ابن كثير 3/361. 3 سورة النمل آية 25-26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الفصل الثاني: تقريرالقرآن للتوحيد بضرب الأمثال تمهيد سبق أن تكلمنا في الفصل السابق عن الأدلة الكونية التي نبه إليها القرآن الكريم في تقريره لعقيدة التوحيد، ونتحدث في هذا الفصل عن تقرير القرآن للتوحيد بضرب الأمثال. والأمثال مفردها مثل وهو الشيء الذي يضرب لشيء مثلًا فيجعل مثله, أو هو ما يضرب به من الأمثال، وقد يكون المثل هو الصفة كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُون} 1: أي صفتها2. ولقد ضرب الله سبحانه وتعالى للناس في هذا القرآن من كل مثل؛ لأن ضرب الأمثال فيه فوائد كثيرة كالتذكير والوعظ والحث والزجر والتقرير وتقريب المراد للعقل وتصويره بصورة المحسوس وتشبيه الخفي بالجلي، فلضرب الأمثال واستحضار العلماء النظائر شأن ليس بالخفي في إبراز الخفيات والحقائق حتى يرى المتخيل في صورة المتحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كأنه مشاهد3. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس   1 سورة محمد آية 15. 2 انظر لسان العرب 11/611. 3 انظر الإتقان للسيوطي 2/131 والبرهان للزركشي 1/486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 التام وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير، ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره، وكلما ظهرت لها الأمثال ازداد المعنى ظهورًا ووضوحًا، فالأمثال شواهد المعنى ومزكية له, فهي كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه وهي خاصة العقل ولبه وثمرته"1 ا. هـ. وقد امتن الله سبحانه وتعالى على عباده بأن ضرب لهم الأمثال فقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} 2، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 3، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} 4, وقال تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَال} 5، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} 6. وقد نهى الله سبحانه وتعالى عباده أن يضربوا له الأمثال بقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَال} 7 يعني: الأشباه فتشبهونه بخلقه وتجلعون له شريكًا؛ لأن ضرب المثل تمثيل والله تعالى لا مثل ولا ند له, لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته ولا في أفعاله، وما ابتدع من ابتدع ولا ضل من ضل إلا من ضرب الأمثال له سبحانه، وأهل   1 إعلام الموقعين 1/190 وانظر الفتاوى 14/54 - 58 وشرح الطحاوية ص31. 2 سورة الإسراء آية 89. 3 سورة الكهف آية 54. 4 سورة الروم آية 58. 5 سورة إبراهيم آية 45. 6 سورة العنكبوت آية 43. 7 سورة النحل آية 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الكلام المحدث المبتدع ضربوا له الأمثال الباطلة فضلوا؛ لأن ضرب المثل تشبيه حال بحال، والله تعالى لا يمثل بخلقه لأن له المثل الأعلى أي الصفة العليا التي هي كلمة الإخلاص وشهادة التوحيد: لا إله إلا الله1. وقد اقتصرت في هذا الفصل على أمثال القرآن التي سيقت لتقرير وحدانية الله تعالى ومهاجمة الشرك، فقمت باستقصائها وجمعها من آيات القرآن ثم رتبتها حسب موضوعها وهي كما يلي: 1- إما مضروبة لله من جهة, وللأصنام من جهة أخرى. 2- وإما مضروبة لكلمة التوحيد وكلمة الشرك. 3- وإما مضروبة للحق والباطل. 4- وإما مضروبة لبيان عجز آلهة المشركين. 5- وإما مضروبة لحالة المشرك وحالة الموحد. 6- وإما مضروبة لقلب الموحد وقلب المشرك. 7- وإما مضروبة لحواس الموحد والمشرك وحياة الأول واستقامته وموت الثاني وانكبابه على وجهه. 8- وإما مضروبة لأعمال المشركين. وفيما يلي البيان:   1 انظر تفسير الطبري 1/123 والبحر المحيط 5/305 والبرهان للزركشي 1/487 والإتقان للسيوطي 2/131 والروضة الندية ص128 والتنبيهات السنية ص123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 1- الأمثال المضروبة لله ولما يعبد من دونه : أ- ضرب الله تعالى مثلًا لنفسه ولما يعبد من دونه بعدم قبول المشركين إشراك عبيدهم في ما يخصهم، فكيف يقبلون ذلك لله تعالى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 1، وقال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2. بين سبحانه وتعالى أنه فضل بعض الناس على بعض في الرزق، فما الذين فضلهم الله بالرزق على غيرهم بمشركي غيرهم، وهم المماليك فيما رزقوا من الأموال والأزواج حتى يستووا هم وعبيدهم في ذلك، فلا يرضون بأن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقوا سواء، بينما هم قد جعلوا مخلوقات الله شركاء له في ملكه وعبادته. وقد أجمع المفسرون على أن المثل في هذه الآية هو نفس المثل في الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا} ، ولذلك جعلت الكلام عنهما معًا3، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} بين سبحانه بالمثل الذي ضربه لهم أنه لا ينبغي أن يجعل مملوكه شريكه فقال: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} يخاف أحدكم مملوكه كما يخاف بعضكم بعضًا فإذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكه فكيف ترضونه لله؟ "4.   1 سورة النحل آية 71. 2 سورة الروم آية 28. 3 انظر تفسير الطبري 14/142 و21/38 والبحر المحيط 5/514 وتفسير القرطبي 10/141 و14/23 وتفسير ابن كثير 3/431 والكشاف 2/419. 4 الفتاوى 1/156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وهذا دليل قياس احتج الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء، فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم، ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم، ومن أبلغ الحجاج أن يؤخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها معلوم لها فقال: هل لكم من ما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل؟ أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم، فأنتم وهم من ذلك سواء تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم؟ فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي؟ "1، انتهى باختصار. ب- وضرب الله كذلك مثلين لنفسه ولما يعبد من دونه في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ, وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2. هذان مثلان ضربهما لنفسه ولما يعبد من دونه، قال مجاهد: "ضرب الله هذا المثل والمثل الآخر بعده لنفسه وللآلهة التي من دونه"3. والمثل الأول هو قصة عبد في ملك غيره عاجز عن التصرف وحر غني متصرف فيما آتاه الله، فإذا كان هذان لا يستويان عندكم مع كونهما من جنس واحد مشتركين في الإنسانية, فكيف تشركون بالله وتسوون به من   1 إعلام الموقعين 1/159. 2 سورة النحل آية 75- 76. 3 الطبري 48/14 والبحر المحيط 5/518. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 هو مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره مع تباين الأوصاف, وأن الله لا يمكن أن يشبهه شيء من خلقه ولا يمكن لعاقل أن يمثل به غيره.. والمثل الثاني كذلك مضروب لله ولما يعبد من دونه، وهي أصنام لا تسمع ولا تنطق؛ لأنها إما من خشب أو نحاس أو حجر وغيره، ولا تجلب خيرًا ولا تدفع شرًّا، ثم هي عيال على عابديها تحتاج لمن يحملها ويخدمها كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء فهو كَلٌّ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم وحيثما وجهوه لا يأتِ بخير؛ لأنه لا يفهم ولا يُفهم عنه، وهكذا الصنم لا يعقل ما يقال له، ولا ينطق فيأمر وينهى، فهل يستوي هذا الأبكم بصفاته السابقة ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحق ويدعو إليه؟ فإذا كانا لا يستويان فكذلك لا يستوي الصنم مع الله الواحد القهار الداعي عباده إلى توحيده وطاعته، فهذا مثل إله الباطل وإله الحق, وبه قال قتادة ومجاهد1، وكذلك قال به ابن القيم، وبين أن هذين المثلين أوضح عند المخاطبين وأعظم في إقامة الحجة عليهم وأظهر في بطلان الشرك2.   1 انظر تفسير الطبري 14/150 وتفسير القرطبي 14/149 والكشاف 2/421. 2 انظر إعلام الموقعين 1/161- 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 2- المثل المضروب لكلمة التوحيد وكلمة الشرك ضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا لكلمة التوحيد بالشجرة الطيبة، ومثلًا لكلمة الشرك بالشجرة الخبيثة فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ, تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ, وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} 3.   1 سورة إبراهيم آية 24- 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 شبه سبحانه وتعالى كلمة التوحيد -لا إله إلا الله- بالشجرة الطيبة وهي النخلة الضاربة جذورها في أعماق التربة وفروعها مرتفعة في السماوات, والكلمة الخبيثة وهي الشرك كالشجرة الخبيثة وهي الحنظلة إذا استؤصلت، فلم يبقَ لها أثر ولا أصل في الأرض، وقد ورد عن ابن عباس وبه قال جمهور المفسرين أن الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله في قلب المؤمن, وأن الكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر1. وفي هذا التشبيه حِكَم بليغة وأسرار كثيرة؛ لأن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر فكذلك شجرة الإيمان والتوحيد, ليطابق المشبه المشبه به, فشجرة التوحيد عروقها الثابتة: العلم والمعرفة واليقين, وساقها: الإخلاص لله, وفروعها: الأعمال الصالحة, وثمرها: الأخلاق الحميدة الزكية، فإذا كانت هذه الأمور مطابقة لأمر الله بأن يكون العلم موافقًا لمعلومه الذي أنزل الله به كتابه، وكان الاعتقاد مطابقًا لما أخبر الله به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله، وكان الإخلاص قائمًا في القلب، والأعمال موافقة للشرع، علم أن شجرة التوحيد في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإن كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فكما أن هذه الشجرة الخبيثة ليس لها أصل ثابت ولا فرع ثابت ولا فائدة فيها، فكذلك الشرك ليس له أصل يأخذ به المشرك ولا برهان ولا يقبل الله مع الشرك عملًا ولا يصعد إلى الله فليس له أصل في الأرض ولا فرع في السماء2.   1انظر تفسير الطبري 13/202 والبحر المحيط 5/421 والكشاف 2/379 وتفسير ابن كثير 2/530. 2 انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله حول هذا المثل بتوسع في الفتاوى 16/577 وفي إعلام الموقعين 1/171- 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 3- المثل للحق والباطل ضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا للحق والباطل، وهو مشتمل على المثلين المائي والناري فيقول تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} 1. أما المثل المائي: فقد مثل الله تعالى الحق في ثباته والباطل في اضمحلاله كمثل الماء النازل من السماء إلى الأرض، فتحمله الأودية بقدرها الكبير بكبره والصغير بصغره، ولكن هذا السيل الحادث عن ذلك الماء يحمل فوقه زبدًا عالًيا، وبعد قليل يتطاير الزبد ويتلاشى، وأما الماء فيستفيد منه الناس في الشرب وسقي المزروعات، والباقي يمكث في الأرض لينتفع به الناس في العاجل والآجل، فالحق في ثباته ونفعه يشبه الماء المستقر في الأرض, والباطل في تلاشيه واختفائه يشبه الزبد العالي فوق السيل، فهذا أحد المثلين. وأما المثل الآخر وهو الناري: فقد شبه الله تعالى الحق كمثل المعدن إذا أوقد عليه فيخرج منه الخبث والزبد ويذهب هذا ويتلاشى ويبقى خالص المعدن ثابتًا مستقرًّا نقيًّا، فشبه سبحانه الحق ببقائه وثباته بالمعدن الباقي بعد الخبث، وشبه الباطل بالخبث الذي تخرجه النار من المعادن، كذلك يضرب الله الحق والباطل2، قال مجاهد: فذلك مثل الحق والهدى والعلم والتوحيد إذا دخل القلب طرد الخبث وهو الشكوك والشبهات والشهوات، فيطرح القلب هذه الشبه وتتلاشى كما يطرح السيل الزبد وكما تطرح النار الخبث، وكاستقرار الماء والمعدن الصافي الخالص، يستقر التوحيد والإيمان في القلب وجذوره بحيث ينفع صاحبه وينتفع به غيره3.   1 سورة الرعد آية 17. 2 انظر تفسير الطبري 3/135 وتفسير القرطبي 9/304. 3 انظر إعلام الموقعين 1/152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 4- أمثلة عجز آلهة المشركين وهي ثلاثة أمثلة: أ- عجزها عن سماع الدعاء وعن إجابته كذلك: يقول تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 1, وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} 2. هذان مثلان في عدم نفع دعاء الكفار لأصنامهم لأنها لا تسمع دعاءهم وهذا هو المثل الأول: حيث شبه الله تعالى المشركين بدعائهم لآلهتهم وطلبهم منها قضاء حاجاتهم كالراعي الذي يصوت بالغنم والبهائم وهي لا تعي ما يقول غير أنها تسمع صوته، يقول ابن القيم في هذا: "فتضمن هذا المثل ناعقًا أي مصوتًا بالغنم وغيرها ومنعوقًا به وهو الدواب، فقيل الناعق: العابد وهو الداعي للصنم، والصنم هو المنعوق به المدعو، وأن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه, وهذا قول طائفة: منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره3. وأما المثل الثاني: فقد شبه سبحانه وتعالى- المشركين في دعائهم لأصنامهم وأنها لا تستجيب لهم بالعطشان الذي جلس على شفير بئر وبسط كفيه إلى الماء وأخذ يدعوه إلى فيه من بعيد مشيرًا إليه بيده ليبل غلته، فلا هو نزل إلى البئر فشرب، ولا الماء يرتفع إليه لأنه جماد لا يحس بعطشه ولا يسمع دعاءه، وهكذا   1 سورة البقرة آية 171. 2 سورة الرعد آية 14. 3 إعلام الموقعين 1/183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الأوثان لا تحس بدعاء عابديها لها ولا تستجيب لهم؛ لأنها جمادات منحوتة على هيئة الأحياء، والعرب تضرب مثلًا لمن سعى فيما لا يدركه بالقابض على الماء1. ب- عجزها عن الخلق وعن استعادة ما يسلب منها: وضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا لبيان عجز آلهة المشركين عن خلق أضعف وأصغر المخلوقات، بل لو سلب هذا المخلوق الضعيف من الأصنام شيئًا ما استطاعت استرداده, يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 2. والمعنى بأن المشركين جعلوا لله شبهًا من الأصنام والأنداد التي عبدوها فاستمعوا لحال ما مثلوه وجعلوه شبهًا لله بعبادتهم إياه: إن كل ما تعبدون من دون الله لو اجتمعوا وتعاونوا ما خلقوا ذبابًا في صغره وقلته وضعفه، بل لو سلبهم هذا الذباب شيئًا مما تجعلونه عليها من العسل والطيب، فإنهم لا يستخلصوه منه, ضعف الطالب وهو آلهة المشركين، والمطلوب وهو الذباب. وفي هذا المثل غاية التحقير والمهانة لآلهتهم، وفيه التقريع الشديد كذلك لعابديها مع علمهم بضعفها ومهانتها ومع ذلك يجعلونها مثلًا لله، وهذا المثل من أبلغ الأمثال في تجهيل قريش واستركاك عقولهم, والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه حيث وصفوا بالإلهية -التي تتضمن القدرة على الخلق والإحاطة بالكائنات كلها- صورًا وتماثيل لو سلبها الذباب مما دهنت به من العسل والزعفران ما ردته عن نفسها ولا استنقذته منه3. والظاهر كما قال أبو حيان أن ضارب المثل هو الله تعالى، ضرب مثلًا لما يعبد من دونه فاستمعوا لحال هذا المثل4.   1 انظر تفسير الطبري 13/128 وتفسير القرطبي 9/300 والبحر المحيط 5/376 وتفسير ابن كثير 2/507والكشاف 2/354. 2- سورة الحج آية 73. 3، 4 انظر تفسير الطبري 17/202 والبحر المحيط 6/390 والكشاف 3/22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وقد ذكر ابن القيم كلامًا موسعًا حول هذا المثل نقتطف منه قوله: "حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل ويتدبره حق تدبره؛ فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره، والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه؟ ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئًا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه, فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها, فكيف يستحسن عاقلٌ عبادتها من دون الله"1 انتهى بلفظه. ج- مثل عجزها عن حماية غيرها: وضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا لبيان عجز آلهة المشركين عن حماية عابديها وقلة غنائها مشبهًا إياها ببيت العنكبوت, فيقول تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2. يبين تعالى ذكره أن الذين اتخذوا الآلهة والأوثان من دون الله، ويرجون نفعها عند حاجتهم إليها فهم في ضعف عقولهم وسوء اختيارهم لأنفسهم كمثل العنكبوت في ضعفها وقلة احتيالها لنفسها تتخذ بيتًا ليحميها فلم يغن عنها شيئًا عند حاجتها إليه، وهؤلاء المشركون إذا حل بهم سخط الله لن يغني عنهم أوليائهم شيئًا ولن يدفعوا عنهم بأس الله، فشبه الأصنام ببيت العنكبوت وشبه المشركين بالتجائهم للأصنام كالتجاء العنكبوت لبيتها الواهن الضعيف، فكما لا يغني العنكبوت بيتها هذا لا تغني أصنامهم عنهم من الله شيئًا, وبه قال ابن عباس وقتادة وابن زيد والضحاك3.   1 إعلام الموقعين 1/181. 2 سورة العنكبوت آية 41. 3 انظر تفسير الطبري 20/152 وتفسير القرطبي 13/345 والبحر المحيط 7/152 وتفسير ابن كثير 3/414 والكشاف 3/206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 يقول ابن القيم في هذا المثل: "فذكر سبحانه أنهم ضعفاء وأن الذين اتخذوهم أولياءهم أضعف منهم, فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتًا وهو أوهن البيوت وأضعفها، وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفًا كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً, كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 1 2.   1 سورة مريم 81- 82. 2 أعلام الموقعين 1/150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الأمثال المضروبة لوصف حالة المشرك والموحد ... 5- الأمثال المضروبة لوصف حالة المشرك وحالة الموحد وهي ثلاثة أمثال هي: أ- مثل المشرك بالساقط من السماء. ب- مثل المشرك بالحيران في الأرض. ج- مثل المشرك بالعبد المملوك لجماعة كثيرين. أ- ضرب الله سبحانه وتعالى مثل المشرك بالذي يهوي من السماء فتخطفته الطير أو هوت به الريح في مكان سحيق، قال تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 1. يحث الله سبحانه وتعالى عباده على إخلاص التوحيد له وإفراده بالطاعة والعبادة دون الأوثان؛ لأن من يشرك بالله شيئًا من دونه فمثله في   1 سورة الحج آية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 بعده عن الهدى وإصابة الحق وهلاكه وذهابه عن ربه مثل من خر من السماء فتخطفته الطير فهلك أو هوت به العواصف في مكان بعيد، فعن قتادة قال: فكأنما خر.. الآية، قال: هذا مثل ضربه الله لمن أشرك بالله في بعده من الهدى وهلاكه"1 أ. هـ. فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز في هذا التشبيه أمران: أحدهما: أن نجعله من التشبيه المركب، فيكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل أهلك نفسه هلاكًا لا يرجى معه نجاة، فحاله كحال من سقط من السماء فاختطفته الطير في الهواء ومزقته في حواصلها، أو عصفت به الريح فسقط في مكان عميق. وعلى هذا التشبيه المركب لا ننظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به. ثانيهما: أن نجعله من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به، فيكون قد شبه التوحيد في علوه وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه، فمنها هبط إلى الأرض وإليها يصعد، وشبه تارك التوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين لما يجده من التضييق والشدة، وشبه الشياطين التي تؤزه وتتقاسم قلبه بالطير التي تتقاسم لحمه، وشبه هواه الذي ألقاه في التهلكة بالريح التي هوت به في مكان سحيق2. ب- وضرب الله تعالى مثل المشرك في عبادته الأصنام كمثل رجل في الفلاة حائر وله أصحاب مسلمون موحدون يدعونه للهدى فلا يتبعهم، قال   1 انظر تفسير الطبري 17/155. 2 انظر أعلام الموقعين 1/180 وتفسير الكشاف 3/13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. يأمر سبحانه وتعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار أنخص بالعبادة الأصنام وندع عبادة الله فنرجع القهقرى لم نظفر بحاجتنا؟ فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي سيّرته الشياطين في الأرض حيران ضالًّا عن المحجة، ولهذا الحيران أصحاب مسلمون يدعونه لما هم عليه من الهدى الذي هم عليه مقيمون, والصواب الذي هم به متمسكون وهو ويعاندهم ويتبع الشياطين الداعية له لعبادة الأوثان. عن ابن عباس قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو..} الآية قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إلى الله, كمثل رجل ضل الطريق إذ ناداه منادٍ: يا فلان ابن فلان هلم إلى الطريق، وله أصحاب يدعونه: يا فلان هلم إلى الطريق، فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق2. وهذا المثل في غاية الحسن؛ وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه كالحجر حال نزوله من أعلى, فإنه لا ينزل إلا مع الاستدارة وذلك يوجب كمال التردد والحيرة؛ لأنه عند نزوله من أعلى إلى أسفل لا يعرف على أي شيء يسقط عليه، قال أبو حيان: "ولا تجد للخائف الحائر أكمل ولا أحسن من هذا المثل"3، وعن مجاهد قال: "حيران: هذا مثل ضربه الله للكافر, يقول: الكافر حيران يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب"4 أ. هـ.   1 سورة الأنعام آية 71. 2 تفسير الطبري 7/236 وانظر البحر المحيط 4/156. 3، 4 البحر المحيط 4/156 وانظر تفسير الطبري 7/237 وتفسير القرطبي 7/18 وتفسير ابن كثير 2/145 وتفسير الكشاف 2/28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ج- وضرب الله تعالى مثل المشرك بالعبد المملوك لجماعة كثيرين. والموحد بالعبد المملوك لرجل واحد، ثم بين سبحانه أنهما لا يستويان، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. هذا المثل يبين حالة المشرك بالله الذي يعبد آلهة شتى ويطيع الشياطين, وحالة المؤمن الذي لا يعبد إلا الله الواحد، فالمشرك كالعبد المملوك لجماعة مختلفين متنازعين سيئة أخلاقهم، وكل واحد منهم يستخدم هذا العبد لمصلحته، وأما الموحد فهو كالعبد المملوك لشخص واحد، فهو مطمئن ومستريح من تشاحن الخلطاء والشركاء عليه؛ لأن الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون وأخلاقهم سيئة، كلهم يتلقونه آخذين بطرفه لملكهم له ولأن لكل منهم حقًّا عليه، والموحد يملكه إله واحد، فلا يستوي هذا ومن جعل في عنقه حقوقًا لآلهة متعددة2. يقول ابن القيم: "ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاء} الآية, هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد، فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحنون، والرجل المتشاكس الضيق الخلق, فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين. والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه, مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ وهذا من أبلغ الأمثال، فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحقه صاحب الشركاء المتشاكسين, الحمد لله بل أكثرهم لا يعملون"3.   1 سورة الزمر آية 29. 2 انظر تفسير الطبري 23/213 وتفسير الكشاف 3/396. 3 أعلام الموقعين 1/187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 6- مثل قلب الموحد وقلب المشرك , وهما مثلان أ- ضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا لقلب المؤمن الموحد بالبلد الطيب، ومثلًا لقلب المشرك الكافر بالبلد الخبيث فقال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} 1. يبين سبحانه وتعالى في هذا المثل أن البلد الطيبة تربته، العذبة مشاربه، يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث طيبًا ثمره في حينه ووقته، والبلد الذي خبث فتربته رديئة ومشاربه مالحة يخرج نباته بعسر وشدة، فعن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي قالوا: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، لأن قلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به وثبت الإيمان فيه وفاض بالخير، وقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه ولم يثبت فيه الإيمان ففاض بالنكد والشر والفساد2. وقد سمى الله في كتابه المؤمن بالطيب والكافر بالخبيث فقال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 3، فالخبيث في هذه الآية هم الكفار والطيب هم المؤمنون, كذا قاله السدي4. وقد ورد مثل هذا المثل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري في كتاب   1 سورة الأعراف آية 58. 2 انظر تفسير الطبري 8/211 وتفسير القرطبي 7/231 وتفسير ابن كثير 2/222. 3 سورة الأنفال آية 37. 4 انظر تفسير الطبري 9/346 وتفسير القرطبي 7/401 وتفسير الكشاف 2/157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 العلم عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم, ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به". وهذا الحديث يبين مثل قلب المؤمن ومثل قلب الكافر بما يوافق المثل القرآني الذي بيناه. ب- وضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا آخر للقلب الذي يريد أن يهديه وللقلب الذي يريد أن يضله فقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 1. يبين تعالى أن من أراد الله هدايته للإيمان به وبرسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه ويوفقه لذلك، يفسح صدره للإيمان ويهونه ويسهله له بلطفه ومعرفته حتى يستنير الإيمان في قلبه فيضيء له, ويتلقاه صدره بالقبول. ومن أراد إضلاله عن سبيل الهدى يجعل صدره حرجًا بخذلانه وغلبة الكفر عليه, والحرج: أشد الضيق، وهو الذي لا ينفذ إليه شيء من شدة ضيقه، وهو هنا القلب الذي لا يدخله الإيمان وهو في ذلك كالحرجة: وهي الشجرة الملتف بها الأشجار الكثيفة فلا يدخل إليها شيء لشدة التفاف الأشجار بها, وقوله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} : الصعود هو الطلوع إلى أعلى, فشبه الله تعالى الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة   1 سورة الأنعام آية 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 من تكلف ما لا يطيقه كما أن صعود السماء لا يطاق، لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع على بني آدم ويبعد عن الاستطاعة وتضيق عنه المقدرة. قال ابن جريج: "حرجًا بلا إله إلا الله فلا يجد لها في صدره مساغًا"1, وقال الطبري: "وهذا مثل من الله تعالى ذكره ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه لأن ذلك ليس في وسعه"3.   1، 2 تفسير الطبري 8/29 وانظر تفسير القرطبي 7/81 وتفسير ابن كثير 2/175 وتفسير الكشاف 2/49. 3 سورة الأنعام آية 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 7- أمثلة وصف حواس الموحد وحواس المشرك ضرب الله سبحانه وتعالى مثل المؤمن الموحد بالحي والسميع والبصير وهو في النور والظل وبمن يمشي سويًّا، وضرب مثل الكافر بالميت والأصم والأبكم والأعمى وهو في الظلمات والحرور وبمن يمشي مكبًّا على وجهه وهو كالأنعام. وهذه في الحقيقة عدة أمثال, لكن لارتباطها ببعضها وصعوبة تمييزها عن بعضها, ولورودها في القرآن متداخلة، أحببت أن أتكلم عنها مجتمعة، وسأذكر أولًا كل الآيات التي وردت في هذا حسب ترتيب السور: يقول تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} 1، ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2، ويقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} 3، ويقول تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 4، ويقول تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا   1سورة الأنعام آية 36. 2 سورة الأنعام آية 39. 3 سورة الأنعام آية 50. 4 سورة الأنعام آية 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1، ويقول تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، ويقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} 3، ويقول تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 4، ويقول تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} 5، ويقول تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ, وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ, وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ, وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 6، ويقول تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} 7، ويقول تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 8، ويقول تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ, كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ, فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} 9. لقد شبه الله سبحانه وتعالى المؤمن بالحي وشبه الكافر بالميت من حيث أن الميت جسده خالٍ من الروح، فيظهر منه النتن والصديد والقيح وسائر أنواع العفونات وأصلح أحواله دفنه تحت التراب، والكافر كذلك يظهر منه الجهل بالله   1 سورة الأعراف آية 179. 2 سورة هود آية 24. 3 سورة الرعد آية 16. 4 سورة الرعد آية 19. 5 سورة النمل آية 80 والروم آية 52. 6 سورة فاطر آية 19 - 22. 7 سورة غافر آية 58 وفاطر آية 19. 8 سورة الملك آية 22. 9- سورة المدثر آية 49- 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 تعالى ومخالفاته لأمره وعدم قبوله لمعجزات الرسل لأنه ميت القلب، وهذا من باب التهكم والازدراء4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه روح الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة وهو من الأموات, قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} الآية فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان وجعل له نورًا يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات، وسمى الله رسالته روحًا والروح إذا عدم فقدت الحياة"5. وشبه الله سبحانه وتعالى الكافر بالأنعام التي لا تفقه ما يقال لها وهمها الأكل والشرب, وهم في شدة نفورهم من الإيمان وفرارهم عن سماع القرآن كالحمر التي رأت الأسد ففرت مسرعة في كل اتجاه، فبين سبحانه أن الكفار أضل من البهائم لأنها تبصر منافعها ومضارها وتتبع مالكها، قال عطاء: "الأنعام تعرف الله والكافر لا يعرفه"6 ولهذا جعل الأكثرين أضل سبيلًا من الأنعام لأنها تتبع قائدها وتهتدي للطريق, وأما الكفار فدعاهم الرسل للطريق والهداية فلم يتبعوهم، بل لم يفرقوا بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم، والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات أو الطريق وبين ما ينفعها منه, فتجتنب الأول وتؤثر الثاني, والله تعالى لم يعطِ البهائم قلوبًا تفقه بها ولا ألسنة تنطق بها، وأعطى ذلك للكفار ثم لم ينتفعوا به، فصاروا أضل من البهائم؛ لأنهم لم يهتدوا مع وجود الأدلة.   1 انظر البحر المحيط 6/118 و7/318 وتفسير ابن كثير 1/130 وتفسير القرطبي 14/339. 2 الفتاوى 19/94. 3 انظر تفسير الطبري 9/131 وتفسير القرطبي 7/324 وتفسير الكشاف 4/188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد أو الرماة ففرت منه، وهذا من بديع القياس والتمثيل, فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالحمر وهي لا تعقل شيئًا، فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور، وهذا غاية الذم لهؤلاء، فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضًا وحضه على النفور، فإن في الاستفعال من الطلب قدرًا زائدًا على الفعل المجرد، فكأنها تواصت وتوطأت عليه"1. وكذلك شبه الله تعالى المؤمن الموحد بالسميع والبصير، وشبه الكافر بالأصم والأبكم والأعمى وذلك لتعطيل حواسه وعدم الاستفادة منها. فعن ابن عباس ومجاهد: أن الأعمى الأصم الأبكم هو الكافر, وأن السميع البصير هو المؤمن لعدم إبصار الكافر للحق والهدى واستماعه له، وإبصار المؤمن ذلك واستماعه له، قال قتادة: "هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن فأما الكافر فصم عن الحق فلا يسمعه وعمي عنه فلا يبصره, وأما المؤمن فسمع الحق وانتفع به وأبصره"2. قال ابن القيم رحمه الله: "وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه فشبهه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء وسمعه أصم عن سماع الأصوات, والفريق الآخر بصير القلب سميعه كبصير العين وسميع الأذن, فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} 3.   1 أعلام الموقعين 1/164 وانظر كذلك ص150. 2 انظر تفسير الطبري 7/186 وص 199 و13/132 و21/55 و22/128، وانظر البحر المحيط 4/134 و5/379 وانظر تفسير القرطبي 9/303 و14/339 وتفسير ابن كثير 3/552 والكشاف 2/355 و3/306. 3 أعلام الموقعين 1/150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وشبه الله سبحانه وتعالى المؤمن بمن يمشي سويًّا معتدلًا على طريق مضاء مستقيم، وشبه الكافر بمن يمشي مكبًّا على وجهه وفي ظلمات كثيفة، وقد ورد عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي أن هذا مثل للمؤمن والكافر فهو في الضلالة والظلام متحير لا يجد مخرجًا1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وضرب الله مثل المؤمن بالحي والبصير والسميع, والنور والظل, وضرب مثل الكافر بالميت والأعمى والأصم والظلمة والحرور"2.   1 انظر تفسير الطبري 7/190 و8/22 و29/9 وتفسير القرطبي 6/422 و7/78 و18/219 والكشاف 2/48 و4/139 والبحر المحيط 4/ 122 و4/ 214 وتفسير ابن كثير 2/ 131 و4/ 399. 2 الفتاوى 14/54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 8- مثلان لبيان فساد أعمال المشركين ضرب الله سبحانه وتعالى مثلين لأعمال المشركين ومثلًا لما ينفقونه من الأموال في وجوه البر. أ- أما مثلا الأعمال فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ, أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.   1 سورة النور آية 39 - 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 يبين الله سبحانه وتعالى أن مثل أعمال الذين كفروا مثل سراب بأرض منبسطة يرى وسط النهار وحين اشتداد الحر، فيظنه العطشان ماء، فإذا أتاه ملتمسًا الشرب لإزالة عطشه لم يجد السراب شيئًا، فكذلك الكافرون في غرور من أعمالهم التي عملوها وهم يحسبون أنها تنجيهم عند الله من الهلاك كما حسب العطشان السراب ماء، فإذا صار الكافر إلى الله واحتاج لعمله لم ينفعه وجازاه الله به الجزاء الذي يستحقه. وقوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّي} الآية مثلٌ آخر لأعمال الكفار، إلا أن المثل الأول في انخداع الكافر بعمله في الدنيا وغروره به، وهذا المثل لأعمال الكفار في أنها عملت على خطأ وفساد وضلال وحيرة وعلى غير هدى, فهي في ذلك كمثل ظلمات في بحر عميق جدًّا كثير الماء، وفوق هذا البحر العميق موج عال مخيف, وفوق هذا الموج موج آخر, وفوقهما سحاب متراكم, فاجتمعت عدة ظلمات, وهكذا عمل الكافر ظلمات في ظلمات. قال ابن عباس وابن زيد في مثل السراب: "هذا مثل ضربه الله لأعمال الذين كفروا"1، وقال أبيّ بن كعب وقتادة في مثل الظلمات: "هذا مثل آخر ضربه الله للكافر يعمل في ضلال وحيرة"2، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومثّل الله أعمال الكافرين بالظلمة"3. لكن ابن كثير عد المثلين للكفار الدعاة وغير الدعاة، حيث جعل مثل السراب لعمل الكافر الداعية لمذهبه وكفره, فيحسب أنه على شيء من الأعمال والاعتقادات وهو في الواقع ليس على شيء4.   1 تفسير الطبري 18/148 وتفسير القرطبي 12/282. 2 انظر تفسير الطبري 18/150 والبحر المحيط 6/461 والكشاف 3/69. 3 الفتاوى 16/577. 4 انظر تفسير ابن كثير 3/296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وقال القرطبي: "ضرب الله مثلًا آخر للكفار أي أعمالهم كسراب بقيعة أو كظلمات. قال الزجاج: إن شئت مثل بالسراب وإن شئت مثل بالظلمات1"، وبهذا نرى القرطبي والزجاج يجعلان المثلين مترادفين. وقد ذكر ابن القيم في أعلام الموقعين كلامًا جيدًا حول هذين المثلين رأيت نقله لفائدته حيث يقول: "ذكر سبحانه للكافرين مثلين: مثلًا بالسراب ومثلًا بالظلمات المتراكمة؛ وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان: أحدهما من يظن أنه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حالة أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم, فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء, وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له، وهكذا الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره يحسبها العامل ماء ولا حقيقة له، وهكذا الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك، وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة -وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والعالم- فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له, وذلك مطابقة لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى، وتأمل ما تحت قوله: "يحسبه الظمآن" والظمآن الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجد شيئًا بل خانه أحوج ما كان إليه، فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول، ولغير الله, جعلت كالسراب فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئًا ووجدوا الله سبحانه ثَمَّ فجازاهم بأعمالهم ووفّاهم حسابهم ... النوع الثاني: أصحاب مثل "الظلمات المتراكمة"، وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطبع وظلمة الجهل حيث لم يعملوا فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغي والهوى، فحالهم كحال من كان في بحر لجيّ لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موجٌ ومن   1 تفسير القرطبي 12/283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب، وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان"1 انتهى باختصار. ب- وضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا لبطلان أعمال الكفار وحبوطها بالرماد الذين عصفت به الريح الشديدة فلم تبق منه شيئًا فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} 2. هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار التي كانوا يعملونها في الدنيا من المكارم وصلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسرى وعقر الإبل وإغاثة الملهوف والإجارة وغيرها من أعمال البر يزعمون أنهم يريدون بها وجه الله، فمثلها كمثل رماد هبت عليه ريح عاصفة فنسفته وذهبت به، فلا يجد الكافرون من أعمالهم الخيرة شيئًا ينفعهم عند الله يوم القيامة، لأنهم كانوا يشركون فيها معه الآلهة والأوثان، فهي على غير الهدى, بل هي على جور وضلال3. والمثل هنا إنما هو للأعمال، ولكن الله تعالى قال: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} حيث قدم الاسم على الخبر؛ لأن العرب تقدم الأسماء لأنها أعرف ثم تأتي بالخبر الذي تخبر عنه مع صاحبه، والمعنى: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد4. قال ابن كثير: "هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا معه   1 أعلام الموقعين 1/156 - 157. 2 سورة إبراهيم آية 18. 3 انظر تفسير الطبري 13/196 وتفسير القرطبي 9/553 والكشاف 2/372 والبحر المحيط 5/414. 4 انظر تفسير الطبري 3/196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 غيره وكذبوا رسله وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا إليها"1. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف، فشبه سبحانه أعمالهم -في حبوطها وذهابها باطلًا كالهباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان وكونها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره- برماد طيرته الريح العاصف فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه، فلذلك قال: {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْء} لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء، فلا يرون له أثرًا من ثواب ولا فائدة نافعة، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه موافقًا لشرعه.. وفي تشبيهه بالرماد سر بديع، وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا، فكانت الأعمال التي لغير الله وعلى غير مراده طعمة للنار وبها تسعر النار على أصحابها، وينشئ الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارًا وعذابًا كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه -التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم- نعيمًا وروحًا، فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادًا, فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار"2. ج- وضرب الله سبحانه وتعالى مثلًا لنفقة الكفار وعدم قبولها بالزرع الذي أصابته ريح شديدة تحمل نارًا ملتهبة فلم تُبق منه شيئًا، قال تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 3.   1 تفسير ابن كثير 2/527. 2 أعلام الموقعين 1/170. 3 سورة آل عمران آية 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 شبه سبحانه وتعالى ما ينفق الكافر ويتصدق به على وجه القربة إلى الله وهو لوحدانيته جاحد ولرسوله مكذب, وأن ذلك غير نافعه, وأنه مضمحل عند حاجته إليه, ذاهب بعدما كان يرجو نفعه، كشبه ريح فيها برد شديد وتحمل النار فأصابت زرع قوم أمَّلُوا إدراكه ورجَوْا ريعه لكنهم كفرة، فأهلكت الريح التي فيها الصر الزرع ولم ينتفع بشيء منه، وكذلك يفعل الله بنفقة الكافر وصدقته ويبطل ثوابها، والمراد بالمثل صنيع الله بالنفقة. قال الطبري: "فتأويل الكلام مثل إبطال أجر ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر، وإنما جاز ترك ذكر إبطال الله أجر ذلك لدلالة آخر الكلام عليه وهو قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} ولمعرفة السامع ذلك معناه"1. وقد اعتبر الراغب أن هذا المثل مضروب لأعمال الكفار كلها ليس للنفقة فحسب، وإنما خص النفقة بالذكر لكونها أظهر وأكثر2. قال ابن القيم رحمه الله: "هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق في غير طاعته ومرضاته، فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر ولا يبتغون به وجه الله، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدًّا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته"3 أ. هـ.   1 تفسير الطبري 4/58 وانظر تفسير القرطبي 4/178 وتفسير ابن كثير 1/397. 2 انظر البحر المحيط 3/37. 3 أعلام الموقعين 1/186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الفصل الثالث: تقرير القرآن للتوحيد بالقصص القرآني تمهيد لقد أكثر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من القصص التي تتحدث عن الأنبياء وما جرى بينهم وبين أقوامهم، وقصص أخرى تتحدث عن غير الأنبياء, وكلها فيها عبر ودلائل على وحدانية الله، وأن الله يؤيد عباده الموحدين ويدمر المشركين به. والقصص القرآني له أهداف كثيرة من الصعب حصرها إلا أني أذكر منها على سبيل المثال: 1- إثبات الوحي والرسالة. 2- إثبات وحدة الدين من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. 3- تثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم. 4- إثبات البعث. 5- إثبات وحدانية الله تعالى. 6- العظة والاعتبار بمصير المكذبين. 7- عاقبة الصبر والجزع والشكر والبطر وغيرها. ونلاحظ أن كثيرًا من القصص وردت أكثر من مرة، وقد استغل أعداء الله الذين تأثروا بالزنادقة قديمًا وبالملحدين والمستشرقين حديثًا -استغلوا هذا التكرار للطعن في قصص القرآن ليتوصلوا إلى أن القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم وليس هو من وحي الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وهذا الطعن قد يكون منشؤه قياسهم قصص القرآن بالقصص الأدبية التي يؤلفها البشر، ولكنهم لو نظروا إلى العظات والعبر التي في القصة الواحدة والتي تختلف من موضع لآخر، وأنه قد يذكر في موضع غير ما ذكر في المواضع الأخرى من نفس القصة، لعرفوا السر في هذا التكرار وأن فيه فوائد ولما كان مطعنًا في رأيهم. وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا المطعن بما فيه الكفاية والإقناع لمن أراد الحق وتجرد عن الهوى؛ حيث يقول في كلامه عن قصة موسى: "وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعًا غير النوع الآخر كما يسمي الله رسوله وكتابه بأسماء متعددة كل اسم منها يدل على معنى لم يدل عليه الاسم الآخر، وليس في هذا تكرار بل فيه تنويع الآيات ... وليس في القرآن تكرار أصلًا، وأما ما ذكره بعض الناس من أنه كرر القصص مع إمكان الاكتفاء بالواحدة, وكان الحكمة فيه أن وفود العرب كانت ترد على رسول صلى الله عليه وسلم فيقرؤهم المسلمون شيئًا من القرآن فيكون ذلك كافيًا، وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة, فلو لم تكن الآيات والقصص متناثرة متكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى قوم وقصة نوح إلى قوم، فأراد الله أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض، وأن يلقيها إلى كل سمع، فهذا كلام من لم يقدر القرآن قدره"1 انتهى باختصار. وإنني في هذا الفصل لن أتكلم عن قصص القرآن من جهة السرد التاريخي لما جرى لكل رسول مع قومه، كما أنني لن أتكلم عن كل أهداف القصص القرآني، لأن ذلك يطول بي البحث حيث أن قصة واحدة من قصص الرسل، وهدفًا واحدًا من أهداف القصص القرآني كفيل بأن يستغرق مئات الصفحات وليس   1 الفتاوى 19/166 - 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 هذا هو موضوع الفصل، ولكني أقتصر على الإشارة بما يحصل به المقصود من عنوان الفصل, وكيف ورد تقرير التوحيد على لسان الرسل وإبطال الشرك, وما آل إليه أمر من كذبهم؛ لأن التوحيد هو رأس الأمر بل هو الغاية العظمى من هذه القصص. وقد اقتصرت في هذا الفصل على ذكر اثنتي عشرة قصة من قصص القرآن وفي مقدمتها قصص أولي العزم من الرسل وتركت بقية القصص اكتفاءً بما ذكر وخوف إطالة الموضوع. وقد جاءت هذه القصص على ثلاثة أقسام: القسم الأول: قصص أربعة من أولي العزم من الرسل. القسم الثاني: قصص رسل من غير أولى العزم. القسم الثالث: قصتان لغير الرسل من الموحدين. وفيما يلي التفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 القسم الأول: قصص أربعة من أولي العزم من الرسل 1- قصة نوح عليه السلام مع قومه 1: أرسل الله نوحًا عليه السلام إلى أهل الأرض بعدما عم الشرك وعبادة الأصنام التي كانت في الأصل صورًا للموتى والصالحين، فأخذ يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وترك عبادة الأصنام، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 2. وقد نبه نوح عليه السلام قومه إلى الآيات الكونية والنعم الإلهية داعيًا إياهم عن طريق التفكير في السماوات والأرض والأنهار والشمس والقمر وما في ذلك من النعم، وعن طريق التفكير في خلقهم أنفسهم، ودلالة ذلك على وحدانية الله تعالى فقال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً, يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً, وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً, مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً, وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً, أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً, وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً, وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً, ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً, وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً, لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} 3.   1 انظر السور التالية: آل عمران 33، النساء 163، الأنعام 84، الأعراف 59-62، يونس 71-83، هود 25-49، الأنبياء 76- 77،المؤمنون 23-31، الفرقان 37، الشعراء 105- 122، العنكبوت 14-15، الصافات 75- 82، غافر 5-6 الذاريات 46، النجم 52، القمر 9-16، الحاقة 11-12، نوح 1-28 والقصة مفصلة في تفسير الطبري 12/52. 2 سورة الأعراف آية 59. 3 سورة نوح آية 10-20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وقد كرر نوح عليه السلام دعوته لقومه إلى التوحيد ونبذ الشرك في أحوال مختلفة، فدعاهم بالليل والنهار، ودعاهم بالسر والعلن، ودعاهم أفرادًا وجماعات ولم يزدهم كل ذلك إلا عنادًا لدعوى التوحيد وثباتًا على الشرك وتواصيا به: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 1. ثم يتحداهم نوح هم وأصنامهم لأنه يعلم عجزها وأنها لا تملك أن تدفع عن نفسها شيئًا، بينهما هو متوكل على الله القوي العزيز فيقول لهم بثبات الموحد لله: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} 2. ويبقى نوح عليه السلام ثابتًا على دعوة التوحيد صابرًا على أذى قومه له إلى أن أمره الله تعالى بصنع السفينة، ويمر عليه قومه المشركون وهو يصنعها فيسخرون منه فيها، غير القلة المؤمنة الموحدين لله، ولم يدخل معه في السفينة ابنه وزوجته لأنهما بقيا على شركهما، وفي هذا بيان واضح أن صلات القرابة من بنوة وأبوة وزوجية وغيرها لا تنفع المشرك عند الله إن لم ينقذ نفسه بكلمة التوحيد. ويأمر الله نوحًا عليه السلام أن يعلن التوحيد داخل السفينة لأنها سفينة الموحدين الناجين بتوحيدهم لله وهم يومئذ قليل، والمشركون وهم كثير لم تنفعهم كثرتهم عند حلول الغرق والعذاب: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} 3.   1 سورة نوح آية 23. 2 سورة يونس آية 71. 3 سورة المؤمنون آية 28- 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وهكذا يتم إغراق المشركين وأصنامهم وتطهير الأرض من رجسهم، فلتكن قصة نوح مع قومه وإنجاء الله الموحدين القلة وإغراق الكثرة المشركة عبرة لكم يا كفار قريش ومن دان بدينكم. يقول الطبري: "إن فيما فعلنا بقوم نوح من أهلاكنا لهم إذ كذبوا رسلنا وجحدوا وحدانيتنا وعبدوا الآلهة والأصنام لعبرًا لقومك من مشركي قريش وعظات وحججًا لنا يستدلون بها على سنتنا في أمثالهم فينزجروا عن كفرهم ويرتدوا عن تكذيبك حذرًا أن يصيبهم مثل الذي أصابهم من العذاب وكنا مختبريهم بتذكيرنا إياهم بآياتنا لننظر ما هم عاملون قبل نزول عقوبتنا بهم"1.   1 تفسير الطبري 18/18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 2- قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه 1 أرسل الله إبراهيم عليه السلام إلى أهل بابل بالعراق وكانوا صائبة يعبدون الكواكب، فبين لهم إبراهيم أن هذه الكواكب لا تصلح للإلهية وأن لها خالقًا ومدبرًا دبر طلوعها وأفولها ومسيرها وسائر أحوالها فقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ, إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. وبين لهم إبراهيم عليه السلام كذلك أن هذه الأصنام التي يقيمونها في معابدهم ليست آلهة, مستدلًا بعجزها عن نفع عابديها لأن الإله لا يكون عاجزًا عن جلب الخير ودفع الشر: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ, أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ, قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 3. وقد عرفهم إبراهيم عليه السلام بالإله الحق الذي يستحق العبادة ويملك الضر والنفع معلنًا عداوته لأصنامهم وبراءته التامة منهم ومن أصنامهم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ, أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ, فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ, الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ, وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ, وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ, وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ, وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} 4.   1 انظر السور التالية: البقرة 258-260، الأنعام 74 - 83، التوبة 144، مريم 41- 48، الأنبياء 52-73، الشعراء 69-102، العنكبوت 16-24، الزخرف 26-28، الصافات 97-99. 2 سورة الأنعام آية 78-79. 3 سورة الشعراء 72-74. 4 سورة الشعراء 75-82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ولكن قومه لم يزيدوا مع هذا البيان إلا عنادًا وتكبرًا وتمسكًا بأصنامهم، وأحضره الملك النمرود حاكم بابل وجادله زاعمًا أنه إلهه1، ولكن إبراهيم عليه السلام غلبه بالحجة الواضحة: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 2، هكذا بهت الذي كفر لأن الإله الحق لا بد أن يكون متصرفًا في ملكه كما يشاء والكون بما فيه سائر وفق إرادته. وأراد إبراهيم عليه السلام إقامة الحجة على قومه كلهم، فبينما هم مجتمعون في عيدهم بعيدًا عن بيت الأصنام ذهب إبراهيم يحمل الفأس فكسر الأصنام وأبقى الصنم الكبير، وهذا فيه وجهان للدلالة على ضعف هذه الآلهة: أولهما: أن هذه الأصنام إن كانت آلهة فلمَ لم تدافع عن نفسها عند تكسيرها؟ والإله الحق حي لا يموت وهذه قد اندثرت وصارت حطامًا. ثانيها: أنها إذ لم تدافع عن نفسها فلماذا لا تجيبكم عمن كسرها؟ فإن أجابتكم عمن كسرها فهي بحاجة إلى الحماية؛ ولذا فهي ليست آلهة لأن الإله الحق غني عن حماية غيره له. وإن لم تجبكم -وهذا هو الواقع- فهي صماء بكماء جماد لا حياة فيها فليست بآلهة، يوضح هذا قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ, قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ, قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ, قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ, قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ, قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ, فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ, ثُمَّ   1 تفسير ابن كثير 1/313. 2 سورة البقرة آية 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ, قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ, أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 1. وهكذا بهت قوم إبراهيم لإقامة الحجة عليهم كما بهت ملكهم من قبل، لقد بهتوا لصناعة الحجة بحيث نكسوا على رءوسهم خجلًا لعلمهم أن أصنامهم لا تنطق وأولى بهم أن يؤمنوا بالله الواحد، والاستكبار عن الحق جعلهم لا يرضخون ولا يستجيبون لدعوة التوحيد، بل زادوا في طغيانهم فأوقدوا نارًا عظيمة ليحرقوا بها داعية التوحيد إبراهيم عليه السلام، ولكنه لم يخف من النار كما لم يخف أصنامهم من قبل، ولعلمه أن التصرف المطلق في هذا الكون وعبودية كل شيء فيه هي لله الواحد القهار، والنار مخلوقة من مخلوقات الله وهي في ملكه وتحت تصرفه ومشيئته ولا تحرق أحدًا إلا بأمر الله: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ, قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ, وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ} 2. وهكذا نجى الله رسوله من كيد المشركين، فلتعلموا يا أيها المشركون أن الله مع أوليائه الموحدين، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم على دين أبيه وأبيكم إبراهيم حنيفًا مسلمًا ولم يك من المشركين، وكما نجى الله إبراهيم فهو ينجي محمدًا منكم ومن كيدكم, وأولى بكم إن كنتم تزعمون أنكم من نسل إبراهيم أن تكونوا على دينه وملته الحنيفية السمحاء وتنبذوا ما أنتم عليه من الشرك بالله واتخاذ الأنداد والأوثان.   1 سورة الأنبياء آية 58 - 67. 2 سورة الأنبياء آية 68 - 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 3- قصة موسى عليه السلام 1 وهي قسمان: أ- قصته مع فرعون. ب- قصته مع قومه. أ- قصة موسى مع فرعون: أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه فدعاهم إلى توحيد الله وقد أنكر فرعون هذه الدعوة قائلًا في بداية الأمر: وما رب العالمين؟ فأجابه موسى بأنه الرب الخالق لكل ما في الوجود, قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ, قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ, قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ, قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ, قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ, قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ, قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 2. ويستدل لهم موسى على وحدانية الله بالنعم التي يشاهدونها من أرض ممهدة وطرق مذللة وماء ونبات وأن الله وحده خالق ذلك كله, فحق عليهم عبادته: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى, قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى, قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى, قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى, الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى, كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} 3.   1 انظر السور التالية: البقرة 40-74، الأعراف 100-156، يونس 75-92، هود 96-101، طه 9-101، الإسراء 101-104،القصص 3-40، الشعراء 10-68، النمل 7-14، المؤمنون 45-48، إبراهيم 5-8، الصافات 114- 122، الذاريات 38-40، القمر 41-42، الحاقة 9-10، المزمل 15-16، الزخرف 46-56، غافر 23-46، الدخان 17-33. 2 سورة الشعراء آية 23-29. 3 سورة طه 49-54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وكل هذا التعريف بالإله الحق لا يزيد فرعون وملأه إلا استكبارًا في الأرض فاتهموا موسى بالسحر والجنون, وجمع له السحرة فغلبهم فآمنوا، فقتلهم فرعون فأمسوا شهداء في سبيل عقيدة التوحيد قائلين لفرعون: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1. وكان من تمادي فرعون وطغيانه وتكبره على دعوة التوحيد أن قال لهامان وزيره ما حكاه الله تعالى عنه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِين، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} 2. وقد أرسل الله على آل فرعون آيات شاهدات بوحدانية الله ومؤيدات لرسوله موسى عليه السلام وهي الطوفان والجراد القمل والضفادع والدم, وعند نزول كل بلاء بهم كانوا يطلبون من موسى أن يدعو ربه لكشف ذلك عنهم حتى يؤمنوا ولم يذهبوا لفرعون لكشف ذلك لعلمهم أنه عاجز عن ذلك: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} 3. لكنهم بعد كشف العذاب عنهم في كل مرة يرجعون لكفرهم بالله مع تيقنهم أن موسى على الحق وأن هذه الآيات شاهدة بصدقه, كما قال تعالى عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} 4، وقال تعالى عن قول موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} 5.   1 سورة طه آية 72 - 73. 2 سورة القصص آية 38 - 39. 3 سورة الأعراف 134. 4 سورة النمل آية 14. 5 سورة الإسراء آية 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 والآن لم يبق أمام فرعون إلا التخلص من داعية التوحيد موسى عليه السلام وأقرب طريق لذلك قتل موسى، فسمع بذلك رجل مؤمن من آل فرعون فدافع عن موسى ودعوته مبينًا لهم سوء أمرهم وتدبيرهم وحذرهم من بأس الله أن يحل بهم وذكرهم بمصير من قبلهم، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ, يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ, وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ, مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ, وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ, يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 1. ولكن قوم فرعون ضاقوا ذرعًا بدعوة هذا الرجل الذي تلطف معهم غاية التلطف وهموا به ليقتلوه مع موسى فنجاه الله منهم: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} 2. ولما بلغ التجبر عند فرعون وقومه نهايته, أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج بقومه ليلًا، ولما علم فرعون بتحركهم تبعهم بجيشه الكثيف ومشى بنو إسرائيل إلى البحر فجعله الله لهم طريقًا يبسًا لتوحيدهم له، ومشى فيه فرعون وجنوده فأغرقوا بكفرهم، ويؤمن فرعون في تلك اللحظة ويرجع إلى التوحيد الذي رفضه من قبل ولكن الله لم يقبل منه ذلك لفوات الأوان، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ, أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ   1 سورة غافر 28-33. 2 سورة غافر 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الْمُفْسِدِينَ, فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} 1. وهكذا يكون إنجاء الله للموحدين المستضعفين وإهلاكه لأعداء التوحيد من المشركين, فلتحذروا أيها الملأ من قريش أن يصيبكم ما أصاب هؤلاء من الدمار والعذاب بمعارضتكم لرسول التوحيد محمد صلى الله عليه وسلم. ب- قصة موسى مع قومه قصة موسى مع قومة فيها إشارات كثيرة إلى الوحدانية نذكر منها ما يلي: لقد نجى الله موسى وقومه وكان البحر لهم طريقًا يبسًا بتوحيدهم، وكان لقوم فرعون مقبرة بكفرهم، ولكن بني إسرائيل ما لبثوا أن خانوا عقيدة التوحيد فور خروجهم من البحر حيث مروا على قوم يعبدون الأصنام فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا كما لهؤلاء القوم، ولكن هل يطلب مثل هذا الطلب إلا الجاهلون السفهاء، لقد نسوا أن نجاتهم من طغيان فرعون كانت بالتوحيد، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ, إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. ولكنهم ما لبثوا بعد أن ذهب موسى لتكليم ربه أن جمعوا حُليَّهم فصنع السامري منها عجلًا جسدًا له خوار فعبدوه من دون الله زاعمين أن هذا إلههم وإله موسى. هذه هي طبيعة بني إسرائيل من نقض العهد والميثاق، ولقد خرجوا من مصر باسم التوحيد ومشوا في البحر ناجين من فرعون باسم التوحيد، وبعد ذلك يطلبون من نبيهم صنمًا يعبدونه، فسفه أحلامهم ووصفهم بالجهل وبين لهم حقيقة التوحيد،   1 سورة يونس 90- 92. 2 سورة الأعراف آية 138 - 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ومع كل هذا لما ذهب موسى للميعاد غدروا به وبعقيدة التوحيد, فعبدوا العجل, قال تعالى عنهم: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ, فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} 1. ولكن يا لها من غفلة وضلالة، وهل يكون إلهًا من لا يضر ولا ينفع؟ هل يكون إلهًا من لا يتكلم ولا يملك الهداية لأحد، قال تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً, وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي, قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} 2، وقال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا} 3. ولما رجع موسى غضب لدين الله وعقيدة التوحيد، فأخذ العجل وحرقه, ثم رماه في البحر, وعرفهم بالله الواحد الذي يستحق العبادة والشكر على ما أنعم به عليهم من نعمة الهداية ونعمة النجاة من فرعون، قال تعالى عن قول موسى للسامري: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً, إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} 4. وهكذا فلتعلموا أيها المشركون أن هؤلاء اليهود الذين يزينون لكم الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة التوحيد الخالص -هذا هو موقفهم من عقيدة التوحيد وكان أنبياؤهم على قيد الحياة، فكيف وقد انقطع مجيء الرسل من بينهم وغيروا كتاب ربهم، فليس كثيرًا عليهم أن يقولوا لكم ما قاله تعالى عنهم: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 5، وليس صعبًا عليهم كذلك أن يطعنوا   1 سورة طه آية 87-88. 2 سورة طه آية 89 - 91. 3 سورة الأعراف آية 148. 4 سورة طه آية 97 - 98. 5 سورة النساء آية 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 بمحمد صلى الله عليه وسلم ودعوة التوحيد, وأن يزينوا لكم كفركم وشرككم بالله حسدًا من عند أنفسهم. وقد هدد الله المشركين بعد سرد قصة بني إسرائيل مع موسى في سورة طه فقال بعد نهاية القصة مباشرة: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً, مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً, خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً, يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} 1.   1 سورة طه آية 99 - 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 قصى عيسى بن مريم عليهما السلام ... 4- قصة عيسى بن مريم عليهما السلام1. ذكرت قصة عيسى بن مريم عليهما السلام في القرآن عدة مرات, وكانت السمة البارزة فيها نفي ألوهية عيسى ونفي بنوته لله تعالى وإظهار بشريته وعبوديته لله. ففي سورة آل عمران بعد ذكره تعالى لنذر امرأة عمران وهي كبيرة في السن وولادتها مريم، ثم ذكره تعالى لقصة كفالة زكريا عليه السلام لمريم وما حدث من إكرام الله لها في المحراب ونشأتها النشأة الطيبة برعاية الله تعالى ثم تبشير الملائكة لزكريا بالغلام على كبر سنه وسن زوجته، كل هذه القصص المتلاحقة في سورة آل عمران سيقت لبيان قدرة الله تعالى على كل شيء، وأنه قد يخلق إنسانًا من غير أب ولا أم كما خلق آدم، وقد يخلق إنسانًا من أب وأم كما هو المشاهد في كل بني البشر، وقد يخلق إنسانًا من أبوين كبيرين في السن لا يولد لمثلهما عادة كما حصل لعمران وزوجته وزكريا وزوجته ومن قبلهما إبراهيم وزوجته، وقد يخلق الله إنسانًا من أم بلا أب كما خلق عيسى عليه السلام، وهذه القصص كلها توطئة للحديث عن عيسى وتقرير بشريته وتناسله من البشر وأن أمه من البشر وهو من البشر كذلك, وهو عبد الله ورسوله وليس بإله ولا ابن الإله. وبعد سرد هذه القصص كلها يأتي تبشير الملائكة لمريم بعيسى وأنه يكلم الناس في المهد وكهلًا، وأنه وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولًا وشيوخًا، إلا أن ذلك حجة واضحة على أن عيسى كان في معاناة أشياء مولودًا ثم كهلًا ثم شيخًا، ومن كان هذا شأنه متقلبًا في هذه الأطوار الجسمانية متغيرًا بمرور   1 انظر السور التالية: آل عمران 42-60، النساء 156-159 و171-172، المائدة آيات 17 و46 و72 و109-120، التوبة 30-31، مريم 16-37، المؤمنون 50، الزخرف 57-65، الحديد 26-27، الصف 6 و14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الأزمنة عليه والأيام من صغر إلى كبر فليس بإله؛ لأن الإله منزه عن هذا الوصف1 قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ, وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} 2، وقد نصت الآية على أنه ابن مريم لينتفي الشك في أنه بشر وليس بإله ولا ابن الإله. وتستغرب مريم أن يكون لها ولد وهي ليست بذات زوج, فيجيبها الملك بأن الله يخلق ما يشاء لأنه على كل شيء قدير: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3. وفي كل أمر كان عيسى عليه السلام يسند تدبيره إلى الله، فالطير الذي ينفخ فيه عيسى فيصير طيرًا بإذن الله, وإبرائه المرضى بإذن الله، وإحيائه الموتى بإذن الله, فكيف يكون إلهًا من ينفي عن نفسه الألوهية وهو رسول من قبل الإله الحق؟.. وفي سياق القصة في سورة آل عمران تصريح هام من عيسى بعبوديته لله ربه ورب الناس كلهم: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} 5. فلم تكتفِ الآية هنا بنقل نص عيسى على عبوديته لله, بل زادت بيانًا أن تأليه عيسى والتقرب إليه بأي نوع من أنواع العبادة شرك يحرّم على صاحبه دخول الجنة   1 انظر تفسير الطبري 3/269 وتفسير ابن كثير 1/364. 2 سورة آل عمران 45-46. 3 سورة آل عمران آية 47. 4 سورة آل عمران آية 51، وسورة مريم آية 36. 5 سورة المائدة آية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ومسكنه في النار، وأما الآية الأخرى في السورة فتنفي ألوهية عيسى وتقرر بشريته وبشرية أمه كذلك, بأنهما كانا يأكلان الطعام والإله لا يأكل الطعام؛ لأنه مستغنٍ عنه وكفى بالأكل والشرب وما يتبعه من بول وغائط دليلًا أكيدًا على البشرية ونفي الألوهية عمن يعتريه ذلك, قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. وفي سياق قصة آل عمران إشارة لقدرة الله على خلق عيسى من غير أب، وأنه خلق قبله آدم من غير أب ولا أم، وفيه تأكيد آخر لبشريته ونفي ألوهيته: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ, الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} 2، ومن قال بعيسى غير هذا القول فهو كاذب يستحق لعنة الله لأنه ما من إله إلا الله والله عزيز حكيم قادر على الانتقام ممن يؤله عيسى ويدعى نبوته لله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. وأما القصة في سورة المائدة فتبدأ بتذكير عيسى بنعمة الله عليه وعلى والدته، وتكليمه الناس في أطواره المختلفة، وتعليمه التوراة والإنجيل والمعجزات الأخرى الحاصلة بإذن الله وحمايته من كيد بني إسرائيل، هذه النعم كلها تكون من منعم وهو الله ومنعَم عليه وهو عيسى, ويجب على المنعم عليه شكر المنعم وعبادته, ومن كان منعَمًا عليه فليس بإله، ومن احتاج لحماية غيره له فليس بإله، إذ الإله مستغنٍ عن غيره, فحماية الله لعيسى تبين أنه ليس بإله وأنه بشر، وفي القصة كذلك شهادة الحواريين بعيسى -وقولهم حق يؤخذ به لإيمانهم بالله وقربهم لعيسى فقولهم له: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} 4، فيه   1 سورة المائدة آية 75. 2 سورة آل عمران آية 59-60. 3 سورة آل عمران آية 62. 4 سورة المائدة آية 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 إشارة كذلك لبشرية عيسى ونفي ألوهيته من وجهين: أولهما: قولهم يا عيسى بن مريم فنسبوه لأمه ولم ينسبوه إلى الله. ثانيهما: قولهم هل يستطيع ربك، ولو كان إلها لقالوا له هل تستطيع، وقولهم ربك فيه دلالة على أنه مربوب وعبد للرب. ثم قول عيسى في طلبه المائدة من الله: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا} نفي لإلهيته وتأكيد واضح لبشريته وأنه عبد مربوب. ثم تختم القصة ببيان استجواب الله لعيسى يوم القيامة عن هذا الافتراء الذي افتراه النصارى بادعائهم ألوهية عيسى وأمه، واستعظام عيسى لهذه الكلمة وبيانه أن هذا ليس من حقه، وأنه ما قال إلا ما أمر به من أنه بشر رسول عبد يأمر الناس بعبادة ربهم وربه، وهذا فيه كذلك تصريح من عيسى نفسه بعبوديته لله ونفيه الألوهية عن نفسه وعن أمه وتنزيهه لله عن الشرك والولد: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1. وأما في سورة مريم فتتخذ القصة أسلوبًا آخر لبيان بشرية عيسى ونفي ألوهيته، حيث تبين حمل مريم بعيسى كما تحمل النساء وولادتها كما تلد النساء، وتبدأ القصة بظهور الملك لمريم بشكل بشر ومجادلتها له في هذا الأمر وأنها ليست بذات زوج ولا من البغايا، ثم وصف الموهوب لها بأنه غلام وأنه يكلم الناس وأن ذلك أمر هين على الله، كل هذا تمهيد وتوطئة لإظهار بشرية عيسى وتقريرها حيث إن كل   1 سورة المائدة آية 116- 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 آية فيها ما يشير لذلك من قريب أو بعيد، فالقصة في سورة آل عمران ذكرت مولد أمه ونشأتها وبشريتها وفي سورة مريم ذكرت مولد عيسى ونشأته وبشريته, قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً, فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً, قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً, قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً, قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً, قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً, فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً, فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً, فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} 1. وولادة مريم وتمنيها الموت ومناداة عيسى لها بالأكل من الشجرة والشرب من النهر والصيام عن الكلام دلالة على أنها من البشر وليس فيها جزء من الألوهية؛ لأن الصفات السابقة صفات نقص يتنزه الإله عنها. وتبدأ الآيات بعد إظهار بشرية مريم أم عيسى، تبدأ بإظهار بشرية عيسى نفسه حيث تأخذه أمه مولودًا صغيرًا فيستنكر قومها ذلك فتشير إليه فيتكلم فقالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} 2، فوصفوه بأنه صبي والصبي سيكبر ويتغير، ثم نطقه بأنه عبد الله آتاه الكتاب وهو نبي، كل هذا تأكيدًا لبشرية عيسى ونفي الألوهية: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} 3، ويؤكد هذه العبودية بأن الله جعله مباركًا، والجعل يحصل من جاعل، وإن الله أوصاه بالصلاة والزكاة وهما من العبادات المفترضة على العبيد لله تعالى، والله تعالى قد أوصاه ببر والدته ولم يقل بوالديّ كما قال يحيى قبله، وهذا فيه تأكيد كذلك على   1 سورة مريم آية 16-24. 2 سورة مريم آية 29. 3 سورة مريم آية 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 بشريته وأنه ليس والد, بل فقط هي مريم: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً, وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} 1. ثم إن لعيسى ثلاثة أيام كما لغيره من البشر, يوم ولد فيه ويوم يموت فيه ويوم القيامة يبعث حيًّا بعد موته، وهو تأكيد آخر لعبوديته لله وأنه بشر يجري عليه ما يجري على سائر البشر؛ لأن من يولد بعد عدمه ومن يموت بعد حياته ومن يبعث بعد موته, ليس بإله، بل هو بشر وصفاته هذه صفات البشر: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} 2. وتختم القصة بما ختمت به في سورة آل عمران من بيان قدرة الله تعالى على خلق ما يشاء واعتراف عيسى بعبوديته لله, وأن هذا هو الدين الحق يقول تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ, مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ, وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 3. وكذلك آيات سورة الزخرف تؤكد بشرية عيسى وتنفي ألوهيته, يقول تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} 4، ويقول عيسى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 5. هذه القصص والآيات كلها تؤكد أن عيسى وأمه من البشر ليس فيهما صفات الألوهية وأن القول بغير هذا كذب وافتراء باللسان, كما قال تعالى: {وَقَالَتِ   1 سورة مريم آية 31-32. 2 سورة مريم آية 33. 3 سورة مريم آية 34-36. 4 سورة الزخرف آية 59. 5 سورة الزخرف آية 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. وبالتالي فهذه القصص كلها تقرير لوحدانية الله تعالى ونفي ألوهية أحد غيره ونفي أبوته لأحد وبنوة أحد له، فاعتبروا أيها المشركون، يا من تنسبون إلى الله الولد, ويا من تقولون بأن الملائكة وعزيز والمسيح أبناء الله، وإن لم تنتهوا عما تقولون من الكفر والافتراء على الله بنسبتكم الولد إليه ليصيبن الذين كفروا منكم عذاب أليم, قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ, اللَّهُ الصَّمَدُ, لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 2.   1 سورة التوبة آية 30. 2 سورة الإخلاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 القسم الثاني: قصص رسل من غير أولي العزم 1- قصة هود عليه السلام مع قومه 1. أرسل الله هودًا عليه السلام إلى قومه عاد وكانوا يسكنون بالأحقاف بين عُمان وحضرموت, وكانوا يعبدون الأصنام ومنها: صداء وصمود والهباء2، فأخذ هود عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة الأصنام, قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} 3. لقد سمى هود عليه السلام مشركي قومه كذابين مفترين؛ لأنه ليس أكذب ممن يعبد الأصنام ويعطيها صفة الألوهية ويخصها بما هو حق خالص لله تعالى. وقد ذكر هود قومه بنعم الله عليهم ليوصلهم إلى وجوب شكر المنعم بتوحيده, ومن هذه النعم استخلافهم بعد قوم نوح وزيادة أجسامهم في الطول والقوة وإرسال المطر في السماء ونعمة الأنعام وغيرها من النعم, قال تعالى عنه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4. وقال: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ   1 انظر السور التالية: الأعراف 65-72، هود 50-60، الشعراء 123-140، العنكبوت 38، فصلت 14-18، الأحقاف 21-28، الذاريات 41-42، النجم 50، القمر 18-21، الحاقة 4-8 وانظر القصة مفصلة بتفسير الطبري 8/118. 2 انظر تفسير الطبري 8/117. 3 سورة هود آية 50. 4 سورة الأعراف آية 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 1. وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ, وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ, أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ, وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} 2. وكل هذا التذكير بنعم الله عليهم وبقوم نوح من قبلهم الذين دمرهم الله بشركهم وكل التخويف من بأس الله لا يزيدهم إلا استكبارًا وعنادًا للحق حتى قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة} 3. ثم وصفوا هودًا عليه السلام بالسفاهة وأن بعض آلهتهم أصابته بسوء وأنهم لن يتحولوا عن دين آبائهم: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ, إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ, وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 4. ويبين لهم هود عليه السلام أن هذه الأصنام ليست إلا مجرد أسماء ولا حقيقة لمسمياتها وليس لها صفة الألوهية؛ لأنها من اختراع آبائهم فيقول لهم: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} 5. ويزداد قومه عنادًا واستكبارًا عن الحق فيتحداهم هود عليه السلام ويتحدى أصنامهم معلنًا براءته منها؛ لأنه متوكل على الله المتفرد بالألوهية: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ, مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ, إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 6. وهكذا يستمر قوم هود على عنادهم وفرارهم من التوحيد متمسكين بأصنامهم   1 سورة هود آية 52. 2 سورة الشعراء 131-134. 3 سورة فصلت آية 15. 4 سورة الشعراء آية 136-137. 5 سورة الأعراف آية 71. 6 سورة هود آية 54 - 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 إلى أن ينزل الله بهم العذاب بالريح العاتية الشديد بردها وصوتها وهبوبها: قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ, تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ, فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ, وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} 1. وهكذا تكون النهاية الأليمة للمشركين أعداء الله ورسله ودعوته وينجي الله المؤمنين المستضعفين على قلتهم؛ بتوحيدهم وتوكلهم على الله، فليكن ذلك عبرة لكم يا كفار قريش، وأنتم لستم بأعز على الله من عاد قوم هود إن تمسكتم بشرككم وتكذيب رسولكم.   1 سورة القمر آية 19- 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 2- قصة صالح عليه السلام مع قومه 1 أرسل الله صالحًا عليه السلام إلى قومه ثمود وكانوا يسكنون الحجر بين الحجاز والشام, وكانوا مشركين يعبدون الأصنام فأخذ يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونبذ ما يعبدون من دونه، قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2. وقد ذكّر صالح قومه بأنعم الله عليهم حيث استخلفهم في الأرض من بعد قوم عاد وبما أنعم الله عليهم من البساتين والعيون والفواكه الطيبة والبيوت التي نحتوها في الصخر وغيرها من النعم التي توجب عليهم شكر المنعم وتوحيده وترك عبادة الأصنام التي ليس لها نعم عليهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 3. هذه الدعوة إلى توحيد الله تعالى مذكرًا إياهم بمصير الغابرين قبلهم وبنعم الله عليهم لا تزيدهم إلا سخرية بصالح ودعوته ونفورًا من التوحيد: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} 4.   1 انظر السور التالية: الأعراف 73-79، هود 61-68، الحجر 80-84، المؤمنون 31-41، الفرقان 38، الشعراء 141-159، النمل 45-53، العنكبوت38، فصلت 14-18، الذاريات 43-45، النجم 51، القمر 23-31، الحاقة 4-8، الشمس 11-15، وانظر القصة مفصلة بتفسير الطبري 8/224. 2 سورة الأعراف آية 73. 3 سورة الأعراف آية 74. 4 سورة هود آية 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وكانوا يدعون بحضور العذاب سخرية بصالح والمؤمنين معه فيقول لهم صالح: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1 فيجيبونه بأنهم قد تشاءموا به وبدعوته وبمن معه من المؤمنين مفسرين كل ما يحل بهم من مكروه ومصائب من قِبَل صالح ودعوته وأصحابه: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَك} 2. وقد أيد الله صالحًا بمعجزة كانت ناقة كبيرة لم ير مثلها وكانوا يحلبونها جميعًا ولها يوم تشرب فيه من العين ولهم يوم، لكنهم قتلوا الناقة وحاولوا قتل صالح عليه السلام ليتخلصوا من دعوة التوحيد وداعيها. عندئذ وبعد أن كثر طغيانهم وأبوا دعوة التوحيد وسخروا بها وقتلوا الناقة حق عليهم العذاب فأرسل الله عليهم صيحة من السماء أزهقت أرواحهم جميعًا ونجى الله القلة المؤمنة بتوحيدها لله وتوكلها عليه, قال تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ, فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ, وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ, كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} 3. فليكن في قصة ثمود وما حل بهم من العذاب عندما كذبوا رسولهم عبرة لكم يا كفار قريش، وخاصة أن أرضهم وديارهم تقع على طريق قوافلكم فترون ما حل بالمشركين من قبلكم.   1 سورة النمل آية 46. 2 سورة النمل آية 47. 3 سورة هود آية 65-68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 3- قصة شعيب عليه السلام مع قومه 1 أرسل الله شعيبًا عليه السلام إلى قومه وكانوا يسكنون المدينة الواقعة على طريق الحجاز قرب معان من جهة الأردن واسمها "مدين", وكانوا قومًا مشركين بالله ويتلاعبون بالكيل والميزان ويقطعون الطريق, فدعاهم شعيب عليه السلام إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة الأصنام وترك باقي المنكرات, قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3. وذكّرهم شعيب عليه السلام بنعمة الله عليهم حيث كانوا قليلين فكثّر نسلهم وذكرهم بتدمير المشركين من قبلهم فقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 4. وكل هذا التذكير بالنعم والتخويف من النقم لم يزدهم إلا عنادًا وسخرية بشعيب ودعوته والمؤمنين معه حتى هددوه بالطرد أو الرجم لولا عزة قومه: {قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} 5.   1 انظر السور التالية: الأعراف 85-93، هود 84-95، الحجر 78-79، الشعراء 176-191، العنكبوت 36-37، والقصة مفصلة بتفسير الطبري 8/37 و 12/98. 2 انظر تفسير ابن كثير 2/131. 3 سورة الأعراف آية 85. 4 سورة الأعراف آية 86. 5 سورة الأعراف آية 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فيحييهم شعيب عليه السلام جواب الواثق بدينه المتوكل على ربه بأنه لن يترك دينه وتوحيده لله إلى الشرك والوثنية, وهذا ما يريده المشركون من الموحدين في كل زمان: إما أن يتبعوهم على كفرهم وشركهم بالله أو يخرجوهم ويطردوهم, وجواب شعيب هو الجواب الحق لكل موحد: {قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} 1. وهذا فيه بيان صريح أن ملة الشرك ملة كاذية باطلة, وفيه إشارة كذلك لمشركي قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لن يستجيب لطلبهم عبادة أوثانهم سنة على أن يعبدوا إلهه سنة2. ويزداد قوم شعيب تهكمًا به وسخرية بدينه: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} 3. ويظل شعيب يستعطف قلوبهم للتوحيد دون أن يؤذيهم بكلمة قاسية, وأن لا تكون عداوتهم له سببًا في إصرارهم على الشرك, ويذكرهم بما حل بالأمم المشركة لاستكبارها عن التوحيد: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ, وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ, وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} 4. وما زادهم كل هذا التلطف والتودد إلا سخرية ونفورًا من التوحيد, عندها   1 سورة الأعراف آية 89. 2 انظر تفسير ابن كثير 4/560. 3 سورة هود آية 87. 4 سورة هود آية 88-90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 استحقوا عذاب الله ففتح الله عليهم بابًا من أبواب جهنم, فاشتد الحر فلم ينفعهم ظل ولا ماء, فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح فتنادوا: الظلة عليكم بها, فلما اجتمعوا تحت السحابة انطبقت عليهم 1. هذا هو مصير الشرك وأهله؛ ولذلك لم يحزن عليهم, وهل يحزن على قوم جحدوا وحدانية الله وسخروا بنبيه ودعوته والموحدين, قال تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} 2. فلتحذروا أيها المشركون أن يحل بكم ما حل بقوم شعيب إن عصيتم محمدًا وكذبتموه، وها أنتم تمرون على منطقة قوم شعيب لأنها في طريق أسفاركم وتجارتكم إلى الشام, إنهم قد دمروا بشركهم ونجى شعيب والمؤمنون بتوحيدهم.   1 انظر تفسير الطبري 8/237. 2 سورة الأعراف آية 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 4- قصة يونس عليه السلام 1 أرسل الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام, فدعاهم لتوحيد الله تعالى ونبذ ما يعبدون من دونه, ولكنهم لم يؤمنوا معه فأخبرهم أن العذاب سيحل بهم ولم يبت معهم بتلك الليلة, وفي الصباح تغشاهم العذاب وبدت بوادره حتى أيقنوا بالهلاك كما هلك من قبلهم ممن كذبوا رسلهم فأخذوا أولادهم ونساءهم ودوابهم وأولادها, ثم صعدوا إلى مرتفع من الأرض وفرقوا بين الأمهات وأولادهن وبين البهائم وصغارها وعجوا إلى الله برفع العذاب عنهم, فاستجاب الله دعاءهم وقبل توبتهم ودفع عنهم العذاب, وكانت هذه هي القرية الوحيدة من بين القرى المهلكة التي نفعها إيمانها بعد استحقاقها العذاب ومعاينته ورفع عنها العذاب لإيمانها, قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 2. ولما رأى يونس عليه السلام أن العذاب لم يحل بهم قال: ما جربوا علىّ كذبًا، فذهب حتى ركب البحر فاحتبست السفينة لحدث أحدثوه، وكادت الأمواج تقلبها فاقترعوا فيما بينهم على رمي شخص في البحر فقرع يونس فالتقمه الحوت, ولكن معدته لم تهضمه بأمر الله وقدرته فأخذ ينادي في ظلمات بطن الحوت وأعماق البحر بالتوحيد والاعتراف بظلم نفسه وذهابه في البحر بغير أمر الله له, فأمر الله الحوت أن يلقيه على الشاطئ في العراء, قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ, فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 3, وقال تعالى: {وَإَنَّ   1 انظر السور التالية: الأنعام 86-87/ يونس 98/ الأنبياء 87-88/ الصافات 139-148/ القلم 48-50. 2 سورة يونس آية 98. 3 سورة الأنيياء 87-88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ, إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ, فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ, فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ, فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ, لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ, فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ, وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ, وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ, فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 1. وهكذا نجى الله يونس من بطن الحوت ومن أعماق البحار بتوحيده لربه, وأرسله الله إلى قومه وكانوا أكثر من مائة ألف. اعلموا أيها المشركون جميعًا أن الله لم يرفع العذاب عن قوم يونس إلا بلجوئهم إلى الله وحده وبراءتهم مما كانوا يعبدون من دونه, فنفعهم إيمانهم, وكذلك كل من وقع في الكربات لا ينجيه إلا رجوعه إلى الله وتوحيده, ففي قصة قوم يونس دليل واضح على وحدانية الله تعالى الذي أنتم به مشركون, فليكن ذلك عبرة لكم وعظة ودافعًا لكم للدخول في دين الله الواحد لا شريك له.   1 سورة الصافات آية 139-148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 5- قصة يوسف عليه السلام 1 قصة يوسف عليه السلام ذكرت متكاملة في سورة واحدة، والذي يهمنا منها في هذا الفصل هو دعوته إلى التوحيد داخل السجن وتعريفه السجناء بالله الواحد الأحد. بينما يوسف عليه السلام في السجن إذ جاءه فتيان سجينان معه يسألانه عن تعبير الرؤى، فطمأنهما أولًا بأنه سيعبر لهما ما رأيا بل يخبرهما بما سيحمل إليهما من طعام, ليزيد اهتمامها بكلامه فيشتاقا لسماعه، وأراد يوسف استغلال الموقف لنشر التوحيد, فبدأ بإسناد ذلك العلم إلى الله وحده, وهذا بداية التنبيه على الوحدانية ونبذ الشرك والأصنام حيث بين لهم أولًا أن هذا العلم الذي حصل عنده هو من تعليم الله إياه: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} 2. ثم زادهما معرفة وترقى في الطعن بأصنامهم, فبين أنه ليس على ملة أهل مصر الذين يعبدون الأصنام, وإنما هو على ملة آبائه وأجداده ملة التوحيد الخالص: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ, وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} 3، ثم بين لهما أن الهداية إلى التوحيد ونبذ الأصنام إنما هو من فضل الله، وجدير بمن هداه الله أن يشكره, وأول نتائج شكره إخلاص التوحيد له دون الأنداد والأوثان: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} 4   1 انظر سورة يوسف كاملة. 2 سورة يوسف آية 37. 3 سورة يوسف آية 37-38. 4 سورة يوسف آية 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ثم ترقى أكثر في الدعوة إلا أنه لم يطلب منهما طلبًا صريحًا ترك الشرك وإعلان التوحيد، بل وجه ذلك لهما بشكل سؤال فيه غاية الحب والمودة وهو سؤال يقرع الفطرة: أيهما أفضل عبادة رب واحد أم التوجه لأرباب كثيرة؟ {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1. ثم وجه يوسف عليه السلام ضربته الصريحة لعقيدة الشرك والوثنية السائدة في مصر آنذاك، والتي كان عليهما حاكم مصر والبيت الذي نشأ فيه يوسف والشعب بكامله، فبين أن هذه الآلهة المنتشرة في مصر في المعابد الفرعونية ليست إلا مجرد أسماء لا مسميات تحتها؛ لأنها من اختراع المصريين القدامى وليس لهم حجة على عبادتها, وإن الحكم الحقيقي والتصرف المطلق في الكون كله هو لله الواحد القهار المستحق للعبادة دون ما يعبدون، وهذا الدين الذي صرح به ودعاهما إليه هو الدين القيم الصحيح وإن جهله أكثر الناس، فجهل الناس بالحق لا يقلبه باطلًا، واستمساك الناس بباطلهم لا يقلبه حقًّا, قال تعالى عنه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ, مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2. فلتعلموا يا كفار مكة إذن أن هذا الدين الذي يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم دين التوحيد الخالص وهو دين الأنبياء جيمعًا من يوم أن خلق الله آدم، وأن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل يعلن بكل وضوح أنه على دين آبائه وجده إبراهيم دين الحنيفية السمحة الخالي من الشرك، فأين زعمكم إذن أنكم على دين إبراهيم وأنتم مشركون تعبدون الأصنام، وإبراهيم كان مائلًا عن الشرك.   1 سورة يوسف آية 39. 2 سورة يوسف آية 39-40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قصة سليمان عليه مع بلقيس ... 6- قصة سليمان مع بلقيس1 تفقد سليمان الطير فلم ير الهدهد فغضب لذلك وقرر عقوبته إن لم يكن له عذر في غيابه، وبعد قليل حضر الهدهد غاضبًا؛ لأنه رأى أهل سبأ وملكتهم بلقيس يعبدون الشمس من دون الله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض، فكان إخباره سليمان بهذا الخبر -الذي لم يعلم به من قبل- عذرًا واضحًا لغيابه، يقول تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ, إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ, وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ, أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ, اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 2. ويهتم سليمان لذا الخبر؛ لأنه يبغض الشرك وأهله ويدعو للتوحيد، فبعث كتابًا مع الهدهد لملكة سبأ يدعوها وقومها للإسلام، فعرضته الملكة على قومها مشيرة في كلامها لمقصد الكتاب وأنه دعوة لدين جديد هو الإسلام لله رب العالمين: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ, إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} 3. وترسل ملكة سبأ الهدايا النفيسة لسليمان راجية بذلك رده عن مقصده وإبقاءها على دينها، ولكن أنى للموحد أن يقبل بعَرَض الدنيا الزائل عِوضًا عن عقيدته والدعوة إليها, فقال لرسول الملكة: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا   1 انظر سورة النمل 20-44. 2 سورة النمل آية 22-26. 3 سورة النمل آية 29-31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1. وهنا قررت الملكة دخول دين الله مع سليمان مبينة أن هذا الاستسلام ليس هو لشخص سليمان بذاته إنما هو إسلام معه لله رب العالمين, وأعلنت ظلمها لنفسها من قبلُ بعبادتها الشمس من دون الله: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. ألا فلتعلموا يا كفار قريش أن إسلامكم مع محمد صلى الله عليه وسلم ليس هو من قبيل الخضوع للزعماء وما يريدونه من أقوامهم، ولا من قبيل إذلال قوم لقوم آخرين وافتخارهم عليهم, إنما إسلامكم مع محمد صلى الله عليه وسلم هو إسلام لله رب العالمين ودخول في دينه ودين أنبيائه أجمعين. واعلموا أيها الزعماء إن كنتم تغطرستم بالزعامة وتكبرتم عن التوحيد, أن سليمان كان موحدًا وكان ملكًا في قومه، وكانت بلقيس ملكة في قومها ذوي القوة والبأس الشديد, ولم يمنعها ذلك من ترك الشرك وعبادة الأصنام للدخول في الدعوة الجديدة دعوة التوحيد الخالص لله رب العالمين.   1 سورة النمل آية 37. 2 سورة النمل آية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 القسم الثالث: قصتان لغير الرسل من الموجودين قصة أصحاب الكهف ... القسم الثالث: قصتان لغير الرسل من الموحدين 1- قصة أصحاب الكهف 1 أصحاب الكهف كانوا مسلمين موحدين، وكان الملك آنذاك عابد وثن، فاكتشف أمرهم فدعاهم لعبادة آلهته وترك دينهم، فأبوا اتباعه وأعلنوا بكل صراحة أن ربهم هو رب السماوات والأرض، فكأنهم استدلوا بالسماوات والأرض على وحدانية الله تعالى, فانطلقوا من توحيد الربوبية للاستدلال على وحدانية الإله المعبود، فرب السماوات والأرض إذن هو الإله, يقول تعالى عنهم: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} 2. نعم إن الشرك بالله شطط من القول وكذب وافتراء وبهتان عظيم، فلتعلموا يا كفار مكة أي كذب تفترونه بإشراككم بالله الأنداد والأوثان. ثم يصرح الفتية الموحدون بأن قومهم ليس لهم أية حجة في عبادتهم آلهة من دون الله، وهل أظلم وأطغى ممن يعبد ويعتقد بما ليس له عليه دليل: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 3. وهذا هو التقرير الذي قرره هؤلاء الفتية مرة أخرى، وهو أن الشرك كذب وافتراء ولا أظلم ممن زعم ذلك بغير حجة ولا دليل. ويعتزل الفتية الموحدون قومهم خوفًا من أن يفتنوهم عن دينهم إلى الشرك   1 انظر سورة الكهف آية 9-26 وانظر تفسير الطبري 15/197 وتفسير ابن كثير 3/72. 2 سورة الكهف آية 14. 3 سورة الكهف آية 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 والوثنية، فما دام أنهم اعتزلوا أوثانهم فليعتزلوا مجتمعهم إذن؛ لأنه مجتمع الشرك والوثنية ويحارب التوحيد: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً} 1. وتمضي القصة تبين عناية الله ورعايته للمؤمنين الموحدين في كهفهم حيث ناموا فيه نومًا هادئًا سنين طويلة من غير أن تبلى أجسامهم، ويتغير الشرك في مدينتهم خلال هذه المدة، ويأتي حاكم مؤمن موحد بعد ثلاثمائة وتسع سنين من دخولهم الكهف ونومهم فيه، ويشاء الله أن يستيقظوا جياعًا يتلهفون للأكل ولكنهم يخشون أن يعلم قومهم بمكانهم فيقتلوهم أو يردوهم إلى الشرك والوثنية، لذلك كان على من يذهب لشراء الطعام أن يكون حذرًا لبقًا في الطريقة التي يدخل بها ويخرج من المدينة: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} 2. ويكتشف أهل المدينة الموحدون هؤلاء الفتية ويستدلون على مكانهم ويبنون مسجدًا على كهفهم. وفي ختام القصة إشارة إلى التوحيد كذلك، فيأمر الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن لا يقول سأفعل شيئًا في المستقبل إلا بمشيئة الله وحده المتصرف في الكون ومافيه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً, إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3، فليس لأحد حركة أو سكون إلا بمشيئة الله وإراداته الذي ليس للخلق ولي من دونه يدبرهم ويلي أمورهم, وليس له شرك في قضائه وحكمه، بل هو المنفرد بالتدبير والحكم والقضاء والتصرف في العباد كما يشاء: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} 4.   1 سورة الكهف آية 16. 2 سورة الكهف آية 20. 3 سورة الكهف آية 23-24. 4 سورة الكهف آية 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فلتعتبروا إذن يا كفار قريش, واعملوا أن شرككم ليس لكم عليه دليل؛ لأنه كذب وافتراء وظلم وشطط من القول. واعملوا كذلك أن الله لن يضيع أولياءه الموحدين محمدًا وأصحابه الذين يلقون منكم الأذى والتشريد كما لقي الفتية من قومهم. إن الله لاشك ناصرٌ دينه وأتباع دينه المؤمنين الموحدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 2- قصة أصحاب الأخدود مع الموحدين 1 هذه القصة أقرب من غيرها لأهل مكة من ناحية الزمان والمكان, فمكان الأخدود الذي أحرق فيه المؤمنون هو نجران الواقعة جنوب الجزيرة, وزمانها كان بعد عيسى وقبل محمد صلى الله عليه وسلم وليس بينهما رسول. ولا شك أن العرب قد يكون عندهم علم بالقصة قبل نزول القرآن, إما لتناقل الأجيال لها أو لسماعهم إياها من أهل الكتاب, إلا أن هذا النقل قد يكون مشوهًا؛ فجاءت هذه السورة تبين أمر هؤلاء. وتتلخص القصة بأن جماعة من أتباع دين عيسى عليه السلام كانوا على التوحيد الخالص لله ويعتقدون أن عيسى بشر رسول, وكانوا قريبًا من عشرين ألفًا، وكان حاكم اليمن آنذاك ذو نواس الحميري وكان يهوديًّا، فملأ الغيظ قلبه لانتشار النصرانية بنجران، فعزم على أن يفتن هؤلاء الموحدين عن دينهم وأن يجبرهم على اليهودية وأن يقولوا بعيسى بقول اليهود، فجهز جيشًا كثيفًا وسار نحو هذا الجزء الشمالي من مملكته وطلب منهم ما يريد، لكنهم امتنعوا وأبوا عليه ذلك الانحراف عن عقيدة التوحيد إلى الشرك والوثنية بعدما ذاقوا حلاوة التوحيد، فأمر جنده فخدوا أخدودًا عظيمًا وأضرموا فيه النار وجعلوا يلقون المؤمنين في النار فرحين بمنظر النار تأكل وتذيب شحومهم حتى قضوا عليهم جميعًا ولم يفرقوا بين كبير وصغير ورجل وامرأة. وقد خلد الله ذكر هؤلاء المؤمنين الموحدين الذين لقوا الموت في سبيل عقيدة التوحيد ولعن الله الكافرين أصحاب هذه الفعلة الشنيعة، مبينًا في القصة مصير   1 انظر سورة البروج كاملة وتفسيرها في تفسير الطبري 20/127 وفي تفسير ابن كثير 4/191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الفريقين، فريق الموحدين في الجنة، وفريق الكافرين في النار مقسمًا على ذلك بثلاثة أقسام: يقول تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ, وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ, وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ. قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ. النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ, وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ, إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ, إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} 1. وقد بين الله سبب قتلهم لهؤلاء المؤمنين وهو إيمانهم بالله العزيز الحميد وعدم إيمانهم بالكفر والوثنية اليهودية وعقائدها المزيفة. وأنتم يا أهل مكة, ليكن لكم عبرة في هذه القصة القريبة العهد منكم، إما أن تكفوا عن إيذاء محمد وأصحابه المؤمنين الموحدين وتدخلوا في دينه فيكون لكم جنات تجري من تحتها الأنهار، وإما أن تستمروا على إيذائكم الموحدين من المؤمنين والسخرية بهم كما صنع ذو نواس بالموحدين؛ فعندئذ تدخلون مع اليهود في اللعنة والغضب والوعيد الشديد بعذاب جهنم وعذاب الحريق. ثم لتكن طبيعة اليهود معروفة لديكم، إنهم يزينون لكم الكفر بالله ومحاربة دينه وإيذاء الموحدين؛ لأنهم أعداء الله وأعداء دينه وأعداء رسله ورسالاته والمؤمنين الموحدين من القدم, وهم لا يريدون دخولكم في دين التوحيد حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فكيف تطيعون مَن هؤلاء تاريخهم ومواقفهم من دعوة التوحيد.   1 سورة البروج آية 1-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الفصل الرابع: تقرير القرآن للتوحيد بالتذكير بنعم الله تمهيد : إن الله سبحانه وتعالى قد أنعم على خلقه بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى, وقد نبه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم إلى كثير من النعم فأكثر الحديث عنها، ووجه الأنظار وقرر عباده بها ليدفعهم إلى التفكير في مصدرها وموجدها وأنه جدير بالعبادة، ولما يثير شكر هذه النعم في أنفسهم من محبة لبارئها ولا سيما أن هذه النعم ليست في طاقة البشر. والتذكير بنعم الله يوقظ القلب الغافل وينبهه إلى ما يرتع فيه الإنسان من خيرات عظيمة ونعم جليلة، فيكون ذلك أدعى للاستجابة لهدي الله والدخول في طاعته، لذلك ذكر الأنبياء أقوامهم بنعم الله طالبين منهم توحيده ونبذ ما يعبدون من دونه من الأنداد والأوثان. فهذا هود عليه السلام يقول لقومه: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1، فذكرهم هود عليه السلام بنعمتين من نعم الله عليهم هما نعمة الاستخلاف من بعد القوم المغرقين قوم نوح، ونعمة القوة الجسمانية التي خصهم الله بها.   1 سورة الأعراف آية 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وهذا صالح عليه السلام يقول لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 1، فذكرهم صالح عليه السلام بنعمتين من نعم الله تعالى عليهم هما نعمة الاستخلاف من بعد القوم المهلكين قوم عاد، ونعمة بناء القصور في السهل واتخاذ الكهوف في الجبال. إن النعمة لا بد لها من منعم، وهذه النعم الكثيرة على الإنسان إنما هي من صنع الله الواحد لا شريك له، لذلك وجب على العباد شكر المنعم وتوحيده, ومعظم الآيات التي تتحدث عن النعم تكون مختومة بالتنديد بالمشركين الذين يعبدون الأوثان من دون الله ولم يوحدوا الله, مثل قوله تعالى في سورة الأنعام بعد أن ذكر جملة من النعم على عباده: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ, بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ, ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 2. ففي هذه الآيات يطلب سبحانه من عباده شكره على نعمه وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له والإقرار له بالوحدانية, وأنه لا إله إلا هو, وأنه لا ولد له ولا صاحبة ولا عديل. وظاهرة النعمة تذكر في القرآن الكريم كثيرًا، أحيانًا مفصلة وأحيانًا بآيات عامة لما يترتب على ذكرها من إظهار فضل الله وكرمه ورحمته وعطائه ليشكر العاقل إلهه المنعم عليه، ولتقوم الحجة على الإنسان الظالم الجاحد فيستحق العقاب. وقد بين الله تعالى عجزنا عن إحصاء نعمه بآيتين هما قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا   1 سورة الأعراف آية 74. 2 سورة الأنعام آية 100-102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 1 وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 2. ويتبين من سياق الآيتين معنيان هما: أ- أن هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى ليست مصادفة بل هي من خلق الله. ب- أن الكفر والظلم هما اللذان يجعلان الإنسان لا يرى نعمة الله عليه وينسبها لغير الله. وقد ورد التذكير بالنعم عامة في آيات عديدة منها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} 3، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} 4، وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 5. ويتبين من سياق الآيات معنيان هما: أ- أن الأرض والسماوات بما فيهما مسخرتان للإنسان. ب- أن التسخير والإنعام لا يكون إلا بمسخر منعم كما يلمح من قوله: {وَأَسْبَغَ} وقوله: {جَمِيعًا مِنْهُ} ، وهذا المسخر المنعم هو الله وحده لا شريك له. وقد جمعتُ الآيات القرآنية التي تتعلق بهذا الفصل ثم قسمتها حسب النعمة التي تتحدث عنها الآية، وقد تحدثت عن عدد من النعم بحديث واحد لارتباطها ببعضها، والنعم التي كانت مدار هذا الفصل هي:   1 سورة النحل آية 18. 2 سورة إبراهيم آية 34. 3 سورة البقرة آية 29. 4 سورة لقمان آية 20. 5 سورة الجاثية آية 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 1- نعمة الشمس والقمر والليل والنهار. 2- نعمة الأرض والجبال. 3- نعمة البحر. 4- نعمة الرياح والمطر والنبات. 5- نعمة الأنعام. 6- نعمة السمع والبصر. 7- نعمة الأمن. وبعض هذه النعم التي نتحدث عنها في هذا الفصل، ذكرت في آيات القرآن على أنها آيات كونية كما سبق أن بينا ذلك في الفصل الأول من هذا الباب، لكن الحديث عنها في هذا الفصل يتناول جانبًا غير جانب الأدلة الكونية, وفيما يلي البيان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 نعمة الشمس والقمر والليل والنهار مدخل ... 1- نعمة الشمس والقمر والليل والنهار تحدثت عن هذه النعم معًا لارتباطها ببعضها ولورودها غالبًا في آيات القرآن مع بعضها البعض, ولأن الليل والنهار تابعان للشمس، ولذلك جاء الحديث في هذه النقطة بفقرتين: أ- نعمة الشمس والقمر. ب- نعمة الليل والنهار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 أ- نعمة الشمس والقمر : قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 1، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 2، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً, ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} 3. في هذه الآيات الكريمة يتحدث سبحانه وتعالى عن نعمة الشمس والقمر وما فيها من مصالح لعباده، مبينًا أنه تعالى وحده هو الذي جعل شعاع الشمس الصادر عنها ضياء، وجعل شعاع القمر نورًا ففاوت بينهما حيث جعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل، فبالشمس تعرف الأيام والشهور والأعوام، ولولا ذلك لفسدت الحياة على الأرض ولما عاشت الكائنات جميعها، فإن أحدًا لا ينكر ما للشمس من أهمية كبيرة في حياة النبات والحيوان فضلًا عن الإنسان، ويتعلق بنعمة الشمس نعمة الظل, وقد نبه سبحانه وتعالى عباده لهذه النعمة لما فيها من الفوائد للكائنات جميعها مما يستوجب على الناس الشكر للمنعم؛ لأنه لو شاء سكون الظل وعدم تحوله لفعل ولما استطاع أحد تحويله. كما نبه على ما تتم به فائدة الظل هو قبضه تدريجيًّا، ولولا ذلك لم ينتفع به أهله؛ لأن في مده وتحوله من مكان إلى مكان ثم قبضه شيئًا فشيئًا من المصالح والمنافع مما   1 سورة الأنعام آية 96. 2 سورة يونس آية 5. 3 سورة الفرقان آية 45-46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 لا يحصى، وبسكونه دائمًا أو قبضه دفعة واحدة تتعطل المرافق والمصالح1.   1 انظر تفسير الطبري 11/140 و13/226 و19/19 وتفسير ابن كثير 2/424 وص 539 و4/86 والتفسير القيم ص 391. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ب- نعمة الليل والنهار : قال تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} 1، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ, قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون} 2, وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} 3، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ, قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ, وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 4، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ, ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 5. هذه الآيات تتحدث عن نعمة الليل والنهار لما في ذلك من مصالح للعباد ولأن النهار للعمل وفيه التعب، والليل للنوم وفيه الراحة؛ وذلك لأن الليل إذا تغشى الكائنات وسكنت فيه الأشياء يستريح البدن، فخلقُ الله لهذه الأشياء المتضادة المختلفة مع ما فيها من نعمة جسمية على الكائنات دليلٌ على وحدانيته تعالى؛ لأنه وحده الذي جعل الليل سكنًا أي ساجيًا مظلمًا لتسكن فيه الأشياء، وهذا معنى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً, وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً, وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} 6، أي   1 سورة الأنعام آية 96. 2 سورة يونس آية 67-68. 3 سورة الفرقان آية 62. 4 سورة القصص آية 71-73. 5 سورة غافر آية 61-62. 6 سورة النبأ آية 9-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 قاطعًا للحركة لنسكن مما كنا فيه من تعب التصرف والحركة للمعاش نهارًا. ولو شاء الله بقاء الليل دائمًا أو بقاء النهار دائمًا لفعل, وليس هناك من يستطيع الإتيان بأحدهما, ولذلك قال: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} أي تشكرون الله على مخالفته بين الليل والنهار فتوحدوه وتعبدوه، يقول الطبري: "أفلا ترون بأبصاركم اختلاف الليل والنهار عليكم رحمة من الله بكم وحجة منه عليكم فتعلموا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا لمن أنعم عليكم بذلك دون غيره ولمن له القدرة التي خالف بها بين ذلك ... فعل ذلك بكم لتفردوه بالشكر وتخلصوا له الحمد لأنه لم يشركه في إنعامه عليكم بذلك شريك؛ فلذلك ينبغي أن لا يكون له شريك في الحمد عليه"1 انتهى باختصار. هذه النعم توجب على الإنسان أن يشكر المنعم ويوحده ويعبده، وصرف العبادة للأصنام جحود بنعمة الله وكفر به، ففي آية سورة غافر يقول تعالى بعد ذكر نعمته على الناس: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ, ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 2، فأخبر تعالى أن أكثر الناس لا يقومون بشكر نعم الله عليهم والاعتراف بوحدانيته الذي هو المقصود الأعظم من التذكير بالنعم لقوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم} أي الذي فعل هذه الأشياء وأنعم بها هو الله الواحد الأحد الذي لا إله غيره ولا رب سواه, فكيف تعبدون الأصنام التي لا تنعم عليكم3.   1 تفسير الطبري 20/103-104 وانظر تفسير ابن كثير 3/398. 2 سورة غافر آية 62. 3 انظر تفسير الطبري 7/143 وص 283 و14/87 و15/48 و18/20 و19/20 وص32 وانظر تفسير ابن كثير 2/123 وص 158 وص 564 و3/26 وص 320 وص377 و4/86 وانظر تفسير الكشاف 2/244 وانظر التفسير القيم لابن القيم ص391 ومفتاح دار السعادة لابن القيم 1/203- 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 نعمة الأرض والجبال مدخل ... 2- نعمة الأرض والجبال تحدثت عن نعمة الأرض والجبال معًا للعلاقة بينهما, فجاء الكلام في فقرتين: أ- نعمة الأرض. ب- نعمة الجبال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أ- نعمة الأرض : قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} 1، وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} 3، وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً, أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} 4. إن الله سبحانه وتعالى يذكّر عباده بنعمة الأرض التي جعلها لهم كالفراش ممهدة وموطأة ومستقرة، وهو الذي ذللها لنا للاستفادة من خيراتها ولولا تذليل الله لها ما استطعنا أن نشق فيها الطرق ولا البناء عليها ولا الحرث ولا سائر أنواع المنافع والتي منها أن الأموات يكفتون في بطنها، فهي تُكِنُّ الأحياء على ظهرها في المساكن والأموات في القبور، فكأنها كفتت أذى الناس أحياء وجيفهم أمواتًا. ونعمة أخرى في الأرض وهي أنها مستودع الرزق, حيث إن فيها معايش بني آدم وأسباب رزقهم، فالله وحده هو الذي جعل في الأرض المعايش والأسباب المختلفة ليكسب العباد بها أقواتهم ويتجرون, وأكثرهم مع هذا قليل الشكر، يقول الطبري: "ولقد وطناكم أيها الناس في الأرض وجعلناها لكم قرارًا تستقرون فيها ومهادًا تمتهدونها   1 سورة الأعراف آية 10. 2 سورة الزخرف آية 10. 3 سورة الملك آية 15. 4 سورة المرسلات آية 25- 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وفراشًا تفترشونها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِش} تعيشون بها أيام حياتكم من مطاعم ومشارب نعمة مني عليكم وإحسانًا مني إليكم {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُون} وأنتم قليل شكركم على هذه النعم التي أنعمتها عليكم لعبادتكم غيري واتخاذكم إلهًا سواي"1.   1 تفسير الطبري 8/125 وانظر كذلك 14/90 وتفسير ابن كثير 1/57 و2/202 و4/398 وص460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ب- نعمة الجبال : قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ, وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 1، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} 2، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} 3. هذه نعمة عظيمة من الله تعالى على عباده, حيث ثبتّ الأرض بالجبال حتى لا تميد بأهلها وتضطرب فلا يستطيعون التصرف لمعاشهم لعدم استقرارها. والجبال كذلك علامات يستدل بها المسافرون برًّا وبحرًا إذا ضلوا الطريق, ومن منافع الجبال كذلك أن الثلج إذا سقط عليها وتراكم يذوب تدريجيًّا، فيشرب منه الناس ويسقون المزروعات, ولو ذاب دفعة واحدة لما استفيد منه, ولأهلك السيل كل ما مر عليه. ومن منافع الجبال كذلك ما فيها من مغامرات وكهوف ليتحصن فيها الناس، وهي أكنان للناس والحيوان, كما قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} 4.   1 سورة النحل آية 15-16. 2 سورة الأنبياء آية 31. 3 سورة المرسلات آية 27. 4 سورة النحل آية 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 هذه النعم العظيمة في الأرض والجبال توجب على العباد شكر المنعم وتوحيده وعبادته دون الآلهة والأوثان؛ لأنه هو الذي خلقهم وخلق هذه النعم, فيكون هو وحده المستحق عليهم الطاعة والشكر والعبادة، وقد استعمل موسى عليه السلام هذا الدليل في الدعوة لتوحيد الله فقال لفرعون وقومه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى, كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} 1. يقول ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} : "أي لدلالات وحججًا وبراهين لأولي النهى أي لذوي العقول السليمة على أنه لا إله إلا الله ولا رب سواه"2، ويقول كذلك في تفسيره لقوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً} 3: "وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له"4.   1 سورة طه آية 53-54. 2 تفسير ابن كثير 3/156. 3 سورة النمل آية 61. 4 تفسير ابن كثير 1/58 وانظر تفسير الطبري 14/92 و17/21 و20/3 و24/29 وتفسير ابن كثير 2/565 وص 589 و3/87 وص 547-548 وتفسير الزمخشري 1/329 و2/405 وانظر الفوائد لابن القيم ص17-18 ومفتاح السعادة 1/211- 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 نعمة البحر مدخل ... 3- نعمة البحر إن نعمة البحر تحوي نعمًا كثيرة منها: أ- نعمة تسيير الفلك فيه. ب- نعمة اللحم الطري. ج- نعمة الحلي. د- نعمة عدم اختلاط الماءين الماح والحلو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 نعمة تيسير الفلك فيه ... أ- نعمة تسيير الفلك فيه قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} 1، وقال تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2، وقال تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} 3. إن تسيير الفلك في البحر نعمة كبرى فيها منافع عظيمة للعباد وفقدانها يقلل سبل الحياة ويحصل لهم ضيق في أمورهم التجارية، ولذلك يمتن الله على عباده بتسخيره البحر المتلاطم الأمواج وتذليله لعباده, لركوبه وقضاء مصالحهم بحمله السفن التي تمخره؛ لأنها تشق الرياح والماء بصدرها المسنم الذي أرشد الله عباده إلى صنعه وهداهم لذلك إرثًا عن أبيهم نوح عليه السلام الذي علمه الله صنع السفينة ثم أخذها الناس عنه قرنًا بعد قرن وجيلًا بعد جيل, يسيرون من بلد لآخر يجلبون البضائع والأرزاق.   1 سورة إبراهيم آية 32. 2 سورة النحل آية 14. 3 سورة الإسراء آية 66 وانظر سورة الروم آية 46 وسورة لقمان آية 31 وسورة فاطر آية 12 وسورة الشورى آية 32 وسورة الجاثية آية 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ب- نعمة استخراج اللحم الطري قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} 1، وقال تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّا} 2. هذه نعمة عظيمة من الله؛ حيث جعل البحر مستودعًا لا ينضب لمادة غذائية تعتبر شيئًا أساسيًّا في حياة معظم الشعوب، يتناولونها من البحر دون أن يخسروا مالًا وجهدًا في تربيتها، ولولا ذلك لضاقت معيشة أكثر الناس حيث إن عليها اعتمادهم في الغذاء وبها يتجرون ويتكسبون، ومن رحمة الله إباحتها حية وميتة في الحِل والإحرام.   1 سورة النحل آية 14. 2 سورة فاطر آية 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 جـ- نعمة استخراج الحلي قال تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} 1، وقال تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} 2، وقال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ, فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 3. هذه نعمة أخرى مما في البحر، وهي نعمة استخراج الحلي التي يخلقها الله في البحر من اللآلئ والجواهر النفيسة، وكيف سهل الله لعباده استخراجها من أعماق البحار ليتحلَوْا بها, ويتجروا بها كذلك تكسبًا للمعاش.   1 سورة النحل آية 14. 2 سورة فاطر آية 12. 3 سورة الرحمن آية 22- 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 د- نعمة عدم اختلاط الماءين المالح والحلو قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} 1، وقال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2، وقال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ, بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ, فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 3. هذه نعمة عظيمة من الله على خلقه إذ بدونها لا تصلح الحياة للكائنات، فهذا الحاجز حتى لا يختلط الماءان فيفسد كل منهما الآخر، والماء الحلو هو ماء الأنهار والعيون وهو العذب الفرات، وقد فرقه الله بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارًا وعيونًا بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم ودوابهم. وأما الماء المالح الأجاج فهو البحار المعروفة ولا تستساغ للشرب، وملوحتها نعمة من الله، فلو كانت حلوة لفسد الهواء وأنتن وماتت جميع الحيوانات في البر والبحر, فلما كان ماؤها مالحًا كان الهواء دائمًا نقيًّا وكانت ميتتها طيبة. وهذا الحاجز بين الماءين قد يكون جزءًا من الأرض، وقد لا يكون كذلك، فقد يمر النهر من البحر المالح ويخرج من جانب آخر كما هو محافظ على عذوبته وصلاحيته للاستعمال بأمر الله, فيستفيد منه الناس على جانبي البحر، فأي نعمة فوق هذه النعمة, ولولا هذا الحاجز بقدرة الله لفسدت الأنهار الحلوة بدخولها البحر ولتعطلت مصالح الخلق من الطبخ والشرب وغيرها؛ ولذلك امتن الله في كتابه بهذه النعمة على خلقه.   1 سورة الفرقان آية 53. 2 سورة النمل آية 61. 3 سورة الرحمن آية 19-21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 هذه النعم جميعًا في البحر توجب على الناس أن يفكروا بالمنعم وكيف سخر لهم هذا البحر مستودعًا لهذه النعم الكثيرة، وهيأ لهم سبل استخراجها رغم مخاطره الكثيرة، فيجب على الخلق إذن توحيد الله وعبادته ونبذ الأصنام والأوثان التي لا تنعم عليهم بشيء. ولذلك يقول تعالى في سورة النمل بعد تعداد نعمه: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1، أي هل فعل هذا إله غير الله فتعبدوه؟ ولذلك يجب على العباد شكر الله وتوحيده وعبادته، وإن كان أكثر الناس يعبدون غيره ويصرفون شكرهم لغير المنعم2.   1 سورة النمل آية 61. 2 انظر تفسير الطبري 14/88 و19/24 وتفسير ابن كثير 2/564 و3/50 وص 322 وص370 وص 436 وص 452 وص550 و4/117، وقد تكلم ابن القيم على نعمة البحر في مفتاح دار السعادة 1/204 تركنا ذكره اختصارًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 نعمة الرياح والمطر والنبات مدخل ... 4- نعمة الرياح والمطر والنبات جمعت هذه النعم لترتبها على بعضها ولورودها غالبًا مع بعضها في آيات القرآن وهي: أ- نعمة الرياح. ب- نعمة المطر. ج- نعمة النبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أ- نعمة الرياح : قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} 1، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} 2. الرياح نعمة عظيمة وفيها فوائد جمة، منها أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد إنزال المطر أثار الرياح فجمعت السحاب بعضه إلى بعض حتى يتكاثف ويصبح موقرًا بالمطر، ثم تسوق الرياح هذا السحاب إلى حيث يريد الله إنزال المطر، وعلى هذا تكون الرياح رحمة من الله بعباده مبشرة بمجيء المطر, دالة على وحدانية الله، وحجة على الناس بأن مرسلها إله كل شيء كما صرح بذلك الطبري3. يقول ابن القيم: "فإذا شاء الله حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحًا للسحاب يلقحه بحمل الماء.. ومن آياته السحاب المسخر بين السماء والأرض كيف ينشئه سبحانه بالرياح فتثيره كسفًا ثم يؤلف   1 سورة الأعراف آية 57 وانظر سورة الفرقان آية 48 وسورة الروم آية 46. 2 سورة الروم آية 48. 3 انظر تفسير الطبري 21-52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بينه ويضم بعضه إلى بعض ثم تلقحه الريح وهي التي سماها سبحانه لواقح, ثم يسوقه على متونها إلى الأرض المحتاجة إليه، فإذا علاها واستوى عليها أهراق ماءه عليها فيرسل سبحانه الرياح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه أقلع عنها وفارقها فهي روايا الأرض محمولة على ظهور الرياح"1 انتهى باختصار.   1 مفتاح دار السعادة 1/201-202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ب- نعمة المطر : قال تعالى: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} 1، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ, فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} 2. وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً, لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً, وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} 3، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ, أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ, لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} 4. إن المطر نعمة عظيمة من الله على عباده، لأن حياة الحيوان والنبات متوقفة على الماء، والله وحده هو الذي ينزل علينا الماء من السحاب عذبًا فراتًا ولم يجعله ملحًا أجاجًا، ثم يسكنه في الأرض فيخرج ينابيع ويجري أنهارًا لسقي الإنسان والحيوان والنبات والثمار في الجنات.   1 سورة إبراهيم آية 32 وسورة البقرة آية 22. 2 سورة المؤمنون آية 18-19. 3 سورة الفرقان آية 48-50. 4 سورة الواقعة آية 68-70 وانظر سورة النحل آية 10 و65 وسورة النمل آية 61 وسورة السجدة آية 27 وسورة الشورى آية 28 وسورة الزخرف آية 11 وسورة الملك آية 30 وسورة المراسلات آية 27 وسورة النازعات آية 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فانظر كيف تتجلى النعمة العظمى بإنزال المطر بالقدر المطلوب، لا كثيرًا فيفسد الأرض والعمران ولا قليلًا فلا يكفي الزروع والثمار، وكيف جعل في الأرض قابلية خزنه للاستفادة منه فيما بعد، ولو شاء الله أن لا تمطر السماء لفعل، ولو شاء جعله أجاجًا لفعل، ولو شاء ذهابه في أعماق الأرض بحيث لا ينال لفعل، فامتن الله على عباده إذن بكل هذه النعم منبهًا إياهم لوجوب شكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 جـ- نعمة النبات : قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 1، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنَ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} 2. وقال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} 3، وقال تعالى: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ, وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ, لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ, سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} 4. ينبه سبحانه وتعالى عباده إلى نعمة جليلة من نعمه، وهي نعمة النبات والثمار   1 سورة الأنعام آية 95. 2 سورة الأنعام آية 99. 3 سورة النمل آية 60. 4 سورة يس آية 33-36 وانظر سورة الأعراف 57 وسورة إبراهيم 32 وسورة النحل 10-13 وسورة المؤمنون آية 19-20 وسورة الواقعة آية 63-65 وسورة النبأ آية 15-16 وسورة عبس آية 26-32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 لأن الله وحده خالق الحب والنوى الذي يخرج منه الزروع والثمار على اختلاف أصنافها، وهو وحده كذلك يخرج الحب المتراكب والقنوان الدانية وجنات الأعناب والزيتون والرمان، وليس ذلك من فعل أحد غير الله، فالعبد يشق الأرض ويضع فيها الحب، والزارع المنبت هو الله دون الأنداد والأوثان، ولو شاء الله أن يجعل هذا الزرع حطامًا يابسًا قبل موعد حصاده ما استطاع أحد إنباته، وأقصى ما يعمله الإنسان هو التعجب والتفجع والحزن على ما فاته من الزرع والثمر. هذه النعم السابقة كلها تدل على وحدانية الله واستحقاقه لأن يشكر ويفرد بالعبادة، لأنه هو وحده المنعم المستحق علينا الطاعة والعبادة لا من لا يقدر على الإنعام ولا يضر ولا ينفع، فهذه النعم كلها تنبيه منه تعالى لخلقه على حججه عليهم في توحيده وأنه لا ينبغي الألوهية إلا له, ولا تصلح العبادة لشيء سواه. ولذلك نعى الله على المشركين الذين أشركوا به ونسبوا له البنات مع تعريفهم نعمه عليهم، فبعد أن ذكر جملة من النعم في سورة الأنعام قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} إلى قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 1. فبدل أن يشكروا الله على نعمه ويوحدوه أشركوا به. وكذلك في سورة النمل يقول تعالى في نهاية تعداده نعمه على عباده: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي هل فعل هذا إله آخر غير الله فتعبدوه؟ وهو استفهام إنكار على المشركين الذين يعبدون غيره مع وضوح الأدلة، قال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى بعد ذكره نعمة النبات: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} 2، قال: "أي دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله"3.   1 سورة الأنعام آية 100- 102. 2 سورة النحل آية 11. 3 تفسير ابن كثير 2/564 وص 222 وص 539 وص 574 و3/242 وص 321 وص369 وص 436 وانظر تفسير الطبري 3/255 و8/210 و14/130 و18/12 و19/22 و20/3 و21/52 وانظر هذه النعم بتوسع في مفتاح الدار السعادة 15/201-224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 نعمة الأنعام مدخل ... 5- نعمة الأنعام قسمت الحديث عن هذه النعمة إلى خمسة نقاط: أ- نعمة التذليل . ب- نعمة الركوب والحمل. ج- نعمة الجلد وما فيه من صوف وشعر ووبر. د- نعمة اللبن. هـ- نعمة اللحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 أ- نعمة التذليل : قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ, وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} 1. وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} 2. النعمة الأولى في الأنعام هي نعمة تذليلها، لأن الله وحده هو الذي جعلها مقهورة ذليلة لا تمتنع على صاحبها عند الحاجة إليها في تسييرها وتوجيهها للرعي أو للطرق أو للحمل أو للوقوف، ولو جاء طفل إلى بعير لأناخه وإذا شاء أقامه ومشى بمشيه القافلة كلها. فهذا التذليل ضروري لتمام الانتفاع بالأنعام، ويرتبط بتذليلها كونها جمالًا وزينة لنا في رجوعها من المرعى عشيًّا فتكون شبعانة وخواصرها مليئة، وفي بعثها صباحًا إلى المرعى، ولولا تذليلها ما كانت زينة وجمالًا لأنها تكون نافرة مستعصية.   1 سورة يس آية 71-72. 2 سورة النحل آية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ب- نعمة الركوب والحمل : قال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ, وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} 1، وقال تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ, وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} 2. إن نعمة ركوب الأنعام والحمل عليها تلفت النظر وتوجب الشكر؛ لأنها توفر كثيرًا من الجهد والتعب، فيستطيع الإنسان السير في المصالح البعيدة كالحج والغزو والتجارة بلا مشقة؛ لأن هذه الأنعام تحمله وتحمل متاعه وطعامه وشرابه وبدون هذه الأنعام فإن الإنسان عاجز عن حمل الأثقال لمسافة قصيرة، وتظهر نعمة الحمل والركوب بشكل خاص في الخيل والبغال والحمير، ولذلك أفردت معًا في آية خاصة بها فقال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} ، فامتن الله على عباده بهذا النوع بالذات لتخصصه بهذه النعمة.   1 سورة النحل آية 7-8. 2 سورة الزخرف آية 13-14 وانظر سورة المؤمنون آية 22 وسورة يس آية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ج- نعمة الجلد وما فيه من صوف وشعر ووبر : قال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء} 1، وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} 2 فهذه نعمة جليلة أن نتخذ من جلود الأنعام بيوتًا خفيفة الحمل في الأسفار   1 سورة النحل آية 5. 2 سورة النحل آية 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وتضرب بسهولة لتقينا الحر والقر، وكذلك أن نتخذ من صوف الغنم وشعر المعز ووبر الإبل الأثاث والمتاع والثياب والبسط والحبال وغيرها من الأمتعة, كآنية الماء واللبن المتخذة من الجلود وكثير من الصناعات لا تقوم إلا على جلود الأنعام وما فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 د- نعمة اللبن : قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنَ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} 1 وقال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُون} 3. اللبن نعمة لا توصف على هذه البشرية؛ لأن مصالح العباد كلهم قائمة عليه في معظم وجباتهم الغذائية وخاصة الصغار، وهذا اللبن يخرج من بطون الأنعام من بين الفرث والدم خالصًا بياضه وطعمه وحلاوته، فانظر كيف يكون الطعام في المعدة، فإذا نضج ذهب أقسامًا للدم والعظم واللحم, وقسم يصير لبنًا والباقي فضلات من روث وبول، ولا يمتزج قسم بآخر ولا يتغير به فيخرج اللبن خالصًا سائغًا للشاربين لا يغص به أحد.   1 سورة النحل آية 66. 2 سورة المؤمنون آية 21. 3 سورة يس آية 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 هـ- نعمة اللحم : قال تعالى: {وَمِنْهَا تَأْكُلُون} 1، وقال تعالى: {وَمِنْهَا يَأْكُلُون} 2 هذه النعمة   1 سورة المؤمنون آية 21. 2 سورة يس آية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 خاتمة النعم في الأنعام، فرغم تعدد منافع الأنعام في حياتهم فهي كذلك يؤكل لحمها وهو أعلى أنواع الأطعمة، وعليه اعتماد كبير في حياة الناس، بل إن شعوبًا كثيرة تعيش على الرعي والتجارة بالأنعام اللاحمة. ومما سبق يتبين لنا أن هذه النعم الكثيرة في الأنعام تستحق الشكر لله والاعتراف بوحدانيته وإفراده بالعبادة وإخلاص الطاعة له، وهذا هو المقصود الأعظم من التركيز بهذه النعم الجليلة، لذلك نجد في الآيات دعوة لشكر الله وعدم اتباع خطوات الشيطان, يقول تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 1. والحمل: كل ما يحمل عليه كالإبل والخيل والبغال والحمير، والفرش تطلق على الغنم لدنوه من الأرض, وقد تطلق على كل ما يؤكل ويحلب2 - إن الله يدعونا للاستفادة من هذه الأنعام وعدم اتباع خطوات الشيطان الآمر بالجحود وكفر النعمة والشرك بالله. وكذلك بعد ذكر نعمة الأنعام في سورة النحل يقول تعالى: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُون} 3 ويقول تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} 4، فمقابل هذه النعم يجب على العباد الإسلام لله وحده والدخول في دينه وعبادته وحده لا شريك له، وذم الله الذين يكفرون بعد تعريفهم نعمه. وكذلك يقول تعالى بعد ذكره نعمة الأنعام في سورة الزخرف: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} 5، أي قابلوا هذه النعم بالكفر لها وجحودها   1 سورة الأنعام آية 142. 2 انظر تفسير الطبري 8/62 وتفسير ابن كثير 2/182. 3 سورة النحل آية 81. 4 سورة النحل آية 83. 5 سورة الزخرف آية 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ونسبة الولد إلى الله, وكان الواجب عليهم تجاه هذه النعم أن يشكروا الله ويوحدوه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. يقول الطبري في تفسيره لقوله تعالى في سورة النحل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُون} 1: "وإن الله جل ثناوءه إنما عرف عباده بهذه الآية وسائر ما في أوائل هذه السورة نعمته عليهم ونبههم به على حججه عليهم وأدلته على وحدانيته وخطأ فعل من يشرك به من أهل الشرك"2. وقال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى في سورة يس بعد ذكر نعمة الأنعام: {أَفَلا يَشْكُرُون} 3، قال: "أفلا يوحدون خالق ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره"4. وقد بسط ابن القيم رحمه الله الكلام على نعمة الأنعام في مفتاح دار السعادة تركنا ذكره اختصارًا فليرجع إليه ج 1/234-251.   1 سورة النحل آية 83. 2 تفسير الطبري 14/81 وانظر كذلك 8/81 و14/131 وص153 و18/15. 3 سورة يس آية 73. 4 تفسير ابن كثير 3/580 وانظر كذلك 2/562 وص580 و4/89 وص123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 6- نعمة السمع والبصر : يقول تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنَ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1، ويقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} 2، ويقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} 3. إن السمع والبصر نعمتان عظيمتان من الله على عباده, إذ إن جميع المصالح في الدين والدنيا مبنية عليها، ولذلك يمتن الله على عباده بهاتين النعمتين في كثير من الآيات مبينًا أنه تعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا ثم رزقنا وسائل العلم المعتمد عليها، وهي السمع الذي نسمع به الأصوات والبصر الذي نرى به المرئيات. وهذا السمع والبصر إن تعطل عن العمل بأمر الله فلن يستطيع أحد رده لصاحبه, وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمعاندين المكذبين: أرأيتم إن سلبكم الله سمعكم وأبصاركم فهل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم؟ فانظر يا محمد كيف نبين الآيات ونوضحها دالة على أنه لا إله إلا الله, وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال, ثم هم مع هذا البيان يعرضون عن الهدى والتوحيد ويتمسكون بالضلال والشرك.   1 سورة النحل آية 78. 2 سورة المؤمنون آية 78 وانظر سورة السجدة آية 9 وسورة الملك آية 23. 3 سورة الأنعام آية 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وقد بين تعالى أن التذكير بهاتين النعمتين يوجب الشكر وأن شكرنا قليل عليهما, ولا يتم شكر الإنسان إلا بتوحيده لله وعبادته وإخلاص الطاعة له، يقول الطبري في تفسيره لقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} : "فعلنا ذلك بكم فاشكروا الله على ما أنعم به عليكم دون الآلهة والأنداد, فجعلتم له شركاء في الشكر ولم يكن له فيما أنعم به عليكم من نعمةٍ شريك"1.   1 تفسير الطبري 14/152 وانظر 7/196 وانظر تفسير ابن كثير 2/133 و2/579 و3/252 وص457 و4/399 وانظر مفتاح دار السعادة 1/189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 7- نعمة الأمن يقول تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 1، ويقول تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3، ويقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} 3، ويقول تعالى: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ, إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ, فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ, الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} 4 إن من نعم الله الجليلة على أهل مكة نعمة الأمن التي خصهم الله بها ونبههم سبحانه وتعالى بها إلى وجوب عبادته وتوحيده وشكره على هذه النعمة؛ لأنه وحده هو الذي حرّم مكة فصارت بلدًا حرامًا بتحريمه إياها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض, فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, لا يعضد شوكه, ولا ينفر صيده, ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها, ولا يختلى خلاها" 5 فالله إذن رب هذه البلدة الحرام ورب كل شيء ومليكه, يستحق أن يفرد بالعبادة والإخلاص له تجاه هذه النعمة.   1 سورة النمل آية 91. 2 سورة القصص آية 57. 3 سورة العنكبوت آية 67. 4 سورة قريش. 5 رواه البخاري في الحج 42 وفي الصيد 8 وفي اللقطة 7 ورواه مسلم في الحج باب 82 حديث رقم 445. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قال الطبري: "وإنما قال جل ثناؤه {رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} فخصها بالذكر دون سائر البلدان وهو رب البلاد كلها؛ لأنه أراد تعريف المشركين من قوم رسوله الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أهل مكة بذلك نعمته عليهم وإحسانه إليهم, وأن الذي ينبغي أن يعبدوه هو الذي حرم بلدهم فمنع الناس منهم وهم في سائر البلاد يأكل بعضهم بعضًا ويقتل بعضهم بعضًا, لا مَن لم تجر له عليهم نعمة ولا يقدر لهم على نفع ولا ضر"1. وأما السبب الذي تعلل به المشركون لعدم الإيمان فهو خوفهم من حولهم من الأمم, فبدل أن يشكروا الله ويوحدوه كفروا وقالوا: "إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" فخشي بعض المشركين إن اتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الهدى والتوحيد أن يقصدهم من حولهم من أحياء العرب بالأذى والمحاربة ويتخطفوهم، والله تعالى قد حرم مكة على الناس أن يدخلوها بغارة وحرب، فكان أهلها في أمن والناس من حولهم في قتل وسبي، فكان موقفهم من هذه النعمة أن آمنوا بالشرك وعبدوا الأصنام وكفروا بالله وخافوا أن يذهب توحيدهم لله بأمنهم واستقرارهم، فأجابهم القرآن بأن هذا الاعتذار باطل؛ لأن الله جعلهم آمنين به من كفرهم فمن باب أولى أن يكونوا كذلك في حال إيمانهم. عن قتادة قال: "كان أهل الحرم آمنين يذهبون حيث شاءوا وإذا خرج أحدهم فقال: "إني من أهل الحرم، لم يتعرض له وكان غيرهم من الناس إذا خرج أحدهم قتل"2. ويقول الطبري في تفسيره لقوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} : أو لم ير هؤلاء المشركون من قريش ما خصصناهم به من نعمتنا عليهم دون سائر   1 تفسير الطبري 20/25 وانظر تفسير ابن كثير 3/378. 2 تفسير الطبري 20/94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 عبادنا فيشكرونا على ذلك وينزجروا عن كفرهم بنا وإشراكهم ما لا ينفعهم ولا يضرهم في عبادتنا"1. ويقول ابن كثير في تفسيره لنفس الآية: "أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد وبدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله, فكان اللائق بهم إخلاص العبادة وأن لا يشركوا به, وتصديق الرسول وتعظيمه وتوقيره, فكذبوه وقاتلوه فأخرجوه من بين أظهرهم"2. وكذلك امتن الله على أهل مكة بإهلاك أصحاب الفيل وتسييره لهم رحلتي الشتاء والصيف طالبًا منهم عبادتهم وحده لا شريك له: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ, الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} 3. ويقو ابن كثير: "وآمنهم من خوف أي تفضل عليهم بالأمن والرخص فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له, ولا يعبدون من دونه صنمًا ولا ندًّا ولا وثنًا"4.   1 تفسير الطبري 21/14. 2 تفسير ابن كثير 3/421. 3 تفسير الطبري 30/306. 4 تفسير ابن كثير 4/553. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الفصل الخامس: تقرير القرآن للتوحيد بالأدلة العقلية تمهيد : خلق الله الإنسان وركب فيه العقل، وأمره أن يستخدم هذا العقل في طاعة الله تعالى وأن يفكر في مخلوقاته. وقد نبه القرآن الكريم إلى أهمية العقل في آيات كثيرة، وكان يصف الكفار بأنهم لا يعقلون ولا يفقهون، وكان ينبه إلى أن آياته لا يستفيد منها إلا أولو النهى والألباب وهي العقول السليمة. ولا أعني بهذا الفصل ما عناه المعتزلة من إسناد كل شيء إلى العقل حتى جعلوا العقل حاكمًا على الشرع مقدمًا عليه وقالوا بالتحسين والتقبيح العقليين، بل جعلوا التوحيد والثواب عليه والعقاب على تركه ثابت بالعقل1. كما أنني لا أعني بهذا الفصل ما عناه أرباب الكلام من الإتيان بالمسائل المعقدة من الفلسفة اليونانية، لأن القرآن منزه عن مثل ما وصلت إليه الفلسفة اليونانية من الطرق الجدلية العقيمة والسفسطة الذميمة. وإنما عنيت بهذا الفصل إبراز الأدلة السمعية التي نبهت العقل وأيقظته بكل بساطة ووضوح وبعد عن الجدل العقيم، والتي سلكت بالعقل أقرب الطرق وأيسرها لبيان حقيقة وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة لا شريك له.   1 انظر مدارج السالكين 3/488. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وأما من تنكر للعقل وأهمله وجعل دلالة القرآن سمعية خبرية لم ينبه فيها على الأدلة العقلية، فهو مخطئ كذلك أشد الخطأ, وفي هذا موافقة للمتهجمين على أدلة القرآن من الفلاسفة الذين يقولون بأنها أدلة تعرف بالخبر المجرد دون استناد إلى العقل الصحيح, فليس في القرآن أدلة عقلية على رأيه لأنه يقدح في الدلائل العقلية مطلقًا معتبرًا أنها هي الكلام المبتدع الذي أحدثه المتكلمون وأن القرآن إنما يدل على الخبر فقط. والسبب الذي أوقع هؤلاء في هذا الفهم ظنهم أن كون الدليل شرعيًّا يقابل بكونه عقليًّا، وهذا خطأ واضح، فالدليل الشرعي يقابله البدعي، والدليل الشرعي قد يكون سمعيًّا وقد يكون عقليًّا1. وكل دليل سمعي جاء في القرآن فإنما يكون تدبره وفهمه والتفكير فيه بالعقل، فالأدلة الكونية مثلًا هي أدلة سمعية ولكن النظر في السماوات ونجومها والأرض وجبالها والتنظيم الدقيق بين أجزاء الكون لا يكون إلا بالعقل. وكذلك الأمثال المضروبة في القرآن هي أدلة سمعية, وللعقل دور كبير في ترتيب المقدمات والنتائج والاتعاظ بما جرى للأقوام السابقين والنظر في آثارهم الباقية. وكذلك عندما يذكّر القرآن في آياته بنعم الله على الإنسان ووجوب شكر المنعم وتوحيده وعبادته، فهي آيات سمعية, لكن بغير العقل لا نستطيع التفكير في عظمة هذه النعم وكثرتها، والعقل مقر بأن الإنسان لم ينعم على نفسه بهذه النعم؛ لأنه يفرق بين المنعم والمنعم عليه.   1 انظر موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/116-117 والفتاوى 3/296 و14/137 والنبوات ص48 وانظر مدارج السالكين 3/488-492. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وبهذا يتبين أن أدلة القرآن كلها سمعية عقلية، سمعية: لورودها في القرآن, وعقلية: لأن للعقل قدرة على التفكير فيها والنظر والاعتبار إذا سلك المسلك الصحيح لانتفاء الفرق بين نتيجة العقل الصريح والمنقول الصحيح. وقد أفردت هذا الفصل للأدلة العقلية في القرآن لا لأن الفصول التي تقدمت في هذا الباب ليست عقلية، إنما لأذكر في هذا الفصل كل دليل على وحدانية الله لم يدخل تحت فصل من الفصول السابقة. والكلام على هذا الفصل في مبحثين: المبحث الأول: الكلام على الأدلة العقلية المتعلقة بالله وهي خمسة أدلة: 1- دليل الخلق والملك. 2- دليل عدم فساد الكون. 3- دليل نفي الولد عن الله. 4- دليل الرزق. 5- دليل النوائب. والمبحث الثاني: الكلام على الأدلة العقلية المتعلقة بالأصنام وهما دليلان: 1- دليل النقص. 2- دليل العجز. وفيما يلي التفصيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 المبحث الأول: الكلام على الأدلة العقلية المتعلقة بالله 1- دليل الخلق والملك : وفيه نقطتان: أ- خلق جميع المخلوقات وملكها. ب- خلق الإنسان. أ- خلق جميع المخلوقات وملكها: قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ, بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ, ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 2، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3، وقال تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 4، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 5، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} 6، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا   1 سورة الأنعام آية 1. 2 سورة الأنعام آية 100-102. 3 سورة الأعراف آية 191. 4 سورة الرعد آية 16. 5 سورة النحل آية 17. 6 سورة الأنبياء آية 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ} 1، وقال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً, وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 2، وقال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 3، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 6. هذا الدليل الذي ذكر في هذه الآيات يسمى دليل الخلق والملك، وقد جمعت بين كلمتي الخلق والملك؛ لأن الملك لازم للخلق والإيجاد، وكثيرًا ما يرد في آيات القرآن الإشارة إلى أن الله هو الخالق المالك بنفس الآية. وهذا الدليل مفاده أن كل شيء مخلوق لله مملوك له، وهذه الأصنام لم تخلق شيئًا ولا تملكه، فلا تصح إذن عبادتها من دون الله؛ لأن الخالق المالك هو الذي يجب أن يفرد بالعبادة، وقد وردت آيات كثيرة منها الآيات السابقة، تثبت هذا الدليل. ونجد في الآية الأولى من سورة الأنعام إشارة إلى أن الحمد الكامل لله وحده   1 سورة الحج آية 73. 2 سورة الفرقان آية 2-3. 3 سورة لقمان آية 11. 4 سورة سبأ آية 22-23. 5 سورة الأحقاف آية 4. 6 سورة فاطر آية 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، ومع هذا عدل به الكفار غيره من الأصنام والأنداد التي لم تخلق شيئًا وعبدوها، والله وحده المستحق للعبادة لأنه الخالق، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى في الآية التي بعدها: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} 1، يقول الطبري: "أيها الجاهلون، إنه لا شيء له الألوهية والعبادة إلا الذي خلق كل شيء وهو بكل شيء عليم, فإنه لا ينبغي أن تكون عبادتكم وعبادة جميع من في السموات والأرض إلا له خالصة بغير شريك تشركونه فيها فإنه خالق كل شيء وبارئه وصانعه, وحق على المصنوع أن يفرد صانعه بالعبادة فاعبدوه"2. وفي آية سورة الرعد جاءت الهمزة للإنكار, والمعنى: أنهم لم يتخذوا الشركاء لكونهم خالقين فتشابه خلقهم وخلق الله، فاستحق هؤلاء الشركاء العبادة لذلك، ولكنهم اتخذوا لله شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلًا عن أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق، والله خالق كل شيء بلا شريك، فلا يستقيم أن يكون له شريك في العبادة والألوهية كما لا شريك له في الخلق والربوبية، وفي قوله تعالى: {خَلَقُوا كَخَلْقِه} في سياق الإنكار تهكم بهم؛ لأن غير الله تعالى لا يخلق خلقًا البتة لا بطريق المشابهة والمساواة لله -تقدس الله عن ذلك- ولا بطريق الانحطاط والقصور، ويكفي للإنكار عليهم أن آلهتهم لا تخلق مطلقًا ولكن جاء في قوله تعالى: {كَخَلْقِهِ} تهكم يزيد الإنكار تأكيدًا3. وفي آية سورة الحج بين تعالى أن آلهتهم لو اجتمعت ما خلقت ذبابًا صغيرًا، وفي هذا تجهيل عظيم لهم بعبادتهم من هذه صفته وتركهم عبادة خالقهم4.   1 سورة الأنعام آية 102. 2 تفسير الطبري 7/299. 3 انظر حاشية الكشاف 2/355. 4 انظر تفسير الطبري 17/202 والكشاف 3/22 والبحر المحيط 6/390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ولذلك كان في آيتي سورة الفرقان تقريع شديد لمشركي العرب بعبادتهم الأصنام وتنبيه لهم على ضلالهم لاتخاذهم آلهة لا تخلق شيئًا وهي مخلوقة، ولا تملك نفعًا ولا ضرًّا لأحد، كما أنها لا تملك إماتة أحد وإحيائه وبعثه، وتركوا عبادة مالِكِ ذلك كله وخالق الخلق أجمعين والسماوات والأرض وما فيهن، فأي شيء خلقت الأصنام حتى عبدوها من دون الله؟ إن المستحق للعبادة يكون مالكًا للسماوات والأرض أو شريكًا لمالكهما أو معينًا له، وقد نفت آيتا سورة سبأ هذه المراتب عن آلهتهم؛ لأنها لا تملك ذرة في السموات والأرض وليست شريكة لله في ملكه ولا هي معينة للمالك, فلماذا يعبدونها إذن وهذه الصفات منتفية عنها؟ أم أنهم يعبدونها لزعمهم أنها شفعاء عند الله؟ فليعلموا أن الله لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والله لن يأذن لأحد مهما كان مقربًا أن يشفع للمشرك الكافر فضلًا عن أن تشفع عنده هذه الأصنام, فأي حجة لكم إذن في عبادتهم؟ أم عندكم كتاب من قبل هذا القرآن أو بقية من علم صحيح يبين أن آلهتكم خالقة أو شريكة للخالق في الخلق والملك حتى عبدتموها؟ إن الهتكم أيها المشركون لم تخلق شيئًا ولا تملك ذرة في السموات والأرض ولا قشرة نواة، وليس لكم حجة على عبادتها فاعبدوا الخالق المالك لا المخلوق المملوك إن كانت لكم عقول تعقلون بها1. وهذا الخلق كله حجة عليكم وشاهد بوحدانية الله الذي لم يخلقه عبثًا ولعبًا {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} 2، يقول الطبري في تفسيره لهذه الآية: {وَمَا خَلَقْنَا} ..... الآية: "إلا حجة عليكم أيها الناس ولتعتبروا بذلك كله فتعلموا أن الذي دبره وخلقه لا يشبهه شيء وأنه لا تكون الألوهة إلا له ولا تصلح العبادة لشيء غيره ولم يخلق ذلك عبثًا"3.   1 انظر تفسير الطبري 11/115 و14/92 و18/181 و21/66 و22/89 وص 124 و26/2 وتفسير الكشاف 3/287 وص 311 والرد على المنطقيين ص529. 2 سورة الأنبياء آية 16. 3 تفسير الطبري 17/9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وقد استعمل إبراهيم عليه السلام هذا الدليل -دليل الخلق- في مناظرته لقومه لما يعلم من تأثير هذا الدليل في تنبيه الغافلين عن الحق المعطلين للفطرة، قال تعالى عنه: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 1. مما تقدم من الآيات يتبين لنا استعمال القرآن لدليل الخلق والملك بشكل واضح في مواضع شتى من سوره، وقد كثر ورود هذا الدليل لارتباطه بحقيقة لا ينكرها المشركون, وهي حقيقة اعترافهم بتوحيد الربوبية وانفراد الله بالخلق والملك والتصرف كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 2. وقوله: {قُلْ لِمَنَ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 3، وآيات غيرهما كثيرة تبين اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية، وهذا يستلزم توحيد الألوهية لأن المتفرد بالخلق والملك والتصرف هو المستحق لأن يفرد بالعبادة بلا شريك، لكنهم لما أنكروا توحيد الألوهية، كان إقرارهم بتوحيد الربوبية باطلًا، وكان من سلك منهم هذا المسلك موصوفًا بأنه لا يعقل وإقراره حجة عليه. هذا من جهة إقرارهم لله بخلق السماوات والأرض وملكهما وما فيهما. وأما من جهة آلهتهم فهم لم يزعموا قط أن لهما خلقًا وملكًا لأدنى شيء فكان مقتضى ذلك أن لا يصفوها بالألوهية واستحقاق العبادة, لكن الذي حصل منهم العكس, مع اعترافهم بعجزها عن الخلق والملك، لذلك وصفوا في القرآن بأنهم لا يعقلون؛ لأن العقل السليم لا يقر شركهم بالله وعبادتهم ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون4.   1 سورة الأنبياء آية 56. 2 سورة الزخرف آية 9. 3 سورة المؤمنون آية 84-85. 4 انظر تفسير الكشاف 3/211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ب- دليل خلق الإنسان قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} 1، وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، وقال تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 3، وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} 4، وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} 5، وقال تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} 6، وقال تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ, يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 7، وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ, ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ, ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 8، وقال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُم} 9، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَك} 10. إن خلق الإنسان وتركيبه من الأدلة القاطعة على وحدانية الله الخالق, وقد أتعب المتكلمون أنفسهم وهم يستدلون بخلق الإنسان على وجود الله وتفرده بالخلق، والمشركون لم يكونوا ينكرون أنهم مخلوقون لخالق ومربوبون لرب، ولكنهم كانوا ينكرون استحقاق هذا الرب الخالق لأن يفرد بالإلهية والعبادة.   1 سورة الأنعام 98. 2 سروة آل عمران آية 59. 3 سورة ص آية 76. 4 سورة الصافات آية 11. 5 سورة الحجر آية 26. 6 سورة الرحمن آية 14. 7 سورة الطارق آية 6-7. 8 سورة المؤمنون آية 12-14. 9 سورة الإنسان آية 28. 10 سورة الانفطار آية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 والآيات الكثيرة التي نبهت إلى خلق الإنسان لم تأتِ قط لإقناع المشركين بوجود الرب الخالق وتوحيده في ربوبيته، لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1، إنما جاءت الآيات القرآنية المنبهة إلى خلق الإنسان لدعوة المشركين إلى توحيد الألوهية والعبادة عن طريق إيمانهم بتوحيد الربوبية، وبهذا يظهر خطأ المتكلمين الواضح في استدلالهم بهذه الآيات على أمر يقر به المشركون أنفسهم. وفي خلق الإنسان والمراحل التي مرت بها طينة آدم والمراحل التي يمر بها الإنسان في بطن أمه أكبر شاهد بوحدانية الله، وتبين الآيات السابقة أن آدم أصله من التراب الذي صار طينًا لازبًا ثم حمأً مسنونًا ثم من صلصال كالفخار ثم نفخ فيه الروح، ومن هذه النفس الواحدة تناسلت الذرية من ماء مهين يستقر في الأرحام فيصير علقة ثم مضغة ثم ينفخ فيه الروح ويخلق العظام وتكسى باللحم وتشد مفاصله حتى يكون إنسانًا سويًّا معتدلًا في أحسن تقويم، أليس هذا الفعل من بدايته إلى نهايته وتمامه وكماله يدل على وحدانية الإله المعبود؟ فلو كان يدبر أمر النطفة أكثر من إله لفسدت, لجواز أن يريد إله خلق إنسان منها وأن يريد الآخر عكسه، ولذلك امتن الله على خلقه بهذا الحفظ والعناية والتدبير للنطف في بطون الأمهات داعيًا عباده به للإيمان بألوهيته, فقال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 2. ففي خلق الإنسان وتنقله في بطن أمه من طور إلى طور في ظلمات البطن والرحم والمشيمة، دلالة على وحدانية الله تعالى المستحق للعبادة، لذلك قال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي هذا فعل الله الواحد لا فعل آلهتكم فكيف تصرفون عن عبادة إلهكم إلى عبادة أوثانكم؟   1 سورة الزخرف آية 87. 2 سورة الزمر آية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قال الطبري: "قد بينا الحجج وميزنا الأدلة والأعلام وأحكمناها لقوم يفقهون مواقع الحجج ومواضع العبر ويفهمون الآيات والذكر، فإنهم إذا اعتبروا بما نبهتهم عليه من إنشائي من نفس واحدة ما عاينوا من البشر, وخلقي ما خلقت منها من عجائب الألوان والصور, علموا أن ذلك من فعل من ليس له مثل ولا شريك فيشركوه في عبادتهم إياه"1. ويقول ابن كثير: "أي الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له فأنى تصرفون أي فكيف تعبدون معه غيره؟ أين يذهب بعقولكم؟ "2. والآيات القرآنية المشيرة لخلق الإنسان ودلالته على وحدانية الله كثيرًا جدًّا فمن ذلك قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} 3، والمعنى أن الله تعالى خلق الإنسان من نطفة ضعيفة حتى إذا نما وكبر عبد غير خالقه وأخذ يخاصم في وحدانية الله, يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب رسله, وهو إنما خلق ليكون من عبدًا لا ضدًّا"4. وهذا صاحب صاحب الجنتين يقول له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً, لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} 5، فاستدل له بخلق أبيه آدم من تراب ثم خلقه هو من نطفة على وحدانية الله، وأخبره أنه يقول بوحدانية الله {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} , يقول ابن كثير: "أي لكن أنا لا أقول مقالتك بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدا} أي بل هو الله وحده لا شريك له"6.   1 تفسير الطبري 7/291 وانظر تفسير ابن كثير 2/159. 2 تفسير ابن كثير 4/46 وانظر تفسير الطبري 23/129. 3 سورة النحل آية 4. 4 تفسير ابن كثير 2/561، وانظر تفسير الطبري 14/78. 5 سورة الكهف آية 37-38. 6 تفسير ابن كثير 3/84 وانظر تفسير الطبري 5/247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وهذا الرجل المؤمن بالله الذي صدق رسل عيسى جاء من أقصى المدينة يركض ليدعو قومه أن يتبعوا المرسلين بما جاءوا به من التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، مستدلًا بخلقه على استحقاق خالقه لأن يفرد بالألوهية والعبادة وأن آلهتهم لا تستحق العبادة، قال تعالى عنه: {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1 2. والآيات المنبهة لخلق الإنسان نفسه كثيرة كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} 3، وقوله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} 4، وقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِق} 5؛ لأن أقرب شيء إلى الإنسان نفسه, ولو فكر الكافر بأحوال نفسه وعجائبها وتنقله في بطن أمه أطوارًا وخروجه من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، وأكله وشربه ونموه وحركات مفاصلة لأوقعه ذلك على عظيم خطئه وشركه بعبادته غير الله تعالى. وقد وردت مسألة خلق الإنسان بدليل آخر يأخذ بالألباب في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ, أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} 6؛ لأن البشر لم يخرجوا عن أحد احتمالات ثلاثة:- أ- إما أن يكونوا مخلوقين من غير خالق أي وجدوا بطريق الصدفة. ب- وإما أن يكونوا خلقوا السماوات والأرض وخلقوا أنفسهم. ج- وإما أن يكونوا مخلوقين لخالق واحد.   1 سورة يس آية 22. 2 انظر تفسير ابن كثير 3/322 وص 568. 3 سورة فصلت آية 53. 4 سورة الذاريات آية 21. 5 سورة الطارق آية 5. 6 سورة الطور آية 35-36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 والاحتمال الأول: وهو كونهم غير مخلوقين لخالق, احتمال باطل كما مر معنا في فصل الأدلة الكونية حيث بينا بطلان شبهة أن يكون الخلق جاء بطريق الصدفة، لارتباط المسببات والنتائج بمقدماتها واستحالة صدور أثر بلا مؤثر وفعل بلا فاعل وخلق بلا خالق وتنظيم بلا منظم. والصدفة لا ينبثق عنها هذا التركيب العجيب في جسم الإنسان ولا هذا التأليف العجيب بين الذكر والأنثى لاستمرار النوع الإنساني. وأما الاحتمال الثاني: وهوأن يكونوا خلقوا أنفسهم، فهو أشد بطلانًا كما مر معنا في فصل الأدلة الكونية حيث بينا بطلان شبهة أن تكون الطبيعة هي الخالقة، لأن معنى ذلك أن كل شيء خلق نفسه وهذا مستحيل لأنه موجب اجتماع الضدين بنفس الوقت: الوجود والعدم، فيكونوا موجودين معدومين خالقين مخلوقين، وهم لم يزعموا قط أنهم خلقوا أنفسهم، فعجزهم عن خلق السموات والأرض أظهر وأبين لقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاس} 1 وقد نبه سبحانه وتعالى المشركين إلى حقيقة أنهم لم يخلقوا أنفسهم بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ, أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} 2 فلم يجيبوا بنعم لعلمهم عجزهم وقصورهم التام عن ذلك، ولتمنيهم أن تكون النطفة ذكرًا فلا يأتي، وكراهتهم الأنثى فتأتي بغير إرادتهم. وعليه فلم يبق إلا الاحتمال الثالث وهو كونهم مخلوقين لخالق واحد وهو الله رب العالمين، فيجب إذن إفراده بالألوهية وإخلاص العبادة له، ولذلك يقول في نهاية آيات سورة الطور: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3، فهذا إنكار   1 سورة غافر آية 57. 2 سورة الواقعة آية 58-59. 3 سورة الطور آية 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام من دون الله وهو خالقهم، بعد أن بين لهم بطلان كل احتمال يرد على الخاطر، ولم يبق إلا أنهم مخلوقون لخالق واحد متفرد بالألوهية، لذلك نزه سبحانه نفسه عما يفترون ويشركون معه في العبادة آلهتهم فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون} 1. وقد روى ابن كثير قصة جبير بن مطعم2 عندما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسرى وكان إذ ذاك مشركًا فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآيات كاد قلبه أن يطير كما يروي عن نفسه، فكان سماعه لهذه الآيات من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام ونبذ الشرك والأوثان3. وقد تكلم ابن القيم كلامًا موسعًا عن خلق الإنسان وعجائبه ودلالة ذلك على وحدانية الله تركنا ذكره اختصارًا4.   1 ,2انظر تفسير ابن كثير 4/244 "كتاب التفسير". 3 روي قصة جبير بن مطعم البخاري ومسلم/ انظر فتح الباري/ ج8 ص603 حديث رقم 4854 وانظر تفسير الطبري 27/33 والعقائد السلفية ص15. 4 انظر مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/187 - 196 وص 225- 282 وانظر كتاب التبيان ص33 وص 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 2- دليل عدم فساد الكون ينبه القرآن الكريم على أن دلائل وحدانية الله انتظام أمر الكون بما فيه لأنه لو كان يحكم هذا الكون أكثر من إله لم ينتظر أمره ولدخله الفساد والخلل يقول تعالى مبينًا هذه الحقيقة: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1، ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 2. إن الله سبحانه وتعالى ينبه عباده بهذين الموضعين من سورتي الأنبياء والمؤمنون على وحدانيته تعالى، إذ لو كان في السماوات والأرض آلهة تصلح لهم العبادة سوى الله تعالى الذي هو خالق الأشياء كلها لفسدت السماوات والأرض بما فيهما ولدخلهما الخلل، ففسادهم لازم لتولي أمرهما آلهة شتى، وبما أن أمرهم منتظم غاية الانتظام فدل ذلك عقلًا على أن الإله المتصرف فيهما المستحق للعبادة دون سواه إله واحد, وهذا يدل على أمرين اثنين: 1- وجوب أن لا يكون مدبر السموات والأرض إلا واحدًا. 2- وجوب أن لا يكون هذا المدبر الواحد إلا الله وحده, لقوله في سورة الأنبياء: {إِلاَّ اللَّه} . ولو أورد على هذا الكلام شبهة جواز أن يكون اثنان تتفق إرادتهما فلا يقع خلاف وفساد، وشبهة جواز نسبة الخلق إلى مدبرين اثنين لوجود المتضادات كالخير والشر والنور والظلمة، فإننا نجيب عن الشبهة الأولى: بأنه يستحيل وجود   1 سورة الأنبياء آية 22. 2 سورة المؤمنون آية 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 اثنين لا تنفك إرادة أحدهما عن إرادة الآخر ويكونان متكافئين في العلم والقدوة والإرادة والحكمة والتدبير على وجه لا تتقدم صفة أحدهما عن صفة الآخر. ونجيب عن الشبهة الثانية: بأن صدور الشيء وضده أدل على وحدانية الله وقدرته، بل قد نبه تعالى على ذلك في مواضع من كتابه كقوله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} 1 2. وقد اعتبر المتكلمون أن الآيتين السابقتين من سورة الأنبياء والمؤمنون تدلان على وحدانية الرب، وقد خالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية وكثير من المفسرين فاعتبروهما تدلان على وحدانية الإله؛ لأن دليل التمانع الذي يذكره المتكلمون للدلالة على وحدانية الرب يمنع وجود المفعول ولا يمنع فساده، والآيتان تدلان على امتناع الفساد لا على التمانع في الإيجاد، والسبب الذي جعل المتكلمين لا يفرقون بين التمانعين هو عدم تفريقهم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية3. يقول الطبري في تفسيره لقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَد} : "ما لله من ولد ولا كان معه في القديم ولا حين ابتدع الأشياء من تصلح عبادته ولو كان معه في القديم أو عند خلقه الأشياء من تصلح عبادته من إله إذًا لذهب ... إذًا لاعتزل كل إله منهم بما خلق من شيء فانفرد به ولتغالبوا فلعلا بعضهم وغلب القوي منهم الضعيف لأن القوي لا يرضى أن يعلوه ضعيف والضعيف لا يصلح أن يكون إلهًا فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها لمن عقل وتدبر.. {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون} يقول تعالى ذكره: تنزيها لله عما يصفه هؤلاء المشركون من أن له ولدًا وعما قالوه من أن له شريكًا أو أن معه في القدم إلهًا يعبد تبارك وتعالى"4.   1 سورة الرعد آية 4. 2 انظر مجموعة الرسائل المنيرية الرسالة الثالثة ص50. 3 انظر اقتضاء الصراط المستقيم ص461. 4 تفسير الطبري 18/49 وانظر تفسير ابن كثير 3/254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ويقول شارح الطحاوية: "وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره وهو أنه لو كان للعالم صانعان.. إلخ، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره ولم يقل أرباب. وأيضًا فإن هذا إنما هو بعد وجودهما وأنه لو كان فيهما وهما موجدتان آلهة سواه لفسدتا. وأيضًا فإنه قال: {لَفَسَدَتَا} وهذا فساد بعد الرجوع ولم يقل لم يوجدا ودلت على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحدًا, وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره. فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله, فإن قيامه إنما هو بالعدل وبه قامت السموات والأرض, وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك وأعدل العدل التوحيد1" انتهى بلفظه. وقد ألحق بعض المتكلمين بهاتين الآيتين قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} 2، ظانين أن معناها نفس معنى قوله تعالى: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض} وقوله: {لَفَسَدَتَا} ، وقد فسرها الزمخشري بقوله: "لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلًا بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 3.   1 شرح الطحاوية ص33. 2 سورة الإسراء آية 42. 3 تفسير الكشاف 2/451. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وأما الرازي فذكر في تفسيرها وجهين، أحدهما قول الزمخشري والثاني قول ابن جرير ومعناه: "لاتخذوا سبيلًا بالتقرب إليه وهي كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} 1، ورجح الرازي هذا الأخير لقول السلف به2. وقد تكلم ابن القيم رحمه الله على الآيتين السابقتين مبينًا قطعيتهما على وحدانية الإله المعبود، ويقول في نهاية كلامه: "وإنه لو كان في السماوات والأرض إله غير الله لفسد أمرهما واختل نظامهما وتعطلت مصالحهما.. فهذان برهانان يعجز الأولون والآخرون أن يقدحوا فيهما بقدح صحيح أو يأتوا بأحسن منهما ولا يعترض عليهما إلا من لم يفهم المراد منهم"3 انتهى باختصار.   1 سورة المزمل آية 19 وسورة الإنسان آية 29. 2 انظر تفسير الطبري 15/91 وتفسير ابن كثير 3/41 وشرح الطحاوية ص33. 3 مفتاح دار السعادة 1/206 وانظر ص 274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 3- دليل نفي الولد عن الله تعالى وهذا الدليل تحته فرعان: أ- نفي الولد عن الله نفيًا عامًّا، ومحله الآيات الدالة على أن الله تعالى خالق كل شيء ومالكه. ب- نفي البنت ومحله الآيات الدالة على أن الله تعالى له المثل الأعلى. أ- الفرع الأول: نفي الولد عن الله نفيًا عامًّا نفى القرآن الكريم ما ينسبه المشركون لله من اتخاذه الولد عن طريق دليل الخلق والملك، وهو أن الله سبحانه غني عن الولد؛ لأنه هو وحده خالق السموات والأرض، وهما مملوكتان لله، ومن كان هذا خلقه وملكه كان مستغنيًا عن الولد لأنه ليس بحاجة إليه. يقول تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ, بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1، ويقول تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} 1، ويقول تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} 2، ويقول تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. من هذه الآيات نرى أن الله سبحانه وتعالى ينفي عن نفسه اتخاذ الولد بدليل أنه خالق السموات والأرض -أي مبدعهما ومحدثهما على غير مثال سابق وهما   1 سورة البقرة آية 116- 117. 2 سورة النساء آية 171. 3 سورة يونس آية 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 تشهدان له بالوحدانية، وفي هذا تنبيه لعباده أن مما يشهد له بذلك: المسيح الذي زعموا بنوته لله، وأن الذي ابتدع السموات والأرض على غير مثال: هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته. يقول الطبري: "لله ما في السموات والأرض من الأشياء كلها ملكًا وخلقًا وهو يرزقهم ويقوتهم ويدبرهم فكيف يكون المسيح ابن الله وهو في الأرض أو في السموات غير خارج من أن يكون في بعض هذه الأماكن، وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} يقول وحسب ما في السموات وما في الأرض بالله قيمًا ومدبرًا ورازقًا من الحاجة معه إلى غيره"1. ويترتب على كون الله تعالى خالقًا ومالكًا لكل ما في السموات والأرض نقطتان: ـ النقطة الأولى: أنه مادام أن كل شيء مخلوق لله ومملوك له إذن فكل ما في السموات والأرض عبيد الله, وعليه فإن كل من زعموهم أنهم أبناء الله -كالمسيح والعزير والملائكة- هم عبيد الله يدعون لعبادته ولا يستنكفون عنها، كما قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 2، وقال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً, إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 3، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ, لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 4. وكما أن المسيح والملائكة عبيد الله، فكل شيء مخلوق فهو عبد الله حتى   1 تفسير الطبري 6/37 وانظر 1/512، 11/140 وتفسير الكشاف 1/307. 2 سورة النساء آية 172. 3 سورة مريم آية 92-93. 4 سورة الأنبياء آية 26-27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 السموات والأرض والجبال، ولذلك تكاد السموات والأرض أن تتصدعا، وتكاد الجبال أن تتهدم من قول من زعم أن لله ولدًا، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا, لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا, تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا, أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} 1، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات: "أي يكاد يكون ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظامًا للرب وإجلالًا لأنهن مخلوقات ومؤسسات على توحيده وأنه لا إله إلا هو وأنه لا شريك له ولا نظير ولا ولد ولا صاحبة ولا كفء له, بل هو الله الأحد الصمد2. النقطة الثانية: أن ادعاء الولد لله كذب بهتان ليس لقائليه دليل لأنه ليس لله صاحبة سبحانه وتعالى عما يصفون. يقول تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ, قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} 3، ويقول تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا, مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} 4. ففي هذه الآيات نزه سبحانه وتعالى نفسه عما نسبه إليه المشركون من اتخاذ الولد، لأنه هو الغني عن خلقه جميعًا ولا حاجة به للولد؛ لأن الولد إنما يطلبه من كان ضعيفًا ليكون عونًا له في حياته، وذكرًا له بعد وفاته، والله تعالى غني عن ذلك فلا حاجة به لمعين يعينه على تدبيره، والله تعالى حي لا يموت فليس به   1 سورة مريم آية 88- 91. 2 تفسير ابن كثير 3/138 وانظر تفسير الطبري 6/37، 16/132 والكشاف 1/585. 3 سورة يونس آية 68-69. 4 سورة الكهف آية 4-5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 حاجة لخلف بعده، وعليه فمن نسب لله تعالى الولد فهو كاذب مفترٍ عليه، ليس عنده حجة على ذلك1. وهؤلاء الجن الذين آمنوا بينوا أن سفيههم -وهو إبليس- قال قولًا جائرًا وباطلًا بنسبة الولد إلى الله تعالى، ويحتمل أن يراد بقولهم: "سفيهنا" اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة وولدًا، وقد نفى الجن الولد عن الله بعد أن نفوا عنه الصاحبة؛ لأن الولد لا يكون إلا منها, والله ليس له صاحبة لأنها لو كانت لكانت من جنسه والله ليس كمثله شيء، وبناء عليه فليس له ولد2 كما قال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} 3، فكلامهم فيه نفي الصاحبة والولد عن الله وبيان أن ادعاء ذلك لله كذب وشطط من القول، قال تعالى عنهم: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً, وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} 4، يقول الطبري في تفسير هاتين الآيتين: "فقال النفر من الجن علا ملك ربنا وسلطانه ومقدرته وعظمته أن يكون ضعيفًا ضعف خلقه الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ الصاحبة أو وقاع شيء يكون منه ولد"5. ب- الفرع الثاني: نفي البنت عن الله: يعتمد هذا النفي على دليل المثل الأعلى، ومحله الآيات الدالة على أن الله تعالى له المثل الأعلى، والمعنى أن كل صفة كمال فالخالق أولى بالاتصاف بها، وكل صفة   1 انظر تفسير الطبري 11/140 و15/193 وتفسير ابن كثير 2/424 و3/71 والكشاف 2/244. 2 انظر تفسير الطبري 29/105 وتفسير ابن كثير 4/428 وتفسير الكشاف 2/41 و3/387. 3 سورة الإنعام آية 101. 4 سورة الجن آية 3-4. 5 تفسير الطبري 29/105 وانظر 16/131 و17/10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 نقص فالخالق أولى بالتنزه عنها، وقد كان العرب يكرهون نسبة البنات لأنفسهم ولكنهم لم يتورعوا عن نسبتهن إلى الله -بزعمهم أن الملائكة بنات الله- والخالق أولى بالتنزه عن البنات منهم. قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ, وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ, يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ, لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1، وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} 2، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ, أَمْ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ, وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ, أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ, وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ, وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ, أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ, بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 3، وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ, أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ, أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ, وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ, أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ, مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ, أَفَلا تَذَكَّرُونَ, أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ, فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ, وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ, سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 4،وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى, وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى, أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى, تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى, إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ   1 سورة النحل آية 57-60. 2 سورة النحل آية 62. 3 سورة الزخرف آية 15-22. 4 سورة الصافات آية 149-159. 5 اللات: صنم لأهل الطائف، والعزى: صنف لغطفان، ومناة: صنم لخزاعة وهذيل كما في تفسير الطبري 27/58 وتفسير ابن كثير 4/253 والكشاف 4/30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى, أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى, فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى, وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى, إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى, وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 1. في هذه الآيات يخبر تعالى أن المشركين زعموا أن الملائكة إناث وأنهم بنات الإله فعبدوهم معه، وقد ضلوا في ذلك حيث نسبوا أقل القسمين من الأولاد -وهو البنات- إلى الله وهم لا يرضونهن لأنفسهم، بل يتغير وجه أحدهم إذا بشر بولادة الأنثى له، ويحزن ويكره أن يراه الناس يفكر بدفنها حية، فكيف أنف هؤلاء المشركون من ذلك ونسبوه إلى الله والله تعالى له الكمال المطلق من كل وجه؟ إن الإذعان بأنه لا إله غيره وأنه منزه عن سمات الحدوث والتوالد2. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فبين سبحانه أن الرب الخالق أولى بأن ينزه عن الأمور الناقصة منكم فكيف تجعلون له ما تكرهون أن يكون لكم وتستحيون من إضافته إليكم مع أن ذلك واقع لا محالة ولا تنزهونه عن ذلك وتنفونه عنه وهو أحق بنفي المكروهات المنقصات منكم؟ "3. ولم يكتف المشركون بزعم بنوة الملائكة لله، بل عبدوا الملائكة زاعمين أن الله يرضى بهذه العبادة: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، وهذا قول في غاية الكفر والكذب، وجعلهم الملائكة إناثًا: كفر واستهانة بمخلوق كريم مقرب إلى الله،   1 سورة النجم آية 19-28. 2 انظر تفسير الطبري 14/123 و25/55 والبحر المحيط 5/503 وتفسير ابن كثير 2/572. 3 موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وزعمهم أن الملائكة بنات الله كفر، وفيه تمثيل لله بخلقه وتفضيل لأنفسهم على الله تعالى، وعبادتهم للملائكة من دون الله محتجين على ذلك بأن الله لو شاء لمنعهم من العبادة، فلما لم يمنعهم دل ذلك على رضاه بذلك -حسب زعمهم- هذه العبادة كذلك كفر وكذب، وكل واحدة من هذه الآراء الكافرة الكاذبة توجب الخلود في النار لصاحبها إذا مات وهو معتقد لها1. ويوجه الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يسألهم على سبيل الإنكار عليهم {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُون} ، ويقول تعالى منكرًا عليهم: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا} ، {أصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِين} {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى, تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} ، فيا أيها الجاعلون البناتِ لله ولكم الذكور، قسمتكم هذه ظالمة وجائرة، وناقصة غير تامة؛ لأنكم قسمتم لربكم من الولد ما تكرهون لأنفسكم وآثرتم أنفسكم بما ترضون، ثم كيف حكمتم بأنوثة الملائكة؟ هل أنتم شهدتم خلقهم؟ ستسألون يوم القيامة عن هذا الافتراء العظيم. ثم أي شيء حمله تعالى على أن يختار البنات على البنين؟ أليس لكم عقول تفكرون بها؟ أي حجة لكم على دعواكم؟ هاتوا برهانًا مستندًا لأي كتاب منزل من عند الله على صحة ما تقولون، إنكم لن تجدوا دليلًا على قولكم؛ لأن قولكم هذا لا يستند إلى شرع ولا عقل وليس عندكم علم صحيح على ما قلتم, وأقوالكم هذه كذب وافتراء وكفر شنيع، وكلها صادرة عن ظن ووهم لا عن حقيقة وعلم, وأنى للظن أن يغني من الحق شيئًا2.   1 انظر تفسير ابن كثير 4/22 وص135 والكشاف 3/154. 2 انظر تفسير الطبري 23/105 و27/60 وتفسير ابن كثير 4/23 وص255 وتفسير الكشاف 3/354. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 4- دليل الرزق : قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 2، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ, فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 4. إن مسألة الرزق من خصائص الربوبية، والمشركون كلهم معترفون بأن الرازق هو الله وأن أصنامهم لا تملك رزقًا، واعترافهم بتفرد الله بالرزق يوجب عليهم إفراده بالألوهية والعبادة. وفي آية سورة الأنعام يأمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول للذين يدعونه لعبادة آلهتهم: أغير الله خالق السموات والأرض والذي يرزقني ويرزق غيري ولا يرزقه أحد، أغير هذا الإله الرازق أتخذ وليًّا5. فنرى في هذه الآية أنه تعالى احتج على المشركين بكونه رازقًا، ونفس هذا   1 سورة الأنعام آية 14. 2 سورة فاطر آية 3. 3 سورة الروم آية 40. 4 سورة غافر آية 13-14. 5 انظر تفسير الطبري 7/159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الاحتجاج وارد بآية سورة فاطر، ولذلك نجد الآية مختومة بقوله تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُون} ، أي فكيف تصرفون عن توحيد الله وعبادته مع أنه ليس لكم رازق غير الله يرزقكم1. وأما في آية سورة الروم فدليل الرزق مجموع مع دليل الخلق؛ لأن الخلق والرزق من خصائص الربوبية، وبعد أن بينت الآية أن الله وحده هو الخالق الرازق جاء الدليل بشكل استفهام تقريعي لبيان قبح صنيع المشركين بعبادتهم غير الخالق الرازق {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} والجواب معروف لأنهم لم يزعموا قط أن آلهتهم ترزق أدنى شيء، وهنا تقوم الحجة عليهم إذ كيف يستحق العبادة من لا يرزق عباده؟ وتبين آية سورة غافر بأن الله يرينا حججه على وحدانيته ومنها إنزال أرزاقنا من السماء، ولكن لا يتذكر هذه الحجج ويعتبر بها إلا من يرجع إلى توحيد الله ويقبل على عبادته وحده، وأن علينا تجاه هذا الرزق أن نخلص الطاعة والعبادة لله وحده ولو كره ذلك الكافرون2. وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يعلن عداوته لآلهة قومه وبراءته منها؛ لأنها لا تستحق الألوهية مستدلًّا على ذلك بأنها لا تملك من خصائص الربوبية شيئًا التي منها الرزق، ومالك ذلك وحده: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ, أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ, فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ, الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ, وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} 3، ويصرح في موضع آخر بعدم استحقاق الآلهة للعبادة لأنها لا تملك رزقًا، والعاقل يترك عبادتها ويعبد من بيده رزقه فيقول تعالى عنه: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ, إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا   1 انظر تفسير الطبري 22/116. 2 انظر تفسير الطبري 24/49. 3 سورة الشعراء آية 75-79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1. ومما تقدم نرى أن هذا الدليل -دليل الرزق- يقوم على أساس اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية، وأن من أقر بوحدانية الرب الرازق أداه إقراره لتوحيد الله في ألوهيته وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وهذا المعنى وارد في سورة يونس بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ, فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 2. والآية الأولى منهما جمعت بين دليل الرزق والملك والخلق والتدبير مبينة إسناد المشركين هذه الأمور إلى الله فكان مقتضى هذا الإسناد أن يتقوا الله {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُون} قال الطبري: "أي أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم ربًّا غير من هذه الصفة صفته وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئًا"3. إذن يجب عليهم أن يتقوا الله؛ لأن هذا الرب المتفرد بكل خصائص الربوبية هو الله الحق وليس بعد الحق إلا الضلال، وليس غير الله إلهًا حقًّا يستحق الإفراد بالعبادة، فإذا كان هو الحق فادعاء المشركين ألوهية غيره ضلال وذهاب عن الحق4. وأما في سورة سبأ فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقينهم الجواب فقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ} 5، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: الله   1 سورة العنكبوت آية 16-17. 2 سورة يونس آية 31-32. 3 انظر تفسير الطبري 11/113. 4 انظر تفسير الطبري 11/113. 5 سورة سبأ آية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 يرزقكم؛ لأنهم يعرفون أن هذا هو الجواب الصحيح وليس عندهم جواب غيره, فتلقينهم الجواب بهذا الشكل فيه تقرير لهم على أنفسهم وإقامة للحجة عليهم، فلو كانوا يعقلون لعبدوا الرازق دون الأصنام. يقول الزمخشري: "ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: يرزقكم الله، وذلك للإشعار بأنهم مقرون بقلوبهم إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به؛ لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته، ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟ ألا ترى إلى قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} حتى قال: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} ثم قال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} فكأنهم كانوا يقرون بألسنتهم مرة، ومرة كانوا يتلعثمون عنادًا وإصرارًا وحذرًا من إلزام الحجة"1 انتهى بلفظه.   1 الكشاف 3/288 وانظر تفسير الطبري 22/93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 5- دليل النوائب : قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ, بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 1 وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ, قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} 2، وقال: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ, فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ..} 3 وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ, ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 4. فحوى هذا الدليل أنه إذا نزل بالمشركين كرب وبلاء في البر أو في البحر فسَرْعانَ ما يرجعون إلى الله ويدعونه لكشف هذا البلاء تاركين دعاء أصنامهم لاعترافهم بأنه لا يكشفه أحد غير الله، ثم إذا نجوا وسلموا من هذا البلاء عادوا لشركهم بالله وعبادتهم الأصنام التي نسوها عند البلاء. وهذا الأمر من المشركين يستدعي التعجب والاستنكار، لذلك جاء الكلام في آية سورة يونس مصروفًا عن الخطاب إلى الغيبة، قال الزمخشري: "فإن قلت ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت: المبالغة كأنه يذكر لغيرهم   1 سورة الأنعام آية 40-41. 2 سورة الأنعام آية 63-64. 3 سورة يونس آية 22-23. 4 سورة النحل 53-54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح"1. وأما في سورة الإسراء فيتخذ الدليل أسلوب التهديد المباشر حتى يوقظ فطرهم وينبه عقولهم، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً, أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً, أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} 2. ومعنى هذا التهديد أن يا أيها المشركون الذين لجأتم إلى الله في البحر، فنجاكم من مخاطره فعدتم للشرك به، هل أنتم آمنون من عذابه وانتقامه؟ إنه قادر على أن يخسف بكم الأرض أو يمطر عليكم حجارة من السماء وعندها لن تجدوا ناصرًا يرد ذلك عنكم، أم أنكم آمنون أن يعيدكم الله في البحر مرة ثانية فيغرق سفنكم بريح شديدة بسبب كفركم وعندها لن تجدوا من يأخذ بثأركم ويتبعنا بشيء من ذلك؟ 3. فانظر هذا البيان الإلهي لسفه عقول المشركين، حيث إنهم يلتجئون إلى الله الواحد عند كل كرب في البحر والبر لتيقنهم أن أصنامهم لا تملك دفع المكروه عنهم وأن الله وحده هو الكاشف للبلاء، ثم يصرفون على عبادتها وإشراكها مع الله في الألوهية. والعقل السليم لا يرضى بالتجاء صاحبه إلى إله في الشدة وإله آخر في الرخاء؛ لأن الإله المنجي من الكربات حقيق أن يكون إلهًا معبودًا وحده في الرخاء، كما في   1 تفسير الكشاف 2/231 وانظر شرح هذا الدليل في تفسير الطبري 7/191 وص 218 و11/93 وص100 و14/120 و23/199 وفي تفسير ابن كثير 2/132 وص 139 وص409 وص412 وص 572. 2 سورة الإسراء آية 67-69. 3 انظر تفسير الطبري 15/123 وتفسير ابن كثير 3/51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 قصة إسلام حصين, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عمران بن حصين: "كم تعبد اليوم إلهًا"؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: "فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك"؟ قال: الذي في السماء. رواه الترمذي1. وكذلك قصة رجل من كنانة جاء بإبله ليوقفها على صنم يقال له: "سعد" للتبرك، فلما أدناها منه نفرت وتفرقت في كل وجه، فرماه الرجل بحجر قائلًا: لا بارك الله فيك إلهًا أنفرت علي إبلي, ثم خرج في طلبها وهو ينشد: أتينا إلى سعدٍ ليجمع شملنا ... فشتتنا سعدٌ فلا نحن من سعدِ وهل سعدٌ إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يدعى لغي ولا رشد2 وهذا عكرمة بن أبي سفيان وجماعة من المشركين فروا من مكة يوم الفتح استكبارًا عن الإيمان، فركبوا سفينة لم تلبث أن لعبت بها العواصف وأخذتها الأمواج من كل جانب حتى كادت أن تغرق بمن فيها، فأخذ القوم كلهم يدعون الله ويتضرعون إليه فقال عكرمة: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله، فقال عكرمة: هذا إله محمد الذي يدعونا إليه وإنه إن لم ينجني في البحر غيره، فلن ينجيني في البر غيره، فاللهم رب محمد, إن لك على عهدًا إن عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدًا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوًّا كريمًا فسلِم ثم أسلم3. ويروى كذلك أن ملحدًا جاء إلى جعفر الصادق يسأله عن الله وكيف يجده؟ فقال للسائل: ألم تركب البحر؟ قال: بلى، قال: فهل هاجت بكم الريح عاصفة وكادت السفينة أن تغرق؟ قال: نعم، قال: فهل انقطع أملك من الملاحين ومن كل وسائل النجاة وانقدح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينقذ السفينة من الغرق إذا شاء؟ قال: نعم، قال: فذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له4.   1 مجموع الرسائل الكبرى ص320 وكتاب الأصنام للكلبي ص7. 2 انظر كتاب الأصنام للكلبي ص37. 3 انظر الإسلام في مواجهة الماديين والملحدين لعبد الكريم الخطيب ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 فهذه القصص تبين أن السلف الصالح كانوا يستدلون بهذا الدليل -دليل النوائب- على وحدانية الله تعالى، وأن هذا الدليل كان سببًا في إسلام بعض المشركين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 المبحث الثاني: الكلام على الأدلة العقلية المتعلقة بالأصنام 1- دليل النقص : وبيان هذا الدليل أن هذه الأصنام التي يعبدونها أنقص من عابديها, ويتضح ذلك بثلاث نقاط: أ- أن هذه الأصنام ميتة لا حياة فيها وأما عُبَّادها فهم أحياء. ب- أن هذه الأصنام لا تنطق وأما عبادها فينطقون. جـ- أن هذه الأصنام ليس لها أرجل وأيدي وسمع وبصر وعبادها لهم ذلك. وفيما يلي تفصيل ذلك: أ- فقد الأصنام للحياة قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ, أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ, إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 1. أخبر تعالى في هذه الآيات أن من صفات آلهة المشركين كونها مخلوقة لا تخلق شيئًا -وهذا ما أشار إليه إبراهيم عليه السلام بقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ, وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2- ثم هي ميتة لا أرواح فيها، بل هي جمادات لا تعقل، وما تدري متى تكون الساعة، فكيف يرتجي عندها ثواب وجزاء؟ إن الإله الذي يهب الحياة لغيره لا بد أن يكون حيًّا، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وبما أن أصنام المشركين من عمل أيديهم من حجر أو خشب وغيره، فهي ميتة لا   1 سورة النحل آية 20-22. 2 سورة الصافات آية 95-96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 تصلح للألوهية بمجرد نظرة بسيطة وعبادها أكمل منها؛ لأن فيهم الروح والحياة والحي أكمل من الميت. يقول الزمخشري: "نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب، ومعنى "أموات غير أحياء" أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات، أي غير جائز عليهم الموت كالحي الذي لا يموت, وأمرهم على العكس من ذلك, والضمير في "يبعثون" للداعين، أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم, وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم؟ "1. انتهى بلفظه. ب- فقد الأصنام للنطق قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} 2، وقال تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ, أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} 3. ذم الله تعالى بني إسرائيل في هاتين الآيتين على عبادتهم عجلًا من ذهب زاعمين أنه إلههم، فاحتج عليهم سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يتكلم ولا يملك أن يهديهم طريق الخير ولا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا، وهذه صفات نقص يستحيل أن يتصف الإله بها، فلو كانت لهم عقول لفكروا بها وعرفوا أن هذا العجل لا يستحق العبادة   1 تفسير الكشاف 2/406 وانظر تفسير القرطبي 11/93 وتفسير ابن كثير 2/565. 2 سورة الأعراف آية 148. 3 سورة طه آية 88-89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وهم أنفسهم أكمل من هذا العجل لأنهم يتكلمون ويعبرون عما يريدون وأما عجلهم فليس له إلا الخوار ولكن جهلهم وضلالهم غطى على بصائرهم. يقول الطبري: "يخبر جل ذكره أنهم ضلوا بما لا يضل بمثله أهل العقل، وذلك أن الرب جل جلاله الذي له ملك السماوات والأرض ومدبر ذلك لا يجوز أن يكون جسدًا له خوار لا يكلم أحدًا ولا يرشد إلى خير"1. وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يوجه أنظار قومه وهو يجادلهم إلى أن هذه الأصنام التي يعبدونها لا تنطق فكيف تستحق العبادة؟ بل إن إبراهيم قد أخذ إقرارهم على أنفسهم من أنفسهم باعترافهم أن أصنامهم ناقصة لا تنطق، قال تعالى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ, قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ, فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ, ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ, قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ, أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 2، فعندما قال لهم إبراهيم عليه السلام {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} رجعوا إلى عقولهم ونظر بعضهم إلى بعض وغلبوا في الحجة؛ لأنهم احتجوا على إبراهيم بما هو حجة له عليهم حيث قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} فآلهتهم لا تتكلم حتى تخبرهم عمن كسرها، فلما ظهرت الحجة لإبراهيم بدأ بذمهم وذم أصنامهم قائلًا: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ, أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} إذ لو كانت لهم عقول سليمة لعلموا أن الإله الذي لا يحمي نفسه ممن كسره وأهانه ولا ينطق فيخبر عمن فعل به ذلك، فهو عاجز عن نفع غيره أو ضره وعن حماية عابده من باب أولى، ومن كان هذا شأنه لا يستحق العبادة، يقول الزمخشري:   1 تفسير الطبري 9/62 وانظر 16/197 وتفسير ابن كثير 2/247 و3/162. 2 سورة الأنبياء آية 62-67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 "أي استقاموا ورجعوا إلى أنفسهم وجاؤا بالفكرة الصالحة ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة وأن هؤلاء مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق آلهة معبودة مضادة منهم، أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه حين نفوا عنه القدرة على النطق وقلبوا على رءوسهم حقيقة لفرط إطراقهم خجلًا وانكسارًا وانخذالًا مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام, فما أحاروا جوابًا إلا ما هو حجة عليهم"1. وقد ضرب الله تعالى مثلًا لنفسه وللأصنام التي تعبد من دونه فقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2، ومعنى المثل أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا يقدر على شيء من المقال أو الفعال ويتعب عابده بحمله وخدمته، فهو كالرجل الأبكم الذي هو كلٌّ على أقاربه وحيثما وجهوه لا يأت بخير لأنه لا يفهم ما يقال له ولا يعبر عما في نفسه، فهو لا يفهم ولا يفهم عنه، فكما لا يستوي الرجلان: الأبكم والناطق، فكذلك لا يستوي الصنم الذي لا يعقل ولا يتكلم فيأمر وينهى مع الله تعالى ذكره: المتكلم الآمر بالعدل والحق والتوحيد والعبادة، وقد قال قتادة ومجاهد بأن هذا المثل ضربه الله لنفسه وللوثن فهذا مثل إله الحق وما يدعى من دونه من الباطل، فكيف يليق بالعاقل إذن عبادة من هذا شأنه وعابده أكمل منه وأقدر على التعبير عما في نفسه"3.   1 تفسير الكشاف 2/577 وانظر تفسير الطبري 17/41 وتفسير ابن كثير 23/72. 2 سورة النحل آية 76. 3 انظر تفسير الطبري 14/150 وتفسير القرطبي 14/49 وتفسير ابن كثير 2/578 والكشاف 2/421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ج- فقد الأصنام للسمع والبصر والأطراف قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ, وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ, وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ, إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ, أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِ, إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ, وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ, وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 1. ففي هذه الآيات يتضح إنكار الله على المشركين الذين عبدوا معه الأنداد والأوثان التي هي مخلوقة مربوبة لا تملك من الأمر شيئًا ولا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع ولا تنتصر لعابديها لأنها جماد، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم ولهذا قال: {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} فهي لا تسمع الدعاء وسواء لديها من دعاها وغيره من عبادها؛ لأنها مخلوقات مثلهم، بل هي لا تفعل ما يفعله عبادها من الحركة والبطش والسمع والبصر، فهي في غاية المهانة والحقارة، ولذلك أمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم وأصنامهم: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِ} لأن هذه الأصنام تقابل الإنسان بعيون مصورة كأنها ناظرة وهي في الواقع لا تبصر: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُون} ، وإنما عبر بضمير العاقل لأنها مصورة على صورة الإنسان، وكذا قال قتادة وابن جرير أن ضمير الغائب في قوله: {وَتَرَاهُم} للأصنام2.   1 سورة الأعراف آية 191-198. 2 انظر تفسير الطبري 9/150-152 وتفسير ابن كثير 2/276 والكشاف 2/137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وهذه الحجة احتج بها إبراهيم على أبيه أولًا ثم على قومه لما يعلم من نصاعتها ووضوحها, فيقول لأبيه ما قاله تعالى عنه: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} 1، {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ, قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ, قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ, أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ, قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 2. فلا يليق بالعاقل أبدًا أن يعبد إلهًا دونه وأقل منه، والعابد هو أكمل من معبوده وأقوى بروحه التي بها حياته، وبحواسه التي بها يصرف أموره، وبنطقه الذي به يفهم عن الناس ويفهمون به عنه. وقد بين تعالى أن هذه الآلهة التي يدعوها المشركون لا تسمعهم في دعائهم لها ولو سمعت لم يتيسر لها إجابة الدعاء, فليست ناطقة ولا سامعة وليس كل سامع قولًا يتيسر له الجواب عنه، وقد وصفها الله تعالى بالغفلة تشبيهًا لها بمن يسهو عما يقال له، وهذا فيه غاية التوبيخ لهم في عبادتهم ما لا يعقل شيئًا ولا يفهم وهو كالغافل، فيقول تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} 3، ويقول تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 4. وقد ضرب الله تعالى الأمثال لهؤلاء الداعين أصنامهم -كما مر معنا في الفصل الثاني من هذا الباب- فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 5، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَة   1 سورة مريم آية 42. 2 سورة الشعراء آية 70-74. 3 سورة فاطر آية 14. 4 سورة الأحقاف آية 5. 5 سورة البقرة آية 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} 1، فشبههم الله تعالى في دعائهم الأصنام بالراعي يصيح بالغنم وهي لا تفهم ما يريد أو بالعطشان الجالس على باب البئر باسطًا كفيه للماء ليجيب دعاءه ويروي غُلّته، فلا هو نزل البئر فشرب ولا الماء يحس بدعائه فيستجيب له لأنه جماد، وهكذا أصنامهم لن تستجيب لهم؛ لأنها جمادات ميتة لا أرواح فيها فلا تسمع دعاءهم2.   1 سورة الرعد آية 14. 2 انظر تفسير الطبري 3/130 وتفسير القرطبي 9/311 والبحر المحيط 5/376 وتفسير ابن كثير 2/507 والكشاف 2/354. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 2- دليل العجز وفيه نقطتان: أ- عجز الأصنام في الدنيا ب- عجز الأصنام في الآخرة. أ- عجز الأصنام في الدنيا قال تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} 4، وقال تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} 2، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} 3، وقال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 4. في هذه الآيات يذم الله تعالى عبدة الأوثان؛ لأنها لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًّا عن نفسها ولا عن عابديها، ويأمر نبيه صلي الله عليه وسلم أن يجابههم سائلًا إياهم عن آلهتهم لتقريرهم بأنها لا تملك ضرًّا ولا نفعًا ولا تملك كذلك حماية عبادها من الله إن أرادهم بمكروه، فالحافظ الوحيد لخلقه ليلًا ونهارًا هو الله، وهذا ما ورد بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا} 5، فقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ} بعد قوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ}   1 سورة الحج آية 12-13. 2 سورة الإسراء آية 56 3 سورة الأنبياء آية 42-43. 4 سورة الزمر آية 38. 5 سورة الرعد آية 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وَالأَرْضِ} , هو حكاية لاعتراف المشركين وتأكيد للحجة عليهم، لأنه إذا قال لهم: من رب السماوات والأرض؟ لم يكن لهم بد من أن يقولوا: الله، كقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك؟ فإن أجاب بنعم، يحكي المناظر عندها قوله وإقراره تقريرًا للحجة عليه قائلًا له: فعلى قولك يلزمك كذا وكذا، وقد يجوز أن يكون قوله: {قُلِ اللَّهُ} تلقينًا للجواب، والمعنى إذا سألتهم عن رب السماوات والأرض ولم يجيبوا فقل أنت: الله، فإنهم سيتلقون الجواب ولا يقدرون على إنكاره، وأما قوله تعالى: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} فهو استفهام إنكاري، أي أبعد أن علمتم أن الله هو رب السموات الأرض اتخذتم من دونه أولياء لا يستطيعون ضر أحد أو نفعه بل ولا لأنفسهم, فجعلتم ما كان يجب أن يكون سببًا للتوحيد من علمكم وإقراركم جعلتموه سببًا للإشراك؟ كيف آثرتم الإشراك على التوحيد بإيثاركم الأصنام على الخالق الرازق المحيي المميت رب السماوات والأرض؟ فما أبين ضلالكم وبعدكم عن الحق1. وقد استعمل إبراهيم عليه السلام هذا الدليل لإقامة الحجة على قومه عندما كسر الأصنام، ففي هذا أوضح دليل على عجزها عن نصرة أنفسها والإضرار بمن كسرها, فكيف تملك ذلك لعابديها؟ يقول تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ, وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} 2، فقد بين إبراهيم لقومه أنه لا يخاف أصنامهم لأنها لو كان بها قدرة على النفع والضر لانتقمت منه عند تكسيرها، ولذلك قال لقومه {أَفَلا تَتَذَكَّرُون} أي أفلا تعتبرون بحالها وأنه ليس لكم في عبادتها حجة3.   1 انظر تفسير الكشاف 2/355 وتفسير الطبري 17/29 و24/7. 2 سورة الأنعام 80-81. 3 انظر تفسير الطبري 7/253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ولكن قوم إبراهيم لم يتعظوا بهذه الحجة الدامغة كما اتعظ بها الصحابي الجليل عمرو بن الجموح رضي الله عنه، فقد كان ابنه معاذ ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما, وكانا شابين أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكانا يعدوان على الأصنام ليلًا ويكسرانها ويعطيانها حطبًا للأرامل ليعتبر قومهما بذلك، فكان لعمرو بن الجموح سيد قومه صنم يعبده ويطيبه، فجاءا ليلًا فنكساه على رأسه ولطخاه بالعذرة، فلما جاء عمرو نهارًا ورأى ما بصنمه غسله وطيبه ووضع عنده سيفًا وقال له: انتصر من عدوك، ثم أخذاه في الليلة الثانية فقرناه مع كلب ميت ودلياه في بئر، فلما نظر عمرو إليه نهارًا اغتاظ منه وعلم أنه إله زائف وقال له: تالله لو كنت إلهًا مستدن ... لم تك والكلب جميعًا في قرن ثم كسره وأسلم فحسن إسلامه واستشهد يوم أحد رضي الله عنه وأرضاه1. وهذا الأعرابي يكسر صنمه عندما رأى ثعلبانًا يبول على رأسه وقال له: أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب2 ب- عجز الأصنام في الآخرة يقول تعالى: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ, قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3، وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 4. إن الأصنام عاجزة عن نفع عابديها في الآخرة، فلن يجدوا يوم القيامة ما كانوا   1 انظر القصة في تفسير ابن كثير 2/276. 2 انظر كتاب الأصنام ص47. 3 سورة الزمر آية 42-44. 4 سورة السجدة آية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 يتمنون من شفاعتها لهم، ولكن يجدوا منها العداء والتبرؤ، ويأمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتهكم بهم وبما ادعوه من شفاعتها؛ لأن ذلك محال غير واقع إذ كيف يزعمون شفاعتها والله يخير أنها لا تشفع؟ يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1، والمعنى: أتنبئون الله بشفعاء لا يعلمهم في السماء والأرض وهو العالم بما فيهما المحيط علمه بكل شيء؟ إن عليكم إخلاص العبادة لله وحده وإفراده بالألوهية؛ لأنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه تعالى، وهذا وارد في قوله تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2، فبهذا الاستثناء نفى سبحانه الشفاعة عن الأصنام وأثبتها لمن عُبد من دون الله من الموحدين كالمسيح وعزير والملائكة، إذا أراد الله ذلك، لأنهم ممن شهد بالحق ووحدانية الله تعالى3. وبما أن الأصنام لا تملك الشفاعة في الآخرة فموقفها من عبادها سيكون موقف التبرؤ والعداء والتنكر لعبادتهم إياها، يقول تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ, قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا, فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} 4، ويقول تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ, قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ, وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} 5، وقال   1 سورة يونس آية 18. 2 سورة الزخرف آية 86. 3 انظر تفسير الطبري 25/104و11/98 و21/91 والكشاف 2/230. 4 سورة الفرقان آية 17-19. 5 سورة القصص آية 62-64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 1، وقال تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2. وهكذا يتبرأ المعبودون من عبدتهم يوم القيامة قائلين: يا ربنا ما أمرناهم بعبادتنا ونتبرأ إليك من عبادتهم لنا، فكلنا عبيدك ولا نتخذ وليًّا من دونك3. وما مَثَلُ اتخاذ المشركين آلهة من دون الله يرجون نفعها وحمايتها لهم في الدنيا والآخرة, إلا كمثَل العنكبوت اتخذت بيتًا ليحميَها من الخطر، ولكنها فشلت في احتيالها لنفسها، فبيتها واهن ضعيف، وهكذا آلهة المشركين لن تغنيَ عنهم عند الخطر شيئًا لعجزها وضعفها4. وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ, إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ, وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} 5.   1 سورة فاطر آية 14. 2 سورة الأحقاف آية 6. 3 انظر تفسير الطبري 18/192 و19/16 و22/126. 4 انظر تفسير الطبري 20/152 والكشاف 3/206 وتفسير الطبري 13/345. 5 سورة العنكبوت آية 41-43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 مميزات طريقة القرآن الكريم على طريقة المتكلمين والفلاسفة في تقرير عقيدة التوحيد تمهيد الباب ... تمهيد أحببت أن أذكر في هذا الباب مميزات طريقة القرآن الكريم في تقريره لعقيدة التوحيد كما مر معنا في الباب الثالث من هذا البحث، ولكن من أجل استكمال جوانب الموضوع وإبراز قيمة هذا المنهج حسب ما وصل إليه علمي، رأيت أن أعرض عرضًا موجزًا لطريقة كل من المتكلمين والفلاسفة في الاستدلال على وجود الله، ثم مميزات كل طريقة، وبعد ذلك أذكر مميزات طريقة القرآن الكريم. وقد قدمت الكلام على طريقة المتكلمين والفلاسفة قبل الكلام على طريقة القرآن الكريم حتى تكون عيوب هاتين الطريقتين قد ظهرت، وليكون نور طريقة القرآن الكريم مزيلًا لظلمة طريقهم. وقد رتبت الكلام في هذا الباب على ثلاثة فصول: الفصل الأول: ذكرت فيه طريقة المتكلمين في إثباتهم وجود الله ثم المميزات لهذه الطريقة. الفصل الثاني: ذكرت فيه طريقة الفلاسفة في إثبات واجب الوجود ثم المميزات لهذه الطريقة. الفصل الثالث: ذكرت فيه مميزات طريقة القرآن الكريم مباشرة بدون ذكر طريقته في إثبات وحدانية الله؛ لأن ذلك استوفي في الباب الثالث كاملًا. وفيما يلي الكلام على هذه الفصول حسب ترتيبها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ميزة طريقة المتكلمين مدخل ... الفصل الأول: مميزات طريقة المتكلمين تمهيد ينقسم المتكلمون إلى طوائف عديدة ومذاهب متباينة، ولكل طائفة آراؤها الخاصة بها. وليس غرضي في هذا الفصل هو عرض آراء المتكلمين في مختلف المسائل والرد عليها، وإنما غرضي هو تناول موضوع مشترك بين المتكلمين جميعًا، ألا وهو استدلالهم على وجود الله بحدوث الأعراض، ورأيت أولًا أن أعرض طريقة المتكلمين في الاستدلال على وجود الله كما وردت عندهم: ثم أعرض ثانيًا أهم مميزات هذه الطريقة والتي تتلخص فيما يلي: 1- جعل المتكلمون هدفهم الأول هو إثبات توحيد الربوبية معتمدين في ذلك على دليل التمانع. 2- تقديمهم العقل على الشرع وجنوحهم إلى التأويل وإيجابهم النظر. 3- طريقتهم متعبة طويلة لاعتمادها على الجدل والاستدلالات المنطقية الجافة. 4- بعد طريقتهم عن التوحيد الحقيقي المبعوث به الرسل. 5- طريقتهم غير عملية ولا تدخل الناس في دين الله؛ لعدم مناسبتها لجميع الناس، ولاعتمادها على ألفاظ مستوردة من الأمم الأخرى. 6- طريقتهم نهايتها الشك والحيرة وندم أصحابها لسلوكها، وقد ذمها السلف الصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أولًا: عرض طريقة المتكلمين في الاستدلال على وجود الله طريقة المتكلمين في إثبات الخالق هي الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام، ولا يُستدل على حدوث الأجسام إلا بحدوث الأعراض، فهم لا يستدلون بحدوث ذات الأشياء وأعيانها من السحاب والمطر والحيوان والنبات، إنما يستدلون بحدوث الأعراض لأن الأجسام عندهم مكونة من الجواهر الفردة والله إنما يحدث تأليفها وتركيبها، فإذا أثبتوا أن الأعراض القائمة بالأجسام حادثة قالوا بأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحادث إما أن يكون مقارنًا له أو متأخرًا عنه، وما قارن الحادث أو تأخر عنه فهو حادث مثله1. مما سبق نستطيع أن نجمل دليل المتكلمين بالنقاط التالية: أ- إن في الأجسام أعراضًا كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق يجوز عليها العدم والبطلان, والقديم لا يجوز عليه العدم والبطلان. ب- إن الأعراض تشتمل على المختلف والمتماثل والمتضاد, والقديم لا يصح اشتماله على ذلك. جـ- إن الأعراض تتجدد على الأجسام، وهذا التجدد هو الحدوث، إذن فالأعراض حادثة. د- إن الأعراض الحادثة لا تقوم إلا بالأجسام، فالأجسام حادثة مثلها, وعليه فالعالم كله حادث. هـ- إن العالم لا يحدث نفسه, ولا يصح الدور والتسلسل، فيثبت بذلك أنه لا بد من محدث قديم لهذا العالم وهو الله تعالى2.   1 انظر الفتاوى 12/140 - 150 وص212 وانظر موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/186-188. 2 انظر نظرية التكليف د. عبد الكريم عثمان ص156-161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وأرى ضرب مثال يوضح استدلال المتكلمين على حدوث الأجسام بحدوث الأعراض, وهو مثال خلق الإنسان. إن المتكلمين لا يجعلون خلق الإنسان نفسه دليلًا على الله تعالى كما في آيات القرآن، بل جعلوا خلق الإنسان مستدلًّا عليه وأخذوا يقيمون الأدلة على أن الإنسان مخلوق عن طريق استدلالهم بحدوث أعراض النطفة, فيقولون بأن الإنسان وغيره مكون من جواهر فردة، وخَلْق الإنسان وغيره إنما هو إحداث أعراض في تلك الجواهر المنفردة بجمعها وتفريقها، وليس هو إحداث عين الإنسان أو عين الأجسام الأخرى، وبما أن النطفة لم تخل عن اجتماع وافتراق وهما عَرَضان حادثان فلم يخل الإنسان إذن من الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فثبت أن الإنسان مخلوق، وبما أنه لم يخلق نفسه فثبت أن له خالقًا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لكن هؤلاء الذين استدلوا بخلق الإنسان فرضوا ذلك في الإنسان ظنًّا أن هذه طريقة القرآن وطولوا في ذلك ودققوا, حتى استدلوا على كون عين الإنسان وجواهره مخلوق لظنهم أن المعلوم بالحس وبديهة العقل إنما هو حدوث أعراض لا حدوث جواهر, وزعموا أن كل ما يحدثه الله من السحاب والمطر والزرع والثمر والإنسان والحيوان فإنما يحدث فيه أعراضًا وهي جمع الجواهر التي كانت موجودة وتفريقها. وزعموا أن أحدًا لا يعلم حدوث غيره من الأعيان بالمشاهدة ولا بضرورة العقل, وإنما يعلم ذلك إذا استدل كما استدلوا فقالوا: هذه أعراض حادثة في جواهر وتلك الجواهر لم تخلُ من الأعراض لامتناع خلو الجواهر من الأعراض، ثم قالوا: وما لم يخل من الحوادث فهو حادث.. ولهذا كانت هذه الطريقة باطلة عقلًا وشرعًا وهي مكابرة للعقل؛ فإن كون الإنسان مخلوقًا محدثًا كائنًا بعد أن لم يكن أمر معلوم بالضرورة لجميع الناس، وكل واحد يعلم أنه حدث في بطن أمه بعد أن لم يكن, وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 عينة حدثت, كما قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} 1، وقال تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} 2، ليس هذا مما يستدل عليه, فإنه أبين وأوضح مما يستدل به عليه لو كان صحيحًا, فكيف إذا كان باطلًا"3. فهذه الطريقة التي سلكها المتكلمون كانت سببًا في ضلالهم وانحرافهم عن المنهج السوي، وقد زادوا في تعنتهم عندما قرروا أن سلوكهم هذا الطريق موافق لطريقة القرآن الكريم، وقد أخطئوا في تقريرهم هذا؛ لأن طريقة القرآن الاستدلال على الله تعالى ووحدانيته بنفس آياته التي يستلزم العلم بها العلم به تعالى كاستلزام العلم بالشعاع العلم بالشمس من غير احتجاج إلى قياس كلي يقال فيه: وكل محدَث فلا بد له من محدِث، أو كل ممكن فلا بد له من مرجح أو كل حركة فلا بد لها من علة غائية أو فاعلية، ومن غير احتياج إلى القول بأن سبب الافتقار إلى الصانع هل هو الحدوث أو الإمكان؟ فأخطئوا في ذلك؛ لأن افتقار المخلوق وصف ذاتي له ولا علة لذلك إلا كونه مخلوقًا، ولا يقال: علة هذا الافتقار هي الحدوث أو الإمكان، فكل إنسان يعلم فقر نفسه وحاجتها إلى خالقها من غير قول الحدوث أو الإمكان، وافتقار المخلوق للخالق ليس بحاجة أن يستدل عليه بقياس كلي كقولهم: كل ممكن لا بد له من موجب أو كل محدث لا بد له من محدث، فكأنهم ساقوا الأدلة وأتعبوا أنفسهم للاستدلال على أمر بدهي فطري لا يحتاج كل هذا العناء، فبالفطرة يعلم الإنسان فقره للخالق، وإن لم يخطر بباله وصف الإمكان أو الحدوث، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ، فلما سمعها جبير بن مطعم4 والنبي يقرأ بها في المغرب أحس   1 سورة مريم آية 9. 2 سورة مريم آية 67. 3 الفتاوى 16/269 وانظر مجموعة تفسير شيخ الإسلام ص208. 4 قصة جبير وردت في الصحيحين عن الزهري انظر فتح الباري جـ8 حديث رقم 4854. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 بفؤاده قد تصدع من غير استدلال بقياسات المتكلمين1.   1 انظر الفتاوى 9/211 ومجموعة تفسير شيخ الإسلام ص211 والنبوات ص 41-53 وص 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 مميزات طريقة المتكلمين مدخل ... ثانيًا: مميزات طريقة المتكلمين امتازت طريقة المتكلمين بعدة مميزات وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 جعل المتكلمون هدفهم الأول هو إثبات توحيد الربوبية ... 1- جعل المتكلمون هدفهم الأول إثبات توحيد الربوبية والاستدلال على وجود الله، معتمدين في ذلك على دليل التمانع، رغم أن هذا الدليل قد ورد في القرآن للدلالة على وحدانية الله كما مر معنا في فصل الأدلة العقلية في الباب الثالث، وأنه تعالى أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره ولم يقل أرباب، لأنه لو كان فيهما أرباب غيره لم توجدا أصلًا ولقال: لم توجدا، ولكنه قال: لفسدتا: أي لو كان فيهما آلهة غيره وهما موجودتان لفسدتا1 وقد رد استدلالهم بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 2 على توحيد الربوبية شيخ الإسلام ابن تيمية بعدة مواضع من كتبه فيقول: "وبينَّا أن هذه الآيات ليس المقصود بها ما يقوله من يقوله من أهل الكلام من ذكر دليل التمانع على وحدانية الرب تعالى؛ فإن التمانع يمنع وجود المفعول لا يمنع فساده بعد وجوده, وذلك يذكر في الأسباب والبدايات التي تجري مجرى العلل الفاعلات"3.   1 انظر الفتاوى 2/14 و3/98 و4/14 وشرح الطحاوية ص23-33 والإنصاف للباقلاني ص28-29 والشامل للجويني 1/352 ومقدمته ص66-68. 2 سورة الأنبياء آية 22. 3 اقتضاء الصراط المستقيم ص461 وانظر الفتاوى 2/38 وتلبيس الجهمية 1/478-479. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 تقديم العقل على الشرع وجنوحهم إلى التأويل وإيجابهم النظر ... 2- تقديمهم العقل على الشرع وجنوحهم إلى التأويل وإيجابهم النظر: يمتاز منهج المتكلمين بتقديمهم فيه العقل على الشرع وتحكيمه في أمور لا يملك الحكم فيها، وخوضه فيما وراء المادة، ويوجبون النظر ويقدمون في كتبهم الكلام في النظر والدليل والعلم وأن النظر يوجب العلم، ويتكلمون في جنس النظر وجنس الدليل وجنس العلم بكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل، ثم إذا صاروا إلى ما هو الأصل والدليل للذين استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام, وهو دليل مبتدع في الشرع وباطل في العقل، وإذا استدلوا بالقرآن فإنما يستدلون به من جهة إخباره لا من جهة دلالته، ولا يذكرون في كتبهم أن القرآن قد دل على الوحدانية بالأدلة العقلية، وبهذا نرى أن اعتماد المتكلمين في براهينهم على العقل والتأويل -كان مظهرًا بارزًا لطريقتهم وسببًا أساسيًّا في نشوء الخلافات الكلامية مما لم يعرفه الصحابة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم1. وأما بالنسبة لإيجابهم النظر فليست هي طريقة السلف ولا وافقهم عليها أحد منهم؛ لأن الإقرار بالصانع فطري حتى عند أعظم الأمم شركًا، وقد ذمهم السلف لهذا الإيجاب، وبينوا أن أول ما أوجب الله على عباده هي الشهادة، وليس من الرسل أحد قال لقومه: إنكم مأمورون أولًا بطلب معرفة الخالق فانظروا واستدلوا حتى تعرفوه؛ لأن الله تعالى لم يكلف الإنسان أولًا بنفس المعرفة ولا بالأدلة الموصلة إلى المعرفة؛ إذ إن قلوب الخلق تعرفه وتقر به، وقد أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وكان دائمًا يستشهد بحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال له: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله"، وفي رواية "إلى أن يوحدوا الله"، ومثل ذلك جميع الرسل أول ما افتتحوا به دعوتهم: توحيد الله   1 انظر الفتاوى 4/58 و19/159-160، وضحى الإسلام لأحمد أمين 3/16. 2 انظر الفتاوى 2/23 و5/543 و16/328-332 وتلبيس الجهمية 2/473 والتنبيهات السنية ص111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 والأمر بعبادته، ووضح كذلك أن أول من أنكر معرفة الله الفطرية هم أهل الكلام1.   1 انظر الفتاوى 2/23 و5/54 و16/328 - 332 وتلبيس الجهمية 2/473 والتنبيهات السنية ص111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 3- طريقتهم طويلة متعبة لاعتمادها على الجدل والاستدلالات المنطقية الجافة. ومما امتازت به طريقة المتكلمين أنها طويلة متعبة فيها تكلف شديد لاعتمادها على الجدل والاستدلالات المنطقية المبنية على المقدمات والنتائج التي تبعد عن المقصود. ومقدماتهم الطويلة لم تسلم من النقد من بعضهم البعض ومن غيرهم، لذلك كثر الخلاف فيما بينهم وتبادل التهم وسوق الأدلة لإبطال أقوال بعضهم بعضًا حتى قل الحق في كلامهم وكثر فيه الباطل. واعتماد المتكلمين في براهينهم على الجدل المنطقي خطأ من وجهين هما: أ- أنهم جعلوا المسلم بحاجة لتعلم المنطق حتى يستطيع إقامة الدليل على وجود الله. ب- أنهم ظنوا أن من لا يعرف المنطق عاجز عن البرهنة على صحة عقائده. وقد هاجم طريقتهم هذه شيخ الإسلام ابن تيمية في معظم كتبه مبينًا أن المتكلمين بجدلهم الكلامي هدفوا للغلبة على بعضهم البعض، ولم يقصدوا بيان الحق, وكان كلامهم مجالًا كبيرًا للصراع والخلافات. وقد عاب طريقتهم كذلك الغزالي والباقلاني والجويني؛ لأنهم رأوا أنها غير مجدية في إثبات العقائد والدفاع عنها وأنها لا تخرج عن كونها وسيلة للرياضات الذهنية والدربة العقلية ولا صلة لها بالقلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل والمقاصد: أما المقاصد: فإن حاصلها -بعد التعب الكثير والسلامة- خير قليل, فهي لحمُ جملٍ غَثّ على رأس جبلٍ وعْر لا سهلٌ فيرتقى ولا سمينٌ فينتقل، ثم إنه يفوت بها من المقاصد الواجبة والمحمودة ما لا ينضبط هنا. وأما الوسائل: فإن هذه الطرق كثيرة المقدمات ينقطع السالكون فيها كثيرًا قبل الوصول1 انتهى بلفظه.   1 الفتاوى 2/22 و4/50 وانظر مجموعة التفسير ص209-213 وموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/113 و2/253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 4- بُعد طريقتهم عن التوحيد الحقيقي المبعوث به الرسل: ومن مميزات طريقة المتكلمين بعدها عن توحيد الألوهية والأسماء والصفات؛ لاكتفائهم بتوحيد الربوبية، ولأن بعض طوائفهم يفسرون التوحيد بما يستلزم نفي الصفات, فجعلوا وجود الله وجودًا مطلقًا لا يوصف بوحدة ولا كثرة, وإثبات الصفات تعدد وكثرة، وهم يدرجون في توحيدهم نفي علو الله على خلقه ومباينته لهم وعلمه وقدرته وسائر صفاته؛ لأن إثبات ذلك مناقض لاعتقادهم بأن الله لا صفة له. وبعض طوائف المتكلمين تتوسع في النفي المفصل حتى سلبوا عن الله النقيضين فقالوا: لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل؛ لأن الإثبات -بزعمهم- تشبيه له بالموجودات، وما قالوه يُعلم فساده ضرورة؛ لأن إثبات ذات معطلة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج, وفيه غاية التعطيل، والله تعالى يخبر في كتابه أنه حي قيوم عليم حكيم سميع بصير يكلم ويرضى ويغضب2.   1 الفتاوى 2/22 و4/50 وانظر مجموعة التفسير ص209-213 وموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/113 و2/253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 5- طريقتهم غير عملية ولا تناسب جميع الناس, لاعتمادها على ألفاظ مستوردة: ومما تمتاز به طريقة المتكلمين أنها غير عملية ولا تناسب جميع فئات الناس فاعتمادها على المنطق اليوناني بأقيسته وقضاياه الجزئية والكلية لم يجعلها طريقًا لدخول الناس في دين الله؛ لأن المنطق اليوناني ذهني مجرد لا ينفذ إلى أعماق النفس، بل إن مباحث علم الكلام بدت غريبة غربة كاملة عن الإسلام ومنهجه وأسلوب الدعوة إلى عقيدته الصافية, لما خلط المتكلمون بين المصطلحات اليونانية ومبادئ العقيدة الإسلامية وأسلوب عرضها ووسائل الدفاع عنها، فلم يفرقوا بين عقيدة خالدة وبين أسلوب زمني عارض قابل للتغيير والتبديل, حتى صارت بين العقيدة النظرية في علم الكلام وبين العقيدة الحية الواقعة في القرآن هُوَّةٌ بعيدة. لقد بحث المتكلمون في مسائل العقيدة وهم يحملون أفكارًا ومقررات غير إسلامية, وأخذوا يطبقونها على العقيدة ومسائلها, كمسألة الذات والصفات وغيرها من المسائل التي لم ترد في القرآن ولا اعتنى بها الجيل الأول. وقد ذم شيخ الإسلام ابن تيمية طريقتهم مبينًا ما فيها من مصطلحات غير إسلامية من لغات الأمم الأخرى، وأن كل أمة تفهم من هذه المصطلحات غير ما تفهمه الأمة الأخرى، ومن هنا تظهر الخطورة المترتبة على حركة الترجمة للكتب المنطقية اليونانية والتي حاول أصحابها المزج والتقريب بين الفلسفة والدين، إذ إنه ليس من السهل أن تعرض مسائل العقيدة الإسلامية السهلة الفطرية -بقوالب فلسفية جافة غريبة عن طبيعة هذا الدين، ولهذا جاءت معظم مسائل العقيدة عند المتكلمين مشوبة بشيء من التكلف والتعقيد والجفاف، مما جعلها لا يحصل بها العلم النافع ولا العمل الصالح، لأن العلم بالصانع ووحدانيته يمتنع أن يكون موقوفًا على طريقة فاسدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ولو أن المتكلمين عرضوا أدلة القرآن مكتفين ببيانها وتوضيح القصد منها, لكان ذلك أنفع وأبعد عن التكلف والتعقيد، وأسلم من دخول الألفاظ الغريبة، وأبعد عن الخلاف فيما بينهم, وأقرب للإقناع1.   1 انظر موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/61-63 وص181 ومدارج السالكين 3/437 وضحي الإسلام 3/9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 6- طريقتهم نهايتها الشك والحيرة وندم أصحابها لسلوكها وذمها السلف : إن طريقة المتكلمين تؤدي للشك والحيرة لأنها مخالفة للفطرة الإنسانية ولطريقة القرآن الكريم والرسل أجمعين، وقد ذم السلف الصالح هذه الطريقة لكنهم لم يذموا جنس الكلام والاستدلال والنظر الذي أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، بل ذموا الكلام الباطل المخالف للكتاب والسنة. وقد خفي بطلان هذه الطريقة على كثير من سالكيها حتى اعتقدوا أنها طريقة موافقة للشرع والعقل، وأن عيبها أنها طويلة متعبة خطرة فقط لكنها صحيحة في نفسها، فلما انتهت بهم إلى الشك والحيرة علموا بطلانها شرعًا وعقلًا، فعضوا أصابع الندم مصرحين بأنها لم تشفِ داءهم ولم تذهب حيرتهم, ولم يشك أحد منهم أن مثل ذلك حصل لغيره من سالكيها1. وقد صرح ابن واصل الحموي بشكّه عندما قال: "أستلقي على قفاي وأضع المِلْحَفَةَ على نصف وجهي ثم أذكر المقالات وحجج هؤلاء وهؤلاء واعتراض هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر, ولم يترجح عندي شيء"2.   1 انظر الفتاوى 3/47 وتلبيس الجهمية 1/132 والنبوات ص41 وص 304-307. 2 انظر الفتاوى 4/209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وكان أبو المعالي الجويني يقول: لقد جُلْتُ أهلَ الإسلام جولة وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت في الذي نهوا عنه, كل ذلك في طلب الحق وهربًا من التقليد, والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق, عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص, فالويل لابن الجويني"1. وهذا الشَهْرستاني ينشد: لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيّرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعًا كف حائر ... على ذقن أو قارعًا سن نادم2 ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي: فيك يا أغلوطة الفكر ... حار أمري وانقضى عمري سافرت فيك العقول فما ... ربحت إلا أذى السفر فلحى الله الأولى زعموا ... أنك المعروف بالنظر3 وهذا أبو عبد الله الرازي يصرح بأن علم الذات عليه عقدة وهي: هل الوجود هو الماهية أو زائد عليها؟ وعلم الصفات عليه عقيدة وهي: هل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وعلم الأفعال عليه عقدة وهي: هل الفعل مقارن للذات أو متأخر عنها؟ واعترف أن أحدًا لم يصل إلى هذا الباب ولم يذق من هذا الشراب وأنشد: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذًى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ثم قال: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تَروي غليلًا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى   1 تلبيس إبليس ص82. 2 موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 2، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} 3، {لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} 4، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا} 5 ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"6. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا تجد أبا حامد مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف -ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث ومات وهو يشتغل في صحيح البخاري"7. وأما السلف الصالح فأنكروا صحة هذه الطريقة في نفسها وعابوها لاشتمالها على كلام باطل، فذموا علم الكلام والمتكلمين, كقولهم: "من طلب الدين بالكلام تزندق"، وقول الشافعي: "لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ماعدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام"، وقول الإمام أحمد: "لا يفلح صاحب كلام أبدًا, علماء الكلام زنادقة"، وقول أبي الوفاء بن عقيل لبعض أصحابه: "أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعَرَض, فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن, وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت"8.   1 سورة طه آية 5. 2 سورة فاطر آية 10. 3 سورة الشورى آية 11. 4 سورة طه آية 110. 5 سورة مريم آية 65. 6 انظر موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/93. 7 موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/93 وانظر ص 23-24 وص 97 وص 140 والنبوات ص 52. 8 انظر هذه الأقوال في الفتاوى 6/243 وأعلام الموقعين 4/248 وتلبيس إبليس ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الفصل الثاني: مميزات طريقة الفلاسفة تمهيد الفلسفة اليونانية وما تفرع عنها عمل بشري ناقص لا يؤمن على متبعه الضلال. وليس هدفي في هذا الفصل تتبع مسائل الفلسفة والرد عليها؛ لأن ذلك يستغرق بحثًا كاملًا، ولكن سلكت في هذا الفصل مسلكي في الفصل السابق، فبنيت الكلام على ما يلي: أولًا: ذكرت طريقة الفلاسفة في الاستدلال على واجب الوجود . ثانيًا: ذكرت أهم مميزات هذه الطريقة وهي. أ- جواز أن يكون الممكن قديمًا على طريقتهم. ب- طريقتهم لا تفيد علمًا ولا عملًا. جـ- طريقتهم تناقض التوحيد. د- طريقتهم غير عملية وليس لها رسالة في الأرض. هـ- طريقتهم التبس فيها الحق بالباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أولًا: طريقة الفلاسفة في الاستدلال على واجب الوجود يتبع الفلاسفة في الاستدلال على واجب الوجود طريقة الإمكان والوجوب, فيقولون بأن كل ما كان ممكن الوجود والعدم لم يوجد منذ الأزل؛ لأنه يعلم بالضرورة أن حالة الإمكان المحض -أي العدم- سابقة على مرحلة الوجود الفعلي لهذا الممكن، فلما كان كل موجود نراه ممكنًا، فقد وجب أن تكون حالة العدم والإمكان المحض سابقة لجميع الموجودات، وعليه فإن الممكن لا يوجد كائنًا غيره علويًّا أو سفليًّا، ولما كانت حالة العدم وإمكان الوجود السابق لجميع الموجودات فقد وجب أن يكون موجودًا سابقًا لحالة العدم هذه، ووجوده واجب وهو الإله. وبعضهم يقول بأننا إذا نظرنا إلى الموجودات من حولنا فإننا نرى أشياء توجد بعد أن لم تكن، وأشياء تنعدم بعد وجودها، وهذه الأشياء لا تخرج عن كونها مستحيلة الوجود أو ممكنة أو واجبة، والقول باستحالتها باطل لأنها موجودة، ووجوب وجودها باطل كذلك لأن الواجب لا يعدم، فبقي أنها ممكنة الوجود، والممكن محتاج إلى سبب لوجوده, وهذا السبب لن يكون عين الشيء الممكن ولا جزأه لاستلزام تقدم الشيء على نفسه، فوجب أن يكون هناك سبب وراء الممكنات كلها وهو واجب بنفسه يمنح الممكنات وجودها, وهذا الواجب الوجود هو: الله. وبعض الفلاسفة يسلك للتدليل على واجب الوجود طريقًا آخر فيقول: كل ممكن فهو معلول قطعًا، والمعلول لا بد له من علة أولى لا يتطرق إليها الإمكان ويجب وجودها بنفسها، وهذه العلة الأولى هي: الإله1.   1 انظر رسالة التوحيد لمحمد عبده ص18-21 ونظرية التكليف د. عبد الكريم عثمان ص156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ونلاحظ أن كل هذ الاستدلالات على وجود الله عند الفلاسفة مرجعها إلى الإمكان والوجوب وملخصها: أن الموجود إما أن يكون واجبًا أو ممكنًا، والممكن محتاج إلى مؤثر واجب وإلا لزم الدور والتسلسل فثبت أن الممكن وجوده بغيره، والواجب وجوده بذاته وهو السبب الأول لجميع الممكنات الموجودة والعلة الأولى لكل المعلولات. ويجب أن نلاحظ هنا أن الفلاسفة إذا قالوا بإمكان الموجودات -والعالم كله ممكن الوجود- فإنما يعنون أن لهذا العالم مادة قديمة أزلية وجودها متقدم على وجود العالم وهي ما يسمونها الهيولي، هذه الهيولي معلولة عن العلة الأولى بشكل حدوث ذاتي، وهي تتحرك للتشبه بهذه العلة، فالعلة أولى لغيرها وهي آمرة للفلك بالتحرك للتشبه بها كما يتحرك العاشق نحو المعشوق, وحدوثه عنها حدوث ذاتي لا حدوث زماني. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والمعنى الثالث الذي أحدثه الملاحدة كابن سينا وأمثاله قالوا: نقول العالَم محدَث أي معلوم لعلة قديمة أزلية أوجبته فلم يزل معها, وسموا هذا الحدوث الذاتي وغيره الحدوث الزماني، والتعبير بلفظ الحدوث عن هذا المعنى لا يعرف عن أحد من أهل اللغات لا العرب ولا غيرهم إلا من هؤلاء الذين ابتدعوا لهذا اللفظ هذا المعنى, والقول بأن العالم محدث بهذا المعنى فقط ليس في قول أحد من الأنبياء ولا أتباعهم ولا أمة من الأمم العظيمة.."1.   1 موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/72 وانظر ص69-70 وانظر تاريخ الفلسفة العربية د. جميل صليبا. ص223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 مميزات طريقة الفلاسفة مدخل ... ثانيًا: مميزات طريقة الفلاسفة امتازات طريقة الفلاسفة السابقة بميزات وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 أ - جواز أن يكون الممكن قديمًا: على طريقة الفلاسفة يجوز أن يكون الممكن قديمًا لقولهم بقدم مادة العالم عليه, وبزعمهم أن الفلك واجب بنفسه وأن حركته إنما هي للتشبه بعلته الغائية، معتبرين أن الله سبب وعلة أولى لغيره والعلة مماثلة للمعلول, وبالتالي أدى بهم قولهم هذا للقول بقدم العالم وأزليته، ومن هذه النقطة انبثقت معظم آرائهم التي كفّرهم بها أهل السنة. وقد بين أبو حامد الغزالي كفرهم في عدة مسائل منها: قولهم بقدم العالم وأزليته, وإنكارهم علم الله بالجزئيات, وإنكارهم المعاد، كما أنه فسقهم وبدعهم في مسائل كثيرة مستدلًّا بذلك على فساد طريقتهم في الاستدلال وأنهم لم يستطيعوا إقامة دليل صحيح على وحدانية الله تعالى؛ لأنهم قالوا بنظرية الفيض والتكثر ويعنون بها: أن الله صدر عنه العقل الأول وهذا صدر عنه العقل الثاني وهكذا إلى العقل العاشر الذي هو العقل الفعال في عالمنا. وهذا المسلك هو ما يسمونه بالطريق التصاعدي حيث يبحثون الأمور الطبيعية ثم يصعدون منها إلى الأفلاك ثم إلى العقول العشرة ثم إلى واجب الوجود1. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية فساد طريقهم هذه وأنهم بزعمهم صدور العقل والنفس عن الله أشد كفرًا ممن نسب له البنين فيقول: "والذين قالوا إن العقول والنفوس صدرت عنه، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم فإن أولئك لم يكونوا يجعلون شيئًا من البنين والبنات مبدعة لكل ما سواه، وهؤلاء يجعلون أحد البنين   1 انظر المنقذ من الضلال ص43-50 والرد على المنطقيين ص195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وهو "العقل" أبدع كل ما سواه ويجعلون "العقل" كالذكر و"النفس" كالأنثى وهذا ما صرحوا به, وكانت العرب تقر بأنه خلق السماوات والأرض وأحدثهما بعد أن لم تكونوا ولم تكونا, يقولون إنها قديمة أزلية معه لم تزل معه"1. انتهى بلفظه.   1 الرد على المنطقيين ص219 وص149 وانظر الفتاوى 2/21 - 23 و12/140 - 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ب - طريقتهم لا تفيد علمًا ولا عملًا يسلك الفلاسفة في طريقتهم أقيسة عديدة كلها لا تليق بحق الله تعالى مثل قياس التمثيل والاستقراء والشمول، لأن القياس التمثيلي الذي يستدل فيه بأحد الجزأين على الآخر، والقياس الاستقرائي الذي يستدل فيه الجزئي على الكلي والقياس الشمولي الذي يستدل فيه بالكلي على الجزئي، كلها لا تدل إلا على قدر مشترك ولا تدل على شيء معين، والله تعالى لا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها أو يستوي فيها الأصل والفرع، لذلك كانت هذه الأقيسة المستعملة أضعف الطرق لأنها لا تثبت إلا وجودًا واجبًا بقضايا كلية لا تدل على الله بعينه، إذ إن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، والعلم بالصانع ليس موقوفًا على هذه الأقيسة بل بالآيات الدالة على معين لا شركة فيه1. وقد اعترف كثير من الفلاسفة بأنهم لا يصلون في العلم الإلهي إلى اليقين وإنما يتكلمون فيه بالأولى والأحرى، فكان هذا الاعتراف شهادة على أنفسهم أن طريقتهم لا تفيد علمًا ولا تقيم دليلًا على واجب الوجود، وقد اعترف الرازي بعد   1 انظر الفتاوى 3/97 و9/139 - 142 وص135 والرد على المنطقيين ص138- 159 وموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/14 وتلبيس الجهمية 2/474. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 استعراضه لأدلة القائلين بقدم العالم والقائلين بحدوثه أنه لم يترجح عنده شيء، وعليه يجوز حدوث كل قائم بنفسه أو قدم كل حادث1. وقد ذم الغزالي طريقتهم أكثر من طريقة المتكلمين معترفًا أنه لم يحصل له مقصوده منها؛ لأن كلامهم في الإلهيات تخميني نظري لا يقيني وقد كان الخسرو شاهي يقول: "والله ما أدري ما أعتقد"2. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الإلهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعة وغالب كلامهم ظنون كاذبة فضلًا عن أن تكون قضايا صادقة يؤلف منها البرهان, ولهذا حدثونا عن فاضل زمانه في المنطق وهو الخونجي صاحب "كشف أسرار المنطق" و"الموجز" وغيرهما أنه قال عند الموت: "أموت وما عرفت شيئًا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى المؤثر، ثم قال: "الافتقار وصف سلبي فأنا أموت وما عرفت شيئًا"3.   1 انظر الفتاوى 13/168 وتلبيس الجهمية 1/130 و2/478. 2 انظر الفتاوى 9/228. 3 الفتاوى 9/113 وانظر الرد على المنطقيين ص114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 جـ- طريقتهم تناقض التوحيد مذهب أرسطو ومن تأثر به أن الإله الكامل المطلق لا يعقل إلا ذاته ويتنزه عن الإرادة والعمل وعلم الكليات والجزئيات التي هي من علم عقول البشر، وقد أمعن كثير من الفلاسفة في التنزيه حتى جعلوا كل صفات الإله سُلُوبًا محضة، وأنكروا صفة الوجود لمقابلتها للعدم واشتراك الموجودات جميعها في صفة الوجود، لذلك وجود الرب عندهم وجود مطلق وهو غير مباين للعالم ولا يشار إليه، وما قالوه ليس له حقيقة في الخارج إلا في الأذهان، وهو غاية الكفر "فتوحيد هؤلاء هو غاية الإلحاد والتعطيل والجحد والكفر، وفروع هذا التوحيد إنكار ذات الرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 والقول بقدم الأفلاك وأن الله لا يبعث من في القبور وأن النبوة مكتسبة وأنها حرفة من الحرف كالولاية والسياسة، وأن الله لا يعلم عدد الأفلاك ولا الكواكب ولا يعلم شيئًا من الموجودات المعينة البتة وأنه لا يقدر على قلب شيء من أعيان العالم ولا شق الأفلاك ولا خرقها وأنه لا حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي ولا جنة ولا نار, فهذا توحيد هؤلاء"1. انتهى بلفظه.   1 مدارج السالكين 3/447 وانظر الفتاوى 4/58 و13/149-152 والنبوات ص286 والرد على المنطقيين ص214 وص314 وموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 2/255 والدين الخالص 1/96 وغاية الأماني 1/483 ودعوة التوحيد للهراس ص288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 طريقتهم غير عملية وليس لها رسالة في الأرض ... د- طريقة الفلاسفة غير عملية وليس لها رسالة في الأرض طريقة الفلاسفة ذهنية مجردة لا تفيد العمل وليس لها رسالة في الأرض؛ لأنها تحصر العقل ضمن مفاهيم معينة ومقررات سابقة من صنع الفكر البشري وتحاول تطبيق هذه المفاهيم على العقيدة، ولا يعنيها بعد ذلك آمن الناس أو لم يؤمنوا، وسالكوها يبحثون في الإلهيات بحثًا مجردًا منتظرين ما يؤدي إليه البرهان ولا يهمهم ماذا تكون النتيجة. إن هذه الطريقة لا تعدو أن تكون بحثًا عقليًّا صرفًا ورياضة ذهنية ليس بينها وبين واقع الحياة صلة، ولا تطلب عملًا معينًا من أتباعها كعبادة الله تعالى لأنها لا تؤمن بجنة أو نار، ولذلك كانت هذه الطريقة لا توصل إلى التوحيد الحق, ومن ادعاه من الفلاسفة فتوحيده ناقص، بل المشركون أقروا بتوحيد الربوبية، وهؤلاء نسبوا الخَلْق إلى العقل الأول1.   1 انظر الفتاوى 9/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 هـ- طريقتهم التبس فيها الحق بالباطل طريقة الفلاسفة لا تفرق بين الحق والباطل، وأهل الفلسفة أعظم الناس افتراقًا واختلافًا مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام عليه البرهان, وقد ذم السلف الصالح رضي الله عنهم هذه الطريقة وحذروا منها، وأما سالكوها فمنهم من ندم لسلوكها بعد أن خاض لجتها وكشف مآسيها وعرف كفرها, وبعضهم حاول التوفيق بينها وبين الدين، وهؤلاء خطرهم أعظم وجرمهم أكبر؛ لأن هذه المحاولة لم تفد الإسلام, وفيها تمويه على المسلمين حتى لا يعرفوا الفكر الإغريقي على حقيقته الكاذبة، وذلك بشرحهم العقيدة الإسلامية شرحًا فلسفيًّا وإمالة الفكر الإغريقي نحو العقيدة لصهر الطرفين في بوتقة واحدة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقتهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الأمر عليه في نفسه, ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الآدميين بخلاف طريقة الأنبياء فإنهم أخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب، فكل ما ناقض الصدق فهو كذب وكل ما ناقض الحق فهو باطل، فلهذا جعل الله ما أنزله من الكتاب حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه, وأنزل أيضًا الميزان وهو ما يوزن به ويعرف به الحق من الباطل, ولكل حق ميزان يوزن به, بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون, فإنهم لا يمكن أن يكون هاديًا للحق ولا مفرقًا بين الحق والباطل ولا هو ميزان يعرف به الحق من الباطل"1 انتهى بلفظه.   1 الرد على المنطقيين ص472 وانظر الفتاوى 9/207 وص 226-235 وتلبيس الجهمية 2/478. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الفصل الثالث: مميزات طريقة القرآن الكريم تمهيد إنني أعترف بالعجز والتقصير في بحثي لمميزات طريقة القرآن الكريم؛ لأن القرآن الكريم كلام الله، وفيه من نواحي الإعجاز وأساليب المخاطبة والدعوة لتوحيد الله والرد على المشركين ما يكون مثلي عاجزًا عن الخوض في هذا البحث وإيفائه حقه، وخاصة أن الكتابة فيه قليلة جدًّا. وعملي في هذا الفصل هو الإشارة إلى سمات بارزة في طريقة القرآن الكريم وهو يخاطب المشركين وسائر أصناف الكفرة لردهم عن كفرهم ودعوتهم إلى التوحيد. وقد ظهر لنا فيما سبق أن القرآن الكريم في عرض أدلته على الوحدانية نهج منهجًا واضحًا مميزًا قريبًا لأفهام السامعين, مبتعدًا عن المسالك الخفية معتمدًا على توجيه نظر الإنسان إلى الكون بما فيه مشيرًا لدليلي الخلق والعناية، وعلى ضرب الأمثال المختلفة لبيان نور التوحيد وظلمة الشرك، وعلى القصص القرآنية لبيان نصر الله للموحدين وتدميره للكافرين، وعلى التذكير بنعم الله التي تستوجب إفراد المنعم بالوحدانية والعبادة، وعلى الأدلة العقلية التي تأخذ بالألباب. هذه الطريقة القرآنية في تقرير عقيدة التوحيد لها مميزات هي موضوع هذا الفصل وهي كما جاءت مرتبة فيه: 1- ضم الأدلة لبعضها البعض والاستدلال بها جماعيًّا. 2- الرد على جميع المخالفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 3- مناسبتها لجميع فئات الناس. 4- ملاءمتها للفطرة وخلوها من التعقيد. 5- أنها طريقة عملية لا تكتفي بمجرد النظريات والتقريرات. 6- تنفي الشكوك والشبهات لإتيانها بمعانٍ صحيحة ثابتة. 7- أنها أصل كل الطرق الصحيحة. وفيما يلي البيان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ضم الأدلة إلى بعضها والاستدلال بها كلها ... مميزات طريقة القرآن الكريم 1- ضم بعض الأدلة إلى بعضها والاستدلال بها كلها من مميزات طريقة القرآن الكريم في دعوته للتوحيد أن يضم الأدلة لبعضها البعض، فنجد في الآية الواحدة أو في عدد من الآيات المتتابعة عددًا من الأدلة، كلها تدل على مدلول واحد -وهو التوحيد- ولا شك أن هذا الأمر يعطي الدليل قوة ويزيد المدلول تأكيدًا، وهذه الميزة مفقودة من طريقتي المتكلمين والفلاسفة. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. فهذه الآية بعد أن قررت الوحدانية في الآية التي قبلها، ذكرت عددًا من الأدلة الكونية، كل منها يدل على وحدانية الله. ومثال آخر من قوله تعالى في سورة النحل: {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} إلى قوله تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 2. ففي هذه الآيات من سورة النحل بعد أن بيَّن تعالى إرسال رسله بالتوحيد.   1 سورة البقرة آية 163- 164. 2 سورة النحل آية 2- 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 دلّل على وحدانيته بخلق السموات والأرض وخلق الإنسان من نطفة، وخلق الأنعام وما فيها من المنافع للإنسان، ثم ذكر إنزال المطر للشرب وسقي النبات، وذكر آية الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وما فيها من العظمة والنعمة، ثم ذكر البحر والسفن التي تمخره وما فيه من اللحم والحلي، ثم ذكر الأرض ورواسيها وطرقها، ونبه تعالى إلى دليل الخلق مجملًا بقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون} 1 ثم ختم الآيات بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} 2، فانظر كيف تعاونت هذه الأدلة جميعًا للدلالة على وحدانية الله، وكما بدئت بذكر الوحدانية ختمت بالنص عليها. ومثال آخر من سورة النحل كذلك من قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} إلى قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ} 3. ففي هذه الآيات نص سبحانه وتعالى على الوحدانية ثم ذكر دليل النوائب, وأنه لا كاشف للبلاء في البر والبحر غيره, والتجاء المشركين له وحده في النوائب، ثم ذكر دليل المثل الأعلى وكراهية المشركين للأنثى، ثم ذكر المطر وإحياءه للأرض، ثم نعمة الأنعام واللبن السائغ للشاربين، ثم ذكر نعمة الثمرات.. واستخراج النحل منها عسلًا، ثم ضرب لهم مثلًا بعدم إشراك السادة عبيدهم في رزقهم، وذكرهم بنعمة الأزواج والأولاد، ثم نبه على عبادة المشركين لما لا يملك لهم رزقًا، ثم ضرب مثلًا لنفسه تعالى ولما يعبد من دونه ونبه على خلق الإنسان وتسخير الطير ونعمة السكن وما يؤخذ من الأنعام، وفي آخر الآيات يقول تعالى: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَه   1 سورة النحل آية 17. 2 سورة النحل آية 20-22. 3 سورة النحل آية 51-83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ، يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ} 1، فانظر كيف سيق عدد من الأدلة للتأكيد على حقيقة وحدانية الله منبهًا على هذه الحقيقة في بدء الآيات وختامها؛ لأن ذلك هو الهدف الرئيسي من كل هذه الأدلة. ومثال آخر من سورة الأنبياء من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ -إلى قوله تعالى- وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 2. ففي هذه الآيات بيّن تعالى أن خلق السموات والأرض لم يكن عبثًا وأن الملائكة عبيد لله وأنه لو كان في السماوات والأرض أكثر من إله يستحق العبادة لفسدتا، وأنه أرسل جميع رسله بالتوحيد، ثم بين أن من زعموهم أبناء الله هم عباده وأن الشفاعة لا تكون لأحد إلا بإذن الله، وأن من زعم الألوهية من دون الله فمصيره إلى جهنم، ثم نبه تعالى على خلق السماء والأرض بما فيها من طرق، ثم ذكر خلق الشمس والقمر والليل والنهار وأنها آية على وحدانية الله تعالى. ومثال آخر من سورة المؤمنون، من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ -إلى قوله تعالى- مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 3. في هذه الآيات الكريمة نبه سبحانه وتعالى إلى خلق الإنسان وإعطائه الحواس   1 سورة النحل آية 81 - 83. 2 سورة الأنبياء آية 16 - 33. 3 سورة المؤمنون آية 78 - 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ثم بين اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية وأن ملك الأرض ومن فيها السماء والملكوت كله لله، وختمها ببيان وحدانيته تعالى, إذ لو كان معه إله آخر يستحق العبادة لكان الدمار لازمًا لهذا الكون بما فيه. ومثال آخر من سورة العنكبوت من قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إلى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} 1. في هذه الآيات بيّن تعالى وحدانيته مشيرًا إلى دليل الرزق, ثم ذكر اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية وأنه وحده الذي ينزل المطر من السماء الذي به حياة المخلوقات جميعًا، ثم ذكر دليل النوائب الدال على توحيد المشركين لله عند وجود الخطر ثم ذكرهم بنعمة الأمن. ومثال آخر من سورة الزخرف من قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} إلى قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. فبدأ سبحانه بذكر اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية ثم نبه على خلق الأرض ممهدة وجعل الطرق فيها، وإنزال الماء من السماء، وخلق الأزواج كلها، ثم ذكر نعمة الفلك والأنعام، وذم الذين زعموا له البنات على كرههن لهن، ثم ذكر قصة إبراهيم وبراءته من قومه ومما يعبدون من دون الله، وتمسكه بكلمة التوحيد.. هذه بضعة أمثلة -وهي قليل من كثير- تبين طريقة القرآن في ذكر عدد من الأدلة في الآية أو في المقطع الواحد من الآيات، وبحيث تؤكد كلها مدلولًا واحدًا هو وحدانية الله تعالى ووجوب إفراده بالعبادة.   1 سورة العنكبوت آية 60-67. 2 سورة الزخرف آية 9-28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ولاشك أن لهذه الطريقة وقعها في حس المستمع إذا سمع توارد الأدلة على نفس المدلول، وهذا الأمر لن تجده في غير طريقة القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 2- الرد على جميع المخالفين من طريقة القرآن الكريم أنه يرد على جميع مخالفيه دون الاقتصار على بعضهم, فنجده يرد في دعوته للتوحيد على عباد الأصنام وعباد المسيح وعباد الملائكة وعبدة النجوم وعلى من ينسبون الولد إلى الله وعلى من يؤلهون البشر، إنه لا يقتصر في رده على فئة دون فئة. يقول تعالى في الرد على عبدة الأصنام: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 2. وقال تعالى في الرد على من ألَّه المسيح وعبده: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} 2، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} 4، وقال تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} 5. وقال تعالى في الرد على عباد الملائكة: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ   1 سورة العنكبوت آية 17. 2 سورة الحج آية 73. 3 سورة النساء آية 172. 4 سورة المائدة آية 72. 5 سورة مريم آية 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} 1، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 2. وقال تعالى في رده على عبدة الكواكب: {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3، وقال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 4. وقال تعالى في الرد على من زعم له الولد: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 5، وقال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 6. وقال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} 7. وهكذا نجد أن القرآن الكريم لم يترك طائفة من الطوائف المنحرفة عن التوحيد إلا رد عليها الرد الكافي المقنع لمن أراد الحق وتجرد عن الهوى.   1 سورة الزخرف آية 20. 2 سورة سبأ آية 40-41. 3 سورة الأنعام 78-79. 4 سورة فصلت آية 37. 5 سورة البقرة آية 116. 6 سورة يونس آية 68. 7 سورة مريم آية 92-93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وهذا الأسلوب لا يوجد عند المتكلمين والفلاسفة؛ لأن المتكلمين جعلوا هدفهم خصومة الفلاسفة الملحدين والرد على بعض الآراء الفلسفية البعيدة عن الإسلام. وأما الفلاسفة فلم يكن هدفهم الدعوة إلى التوحيد أصلًا، فلم يخاصموا المشركين ولم يردوا على طوائفهم؛ لأن نفس كلامهم في الإلهيات فيه الشرك والتعطيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 3- مناسبتها لجميع فئات الناس سلك القرآن الكريم في الاستدلال على عقيدة التوحيد والإقناع بها مسلكًا سهلًا واضحًا يستفيد منه جميع الناس على اختلاف مداركهم، ويفهم كل منهم أدلة القرآن حسب طاقته من التفكير. إنه منهج يوافق العامة وفيه ما يناسب الخاصة، ولئن كان علماء النفس والاجتماع يقررون أن اختلاف مستويات الناس يوجب الحكمة في مخاطبتهم وإيصال المعلومات إليهم لجذبهم إلى المبدأ، فإن القرآن الكريم قد سبقهم في ذلك وإيراده عمليًّا في ثنايا آياته؛ لأن البشر تختلف طبائعهم وتتباين نزعاتهم، فكان يخاطب جميع الناس بحسب طبائعهم الفطرية وميولهم واستعداداتهم، ولذلك كان منهج القرآن أقوى حجة وأشد إقناعًا من أي منهج بشري؛ لأن طبيعة القرآن لا تعبر عن نفسية بشرية ولا تمثل اتجاهًا بشريًّا معينًا ولا هي متأثرة بمؤثرات زمنية عارضة، إنها طريقة القرآن الذي جاء لرد الناس إلى توحيد الله على اختلاف طبائعهم وميولهم، لذلك كانت طريقة مناسبة لكل أحد، إنها الطريقة الوحيدة البريئة من الأهواء والرغبات البشرية وليست محدودة بحدود العقل البشري كما هو الحال في غيرها من الطرق. إننا لن نجد في غير طريقة القرآن ما يعلم الجاهل وينبه الغافل ويرضي نهم العالم، فقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} 1، وقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 2، هذا الدليل على وحدانية الله تعالى يناسب   1 سورة المؤمنون آية 12-14. 2 سورة الطارق آية 5-7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 جميع الناس، إنه يناسب العامي ويفهم منه أن الله ينبهه لمبدأ خلقه وأن الله هو وحده الذي خلق النطفة وحفظها، فيؤمن بالله، ويناسب عالم التشريح والطبيب الذي يقرأ عن تطور النطفة والتحولات التي تمر عليها وكيفية اتحاد الماءين وكيفية التغذية للجنين.. وهكذا، فيؤمن بالله. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الدليل وهو خلق الإنسان من علق يشترك فيه جميع الناس، فإن الناس هم المستدلون وهم أنفسهم الدليل والبرهان والآية.. وهو دليل يعلمه الإنسان من نفسه ويذكره كلما تذكر في نفسه وفيمن يراه من بني جنسه"1 انتهى باختصار. وقد وازن الغزالي بكتابه "إلجام العوام" بين أدلة القرآن وأدلة المتكلمين فاعتبر أدلة القرآن كالغذاء والماء الذي ينتفع به كل الناس، وأما أدلة المتكلمين فهي الدواء الضار الذي ينتفع به آحاد الناس ويتضرر به الكثيرون، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن تنوع أساليب الدعوة في القرآن: "فما كان جهة تصديقه عامًّا للناس أمكن ذكر جهة التصديق به كآيات الربوبية المعلومة بالإحساس دائمًا، وما كان جهة تصديقه متنوعًا أحيل كل قوم على الطريق التي يصدقون بها"2. انتهى بلفظه. وهذه بعض الأمثلة التوضيحية: أ- قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} 3. هذه الآيات تلفت نظر الإنسان إلى دليلي الخلق والعناية ويفهم منها العربي في   1 الفتاوى 1/262. 2 الفتاوى 2/48. 3 سورة المرسلات 25-27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الصحراء أن الأرض تحفظه على ظهرها حيًّا وفي بطنها ميتًا، وأن الجبال تحفظ الأرض من التصدع، وهو فهم يتناسب مع علمه ويؤدي الغاية المقصودة من التدبر والعظمة. وجاء العلماء المختصون اليوم ليتحدثوا لنا عن الجاذبية التي تحفظ الإنسان على سطح الأرض، ويتلاعب بهم ولا يستقرون في مكان، ويتحدث لنا العلماء عن الجبال وعجائبها واختلاف ألوانها وما تحويه من معادن، وكيف أن رواسي كل شيء من تحته إلا الجبال، فإنها رواسي الأرض من فوقها ليكون فيها من المنافع ما لا يعلمه إلا الله، وهذا الفهم العلمي يتناسب مع آيات القرآن ولا ينافيها ويؤدي المقصود من العظة والاعتبار ويظهر النعمة بشكل أوضح. ب- قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} 1. إن الأمي يفهم من هذه الآيات أن الله خلق الشجر الأخضر بقدرته وجعل فيه قابلية للاحتراق لنستفيد منه في الطبخ والتدفئة والاستضاءة ولولا تسخير الله، لذلك ما استفدنا منه، فيجب شكره وعبادته. وإن العلماء ليحدثونا اليوم عن الطاقة المخزونة في الأرض بشكل فحم حجري أو نفط، والتي ترجع بأصلها إلى الأشجار المدفونة، وإمكانية توليد صور أخرى من النار كالكهرباء التي تستعمل فيما تستعمل به النار تمامًا، هذا الفهم لا يتنافى مع الآية، بل ويجلي النعمة على الناس بشكل أوضح مما يوجب عليهم الاعتراف بوحدانية المنعم وعبادته.   1 سورة الواقعة آية 71-73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 إن القرآن الكريم وهو ينبه الناس إلى أدلته على وحدانية الله، جاء بأسلوب صياغة وألفاظ تتفق مع قدرات عقول الناس جميعًا على الفهم والاعتبار، إنه يبتعد عن التعبيرات والمصطلحات الضيقة التي لا يفهمها إلا فئة قليلة من الناس، وليس معنى هذا أن أدلة القرآن يفهمها الناس بلا تدبر؛ ولكن المعنى أن القدر المشترك من الفهم لدليل من أدلة القرآن يتساوى فيه جميع الناس مع بقاء المجال مفتوحًا أمام الخاصة والعلماء للتبحر في الدليل بما لا يناقض طريقة القرآن. هذا الأمر لا يوجد في أدلة المتكلمين والفلاسفة الذين عقَّدوا هذه الأدلة على الناس، وحصروا العلم بطريقتهم ومنهجهم البشري، وقد يفهم من كلامهم غير ما يفهمه الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 4- ملاءمتها للفطرة وخلوها من التعقيد إن طريقة القرآن الكريم سهلة واضحة ملائمة للفطرة خالية من التعقيد؛ لأن القرآن الكريم هو كلام الله وهو يخاطب الإنسان بالطريقة التي يعلم سبحانه وتعالى أنها تؤثر فيه وتصل إلى أعماق قلبه وتهز مشاعره فيستجيب، وهي طريقة تخاطب القلب والعقل وتواجه النفس البشرية بما ينمي الفطرة ولا يكفلها عنتًا أو يفرقها مزَقًا، ومن ثم فإنها تعصم الفطرة من الاتجاه لغير الله. هذا وقد ترفعت طريقة القرآن عن أن تكون قضايا ذهنية مجردة كما هي طريقة الفلاسفة والمتكلمين، تلك الطريقة الجافة المعقدة المليئة بالاصطلاحات الغامضة والمقدمات الكبرى والصغرى، بل سلكت أقرب الطرق وأيسرها، فجاءت بأدلة موجزة مختصرة بليغة مفيدة للمقصود كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه على هذه الآية: "ما أحسن هذا البرهان، فلو قيل بعده وما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله، لكان هذا من الكلام الغث الذي لا يناسب بلاغة التنزيل"2. إن القرآن لم يستعمل أقيسة الفلاسفة والمتكلمين في الاستدلال على مسائل العقيدة؛ لأنه جاء بلسان العرب وخاطبهم بما يعرفون، وكلما كان الاستدلال أقرب إلى الفطرة والمحسوس دون تعقيد في الألفاظ والمعاني، كان أقوى أثرًا وأبلغ حجةً، وابتعاد القرآن عن الغموض في أدلته جعلها مستلزمة لمدلولها عينًا من غير احتياج لاندراجها تحت قضية كلية، وانتقال الذهن من العلم بالدليل القرآني إلى العلم بالمدلول مباشرة ولأدلته على الله بعينه: استدلال يستوي في إدراكه كل العقول مع أنه ليس بقياس، وأقيسة المناطقة تدل على قدر مشترك بين الله تعالى وبين غيره.   1 سورة الأنبياء آية 22. 2 الفتاوى 14/60 وانظر تفسير الكشاف 2/567. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ومن هذه النقطة نعرف مدى توافق طريقة القرآن الكريم مع الفطرة حتى أن كل إنسان ولو كان ملحدًا يشعر في أعماق نفسه بالاستجابة والإصغاء لهذه الطريقة؛ لأن الفطرة نفسها تنفر من التعقيد والمصطلحات الجافة، ولما كانت الفطرة قدرًا مشتركًا بين جميع الناس دخل في الدين فئات مختلفة، ولو سيقت أدلة القرآن بطريقة المناطقة ما آمن به إلا القليل لأن المنطق هو حظ الأقلية1. وفي مقابل استعمال المناطقة للأقيسة التي لا تدل على الله بعينه إنما تدل على قدر مشترك بينه وبين غيره، نجد أن القرآن استعمل قياس الأولى وهو أن كل كمال للمخلوق فالخالق أولى بالاتصاف به، وكل نقص تضمن سلب هذا الكمال عن المخلوق فالخالق أَوْلَى بالتنزه عنه، وهذا القياس يفهمه كل الناس على اختلاف مداركهم، كما في نفيه تعالى البنت عن نفسه مشيرًا أن المشركين لا يرضونها لأنفسهم، وكما في نفيه الشركة في الملك والرزق مشيرًا بأن السادة لا يشركون عبيدهم فيما يخصهم، فالخالق أولى بهم في ذلك لأنه له المثل الأعلى2.   1 انظر الفتاوى 2/8 وص 472 والرد على المنطقيين ص 344 ومدارج السالكين 3/486-487 وضحى الإسلام 3/13. 2 انظر الفتاوى 14/437 والرد على المنطقيين ص150 وص 350-351 وموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/4 وص 15، 18، 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 5- طريقة القرآن عملية لا تكتفي بمجرد النظريات والتقريرات إن القرآن لا يكتفي بمجرد إقراره للوحدانية ومحاربته للشرك، بل يطلب من المهتدين أعمالًا وتكاليف بمجرد الإقرار بوحدانية الله، ولذلك نجد فيه طلب عبادة الله بصيغتي أمر ونهي وهما قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّه} 1 {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّه} 2، ونجد الربط الكامل في آيات القرآن بين العقيدة والعمل، وهذه الصفة لا توجد في المناهج الوضعية التي تهدف إلى مجرد التصديق والإقناع والانتصار على الخصم، وطريقة القرآن لا تكتفي بذلك، بل تطلب لازم الإيمان والتصديق وهو العمل والعبادة؛ لأن النفس لا تكمل بالعلم وحده إن لم يتبعه العمل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن قياس الأولى في القرآن وما يؤدي إليه من العمل والعبادة: "ولهذا كانت الأقيسة العقلية البرهانية المذكورة في القرآن من هذا الباب كما يذكر في دلائل ربوبيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وإمكان المعاد وغير ذلك من المطالب العالية السَّنية والمعالم الإلهية التي هي أشرف العلوم وأعظم ما تكمل به النفوس من المعارف، وإن كان كمالها لابد فيه من كمال علمها وقصدها جميعًا، فلابد من عبادة الله وحده المتضمنة لمعرفته ومحبته والذل له"3. وبهذا يتضح أن طرق المناطقة لو كانت صحيحة فهي علم ناقص؛ لاكتفائها بمجرد الإقرار الذي هو توحيد الربوبية، يقول شيخ الإسلام: "الوجه الثاني في مفارقة الطريقة القرآنية الكلامية: أن الله أمر بعبادته التي هي كمال النفوس وصلاحها وغايتها ونهايتها ولم يقتصر على مجرد الإقرار به كما هو غاية الطريقة الكلامية، وفلا وافقوا في الوسائل ولا في المقاصد، فإن الوسيلة القرآنية قد أشرنا   1 سروة هود آية 50. 2 سورة هود آية 2. 3 الرد على المنطقيين ص 150 وانظر الفتاوى 2/41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 إلى أنها موصلة إلى عين المقصود وتلك قياسية لا توصل إلا إلى نوع المقصود لا إلى عينه.. وأما المقاصد فالقرآن أخبر بالعلم به والعمل له، فجمع بين قوتي الإنسان العلمية والعملية.. والطريقة الكلامية إنما تفيد مجرد الإقرار والاعتراف بوجوده، وهذا إذا حصل من غير عبادة وإنابة كان وبالًا على صاحبه وشقاء له ... والطريقة النبوية القرآنية السنية الجماعية فيها العلم والعمل كاملين"1.   1 الفتاوى 2/12 وانظر الرد على المنطقيين ص 144 والتفسير القيم ص 597. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 6- طريقة القرآن تنفي الشكوك والشبهات لإتيانها بمعانٍ صحيحة ثابتة إن طريقة القرآن تنفي كل شبهة وغبش حول العقيدة؛ لأنها تفصل فصلًا تامًّا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، والقرآن عندما يستدل على وجود الله ووحدانيته بخلق الإنسان يستدل بحدوث الإنسان نفسه وأن عينه مخلوقة والله وحده هو الخالق. أما طريقة المتكلمين فالاستدلال عندهم بحدوث الأعراض، والخلق عندهم عبارة عن جمع وتفريق لجواهر الإنسان المنفردة التي لا تتجزأ وهي قديمة بنفسها والحادث هو أعراضها، وبسلوكهم هذا الطريق أثيرت الشبه وتوسعوا في البحث حتى لم تعد طريقتهم ترد شبهة وليس فيها معنى صحيحا ثابتًا. وأما طريقة الفلاسفة فهي أكثر إثارة للشبه ومعانيها كلها محتملة لأكثر من معنى1. وكما قلنا في خلق الإنسان نقول في الكون كله، فالقرآن عندما ينبه إلى دليل الخلق في الكون يعني بذلك حدوث الكون ذاته، لا حدوث أعراضه، فقولنا السماء مبدعة مخلوقة: نعني بذلك على طريقة القرآن أن الله خلق ذاتها مباشرة، وهكذا كل شيء مخلوق فالله أحدث عينه، أي خلقه وأحدثه بعد أن لم يكن، وليس الحدوث فقط للأعراض ولا هو صدور للعلة عن معلولها، والله وحده هو المختص بالقدم وليس قديم غيره لا العالم ولا مادته ولا جواهره2.   1 انظر مجموعة تفسير شيخ الإسلام ص207-208 وضحى الإسلام 3/15. 2 انظر الفتاوى 2/12 وص 260 والرد على المنطقيين ص381 وموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول 1/71 وص 141 وإغاثة اللهفان 1/44-45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وبهذا يتضح الفرق بين طريقة القرآن الكريم بمعانيها الثابتة الصحيحة -مثل الحدوث الذي مثلنا به- الموصلة لليقين النافية للشكوك والشبه، وبين غيرها من الطرق المحتملة لعدة معانٍ المورثة الجالبة للشبه والشكوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 طريقة القرآن أصل كل الطرق الصحيحة مدخل ... 7- طريقة القرآن أصل كل الطرق الصحيحة إن المتأمل لطريقتي الفلاسفة والمتكلمين وطريقة القرآن الكريم يجد أن طريقة القرآن أصل كل الطرق الصحيحة وتأتي في أصول الدين وفروعه بأكمل المناهج، فتترك الاستدلال على المقدمات الضرورية لأنها في حكم البدائه العقلية، وإنما تحتج بها على أنها مسلمة، وهذه هي الطريقة الصحيحة بخلاف ما يدعيه الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة برهانية، وهم يستدلون على المقدمات الضرورية البديهية ومن ثم يحتجون بها. وعدم سلوك القرآن الكريم لطريقة الفلاسفة والمتكلمين في المقدمات والنتائج، لا يعني أن طريقته ليست برهانية، لأن طريقة القرآن حذف المقدمة الظاهرة والاكتفاء باستقرارها في الفطر، فجاءت أدلة القرآن كلها قوة وحيوية وهي بنفس الوقت أدلة برهانية1. انظر مثلًا إلى دليل خلق الإنسان الوارد في القرآن بأساليب متعددة، ومنها قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} 2 أن هذا الدليل وارد بشكل سؤال موجه إلى المشركين وهو معتمد على مقدمة بديهية هي: أن الإنسان مخلوق، لكنه لم يذكرها ولم يستدل عليها؛ لأن ذكرها لا يزيد الدليل قوة، إنما استدل بها والإجابة عن هذا السؤال موجودة في ذهن كل مستمع، وما دام أنه مخلوق ولم يخلق نفسه فخالقه يستحق أن يفرد بالألوهية. والمتكلمين يستدلون على هذه المقدمة الظاهرة وهي كون الإنسان مخلوقًا، ومن ثم يدعون أن أدلتهم برهانية، وأن أدلة القرآن إقناعية لحذفه المقدمة الظاهرة البديهية.   1 انظر الفتاوى 2/41، 6/299، 9/225، 19/164-165، ص 231 والرد على المنطقيين ص 321 وشرح الطحاوية ص31. 2 سورة الواقعة آية 58-59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وانظر كذلك لقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1 فلو قال: وبما أنهما لم تفسدا إذن فليس فيهما آلهة إلا الله لكان ذلك غير مناسب، فترك القرآن لهذه المقدمة اعتمادًا على استقرارها في الفطر أبلغ وأشد تأثيرًا. وقد تنوعت الأساليب التي يعرض القرآن بها أدلته، وهذا التنوع له فائدة كبيرة في تقرير الحقيقة وتأكيدها وإقناع المدعوين بها؛ لأن بعض الناس قد يؤثر فيه أسلوب أكثر من أسلوب آخر غيره، وقد يقتنع إنسان بأسلوب، ويقتنع غيره بأسلوب آخر وهكذا.. يقول د. محمد عبد الله دراز متحدثًا عن اختلاف وسائل الاقتناع عند الناس: "ولا جَرَمَ أنه من أجل هذا الاختلاف في وسائل الاقتناع عند الناس تنوعت في القرآن وسائل الدعوة إلى الله وصرفت فيه الآيات تصريفًا بليغًا حتى إن الذي يستعرض أساليب الهداية القرآنية إلى عقيدة الألوهية يجدها قد أحاطت بأطراف هذا المسلك، وأشبعت تلك النزعات جميعًا بل ربما زادت في كل منهج عناصر جديدة لم يفطن إليها الباحثون المذكورون"2. ومن هذه الأساليب التي وردت في القرآن الكريم على سبيل المثال لا على سبيل الحصر: أ- الأسلوب التلقيني. ب- أسلوب الاستفهام الإنكاري. جـ- أسلوب التكرار. د- أسلوب الترغيب والترهيب. هـ- أسلوب التحدي والتهكم.   1 سورة الأنبياء آية 22. 2 الدين ص176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وأود أن أشير هنا لما أشرت إليه سابقًا من أن القرآن الكريم لا يهدف لمجرد إفحام الخصم وإلزامه الحجة فحسب، بل يتجه مع ذلك للأخذ بيده وإرشاده إلى الطريق الصحيح، ولذلك كانت أدلة القرآن دائمًا مسبوقة أو متبوعة بالدعوة لتوحيد الله وعبادته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 أ- الأسلوب التلقيني يستعمل القرآن الكريم هذا الأسلوب في تلقين الجواب الظاهر، حيث أنه لوضوحه لا ينكره المشركون بل يسلمون به، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في دليل النوائب: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إلى قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} 1، وقوله تعالى في دليل الخلق والملك: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّه..} 2، وقوله تعالى في دليل الرزق: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّه} 3. ففي هذه الآيات يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عمن ينجيهم من المخاطر ومن رب السماوات والأرض ومن يرزقهم، ويأمره بأن يجيب: "الله"، لاعترافهم أن آلهتهم لا تملك شيئًا من ذلك، وتلقينهم الجواب فيه إشارة إلى أنهم لا ينكرون ذلك وليس عندهم جواب غيره وأن سكوتهم عن الجواب لوضوحه فيه حجة عليهم، إذ إنهم ما داموا قد اعترفوا بأن فاعل ذلك هو الله فلمَ يشركون به غيره؟ ومثل هذا الأسلوب يعجز الخلق كلهم عن الإتيان بمثله.   1 سورة الأنعام آية 63-64. 2 سورة الرعد آية 16. 3 سورة سبأ آية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ب - أسلوب الاستفهام الإنكاري هذا الأسلوب يرد في القرآن متروكًا بغير جواب؟ لأنه متروك للسامع يستنتج الجواب بنفسه حتى يكون أوقع في قلبه وحتى لا يشعر بأنه ليس له حرية في الجواب لأنه متروك له وحده ولفطرته. وهذا الأسلوب يكشف عناد المعاند عندما يلجئه إلى كشف خبيثة نفسه وأنه متيقن بالجواب الصحيح. انظر لقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} إلى نهاية الآيات 1. فانظر إلى سَوق الأدلة العديدة بصيغة الاستفهام الإنكاري القائم على إثارة الأسئلة المنبهة للعقل والقلب معًا, لقوله تعالى بعد كل دليل: "أإله مع الله"، ولا نجد في الآيات جوابًا صريحًا وإنما نجد لفت النظر إلى أنهم قوم يعدلون ولا يعلمون ولا يتذكرون وهم مشركون وغير صادقين في دعواهم لله شريكًا، وهم مقرون بأن فاعل ذلك كله هو الله. هذا الأسلوب في زحزحة المشركين عن عقائدهم الفاسدة وعنادهم واستكبارهم وتشكيكهم بما هم مقيمون عليه لا يوجد في غير طريقة القرآن.   1 سورة النمل آية 59-64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 جـ- أسلوب التكرار لئن قرر كثير من العلماء بأن تكرار الشيء سبيل من سبل الإقناع به، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 كتاب الله تعالى جاء بهذا الأسلوب قبلهم، فنجد أن كل أدلة القرآن الكريم من قصص وأمثال ونعم وأدلة كونية وعقلية وردت في القرآن مكررة بصيغ مختلفة، وهذا هو التكرار المفيد غير الممل، وقد سبق لنا أن بينَّا أن قصص القرآن التي وردت مكررة كانت في كل موضع تأتي بجديد أو تركز على غرض هام من أغراض القصص القرآني، وإنه كما قال شيخ الإسلام: لو لم يكن فيها تكرار لوقعت كل قصة إلى قوم ولم تقع لغيرهم من الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 د- أسلوب الترغيب والترهيب هذا الأسلوب نافع مع أكثر الناس الذين لا يأتون إلى الحق إلا بترغيب بنتائج إيمانهم أو تخويفهم عواقب كفرهم كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} 1، وقوله تعالى: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} 2، وقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} 3. ويقول تعالى في الترهيب: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} 4، وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} 5.   1 سورة النور آية 55. 2 سورة الجن آية 16. 3 سورة نوح 10-12. 4 سورة الأنعام آية 6. 5 سورة محمد آية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 هذه الآيات ترهيب للمشركين عن طريق تذكيرهم بتدمير المشركين من قبلهم وأحيانًا يأتي بصورة تهديد مباشر لهم كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} 1، وقوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} 2. هذا ترغيب في الإيمان وترهيب من الكفر ونتائجه في الدنيا، أما في الآخرة فالآيات التي تبين أن مصير المؤمنين الموحدين في الجنة ومصير الكافرين في النار كثيرة جدًّا نكتفي بمثال واحد: يقول تعالى مبينًا مصير المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} 3. ويقول تعالى مبينًا مصير المشركين: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} 4. إن هذا الأسلوب لا نجده عند المناطقة لأنهم لا يملكون ثوابًا ولا عقابًا بل إن بعضهم يقول بفناء الجنة والنار وحركات أهل الخلديْن.   1 سورة الملك 16-17. 2 سورة فصلت آية 13. 3 سورة الكهف آية 107-108. 4 سورة المائدة آية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 هـ- أسلوب التحدي والتهكم : قد يرد الدليل في القرآن بصيغة التحدي للآلهة من دون الله ولعابديها، وذلك لتقرير حقيقة أنها لا تستحق الألوهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وقد مر معنا تحدي إبراهيم لقومه وأصنامهم عندما قام بتكسيرها معلنًا عداوته لها، وكذلك تحديه للنمرود أن يأتي بالشمس من المغرب، وقد أمر الله نبيه محمدًا بقوله: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ} 1 فتحدي مشركي قومه وآلهتهم. وهذا التحدي ورد على لسان كثير من الأنبياء لبيان عجز آلهة المشركين عن إلحاق الضرر بهم، وما كان هذا شأنه فليس إلهًا.   1 سورة الأعراف آية 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الخاتمة وفيها خلاصة البحث يتبين لنا مما تقدم من أبواب هذا البحث وفصوله ما يلي:- أولًا: أن العقيدة هي ما يدين الإنسان به، وأن مصدر هذه العقيدة عند السلف هو الكتاب والسنة فهي توقيفية، وأن هذه العقيدة واضحة سهلة فطرية ثابتة لا تتغير مع الزمان، وهي وسط بين التفريط والإفراط في كل شيء. ثانيًا: أن سلطان العقيدة على النفوس أقوى من سلطان القانون، وبهذه العقيدة يتغير مجرى الحياة كاملًا نحو الأفضل في كل شيء. وأن هذه العقيدة تهب صاحبها العزة وقبول حكم الله في كل شيء، ويكون صاحب العقيدة نشيطًا منتجًا وعنده إيثار وتضحية وشجاعة وسعة النظر ووضوح الهدف، والعقيدة تجعل الضمير يقظًا حيًّا وصاحبها مطمئن البال مستريح الفكر غير قلق على المستقبل وعنده قيم وموازين ثابتة، فهو يعادي في الله ويحب في الله ويتوازن فيه الروح والعقل والجسم فلا يطغى بجانب على جانب، وأن المجتمع الذي ينتمي لهذه العقيدة مجتمع يعتز بأصله الأصيل العريق في التاريخ حيث ينتمي لأمة الرسل جميعًا وهو مجتمع يتلقى الأوامر للتنفيذ العملي ويرى على عاتقه واجب إنقاذ البشرية من ضلالها. ومجتمع العقيدة مجتمع يستوي أفراده، وفيه عدل وإخاء، وهو مجتمع قوي ومتماسك وتقوم الروابط بين أفراده على أساس العقيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ثالثًا: أن هذه العقيدة ثابتة لا تتطور وأن القائلين بفكرة تطور العقيدة أعداء لدين التوحيد، وهم إما مغرورون أو مدفوعون بدوافع الحقد على الإسلام وأهله. رابعًا: أن معنى كلمة الإله هو المعبود، ومعنى كلمة الرب هو المدبر المتصرف، وأن معنى كلمة الدين هو القهر والطاعة والانقياد والجزاء والمحاسبة، ومعنى كلمة العبادة هو الخضوع والذل. خامسًا: أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهي توحيد الربوبية والألوهية وتوحيد الأسماء والصفات. وأن الرسل بعثوا لدعوة أقوامهم لتوحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية مستقر في الفطر ولا ينجي من النار ولا يدخل في الجنة. سادسًا: أن عقيدة التوحيد ضرورية لاستقامة الحياة البشرية وصلاحها وبدونها تصبح الحياة فوضى لا معنى لها وجاهلية عمياء، وأنه لا نجاة في الآخرة إلا بالتوحيد. سابعًا: أن القرآن وجّه النظر إلى الأدلة الكونية الدالة على وحدانية الله تعالى مشيرًا بذلك إلى دليل الخلق والعناية، وأن القائلين بالصدفة والطبيعة قولهم هذا لا يستند إلى دليل ولا برهان. ثامنًا: أن القرآن ضرب الأمثال في دعوته إلى التوحيد لما فيها من تقريب البعيد والغامض للأذهان وإظهاره بصورة المحسوس. تاسعًا: أن القرآن دعا للتوحيد عن طريق القصص القرآنية التي تثني على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الموحدين وتبين إنجاء الله لهم من عدوهم على قلتهم وتدمير الله للكفرة أعداء التوحيد على كثرتهم. عاشرًا: أن القرآن دعا للتوحيد بالتذكير بنعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى؛ لأن ذا العقل السليم لا يرضى أن يعبد ويشكر غير المنعم. حادي عشر: أن القرآن استعمل الأدلة العقلية في دعوته للتوحيد، وأن دلالة القرآن سمعية عقلية ويخطئ من يظن أنه ليس في القرآن أدلة عقلية. ثاني عشر: أن المتكلمين ركزوا على توحيد الربوبية الذي فطر عليه الناس وأتعبوا أنفسهم في الاستدلال على ذلك بطريق حدوث الأعراض والتي تمتاز بتقديمها للعقل على الشرع وهي طويلة متعبة غير عملية وتؤدي إلى الشك والحيرة. ثالث عشر: أن الفلاسفة ركزوا على إثبات واجب الوجود الذي هو توحيد الربوبية واستدلوا بطريقة الإمكان والوجوب والتي لها مخاطر عظيمة، فكان إثباتهم بذلك لوجود مطلق لا يدل على الله بعينه، وتمتاز طريقتهم بجواز أن يكون الممكن قديمًا وأنها تخمينية لا يقينية وتناقض التوحيد، وليس لها رسالة في الأرض، والتبس فيها الحق بالباطل. رابع عشر: أن طريقة القرآن تخالف الطريقتين السابقتين، لأنها ليست بشرية ولا خاضعة لهوى من الأهواء، وأنها تمتاز بتركيزها على توحيد الألوهية الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وفرضه على عباده، وتمتاز بمناسبتها لجميع الناس وخلوها من التعقيد لفطريتها، وهي كذلك عملية لا تكتفي بمجرد النظريات، وأنها تنفي الشكوك والشبهات لإتيانها بمعانٍ صحيحة ثابتة، وهي أصل كل الطرق الصحيحة. وصلى الله على النبي الأمي محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 فهرس المراجع 1- القرآن الكريم. 2- ابن تيمية حياته وعصره، آراؤه وفقهه: محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي. 3- الاتقان في علوم القرآن: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، مطبعة مصطفى الحلبي بمصر، ط3، 1371هـ، 1951م. 4- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية: ابن القيم، مكتبة الرياض الحديثة. 5- أحمد بن حنبل بين محنة الدين ومحنة الدنيا: أحمد عبد الجواد الدومي، المكتبة العصرية، بيروت، ط2، 1392هـ، 1972م. 6- أخطاء المنهج الغربي الوافد: أنور الجندي، دار الكتاب اللبناني ط1، 1974م. 7- أساس البلاغة: جار الله أبو القاسم الزمخشري، دار صادر، بيروت، 1385هـ، 1965م. 8- الإسلام في مواجهة الماديين والملحدين: عبد الكريم الخطيب، دار الشروق، بيروت، 1393هـ، 1973م. 9- أصول مذهب الإمام أحمد: د. عبد الله التركي، مكتبة الرياض الحديثة، ط2، 1977م. 10- أعلام الموقعين عن رب العالمين: ابن قيم الجوزية، تحقيق طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 11- إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان: ابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت. 12- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: ابن تيمية، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة ط2، 1369هـ، 1950م. 13- الله يتجلى في عصر العلم: مجموعة من كبار العلماء الأمريكان، حرره كلوفر مونسما وترجمه الدمرداش عبد المجيد -مؤسسة الحلبي، القاهرة، ط3، 1968م. 14- الإنصاف فيما يجب اعتقاده: محمد بن الطيب الباقلاني، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، القاهرة، 1369هـ، 1950م. 15- الإيمان وآثاره والشرك ومظاهره: زكريا على يوسف، مطبعة الإمام القاهرة، ط1. 16- الإيمان والحياة: د. يوسف القرضاوي، مطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة، ط5، 1977م. 17- بدائع الفوائد: ابن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1. 18- البرهان في علوم القرآن: الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، عيسى الحلبي وشركاه، ط1، 1376هـ، 1957م. 19- بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، شيخ الإسلام ابن تيمية، تعليق محمد بن عبد الرحمن قاسم، مطابع الحكومة، مكة المكرمة، ط1، 1391هـ. 20- بين العقيدة والقيادة، محمود شيت خطاب، دار الفكر، بيروت ط1، 1392هـ، 1972م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 21- تاج العروس في جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي، دار مكتبة الحياة، بيروت، المطبعة الخيرية بمصر، 1306هـ. 22- تاريخ الفلسفة العربية، د. جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط2، 1973م. 23- التبيان في أقسام القرآن: ابن قيم الجوزية، تحقيق طه يوسف شاهين، دار الطباعة المحمدية، القاهرة. 24- التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية: فالح بن مهدي آل مهدي، ط1، 1368هـ. 25- تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد: محمد بن إسماعيل الصنعاني، المكتب الإسلامي، ط3، 1394هـ، 1974م. 26- تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران: أحمد بن حجر آل بوطامي، مكتبة دار الحكمة، الكويت، ط2، 1392هـ، 1972م. 27- تفسير البحر المحيط: أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض. 28- تفسير الطبري: محمد بن جرير الطبري، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط2، 1373هـ- 1954م. 29- تفسير القرآن العظيم: إسماعيل بن كثير القرشي، مطبعة الاستقامة، القاهرة، ط2، 1373هـ- 1954م. 30- تفسير القرطبي: أبو عبد الله محمد الأنصاري القرطبي، دار الكتاب العربي، القاهرة، ط3، 1378هـ، 1967م. 31- التفسير القيم: ابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية ط1، 1368هـ، 1949م. 32- تفسير الكشاف: أبو القاسم جار الله الزمخشري، دار الفكر، بيروت، ط1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 33- تلبيس إبليس: أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، مطبعة النهضة المصرية، القاهرة، ط2، 1928م. 34- التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية: عبد العزيز ناصر الرشيد، مطبعة الإمام، القاهرة، 1377م. 35- تهافت الفلاسفة: أبو حامد الغزالي، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، ط4، 1385 هـ- 1966م. 36- التوحيد في تطوره التاريخي: ثريا منقوش، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1977م. 37- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، المكتب الإسلامي، دمشق، ط1، 1382 هـ- 1962م. 38- دعوة التوحيد، محمد خليل الهراس، مطبعة الإمام، القاهرة. 39- الدين: محمد عبد الله دراز، مطبعة الحرية، بيروت، ط3، 1394هـ، 1974م. 40- الدين الخالص: محمد صديق حسن القنوجي، مطبعة المدني بمصر. 41- الرد على المنطقيين: ابن تيمية، إدارة ترجمان السنة مطبعة معارف لاهور، ط2، 1396هـ، 1976م. 42- الرسالة التدمرية: شيخ الإسلام ابن تيمية، مطبعة السنة المحمدية، ط1، 1371هـ، 1952م. 43- الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية: زيد بن عبد العزيز بن فياض، مطابع الرياض، ط1، 1378هـ. 44- سفر السعادة وسفير الإفادة: أبو الحسن علي السخاوي الهمداني، والناسخ محمد بن عبد المنعم القرشي 638هـ، مخطوطة بجامعة الرياض وجامعة الإمام بالرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 45- سنن ابن ماجه: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، الناشر مطبعة عيسى الحلبي، ط2. 46- سنن الترمذي: أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر، المكتبة الإسلامية. 47- السيرة النبوية: لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1355هـ، 1936م. 48- الشامل في أصول الدين: إمام الحرمين الجويني، تحقيق د. على سامي النشار، دار المعارف، الإسكندرية، ط1، 1389 هـ، 1969م. 49- شرح الطحاوية في العقيدة السلفية: على بن محمد بن أبي العز الحنفي، تحقيق أحمد محمد شاكر، 1396هـ. 50- صحيح البخاري بشرح فتح الباري: الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1380هـ. 51- صحيح مسلم بشرح النووي: الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1347هـ، 1929م. 52- صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان: محمد بشير السهواني، تعليق الشيخ إسماعيل الأنصاري، مطابع نجد التجارية، الرياض، ط5، 1395 هـ، 1975م. 53- ضحى الإسلام: أحمد أمين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط7، 1964م. 54- العبودية: شيخ الإسلام ابن تيمية، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1389هـ. 55- العقائد السلفية شرح الدرر السنية: أحمد بن حجر آل بوطامي، بيروت، ط1، 1970م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 56- العلم يدعو للإيمان: كريسي موريسون، ترجمة محمود صالح الفلكي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1954م. 57- غاية الأماني في الرد على النبهاني: أبو المعالي محمود شكري الآلوسي، مطابع نجد التجارية، الرياض، ط2، 1391هـ. 58- الفوائد: ابن قيم الجوزية، إدارة الطباعة المنيرية، ط1. 59- كتاب الأصنام: هشام بن محمد بن الكلبي، تحقيق أحمد زكي، المطبعة الأميرية بالقاهرة، 1332هـ، 1914م. 60- كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب: الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة، تعليق محمد خليل هراس، مكتبة الكليات الأزهرية، 1378هـ، 1968م. 61- لسان العرب: أبو الفضل جمال الدين بن منظور، دار صادر، بيروت، 1375هـ، 1956م. 62- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع: أبو الحسن الأشعري، صححه وعلق عليه د. حمودة غرابة، مطبعة مصر، 1955م. 63- مجموعة تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية: تحقيق عبد الصمد شرف الدين، مطبعة "ق" بمباي، الهند، 1374هـ، 1954م. 64- مجموعة الرسائل المنيرية، إدارة الطباعة المنيرية، بيروت، 1970م. 65- مجموعة فتاوى شيخ الإسلام، ابن تيمية، ط1، 1381هـ. 66- المخصص، ابن سيده أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي، المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت. 67- مدارج السالكين: ابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1393هـ، 1973م. 68- مسند الإمام أحمد بن حنبل: المكتب الإسلامي ودار صادر، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 69- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: أحمد بن محمد الفيومي، صححه مصطفى السقا. 70- معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد: الشيخ حافظ بن أحمد حكمي، المطبعة السلفية. 71- معجم مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، دار إحياء الكتب العربية، ط1. 72- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة: ابن قيم الجوزية. 73- المقابسات: أبو حيان التوحيدي، تحقيق حسن السندوبي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1347هـ، 1929م. 74- مناهج الجدل في القرآن الكريم: د. زاهر عواض الألمعي، مطابع الفرزدق التجارية، ط1، 1979م. 75- المنقذ من الضلال: أبو حامد الغزالي، تحقيق د. عبد الحليم محمود، دار النصر للطباعة، القاهرة. 76- منهاج السنة النبوية: ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، دار العروبة، القاهرة، ط1، 1382هـ، 1962م. 77- موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول: شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ومحمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1370هـ، 1951م. 78- موسوعة العقاد الإسلامية، الجزء الأول: عباس محمود العقاد، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1970م. 79- النبأ العظيم: د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط3، 1394هـ، 1974م. 80- النبوات: شيخ الإسلام ابن تيمية، طبعة مكتبة الرياض الحديثة. 81- نشأة الدين: علي سامي النشار، مطابع عابدين، الإسكندرية، 1368هـ، 1949م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 82- نظرية التكليف: د. عبد الكريم عثمان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1391هـ، 1971م. 83- نهاية الإقدام في علم الكلام، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشَهرستاني، مكتبة المثنى، بغداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 فهرس الموضوعات ... فهرس الكتاب الموضوع الصفحة المقدمة 5 الباب الأول: العقيدة ومكانتها 13 تمهيد الباب 15 الفصل الأول: تعريف العقيدة 17 أ- تعريف العقيدة لغة 17 ب- تعريف العقيدة شرعًا 20 الفصل الثاني: مصدر العقيدة الإسلامية 21 الفصل الثالث: مزايا العقيدة الإسلامية 24 1- عقيدة واضحة سهلة 25 2- عقيدة فطرية 25 3- عقيدة ثابتة محددة 26 4- عقيدة مبرهنة 28 5- عقيدة وسط 30 الفصل الرابع: أثر العقيدة في سلوك الفرد والمجتمع 32 أ- سلطان العقيدة على النفوس 33 ب- حالة العرب قبل الإسلام 35 جـ- أثر العقيدة في سلوك الفرد 37 د- أثر العقيدة في سلوك المجتمع 43 هـ- أمثلة لآثار العقيدة 47 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الفصل الخامس: ثبات عقيدة التوحيد وأنها أصل الرسالات 50 أ- مذاهب التطوريين والرد عليها 50 1- المذهب الطبيعي 50 2- المذهب الروحي 51 3- المذهب التوتمي 51 ب- أسباب القول بفكرة التطور 55 1- المصدر الأول الكنيسة 55 2- المصدر الثاني المبشرون 55 3- المصدر الثالث الكتاب المعاصرون 56 جـ- أسباب خطئهم في المنهاج الذي سلكوه 56 د- الرد الإجمالي على نظرية التطور 57 الباب الثاني: حقيقة التوحيد 65 تمهيد الباب 67 الفصل الأول: معنى كلمة الإله، الرب، الدين، العبادة 69 1- معنى كلمة الإله 70 أ- الله علم على الذات الواجب الوجود 70 ب- أصل لفظ الجلالة "الله" 71 جـ- معنى لفظ الجلالة والاشتقاقات التي يرجع إليها 75 د- سبب تسمية الأصنام آلهة 80 2- معنى كلمة "الرب" 82 الأصل الأول 82 الأصل الثاني 83 الأصل الثالث 84 3- معنى كلمة الدين 90 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 4- أ- معنى كلمة العبادة 98 ب- انقسام العبودية إلى عبودية عامة وعبودية خاصة 100 جـ- الفرق بين العبودية العامة والخاصة 102 د- دعوة الرسل جميعًا إلى عبادة الله 103 هـ- شروط صحة العبادة وأنواعها 105 الفصل الثاني: أنواع التوحيد وفي أيها وقع النزاع بين الرسل وأممهم 108 أ- أقسام التوحيد 108 ب- شبهة المنكرين لهذا التقسيم والرد عليها 109 جـ- معاني أنواع التوحيد الثلاثة وكيف يحصل الإشراك بكل نوع منها 110 1- توحيد الربوبية 110 2- توحيد الألوهية 114 3- توحيد الأسماء والصفات 120 د- العلاقة بين أنواع التوحيد 122 الفصل الثالث: الضرورة إلى عقيدة التوحيد 127 الحاجة للتوحيد في الآخرة 129 الحاجة للتوحيد في الدنيا 130 الباب الثالث: المنهج القرآني في تقرير عقيدة التوحيد 137 تمهيد الباب 139 الفصل الأول: تقرير القرآن للتوحيد بالأدلة الكونية 141 أ- اشتمال الآيات القرآنية الكونية على دليلي الخلق والعناية 142 1- دليل الخلق 142 شبهة الطبيعة 144 2- دليل العناية 147 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 شبهة المصادفة 149 ب- آية السماوات والأرض 152 جـ- آية الشمس والقمر والليل والنهار 155 د- آية الرياح والمطر والنبات 158 الفصل الثاني: تقرير القرآن للتوحيد بضرب الأمثال: 162 1- الأمثال المضروبة لله ولما يعبد من دونه 164 2- المثل المضروب لكلمة التوحيد وكلمة الشرك 167 3- المثل للحق والباطل 169 4- أمثلة عجز آلهة المشركين 170 5- الأمثال المضروبة لوصف حالة المشرك والموحد 173 6- مثل قلب الموحد وقلب المشرك 177 7- أمثلة وصف حواس الموحد وحواس المشرك 179 8- مثلان لبيان فساد أعمال المشركين 183 الفصل الثالث: تقرير القرآن للتوحيد بالقصص القرآني 189 القسم الأول: قصص أربعة من أولي العزم من الرسل 192 1- قصة نوح عليه السلام مع قومه 192 2- قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه 195 3- قصة موسى عليه السلام 198 4- قصى عيسى بن مريم عليهما السلام 204 القسم الثاني: قصص رسل من غير أولي العزم 211 1- قصة هود عليه السلام مع قومه 211 2- قصة صالح عليه السلام مع قومه 214 3- قصة شعيب عليه السلام مع قومه 216 4- قصة يونس عليه السلام 219 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 5- قصة يوسف عليه السلام 221 6- قصة سليمان مع بلقيس 223 القسم الثالث: قصتان لغير الرسل من الموحدين 225 1- قصة أصحاب الكهف 225 2- قصة أصحاب الأخدود مع الموحدين 228 الفصل الرابع: تقرير القرآن للتوحيد بالتذكير بنعم الله 230 1- نعمة الشمس والقمر والليل والنهار 234 أ- نعمة الشمس والقمر 234 ب- نعمة الليل والنهار 235 2- نعمة الأرض والجبال 237 أ- نعمة الأرض 237 ب- نعمة الجبال 238 3- نعمة البحر 240 أ- نعمة تسيير الفلك فيه 240 ب- نعمة استخراج اللحم الطري 241 جـ- نعمة استخراج الحلي 241 د- نعمة عدم اختلاط الماءين المالح والحلو 242 4- نعمة الرياح والمطر والنبات 244 أ- نعمة الرياح 244 ب- نعمة المطر 245 جـ- نعمة النبات 246 5- نعمة الأنعام 248 أ- نعمة التذليل 248 ب- نعمة الركوب والحمل 249 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 جـ- نعمة الجلد وما فيه من صوف وشعر ووبر 249 د- نعمة اللبن 250 هـ- نعمة اللحم 250 6- نعمة السمع والبصر 253 7- نعمة الأمن 255 الفصل الخامس: تقرير القرآن للتوحيد بالأدلة العقلية 258 المبحث الأول: الكلام على الأدلة العقلية المتعلقة بالله 261 1- دليل الخلق والملك 261 أ- خلق جميع المخلوقات وملكها 261 ب- دليل خلق الإنسان 266 2- دليل عدم فساد الكون 272 3- دليل نفي الولد عن الله تعالى 276 أ- الفرع الأول: نفي الولد عن الله نفيًا عامًّا 276 ب- الفرع الثاني: نفي البنت عن الله 279 4- دليل الرزق 283 5- دليل النوائب 287 المبحث الثاني: الكلام على الأدلة العقلية المتعلقة بالأصنام 291 1- دليل النقص 291 أ- فقد الأصنام للحياة 291 ب- فقد الأصنام للنطق 292 جـ- فقد الأصنام للسمع والبصر والأطراف 295 2- دليل العجز 298 أ- عجز الأصنام في الدنيا 298 ب- عجز الأصنام في الآخرة 300 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الباب الرابع: مميزات طريقة القرآن الكريم على طريقة المتكلمين والفلاسفة في تقرير عقيدة التوحيد 303 تمهيد الباب 305 الفصل الأول: مميزات طريقة المتكلمين 307 أولًا: طريقة المتكلمين في الاستدلال على وجود الله 308 ثانيًا: مميزات طريقة المتكلمين 311 1- جعل المتكلمون هدفهم الأول هو إثبات توحيد الربوبية 311 2- تقديم العقل على الشرع وجنوحهم إلى التأويل وإيجابهم النظر 312 3- طريقتهم طويلة متعبة 313 4- بعد طريقتهم عن التوحيد الحقيقي المبعوث به الرسل 314 5- طريقتهم غير عملية ولا تناسب جميع الناس 315 6- طريقتهم نهايتها الشك والحيرة وندم أصحابها لسلوكها وذمها السلف 316 الفصل الثاني: مميزات طريقة الفلاسفة 319 أولًا: طريقة الفلاسفة في الاستدلال على واجب الوجود 320 ثانيًا: مميزات طريقة الفلاسفة 322 أ- جواز أن يكون الممكن قديمًا 322 ب- طريقتهم لا تفيد علمًا ولا عملًا 323 جـ- طريقتهم تناقض التوحيد 324 د- طريقتهم غير عملية وليس لها رسالة في الأرض 325 هـ- طريقتهم التبس فيها الحق بالباطل 326 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الفصل الثالث: مميزات طريقة القرآن الكريم 327 1- ضم الأدلة إلى بعضها والاستدلال بها كلها 329 2- الرد على جميع المخالفين 334 3- مناسبتها لجميع الناس 337 4- ملاءمتها للفطرة وخلوها من التعقيد 341 5- طريقة القرآن عملية لا تكتفي بمجرد النظريات 343 6- طريقة القرآن تنفي الشكوك والشبهات 345 7- طريقة القرآن أصل كل الطرق الصحيحة 347 أ- الأسلوب التلقيني 349 ب- أسلوب الاستفهام الإنكاري 350 جـ- أسلوب التكرار 350 د- أسلوب الترغيب والترهيب 351 هـ- أسلوب التحدي والتهكم 352 الخاتمة 355 فهرس المراجع 359 فهرس الموضوعات 367 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374