الكتاب: فن الإلقاء المؤلف: طه عبد الفتاح مقلد الناشر: مكتبة الفيصلية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- فن الإلقاء طه عبد الفتاح مقلد الكتاب: فن الإلقاء المؤلف: طه عبد الفتاح مقلد الناشر: مكتبة الفيصلية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] الفصل الأول: نشأة فن الإلقاء مدخل ... نشأة فن الإلقاء لقد عني المسلمون الأولون بلغة القرآن الكريم، والحفاظ عليها، وبذلوا جهودهم في دراسة هذه اللغة، كما عنوا بدراسة صيغ الكلمات وحروفها ومخارجها ومجموع الأصوات التي تتكون منها اللغة. فحين انتشر الإسلام خارج الجزيرة العربية ودخل الأعاجم في دين الله وأخذوا يتعلمون العربية، أحس أهل الحفاظ على لغة القرآن أن العربية على لسان غير العرب قد أصابها تغييرات في نطق الكلمات هددت بمسخ صورة وقعها وجرسها وطبيعة تكوينها وتركيبها، فغير العرب كانوا يستبدلون بأصوات عربية أخرى أصواتًا أسهل عليهم في النطق. ولا غرابة فقد دخلت اللغة العربية في صراع مع اللغة الفارسية وكذلك مع اللغة اليونانية كما اصطدمت العربية مع اللغة القبطية في مصر، واللغة البربرية في شمال أفريقيا. وأخذت تظهر اللغة العربية المولدة على ألسنة الأعاجم بخصائصها وصفاتها التي تغاير العربية، ولقد أوضح الجاحظ في كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 البيان والتبيين جانبًا من هذه اللغة المولدة واللهجات التي كانت تنطق بها، كما كشف ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان عن جانب من ذلك. هذا مما جعل العربية تصاب على ألسنة الأعاجم باللثغة واللكنة والعجمة والإغلاق وعدم الإبانة، وخشي العرب على لغتهم من طول مخالطة السامع للعجم وسماعه للفاسد من الكلام، وأخذوا يعملون جاهدين على تنقية اللغة والحفاظ على أصواتها وصونها من اللحن ومن تعسر النطق السليم بها. ولم يقف القدماء صامتين أمام هذه الظاهرة، ولكن كانوا أشد حرصًا على تنقية اللغة، والجهود التي بذلوها جهودًا توضح مدى الحرص على إعادة النطق السليم للعربية، وللذين يقرءون القرآن الكريم. فلقد وضعوا في ذلك كتبًا هي مراجع للدارسين في هذا الميدان، فأبو الفتح بن جني يقول في مقدمة كتابه سر صناعة الإعراب: .... أن أضع كتابًا يشتمل على جميع أحكام حروف المعجم وأحوال كل حرف منها، وكيفية مواقعه في كلام العربية، .... وأذكر أحوال هذه الحروف في مخارجها ومدارجها وانقسام أصنافها وأحكام مجهورها ومهموسها وشديدها ورخوها وصحيحها ومعتلها .... 1. ومن يتصفح كتب القدماء فسيرى جهودًا لا تعرف الملل في سبيل ألا تنحرف أصوات العربية نتيجة لتأثرها باللغات الأخرى. وكانت هذه الدراسة حدثًا بارزًا في تاريخ العربية حين وضعوا   1 سر صناعة الإعراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 قواعد تكفل الحفاظ على النطق السليم وصون اللغة من التحريف. وأصبحت هذه القواعد صمام الأمان من انحراف الألسنة عبر عصور التاريخ، بل لم يسبق لأمة من الأمم أن فكرت من قبل ذلك في وضع قواعد للنطق. فالعرب هم أول أمة فكرت في وضع قواعد لنطق الأصوات اللغوية ثم أخذت عنهم بعد ذلك أمم كثيرة بعد أن أصاب لغتهم ما أصابها من تحريف أو انقسام مثل ما حث في اللغة اللاتينية أو في غيرها من لغات العالم. ولقد كان القرآن الكريم هو أساس هذه الدراسات التي قام بها أهل الحفاظ على اللغة، من أجل الأداء السليم للنص القرآني. وكان الهدف الأساسي من هذه الدراسات الصوتية هو الحفاظ على لغة القرآن وتلاوته حق تلاوة، وترتيله امتثالا لقوله تعالى: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} 1، والترتيل كما أوضح الزجاج: أن تبين القرآن تبيينًا، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن، وإنما يتم بأن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع، وكما ذكر الليث، الترتيل تنسيق الشيء إذا تمهلت فيه وأحسنته، وقال الضحاك: اقرأه حرفًا حرفًا 2. وظهر علم القراءات من أجل صيانة القرآن من التحريف والتغيير ومعرفة كيفية الأداء، فليس كل من سمع يقدر على الأداء 3.   1 سورة المزمل: آية: "4". 2 انظر القرطبي: ج: 19، ص: 37، والفخر الرازي: ج: 2، ص: 173. 3 انظر إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، لأحمد بن محمد الدمياطي الشهير بالبناء: ت "1117"، ص: "5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وقد عمل الأقدمون غاية جهدهم في وضع القواعد؛ لكي يحسن المؤمن قراءة القرآن ترتيلا وتجويدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 صلة فن الإلقاء بعلم التجويد ولكي تتضح الصلة بين نشأة فن الإلقاء وما عرف بتجويد القرآن، نعود إلى تعريف التجويد، فنرى أن: التجويد: مصدر جوَّد تجويدا، والاسم منه الجودة ضد الرداءة، وهو في اللغة: التحسين، يقال: جود الرجل الشيء إذا أتى به جيدا، ويقال لقارئ القرآن المحسن تلاوته: مجود -بكسر الواو- إذا أتى بالقراءة مجودة -بفتح الواو- أي: الألفاظ بريئة من الجور والتحريف حال النطق بها عند القراءة. وفي الاصطلاح: إخراج كل حرف من مخرجه وإعطاؤه حقه -بفتح الحاء- من الصفات، فحق الحرف من الصفات أي: الصفات اللازمة الثابتة التي لا تنفك عنه بحال: كالجهر والشدة والاستعلاء والاستفال والإطباق والقلقلة إلى غير ذلك. وإعطاؤه مستحقة من الصفات العارضة التي تعرض له في بعض الأحوال، وتنفك عنه في البعض الآخر لسبب من الأسباب: كالترقيق، فإن الأول ناشئ عن صفة الاستفال، والثاني ناشئ عن صفة الاستعلاء، وكذلك الإظهار والإدغام والقلب والإخفاء والمد والقصر إلى غير ذلك من الصفات 1   1 انظر النشر في القراءات العشر: ج: 1، ص: 21، للحافظ بن الجوزي، وهداية القاري إلى تجويد كلام الباري: عبد الفتاح السيد المرصفي، ص: 73. والتجويد الميسر لأبي عاصم بن عبد العزيز بن عبد الفتاح القاري، ج: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وعني علماء الإسلام بعلم القراءات والتدوين فيه، فكتب مجاهد كتابه السبعة وله كتاب القراءات الصغير والكبير 1. وكتب إسماعيل بن إسحاق المالكي المتوفى سنة 310هـ، الجامع فيه عددا من القراءات 2، وألف أحمد بن جبير المتوفى 358 هـ، كتابا ضمنه قراءة أئمة الأمصار الخمسة: مكة، والمدينة، والبصرة، والكوفة والشام 3. وألف محمد بن أحمد الداجوني المتوفى سنة 334 هـ، كتابا سماه القراءات الثمانية، جمع فيه قراءة الأئمة السبعة المشهورين، وأضاف إليهم قراءة أبي جعفر4، كما ظهرت مؤلفات في طبقات القراء، وفي الاحتجاج بالقراءات، بل ذكر لنا الفهرست لابن النديم، ووفيات الأعيان لابن خلكان، والوافي بالوفيات للصفدي، وبغية الوعاء للسيوطي، ومعرفة القراء الكبار على طبقات الأمصار للإمام الذهبي، وغيرهم ممن ذكروا لنا العديد من كتب القراءات التي ألفها السابقون. ولقد حفلت المكتبة العربية بكتب مطبوعة في علم القراءات من أهمها: - الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، لمكي بن أبي طالب القيسي: 355- 437هـ، 5.   1 الفهرست ص: 53. 2 النشر ج: 1، ص: 34. 3 طبقات القراء ج: 1، ص: 342. 4 انظر غاية النهاية ج: 2، ص: 77. 5 طبع في مصر تحقيق د. عبد الفتاح شلبي، وطبع في دمشق تحقيق د. محيي الدين رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 - إبراز المعاني من حرز الأماني شرح علي الشاطبية، تأليف عبد الرحمن بن إسماعيل المقدس الشهير بأبي شامة، توفي سنة 665هـ1. - إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، تأليف أحمد بن محمد الدمياطي 2. - تحبير التيسير في القراءات العشر من طريق الشاطبية والدرة، تأليف الإمام محمد بن محمد الجزري، المتوفى سنة 832هـ 3. - منار الهدى في بيان الوقوف والابتدا، للأشموني 4. - المكتفى في الوقف والابتدا، لأبي عمرو الداني 5. - الحجة في القراءات السبع، تأليف الحسين بن أحمد بن خالويه، المتوفى سنة 370هـ 6. - الحجة في علل القراءات السبع، تأليف الحسن بن أحمد الشهير، بأبي علي الفارسي، المتوفى سنة 377هـ7. - حجة القراءات، للإمام أبي زُرْعة 8. - سراج القارئ المبتدئ وتذكرة القارئ المنتهي، شرح علي الشاطبية، تأليف أبي القاسم علي بن عثمان الشهير بابن الفاصح، المتوفى سنة 801 هـ 9.   1 طبع في القاهرة 2 طبع بمكتبة المشهد الحسيني، القاهرة. 3 طبع في القاهرة. 4 طبع في دار المصحف، بدمشق. 5 طبع في دمشق في مؤسسة الرسالة، تحقيق د. يوسف المرعشلي. 6 طبع في دمشق. 7 ط: الهيئة القومية للكتاب، وصدر منه جزءان. 8 ط: بنغازي 1974. 9 طبع في القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 - طيبة النشر في القراءات العشر تأليف ابن الجزري 1. - غيث النفع في القراءات السبع، تأليف الشيخ علي النووي الصفاقسي 2. - كتاب السبعة، لابن مجاهد، ت 324هـ 3. - الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها، تأليف مكي بن أبي طالب القيسي، ت 437هـ 4. - كنز المعاني في شرح حرز الأماني، تأليف محمد بن أحمد الشهير بشعلة 5. - التيسير في القراءات السبع، تأليف أبي عمرو الداني المتوفى سنة 444هـ 6. - حرز الأماني ووجه التهاني نظم في القراءات السبع، للإمام الشاطبي 7. - المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات، تأليف أبي الفتح بن جني 8. - مختصر شواذ القراءات تأليف الإمام خالويه 9. - النشر في القراءات العشر، تأليف الإمام ابن الجزري 10.   1 طبع في القاهرة. 2 طبع في القاهرة على هامش كتاب سراج القارئ. 3 طبع في دار المعارف تحقيق د. شوقي ضيف. 4 طبع في دمشق تحقيق د. محيي رمضان. 5 طبع في القاهرة. 6 طبع في استانبول سنة 1930. 7 طبع في القاهرة. 8 نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية القاهرة. 9 طبع في القاهرة. 10 طبع في القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 - لطائف الإشارات لفنون القراءات، للقسطلاني 1. - غاية النهاية في طبقات القراء، لابن الجزري 2. - الإقناع في القراءات السبع، لابن الباذش 3. فغاية ما يسعى إليه فن الإلقاء هو إجادة القول، وأن يتعود القارئ على النطق السليم والقول الفصيح، مهتديا بما كتب من أحكام في فن التجويد الذي يعد أساسًا في دراسة علم الأصوات وإجادة النطق، ذلك لأن المقصود من تجويد القرآن هو قراءته بالطريقة الصحيحة، كما قرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكما قرأها الصحابة -رضوان الله عليهم- وذلك بالمحافظة على أحكامها من إدغام وإظهار وإقلاب وإخفاء ومد وغنة، وتبيين حروفه وإخراجها من مخارجها، وعدم الخلط بينها، والقراءة بتمهل وتأنٍ وفصاحة، وعدم الاستعجال في القراءة والتغني دون تكلف ولا تمطيط، ومن غير أن يتشبه بأهل الإلحاد والفساق وتحسين الصوت أثناء القراءة، وقد أمرنا الله -عز وجل- بتجويد القرآن فقال: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} . ولكي يستطيع القارئ أن يقرأ القرآن قراءة صحيحة عليه أن يرجع إلى ما وضعه الأئمة من ميزان يرجع إليه، وهو السند والرسم والعربية، فكل ما صح سنده، ووافق وجهًا من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحًا، مجمعًا عليه، أو مختلفا فيه اختلافًا لا يضر، ووافق خط مصحف من المصاحف فهو السبعة الأحرف المنصوصة في الحديث، فإذا اجتمعت هذه الثلاثة في قراءة وجب قبولها سواء أكانت   1 تحقيق د. عبد الصبور شاهين، والشيخ عامر السيد عثمان، طبعة القاهرة. 2 الطبعة الأولى سنة 1352هـ بالقاهرة. 3 المتوفى سنة 540هـ تحقيق د. عبد المجيد قطامش، مركز البحث العلمي، جامعة أم القرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 عن السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين 1. ووضع علماء القراءة ضوابط دقيقة للفصل بين قراءة مقبولة وأخرى مردودة، بحيث إذا وجدت هذه الضوابط في قراءة كانت صحيحة. وضوابط القراءة المقبولة تتلخص في: 1- أن ينقلها الثقات عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن القرآن هو المنقول إلينا بالتواتر. 2- أن يكون لها وجه شائع في العربية التي نزل بها القرآن الكريم. 3- أن تكون موافقة لخط المصحف2. وقد أوضحها ابن الجزري في منظومته فقال: فكل ما وافق وجه نحوي ... وكان للرسم احتمالا يحوي وصح إسنادًا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان 3 وتلك الأحكام التي توصل إليها العلماء في تجويد القرآن هي زاد له أهميته لمن أراد أن يتعرف على النطق السليم للعربية. فالقرآن الكريم قراءته هي أساس لتقويم اللسان، والعودة به إلى فصيح القول، فالقرآن لحكمة بالغة نزل مقروءًا ولم ينزل مكتوبًا، وتلقاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من لدن حكيم خبير؛ ولذا كانت قراءة القرآن دعامة أساسية للنطق بالعربية وإجادة القول بها، وعِلْمُ القراءة أصل من أصول فن الإلقاء عني به السلف الصالح.   1 إتحاف فضلاء البشر، ص: 6. 2 إرشاد الفحول، للشوكاني، ص: 29. والإبانة ص: 51، ومنجد المقرئين ومرشد الطالبين لابن الجزري ص: 91، والإتقان للسيوطي ج: 1، ص: 129. 3 طيبة النشر في القراءات العشر لابن الجزري ص: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وإن درس الأقدمون الحروف ومخارجها وأوصافها، فإن دراسة الأصوات اللغوية لاقت رواجًا عبر العصور المختلفة وحظيت اللغة العربية بجهد كبير في البحوث المتصلة بعلم الصوتيات، هذا العلم الذي يعد أصلا من أصول فن الإلقاء وركيزة يرتكز عليها. وكثرت كتب القراءات في العصور المتأخرة وعني أصحابها برواية القراءات وسندها، ولذا نرى من الباحثين من يقول: ورغم كثرة كتب القراءات في العصور المتأخرة وعلاجها المسهب للقراءات السبع والعشر وغيرها، نرى أنها حين تعرض لأصوات اللغة تكتفي ببضع صفحات، تصف فيها مخارج الحروف وصفاتها، في صورة مقتضبة مختصرة، لا تخلو من الغموض أو التحريف في بعض الأحيان، كما أن عناية أصحابها قد وجهت كلها إلى رواية القراءات وسندها، معتمدين على تلقين القراءات وضبطها عن طريق التلقي الشفوي، جيلا بعد جيل، حتى انتهى الأمر إلى بضعة متون صغيرة سميت بعلم التجويد يحفظها الطالب عن ظهر قلب دون فهم في غالب الأحيان، وقد التزمت هذه المتون في غالب أحوالها، نصوص سيبويه وعباراته في شرح أصوات اللغة ووصفها1. وفي عصرنا هذا عنيت الجامعات والمعاهد بالقراءات وظهرت العديد من المؤلفات2.   1 المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، الدكتور: رمضان عبد التواب ص: 18. 2 نذكر منها: في علوم القراءات للدكتور: سيد رزق الطويل. - وهداية القاري إلى تجويد كلام الباري: لعبد الفتاح المرصفي. - والعميد في علم التجويد لمحمود على بسة، شرح وتحقيق محمد الصادق قمحاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الدراسات الحديثة لقد عنيت الدراسة الحديثة بفن الإلقاء كعلم من العلوم اهتم به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 العلماء، وتوالت الأبحاث النظرية والمعملية في معرفة طبيعة نطق الحرف، والمقطع والجملة، وأصبحت دراسة علم الأصوات من الدراسات التي أصبحت تخضع للتجريب والبحث عن مخارج الحروف، وتصحيح الأخطاء أمام معامل الأصوات التي أعطت تصورًا دقيقا لكل مخرج. كما ساعد علم التشريح بنصيب وافر في معرفة أجهزة النطق معرفة علمية، وأصبحت المنطقة التي خفيت عن القدماء وهي الحنجرة واضحة أمام الدراسات الحديثة وتبين دورها في تجويد الجهر والهمس، ودور الحنجرة في إصدار بعض الأصوات دون بعض مما أضفى على هذا العلم الموضوعية، وأضحت دراسته من الدراسات التي تخضع للتجريب. اتساع مجال فن الإلقاء كما دخل فن الإلقاء مجالات جديدة لم تكن معروفة من قبل. فلقد كانت الكلمة المنطوقة محدودة الطاقة، ولا تتجاوز في انتقالها حدود انتشارالصوت البشري، وما يمكن أن يصل إلى الأسماع أو ينتقل عن طريق الرواية وقد أصابها ما أصابها من تبديل أو تغيير. وبعد أن اكتُشف مكبر الصوت ساعد إيصال الكلمة المنطوقة إلى أكبر عدد من المستمعين، وأعطى مجالا جديدا لفن الإلقاء. وحين ظهرت الإذاعة اللاسلكية تمكن العلماء من نشر الكلمة المنطوقة من غير واسطة مادية أو محسوسة، مما أعطى لفن الإلقاء أبعادًا متعددة وعلاقات مترامية متميزة، وأصبح فن الإلقاء أداة اتصال بين الأفراد والجماعات والأمم مهما تباعدت، فلقد دعى فن الإلقاء ليقوم بدور عالمي في التفاهم بين الشعوب، واحتاج الإلقاء فيها إلى الاتصال غير المباشر حيث لا يرى الإنسان من يلقي إليه كما احتاج إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 التعامل مع مكبرات الصوت ذات الأبعاد والاتجاهات المتعددة والحساسية المرهفة. وهذا مما جعل دراسة فن الإلقاء دراسة ذات أبعاد متعددة، وأساسا من أسس نجاح الخطيب في خطبته والداعي في دعوته، والمحاضر في محاضرته، والقادة والزعماء والرؤساء ورجال الإعلام، وغيرهم ممن يتحدثون إلى الناس عن طريق وسائل الاتصال المباشر وغير المباشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 التعريف بفن الإلقاء وعناصره هو فن إيضاح المعاني بالنطق والصوت لكي تتوثق حلقة الاتصال بين المتكلم والمخاطب دون أن يشوبها اضطراب أو لبس حتى تأتي الصورة السمعية دقيقة في تفاصيلها. فالإلقاء يقوم بدور إيصال الكلام إلى المتلقي بطريقة واضحة بينه، ولهذا لابد من توفر ثلاثة عناصر هي: 1- عنصر الاتصال: فالإلقاء يقوم بإيصال الكلام إلى المستمع وبدون ذلك لا يعتبر الإلقاء إلقاء؛ لأن الكلام إن لم يصل إلى المستمع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فقد فقد أهم شرط وهو التلقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 2- عنصر الوضوح: ينبغي أن يكون الوضوح نصب عين من يلقي للناس قولا؛ ذلك لأن عدم الوضوح لاختلاف اللهجة أو العيب في النطق، أو العجمة، قد يؤدي إلى اللبس والغموض، والإلقاء يقوم على إيضاح المخارج الكلمة والجملة، وبهذا يتميز الإلقاء الجيد من غير الجيد. 3- عناصر المعاني والبيان: هو من أهم ميزات الإلقاء الجيد وبه يتمكن المستمع من بيان حقيقة ما يلقى إليه دون إبهام في المعنى، فعيب أن يكون من يلقي على الناس قولا ألا يبين، ولذا يمكن القول إن: فن الإلقاء هو فن نطق الكلام على صورة توضح ألفاظه ومعانيه؛ ولذا ففن الإلقاء يتطلب: 1- توضيح الألفاظ. 2- توضيح المعاني. فتوضيح الألفاظ: عن طريق النطق السليم وهذا يتطلب معرفة مخارج الحروف وصفاتها حتى لا تلتبس الكلمات. وتوضيح المعاني، بأن يأتي المتحدث بالنغمة الصوتية التي تناسب المعنى حتى يبدو واضحا بينًا وله وقعه المناسب على آذان السامعين له أو المتلقين له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وذلك بأن يتمثل معناه في نفسه في كل كلمة أو جملة، ولا يحول دون ذلك عيب أو علة لا تساعده على البيان. ولكي تتوفر هذه العناصر الثلاثة لابد من وجود ثلاثة شروط تعين على ذلك، وتعرف بأصول فن الإلقاء، وهي: الموهبة، الاستعداد الشخصي، الدربة والمران. - الموهبة: فن الإلقاء يحتاج إلى أن يكون صاحبه ذا فطرة سليمة، وسليقة تعينه على النطق السليم، خاليا من العيوب الكلامية من لثغة وتأتأة وفأفأة، طلق اللسان يجيد إخراج الحروف من مخارجها، قادرًا على التحكم في نبرات صوته لا تعيبه لكنة ولا تحوله حبسة دون أن يبين، والموهبة تعد الأساس والمنطلق الذي يبنى عليه ومنه فن الإلقاء. - الاستعداد الشخصي: الاستعداد الشخصي له أهمية في مجال التفوق والنبوغ؛ ذلك لأن الموهبة وحدها لا تكفي للإلقاء فليس كل موهوب يجيد كل ما وهب الله له، فمن الناس من ينمي موهبته، ومنا من هو على خلاف ذلك، فالموهبة لابد أن يكون صاحبها عنده استعداد كامل، ورغبة ملحة في معرفة هذا الفن وممارسته، وهوايته، وحب العمل فيه، ذلك حتى تكون عنده البديهة المستعدة المتوثبة لمعرفة كل جوانب الفن، وتصبر على السير فيه حتى يتم له ما أراد، ولكي يسير السير السليم لابد له من الدربة والمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 - الدربة والمران: من الواضح أن الدربة لها أثرها في كل عمل، وأن الموهبة والاستعداد الشخصي يحتاجان إلى العقل والتعليم والممارسة، والناس منهم من يكون عنده استعداد فطري وشخصي، ولكن لا يمارس عملا ما فلن يبرز فيه، ولكي ندرك أهمية التدريب والممارسة علينا أن نقارن بين إنسان حصلت عنده ملكة أو موهبة قوية ولا يدرب نفسه، وبين إنسان قلّت موهبته وأخذ نفسه بالدربة والمران، فسنجد الذي قد تدرب فاق صاحب الموهبة. إذن لابد من أن يأخذ الإنسان نفسه بالممارسة والمران لكي ينمي مواهبه التي فطر عليها، مدركين أن كثيرًا من الناس قد أصلحوا ملكة النطق فيهم بالمعاناة والممارسة، ذلك لكي يطب لعيوبه ويكمل النقص الذي يجده في نفسه، أو يجده غيره فيه. ولا شك في أن التدريب يبعد عنك الرهبة من السامعين أو المشتركين معك في الإلقاء، ويمنحك الثقة بالنفس والشجاعة على المواجهة، بل إن فرسان هذا الفن هم أكثرهم تدريبًا في الميدان حتى صار هذا الفن جزءًا من حياتهم، وإن تاريخ فن الإلقاء يروي لنا العديد ممن كان التدريب أساس تفوقهم في هذا الميدان. أهميته: ولكي ندرك أهمية هذا الفن في حياتنا علينا أن نعلم أن ما من أمة من الأمم إلا وتنهض بفن التحدث والإلقاء في لغتها، وتصنع الأسس والقواعد والأصول التي تعين على ممارسة الإلقاء الناجح عبر وسائل الإعلام وبين الناس. فقد صار فن الإلقاء وإجادة القول سبيلا من سبيل نجاح الخطيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 في خطبته، والمتحدث في حديثه والراوي في روايته، وأصبح طريقًا من طرق التغلب والسبق في دور القضاء والهيئات الدولية، والمجالس النيابية، والمحافل العامة والخاصة. وأضحى وسيلة من وسائل الدعوة والإمامة أمام الدعاة في كل ميدان من ميادين الدعوة, وسبيلا من سبل الإفصاح عما تجيش به الخواطر وتتحدث به النفوس، ومما تتحفه الأقلام من مخزون القول ونفائس الحكم. وهذه الدراسة سميت بفن الإلقاء ولم نقل: علم الإلقاء؛ وذلك لأن الإلقاء الجيد يعتمد أساسًا على الذوق والجمال في التعبير وإدراك أحوال المستمعين، قبل اعتماده على القواعد والقوانين، وفن الإلقاء أكثر دلالة على هذا الفن من فن الكلام أو علم الكلام، فعلم الكلام يراد به معنى الجدل وسمي أصحابه بالمتكلمين. وهذه الدراسة تعتمد أيضًا اعتمادًا كبيرا على القواعد الدراسات العلمية الخاصة بفن الإلقاء؛ ذلك لأن القواعد تصقل الموهبة وتنمي قدراتها على الأداء وتخرج كوامنها من النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الفصل الثاني: الأصوات اللغوية كيف يحدث الصوت ... الأصوات اللغوية: كيف يحدث الصوت خلق المولى الإنسان وعلمه البيان وجعل له لسانًا وشفتين ومده بأحبال صوتية وأجهزة دقيقة أحكم الباري -سبحانه- صنعها، والعجيب أن من الناس من يتكلم ولا يشعر أنه يأتي حدثًا مهمًا في حياته وهو النطق، بالكلمات عبر جهاز صوتي ضخم دقيق؛ ولذا نراه يتحدث وكأنه يأتي حدثًا غير عادي لا يستحق التأمل والدرس، ومن الناس من يحسن التكلم، ويتأمل فيما أودع الله فيه من أعضاء للنطق تعينه على البيان والإفصاح فيأتي كلامه وكأنه نغم حلو أحسن قوله وانسجم معناه. وكثير منا من يبذل الجانب الأكبر من حياته في تعلم اللغة المكتوبة وكيفية كتابة الحرف وكيفية الْتِصَاقِهِ بالآخر حتى تتكون الكلمات، ولا يبذل جانبًا من حياته ليتعلم النطق السليم للغة التي يتحدث بها مع الناس، أو حتى يتعرف على أعضاء النطق وهذا أمر ضروري لكل من يحاول الاتصال بالناس أو يتحدث إليهم وخاصة إذا علم أن الكلمة المنطوقة تتميز بأنها وليدة الكلام، فهي لغة صوتية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 رمزية لا تدون على الورق، ولكنها لغة يصنعها الإنسان بجهازه الصوتي، ثم تنتقل عن طريق الإلقاء إلى المستمع. وتعددت فروع الدراسات اللغوية، فاللغة في ذاتها عبارة عن أصوات ذات دلالة. والأصوات يتولاها بالدراسة علم خاص هو علم الأصوات ويشتمل على مستويين من الدراسة: 1- علم الأصوات العام. 2- علم الأصوات في سياقها أو علم الأصوات التشكيلي. علم الأصوات العام أو المجرد: هو العلم الذي يبدأ بدراسة التكوين التشريحي للجهاز النطقي دراسة تشريحية للتعرف على ما يتكون منه ودوره في عملية النطق. ثم يدرس وظيفة الأجزاء التشريحية المباشرة في إنتاج الأصوات سواء بحركة عضوية لدفع الهواء أو حبسه أو السماح للهواء أن يمر محتكًا في موضع الصوت. كما يدرس وظيفة العضو غير المباشر مثل وجود بعض التجاويف التي هي أشبه ما تكون بغرف الرنين التي تجمع الصدى وتشكل الصوت وتعطيه نغمته. بل إن أي عطب في غرف الرنين الإنسانية يؤثر على طابع الصوت من: الزكام أو الرشح أو اللحمية التي تصيب الأنف. فكل عضو من أعضاء النطق له وظيفته، وهذا يجعلنا أن نتعرف على: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 علم الأصوات النطقي ARTICULATORY PHONETICS ويسمى كذلك علم الأصوات الوظائفي PHYSIOLOGICAL PHONETICS هو ذلك النوع من علم الأصوات الذي يهتم بدراسة حركات أعضاء النطق من أجل إنتاج أصوات الكلام أو الذي يعالج عملية الأصوات اللغوية، وطريقة هذا الإنتاج. والسؤال: كيف يتم إنتاج الصوت؟ أو كيف يحدث الصوت حين ينطق أحدنا بالكلمات؟ عندما يستعد الإنسان للكلام العادي يستنشق الهواء، فيمتلئ صدره به، وإذا بدأ في النطق، فإن عضلات البطن تتقلص قبل أول مقطع صوتي يتكلم به، ثم تتقلص عضلات القفص الصدري بحركات تدفع الهواء إلى أعلى عبر الأعضاء المنتجة للأصوات، وتتواصل هكذا في حركات بطيئة مضبوطة إلى أن ينتهي الإنسان من الجملة الأولى، فإذا فرغ منها فإن عملية الشهيق تملأ الصدر ثانية وبسرعة؛ استعدادًا للنطق بالجملة التالية وهكذا. والعملية الكلامية تتم في شكلها الأساسي عن طريق التحكم في هواء الزفير الصاعد من الرئتين إلى الجهاز الصوتي. وتختلف العملية الكلامية عن التنفس العادي في أن الثاني يتم بصورة صامتة في العادة لتحرك تيار الهواء دون عائق، أما العملية النطقية فلا يمر الهواء معها حرًا طليقًا -كما يحدث في حالة التنفس- وإنما يصادف الهواء في اندفاعه إلى الخارج أنواعًا من الضغط والكبح والتعويق حتى يولد صوت؛ ولذا يقسم جهاز النطق الإنساني إلى ثلاثة أقسام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 1- أعضاء التنفس التي تقدم الهواء المطلوب الذي يتدفق لإنتاج معظم الأصوات اللغوية. 2- الحنجرة التي تنتج معظم الطاقة الصوتية التي يستعملها الإنسان في الكلام، بل هي التي تقوم بتنظيم الهواء الذي يتدفق. 3- التجاويف فوق المزمار، وهذه التجاويف هي التي تقوم بدور حجرات الرنين، وفيها يتم تشكيل الصوت المستعمل في الكلام، وهذه التجاويف أشبه ما تكون بحجرات الرنين. حين يخرج الهواء من الرئتين، ويلتقي بالأوتار الصوتية، يتشكل على هيئة تنفس أو همس أو صوت، فحين يجد الهواء الأوتار الصوتية مفتوحة فتحًا تامًّا بحيث لا تتعرض طريقه عوارض، وهنا يمر الهواء دون أن يحدث صوتًا أو احتكاكًا أو ذبذبة، وهذا ما نسميه بالتنفس. وحين يجد الهواء الأوتار متقاربة بحيث يمكن أن يحتك الهواء بالأحبال الصوتية يحدث ما نسميه بالهمس. وحين يجد الهواء الأحبال الصوتية قريبة جدًا بحيث لا يمر بها دون أن يحدث ذبذبة، وفي هذه الحالة تنتج ذبذبات وهو ما اصطلح على تسميته بالجرس أو الصوت. ويتحول هذا الجرس إلى حسٍ له درجة وله قيمة صوتية، ذلك بعد أن يمر بحجرات الرنين، ويتكون من مجموع الجرس والأصداء الرئيسية، صوت له مقوماته الخاصة نتيجة لتحرك أعضاء النطق في الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فحين يتكلم الإنسان نلاحظ أنه يقوم بحركات خاصة لفكه الأسفل وشفتيه ولسانه، فينتج من ذلك حركات لنطق الأصوات والكلمات ملونة بألوانها الصوتية الخاصة، وهذا ما اصطلح العلماء بتسميته بالأصوات اللغوية لما تحمله من دلالة أو معنى. ومن هنا ندرك أن الصوت اللغوي له جانبان: أحدهما عضوي، والآخر نَفَسِي، أو بعبارة تتردد وهي أن أحدهما يتصل بعملية النطق، والثاني يتصل بصفته. وعملية النطق تحدث في أي نقطة داخل الجهاز الصوتي أي في مكان ما بين الشفتين والأوتار الصوتية، وحين النظر في الأصوات والمقاطع التي تنطقها، هي تأثيرات صوتية طبيعية تستقبلها الأذن، ولكن الأصوات ما كانت لتوجد دون أعضاء النطق عبر جهاز أحكمه الباري سبحانه وتعالى. ولقد أوضح لنا اليوم علم التشريح أعضاء النطق توضيحًا بينا وكشف عن حكمة الله البالغة في هذا الجهاز الصوتي الدقيق المعجز، والذي يتكون من ستة عشر عضوًا، أو نقطة من نقاط الصوت البشري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 جهاز النطق جهاز النطق البشري يتكون من مجموعة من الأجهزة ترتبط بعضها ببعض وقد تعاونت كل نقطة مع الأخرى في حيز من الجهاز الصوتي، أو تشابك بعضها مع بعض لتؤدي صوتًا معينًا له مغزاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وإذا نظرنا نجد أن الحروف تختلف باختلاف مقاطع الصوت حتى شبه بعضهم الحلق والفم بالناي؛ لأن الصوت يخرج منه مستطيلا ساذجًا، فإذا وضعت الأنامل على خروقه، ووقعت المزاوجة بينهما سمعت لكل حرف منها صوت لا يشبه صاحبه، فكذلك إذا وقع الصوت في الحلق والفم بالاعتماد على جهات مختلفة، سمعت الأصوات المختلفة التي هي الحروف 1. ثم ينتقل الصوت خلال الهواء الخارجي على شكل ذبذبات أو موجهات صوتية إلى الأذن. وجهاز النطق: Organs of speech في الإنسان عبارة عن أعضاء محدودة الحجم محدودة الأوضاع ينتج عن تشغيلها مجموعة من الأصوات، كما هو واضح في الصورة. ويتكون جهاز النطق من: 1- الحنجرة. 2- الأوتار الصوتية. 3- لسان المزمار. 4- الفك السفلي. 5- طرف اللسان. 6- مقدمة اللسان. 7- مؤخرة اللسان. 8- الأسنان العليا. 9- الأسنان السفلى.   1 سر الفصاحة: لابن سنان الخفاجي، ص: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 10- الجدار الخلفي للحلق. 11- اللهاة. 12- اللثة. 13- الطبق. 14- الغار. 15- الشفتان: الشفة السفلى، والعليا. 16- فتحة الأنف. 1- الحنجرة Larynx الحنجرة تقع في قمة القصبة الهوائية وهي عبارة عن صندوق غضروفي متصل بالطرف الأعلى للقصبة الهوائية، والحنجرة لها دورها البارز في عملية إخراج الصوت وسلامتها هي سلامة لكل الحروف، وليس للحروف التي تخرج منها فقط ولكن لبقية الحروف، فهي التي تساعد على إحداث الاهتزاز الصوتي عبر الأحبال الصوتية. والحنجرة ما هي إلا فتحات أو حجرات متسعة نوعًا ما، ومكونة من ثلاثة غضاريف: الأول أو العلوي ناقص الاستدارة من الخلف وعريض وبارز من الأمام، ويعرف الجزء البارز منه بتفاحة آدم. أما الفراغ الذي بين الوترين فيسمى بالمزمار، وفتحة المزمار تنقبض وتنبسط وفقًا لطبقة الصوت وذلك وفق نسبة شد الوترين واستعدادها للاهتزاز وللمزمار غطاء يسمى لسان المزمار وهو صمام يحمي طريق النفس في أثناء عملية بلع الطعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 منظر أمامي للحنجرة والقصبة الهوائية منظر خلفي للحنجرة والقصبة الهوائية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وأمامك منظر أمامي تتكون منه الحنجرة والقصبة الهوائية ومنظر آخر خلفي لها، ويوصف الصوت القوي لقوة الحنجرة وضعفه بضعفها والتجاويف فوق المزمارية تقوم بدور حجرات الرنين وفيها تتم معظم أنواع الأصوات التي تستعمل في الكلام. وأعضاء التنفس لها دور في عملية النطق وذلك بدفع الهواء اللازم لذلك، وهي تشمل الرئتين والقصبة الهوائية، أما الرئة فهي جسم مطاط قابل للتمدد والانكماش، ولا يستطيع الحركة بذاته، ومن ثم فهو في حاجة إلى محرك يدفعه للتمدد والانكماش، وهذا المحرك هو الحجاب الحاجز من ناحية والقفص الصدري من ناحية أخرى، والرئتان مخزن للهواء بحسب حركة الحجاب الحاجز. وأما القصبة الهوائية فهي أنبوبة تتكون من غضاريف على شكل حلقات غير مكتملة من الخلف متصل بعضها ببعض بواسطة نسيج مخاطي كما هو واضح في الصورة. وتنقسم من أسفلها إلى فرعين رئيسيين هما الشعبتان اللتان تدخلان إلى الرئتين. 2- الأوتار الصوتية: الأوتار الصوتية أهم عضو في الجهاز النطقي، وهما ليسا في الحقيقة وترين، وعلى هذا فالكلمة وتر أو chord ليست دقيقة، إذ إنها في الحقيقة شفتان Lips أو شريطان -مربوطان- من العضلات يتصل بها نسيج، وهما يقعان متقابلين على قمة القصبة الهوائية ومثبتان، وعند نهايتهما من الأمام تفاحة آدم، بحيث يتاخم كل منهما الآخر ولكنهما قابلان للحركة أفقيا من الخلف، حيث يتصلان بغضاريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 النسيج الخلفي الهرمي، كما هو واضح في هذا الشكل. رسم تبسيطي للوترين الصوتيين وهما مفتوحان. ويمكن للحنجرة أن تتحرك إلى فوق وتحت وأمام وخلف، والحركة إلى أعلى وأسفل مهمة جدًا في النطق؛ لأنها تغير من شكل وحجم الرئتين، فتؤثر على نوع الرنين الحنجري وطبيعة الصوت. وحركة الأوتار الصوتية معقدة، ولكن التصوير السريع أعطانا فكرة عن هذه الذبذبات وجهاز قياس سرعة التردد قد استخدم في رصد حركة الأوتار وذبذبتها، وقد وجد أن معدل التذبذب للأوتار الصوتية يتفاوت بين 60 و 70 دورة في الثانية لأخفض الأصوات الرجالية وبين 1200 و 1300 لارتفاع الصوت الموسيقى. ومتوسط الذبذبات للرجل بين 100و 150 وللمرأة بين 200و الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 300، والأوتار الصوتية عند الرجل أطول وأغلظ منها عند المرأة. في الحنجرة توجد الأوتار الصوتية وهي وتران اثنان على شكل نصف دائرة، وهما كما هو واضح في الصورة رباطان مرنان يشبهان الشفتين يمتدان أفقيا. إذا امتد الوتران أغلقا فتحة الحنجرة ومنعا الهواء الرئوي من المرور ولهما القدرة على اتخاذ أوضاع تؤثر في الأصوات هي: 1- وضع الارتخاء التام: وهو وضع التنفس العادي. 2- وضع الذبذبة: وهو الذي ينتج نوعًا من الأصوات يسمى بالأصوات المجهورة. 3- وضع الامتداد وقفل الهواء وهو الوضع الذي ينتج الهمزة في اللغة العربية. ولمعرفة حجرات الرنين وأماكنها يمكن أن ننظر إلى هذه الصورة. حجرات الرنين الأربعة الرئيسية في الجهاز النطقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الجوف: ويقصد به جوف الحلق والفم، أو الخلاء الداخل في الفم. الحلق: وهو الذي يقع بين الحنجرة والفم، ويقسم إلى ثلاثة أقثسام هي: 1- أقصى الحلق. 2- وسط الحلق. أدناه أو أقربه. منظر أمامي للحلق ويتضح فيه الغضروفان المدرقيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 والحلق إلى جانب أنه مخرج لبعض الأصوات اللغوية فهو فراغ رنان يعمل على تضخيم بعض الأصوات بعد خروجها من الحنجرة، ومدح العرب سعة الفم؛ لأن سعة الفم تعين على قوة الصوت ولهذا كانوا يمدحون الجهير بالصوت، ويذمون الضئيل الصوت، ولهذا أخذوا يتشدقون بالكلام مادحين سعة الفم، ذامين صغر الفم أو ضيقه. وسألوا عن الجمال، فقال بعضهم: القامة وضخم الهامة ورحب الشدق وبُعْد الصوت. 3- اللسان: هو أهم أعضاء النطق، وهو عضو يتميز بالحركة والمرونة ويستعمل في كثير من اللغات بمعنى اللغة {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} [الشعراء: 195] . ويقسم إلى أربعة أقسام هي: 1- أقصاه. 2- وسطه. 3- وحافته. 4- وطرفه. وهو يحتوي على عدد كبير من العضلات التي تمكنه من التحرك والتلوي والانكماش، وامتدح اللسان وذم اللسان لما له من مقدرة على القول الفصيح والعِيِّ في القول، ولمعرفة أهمية اللسان ننظر إلى قول حسان بن ثابت حين قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: ما بقي من لسانك؟ فأخرج حسان لسانه حتى قرع بطرفه طرف أرنبته، ثم قال: والله لو وضعته على صخر لفلقه أو على شعر لحلقه، وكانوا يذكرون عن قوة اللسان فيقولون: كأن لسانه ثور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الحنك: هو المنطقة التي يتصل بها اللسان في أوضاعه المختلفة، ليكون مخرج لكثير من الأصوات. وينقسم الحنك إلى خمسة أقسام: أ- الأسنان. ب- أصولها. ج- وسط الحنك، الجزء الصلب منه. د- أقصى الحنك، الجزء اللين منه. هـ- اللهاة. 4- الشفتان: وهي كما في الصورة يمكن أن تقسم إلى: رباط الشفة السفلى والعليا، وما بين الشفتين، ويكفي أن نعرف أهميتها، وأهمية اللسان فيما ذكره الحق: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ, وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} ونلاحظ تغيرًا في شكل الشفتين عند النطق فهما تنفرجان وتنطبقان وتستديران. 5- الخيشوم: وهو خرق الأنف المنجذب إلى داخل الفم وهو في بعض الأقوال أقصى الأنف، وهو مخرج الغنة. ولمعرفة أهمية الخيشوم ومرور الهواء فيه أغلق فتحة الأنف وحاول أن تنطق بحرف النون: إن، فتسجد أن إغلاقه يحول دون النطق السليم للحرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 6- الأسنان: من أعضاء النطق الثابتة ولاسيما العليا منها، ولها دورها في نطق الأصوات اللثوية بمساعدة أحد الأعضاء المتحركة كاللسان والشفة السفلى، ولكي تعرف أهميتها، انظر ما قاله سهل بن هارون لرجل زنجي خلع ثناياه 1: لو عرف الزنجي فرط حاجته إلى ثناياه في إقامة الحروف وتكميل جمال البيان لما نزع ثناياه. فالثنيتان والرَّباعيتان لهما دور في إقامة الحروف وسلامة النطق، فلقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في سهيل بن عمرو والخطيب: يا رسول الله انزع ثنيتيه السفليتين حتى يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا. وقيل: إن معاوية -رضي الله عنه-لم يتكلم على منبر جماعة منذ سقطت ثناياه في الطّست. وقال أبو الحسن المدايني لما شد عبد الملك أسنانه بالذهب قال: لولا المنابر ما باليت متى سقطت. وقيل: إن من سقطت كل أسنانه استطاع التحدث إلى حد ما، هذا بخلاف من ذهب شطر من أسنانه، أو الثلثين منها، ذلك للاعتدال والاستواء. 7- الرئتان: وإن أهمل كثير من الدارسين ذكرهما إلا أن لهما دور واضح في عملية التنفس، وبغير التنفس لا يكون الكلام بل قد تنعدم الحياة.   1 الثنايا: السنتان الأماميتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 للإنسان، كما أن لمقدار خروج النفس والتحكم فيه دور في جمال الصوت وقيمته، ويدرك ذلك الذين يصابون بنوبات البرد ويشعرون أثر ذلك على الكلام، ومن الملاحظ علميا أن بعض أعضاء هذا الجهاز الصوتي ثابت والآخر متحرك. كما أن الوظيفة الأساسية لهذا الجهاز ليست مقصورة على النطق باللغة، ولكن خلقها الله لتؤدي وظائف أخرى إلى جانب ذلك، فمثلا: الأوتار الصوتية صمام خلقه الله لحفظ الرئتين إلى جانب الذبذبات الصوتية، والتجويف الأنفي حجرة لتكييف الهواء، واللسان عضلة في نهاية الإعجاز والتعقيد، بل إن كل منطقة لها وظيفة من وظائف الإحساس والتذوق، فالشفتان تستخدمان في تلقي الطعام ومنعه من الخروج من الفم، كما تستخدم في المساعدة على الامتصاص، والأسنان والأضراس لتقطيع الطعام ومضغه، واللسان لتقليب الطعام في الفم وتذوقه، والأوتار تؤدي وظيفة الهواء للرئتين وحفظها ولحبس الهواء فيها للحاجة. فالنطق ليس إلا وظيفة من الوظائف التي تؤديها هذه الأعضاء والمحافظة على أعضاء النطق سبيل من سبل إجادة القول وروعة الإلقاء، بل إن أي عيب أو علة تصيب عضوًا من أعضاء النطق تؤثر تأثيرًا يتفق مع وظيفة هذا العضو، وإذا أدركنا أن من أصيب في أحباله الصوتية يتعذر عليه النطق وقد يبرأ مما أصابه أو يحال بينه وبين الكلام. وكل منطقة من مناطق الجهاز الصوتي تؤدي دورًا في إخراج الحروف ولن يتم التعرف على هذا الدور بوضوح إلا إذا أدركنا طبيعة المخارج ومخرج كل حرف من حروف اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 مخارج الأصوات: طبيعتها، أنواعها فن الإلقاء يعتمد على النطق السليم الذي يتطلب إخراج أصوات1 الكلمات من مخارجها. ذلك لأن إخراج الأصوات من مخارجها يساعد على الوضوح في فن الإلقاء، وعلى البيان، ويجنب الأخطاء التي تحدث من تقارب بعض المخارج، وإحلال بعضها مكان بعض، كما تمكن الدارس من التخلص من كثير من العيوب مثل: الخشونة والحبسة والفأفأة واللثغة، تلك العيوب التي عابها القدماء والمحدثون والتي تعوق الإبانة والنطق السليم. وبذل الأقدمون جهودا مشكورة في محاولة التعرف على مخارج الأصوات، ومن أبرز الذين عنوا بذلك: الخليل بن أحمد الفراهيدي2، وكان عالما من أعلام اللغة، عني بدراسة أصوات اللغة، وكان مرهف الحس للأصوات وخاصة في علاجه للعروض، وفي إدراكه لمخارج الأصوات، وترتيبه للمعجم حسب المخارج، كما استطاع أن يترك لنا وصفا دقيقا لأصوات اللغة ومخارجها وصفاتها، فلقد وجد أن الترتيب الهجائي يختلف عن ترتيب مخارج الأصوات، فآثر أن يختار ترتيبا آخر وفق مخارج الأصوات.   1 إخراج أصوات الكلمات أي: حروف الكلمات، ولقد اخترنا العنوان: مخارج الأصوات ولم نقل مخارج الحروف؛ لأن الحرف هو الذي يكتب، والصوت هو الذي ينطق. 2 توفي سنة 174 هـ، وهو صاحب كتاب: العين، وواضع علم العروض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ورتب معجمه: العين، تبعا لمخارج الأصوات، فبدأ بأصوات الحلق، وجعلها أقساما، ثم أصوات أقصى الفم، ثم أصوات وسط الفم، ثم أدنى الفم، ثم الشفتين1. ومن بعد الخليل بن أحمد، نرى تلميذه عُمر بن قنبر، الملقب بسيبويه2، فيلخص لنا في كتابه المعروف: بالكتاب، آراء الخليل بن أحمد في نطق أصوات اللغة، وتلك ظاهرة نجدها عند الذين جاءوا بعده، فلقد كان العلماء يقدرون كتاب سيبويه ويحفظونه ويعنون بالألفاظ والعبارات التي دونها في معرفة مخارج الحروف وصفاتها، ويعد كتاب سيبويه من أقدم وثائق ذلك التراث الخالد في معرفة التحليل الصوتي. ومن بعدهما يأتي ابن جني3، ويضع للناس كتابه: سر صناعة الإعراب، في القرن الرابع الهجري، ويوضح فيه مخارج الأصوات، ومن بعده نجد كتاب: المفصل للزمخشري، في القرن السادس الهجري. وكتاب: النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، في أوائل القرن التاسع الهجري، يوضح آراء العلماء ويناقش ما انتهوا إليه في معرفة مخارج الأصوات. - المخارج جمع مخرج، وهو اسم لموضع خروج الصوت،   1 كتاب العين للخليل بن أحمد ج: 1، ص: 53- 65. 2 توفي سنة 180هـ. 3 ابن جني ت 392هـ، وله كتاب: الخصائص، وهو كتاب في فقه اللغة، وكتاب سر صناعة الإعراب، وهو كتاب في علم الأصوات، حققه الشيخ محمد الزفزاف، والأستاذ إبراهيم مصطفى، ومصطفى السقا، وعبد الله أمين، ونشر الجزء الأول منه، وما تزال بقية الأجزاء رهن النشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ومخرج الصوت هو الحيز المولد للصوت، أو المكان الذي يخرج منه الصوت، ويكون إما في الحلق أو في اللسان أو الشفتين. وإذا أردت أن تتعرف على مخرج الصوت، أي مكان ظهوره الذي ينقطع عنده صوت النطق به، فاتِ بالحرف الذي تريد أن تتعرف عليه مُسَكَّنا، أو مشددا، وأدخل عليه همزة الوصل، وحركه بأي حركة كانت، وقل: إن أفضل الحركات هي أن تحرك بالكسر1، فإذا أردت أن تنطق بالباء فقل: اب، وبالكاف فقل: اك، وبالطاء: اط، وكذلك سائر الحروف، وحيث ينتهي الصوت بالحرف فهو مخرجه. ومخارج الأصوات نوعان: عامة وخاصة. والعامة: هي ما اشتمل المخرج الواحد على مخرج أو أكثر. والخاصة: تكون لمخرج واحد فقط. عدد المخارج: قسمت المخارج إلى سبعة عشر مخرجا، ورتبت مع خروج النفس أو الهواء، فالنفس يخرج من الرئة صاعدا إلى الفم؛ ولذا رتبت الحروف على الوجه الذي تخرج منه، وتنحسر في مناطق محدودة وهي: الجوف، الحلق، اللسان، الشفتان، الخيشوم. أولا: الجوف أي: جوف الحلق والفم، وهو عبارة عن الفراغ الممتد من الصدر عبر الحلق والفم، وهو ليس بمخرج محدد في نظر بعض الباحثين.   1 انظر شرح الجزرية ص: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ويخرج منه أحرف أصوات المد الثلاثة: الألف، والواو الساكنة بعد ضم، والياء الساكنة بعد كسر، ويقال لها: الأحرف الجوفية، لخروجها من الجوف. ووصف القدماء لأصوات المد يشبه إلى حد كبير علاج المحدثين؛ لأنها مما يسميه الأوربيون vowels وهي التي لا تصادف حوائل أو موانع في طريقها. ثانيا: الحلق ويخرج منه ثلاثة مخارج لستة أحرف، ويقال لها: الحروف الحلقية، وهي موزعة كالتالي: 1- من أقصى الحلق: أي أسفله إلى جهة الصدر، تخرج منه الهمزة والهاء: أ، هـ، والهمزة رغم شيوعها في العربية لم يرمز لها الرسم العربي برمز خاص ككل الأصوات الساكنة1. 2- من وسط الحلق: تخرج العين والحاء: ع، ح. 3- من أدنى الحلق: أي أقربه إلى الفم، تخرج الغين والخاء: غ، خ، وأصوات الحلق ماعدا الهمزة أصوات رخوة، كما وصفها القدماء والمحدثون، وعلماء الأصوات اللغوية لم يحاولوا حتى الآن تحديد وظيفة الحلق بين أعضاء النطق، ولعل البحوث المستقبلة تكشف لنا عن أسرار جديدة لأصوات الحلق وما يحدث حين النطق بها واختلاف ذلك باختلاف الشعوب والأمم.   1 تصرفوا فيها بالتخفيف: إبدالا ونقلا وحذفا، وتسهيلا بين بين، وتكتب بحسب موقعها، فالهمزة تحتاج إلى جهد عضلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وأصوات الحلق ماعدا الهمزة كما يصفها القدماء والمحدثون أصوات رخوة. وأصوات الحلق هذه كما حددها سيبويه، قد دلت التجارب الحديثة على صحة كلامه، فلكل صوتين من أصوات الحلق حيز معين يحلان فيه معا، دون ترتيب لأحدهما على الآخر. ولوحظ أن بعض المتأخرين من العلماء كانوا يظنون أن العين تسبق الحاء، وأن الغين تسبق الخاء، على حين أن بعضا آخر منهم كان يرى العكس في هذا الترتيب1. وقد أشار ابن الجزري في كتابه: النشر إلى هذا الخلاف، وأوضح أسبابه؛ ولذا يمكن الرجوع إليه2. ثالثا: اللسان يخرج منه عشرة مخارج لثمانية عشر حرفا: 1- أقصى اللسان: أي أسفله مما يلي الحلق، وما فوقه من الحنك الأعلى، من منبت اللهاة، يخرج منه حرف واحد وهو القاف: ق. 2- أقصى اللسان: من أسفل مع ما يحاذيه من الحنك الأعلى، وأقرب من مخرج القاف، تخرج الكاف: ك. ويقال للكاف والقاف: حرفان لهويِّان، نسبة إلى اللَّهَاة. 3- وسط اللسان: مع اقترابه من الحنك الأعلى، تخرج الجيم والشين   1 الأصوات اللغوية: الدكتور إبراهيم أنيس، ص: 87-170. 2 النشر في القراءات العشر: لابن الجزري، ج:1، ص: 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 والياء: ج، ش، ي ويقال لهذه الحروف: الشَّجَريَّة؛ لخروجها من شجر الفم، أي: منفتحة، والياء يعني بها غير المَدِّية، وهي المتحركة مطلقا، أو الساكنة بعد فتح. 4- من إحدى حافتي اللسان، مع ما يليه من الأضراس العليا في الجانب الأيسر على كثرة، أو اليمنى على قلة يخرج منه الضاد: ض. 5- أدنى حافتي اللسان: أي أقربها إلى منتهى طرفه بعد مخرج الضاد، يخرج حرف واحد، وهو اللام: ل، وهو أوسع الحروف مخرجا. 6- من رأس اللسان: مع ما يحاذيه من الحنك الأعلى، فويق الثنيتين العليتين، تخرج النون الساكنة: ن، ولو تنوينا والمدغمة، وكذلك المتحركة. أما النون المخفاة -إخفاء النون- فتتحول من طرف اللسان إلى قرب مخرج ما تخفي عنده الحروف، والمدغمة مطلقا أو بغيرها في غير مثلها؛ فتتحول إلى ما تدغم له. 7- طرف اللسان مع ظهره مع ما يحاذيه من الحنك الأعلى، فويق الثنيتين تخرج الراء: ر. والحروف الثلاثة: اللام والنون والراء، يقال لها: حروف ذلقية؛ لخروجها من منذلق اللسان، أي طرفه. 8- طرف اللسان مع ما يقابل من أعلى الثنيتين العليتين، مصعّدا إلى جهة الحنك الأعلى، يخرج ثلاثة أحرف: الطاء والدال والتاء: ط، د، ت، ويقال لها: نطعية، لخروجها من نَطْع الغار أي: سقفه. 9- طرف اللسان: ومن فويق الثنيتين السفليتين، مع فرجة قليلة، تخرج: الصاد، والزاي، والسين: ص، ز، س. 10- طرف اللسان وأطراف الثنيتين العليتين: أي رأسيهما تخرج ثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أحرف الظاء فالذال فالثاء: ظ، ذ، ث، ويقال لها: حروف لثوية، نسبة إلى اللثة العليا، وينصح عادة بإخراج اللسان عند النطق بها. رابعًا: الشفتان ويخرج منها مخرجان: 1- باطن الشفة السفلى مع طرف الثنيتين العليتين، تخرج الفاء: ف. 2- ما بين الشفتين معا ويخرج ثلاثة أحرف: الباء، والميم، والواو غير المدية: ب، م، و، إذ إن الواو المدية وهي الساكنة بعد ضم، فهي تخرج- كما سبق- من جوف الحلق. الأصوات الشفوية هي: الباء: صوت شديد مجهور مخرجه. والميم: صوت لا هو بالشديد ولا بالرخو بل يسمى بالأصوات المتوسطة. والفاء: صوت شفوي أسناني وهو صوت رخو مهموس وليس للفاء العربية نظير مجهور كالذي نشهده في معظم اللغات الأوروبية ويرمز له: 7. خامسًا: الخيشوم وهو خرق الأنف المنجذب إلى داخل الفم والمركب فوق سقفه، وليس بالمنخر، وقيل: هو أقصى الأنف، ويخرج منه مخرج الغنة أي: النون والميم الساكنتين حالة الإخفاء، أو ما في حكمه من الإدغام بغنة، وهي صفة تقوم بالميم والنون إذا شُدِّدَتَا أو سكنتا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 إخراج الصوت: ويرى بعض المحدثين1 أن الصوت يولد عند التقاء عضوين ولهذا ينبغي أن يسمى بموضع الصوت، أما مخرج الصوت في رأيهم هو الطريق الذي يتسرب منه النَّفَس إلى الخارج. ويرى الدكتور إبراهيم أنيس أن الأفضل هو استخدام مصطلح جديد لطريق النفَس سماه: المجرى، أي: طريق التنفس من الرئتين حتى الخارج، ويكون مخرج الصوت حينئذ هو نقطة معينة في هذا المجرى كما رأى سيبويه والقدماء. وسمى: شادة، مكان اتصال العضوين بالموضع؛ ولذا يسمى ما ذكره القدماء بالمخارج موضع حدوث الصوت، ويؤيد هذا الرأي الدكتور إبراهيم أنيس ذاكرًا أن المحاضر هنا على حق2. الصوت: ولقد استعمل سيبويه كلمة: الحرف، لما يسمع، والحقيقة أن الحرف يعبر عن الرمز المكتوب، ولا يعبر عن الذي يسمع أيضا ولكنه يعبر عنه بالصوت. ويرى الأستاذ الألماني أ. شادة الذي كان يعمل بالتدريس في   1 ويرى الأستاذ الألماني أ. شادة أن كلمة المخرج الذي اتخذها سيبويه مصطلحًا للموضع الذي فيه يولد الصوت اللغوي مصطلح جانبه التوفيق، وبين أن الدارس للأصوات يلحظ أن عضوين من أعضاء النطق يتصلان في أثناء النطق بالصوت فَطَوْرًا يكون اتصالهما محكمًا بحيث يحبس النفس لحظة بعدها ينفرجان فجأة، ويكون هذا مع الصوت الشديد: كالدال والتاء والكاف ونحوها، وطَوْرا يكون اتصال العضوين بحيث يترك بينهما منفذ صغير، يسمح بمرور النفس ويكون هذا مع الصوت الرخو: كالذال والزاي والسين ونحوها. 2 الأصوات اللغوية د. إبراهيم أنيس، ص: 111، 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 كلية الآداب جامعة القاهرة أن سيبويه له العذر في ذلك، فإن كثيرًا من علماء أوروبا ظلوا إلى عهد قريب يسلكون نفس المسلك فيستخدمون كلمة الحرف مكان الصوت 1. اختلاف العلماء في عدد مخارج الحروف: وقد اختلف في عدد المخارج في الدراسات القديمة، فسيبويه والشاطبي وابن بري ومن تبعهم يرون أن المخارج ستة عشر مخرجًا؛ ذلك لأنهم أسقطوا مخرج الجوف الذي تخرج منه حروف المد الثلاثة، ووزعوا حروفه على مخارج الحلق إذ جعلوا الألف من أقصى الحلق مع الهمزة والياء من وسط اللسان مع الياء المتحركة أو الساكنة بعد فتح، وجعلوا الواو من الشفتين مع الواو غير المدية. وذهب غيرهم إلى أن عدد المخارج أربعة عشر مخرجًا، ومن هؤلاء الفرَّاء والجرمي وقطرب، فقد أسقطوا مخرج الجوف، ووزعوا حروفه كما سبق أن ذكرنا عند سيبويه ومن معه، وجعلوا مخرج اللام والنون الراء مخرجًا واحدًا من طرف اللسان مع ما يحاذيه، ففي الحلق نراهم يذكرون ثلاثة مخارج، وفي اللسان ثمانية، وفي الشفتين مخرجين وفي الخيشوم واحدًا.   1 الصوت مصدر: صات الشيء يصوت صوتًا فهو صائت، وصوَّت تصويتًا فهو مصوت، راجع سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي ص: 15، وهو عام ولا يختص بالإنسان ففي الكتاب الكريم: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير} [لقمان الآية: 19] . والصوت مذكر؛ لأنه مصدر كالضرب والقتل وقد ورد مؤنثًا على ضرب من التأويل. والصوت مفعول؛ لأنه يدرك بحاسة السمع ولا خلاف بين العقلاء في وجود ما يدرك، وهو عرض وليس بجسم ولا صفة الجسم: سر الفصاحة، ص: 15، 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ونرى عند الجمهور والخليل بن أحمد، والحافظ ابن الجزري، يعدون المخارج سبعة عشر مخرجًا، وكما هو واضح في الدراسات الحديثة، وبهذا يكون في الجوف مخرج واحد، وفي الحلق ثلاثة، وفي اللسان عشرة وفي الشفتين اثنان، وفي الخيشوم واحد. ولم تَهِنْ عزائم القدماء في معرفة مخارج الحروف، وأخذ كل منهم يبحث ما وسعه البحث، وتوصل كل منهم إلى تقسيم مخارج الحروف وإلى ترتيب لها. وقد أوضح الدكتور إبراهيم أنيس طريقة القدماء في دراستهم لمخارج الحروف وصفاتها، وأوضح علاج القدماء للأصوات في عصور مختلفة مقارنًا بينهم، فقد وضع جدولا دون فيه ما انتهى إليه سيبويه في مخارج الحروف وإلى جانبه نص ابن جني في كتابه: سر صناعة الإعراب، ثم نص ابن يعيش شارح المفصل في القرن السابع الهجري، وأخيرًا نص ابن الجزري صاحب كتاب: النشر في القراءات العشر، في القرن التاسع الهجري. وأوضح ملاحظاته حول دراسة القدماء من علماء العربية للأصوات مقارنًا بينها وبين دراسة المحدثين لها، وبَيَّن موقف ابن سينا من أصوات اللغة وكيف عالجها علاجًا فريدًا لا يشاركه فيه أحد من العلماء القدماء ومدى اهتمام الدارسين في القرن العشرين بكلام ابن سينا. كما وضع جدولا يوضح فيه ما انتهى إليه كل من الخليل بن أحمد وسيبويه وأبو الفتح بن جني وابن سينا من تقسيم كل منهم   1 العين الخليل بن أحمد، ج: 1، ص: 65. 2 كتاب سيبويه، ج: 2، ص: 405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 للأصوات حسب مخارجها 1. وفي رأي المحدثين من علماء الأصوات نرى أن المخارج عشرة هي بالترتيب كما يلي: 1- الحنجرة: ويخرج منها الهمزة والهاء ويسمى الصوت الخارج منها حنجريا. 2- الحلق: ويخرج منها: ع، ح، ويسمى الصوت الخارج منها حلقيا. 3- اللهاة: ويخرج منها: ق، ويسمى الصوت الخارج منها لهويا. 4- الطبق: ويخرج منه: ك، ع، خ، ويسمى الصوت الخارج منه طبقيا. 5- الغار: ويخرج منه: ش، ج، ي، ويسمى الصوت الخارج منه غاريا. 6- اللثة: ويخرج منها: ل، ر، ن، ويسمى الصوت الخارج منها لثويا. 7- الأسنان مع اللثة: ويخرج منها: د، ض، ت، ط، ز، س، ص، ويسمى الصوت الخارج منهما أسنانيا لثويا. 8- الأسنان: ويخرج منها: ذ، ظ، ث، ويسمى الصوت الخارج منها أسنانيا. 9- الشفة مع الأسنان: ويخرج منهما: ف، ويسمى الصوت الخارج منهما شفويا أسنانيا. 10- الشفة: ويخرج منها: ب، م، و، ويسمى الصوت الخارج منها شفويا.   1 الأصوات اللغوية: د. إبراهيم أنيس، ص: 104-146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ومن يتصفح كتب القدماء، فيسجد أنهم قد أطلقوا مصطلحات معينة بناء على مذهب في الفهم والتقسيم للمخارج الصوتية، فيستخدم ابن سينا للتعبير عن إنتاج الصوت لفظ: الحبس، وتردد في كلامه ألفاظ: المخرج والمخارج والحبس والحابس والمحبوس، كما فرق القدماء بين الحروف المفردة والحروف المركبة قائلين: وهذه المفردة تشترك في أن وجودها وحدوثها في الآن الفاصل بين زمان الحبس وزمان الإطلاق؛ ذلك لأن زمان الحبس التام لا يمكن أن يحدث فيه صوت حادث من الهواء وهو مُسَكَّن بالحبس. واستقرت الدراسات الحديثة عن فهم تقسيمات مغايرة، فتقسيم سيبويه قائم على أساس الفصل بين المخرج والصفة على حين رأى المحدثون عدم الفصل بينهما، كما وضعوا مصطلحات مغايرة لما ذكره القدماء. وهذه الفروق بين القدماء والمحدثين أتت نتيجة لاعتماد القدماء على جهدهم الذي قاموا به، وعلى معلومات عصرهم، فهي لم تكن وليدة التجربة المعملية أو التشريح؛ ولذا رأينا الفرق كان ظاهرًا ومنحصرًا في المنطقة التي خفيت عليهم عند الحنجرة، فلم يبين القدماء دورها في تحديد الجهر والهمس. وعلى الرغم من ذلك، فإن تقسيم سيبويه وابن جني وابن سينا لمناطق الفم وتحديدهم لمناطق الأصوات ومخارجها، كان شبه نهائي، ولم يستطع أحد ممن جاء بعدهم أن يثبت عكسه، أو يعدل منه حتى الآن، وإن حاولوا إدخال بعض التقسيمات داخل تصنيفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الفصل الثالث: صفات الحروف الصفات ذوات الأضداد مدخل ... صفات الحروف ويقصد بصفات الحروف: الكيفيات التي تعرض لها في مخارجها، كجريان النفس في بعض الحروف كالهمس، وعدم جريانها في البعض الآخر كالجهر. كما أن بعضها يحتاج إلى الاستعلاء والإطباق والجهر إلى غير ذلك من الصفات التي ينبغي الأخذ بها؛ لأنها تعمل على تحسين الحروف المختلفة في المخرج، كما أنها تعمل على معرفة قوى الحروف ومدى ثباتها، وكذلك ليعلم ضعيفها وما يجوز فيه الإدغام وما لا يجوز، كما أنها توضح ميزة من ميزات هذه اللغة الشاعرة، وما لها من ميزات صوتية موسيقية 1. وهذه الصفات تأتي من اختلاف الأوضاع التي يتخذها أعضاء النطق، ويتولد عندها تلك الصفات. وعلم الأصوات العام يتناول دراسة الصوت، وما هي عناصره الأساسية، من حيث عدد الذبذبات وطريقة انتقالها على هيئة موجات   1 انظر كتاب اللغة الشاعرة: عباس محمود العقاد، ص: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 هوائية صوتية، مستخدمًا في ذلك علم الطبيعة الصوتية Acconatique وأثر ذلك على علم الأصوات. كما أصبحت تستخدم اليوم الأجهزة للتسجيل الصوتي، والقياس الإلكتروني للصوت وذلك لمعرفة طبيعته ودرجة ارتفاعه أو انخفاضه. ويدرس هذا العلم كذلك صفات الأصوات التي ينبغي أن تكون عليها من جهر أو همس أو شدة أو رخاوة، إلى غير ذلك من الصفات. ويمكن حصر هذه الصفات في قسمين: 1- صفات أصلية لازمة. 2- صفات عَرَضية. والصفات الأصلية: أي الأساسية اللازمة للحرف لا تفارقه بحال من الأحوال كالاستعلاء والجهر والإطباق والقلقلة. والصفات العَرَضية: هي التي تعرض للحروف، أي: تظهر فيه في بعض الأحوال وتنفك عنه لسبب ما: كالإدغام والترقيق والتفخيم. والصفات الأصلية يمكن أن تنقسم إلى قسمين: قسم له ضد، وتسمى الصفات ذوات الأضداد، وقسم لا ضد له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الصفات ذوات الأضداد وهي عشر صفات تجمع في خمسة أقسام: الهمس والجهر: 1- الهمس: عبارة عن خفاء التصويت بالحرف لضعفه بسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 جريان النفس معه حالة النطق به، وحين يجري النفس معه يشعر أن فيه همسًا أو خفاء، ولذا سمي الحرف مهموسًا، وحروف الهمس عشرة يجمعها قولك: سكت شخص فحثه، والهمس يسميه الأوروبيون Voiceless أي: الخفي. فالصوت المهموس هو الذي لا يهتز معه الوتران الصوتيان، ولا يسمع له رنين حين النطق به، فالمراد بالهمس هو صمت الوترين الصوتيين معه، ويلاحظ أن النظر هنا إلى اهتزاز الأوتار الصوتية أو عدم اهتزازها، ولكن ما من صوت يحدث إلا نتيجة ذبذبات صوتية يحملها الهواء حتى يسمع. 2- الجهر: ضد الهمس، ومعناه: الإعلان وقوة التصويت بالحرف؛ ولذا كان الجهر معناه: إظهار الحرف لقوته بسبب انحصار الصوت من عدم جريان النفس معه حالة النطق به، وحروفه تسعة عشر، وهي الباقية من حروف الهمس. والجهر يحدث عن طريق ذبذبة الوترين الصوتيين في الحنجرة؛ ولذا تسمى مجهورة، أي يقوي الصوت فيها Voiced. والأصوات الساكنة المجهورة في اللغة العربية هي ثلاثة عشر: ب، ج، د، ذ، ر، ز، ض، ط، ع، غ، ل، م، ن، ويضاف إليها كل أصوات اللين بما فيها الواو والياء. - الشدة والرخاوة: 3- الشدة معناها: انحباس الصوت من أن يجري معه، أي   1 اللغة: فندرس، ص: 51. 2 الأصوات اللغوية: د. إبراهيم أنيس، ص: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 لزوم الحرف لمخرجه، وكأن فيه شدة أو قوة؛ ولذا سمي شديدا، ونحس به عند نطق الحروف: أ، ج، د، ق، ط، ب، ك، ت، وهي ثمانية، مجموعة في: أَجِدْ قَط بَكَتْ. ويسمي المحدثون الصوت الشديد انفجاريا Plosive؛ ذلك لأن مجرى النفس في أثناء النطق يضيق حتى ينحبس في مكان ما لحظة ثم ينطلق بقوة؛ ولذا نلحظ له انفجارا أو دويًّا. 4- الرخاوة: وهي ضد الشدة، ومعناه في اللغة: اللين، وفي الاصطلاح: ضعف لزوم الحرف لموضعه؛ لضعف الاعتماد عليه في المخرج؛ ولذا سمي رخوا، أي يجري الصوت مع الحرف، وحروفه هي الباقية من حروف الشدة، وهي ستة عشر حرفا. ونلاحظ أن هناك بعض الحروف المتوسطة، أي بين الشديدة والرخوة، أي ينحبس بعض الصوت مع الحرف ويجري بعضه؛ ولذا سميت بالمتوسطة، وحروفها خمسة، مجموعة في قولهم: ِلنْ عُمَر. وتوضح لنا الدراسات الحديثة الخطوات التي يمر بها الصوت الشديد، فيقول فندرس: ففي كل صوت صامت انفجاري، إذن ثلاث خطوات متميزة هي: أ- الإغلاق أو الحبس. ب- الإمساك الذي يكون طويل المدى أو قصير. ج- والفتح أو الانفجار. وعند إصدار صوت صامت بسيط مثل: التاء، فإن الانفجار يتبع الحبس مباشرة، والإمساك يضؤل إلى مدى لا يكاد يحس، وعلى العكس من ذلك، تظهر الخطوات الثلاث بوضوح فيما يسمى بالصوامت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 المضعفة، وهي ليست إلا صوامت طويلة 1. وإذا عدنا إلى ما ذكره سيبويه عند تعريفه للصوت الشديد والرخو، فإنه يقول: إن الحرف الشديد هو الذي يمنع الصوت أن يجري معه، وهو الهمزة والقاف والكاف والجيم والطاء والتاء والدال والباء، وذلك أنك لو قلت: الحج، ثم مددت صوتك، لم يجز ذلك. ومنها: الرِّخوة وهي: الهاء والحاء والغين والخاء والشين والصاد والضاد والزاي والسين والظاء والثاء والذال والفاء، وذلك إذا قلت: الطُّس، وانقض، وأشباه ذلك أجريتَ فيه الصوت إن شئت 2. وهنا نرى أن سيبويه يذكر لنا ما انتهي إليه علماء الغرب من أن الأصوات الشديدة أصوات وقتية آنية Momen Momentanlaute، لا يمكن التغني بها وترديدها؛ لأنها تنتهي بمجرد زوال العائق، وخروج الهواء، أما الأصوات الرخوة، فإنها أصوات استمرارية متمادة Dauerlaute، يمكن التغني بها، واستمرار نطقها مادام في الرئتين هواء 3. والأصوات المتوسطة تسمى في بعض الدراسات الحديثة: بالأصوات المائعة Liquide، ويسميه بعضهم: بالصوت المزدوج، فهو يبدأ شديدا انفجاريا، وينتهي رخوا احتكاكيا 4. وبهذا نجد ثلاثة أنواع من الصفات: أ- الشديدة أو ما يسمى بالصوت الانفجاري.   1 اللغة: فندرس، ص: 48. 2 الكتاب: لسيبويه، ج: 2، ص: 406. 3 المدخل إلى علم اللغة: د. رمضان عبد التواب، ص: 41. 4 انظر المدخل، ص: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ب- الصوت الرخو أو اللين الذي يتسع له المجرى. ج- الصوت المائع أو بَيْنَ بَيْنٍ أي: الذي يضيق له المجرى، ولكن لا يحدث له انفجار. وينبغي في ذلك أن يلاحظ الفرق بين مخرج الصوت ومجراه. فالمخرج: عبارة عن نقطة معينة في المجرى، عندها يتكون الصوت ويتشكل، عندما يضيق المجرى أو يتسع حسب طبيعة الصوت. والمجرى: هو الطريق الذي يسير فيه الصوت من الرئتين حتى يندفع خارج الفم أو الأنف. ويلاحظ في عملية النطق، أن الكثرة الغالبة من الأصوات اللغوية في كل كلام مجهور، رغم أن النظرة العادية توضح أن نسبتهما متعادلة، والحق أن نسبة شيوع الأصوات المجهورة أكثر من الأصوات المهموسة2، ذلك حتى يتحقق للغة عنصرها الموسيقي، ورنينها الخاص بالأصوات؛ لأن الجهر يعطي لرنين الصوت نغمته. وقد لوحظ في الدراسات الحديثة أن كلا: من الطاء والقاف، كما ينطق بها الآن صوت مهموس في حين أن القدماء ذكروا أنهما من المجهورات. وكذلك الهمزة ليست صوتا مجهورا في التجارب المعملية   1 اللغة: فندرس، ص: 50. 2 الأصوات اللغوية: د. إبرهيم أنيس، ص: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الحديثة، ولوحظ أن الضاد كما ينطق بها الآن، صوت شديد على حين أن القدماء يعدُّون الضاد صوت رخو، وكذلك صوت الجيم من الأصوات الشديدة، على حين أن التجارب الصوتية الحديثة تدل على أن الجيم التي يقال عنها: إنها فصيحة، صوت مزيج بين الشدة والرخاوة، وعلى قدر ما فيه من تعطيش تكون رخوة1. الاستعلاء والاستفال: 5- الاستعلاء: هو استعلاء طائفة من اللسان عند النطق ببعض الحروف، فيرتفع الصوت معه؛ ولذا سمي مستعليا، وحروفه سبعة يجمعها قولك: خص ضغط قظ، وهي حروف مفخمة. 6- الاستفال: وهو عبارة عن انخفاض اللسان وانحطاطه عن الحنك الأعلى إلى الحنك الاسفل أي إلى قاع الفم، وحروفه ما عدا السبعة المستعلية، أي: اثنان وعشرون حرفا، وهي حروف مرققة. الإطباق والانفتاح: 7- الإطباق: أي انطباق طائفة، أي جملة من اللسان على ما يحاذيها من سقف الحنك -الحنك الأعلى- عند النطق بالحرف، وانحصار الصوت بينها عند النطق بحروفه، وحروف أربعة: ص، ض، ط، ظ. 8- الانفتاح: وهو ضد الإطباق، وهو عبارة عن انفتاح ما بين اللسان والحنك الأعلى عند النطق بالحرف وخروج النفس من بينها، فلا ينحصر الصوت بينها؛ ولذا سمي منفتحا، وحروفه: خمسة وعشرون حرفا وهي الباقية من حروف الهجاء.   1 الأصوات اللغوية: د. إبراهيم أنيس، ص: 112، 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الذلاقة والإصمات: 9- الذلاقة: وهي الاعتماد في النطق على ذلق اللسان، أي على طرف اللسان والشَّفة، وحروفها ستة يجمعها قولك: فِرَّ مِنْ لُبٍ، وسميت مذلقة؛ لسرعة النطق بها، ومن معاني الذلاقة في اللغة: الفصاحة. 10- الإصمات: من الصمت وهو المنع، أي منع حروفه أن يبني منها كلمة رباعية الأصول أو خماسية؛ لثقلها على اللسان، وحروفها ماعدا الذلاقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الصفات التي لا ضد لها الصفير، القلقلة، اللين، الانحراف، التكرير، التفشي، الاستطالة. الصفير: وهو عبارة عن صوت الصفير، أو صوت الطائر، عند النطق بأحرف ثلاثة هي: الصاد والزاي والسين، وسميت بأحرف الصفير. القلقلة: وهي عبارة عن تقلقل المخرج عند خروجه ساكنا، حتى يسمع له نبرة قوية، وهو اضطراب اللسان بالحرف عند النطق به ساكنا، وحروفها خمسة يجمعها قولك: قُطْبٌ جَدَّ، ومن صفاتها، الشدة والجهر، ولو في وسط الكلمة مثل: يقبل، يجمع، أو موقوفا عليه مثل: الحق، أزواج، سواء أكان مشددا أم مخففا. وقد حرص القدماء على الجهر بصوت الباء، وإظهار قلقلته وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 مُشَكَّل بالسكون، فأضافوا إليه صوت لين قصير جدًّا يشبه الكسرة، وسموا تلك الظاهرة بالقلقلة، حرصًا منهم على إظهار كل ما في هذا الصوت من جهر، فلا يختلط بنظيره المهموس في الكتابة الأوروبية P، أي: الباء الثقيلة؛ ذلك لأن مهموس الباء ليس صوتًا أساسيًّا من أصوات اللغة العربية. فالقلقلة هي: أن ينطبق اللسان في الحرف مع سقف الفم، أو عندما تنطبق الشفتان في الباء، وهنا لابد من قلقلة أو ترجيعة توضح الحرف الساكن، وبدون هذه القلقلة يختفي الحرف تمامًا؛ لأنه ساكن مقطوع. ويرى بعض الدارسين1، أن يضاف إلى ذلك: الهمزة، التاء، وخاصة عبر وسائل الإعلام وعند الوقف، فالوقف عليهما بالسكون تضيع حالة الوصف الخاص بهما، وتضيع نبرتهما، وإنه بدون ترجيعة اللسان أو القلقلة لا يسمع الصوت بوضوح. اللين: هو خروج الحرف من مخرجه من غير كلفة على اللسان، وله حرفان: الواو والياء الساكنتان المفتوح ما قبلهما، مثل: يوم، بيت، جوف. الانحراف: عبارة عن ميل الراء واللام عن مخرجيهما إلى مخرج غيرهما، فالراء فيها انحراف إلى ظهر اللسان واللام فيها انحراف عند نطقها إلى طرف اللسان. التكرير: وهو قبول الراء للتكرير؛ لارتعاد طرف اللسان عند النطق بالراء، والنطق السليم يكون في تجنب كثرة التكرار؛ ولذا ينصح بأن   1 انظر فن الإلقاء: عبد الوارث عسر، ص: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 تعرف الراء بالتكرار ولا يزاد في ذلك. التفشي: وهو عبارة عن انتشار الريح في الفم، عند النطق بالشين: ش، حتى يتصل بنطق الطاء. الاستطالة: وهي امتداد الضاد عند النطق بها من مخرجها، حتى تتصل بمخرج اللام. وزاد بعضهم على هذه الصفات صفتين من الصفات اللازمة، وهما: الخفاء والغنة. الخفاء: وهو عبارة عن إخفاء صوت الحرف في حروف أربعة: اوى، وهي حروف المد، والهاء، أي: تكتب ولا ينطق بها، بل تخفى، والخفاء في حروف المد؛ فلِسَعَة مخرجها، وأما الهاء فلاجتماع صفات الضعف فيها. الغنة: وهي صفة لازمة للنون ولو تنوينًا سكنتا أو تحركتا ظاهرتين أو مدغمتين أو مخففتين. فالغنة صفة لازمة للميم والنون في كل الأحوال. وتلك الصفات السابقة يستعان بها في معرفة صفة الحرف؛ فينطق به مع صفته اللازمة والصفات السابقة يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام هي: القوية والضعيفة والمتوسطة، حتى يسهل إدراكها والعمل بها. فالصفات القوية: إحدى عشرة صفة هي: الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق والصفير والقلقلة والانحراف والتكرير والتفشي والاستطالة والغنة. والصفات الضعيفة: ست وهي: الهمس والرخاوة والاستفال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 والانفتاح واللين والخفاء. والصفات المتوسطة: ثلاث هي: الإصمات والذلاقة والبَيْنِيَّة أي: التي بين الرخاوة والشدة تبويب صفات الحروف : جدول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 جدول   1 مع ملاحظة أن الياء المتحركة إثر فتح يزاد لها صفة اللين. 2 التوسط بين الرخاوة والشدة. 3 بعضهم أضاف الغنة كصفة سادسة لأنها من الصفات اللازمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 جدول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الصفات العرضية وهي الصفات التي لم تكن ملازمة للحرف في كل حال، بل تعرض له في بعض الأحوال دون بعض لسبب ما، كالتفخيم والترقيق و الإظهار والإدغام ، والقلب والإخفاء، والمد والقصر، والتحريك والسكون والسكت وعددها: 11، إحدى عشرة صفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 التفخيم: التفخيم عبارة عن تسمين الحروف بجعله في المخرج جسيمًا سمينًا، وفي الصفة قويًّا، وللحروف المفخمة وجه واحد، وهي حروف الاستعلاء السبعة يجمعها قولك: خص ضغط قظ، إلا أنها في التفخيم في مرتبة واحدة، فهي تتفاوت وفقًا لصفات القوة، فكلما كان الحرف قويًّا كان التفخيم أقوى. والترقيق: والترقيق يكون في حروف الاستفال الباقية بعد الاستعلاء باستثناء المد والراء في لفظ الجلالة فإن اللسان يسبق إلى تفخيمها. فاللام تفخم في لفظ الجلالة الواقع بعد فتح أو ضم الله، ويعلمُ الله، وترقق في لفظ الجلالة الواقع بعد كسر ولو منفصلا عنها أو عارضًا نحو: بالله، وبسم الله، وإذا كان قبلها إحالة كبرى نحو: نرى الله. أما الراء فلها حالتان: متحركة وساكنة، فالمتحركة إن كانت مكسورة فلا خلاف في ترقيقها، سواء أكانت الكسرة أصلية أم عارضة في الوسط أو الطرف منونة أو غير منونة.   1 إتحاف فضلاء البشر: ص: 21- 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الإظهار والإدغام الإظهار: معناه: البيان، أي إخراج كل حرف من مخرجه مستقلا بنفسه واضحًا بصفاته. والإظهار في الحروف هو الأصل لأنه أكثر، والإدغام دخل لعلة فإذا لم توجد علة للإدغام فلابد من الرجوع إلى الأصل وهو بيان الحرف وإظهاره 1. وحين ينطق الإنسان الكلمات في لغته نطقًا لا تكلف فيه نجد أن الأصوات حين تتجاور بعضها، قد يؤثر بعضها في بعض وقد لا يؤثر فيكون الصوت ظاهرًا في نطقه. والسبب في الإظهار عدم تأثير الصوت بما يجاوره نتيجة لاختلاف في طبيعة المخرج وإن قل هذا الاختلاف، وكذلك اختلاف الصفات بينهما فكل صوت فيه زيادة أو قوة لا يدغم فيما هم أنقص صوتًا منه، وقد أوضح لنا علماء القراءات أن الإظهار هو الذي لا يجوز فيه الإدغام: وهو ما تباين فيه الحرفان بالمخرج والصفة، فإن تباينا، إما بمخرج وإما بصفة بعد الإدغام، ومنه ما يجوز منه ما لا يجوز 2. والذي لا يجوز فيه الإدغام هو: ما تباين فيه الحرفان بالمخرج.   1 الكشف عن وجوه القراءات: لمكي بن أبي طالب القيسي، ج: 1، ص: 134. 2 الإقناع، ج: 1، ص: 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والصفة، فإن تباينا إما بمخرج، وإما بصفة بعد الإدغام، ومنه ما يجوز ومنه ما لا يجوز، واختلاف المخرج وإن قل من أسباب الإظهار وكذلك تباين الصفتين. وكل حرف فيه زيادة صوت لا يدغم فيما هو أنقص صوتًا منه، فإن حروف الحلق لا يدغمن في حروف الفم، ولا في حروف الشفتين، وقد يدغم بعض حروف الحلق في بعض؛ لتقارب المخرج. وحروف الفم لا تدغم في حروف الحلق، ولا في حروف الشفتين، ولكن يدغم بعضها في بعض، وفيها - أن حروف الشفتين- يقع أكثر الإدغام خلا الباء فلا تدغم في غيرها، ولا يدغم غيرها فيها. وحروف الشفتين لا تدغم في حروف الحلق ولا في حروف الفم؛ لبعد ما بينهما في المخرج، ويدغم بعضها في بعض خلا الواو فلا تدغم في غيرها ولا غيرها فيها، خلا أن النون الساكنة والتنوين يدغمان في الباء والواو، وكذلك الميم لا تدغم في الباء 1. والوقف يضطر فيه إلى الإظهار ولا يصح فيه الإدغام. وموانع الإدغام: المتفق 2 عليها ثلاثة: 1- كون الأول تاء ضمير أو مشددا أو منونا سواء كان تاء الضمير متكلما أومخاطبا، نحو: {كُنتُ تُرَابًا} ، {أَفَأَنْتَ تُسْمِع} ، {جِئْتَ شَيْئاً إِمْرا} .   1 كتاب سيبويه، ج: 2، ص: 448، والكشف، ج: 1، ص: 140. 2 والمختلف فيه الجزم، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر} ، {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَة} ، وقيل: قلة الحروف وتوالي الإعلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 2- وأما المشدد نحو: ربَّ ما، و {مَسَّ سَقَر} {فَتَمَّ مِيقَاتُ} ، {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا} ، {وَهَمَّ بِهَا} . 3- أما المنون فنحو: {غَفُورٌ رَحِيم} ، {سَمِيعٌ عَلِيم} ، {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} ، {لَذِكْرٌ لَك} . حروف يخاف على القارئ اللحن فيها بالإدغام: ذكر القراء بعض الحروف التي يخاف على القارئ اللحن فيها بالإدغام ومن ذلك: حرف الفاء: لا يجوز إدغامها في الميم والواو والباء؛ لأنها انحدرت إلى الفم في مخرجها حتى قاربت مخرج الفاء، والباعث على ذلك صوتي يؤدي إلى عدم النطق السليم، ومثال ذلك: {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم} [الأنعام: 133] و {لا تَخَفْ وَلا تَحْزَن} [العنكبوت: 33] و {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمْ} [سبأ: 9] والباء لا يجوز فيها الإدغام في الفاء مخافة اللحن. ومن ذلك الميم عند الفاء والواو نحو: {هُمْ فِيهَا} [البقرة: 39] ، {هُمْ وَقُودُ النَّار} [آل عمران: 10] وغير ذلك حيث سكنت ولا يجوز شيء من الإدغام لما فيه من الإخلال بالغنة؛ ولذا ينبغي أن نظهر الميم عند الفاء والواو وتُبَيَّن في النطق بيانًا حسنًا من غير تكلف. ومن ذلك القاف عند الكاف 2، والكاف عند القاف   1 الإقناع، ص: 176، 177.2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ} [المرسلات: 20] . فالإظهار لاختلاف الصفتين؛ لأن القاف مجهورة والكاف مهموسة وإن كان بعضهم أجاز الإظهار والإدغام. ومن ذلك الظاء عند التاء وذلك في قوله تعالى: {أَوَعَظْتَ} [الشعراء: 136] ، فالقراء يرون الإظهار فيه، مخافة اللبس؛ لأن الإدغام يذهب صفتها فتكون في السمع مثل أوعدت. ومن ذلك الضاد عند التاء والجيم واللام والطاء، لا خلاف في إظهارها عند القراء مثل قوله تعالى: {فَرَضْتُم} [البقرة: 237] ، {وَاخْفِضْ جَنَاحَك} [الحجر: 88] ، {وَاخْفِضْ لَهُمَا} [الإسراء:24] ، {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه} [الأنعام: 119] ، وما أشبه ذلك. - ولا يجوز الإدغام لمزية الضاد؛ وذلك لأن الضاد من الحروف التي لا تدغم في مقاربها ويدغم مقاربها فيها وهي سبعة: ط، د، ت، ظ، ذ، ث، ل، وذلك حفاظًا على مزايا الضاد وإبقاء لصفافتها من الاستطالة والتفشي والتكرير والصفير والغنة. ومن ذلك الراء الساكنة عند اللام نحو: {نَغْفِرْ لَكُم} [البقرة: 58] ، و {اغْفِرْ لَنَا} [البقرة: 286] ، {يَنشُرْ لَكُم} [الكهف: 16] ، والقراء مجمعون على الإظهار لما في الإدغام من الإخلال بالصفة. ومن ذلك السين عند التاء نحو: {نَسْتَعِين} [الفاتحة: 4] ، {اسْتَطَعْت} [الأنعام: 135] ، {مُسْتَضْعَفُون} [الأنفال: 26] ، ولا يجوز الإدغام لما فيه من الإخلال بالصفير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 والعين عند الغين، والغين عند العين، والحاء عند العين، والعين عند الحاء، والحاء عند الهاء، فالإدغام في هذا كله ممتنع؛ وذلك لأن حروف الحلق لا تدغم فما كان منها أدخل في الحلق لم يدغم فيه إلا دخل في الفم. وكذلك لام: قل، لا تدغم عند السين والصاد والنون والتاء، أما عند الراء فلا خلاف في إدغامها للقرب الذي بينهما. لا تدغم لام: بل، عند الجيم نحو: {بَلْ جِئْنَاك} [الحجر: 63] ، ولا يجوز الإدغام لتباعد المخرجين كما لا يجوز إدغام الباء في الجيم للتباعد بالصفة، ويلاحظ أن لام بل عند الراء في نحو: {بَل رَبُّكُمْ} [الأنبياء: 56] ، فهو مدغم عند الجميع. ولا يجوز إدغام اللام الساكنة عن حركة عند النون نحو: {جَعَلْنَا} و {أَرْسَلْنَا} ولا خلاف في إظهارها عند النون. ولا يجوز إدغام دال قد، وذال إذا، وتاء التأنيث عند عدا الحروف التي اختلف القراء في إظهارها وإدغامها وهي مجموعة في قولك: وهن مظهرات عندهن، أي: عند سوى تلك الحروف 1. الإدغام: الأصوات اللغوية حين تتجاور إما ألا يتأثر الحرف بمن جاوره، وإما أن يتأثر، إلا أن درجة التأثر تختلف من صوت لآخر، فمن الأصوات ما هو قليل التأثر، ومنها ما هو سريع التأثر، وأقصى ما يصل إليه هذا التأثر هو أن يفني الصوت في الصوت الذي يجاوره، فلا يترك له أثرًا، وهو ما اصطلح القدماء على تسميته بالإدغام.   1 الإقناع في القراءات السبع، ج: 1، ص: 176- 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 والإدغام في اللغة: إدخال شيء في شيء لمناسبة بينهما. قال الخليل: يقال أدغمت الفرس اللجام أي: أدخلته فيه 1. وفي الاصطلاح: الإدغام أن تصل حرفا ساكنا بحرف مثله من غير أن تفصل بينهما بحركة أو وقف بحيث يصيران حرفًا واحدًا مشددا، فيرتفع اللسان بالحرفين ارتفاعة واحدة 2. ولابد أن يسكن الحرف قبل الإدغام، وكل مدغم فيه فلا يكون إلا متحركًا، لئلا يجتمع ساكنان 3. وهذا يدل على أن الإدغام عملية صوتية لها أسبابها وأحكامها وينتج عنها أن يتحول الحرفان المتقاربان أو المتجانسان أو المتماثلان إلى إدغامهما. وعلة ذلك: إرادة التخفيف؛ لأن اللسان إذا لفظ بالحرف من مخرجه ثم عاد مرة أخرى إلى المخرج بعينه، ليلفظ بحرف آخر مثله صعب ذلك وشبهه النحويون بمشي المقيد؛ لأنه يرفع رِجْلًا ثم يعيدها إلى موضعها أو قريب منه، وشبهه بعضهم بإعادة الحديث مرتين، وذلك ثقيل على السامع، وذلك نحو: {قَالَ لَهُم} ، {ذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} 4. والإدغام ظاهرة يألفها اللسان العربي وله شواهد كثيرة في القرآن   1 كتاب سيبويه: 2/ 491، والتعريفات: 8. 2 الإقناع، ج: 1، ص: 164. 3 جمال القراء: 1/ 117، والنشر: 1/ 273، والتبصرة: 1/ 350، والكشف: 1/ 143. 4 الآيتان من سورة البقرة: 247، 200. انظر في ذلك الكشف، ج: 1، ص: 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الكريم، وفي كلام العرب؛ ولذا قال أبو عمرو بن العلاء: الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها ولا يحسنون غيره 1. والأصوات في تأثيرها تهدف إلى نوع من المماثلة أو المشابهة بينهما، ليزداد مع مجاورتها قربها في الصفات أو المخارج، ويمكن أن يسمى هذا التأثير بالانسجام الصوتي بين أصوات اللغة، وهذه الظاهرة شائعة في كل اللغات بصفة عامة، غير أن اللغات تختلف في نسبة التأثير وفي نوعه 2. أحكام الإدغام: اشترط العلماء في المدغم أن يلتقي الحرفان خطًّا ولفظًا. أو خطًّا لا لفظًا نحو: {إِنَّهُ هُو} . ولو كانا في كلمة واحدة نحو: خلقكم، ونرزقكم. وإذا التقى الحرفان لفظًا وخطًّا، أو خطًّا، فقد انقسما إلى أربعة أقسام وفق القسمة العقلية وهي: 1- أن يكون الحرفان مثلين. 2- أن يكون الحرفان متقاربين. 3- أن يكون الحرفان متجانسين. 4- أن يكون الحرفان متباعدين. وهذا التقسيم يعين على معرفة الحرفعند لقائه حرفًا آخر، ماذا يحدث له؟   1 النشر، ص: 374. 2 الأصوات اللغوية: د. إبراهيم أنيس، ص: 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 والحرف عند لقائه حرفًا آخر لا يخلو من أحد ثلاثة أقسام: 1- قسم لا يجوز فيه إلا الإدغام. 2- وقسم لا يجوز فيه إلا الإظهار. 3- وقسم يجوز فيه الإظهار والإدغام. القسم الذي لا يجوز فيه إلا الإدغام: وسبب الإدغام هو تماثل الحرفين والتجانس والتقارب، وقيل: التشارك والتلاصق والتكافؤ 1. والمثلان: هما الحرفان اللذان اتحدا مخرجًا وصفة، ولا يكون ذلك إلا إذا اتفقا اسمًا أيضًا كالباء والباء في نحو: {اضْرِبْ بِعَصَاك} [الشعراء: 63] ، وقد يكون في كلمة واحدة مثل الكافين في نحو: {يُدْرِككمُ الْمَوْت} [النساء: 78] ، والتاءين نحو: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} [البقرة: 16] . وهكذا حين يكون الحرف الأول ساكنًا والثاني متحركًا، وحكمه وجوب الإدغام 2، وذلك إن لم يكن الأول حرفًا نحو: {قَالُوا وَهُم} ، أو هاء سَكْت نحو: {مَالِيَهْ, هَلَكَ} ، وإلا وجب الإظهار في المثال؛ لئلا يزول المد بإدغام، وجاز في الثاني إجراء الوصل مجرى الوقف. ويلاحظ إذا كان الحرفان مثلين: تاء وتاء أو هاء وهاء، وارتفع المانع، وكان الأول ساكنا أدغم. وإن كانا غير مثلين قلب كالثاني وأسكن، ثم أدغم وارتفع اللسان   1 النشر: 278. 2 الإقناع، ج:1، ص:164، 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بها دفعة واحدة من غير وقف على الأول، ولا فصل بحركة ولا رَوم، وليس بإدخال حرف في حرف كما ذهب البعض، بل إن الحرفين ملفوظ بهما؛ طلبا للتخفيف. والمتقارب: هو أن يتقارب الصوتان مخرجا أو صفة أو مخرجا وصفة. والمراد من التقارب في المخرج هو: التقارب النسبي وعليه يكون الحرفان متقاربين، إذا كان من مخرج واحد، وقد يكون الحرفان متقاربين مع كون مخرج أحدهما من عضو 1، ومخرج الثاني من عضو، كالنون والميم في نحو: {مِنْ مَاء} وهذا هو سبب إدغام الغين والقاف في {لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} . وهما على نوعين: أحدهما من كلمة، والثاني من كلمتين. أو في كلمة واحدة، فإنه يدغم إلا القاف في الكاف، إذا تحرك ما قبل القاف، وكان بعد الكاف ميم جمع نحو: سبَقَكم، خلَقَكم، صدَقَكم، واثَقَكم. ومضارع نحو: يخلُقكم، يرزُقكم، فنغرِقكم. أما ما هو من كلمتين: فإن الإدغام من مجانسة الحرف أو مقاربه في ستة عشر حرفا وهي: ب، ت، ث، ج، ح، د، ذ، ر، س، ش، ض، ق، ك، ل، م، ن.   1 وقد لا يكونان متقاربين، مع كون مخرجهما من عضو واحد، ولكن كلا منهما بعيد عن الآخر، كالسين والقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقد جمعت في كلمة: رض مستشد حجتك بذل ثم، فيدغم في هذه الحروف جانسها أو قاربها، إلا الميم، إذا تقدمت الياء، فإنه يحذف حركتها فقط، فيخفيها ويدغم ما عداها. وما تكافأ في المنزلة من الحروف المتقاربة فإدغامه جائز، وما زاد صوته فإدغامه ممتنع؛ للإخلال الذي يلحقه، وإدغام الأنقص صوتا في الأزيد جائز ومختار؛ لخروجه من حال الضعف إلى حال القوة. وغير المثلين إذا تقاربا في المخرج وسكن الأول، أشبها المثلين اللذين هما من مخرج واحد، فجاز فيهما الإدغام ما لم يمنع من ذلك مانع، فعلى هذا يجري الإدغام ويحسن. والإدغام إنما يحسن في غير المثلين، ويتقوى إذا سكن الأول، وهو على ضربين: أحدهما: إذا كان الحرفان متقاربين في المخرج، والحرف الأول أضعف من الثاني، فيصير بالإدغام إلى زيادة قوة؛ لأنك تبدل من الأول حرفا من جنس الثاني، فإذا فعلت ذلك نقل لفظ الضعيف إلى لفظ القوة، فذلك حسن جيد. والضرب الثاني: أن يكون الحرفان المتقاربان في القوة سواء، كالمثلين فيحسن الإدغام إذ لا ينتقص الأول من قوته قبل الإدغام. وضرب ثالث: من إدغام المتقاربين ضعيف قليل، وهو أن يكون الحرف الأول أقوى من الثاني، فيصير بالإدغام من حالة قبل الإدغام وذلك نحو: إدغام الراء في اللام، وهو قبح لقوة الراء بالجهر والتكرير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 التجانس 1: التجانس هو أن يتفق مخرج الصوتين مخرجا ويختلفا صفة، كالذال في الثاء، والثاء في الظاء، والتاء في الدال، وذلك مثل: {يَلْهَثْ, ذَلِكَ} أي: الاختلاف في صفة بين التاء والذال، أو في أكثر من صفة كما هو في الدال والتاء، وكما في نحو: {قَدْ تَبَيَّنَ} . والتباعد: والصوتان المتباعدان هما اللذان تباعدا مخرجا، واختلفا صفة، أو تباعدا مخرجا واتفقا صفة، وله صور ثلاث هي: 1- أن يتباعدا في المخرج ويختلفا في صفة واحدة، كالهمزة والدال في نحو: أدنى. 2- أن يتباعد الصوتان في المخرج ويختلفا في أكثر من صفة، كالهمزة والصاد في مثل: أصَّدَّق. 3- أن يكون الصوتان متباعدين في المخرج ومتفقين في الصفة، كالهاء والثاء في مثل: يلهث. حكم كل من المثلين والمتقاربين والمتجانسين والمتباعدين: ينقسم كل من المثلين والمتقاربين والمتجانسين عند علماء القراءة إلى ثلاثة أقسام: 1- إدغام كبير، وصغير، ومطلق. الإدغام الكبير: ما كان الأول من الحرفين المدغمين متحركا، سواء أكانا مثلين أم جنسين متقاربين.   1 راجع في ذلك: النشر، ص: 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وسمي كبيرا؛ لكثرة وقوعه، إذ الحركة أكثر من السكون، وقيل: لتأثيره في إسكان المتحرك قبل إدغامه، وهو ليس كالإدغام الصغير الذي يكون فيه الأول ساكنا والثاني متحركا. وقيل: سمي كذلك لما فيه من الصعوبة، وقيل: لشموله نوعي المثلين والجنسين المتقاربين. الإدغام الكبير لكي يتحقق في الحروف، فإننا ننظر في طبيعة الحرف. فالحرف المدغم إما أن يكون محركا أو ساكنا. فإن كان محركا فلا إدغام فيه، ولا كلام فيه من ناحية إظهاره. وإن كان ساكنا فيدغم بشروطه، ولا يخلو إما أن يكون معتلا أو صحيحا. فإن كان معتلا، فإن الإدغام معه ممكن حسن؛ لامتداد الصوت به، ويجوز فيه ثلاثة أوجه: المد والتوسط والقصر، كجوازهما في الوقف. وقال الجزري: لا نعلم نصا بخلافه 1. ومن أمثلة ذلك: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، {قَالَ لَهُمُ} ، {يَقُولُ رَبَّنَا} ، وكذلك انفتح ما قبل الواو والياء نحو: قوم موسى، كيف فعل، والمد هنا أرجح من القصر. ولكي يأخذ الإدغام نغمته الصوتية ينبغي أن ندرك أن كل من أدغم الراء في مثلها، أوفي اللام أبقى أما له الوقف قبلها نحو: {وَقِنَا عَذَابَ النَّار} ربنا. والنهار، ذلك من أن الإدغام عارض والأصل   1 انظر النشر في القراءات العشر: ابن الجزري، ص: 298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الإظهار، فالإدغام اعتداد بالعارض كما هو واضح في الإمالة. وأجمع الرواة أن إدغام القاف في الكاف إدغام كامل يذهب معه صفة الاستعلاء في مثل: خلقكم، نخلقكم. وكذلك أجمعوا على إدغام النون في اللام والراء إدغامًا كاملا من غير غنة. ينحصر الإدغام الكبير في رواته، إذا ذكر لنا القراء روايات متعددة في الإدغام. الإدغام الصغير: وهو إذا كان الحرف الأول منه ساكنًا. وينقسم إلى جائز، وواجب، وممتنع. الجائر منه على قسمين: الأول: إدغام حرف من كلمة في حروف متعددة من كلمات متفرقة، وينحصر في: إذ، قد، وتاء التأنيث، وهل، بل. والثاني: إدغام حرف في حروف من كلمة أو كلمتين، حيث وقع، وهو المقصود بالحروف التي قربت مخارجها وهي سبعة عشر حرفًا: الباء الساكنة مع الفاء نحو: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ} ، {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِك} ، حيث أدغمت الباء في الفاء. إدغام الباء في الميم. الراء الساكنة عند اللام نحو: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك} ، {يَغْفِرْ لَكُم} . اللام الساكنة مع الذال نحو: {مَنْ يَفْعَلْ ذَلِك} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الدال عند الثاء: {مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا} ، {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ} . التاء في الذال، نحو: {يَلْهَثْ ذَلِك} في الأعراف. الذال في التاء، نحو: {اتَّخَذْتُمْ الْعِجْل} ، {لاتَّخَذْت} . الذال في التاء، كما في: {فَنَبَذْتُهَا} . الثاء في التاء، كما في: {لَبِثْتُم} ، {أُورِثْتُمُوهَا} . الدال في الذال، كما في: صاد ذكر من قوله تعالى: {كهيعص, ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} . النون في الواو، كما في قوله تعالى: {يس, وَالْقُرْآنِ} ، {ن, وَالْقَلَمِ} . النون عند الميم، كما في قوله: {طسم} . فكل حرفين الْتَقَيَا،، أولهما ساكن وكانا مثلين أو جنسين، وجب إدغام الأول منهما لغة وقراءة. فالمثلان نحو: فاضرب به، ربحت تجارتهم، وقد دخلوا، إذ ذهب، وقل لهم، وهم من، وعن نفس، يدرككم، بوجهه. فقد التقى حرفان من جنس واحد في كل من الأمثلة السابقة، وتسمى هذه الحروف بالمثلين. والجنسان نحو: {قَالَتْ طَائِفَة} ، أي: التاء والطاء، ونحو: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّه} ، فالجنسان هنا التاء والدال، ونحو: {وَقَدْ تَبَيَّنَ} ، {إِذْ ظَلَمْتُم} ، {بَلْ رَان} ، هل رأيتم. وعند التقاء حرفين أولهما ساكن وجب الإدغام سواء أكانا مثلين أم جنسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الكبير المطلق: وأما حكم الكبير المطلق من المثلين والمتقاربين والمتجانسين والمتباعدين، فالإظهار دائمًا، وهو أن يتحرك الأول ويسكن الثاني عكس الصغير ويسمى مطلقًا لعدم تقييده بصغير ولا كبير. فالصوتان إما أن يتحركا معًا فهو من قسم الإدغام الكبير أو يسكن الأول ويتحرك الثاني فهو الصغير أو يتحرك الأول ويسكن الثاني فهو المطلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 المد والقصر تعريف المد: المد لغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِين} أي: يزيدكم، واصطلاحًا إطالة زمن الصوت بحرف من حروف المد. والقصر: ضد المد وهو لغة الحبس، واصطلاحًا: إثبات حروف المد من غير زيادة عليه، أي: ترك زيادة مطِّ الحرف وإبقاء المد الطبيعي على حاله. حروف المد: المد لا يكون إلا في الحروف الجوفية الثلاثة وهي: 1- الألف الساكنة المفتوح ما قبلها. 2- الواو الساكنة المضموم ما قبلها. 3- الياء الساكنة المكسور ما قبلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ويجمعها لفظ: واي، ويجمع أمثلتها لفظ: نوحيها، وتسمى هذه الحروف حروف مد ولين؛ لامتدادها في لين وعدم كلفة، وتسمى حروف جوفية؛ لخروجها من الجوف. أقسام المد: ينقسم المد إلى قسمين أصلي وفرعي. أ- المد الأصلي: ويسمى بالمد الطبيعي، وهو ما اتفق مع النطق الطبيعي المعروف، وهو الذي لا يقوم ذات الحرف إلا به؛ ولذا سمي أصليا؛ لأنه لا يزيد ولا ينقص عن مقداره، وينبغي أداؤه الأداء المعتاد ومقداره حركتان بالإصبع، أو أن يكون مثل طول المقطع الطويل، أي: الممدود لوجود حرف المد فيه مثل: قال، يقول، قيل، وقد يطلق عليه اسم القصر وذلك لاقتصاره على قيمته الطبيعية في المد. ب- المد الفرعي: هو المد الزائد على المد الأصلي ويتوقف مده على سبب من الأسباب، بسبب همزة أو سكون ويتحقق بإطالة الصوت بحرف المد عند ملاقاة همزة أو سكون. ويسمى فرعيًّا لتفرعه من المد الأصلي ونظرًا لتفاوت مقادير المد في أنواعه المختلفة بما قد يزيد عن مقداره الأصلي في أكثرها، ولذا قسم إلى عدة أقسام. فينقسم المد الفرعي إذا كان سببه ملاقاة الهمزة إلى ثلاثة أقسام: مد متصل، ومد منفصل، ومد بدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المد المتصل: هو أن يقع بالهمزة بعد حرف المد في كلمة واحدة مثل: الصائمين، والقائمين، شاء، جاء، فقد اجتمع حرف المد مع الهمزة في كلمة واحدة وحكم المد المتصل وجوب المد زيادة على الطبيعي، أو التوسط أي أربع حركات أو خمس حركات، والحركة قدرها العلماء بزمن قبض الإصبع أو بسطه، ورأي بعضهم الإشباع 1، أي بمقدار ست حركات، ويجمع القراء على عدم قصر المد المتصل، أي لا يجوز مده بمقدار حركتين. المنفصل: وهو أن يكون حرف المد في كلمة والهمزة في كلمة أخرى مثل يا أيها، وفي أنفسكم، قوا أنفسكم، فالهمز يقع بعد حرف المد وسمي منفصلا لانفصال سببه عنه، أي كون المد في كلمة والهمز في كلمة أخرى، وحكمه جواز مده. وهنا يكون المد متوسطًا أي بمقدار أربع حركات 2، أو الإشباع ست حركات 3، أو القصر أي: مقدار حركتين 4. مد البدل: إذا وقعت الهمزة قبل المد يقال لهذا المد: مد البدل، مثل آدم، إيمان، أوتو، وهو إبدال حرف الهمزة مدا نطيل فيه الصوت، وهو   1 ورش، وحمزة. 2 قالون وأبو عمرو. 3 ورش، وحمزة. 4 لابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 مبدل عن همزة ساكنة مثل: أادم فيصبح بعد الإبدال آدم، وكذلك إيمان أصلها إئمان، وأوتو أصلها أؤتوا. القراء يجمعون على قصر هذا المد أي جعله حركتين فقط، ويرى بعضهم جواز التوسط والإشباع 1، وخاصة إذا كانت الألف مبدلة من التنوين وقفا مثل: دعاءً، وملجأً، وهزؤا، أو كان قبل الهمزة ساكن صحيح متصل نحو: القرآن، الظمآن، مذؤما، مسئولا، أو أن يكون حرف المد الواقع بعد همزة الوصل الامتداد نحو: ايت، أوتمن. واتفقوا على أن كلمة: إسرائيل، يؤاخَذ، فيهما من القصر واختلفوا في كلمتين هما: {أَالآنَ} 2، المستفهم بها، ويقصر الألف الأخيرة؛ لأن الأولى من باب المد اللازم، وكلمة: {عَاداً الأُولَى} 3. وإذا كان سبب المد الفرعي السكون العارض سمي المد العارض للسكون، وإذا كان سببه سكونًا لازمًا سمي المد اللازم. المد العارض للسكون: وهو ما جاء فيه بعد حرف المد أو اللين سكون عارض في حالة الوقف، أي: ستقف بعده عن القراءة نحو: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم} أي: جاء السكون بعد حرف المد، أو حرف اللين مثل: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} ، وسمي عارضًا لعروض سكونه في الوقف دون الوصل. وحكمه الجواز قصره وحده، وفيه ثلاثة أوجه: القصر والتوسط والمد.   1 لورش. 2 سورة يونس. 3 سورة النجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وقسمه بعضهم إلى ستة أقسام هي: 1- المد العارض للسكون المطلق نحو: تعلمون، نستعين. 2- مد اللين العارض للسكون نحو: سوف، بيت، خوف، نوم. 3- المتصل العارض للسكون نحو: جاء، ساء. 4- البدل العارض للسكون نحو: مآب. 5- المد العارض للسكون وهو هاء التأنيث نحو: الصلاة. 6- المد العارض للسكون وهو هاء ضمير نحو: عقلوه، قتلوه. المد للازم: هو ما كان السكون فيه بعد حرف المد لازمًا، أي: سكون أصلي في الوقف والوصل جميعًا. وينقسم إجمالا إلى قسمين: كلمي وحرفي، وكل منهما ينقسم إلى مخفف وثقيل؛ ولذا يأتي على حالات أربع هي: أ- لازم كلمي1 مثقل: وهو أن يتأتى بعد حرف المد ساكن مصحوب بالإدغام أو التشديد نحو: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} ، {الصَّاخَّة} . ب- لازم حُكْمي مخفف، أي أن حرف المد الساكن ليس بمد مدغم ولا مشدد مثل: {أَالآَنَ} . ج- لازم حرفي مثقل: ويكون في الحروف المقطعة من فواتح السور كما في قوله تعالى: {الم} ، {طسم} . د- لازم حرفي مخفف إذا كان خاليًا من الإدغام كما في قوله   1 أي: كلمة تزيد على ثلاثة أحرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} إذ أصلها حسب السماع نون. وحكم هذا المد كما هو واضح من اسمه اللزوم ست حركات دائمًا والتوسط إلى أربع حركات ولكن المد أفضل. ومما سبق يتضح أن زيادة مط حروف المد أو إطالة زمن النطق به إنما يكون لسبب لفظي وهو الهمزة أو السكون. أسباب المد: يعنى فن الإلقاء بمعرفة أسباب المد التي تعين القارئ على الأداء السليم والواعي، والمد لا يكون إلا لسبب لفظي أو معنوي. والسبب اللفظي إما همزة أو حرف ساكن، والسر في ذلك: الهمزة: فالهمزة إما أن تكون قبل حرف المد نحو: آدم، إيمان، خاطئين، أوتي، الموءودة. وإما أن تكون الهمزة بعد الحرف، وقد تكون معها في كلمة واحدة مثل: أولئك، أولياء، يشاء الله، السوأى، من سوء، لم يمسسهم سوء، ويضيء. والمنفصل في كلمة أخرى نحو: قالوا آمنا، بما أنزل. وحروف المد إن لم تلاقِ همزة أو سكونًا ينبغي آدائها الأداء المعتاد دون زيادة ويسمى المد الطبيعي أو الأصلي ومقداره حركتان بالإصبع مثل: قال، يقول، قيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ووجه المد لأجل الهمزة: يدرك حين النظر إل طبيعة الهمزة، فحرف المد حرف خفي يخرج من الجوف، والهمزة حرف صعب فريد في الخفى ليتمكن من النطق بالصعب. وهناك سبب آخر للمد وهو أن حرف المد ضعيف والهمزة قوى، فزيد في المد تقوية للضعف عند مجاورته للقوي، والهمزة صوت شديد مجهور ولكي يتمكن من النطق به كما ينبغي لابد من اللجوء إلى المد. الساكن: والمد من أجل الحرف الساكن، إما أن يكون لازمًا أو عارضًا وهو في قسميه إما أن يكون مدغمًا أو غير مدغم. فالساكن اللازم المدغم نحو: {الضَّالِّين} ، {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} . والساكن العارض المدغم نحو: قال لهم، قال ربكم، يقول له، فيه هدى، يريد ظلما، فلا أنساب بينهم. السبب المعنوي: وإلى جانب السبب اللفظي يوجد سبب معنوي له أهميته في إدراك معنى الكلام. إذ إن السبب المعنوي للمد، وهو قصد المبالغة في النفي -وهو سبب قوي- مقصود عند العرب، فقد استحب العلماء المحققون مد الصوت بلا إله إلا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وقال ابن مهران في كتاب المدات: إنما سمي مد المبالغة؛ لأنه طلب للمبالغة في نفي ألوهية سوى الله سبحانه. مد الفرق: وهو المد الذي يفرق به بين الاستفهام والخبر نحو: {أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّم} [الأنعام في موضعين: 143، 144] . {قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 49] . {أاللَّهُ خَيْر} [النمل: 59] . وهنا نرى أن المد يأتي من أجل أن يتضح الفرق بين الاستفهام والخبر في أذن السامع، فإنه لولا المد لتوهم السامع أنه خبر لا استفهام. الواو، والياء حرفا اللين. وهما ما اصطلح علماء العربية على تسميتها بِحَرْفَيّ اللين، وهما صوتان بين الأصوات اللغوية يستحقان علاجًا خاصًا؛ لأن موضع اللسان معهما قريب الشبه بموضعه مع أصوات اللين وهذا مما جعل المحدَثون يذكرون أنهما أشباه أصوات اللين. فالياء والواو هما المرحلة التي عندها يمكن أن ينتقل الصوت الساكن إلى صوت اللين1. فكل من الياء والواو صوت انتقالي؛ لقصرهما وقلة وضوحهما في السمع، إذا قوبلا بأصوات اللين أمكن أن يعدا من الأصوات الساكنة2.   1 الأصوات، ص: 42، 43. 2 الأصوات، ص: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 مخرج الياء كما حققته التجارب الصوتية ينطق كما وصفه القدماء، أما مخرج الواو فليس الشفتين فقط بل هو من أقصى اللسان حين يقترب من أقصى الحنك غير أن الشفتين حين النطق بها يستديران أو تكمل استدارتهما وهذا جعل القراء يتحدثون عن نوع من القراءة سموه الإشمام. مد اللين: وهو عبارة عن مد حرفي اللين. وهما: الواو والياء الساكنتان المفتوح ما قبلهما: خوف، أو بيت، إذا وقع بعد أحدهما همز متصل، مثل: شيء، وسوء، كان لهما القصر1. والقصر هنا عدم المد بالكلية، ورأى البعض التوسط والإشباع 1 في كلمتين: {مَوْئِلا} ، في سورة الكهف، {الْمَوْءُودَة} ، في سورة التكوير.   1 ورش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الفتح والإمالة الفتح يقصد به فتح القارئ لِفِيهِ بلفظ الحرف، ويظهر ذلك واضحًا فيما بعده ألف، ويقال أيضا لهذا الفتح: التفخيم وربما قيل له: النصب. والفتح ينقسم إلى: فتح شديد وفتح متوسط. فالشديد هو نهاية فتح الشخص فمه بذلك الحرف وهو من أجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 التغني بالحرف فيطيل في مده وهو كما قيل: لا يجوز في القرآن بل هو معدوم في لغة العرب، وإنما يوجد في لغة الأعاجم ولاسيما أهل خراسان وما وراء النهر، وهو لما جرت طباعهم عليه، وقد استعملوه في اللغة العربية واستعملوه في القراءة، وبعضهم يستعمله ما بين الفتح الشديد والإمالة المتوسطة، ويقال له أحيانا: التريق أو التفخيم بمعنى أنه ضد الإمالة. الإمالة: والإمالة إما أن تكون إمالة شديدة أو إمالة متوسطة، وكلاهما جائز ومعمول بهما في القراءة وفي لغة العرب، ويلاحظ أن الإمالة الشديدة أن يتجنب معها القلب الخالص والإشباع المبالغ فيه. والإمالة من لحون أهل العرب ومن الفصحاء من المتكلمين، وليس من لحون أهل الفسق وأهل الكتابين العجمِ وهي لغة عامة أهل نجد من تميم وأسد وقيس، والفتح لغة أهل الحجاز. والإمالة تكون في حرف واحد من حروف اللغة وهو إمالة الألف أي أن ينحي به نحو الياء، كما أجيز أن ينحى بالفاتحة نحو الكسرة. وللإمالة أسباب ينبغي أن تراعي وهي أن تكون الألف مبدلة من الياء أو صائرة إلى الياء دون شذوذ ولا زيادة، مع تطرفها لفظًا أو تقديرًا، فالمبدلة من الياء كالألف في لفظ الهدى وهدى وفتاة ونواة، أو أن تكون صائرة إلى الياء كألف: حبلى. والألف المبدلة من عين تمال باضطراد إن كانت في فعل تكسر فاؤه حين يسند إلى تاء الضمير: يأتياكما، وفي يَانَ أو في خاف فإنك تقول فيهما: بِنْتُ وخِفْتُ فتصيران في اللفظ وعلى وزن فِلْتُ بحذف العين وحركت الفاء بحركتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ومن أسبابها أيضا تقدم الألف على ياء: كبايع، أو تأخرها عنها متصلة: كبيان، أو منفصلة بحرف: كشيبان، أو ضربت يداه، أو بحرفين أحدهما هاء نحو: بينها، فإن لم يكن أحدهما هاء امتنعت الإمالة؛ لبعد الياء، واغتفر البعد مع الهاء لخفتها، وقد يكون من أسبابها كذلك تقديم الألف على كسرة تليها كعالم أو تأخيرها عنها بحرف نحو: كتاب، أو بحرفين أولهما ساكن: كشملال، أو كلاهما متحرك وأحدهما هاء نحو: يرد أن يضربها، وبهذا يتضح أن سبب الإمالة هو وجود كسرة ظاهرة أو ياء موجودة، ولكن قد يمتنع ذلك بعد حرف من حروف الاستعلاء متصل أو منفصل بحرف نحو: واثق أو بحرفين نحو: مواثيق، وكذلك إذا تقدم حرف الاستعلاء ولم ينكسر حرف الإمالة نحو: غالب، فإن انكسر حرف الاستعلاء ساعد على وجود الإمالة، نحو: غلاب، وتساوي الراء المفتوحة والمضمومة حروف الاستعلاء فلا يمال: عذار، كما لا يمال: مواثيق، ولا يمال: راشد، كما لا يمال: غالب، وتغلب الراء المكسورة حرف الاستعلاء فيمال بها نحو قوله تعالى: {أَبْصَارِهِم} ، و {دَارُ الْقَرَارِ} ، من أجل الراء المكسورة. فالإمالة يستعملها كثير ممن يفهمون طبيعة الكلمة ووجد سبب لذلك، ويرى قوم أنها لا تستعمل؛ ولذا يبنغي أن ندرك أن الذين لا يستعملونها يغفلون ما يمكن أن تؤدي من ألوان صوتية أو أنغام موسيقية تناسب مقاطع الكلام. وقد استحسن بعض النحاة الإمالة مع الإدغام العارض منه مع الإدغام اللازم. بل إن الذين يدركون طبيعة تناسب المقاطع يدركون أهمية الإمالة كما في قوله تعالى: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} حيث إمالة ألفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الضحى وسجى؛ ليشاكل التلفظ بما بعدها. بل إن كثيرًا من العرب والنحاة نظروا إلى إمالة ما ينبغي أن يقاس عليه مما يمكن أن يمال به، بل ذكروا أن من الإمالة المضطردة إمالة كل فتحة وليتها راء مكسورة. فإمالة الفتحة مع الراء إمالة مضطردة كما في قوله تعالى: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْر} 1، و {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} 2، وكذلك إمالة كل فتحة وليها تاء تلي هاء الوقف.   1 المرسلات: آية: 22. 2 النساء: آية: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الفصل الرابع: عيوب النطق الخلط بين الأصوات مدخل ... الفصل الرابع: عيوب النطق الخلط بين الأصوات أخطاء السمع عيوب صوتية فن تشكيل الأصوات المقاطع الصوتية الأصوات الساكنة وأصوات اللين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 عيوب النطق النطق السليم هو غاية ما يهدف إليه فن الإلقاء، ولذا ينبغي لمن يلقي قولا أن يتجنب عيوب النطق التي تحول دون الأداء الجيد، وهذه العيوب قد تأتي من الإهمال في إخراج بعض الحروف المتقاربة في المخرج، أو السرعة في نطقها، أو من خطأ في السمع، أو لعيب علق بالإنسان منذ طفولته، أو نتيجة عوامل مؤثرة من اضطراب نفسي أو مرض عضوي. ودراسة عيوب النطق تعين الدارس على التخلص منها بالمران، أو تجنب أسباب حدوثها أو معالجة ما يعتريه من عيب، ذلك حتى يرد إلى صوته طبيعته النقية الخالية من العيوب التي علقت به. ومن أهم تلك العيوب الإهمال في نطق الحروف القريبة في المخرج لدرجة الخلط بينها، وقد يأتي الخطأ من سماع الفاسد من القول، وهو ما يسمى بالخطأ السمعي، وقد تأتي عيوب النطق من اضطراب نفسي أو عضلي أو من عيوب وقتية وليست أساسية، وسنتناول هذه العيوب بالشرح حتى يتمكن الدارس والباحث من التعرف عليها والتخلص منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الخلط بين الأصوات كثير ممن يتعرضون لفن الإلقاء نجدهم يحاولون نطق بعض الحروف من مخارج غير مخارجها، إما لاقتراب بعضها البعض، مثل ما يحدث في الفرق بين بعض الحروف المتشابهة، مثل الفرق بين الذال والزاي: فالذال تخرج من ظهر اللسان مع التصاقه برءوس الثنايا العليا، والزاي تخرج من رأس اللسان مع اقترابه من أصول الثنايا السفلى، ومعنى ذلك أنه يجب أن تُخْرِج طرف لسانك عند النطق بالذال بخلاف الزاي: أذ، أز، يذرؤكم، تزرعونه، الذين زعمتم، ثم الزاي فيها صفة الصفير كما سبق: وتتبين صوته إذا قلت: أز، فتسمع صوتًا يشبه صوت بعض الطيور. وكثير ما نجد الخلط بين حروف الصفير وخاصة الفرق بين كل من الحرفين: 1- بين الثاء والسين: هو نفس الفرق بين الذال والزاي، فالسين تخرج من مخرج الزاي وتتصف بالصفير: أس، أسأل، سال، بينما الثاء تخرج من مخرج الذال وتتصف بالهمس والرخاوة: {اثَّاقَلْتُمْ} . 2- الفرق بين الشين والجيم: الشين والجيم يخرجان من وسط اللسان، إلا أن الفرق بينهما يكون بالهمس في الشين والجهر في الجيم، وفي الشين أيضًا صفة التفشي أي: انتشار الهواء في وسط اللسان، فلا تلصِق وسط لسانك في الحنك الأعلى بل تترك الهواء يمر بينهما وينتشر كما في نطق كلمة: أشياء، والجيم أيضًا فيها شدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 بخلاف الشين، والشدة هي: أن يحبس الصوت عند النطق بها، كما يتبين لك إذا قلت: أج، أجرموا. 3- الفرق بين الضاد والظاء: والظاء تخرج من طرف اللسان عند التصاقه برءوس الثنايا العليا، ولذلك فإنك تخرج طرف لسانك عند النطق بها، والضاد تخرج من حافة اللسان- أي جانبه- عند التصاقه بما يحاذيه من الأضراس العليا، فالفرق بين مخرج الطاء ومخرج الضاد بعيد: أظ، الظالمين، أظلم، ظهير، أض، ولا الضالين، يضل، يضربون. والضاد فيها أيضا صفة الاستطالة بخلاف الظاء، والاستطالة معناها: أن يمتد ضغط الحرف وصوته في المخرج كله، فالضاد يمتد صوتها عند النطق بها في حافة اللسان كلها. فعيوب النطق قد تأتي من مجموعة الأصوات المتقاربة المخارج وهي: الذال، الثاء، الظاء، التاء، الطاء، اللام، النون، الراء، الزاي، السين، الصاد. والخلط بين هذه الأصوات يأتي من وجه الشبه بين كل هذه الأصوات من ناحية قرب مخارجها، فمخارجها تنحصر بين أول اللسان وطرف الثنايا العليا وأصولها، وهذه الأصوات تشترك في ظواهر لُغوية وتفترق في صفات صوتية متباينة. فمثلا: الذال، والثاء، والظاء، أصوات لثوية، نجد الذال فيها صوت رخو مجهور، ولا فرق بين الذال والثاء إلا في أن الثاء صوت مهموس، والدال صوت مجهور، والظاء صوت مجهور كالذال تماما، ولكن الظاء تختلف عن الذال في الوضع الذي يأخذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 اللسان مع كل منهما، فعند النطق بالظاء ينطبق اللسان على الحنك الأعلى آخذًا شكلا مقعرًا، كما يرجع اللسان إلى الوراء قليلا مع الظاء. وكذلك: د، ت، ط، يحدث الخلط بينهما؛ ذلك لأن التاء صوت شديد مهموس لا فرق بينه وبين الدال، إلا أن التاء مهموسة، والدال مجهورة، والطاء صوت مجهورٌ 1، لا يفترق عن التاء في شيء، غير أن الطاء أحد أصوات الإطباق، فَوَضْع اللسان مع الطاء يختلف عن وضعه مع التاء، فاللسان مع الطاء يتخذ شكلا مقعرًا منطبقًا مع الحنك الأعلى، ويرجع إلى الوراء قليلا. وكذلك: اللام، والراء، والنون، نجد أن وجه الشبه بينهما في النطق قريب، وسمى بعض القدماء هذه الأصوات بالأصوات الذلقية، ويرون وجه الشبه بين هذه الأصوات يتضح في قرب مخارجها، وكذلك في نسبة وضوحها الصوتي كما رأى المحدثون أنها أوضح الأصوات الساكنة في السمع، ولذا يرونهها أشبه بأصوات اللين. فهي ليست شديدة يسمع لها انفجار، ولا هي رخوة؛ ولذا نراهم يسمونها بالأصوات المتوسطة بين بين أي بين الشدة والرخاوة 2. واللغة العربية لها مخارجها الدقيقة التي تتميز بها، والتهاون في نطق الحروف يؤدي إلى الخلط بين الحروف المتقاربة وقد ذكر منها   1 وقد أجمع القدماء على أن الطاء صوت مجهور، وهذا يخالف ما ينطق به الآن من أنه صوت شديد مهموس. 2 انظر الأصوات اللغوية: د. إبراهيم أنيس، ص: 46-61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الذال، والثاء، والفاء والدال، والضاد، والتاء، والطاء، واللام، والنون، والراء، والزاي، والسين، والصاد. ويأتي الخلط من تقارب مخارج هذه الحروف وصعوبة تطويع اللسان لبعضها، كما أن كثيرًا من الناس يميلون إلى السهولة في النطق، أو السرعة في الإلقاء، ولكن الإلقاء السليم يتطلب البحث عن دقة المخرج، وهذا يتطلب مجهودًا عضليًّا ويحتاج إلى مران على النطق السليم والأداء الصحيح، فالنطق السليم مهارة لا تكتسب في يسر وسهولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 أخطاء السمع وقد يأتي الخطأ من السمع، فالسمع أبو الملكات الكلامية -كما ذكر ابن خلدون- فهناك انقلابات صوتية ليست إلا نتيجة لأخطاء السمع، فإن الطفل يعتمد في تلقي اللغة ممن يحيطون به على حاسة السمع، ولما كانت هذه الحاسة عرضة للزلل في إدراكها للأصوات ولاسيما تلك الأصوات المتقاربة في المخارج كان من الطبيعي أن يجانب الطفل السداد فيما ينطق به محاكيًا من حوله وليس ذلك قاصرًا على الطفل إذ قد يخطئ الشخص البالغ كذلك في السمع ويخلط بعض الأصوات بأصوات أخرى قريبة منها في المخرج. وإلى هذا السبب وهو الخطأ السمعي يرجع في معظم أمثلة ما يسمى في اللغة العربية بحالات: تعاقب الأصوات، فقد عقد القالي في كتابه: الأمالي، فصلا للكلمات التي تعاقب فيها الفاء والثاء عدّد من بينها: جدف وجدث للقبر، والحثالة والجفالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 للرديء من كل شيء، والفناء والثناء لفناء الدار، والفوم والثوم، وأورد قراءة ابن مسعود: وثومها وعدسها، واللغام واللثام لغطاء الوجه، وغير ذلك وقد حدث مثل ذلك تمامًا في اللغات المختلفة. كما عقد القالي فصلا آخر للكلمات التي تتعاقب فيها الميم والباء مثل: قحمة وقحبة للمرأة العجوز، وأصابتنا أزمة وأزبة، وكمحته وكبحته، إذا جذبت عنانه ومهلا وبهلا. وغير ذلك وقد ذكر أمثلة كثيرة من هذا القبيل ونحوه كل من ابن السِّكِّت في كتابه: القلب والإبدال، وأبي الطيب اللغوي في كتابه الضخم في الإبدال. وقد عاب القدماء من اللغويين العرب هذه الأمثلة وما شابهها من المترادفات وهي في الواقع ليست من الترادف بمعناه الحديث في شيء، بل نشأت من الأخطاء السمعية لشدة تقارب هذه الأصوات وعدم وضوح الفرق بينها في السمع تمامًا 1. تعلم الطفل اللغة: وقد تنشأ الأخطاء السمعية نتيجة لتعلم الطفل اللغة، فنمو الطفل كما أوضح: حسبرسن، يمر بمراحل في تعلمه للكلام، هي مرحلة الصياح التي يستهل بها حياته، ثم تأتي مرحلة: البأبأة، ثم مرحلة اللغة العربية؛ وهي الفترة التي يتهيأ فيها الطفل للتقليد لمن حوله من كلمات وإشارات.   1 راجع التطور اللغوي: للدكتور رمضان عبد التواب، ص: 109. وانظر كتاب: في اللهجات العربية: د. إبراهيم أنيس، ص: 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فمرحلة تعلم الطفل للغة مرحلة دقيقة ينبغي العناية فيها بالنطق السليم، فالطفل يقابل صعوبات عند نطقه ببعض الكلمات فينطق بعضها نطقًا خاطئًا، لعدم إدراكه الكُلي للأصوات المتشابهة وخاصة القريبة في المخرج، أو نتيجة ضعف جهاز النطق أو عدم نضجه عند الطفل. والعيب أن يغفل الأبوان محاولة تصحيح هذا الخطأ، بل الخطأ كل الخطأ أن يُسَرَّ بعضهم من ذلك، ويحاول نطق الخطأ معه، والسلوك الطبيعي ألا يقلد الكبير الطفل الصغير في أداء مقاطعه، بل ينبغي أن ينطق أمامه نطقًا سليمًا، ويتابع ذلك حتى تتأكد الكلمة في سمع الطفل وفي وعيه وفق النطق السليم 1. فإن عيوبًا نطقيه لدى الكبار قد تنشأ معهم منذ كانوا أطفالا حتى أصبحت أمراضًا كلامية، وقد تدفعهم إلى عدم مواجهة الناس مخافة التندر من نطقه، فبعض الطلاب الجامعيين ينطقون الجيم دالا فينطق كلمة مجرم: مدرم، وبعضهم ينطق القاف ألفًا، والراء نونًا. ولا شك أن محاولة تصحيح هذه الأخطاء أمر ضروري يأتي ثمره بالمتابعة، والحديث لصوت مسموع يعين على صحة القول، كما أن التوجيه إلى النطق السليم له أثره، وكذلك دقة الملاحظة لما ينطقون به وإدراكهم ذلك عبر تسجيل أصواتهم، وكثرة قراءة القرآن الكريم وسماعه تعين على تصحيح النطق، فالسماع الجيد يؤدي إلى النطق الجيد.   1 انظر في علم اللغة، ص: 85. 2 وأمراض الكلام: للدكتور مصطفى فهمي، ص: 22، وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 عيوب صوتية وهناك عيوب صوتية أدركها القدماء وسجلوها لنا وهي: التأتأة: إذا تتعتع اللسان في نطق التاء فهو تمتام لا يجيد نطق التاء، فالحرف يضطرب اللسان في نطقه. الفأفأة: إذا تتعتع في نطق الفاء، أو أخذ يكررها، ولذا كان هذا عيبًا يحتاج إلى دقة المخرج للفاء أو يكون ذلك لضيق في المخرج أو التنفس أو ضعف، أو ما يعتريه من الارتعاش والرعدة والعرق. الوأوأة. إذا تتعتع في نطق الواو، فحين يتكلم يكون حرف الواو مثل: وووجاء، وذلك لما يعتريه من نسيان أو خجل أو اضطراب. وهذه العيوب الثلاثة تأتي من الخوف أو اضطراب في الأعصاب مما يؤدي إلى أن يتلجلج الرجل في كلامه، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذا رأى الرجل يتلجلج في كلامه قال: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد. الحبسة: حين يثقل على الرجل النطق وتتعذر به الكلمات يقال: في لسانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 حبسه إذا كان الكلام يثقل عليه ولم يبلغ حد الفأفأة والتمتام. اللكنة: تحدث حين يُدْخِل الإنسان بعض الحروف الأجنبية أو الأعجمية في حروف العرب، وجذبت لسانه العادة الأولى أي إلى ما اعتاد عليه من نطق أجنبي، وهذا واضح في نطق الأجانب للغة. الحكلة: إذا كان عند الرجل في آلة النطق عيب وعجز عن نطق الحرف من مخرجه، قالوا في لسانه حكلة، فحين ينطق بالكلمات يصعب عليك أن تتعرف على معانيها إلا بصعوبة. التنحنح والسعلة: وقد عاب العرب على من تعرض له النحنحة والسعلة في خطبته أو في كلامه أو إنشاده، ومازال ذلك عيبًا، ولقد قال بشر بن مَعْمَر في ذلك: ومن الكبائر مقول متعتع جم التنحنح متعب مبهور وقد نحسب ذلك من العيوب البسيطة ولكن كما رأينا يعدها وغيره من الفصحاء من الكبائر التي ينبغي التخلص منها وما يعتري اللسان من النقص أو العيب. اللثغة: هي عدم النطق السليم للحرف أو إبداله. اللثغة تكون في أربعة أحرف هي: القاف، والسين، واللام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 والراء، ذلك لعدم النطق بهذه الحروف نطقًا سليمًا أو إبدالها بغيرها. واللثغة التي تعرض للقاف: فإن صاحبها يجعل القاف طاءً أو همزة أو جيمًا فإذا أراد أن يقول: قلت له، قال: طلت له، أو ألت أو جلت له أو دلت. واللثغة التي تعرض للسين ينطقها صاحبها ثاء أو تاء، فإذا أراد أن يقول: رجل سمين، أي غليظ قال: رجل ثمين فتغير المعنى، أو ينطق كلمة السم فيقول: الثم، بل يصل ذلك إلى نطق ما هو متعارف عليه من: بسم الله فيحرفها باللثغة فيقول خطأً: بثم الله. واللثغة التي تقع في اللام فيحكي لنا الجاحظ أمثلة منها يقول: فإن من يجعل اللام ياء فيقول بدل قوله: اعتللت اعتييت، وبدل جمل: جمى، وآخرون يجعلون اللام كافًا كالذي يقول ما العلة قال ما اكعكة في هذا؟ واللثغة التي تقع في الراء فإن عددها يضعف على لثغة اللام، ويظهر العيب فيها واضحًا، يشعر به السامع والمتحدث؛ وذلك لأن اللثغة في الراء لا يستطيع النطق بها ولكن ينطق بدلا منها إما الغين أو الذال أو الياء، والغين أقل الثلاثة قبحًا. ويقال: إن من المتكلمين من كانت عنده هذه اللثغة ومن هؤلاء محمد بن شبيب المتكلم بالغين، ولكن استطاع أن يحمل على نفسه وقوم لسانه حتى تمكن من إخراج الراء من مخرجها. وكان واصل بن عطاء قبيح اللثغة وشينعها فلم يستطيع أن يتغلب عليها، فأخذ يتجنب الراء من كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ذكر الجاحظ: لما علم واصل بن عطاء أنه ألثغ فاحش اللثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع وأنه إذا كان داعية مقالة، ورئيس نِحْلَة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النِّحل، وزعماء الملل، وأنه لابد من مقارعة الأبطال، ومن الخطب الطوال، وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج ومهارة المنطق، وتكميل الحروف، وإقامة الوزن، وأن حاجة المنطق إلى الطلاوة والحلاوة لحاجته إلى الجلالة والفخامة، وأن ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب، وتنثني إليه الأعناق وتزين به المعاني. ويوضح الجاحظ طريقة العلاج فيقول: ومن أجل الحاجة إلى حسن البيان رام واصل إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف المنطوقة، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتى لستره والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتسق له ما آمل 1. وكانت العرب ومازالت تعيب ما يعتري اللسان من ضروب الآفات، ولقد ذكر ابن الأعرابي أن أبا رمادة طلق امرأته حين وجدها لثغاء، وخاف أن تلد له ولدًا ألثغ، وقال في ذلك 2. لثغاء تأتي بحيفس ألثغ ... تميس في الموشي والمصبغ ولذا كانت منة الله على خلقه أن جعل لهم لسانًا وشفتين، وجعلها مدار الفصاحة والبيان؛ ولذا كانت العناية بهما ومحاولة النطق السليم دليلا على الكمال وسبيلا إلى سلامة النطق.   1 البيان والتبيين: الجاحظ، ص: 23، 24. 2 البيان والتبيين، ص: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 والعيب في عدم إجادة النطق وإبدال بعض الحروف ببعض مثل نطق اللسان نطقًا يخالف ذلك نحو: الشلتان بدلا من السلطان، وكذلك ما شعرت بدلا منها ما سعرت، وإنك لخائن ينطق بدلا منها لهائن، وكلمة أحسن ينطقها أهسن، وحمار وحش: همار وهس، والقمر: الكمر وغير ذلك. وإذا بحثنا عن أسباب تلك العيوب فسنجد أن جانبًا منها يرجع إلى ما يعتري الإنسان من اضطراب نفسي أو عضلي، مثل ما يحدث في التأتأة والفأفأة واللعثمة ... فهي عيوب وقتية ليست أساسية في الصوت، فهي نتيجة لحركة عصبية أو نفسية تصيب الفك فتعيقه عن الحركة الطبيعية. وتزول هذه الحالة العارض من خوف أو مرض أو رعشة أو قلق، وقد تكون هذه الأحوال مزمنة، فتحتاج إلى مران طويل؛ لأنها دخلت عنده ومكثت معه فترة طويلة، فأصبحت في حكم العادة ويتسبب عن ذلك: الصوت المرتعش Tremole: الذي نلحظه في النطق حين يحاول صاحبه إجهاد صوته وإخراجه من طبقة قد لا تلائمه حتى يقضي على الرعشة التي أصابته، كما نلحظ أنه يتنفس بطريقة خاطئة، وهذا يرجع إلى الضعف النفسي أوالعصبي أو الخوف أو الشيخوخة. الصوت المندفع Frontal tone: وهو صوت تشعر معه باندفاع صاحبه في الإلقاء، فصوته يندفع من مقدمة الحنجرة من أعلاها، فيفقد بذلك الصوت لونه الملائم، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 يكون مملا لا ترتاح إليه النفس، ثقيلا في السمع. وهذا يحدث من اندفاع صاحبه في القول دون تروٍّ أو تمهل، أو نتيجة غرور أصاب المتكلم فدفعه هذا الصوت المندفع في حماس إلى القول بهذه النغمة التي قد تتصلب معها أعصاب الرقبة والحنجرة. الصوت الحلْقي Throaty Tutiral tone: إنه صوت يصدر من الحلق أو الحنجرة أو الرقبة أو الزور وذلك نتيجة التصلب أو الارتفاع في مؤخرة الرأس أو عدم الجلسة الطبيعية أو الوقفة المناسبة. ويخرج الصوت في هذه الحالة مغرغرًا تغلب عليه نغمة العين؛ لأن هذا التصلب في منطقة الرأس قد يؤدي إلى ارتفاع مؤخرة اللسان مما يجعل الكلام قريبًا من مخرج حرف الغين. الصوت الأنفي Nosal tone: وسببه عاهة عضوية أو زكام يصيب الإنسان أو ضغط اللسان إلى الداخل أو انكماشه فيكون عائقًا أمام خروج الصوت كله من الفم فيخرج من الأنف، وهو أقرب إلى أن يقال عنه: إنه صوت أخنف؛ لتسربه من الأنف. الصوت المكتوم Wooly tone: وهو صوت تشعر معه أنه مكتوم أو مغطى بالصوف -كما يعبر عنه الإنجليز- فيأتي الصوت خافتًا نتيجة لمرض عضوي أو لطبيعة ينتج عنه ابتعاد الأوتار الصوتية عن بعضها ويمكن علاج ذلك بكثرة استعمال حروف المد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الصوت المعدني Metal tone: وهو عكس الصوت المكتوم ويسميه بعض الموسيقيين بالصوت الأقرع الذي يشبه قرع المعدن أو النحاس. وسببه شدة اقتراب الأوتار الصوتية من بعضها، ويمكن علاج ذلك بكثرة استعمال حروف المد التي تخرج من الحلق وهي منطقة تساعد على انفتاح الحنجرة مع أحرف المد. الصوت الأجش Husky tone: وهو صوت يتصف بالخشونة وقد تحدث من إجهاد الصوت أو من إصابته بنزلات البرد في الحنجرة، وهي قد تكون ملازمة له أو طارئة على صوته. الصوت الخافت Deadened tone: وهذا الصوت الخافت يستعمله الإنسان عند الهمس لمن يتحدث بحديث هامس خشية أن يسمع أحد صوته، ولكن حين يكون كل حديثه خافت وهامس فيكون ذلك عيب ناتج من مرض أو حياء أو عادات تأصلت عنده منذ الطفولة. والإلقاء الجيد هو الإلقاء الطبيعي الذي يتميز بالنبرة الصوتية الواضحة، والتي يستطيع صاحبها أن يعبر بها عن إحساساته وانفعالاته، أو ما يتطلبه منه الموقف من تلوين صوتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فن تشكيل الأصوات موضوع هذا العلم هو أن يدرس الصوت في سياقه مع غيره من الأصوات؛ ولذا يطلق عليه علم الأصوات التشكيلي ذلك حتى يتبين الدارس تشكيل الصوت وفق لغة ما، كما ينطقها أصحابها. فتشكيل الصوت مع غيره في سياق الكلمات يحتاج إلى جهد في نطقه يختلف عن الجهد الذي يحتاجه الإنسان في نطق الصوت المجرد. فالصوت المجرد لا توجد بجانبه مؤثرات تؤثر عليه، أما الصوت في سياقه يتأثر بالأصوات السابقة عليه واللاحقة به وهذا التأثير له أثره في عملية النطق وله كذلك قوانينه في جميع اللغات. ويدرس علم الأصوات التشكيلي البناء المقطعي للغة والبناء العام لها. والوحدة الكبرى للغة تتكون من الجمل، والجملة الواحدة تتكون من وحدات أصغر منها هي: ما يطلق عليها اسم الكلمات، فجملة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، تتكون من كلمات هي: قُلْ، هُوَ، اللَّهُ، أَحَد. وكل كلمة من هذه الكلمات تتركب من وحدات أصغر منها تعرف باسم الأصوات فمثلاكلمة: قُلْ، تتكون من حرف القاف، وحين النطق به يعرف بصوت القاف، فهو صوت صامت، ثم صوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الضمة، إذ إن الحركة من ضم وفتح وكسر إنما هي أصوات لين، ثم صوت اللام صوت صامت ساكن. فكلمة: قُلْ، تتكون من ثلاثة أصوات: صوت القاف، صوت الضمة، صوت اللام. وعلم الأصوات يدرس الأصوات اللغوية من ناحية وصف مخارجها وكيفية حدوثها، ومن المعروف أن اللغة هي الأصوات التي ينتجها جهاز النطق معبرًا بها الإنسان عما يشعر به من أشياء يريد أن يحدث الناس بها. وابن جني يوضح أن اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم 1 حتى يتم التفاهم بينهم عن طريق الإلقاء والتلقي، أي عن طريق النطق والسماع. ولكن نطق الإنسان للكلام يتم عبر عمليات صوتية، فالإنسان لا ينطق الكلمات مرة واحدة ولكن يقسمها إلى مقاطع حين النطق بها.   1 الخصائص: لابن جني، ج: 1، ص: 33، طبعة دار الكتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المقاطع الصوتية من المعروف أن الكلام يحدث عند عملية الزفير، وعملية الزفير التي يتم خلالها النطق ليست مجرد إخراج الهواء على نحو ما، ولكن إخراجه على نحو مناسب للكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فالهواء يخرج من الرئتين في دفعات تنفق كل دفعة منها مع إنتاج مقطع صوتي كامل. فلكل مقطع دفعة هوائية تنتج من انقباضات متوالية يقوم بها الحجاب الحاجز، فيؤثر الضغط على الهواء الخارج من الرئتين وذلك حتى يتم النطق بالمقطع 1. والمقطع هو عبارة عن كمية من الأصوات تحتوي على حركة ويمكن تحديد المقطع الصوتي: بأنه الفترة الفاصلة بين عمليتين من عمليات غلق جهاز التصويت سواء أكان الغلق كاملا أم جزئيًّا هي التي تمثل المقطع2. وحين نتبين أشكال المقاطع العربية نجد أن العربية عرفت ثلاثة أشكال أساسية هي: 1- مقطع قصير: ويتكون من صوت صامت+ حركة قصيرة، مثل صوت الكاف في كلمة كتب. والمقطع القصير لا يكون إلا مفتوحًا أي يقبل الزيادة عليه، فإذا زاد عليه شيء بأن طالت الحركة، أو أضيف إليه صوت آخر صامت تحول إلى مقطع طويل.   1 أصوات اللغة: الدكتور عبد الرحمن أيوب، ص: 44. 2 دروس في علم أصوات العربية: لجان كانتينو، ترجمة د. كمال بشر، ص: 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 2- مقطع طويل مفتوح: ويتكون من: صوت صامت+ حركة طويلة، مثل: الكاف في كلمة كاتب، وحرف: في، وهو في هذه الحالة مفتوح؛ لأنه يقبل الزيادة عليه. 3- مقطع طويل مغلق أو مقفل: ويتكون من: صوت صامت + حركة قصيرة + صوت صامت، مثل: كم، من، عن، وكذلك ما بدئ بصامت تليه حركة طويلة، كما في كلمة: باب عند الوقف. وفي العربية صورتان مقطعيتان ترد في حالة الوقف غالبا وهما: أ- مقطع مديد مقفل بصامت، ويتكون من: صوت صامت+ حركة طويلة + صامت، مثل النطق بالفعل: نام، كان. ب- مقطع مديد مقفل بصامتين، ويتكون من: صوت صامت+ حركة قصيرة+ صوتين صامتين، مثل: قدر، بنت. ونطق المقاطع في العربية يبين لنا أن تقسيم اللغة إلى أصوات ومقاطع هو تقسيم طبيعي. فاللغة العربية لا يمكن أن تتكون من أصوات صوامت فحسب، كما لا يمكن أن تبدأ الكلمة العربية بصامتين دون وجود حركة، كما لا يمكن أن تبدأ الكلمة بحركة دون صامت. ولهذا يجب في المقطع في اللغة العربية: أن يبدأ بصوت صامت. وأن يُثَنَّى بحركة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وتختلف المقاطع بعد ذلك بالنسبة لتكوين الكلمة، وذلك حسب موقع حركة الثاني، وصوت الصامت الثالث. والعربية عند النطق بها ينبغي أن ندرك أنها لا تقبل تجاور ثلاثة أصوات صوامت -أحرف ثلاث دون وجود حركة- إذن لابد من مبدأ التحريك، وفق الحركة الصحيحة للمبني أو المعرب من الكلام. وكذلك لا يمكن أن تبدأ الكلمة العربية بحركة، دون أن نجلب قبلها همزة تسمى: همزة الوصل، أما في اللغة الإنجليزية، فيمكن البدء بحركة في أول الكلمة مثل: Ink حبر، in في، Important مهم. وينبغي أن يدرك القارئ أن كلمات اللغة العربية تتكون من أحرف ساكنة وأحرف لينة، ولكل حرف طبيعته الصوتية الخاصة، كما أن معرفة الفرق بينهما تعين الدارس على الإلقاء الجيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الأصوات الساكنة وأصوات اللين قسم المحدثون الأصوات اللغوية على أساس الطبيعة الصوتية إلى قسمين أساسيين هما: الأول: الأصوات الساكنة. الثاني: الأصوات اللينة. ويمكن التعرف على الفرق بينهما، بإدراك طبيعة نطق كل منهما وفق دراستنا لمخارج الأصوات، فالأصوات الساكنة: هي الأصوات التي يحدث عند النطق بها أن يمر الهواء من الرئتين إلى الحنجرة ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 يتخذ مجراه في الحلق والفم بعد أن تعترضه حوائل مثل: اللسان أو الأسنان أو الشفتين، فتضيِّق مجراه أو تحبسه. أما الأصوات اللينة فعند النطق بها يندفع الهواء من الرئتين مارًّا بالحنجرة في ممر لا حوائل تعترضه. وأصوات اللين في اللغة العربية هي ما أسماه القدماء: بالحركات من فتحة وكسرة وضمة، وكذلك ما سموه بحروف المد: ألف المد، وياء المد، وواو المد. وما عدا ذلك من الأصوات أو الحروف فيسمى: بالأصوات الساكنة، مثل: أ، ب، ت، ث، ج ... أصوات اللين في اللغة العربية: عني القدماء عناية فائقة بالأصوات الساكنة للحروف، ولم يعنوا بأصوات اللين في اللغة العربية، ولم يدرسوها على أنها من بنية الكلمات، بل درسوها كعرض يعرض لها، وهي في الحقيقة عنصر أساسي في الكلمات. وبيَّن ابن جني أن الحركات أبعاض لحروف المد، فإن ما يسمى بألف المد هو في الحقيقة فتحة طويلة، وما يسمى بياء المد ليست إلا كسرة طويلة، وكذلك واو المد تعد من الناحية الصوتية ضمة طويلة فقال: إن الحركات أبعاض لهذه الحروف، إنك متى أشبعت واحدة منهن حدث بعدها الحرف الذي هي بعضه، إلا أن هذه الحروف التي يحدثن لإشباع الحركات لا يكن إلا سَوَاكِن؛ لأنهن مدَّات والمدات لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يحركن أبداً1. وقد رأى القدماء أن ما يسمى بالحركات اعتبر في رأيهم عَرَضًا يصيب الحروف، ولا تكاد تكون عناصر أساسية في الكلمات، وقد اعترض على ذلك الأستاذ الألماني: شادة2. ويرى الدكتور إبراهيم أنيس: أن القدماء قد ضلوا الطريق السَّوي، حين ظنوا أن هناك حركات قصيرة قبل حروف المد، فقالوا مثلا: إن هناك فتحة على التاء في: كتاب، وكسرة تحت الراء في: كريم، وضمة فوق القاف في: يقول 3. ثم يتعجب ويقول: والحقيقة أن هذه الحركات القصيرة لا وجود لها في تلك المواضع، فالتاء في: كتاب، محركة بألف المد وحدها، والراء في: كريم، محركة بياء المد وحدها، والقاف في: يقول، محركة بواو المد وحدها. ويقول: ويظهر أن الكتابة العربية في صورتها المألوفة من وضع فتحة على التاء في: كتاب، وكسرة تحت الراء في: كريم، وضمة فوق القاف في: يقول، قد جعلت القدماء يتوهمون وجود حركات قصيرة في مثل هذه المواضع. وأصوات اللين عنصر رئيسي في اللغات، وأكثر شيوعا فيها، ولهذا   1 سر صناعة الإعراب: ابن جني. 2 انظر محاضرته. 3 الأصوات اللغوية: للدكتور إبراهيم أنيس، ص: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 عني المحدثون بدراسة أصوات اللين، ووضع المقاييس لها عناية فاقت عنايتهم بالأصوات الساكنة، وتعددت تجاربهم في تسجيل مقاييس أصوات اللين فوق أُسطوانات؛ ليرجع إليها طالب اللغات فيسمعها ويقلدها حتى يتقنها. ورغم أن الأساس في تكوين هذه المقاييس هو موضع أول اللسان بالنسبة للحنك الأعلى، أو موضع أقصى اللسان بالنسبة لأقصى الحنك، ورغم أن هذا هو الأساس، فقد لاحظ المحدثون أن شكل الشفتين يختلف مع كل من هذه المقاييس، وتأثر الشفتين مع كل هذه المقاييس أمر لا يصح إغفاله في وصفها، فالشفتان مع الأصوات: a-e-i، منفرجتان، وليس فيهما استدارة أو بروز، أما في حالة الأصوات: a-u-o-à، فتبدأ الشفتان في الاستدارة حتى تصلا إلى أقصى ما تصل إليه من كمال في الاستدارة مع الصوت1. ورغم أن جميع أصوات اللين تشترك في صفات خاصة، أهمها: أنها كلها مجهورة، وأن مجرى الهواء معها لا تعترضه حوائل في مروره، بل يندفع إلى الحلق والفم حرا طليقا، فرغم اشتراكها في مثل هذا، فقد قسمها العلماء إلى مجاميع متجانسة. فحين نظروا إلى نسبة صعود اللسان نحو الحنك أمكنهم أن يقسموا أصوات اللين إلى مجموعتين. المجموعة الاولى: تشتمل أصوات اللين الضيقة CLOSE وأفراد هذه المجموعة هي: UI وما قرب منهما؛ لأن اللسان في كل منهما يبلغ في صعوده نحو الحنك، أقصى ما يمكن للنطق بصوت لين.   1 الأصوات اللغوية: د. إبراهيم أنيس، ص: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 والمجموعة الثانية هي أصوات اللين المتسعة OPEN وأفرادها a، وما قرب منها؛ لأن اللسان معها يبلغ أقصى ما يمكن أن يصل إليه من هبوط في قاع الفم والفراغ بين اللسان والحنك حينئذ يكون أوسع ما يمكن في هذا الوضع 1. ولهذا حين ننظر إلى جزء اللسان الذي يصعد ويهبط فنجد أن هناك أصوات لين أمامية وهي A I وما بينهما، إذ إن أول اللسان هو الذي يصعد نحو الحنك الأعلى ويهبط نحو قاع الفم. وهناك أيضا أصوات لين خلفية وهي A U وما بينهما ذلك لأن أقصى اللسان هو الذي يصعد ويهبط حين النطق بها. الوضوح السمعي هناك سبب بنيت عليه التفرقة بين الأصوات الساكنة وأصوات اللين وهو درجة الوضوح السمعي، فصوت حرف اللين أوضح من صوت الحرف الساكن، إذ إن الصفة التي تختص بها أصوات اللين هي كيفية مرور الهواء من الحلق إلى الفم وخلو مجراه من حوائل وموانع وهذا يؤثر بدوره على درجة وضوح الصوت في السمع. فأصوات اللين تسمع من مسافة قد لا تتضح فيها الأصوات الساكنة؛ ولذا في الحديث بين شخصين بعدت بينهما المسافة أو يتحدثان عبر الهاتف قد يخطئ أحدهما في سماع صوت ساكن، ولكن يندر أن يخطئ سماع صوت لين مثل ألف المد في باع، ولكن يخطئ في حرف ساكن فيسمعها ماع.   1 الأصوات اللغوية: د. إبراهيم أنيس، ص: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وأصوات حرف اللين رغم وضوحها عن الحروف الساكنة إلا أن أصوات اللين بعضها أوضح من بعض، فأصوات اللين المتسعة مثل: الفتحة أوضح من الضيقة، أي من الضمة، أو الكسرة. وكذلك الأصوات الساكنة بعضها أوضح من بعض، فالأصوات المجهورة أوضح في السمع من الأصوات المهموسة. وكذلك نجد أن اللام والميم والنون أكثر الأصوات الساكنة وضوحا، وأقربها إلى طبيعة أصوات اللين، ويميل بعضهم إلى القول بأنها أشباه أصوات اللين، فهي أكثر وضوحا في السمع؛ ولذا يمكن أن تعد حلقة وسط بين أصوات اللين والأصوات الساكنة. وفن الإلقاء يعنى بأصوات اللين من: ألف المد وياء المد وواو المد، والفتح والكسر والضم في اللغة العربية، بل وفي كل لغة؛ ذلك لأنها كثيرة الشيوع والدوران في كلماتها، وتظهر في السمع واضحة. وأي انحراف عن أصول النطق السليم بها يبعد المتكلم عن الطريقة المألوفة عند أهل هذه اللغة والناطقين بها، ويظهر غير مألوف للأذن، كما أن كثرة ورودها في اللغة، مما يجعل الخطأ فيها واضحا وقد يجسمه. ولهذا كان التلقين أساسا في عملية تعلم اللغات، بل قد وُجدت المعامل الصوتية، لمعرفة طريقة النطق السليم، ووضعت في الإذاعات برامج للناطقين باللغة، وكذلك نرى الأشرطة المسجلة -كاست- تبرز للوجود. بل من الصعوبات التي تواجه نطق الذين يتعلمون اللغة الإنجليزية هي أصوات اللين فيها: a -e- i- o- u وكيفية النطق بها نطقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 صحيحا كما ينطق بها أهلها، يحتاج إلى تعلم؛ وذلك لأن الناطق بلغة غير لغته نجد في نطقه لأصوات اللين أنه لا يحسن النطق بها إلا بعد جهد ومران طويل. والفرق بين أصوات اللين في اللغة كبير، حتى إنه لا تكاد تشترك لغة من اللغات مع أخرى في طريقة النطق بأصوات اللين، بل إن الفروق بينهما واضحة، بل إن لهجة اللغة الواحدة لتختلف فيها اختلافا بينا. والأصوات الساكنة بين لغات البشر لا نجد فيها هذه الفروق الكثيرة، فهي لا تمثل عقبة أمام نطق الأجنبي؛ ذلك لأن من السهل ضبطها متى استطاع الإنسان أن يحدد مخرجها، هذا فضلا على أن معظم اللغات تشترك في كثير من الأصوات الساكنة. وأوضح علماء الأصوات أن الأنواع الفرعية لأصوات اللين ما يلي: 1- الفتحة الْمَشُوبَة بالكسرة: وهي التي في إمالة ما قبل تاء التأنيث، كما في قراءة: رحمة، حين الوقف عليها، قراءة الكسائي. 2- ألف المد حين تُمَال تصبح مشوبة بالكسرة، كما في قراءة: ربا، بالإمالة، والفرق بين النوع الأول وبين هذا النوع في الكمية. 3- ما يسمى بألف التفخيم، وهي: ألف مد ممالة نحو الضم، كما في قراءة: الصلاة. 4- ياء المد الممالة نحو الضم، وذلك ما سماه النحاة والقراء بالإشمام، مثل: قيل، وبيع، في الفعل المبني للمجهول. 5- الفتحة بأنواعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الفصل الخامس: الوقف أهميته التعريف به أقسامه علامات الوقف الوقف على آخر الكلمات همزة الوصل وهمزة القطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الوقف: أهميته لما كان فن الإلقاء يهدف إلى إيجاد نوع من الصلة بين المعاني التي يتضمنها الكلام، فإن عملية التقطيع ترمي إلى تجميع الكلمات التي تحمل معنى واحدا، حتى لا تختلط المعاني بعضها ببعض، ويتم ذلك بالوقف بين كل معنى والمعنى الذي يليه. ولهذا كان ضروريا للمتحدث أن يجعل لنفسه مواقف، يقف عندها، تتفق ومعاني الجمل التي يلقيها، وأن يُنَظِّم عملية التنفس؛ حتى يستعد للمعنى المكمل في الجملة التالية، وينتقل بدرجة الصوت أو نغمته إلى ما يتناسب مع المعنى الجديد. فلابد للقارئ أو المذيع من تحليل العبارات، وتحليل معناها؛ حتى يتبين مواطن الوقف؛ لأن مواطن الوقف عديدة، وليس هناك سبيل إلى معرفة هذه المواضع إلا عن طريق مراعاة المعنى؛ لأنه لا يحسن الوقف إلا إذا انتهى المعنى المراد بيانه. وينبغي إدراك أن ظاهرة الوقف ينبغي أن تكون لونا من الدراسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الصوتية والدراسة التصريفية، وفقا للدلالة. وقد أدرك القدماء أهمية ذلك: سيبويه، فأطلق مصطلح الوقف على حالة من أحوال الإعراب الأربعة وهي: حالة السكون، فيقول: هذا باب مجاري أوخر الكلم من العربية، وهي تجري على ثمانية مجارٍ: على النصب والرفع والجر والجزم، والفتح والضم والكسر والوقف1. كما عبر الراضي عن الوقف بقوله: هو قطع الكلمة عما بعدها، أي: أن تسكت على آخرها، قاصدا لذلك مختارا بجعلها آخر الكلام سواء كان بعدها كلمة، أو كانت آخر الكلام2. ولمعرفة أهمية الوقف، ما روي أن رجلين جاءا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فتشهد أحدهما فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما، ووقف الرجل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قم أو اذهب، بئس الخطيب أنت". وقيل: إن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- سئل عن قوله تعالي: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} فقال: هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف3، والوقف هو حيلة التلاوة، وزينة القارئ، وبلاغ التالي، وفهم المستمع، وفخر العالم4. وبه يعرف الفرق بين المعنيين المختلفين والنقيضين المتباينين والحكمين المتغايرين، وقد ورد عن ابن عمر   1 الكتاب، ج: 1، ص: 13-17. 2 شرح الشافية، ج: 2، ص: 271. 3 النشر في القراءات العشر، ج: 1، ص: 209. وطيبة النشر في القراءات العشر: لابن الناظم، ص: 35، 36، 42. ولطائف الإشارات لفنون القراءات: للعسقلاني، ج: 1، ص: 220. وشرح المقدمة الجزرية، وغيرها. 4 البرهان في تجويد القرآن: محمد الصادق قمحاوي، ص: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 رضي الله عنهما قوله: لقد عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد -صلى الله عليه وسلم- فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها، كما تتعملون أنتم اليوم القرآن، ولقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان؛ فيقرأ مما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما أمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، وينثره نثر الدقل1. وقد روى هذا الحديث أيضا بخلاف يسير، الحافظُ ابن الجزري في كتابه: النشر في القراءات العشر2، وفيه دلالة على أن الصحابة كانوا يتعلمون الوقف على ما تمَّ معناه، وصلح البدء بما بعده، سواء كان الوقت تامًّا أم كافيا، وفي كلام الإمام علي -رضي الله عنه- في تفسير معنى الترتيل، دليل على وجوب تعلمه ومعرفته، وفي كلام ابن عمر دليل وبرهان على أن تعلمه إجماع من الصحابة رضوان الله عليهم. التعريف به لغة: هو الكفُّ والحبس، يقال: أوقفت الدابة أي: حبستها. واصطلاحا: هو عبارة عن قطع الصوت عن آخر كلمة زمنا؛ ليتنفس فيه القارئ عادة، بنية استئناف القراءة لا بنية الإعراض عنها3. قال في البرهان: ولابد معه من التنفس، ولا يأتي وسط الكلمة، ولا فيما اتصل بخلاف السكت والقطع.   1 الدَّقل هي: أردأ التمر- في القاموس المحيط- وذكر الحديث أبو جعفر النحاس، المتوفى سنة: 338هـ، في كتاب: القطع والائتناف، ص: 78. 2 النشر في القراءات العشر، ج: 1، ص: 225. 3 راجع: منار الهدى في بيان الوقف والابتدا: للأشموني، ص: 12، 13. والنشر، ج: 1، ص: 225. ولطائف الإشارات: للقسطلاني، ج: 1، ص: 220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وهذا يجعلنا نفرق بين الوقف والقطع والسكت، وهذه المصطلحات جرت عند كثير من القدماء، وبعضهم يرى أنها يراد بها الوقف غالبا، والقطع يراد به قطع القراءة رأسا، أي كالانتهاء عند بعضهم، ولكن الدراسات أثبتت أن هناك فروقا بين كل من الوقف والقطع والسكت، وأصبح لكل منها معنى. فالقطع: قطع القراءة بنية الانتهاء، ولا يجوز إلا بعد تمام الآية، كما يذكر علماء القراءة، أو بعد تمام المعنى أو الفهم بالنسبة للكلام، وقد يقع القطع لعذر أو للانتقال من حال إلى حال، أو من قول لآخر. والسكت: هو قطع الصوت زمنا دون زمن الوقف عادة من غير تنفس، ولا يجوز السكت إلا على ساكن، وقد اختلف في زمن السكت أي: بين طول السكت وقصره 1، إلا أن معظم القراء يرون أن تسكت سكتة يسيرة أي: زمنًا يسيرًا بدون تنفس أي: أقل من زمن إخراج التنفس؛ لأنه إن طال صار وقفًا. وإن كان كثير من الباحثين يرون أن السكت في القرآن الكريم مبني على السماع ومقيد به، إلا أن له معنى في كل سكتة، وخاصة إذا رجعت إلى ما روي فيه السكت وهو: {عِوَجَا قَيِّماً} {مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} {بَلْ رَانَ} . فالسكت يعطي أهمية للكلمة التي حدثت فيها السكت، ويضيف معنى جديدا لا يتحقق بدون السكت.   1 النشر في القراءات العشر، ج: 1، ص: 225. وقد قيل: إن السكت على الساكن قبل الهمزة سكنة يسيرة، وقيل: السكت أن تسكت سكتة قصيرة، وقيل مختلسة من غير إشباع، وقيل: تسكت حتى يقال: إنك قد نسيت ما بعد الحرف، وقيل: تسكت سكتة لطيفة من غير قطع، راجع النشر، ج: 1، ص: 239، 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أقسامه ينقسم الوقف إلى أربعة أقسام هي: - الوقف الاضطراري. - الوقف الانتظاري. - الوقف الاختباري. - الوقف الاختياري. وهذه الأقسام قد روعي في النظر إليها أن تشتمل على كل الأحوال التي يمكن أن تكون سببا يدعو القارئ إلى أن يقف في أثناء القراءة، وسنتوقف قليلا عند كل قسم من هذه الأقسام. أولا: القسم الاضطراري: وهو الذي يعرض للقارئ لضرورة ألجأته إلى الوقف، مثل: ضيق التنفس أو العطاس أو النسيان، وغير ذلك من الظروف الطارئة التي تلجئ الإنسان وتضطره إلى الوقف، وحينئذٍ يجوز للقارئ الوقوف على أي كلمة كانت وإن لم يتم المعنى، وبعد ذهاب هذه الضرورة التي ألجأته إلى الوقف عل هذه الكلمة، يعود ليبتدئ منها ويصلها بما بعدها إن صلح البدء بها، وإلا فيبتدئ بما قبلها بما يصلح البدء به. ثانيا: الوقف الانتظاري: وهو أن يقف القارئ على الكلمة ليعطف عليها غيرها، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 عند جمعه لاختلاف الروايات، أو قراءة الأسماء أو الجملة الحوارية، وفي المناقشة وفي الندوة ... ثالثا: الوقف الاختباري: الذي يُطلب من القارئ بقصد الامتحان والاختبار، أو بقصد من القارئ إعلام غيره بكيفية الوقف على الكلمة بكونه عالما بها من حيث القطع أو الوصل، ونوع الوقف، وكيفية المقطوع والموصول، والثابت والمحذوف من حروف المد والمجرور، والمربوط من التاءات، وما يوقف عليه لحاجة: كسؤال ممتحن وتعليم قارئ كيف يقف إذا اضطر لذلك. رابعا: الوقف الاختياري: وهو الذي يختاره القارئ، ويقصد لذاته من غير عروض سبب من الأسباب المتقدمة في كل من الاختباري -الباء الموحدة- والاضطراري، وقد يبتدأ مما بعد الكلمة الموقوف عليها، وقولا يبتدأ بها أن توصل بما بعدها. وهذا النوع من الوقف هو المقصود بيانه هنا، بل ينبغي أن يتعرف عليه الدارسين لأهميته في فن الإلقاء. وينقسم الوقف الاختياري إلى أربعة أقسام: تام، كافٍ، حسن، قبيح. وهذا القبيح وإن كان لا يصح الوقوف عليه، لكنه ذكر تتمة للأقسام؛ ليتحرز منه؛ وليعرفه القارئ ليتجنب الوقف عليه1.   1 راجع النشر: لابن الجزري، ج: 1، ص: 227، 228، ومنار الهدى في بيان الوقف والابتدا: للأشموني، ص: 14، 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أولًا: الوقف التام: وهو الوقف الذي يتم به الكلام لفظا ومعنى أي: الوقف على كلام تم معناه، وليس متعلقًا بما بعده، لا لفظًا ولا معنى، وأكثر ما يكون هذا الوقف على رءوس الآي وانتهاء القصص، كالوقف على قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} ، والابتداء بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} . وكالوقف على نحو: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُون} ، والابتداء بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} . ونحو الوقف على قوله تعالى: {إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين} والابتداء بقوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُم} ؛ وذلك لأن لفظ المفلحون تمام الآيات المتعلقة بالمؤمنين وما بعده منفصل عنه متعلق بأحوال الكافرين، وكذلك لفظ {لِلْمُتَّقِين} تمام الكلمات المتعلقة بقصة سيدنا نوح -عليه السلام- وما بعده منفصل عنه ابتداءً، فالوقف التام هو الذي يؤدي معنى صحيحًا تامًّا. وقد يكون الوقف وسط الآية، كالوقف على لفظ: {جَاءَنِي} من قوله تعالى: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} فهذا تمام حكاية قول الظالم في نهاية الحكاية، وكذلك القول أو القصة ... ثانيا: الوقف الكافي: هو الوقف على كلام تم معناه في نفسه، وتعلق بما بعده معنى لا لفظًا1، ويوجد في رءوس الآي وفي أثنائها. كالوقف على نحو قوله   1 أي لم يتعلق بما بعده من جهة اللفظ أي: من ناحية الإعراب، كتعلق الفاعل بالفعل = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 تعالى: {ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} والابتداء بما بعدها وعلى نحو قوله تعالى: {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . والابتداء بما بعدها وعلى قوله تعالى: {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُون} فكل هذا كلام تام مفهوم وما بعده مستغنٍ عما قبله في اللفظ وإن اتصل في المعنى، ويحسن الوقوف عليه، والابتداء بما بعده. قال ابن الجزري رحمه الله تعالى: وقد يتفاصل- أي الوقف الكافي- في الكفاية، كتفاصل التام نحو: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} كافٍ {فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً} أكفى منه {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أكفى منهما 1. وحكمه أنه يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده كالوقوف التام وسمي كافيًا للاكتفاء به عما بعده لعدم تعلقه به من جهة اللفظ وإن كان متعلقًا به من جهة المعنى. قال ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ"، فقلت: أعليك وعليك أنزل؟! قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، قال: فافتتحت سورة النساء، فلما بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قال: فرأيت عينيه تذرفان دموعًا فقال لي: "حسبك" 2، قال الداني أبو عمرو: فهذا دليل جواز القطع على الوقف الكافي؛ لأن شهيد   = تعلقًا لفظيًّا، والواقع أنه لا يجود كلام متعلق بما بعده في اللفظ دون المعنى؛ لأن تعلق الكلام بما بعده في اللفظ يقتضي تعلقه به في المعنى من باب أولى. 1 النشر، ج: 2، ص: 228. 2 صحيح البخاري، ج: 6، ص: 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ليس من التام وهو متعلق بما بعده معنى؛ لأن المعنى: فكيف يكون حالهم إذا كان هذا يومئذ يود الذين كفروا، فما بعده متعلق بما قبله، والتمام: {حَدِيثًا} ؛ لأنه انقضاء القصة وهو آخر الآية الثانية، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقطع عليه دونه، مع تقارب ما بينهما فدل ذلك دلالة واضحة على جواز القطع على الكافي. ونخلص من ذلك أن الوقف الكافي هو ما لا يتعلق ما قبله بما بعده في اللفظ وكل منهما جملة مفيد بنفسها. ثالثا: الوقف الحسن: هو الوقف على كلام تم معناه في ذاته وتعلق بما بعده لفظًا ومعنى، مع الفائدة من الوقوف عليه، كأن يكون اللفظ الموقوف عليه موصوفًا وما بعده صفة له، أو معطوفًا وما بعده معطوفًا عليه، أو مستثنى منه وما بعده مستثنى، أو بدل وما بعده مبدل منه، ونحو ذلك من كلام تعلق بما بعده لفظًا ومعنى. وسمي حسنًا لحسن الوقف عليه؛ لأنه أفاد معنى يحسن السكوت عليه، وحكمه أنه يحسن الوقوف عليه لما أفاد من غاية يرمي إليها. وأما الابتداء بما بعده ففيه تفصيل؛ لأنه قد يكون في رءوس الآي، وقد يكون في أثنائها وغيرها. فإن كان في غير رءوس الآي فحكمه أن يحسن الوقوف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده؛ لتعلقه به لفظًا ومعنى كالوقوف على لفظ: الله، من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّه} فإنه كلام تام يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده لتعلقه به لفظًا ومعنى؛ لأن ما بعده وهو قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 {رَبِّ الْعَالَمِينَ} أو قوله: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض} ، صفة للفظ الجلالة، أو قوله في الموصوفين من سورة الفاتحة، ومن سورة فاطر، والصفة والموصوف كالشيء الواحد لا يُفرَّق بينهما، والابتداء يكون حينئذ غير حسن؛ لأنه تعلق بما بعده لفظًا ومعنى، فإن ما بعد لفظ الجلالة متعلق به على أنه صفة له، وحكمه أنه يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده إن كان رأس آية، كلفظة العالمين من قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} ، بل حسنه، كما ذكر الحافظ الجزري رحمه الله 1. وكان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ قطع قراءته آية آية 2، فإن لم يكن رأس آية كـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} حسن الوقف عليه دون الابتداء بما بعده، فإن وَقَفَ وأراد الابتداء وصل بما بعده. ذلك لأن الوقف الحسن، هو الوقف على ما يؤدي معنى صحيحًا، ويؤدي فائدة من الوقوف عليه ولكنه متعلق بما بعده لفظًا ومعنى. رابعا: الوقف القبيح: وهو الوقف على كلام لم يتم معناه لتعلقه بما بعده لفظًا ومعنى مع عدم الفائدة، أو أفاد معنى غير مقصود أو أوهم فساد المعنى، فهذه أنواع ثلاثة وهذا تفصيلها.   1 انظر كتاب: التمهيد في علم التجويد: لابن الجزري، ص: 62، والنشر، ج: 1، ص: 226. 2 رواه أبو داود والترمذي وأحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 النوع الأول: الذي لم يتم معناه، ضابطه الوقف على العامل دون معموله ويشمل هذا النوع صورًا شتى منها: الوقف على المضاف دون المضاف إليه كالوقف على لفظ: {بِسْمِ} ، و {مَالِكِ} ، من نحو قوله تعالى: {بِسِْم الله} ، أو {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} فالوقف على مثل هذا قبيح؛ لأنه لم يتم به الكلام ولا يفهم منه معنى وحده. ومنها الوقف على المبتدأ دون خبره، كالوقف على لفظ: {الْحَمْدُ} من {الْحَمْدُ لِلَّهِ} . ومن ذلك الوقف على الموصوف دون صفته كالوقف على لفظ: {الصِّرَاط} من قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} . ومنها الوقف على الفعل دون فاعله كالوقف على لفظ: {يُتَقَبَّل} من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} فكل هذا وما ماثله لا يجوز الوقف عليه ولا الابتداء بما بعده؛ لأنه لا يتم معه كلام ولا يفهم منه معنى، ولهذا لا يجوز الوقوف: على المضاف دون المضاف إليه. ولا على الفعل دون الفاعل. ولا على المبتدأ دون الخبر. ولا على فعل الشرط دون جوابه إذا ذكر، وقد يحذف. ولا يجوز أن يوقف على كان وأخواتها أو إن وأخواتها دون أسمائها: المبتدأ والخبر. ولا يجوز أن يوقف على النعت دون المنعوت. ولا على العطف دون المعطوف. ولا على القسم دون جوابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ولا على حرف دون ما دخل عليه سواء أكان حرف جر أم عطف أم حرف علة. فالأداء السليم يتخير المعنى ويتجنب مثل هذه الوقفات القبيحة التي قد تؤدي إلى عدم تمام المعنى أو تحريفه، أو إلى معنى قد لا يريده المتكلم، ولا يجوز للقارئ أن يتعمد الوقف على شيء من هذا وما شاكله إلا لضرورة، كضيق نفس أو عطاس أو عجز أو عي أو نسيان، وسمي حينئذ وقف الضرورة، وهو مباح للقارئ، فإذا زالت الضرورة التي ألجأته لذلك بدأ بما وقف عليه، إن صح الابتداء به، وإلا رجع لما يصح الابتداء به قبله. وأما النوع الثاني: وهو الذي أفاد معنى غير مقصود، فما بعده ضروري أن يتصل به ليتم منه المعنى المراد، فنحو الوقف على لفظ: {الصَّلاة} من قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 1. وذلك لأنه يوهم النهي عن أداء الصلاة مطلقا، وليس كذلك، وإنما المقصود من الآية الكريمة: لا تقربوا الصلاة حال كونكم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، وهذا المعنى المقصود لا يتم إلا إذا انضم إليه ما بعده، وعليه فالوقف على الصلاة قبيح فيوصل بما بعده إلى أن يقف على قوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فهو كافٍ، ولهذا النوع صور شتى يمكن الرجوع إليها في كتب القراءات2. وأما النوع الثالث: وهو ما أوهم فساد المعنى وفيه سوء الأدب مع الله تبارك وتعالى، وهو أقبح من القبيح فنحو الوقف على لفظ   1 سورة النساء: الآية: 43. 2 راجع منار الهدى، ص: 18، وما بعدها، والتمهيد، ص: 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الجلاله من قوله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، ومثل الوقف على {يَسْتَحْي} من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} ، وهذا لا يجوز بحال إنما يكون الوقف على {فَمَا فَوْقَهَا} ، ولا يخفى ما في ذلك من فساد المعنى وسوء الأدب مما هو ظاهر لا يصح التَّفَوُّه به، وأقبح من هذا وأشنع الوقف على المنفي الذي بعده الإيجاب، وفي هذا الإيجاب وصف لله تعالى أو لرسله عليهم الصلاة والسلام، وذلك نحو الوقف على: {إله} من قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه} ، وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّه} والقبح في هذا لا يصح التَّفَوُّه به أيضا، وصور ذلك شتى لا يسمح المقام لذكرها، والأصل في الوقف القبيح من السنة المطهرة ما ذكره الحافظ ابن الجزري بسنده المتصل إلى عدي بن حاتم، قال عدي بن حاتم: جاء رجلان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فتشهد أحدهما فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما، ووقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم أو اذهب بئس الخطيب أنت" 1. قالوا: وهذا دليل على أنه لا يجوز القطع على القبيح أو الوقوف عليه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كره منه ذلك، وقال له: "قم بئس الخطيب أنت" لأنه جمع بين حال من أطاع الله ورسوله، ومن عصى ففسد بذلك المعنى، والأولى أنه كان يقف على رشد ثم يقول: ومن يعصهما فقد غوى.   1 صحيح مسلم، وأبو داود، وقد خرجه الحافظ ابن الجزري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 علامات الوقف وهناك علامات للوقف اصطلح عليها قراء القرآن الكريم، وأصبحت ملازمة لخط المصحف فضلا عن الوقف على آخر الآية، وأهم تلك العلامات هي: مـ: تفيد لزوم الوقف. لا: تفيد النهي عن الوقف، أي هي علامة الوقف الممنوع. ج: تفيد جواز الوقف جواز مستوي الطرفين أي: الوقف والوصل. صلي: علامة الوقف الجائز مع كون الوصل أولى. قلي: علامة الوقف الجائز مع كون الوقف أولى. (:. -:.) علامة تعانق الوقف، بحيث إذا وقفت على أحد الموضعين لا يصح الوقف على الآخر. وفي غير المصحف نرى ما يسمى بعلامات الترقيم أو أن يضع القارئ لنفسه علامات تعينه على ما يريد من وقف يطول أحيانًا أو يقصر أو يكتفي بعلامات الترقيم المعروفة، لكي تعينه على إعطاء الإلقاء معنى، فعلامات الترقيم تتخلل الكتابة لتساعد على الإلقاء الجيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 علامات الترقيم هي: 1- النقطة (0) توضع في نهاية الكلام للدلالة على تمام المعنى. 2- الفصلة (،) تكون بين الجمل المتصلة المعنى. 3- الفصلة المنقوطة (؛) وتكون بين جملتين إحداهما سبب في حدوث الأخرى. 4- النقطتان (:) توضعان بعد القول أو في معناه، نحو قال الرجل: من جاء بك، كما توضعان بين المجمل من القول وما يفصله مثل: في هذه أمور ثلاثة: أولها ... 5- علامة الاستفهام (؟) توضع في نهاية الجملة الاستفهامية. 6- علامة التعجب (!) توضع في نهاية الكلام الذي يحمل معنى الدهشة من شيء ما. 7- علامة التنصيص (" .... ") ويوضع بنيهما ما ينقل بنصه من الكلام حتى يأخذ نغمته في الإلقاء. 8- الشرطة (-) توضع في كتابة العدد في أول السطر وفي حالة المجاورة بين اثنين، حتى يمكن الفصل بينهما. 9- الشرطتان (- ... -) توضع بين الجمل المعترضة فيتصل ما قبل الشرطة الأولى في الإلقاء بما بعد الشرطة الثانية. 10- القوسان [ ( ... ) ] وتوضع بنيهما الجمل المعترضة التي لا تربط بالسياق نحو: وصية عمر (رضي الله عنه) لواليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وهكذا فعلامات التنقيط هي عبارة عن رموز توضع بني أجزاء الكلام؛ تسهيلا على القارئ حتى يدرك مواقع الوقف وأنواعه والابتداء، وتعينه على تنويع نبرات صوته وفقًا لما يوضع له من علامات. ويمكن أن نقسم تلك العلامات إلى ثلاثة أنواع: أولا: ثلاثة منها تبين للقارئ أنواع الوقف وهي: 1- الشولة أو الفصلة ورسمها هكذا: (،) وهي علامة الوقف الناقص وهو سكوت القارئ قليلا، وتوضع بعد المنادى المتصل مثل: يا علي، احفظ الله يحفظك. وبين المفردات المعطوفة التي تفيد التنوع أو التقسيم مثل: الجهات الأصلية أربعة: الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب. وبين الجمل القصيرة التامة المعنى والتي استقلت كل جملة منها بغرض مثل: الصدق خير، والكذب شر، والصادق محبوب من الله، محبوب من الناس. كما تقع بين المفردات الشبيهة بالجملة لطولها، وتقع كذلك بين جملتي الشرط والجزاء إن طالت جملة الشرط. 2- الشولة المنقوطة: (؛) وتسمى الفصلة المنقوطة، وهي علامة الوقف الكافي، وتوضع بين الجمل التي بينها علاقة في المعنى كأن تكون الجملة الثانية دالة على سبب متعلق بالجملة الأولى مثل: كن كريما؛ فإن البخيل لا حَظَّ له ولا للناس في ماله. أو أن تكون الجملة الثانية مسببة عن الأولى، أو أن تكون بين الجمل مشاركة في المعنى، مثل قل الحق وإلا فاسكت؛ الحق نور؛ وكاتم الحق شيطان أخرس. 3- النقطة: (.) وهي علامة الوقف التام وتوضع بين الجمل المستقلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 عما بعدها في المعنى والإعراب، كما توضع في نهاية كل فقرة، وفي نهاية كل فصل أو باب في كتاب. وهذه العلامات الثلاث تبين أنواع الوقف حتى تكون عونًا على الإلقاء السليم. ثانيًا: وهناك إلى جانب ذلك أربع علامات تدل على تنويع النبرات الصوتية وهي: أ- النقطتان (:) وهي تدل على علامة التوضيح. ب- علامة الحذف: ( ... ) وهي تدل على أن كلامًا ناقصًا. ج- علامة الاستفهام:؟ د- علامة التعجب:!!! وكل علامة من هذه العلامات تحتاج إلى أداء لها يتلاءم مع طبيعتها، وإلى نبرة صوتية تختلف وفقًا لاختلاف المراد منها. ثالثًا: وهناك علامات تعرف بالعلامات الصامتة إلا أن لها في الأداء نغمة تتلاءم مع طبيعة الدور الذي ينبغي أن تكون عليه، وهذه العلامات هي: علامة التنصيص: " ... ". والقوسان أو علامة الحصر: ( ... ) . الجملة المعترضة أو علامة البدل ورسمها هكذا: (- ... -) . علامة المتابعة: (=) وهي علامة تدل على التساوي. علامة المماثلة: (//) . وإدراك الباحث والدارس لشكل كل واحدة من هذه العلامات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 تعينه على أن يعطي لنفسه القدرة أو الاستعداد لما تحمل من نبرات ينبغي أن تؤدى بها حتى تأتي في أذن السامع وافية بالمعنى المراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الوقف على آخر الكلمات الوقف على آخر الكلمات يحتاج إلى تأمل وتدبر من القارئ، فبعض الكلمات تكون صحيحة الآخر، وقد تكون متحركة أو ساكنة وبها حرف تنوين أو مد، وقد يكون في آخر الكلمات حرف علة، ولهذا ينبغي أن نتبين طبيعة الوقف على آخر الكلمات. فمن المعروف أن الوقف على آخر الكلمات يكون بالسكون، ولكن هذا القول يحتاج مِنَّا إلى أن ننظر هل هذا السكون يكون سكونًا طبيعيًّا بسبب من الأسباب؟ كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} . فالسكون هنا في آخر الكلمة عند الوقف سيكون طبيعيًّا، سواء وقفت عليه أم وصلت، ومن هنا ينبغي أن يكون الوقف وقفًا لازمًا وليس أمام القارئ إلا الوقف بالسكون. أما إذا كان آخر الكلمة المراد الوقوف عليها متحركًا وعرضت عليه سكون الوقف؛ لأن السكون هو الأصل في الوقف، إذ يسكن الإنسان لكي يقف ويكف عن القراءة. وبذا يكون قد كفَّ عن الإتيان بالحركة في الحرف الأخير ولذا لا ينبغي الوقف إلا بالسكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وإذا أردت أن تقف على الحركة، لإعطاء لون من التجانس أو النغم الصوتي، فلا يجوز لك بحال من الأحوال أن تقف بالحركة كاملة من: فتح أو كسر أو ضم أو تنوين، وإنما يجوز لك أن تأتي ببعض منها، وهو ما عرف عند علماء القراءة: الوقوف بالروم، والروم معناه في اللغة: الطلب، رام الشيء أي: طلبه. وفي الاصطلاح: تضعيف الصوت بالحركة حتى يذهب بذلك التضعيف، بل إن أفضل ما قيل في ذلك: هو الإتيان ببعض الحركة، وقدَّر العلماء هذا الإتيان بأن يكون بالثلث فقط، وهذا يدل على أن الوقف يمكن مع إضعاف صوت الحركة على ألا يذهب بها كلية. ويجوز له كذلك أن يقف على الحركة الوقف المعروف بالإشمام، وهو عبارة عن ضم الشفتين من غير صوت بعد النطق بالحرف الأخير ساكنًا، إشارة إلى الضم مع إبقاء فرجة، والإشمام في هذه الحالة يكون في المضموم من المعرب، وفي المضموم من المبني1. وبهذا يكون أمام القارئ حين الوقف ثلاثة أوجه، يختار منها ما يتلاءم مع طبيعة الموقف، والحالة التي يجب الوقوف عليها: إما أن يقف بالسكون المحض والروم والإشمام، وهو ما كان متحركًا في الوصل بالرفع. ما يجوز فيه الوقف بالسكون المحض والروم، ولا يجوز فيه الإشمام، وهو ما كان متحركًا في الوصل بالجر. ما يجوز فيه الوقف بالسكون المحض فقط، ولا يجوز فيه روم ولا إشمام، وهو هاء التأنيث وميم الجمع وما كان محركًا في الوصل بحركة عارضة، أو ما كان آخره ساكنًا في الوصل والوقف، أو ما كان   1راجع: النشر، ج: 2، ص: 120- 126. والكشف، ج: 1، ص: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 متحركا في الوصل بالنصب في غير المنون. والوقوف بالروم: وهو عبارة عن إخفاء الصوت بالحركة. وهو عند النحويين جائز في الحركات الثلاث. وعند القراء يجوز في الضمة والكسرة، ولا يجوز في الفتحة. وتختص الضمة بجواز الوقف عليها بالإشمام1. الوقف على المقصور: لا يوقف على المقصور من الأسماء إلا بالألف، منونًا كان، أو غير منون. وفي الوقوف على المقصور المنون ثلاثة مذاهب: 1- مذهب سيبويه: وهو الحكم عليه في الرفع والضم بأن تنوينه محذوف دون عوض، وأن الوقف فيه على الألف التي من نفس الاسم، والوقف عليه في حالة النصب يكون بإبدال تنوينه ألفًا، إجراء له مجرى الصحيح. 2- ما ذهب إليه المازني: أن الألف الثابتة في الوقف هي بدل التنوين منصوبًا كان المقصور مرفوعًا أو مجرورًا 2. 3- وذهب أبو عمرو والكسائي: أن الألف الموقوف عليها في المقصور لا تكون أبدًا، إلا الألف التي هي نفس الاسم مرفوعة كانت أو مجرورة أو منصوبة. وذكر في شرح الكافية: أن هذا المذهب أقوى من غيره، وهذا   1 انظر: شرح الكافية الشافية، ج: 4، ص: 1988، 1989. 2 انظر: الخصائص، ج: 2، ص: 296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 موافق لمذهب ربيعة في حذفهم تنوين الصحيح دون بدل، والوقوف عليه بالسكون مطلقًا، ويقوي هذا المذهب الرواية بإحالة الألف وقفًا والاعتداد به رويًّا. وكما ذكر ابن مالك في شرح الكافية، أنه لا خلاف في المقصور غير المنون، أن لفظه في الوقف كلفظه في الوصل، وأن أَلِفَه لا تحذف إلا في ضرورة 1. الوقوف على الاسم المنقوص: الاسم المنقوص هو: الذي آخره ياء مكسور ما قبلها نحو قاضي، إذا أردت الوقوف عليه، وكان منصوبا أبدل من تنوينه ألف، إن كان منونا. وأثبتت ياؤه ساكنة إن لم يكن منونًا كقولك: قطعت واديًا وأحب الداعي2. وهذا يجعلنا ننظر إلى الاسم المنقوص، إما أن يكون منونًا أو لا، فإن كان منونًا، فالأفصح الوقوف عليه رفعًا وجرًا بالحرف، فتقول: هذا قاضٍ ومرت بقاضٍ. ويجوز أن تقف عليه بالياء، وبذلك وقف ابن كثير على: هادٍ، ووالٍ، وواقٍ من قوله تعالى: "وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادي" "وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالي" "وَمَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقي". وإن كان غير منون، فالأفصح الوقوف عليه رفعًا وجرًّا بالإثبات كقوله: هذا قاضي، ومررت بالقاضي، ويجوز الوقوف عليه بالحذف، وبذلك وقف الجمهور على: المتعال، والتلاق، في قوله تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} ووقف   1 انظر: شرح الكافية الشافية، ج: 4، ص: 1983، 1984. 2 انظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، ج: 4، ص: 171، 172. والإقناع في القراءات السبع، ج: 1،ص: 520، 521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ابن كثير بالياء على الوجه الأفصح. وقد يعكس فيهن؛ فيحذف ياء: قاضي، ويثبت ياءها، وإذا كان المنقوص منصوبًا وجب في الوقف إثبات يائه، فإن كان منونًا أبدل من تنوينه ألف، كقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} وإن كان غير منون وقف على الياء، كقوله تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي} . وذكر في شرح الكافية لابن مالك: أن الوقف بإثبات الياء على نحو: القاضي، المعرَّف مرفوعًا أو مجرورًا أجود في القياس من الوقف بحذفها1. الوقف على المهموز: والوقف على الكلمة المهموزة، ينبغي إدراك أن النطق بالهمزة المتحركة مخففة، أسهل من النطق بها ساكنة مخففة، ولقد أُجمع على إبدال الهمزة الثانية نحو: أومن، وفي نحو: أُؤَذِّن، جائز فيه الإبدال والتحقيق، وكالإجماع في: أؤمن، الإجماع في: آدم، وجواز الوجهين في: أؤذن: جواز الوجهين في أَيِمَّة. ومن ذلك يتضح أنه إذا سكن ما قبل الهمزة الساكنة ازداد النطق بها صعوبة، فمن أجل ذلك اغتفر في الوقف على ما آخره همزة بعد ساكن، مما لا يجوز في غير الهمزة من نقل الفتحة نحو: جنيت الكمأ. ومنهم من نقل ضمه إلى ساكن بعد كسره، ومنهم من نقل كسره إلى ساكن بعد ضمه نحو: هذا ردُء مع كفئ، يريد: هذا ردء مع كفء، وبعض بني تميم يقرُّون من هذا النقل الموقع في عدم النظير   1 شرح الكافية الشافية: لجمال الدين بن عبد الله بن مالك، ج: 4، ص: 1987. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 إلى اتباع العين الفاء فيقولون: هذا رديء مع كفؤ، وبعضهم يبدلها مع نقل حركتها بما يجانسها فيقول: هذا ردو مع كفي، وبعضهم يبدلها بعد الإتباع فيقول: هذا ردي مع كفو. وقد يبدلون من الهمزة حرف لين مجانسا كحركتها، ساكنا كان ما قبلها، أو متحركا فيقولون: هذا الكلو، والخبو والردو والكفو، وردتُّ بالكلي والخبي والردي والكفي، أهل الحجاز يقولون: الكلا، في الأحوال الثلاثة؛ لأن الهمزة أسكنها الوقف وما قبلها مفتوح فصارت كـ: رأس، وعلى هذا يقولون في أكمؤ: أكمو؛ لأنه كـ: جونة، وفي ممتلئ، ممتلي؛ لأنه كـ: ذيب1. وأحوال الوقف هذه ذكرناها لكي يتخير منها القارئ ما يتناسب له من الوقف المتجانس الذي يُشْعِر بعلم القارئ، أو الذي يلقي حديثا، فإن اللغة العربية لغة موسيقية طَيِّعة تضع لكل موقف ما يناسبه، فالاختيار بين الوقف لا يكون من جانب المصادفة، ولكن يكون من جانب ما يلائم الحال، ويتفق مع المقال، ويدل على سعة وخبرة في اللغة. الوقف على تاء التأنيث: إذا وقفت على ما فيه تاء التأنيث، فإن كانت ساكنة لم تتغير نحو: قامت أو قعدت، وإن كانت متحركة، فإما أن تكون الكلمة جمعا بالألف والتاء أولا، فإن لم تكن، فالأفصح الوقوف بإبدالها هاء فنقول: هذه رحمة، هذه شجرة، ووقف بعض القراء بالتاء2، في قوله تعالى:   1 شرح الكافية، ج: 4، ص: 1993، 1994. 2 وقف عليها بالتاء: نافع وابن عامر وعاصم وحمزة، ووقف عليها بالهاء: ابن كثير وأبو عمرو والكسائي. راجع الإقناع، ج: 1، ص: 516، 517. والنشر، ج: 2، ص: 129، وإيضاح الوقف والابتداء، ج: 1، ص: 301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين} . وكذلك في قوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّوم} قد وقف فيها أيضًا بالتاء، وسمع بعضهم يقول: يا أهل سورة البقرة بالتاء، وقد وقف الشاعر بالتاء على أمة في قوله: وكادت الحرة أن تُدعَى أمة، بالتاء المفتوحة. وإن كانت جمعًا بالألف والتاء فالأفصح الوقوف بالتاء وبعضهم يقف بالهاء، وسمع من بعضهم: كيف بالأخوة بالهاء، والأخوات بالتاء، وكذلك على مسلمات بالهاء والتاء، ولذا نجد النحاة يذكرون في الوقف على تاء التأنيث بقولهم: وقد يعكس فيهن1. كما ذكروا أن ليس لهاء التأنيث نصيب من إشمام ولا روم ولا تضعيف؛ فلذلك قُدِّم استثناؤها حين قصد التكلم على الوقف، وذلك لما لها من أحكام في الوقف ينبغي الرجوع إليها2. زيادة هاء السكت: مما عني به علماء الوقف زيادة هاء السكت، وهي تزاد في عدة مواضع: 1- وأكثر ما تزاد بعد ياء المتكلم، نحو قوله تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} بدلا من كتابي. وكذلك: {مَالِيَهْ} {سُلْطَانِيَهْ} . 2- وكذلك بعد الفعل المحذوف الآخر جزمًا ووقفًا نحو قوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّه} من قوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّه} لم يتسن، وقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِه} اقتد. فقد زيدت هاء التأنيث السكت ذلك حتى يأخذ الحرف الأخير حقه في النطق. 3- بعد ما الاستفهامية المجرورة الموضع، كما في قوله الراجز:   1 النشر، ج: 2، ص: 129، 130. وشرح قطر الندى، ص: 223، 224. 2 راجع: شرح الكافية الشافية، ج: 4، ص: 1987- 1996. وشرح ابن عقيل، ج: 4، ص: 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 يا أسد يا لم أكلته لمهْ. ولحاق هذه الهاء -هاء السكت- واجب في الوقف على: ما الاستفهامية المضاف إليها كقولك في: اعتداء مه، ومجيء مه؟ وإذا كانت ما الاستفهامية مجرورة بحرف، جاز أن يوقف عليها بالهاء وبدونها، والوقف بالهاء أجود في قياس العربية مثل: بمه؟ ولمه؟. 4- ويجب لحاق هاء السكت في الوقف على ما كان من الأفعال على حرف واحد أوحرفين، أحدهما زائد كما في: قِ زيد، ولا تقِ عمرًا، الوقف: قه، ولاتقه. ويجوز أن تلحق هذه الهاء كل محرك حركة بناء لازم نحو: كيف، تقول كيف وثم، وإن: إنه، ولاه. ولا تلحق هذه الهاء ذا حركة عارضة كاسم: لا، والمنادى المضموم والعدد المركب. ولا تلحق الفعل الماضي وإن كانت حركته لازمة لشبهه بالمضارع. وقد يعطى الوصل حكم الوقف، ومن ذلك قراءة غير حمزة والكسائي لقوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 259] . وكذلك في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90] . فلقد أَلحق الهاء في الوصل في كلمة: اقتدِ، فصارت اقتده 1.   1 انظر: سراج القارئ، ص: 95. ومختصر بلوغ الأمنية، ص: 128- 130. وشرح: الكافية الشافية، ج: 4، ص: 1997- 2001. وشرح: ابن عقيل، ج: 4، ص: 177، 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 نطق الياء في آخر الكلمة: وهي أنواع نذكر منها ياءات الإضافة، وهي عبارة عن ياء المتكلم، وهي ضمير يتصل بالاسم والفعل، والحرف. وتكون ياء المتكلم مع الاسم مجرورة المحل نحو: نفسي، سمعي، ذكري. ومع الفعل تكون الياء منصوبة نحو: فطرني، يحزنني، آتاني، وهي تأتي منصوبة المحل غير مضافة إلى الفعل. ومع الحرف تكون منصوبة ومجرورة بحسب عمل الحرف نحو: عليّ، مني، لي، إني. والياء قد تكون أصلية من الكلمات وزائدة، أصلية فتجيء لامًا من الفعل نحو: واليل إذا يسر، يوم يأت، والداع، والمناد، ودعان، ويهدين، ويؤتين. وهذه الياءات الخلاف فيها هو بين الفتح والإسكان. وياءات الزوائد الخلاف فيها بين الحذف والإثبات، وللقراء 1 مذهبهم في ذلك فقد تكون عندهم ياءات الإضافة كما يسمونها على ثلاثة أضرب. 1- ما أجمعوا على إسكانه، وهو الأكثر لمجيئه على الأصل نحو: إني جاعل، واشكروا لي، وإني فضلتكم، فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني، ويطعمني، ويميتني، ولي عملي. 2- ما أجمعوا على فتحه لموجب يوجب ذلك، إما أن يكون بعدها ساكن لا تعريف أو شبهه نحو: نعمتي التي، وبلغني الكبر، وحسبي الله، ومسني السوء، ومسني الكبر، ووليي الله، وربي الله، نبأني   1 سراج القارئ: للبغدادي، ص: 132، 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 العليم، حركت الياء بالفتح حملا على النظير فرارًا من الحذف. وكذلك إذا كان قبل الياء ساكن ألف أو ياء، فالذي قبلها ألف نحو: هداي، وإياي، ورؤياي، ومثواي، وعصاي. والذي تأتي بعد الياء مثل: إليّ، وعليَّ، ويدي، ولدي، يابني، ومصرخي. وحركت الياء في ذلك فرارًا من الْتقاء الساكنين وكانت فتحة حملا على النظير، وأدغمت الياء نحو: إلي وعلي، للتماثل وجاز في مصرخي الكسر، وكذلك يابني مع الإسكان. وما اختلفوا في إسكانه وفتحه نحو: بشر عبادي، ألا تتبعن، إن يردن الرحمن، ففيها الإسكان والفتح1.   1 النشر، ج: 2، ص:161- 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 همزة الوصل وهمزة القطع وقد تسميان ألفي الوصل والقطع عند النحويين1 وتتضح لنا أهميتهما حين يبدأ من يلقي قولا أو حديثا، أو يقف بين الجمل ويعاود الابتداء ومن الواضح أن الوقف يكون بالسكون على حين أن الابتداء لا يكون إلا بالحركة؛ لأن من الأصول المقررة ألا يبدأ بساكن ولا يوقف على متحرك. فإذا كان الابتداء لا يكون إلا بالحركة، فإن الكلمات التي يكون أولها متحركًا لا إشكال فيها؛ لأن الابتداء بالحركة غير متعذر، ولكن الإشكال في الابتداء بالساكن؛ لأنه غير مقدور عليه ومتعذر النطق به.   1 التبصرة والتذكرة: للصيمري، ص: 436. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ولذا توصل للابتداء بالساكن باجتلاب ألف الوصل أو همزة الوصل وسميت بذلك؛ لأنها زيدت ليتوصل بها إلى النطق بالساكن، وسماها الخليل بن أحمد، سُلَّم اللسان1، فإذا ابتدئ بها فهي ثابتة مكسورة؛ لأنه لا يجمع بين ساكنين، وأصل حركة التقاء الساكنين الكسر، فكسرت همزة الوصل لذلك، وإذا وصل الكلام سقطت لاستغنائك عنها بحركة ما قبلها. همزة الوصل: تأتي همزة الوصل في أول كل فعل ماضٍ على أكثر من أربعة أحرف، وفي الأمر من الفعل الثلاثي إذا كان أوله ساكنًا. فأما الأفعال الماضية التي تكون في أولها ألف الوصل فتسعة أبنية وهي: انفعلت نحو: انطلقت، وافتعلت نحو: اقتدرت، وافعللت نحو: احمررت، واستفعلت نحو: استغفرت، وافعنللت نحو: احرنجمت أي تقبضت، وافعاللت نحو: احماررت، وافعوعلت نحو: احلوليت، وأفعوَّلت نحو: اغلوطت الفرس إذا ركبته عرياء، وافعلّلت بتشديد اللام الأولى نحو: اقشعررت. وهي في الأفعال قياسية، ولا تكون إلا في الخماسي والسداسي، فالماضي الخماسي نحو: انكسر، اقترب، احمر، والماضي السدادسي نحو: استكبر واستطعم، واستنصر، واستسقى.   1 الفوائد المفهمة شرح الجزرية: للشريف بن بالوشة، ص: 61. وكتاب العين: للخليل بن أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وأما في الأمر من الفعل الثلاثي: فكل فعل على ثلاثة أحرف في الماضي، وسكن ثانيه في المضارع، وأردت أن تأمر منه، فإنك تحذف حرف المضارعة وتزيد همزة الوصل في موضعه. والابتداء بها على وجهين: ما كان ثالث الفعل المضارع منه مكسورًا أو مفتوحًا، وكسرت همزة الوصل في الأمر كقولك في: يضرب، اضرب، وفي: يصنع، اصنع، والعلة في كسرها، أن حركة التقاء الساكنين الكسر. وما كان ثانيه متحركا استغني عن ألف الوصل فيه، كقولك في: يقوم، قُمْ، وفي: يسير، سِرْ. وما كان ثالث الفعل المضارع منه مضموما، ضمت همزة الوصل في الأمر منه تقول في: يقتل، اقتل، وفي: يخرج، اخرج، وإنما ضمت في هذا للإتباع؛ لأنه أخف في اللفظ؛ لئلا يخرج من كسرة إلى ضمة، وذلك مستثقل قليل. والأمر مما زاد على أربعة أحرف أي في الخماسي والسداسي فهو كالأمر في الثلاثي؛ لأن أصلها ثلاثة أحرف والباقي زوائد، كقولك في الأمر: استغفر الله، انطلق، اقتدر؛ لأنه من غفر، وطلق، وقدر. وإذا لم تسم الفاعل أي: بنيت للمجهول في شيء مما ألفه ألف وصل، ضممت أوله وكسرت ما قبل آخره؛ لأنه بني للمجهول، اتباعًا لضمه الثالث من الفعل، كقولك: استُغفر، انطُلق، اقتدر، احرنجم، والعلة في ضمه كالعلة في: اقتل في الأمر؛ لئلا يخرج من كسر إلى ضم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فحركة البدء بهمزة الوصل في الأفعال المقيسة على نوعين: الضم والكسر. وحركة البدء بالكسر: فشرطها أن يكون ثالث الفعل مفتوحًا أو مكسورًا كسرًا أصليًّا وليس بعارض1. مثال ذلك: انطلق، انقلب، استغفروا ربكم، منِ ارتضى من رسول، فكسرت همزة الوصل؛ لأن ثالث الفعل مفتوح، وكذلك ما كان ثالث الفعل فيه مكسورا كسرا أصليا مثل: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَاب} ، {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّم} ، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} . وحركة البدء بالضم في همزة الوصل أن يكون ثالث الفعل مضموما ضما لازما في الماضي والأمر، ففي الماضي كما في قوله تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ} ، {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه} . والأمر: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَاب} ، {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَال} . والضم العارض يبدأ فيه بكسر الهمزة وجوبًا نحو: {اقْضُوا} في قوله تعالى: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} ، وابنوا، في قوله تعالى: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانا} وامضوا، في قوله تعالى: {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُون} . والسبب في ذلك أن الضمة عارضة، فمثلا كلمة: اقضوا إذا   1 التبصرة والتذكرة، ج: 1، ص: 438. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 رجعنا إلى أصلها نجد أنها: اقضيوا، بضاد مكسورة وياء مضمومة بعدها فنقلت ضمة الياء إلى الضاد بعد تقدير سلب حركتها، ذلك لأنه التقى ساكنان: الياء والواو، فحذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين فصارت الكلمة: اقضوا بضم الضاد وحذف الياء، وكذلك ما حدث فيما كانت الضمة فيه عارضة. ويتضح مما سبق أن حركة همزة الوصل في الابتداء بالأفعال مبنية على حركة الثالث منها. وحركة همزة الوصل في الأسماء حين البدء بها، فمرجعها إلى القياس والسماع، فإذا كان الاسم معرفا بالألف واللام فهمزة الوصل فيه قياسية، وحركتها عند الابتداء الفتحة، كما في قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِن} ، {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} . وإن كان الاسم مجردا من الألف واللام، فهمزة الوصل فيه قياسية وسماعية، أما القياسية وهي مصدر الفعل الماضي الخماسي نحو: ابتغاء في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} ، وافتراء، انتقام.. أو مصدر الفعل الماضي السداسي نحو: استغفار في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} واستعمال، استكبار، وحركة البدء بهمزة الوصل في مصدر الفعل الماضي الخماسي والسداسي الكسر وجوبًا. وأما السماعية التي تعرف بالسماع ففي عشرة أسماء، تكون حركة البدء بهمزة الوصل فيها بالكسر وجوبًا وهي: 1- ابن، بالتذكير سواء أكانت مضافة لياء المتكلم، مثل: ابني أو ابن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 2- ابنت، كما في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَان} و {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْن} . 3- امرؤ، نحو قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه} . 4- امرأة، مفردة أو مثناه: {اِمْرَأَةَ نُوح} و {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَان} . 5- اثنان، بالتذكير، مهما اختلف إعرابها: بالألف والنون -اثنان- أو الياء والنون -اثنين- أو مضافًا للعشرة: اثنا عشر شهرا, {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبا} . 6- اثنتان، بالتأنيث سواء أكانت مفردة نحو: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَك} ، أم مضافة مثل: {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنا} . 7- اسم، مثل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أو {مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} . 8- ايم، وهو للقسم نحو: ايم الله، ويزداد النون: ايمن الله. 9- است: اسم من أسماء الدبر. 10- ابنم، وهي ابن زيدت فيها الميم. ويلاحظ أن همزة الوصل تحذف لفظًا وخطًّا من: أل، التعريف إذا دخل عليها لام الجر، نحو: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازا} ولكن إذا دخل حرف جر آخر فإنها تحذف لفظًا ونطقًا، وتثبت خطًّا نحو: {بِالْغَيْب} ، كالذين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ويراعى أن جميع الأسماء غير عشرة الأسماء التي ذكرناها، فألفها قطع نحو: إسماعيل وإبراهيم وأبيض وأحمر وأسود. ودخلت ألف الوصل في الأسماء؛ تشبيهًا بدخولها على الفعل؛ لأن هذه الأسماء تتضمن الإضافة كما يتضمن الفعل الفاعل، ولحقها الحذف في آخرها كما يلحق الفعل إذا قلت: اغزُ، وارْمِ، فسكنت أوائلها كما سكن أول الفعل، وأدخلت ألف الوصل عليها ليمكن النطق بها، فإذا تحركتْ أوائلها أو اتصلت بكلام قبلها حذفت الألف، استغناء عنها كقولك: المرء والمرأة، ومررت بابنك، وسمعت اسمك، وهذا اسم. همزة القطع: همزة القطع هي التي تثبت في القراءة في حالتي الوصل والبدء، وسميت بهمزة القطع؛ لثبوتها فينقطع بالتلفظ بها الحرف الذي قبلها عن الحرف الذي بعدها، وهذا على النقيض من همزة الوصل فإنها تثبت في البدء وتسقط في الوصل. وهمزات القطع كثيرة وترد في الأسماء مثل: إبرهيم، وإسماعيل، والأفعال مثل: أَذِنَ وأمر وأحسن، والحروف مثل: إن وكأن. وتأتي في أول الكلمة مثل: أخذ، وتأتي في وسط الكلمة نحو: بئر ويؤمنون، وفي آخر الكلمة مثل: ماء، جاء. ومن هذا يتبين أن همزة القطع تأتي ساكنة في الوسط وفي الطرف، وتأتي متحركة مطلقًا عند الابتداء والوسط والطرف، وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 كثيرة توجد في الأسماء والأفعال والحروف، هذا بخلاف همزة الوصل فإنها لا توجد إلا في أول الكلمة، ولا تقع ساكنة بحال، فخالفت همزة القطع في أنها لا تأتي ساكنة ولا توجد في وسط الكلمة ولا في آخرها. وأما همزة القطع: فموضعها من الأفعال ثلاثة أشياء: أحدها: أن يكون الفعل الماضي على ثلاثة أحرف أولها الهمزة، وهي مقطوعة كقولك: أكل، وأخذ، وأبى، وهذه التي يسميها القراء ألف أصل، وإنما سموها أصلا، لأنها من أصل الكلمة غير زائدة فيها، وانظر في: أَذِنَ وأَمَرَ، تجد أن الهمزة هي أصلية، فاء الكلمة. والثاني: أن يكون الفعل الماضي على أربعة أحرف أولها الهمزة فهي مقطوعة كقولك: أَكْرَمَ، وأَعْطَى، وأَنْزَلَ، أَوْحَى، أَحْسَنَ وكذلك مصادرها. وتعتبر هذه الألف زائدة؛ لأن الأصل كرم، وعطاء، ونزل ... والهمزة في هذه الأفعال للتعدية. والثالث: أن يقع في أول الفعل المضارع إذا أخبر المتكلم عن نفسه، وحركتها -إذا كان الفعل ثلاثيًّا أو أكثر من الرباعي- الفتح، كقولك: أنا أضرب، وآكل، وأستغفر، وأقتدر، وقوله تعالى: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاه} . وإن كان الفعل رباعيًّا فحركتها الضم للفرق بينهما كقولك: أنا أُكرِم، وأُعطِي، وأُحسِن، وإنما كان الثلاثي بالفتح أولى؛ لأن الفتحة أخف الحركات، والثلاثي أكثر من الرباعي، فوجب أن يكون الأخف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 للأكثر، وما زاد على الرباعي فيجب له الفتح أيضًا؛ لأن أصله ثلاثة أحرف ثم لحقته الزيادة، فوجب له الفتح على الأصل. ومن الواضح أنه لم يدخل ألف الوصل على شيء من الحروف إلا على لام المعرفة في قولك: الرجل، والمرأة، والغلام، وحركته الفتح يفرق بين ما دخل على الأفعال المتصرفة والأسماء المتمكنة، وبين ما دخل على الحروف. وذكرالنحاة: لما كان دخولها على الحرف نادرًا أعطى من الحركات نادرًا. كما أن همزة الاستفهام همزة قطع، فإذا دخلت على همزة الوصل حذفت همزة الوصل: للاستغناء عنها بحركة همزة الاستفهام. وحركة همزة الاستفهام الفتح -لا غير- كقولك إذا استفهمت: أين زيد؟ أستغفر زيد ربه؟ أقتدر زيد على عمرو؟، كما قال الله عز وجل: {أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدا} و {أصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِين} . فإن دخلت همزة الاستفهام على همزة القطع في اسمٍ كان أو فعل ففيه أربعة أوجه: الأول: أن تحقق الهمزتين فتقول: أأكرمت زيدًا؟ وهذا هو الأصل؛ لأن الهمزة الأولى للاستفهام، والثانية همزة: أكرمت. والثاني: أن تحققهما وتجعل بينهما ألفًا استثقالا لالتقائها كقولك: آكرمت الضيف؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 والثالث: أن تخفف الهمزة الثانية، وتجعلها بين بين كقولك: أاكرمت زيدا؟ والرابع: أن تفصل بينهما بالألف، وتخفف الثانية مع بعدها من الأولى فتجعلها بين بين فتقول: آاكرمت زيدًا1؟ وهذا مأخوذ به في علم القراءة2، فقد قرئ بهذه الأوجه الأربعة: أأنذرتهم بالتحقيق، وآانذرتهم بالتحقيق مع الفصل، وآأنذرتهم بالتخفيف، وآأنذرتهم بالتخفيف مع الفصل، وقرئ: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاس} بالتحقيق، وبالتحقيق والفصل آأنت، {اأَنْت} بالتخفيف، و {آنْت} بالتخفيف مع الفصل، فإن دخلت ألف الاستفهام على: ألف ايمن الله، أو على الألف واللام لم تحذفا، وأبدل منها مدة، وإن كانا ألفي وصل؛ لأن حركتهما الفتح، وحركة ألف الاستفهام الفتح، فلو حذفتهما لالتبس الخبر بالاستخبار فتقول إذا استفهمت: آايمن الله لتفعلن؟ آالرجل في الدار؟ كما قال الله عز وجل: {قُلْ آالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ} و {قُلْ آاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} . وإذا وصلت الكلام، وكان قبل ألف الوصل ساكن حذفت ألف الوصل، وحركت ذلك الساكن، لالتقاء الساكنين. والأصل في حركة التقاء الساكنين الكسر، نحو: {قُمِ اللَّيْل} ، أضرب الرجل سل ابن زيد، خذ اسمك، كما قال الله عز وجل: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه} .   1 انظر التبصرة والتذكرة: للصيمري، ص:440، 442. 2 راجع نهاية القول المفيد، ص: 182، والفوائد المفهمة، ص: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فإن كانت الألف التي تحذفها مضمومة، ضممت للإتباع، فلك في الساكن الذي قبلها وجهان: إن شئت أجريته على الأصل بالكسر فتقول: قُمِ اخْرُج، هَلِ انْطلق يزيد. وإن شئت ضممت للإتباع كما ضممت الألف فتقول: قُمُ اخْرج، هَلُ انْطلق يزيد؟ وقد قرئ بهما جميعا: {قُلِ انْظُرُوا} ، "قُلُ انْظُرُوا" وقد استشهد بها سيبويه1 على قراءة من ضم اللام، ثم قال: ... فضموا الساكن حيث حركوه كما ضموا الألف في الابتداء وكرهوا الكسر ههنا كما كرهوا في الألف فخالفت سائر السواكن كما خالفت الألف سائر الألفات، ثم قال: ... وقد كسر قوم فقالوا: {قُلِ انْظُرُوا} وقراءة الكسر التي أشار إليها سيبويه والصيرفي هي قراءة عاصم، وحمزة، ويعقوب، وقرأ الباقون بضم اللام2: "وَلَقَدُ اسْتُهْزِئ". وقد قرأ بكسر الدال على أصل التقاء الساكنين عاصم وأبو عمرو وحمزة، ووافقهم يعقوب والمطوعي والحسن، وقرأ الباقون بضم الدال اتباعًا 3. وهمزة القطع المفتوحة: توجد في خمسة مواضع هي: 1- الفعل الماضي المبني للمعلوم نحو: أُمِر، أُذِن.   1 الكتاب لسيبويه، ج: 2، ص: 275. 2 إبراز المعاني، ص: 249. والبحر المحيط، ج: 5، ص: 194. 3 النشر، ج: 2، ص: 225. والإتحاف، ص: 183. والسبعة، ص: 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 2- وفي الفعل الماضي الرباعي المبني للمعلوم نحو: أَوْحَى، وأَحْسَن. 3- وفي الفعل المضارع نحو: أرى، وأسمع. 4- وفي الأمر من الرباعي: أكرم، وأحسن، وأصلح. 5- وفي مصدر الفعل الماضي الثلاثي قد تكون همزة القطع فيه مفتوحة نحو: أَمْر وأَمْن وأَكْل، وقد تكون مكسورة نحو: إِذْن في قوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِه} ، وكلمة إِفْك في قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِين} وكلمة إِثْم في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيما} ، وكذلك إِذْن في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} . وهمزة القطع المكسورة: توجد في موضعين: 1- مصدر الفعل الماضي الرباعي نحو: إطعام، وإكرام. 2- مصدر الفعل الماضي الثلاثي فيما صح فيه الكسر كما سبق أن ذكرنا: إذن ربهم، إفك مبين. وهمزة القطع المضمومة، وتوجد في أربعة مواضع هي: 1- الفعل المضارع من الثلاثي المزيد نحو: أحيي، وأميت، وأبرئ، كما في قوله تعالى: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت} و {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ} . 2- الفعل المضارع من الثلاثي المضعف نحو: أُبَرِّئُ في قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} . 3- الفعل الماضي الثلاثي المبني للمجهول كما في أُمِرَ من قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِدا} وأُكِلَ التفاح، أُخِذَ أَخْذَ عزيز مقتدر. 4- الفعل الماضي الرباعي المبني للمعلوم: أُوتِيَ من قوله تعالى: {مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} وأوحي، من قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} . اجتماع همزتي الوصل والقطع في كلمة واحدة: في اجتماع الهمزتين إما أن تتقدم همزة الوصل على همزة القطع الساكنة، وإما أن تتأخر. 1- وتقدم همزة الوصل همزة القطع لا يكون إلا في الأفعال مثل: اؤتمن، في قوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} . وحين الوصل في هذه الحالة نجد أن همزة الوصل تسقط وتثبت همزة القطع الساكنة، فإذا نظرت إلى قوله تعالى: {الَّذِي اؤْتُمِن} فنجد أنه قد وصل لفظ الذي بلفظ اؤتمن، وهنا سقطت همزة الوصل وبقيت همزة القطع ساكنة 1. وحين الابتداء بهمزة الوصل مثل {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} تثبت همزة الوصل وتبدل همزة القطع الساكنة حرف مد من جنس حركة ما قبلها وذلك بإجماع القراء فتكون: اِيْتُونِي، وكذلك: {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} ، ايتنا. ويلاحظ أن حركة الابتداء بهمزة الوصل خاضع لحركة ثالث   1 ويلاحظ أن ذلك واضح عند من قرأ بتحقيقها كحفص وعاصم. وراجع نهاية القول المفيد في علم التجويد، ص: 184، 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الفعل، فإن كان ثالثة مضمومًا ضمًا لازمًا فحركة الابتداء بهمزة الوصل تكون بالضم نحو: {اؤْتُمِن} . وأما إذا كان ثالث الفعل مفتوحًا أو مكسورًا أو مضمومًا ضمًا عارضًا كانت حركة الابتداء بهمزة الوصل مكسورة. 2- وتقدم همزة القطع التي للاستفهام على همزة الوصل وهذا يكون في الأفعال والأسماء. ففي الأفعال تحذف همزة الوصل وتبقي همزة الاستفهام مفتوحة نحو: {أسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين} على الاستفهام، {أطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدا} أستكبرت؟ أطَّلع؟ أفعال حذفت منها همزة الوصل وبقيت همزة الاستفهام. وفي الأسماء تبقى الهمزتان مجتمعتين معًا في الكلمة وتكون مفتوحة في البدء في اسم محلى بأل، وحينئذٍ لا يجوز حذفها بالإجماع؛ لئلا يلتبس بالخبر فيتغير المعنى مثل قوله تعالى: {قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ} {أالآن} ، الله في: {أالله أَذِنَ لَكُمْ} وقوله تعالى: {أاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُون} . وبعضهم يعمل على إبدال الهمزة ألفًا مع المد الطويل لملاقاتها بالساكن الأصلي، وبعضهم يعمل على تسهيلها بين بين، أي بين الهمزة والألف مع القصر، والمراد هنا عدم المد. ولذا إذا أراد القارئ أن يلقي قولا ينظر إلى الهمزة، هل هي همزة وصل أو قطع، فإذا أراد أن يبدأ بهمزة الوصل نظر إلى الفعل المبدوء بها، فإن كان ثالثه مفتوحًا أو مكسورًا ابتدأ بهمزة الوصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 مكسورة كاعملوا وارجعوا، وإن كان ثالث الفعل مضمومًا ضمًا لازمًا ابتدأ به بهمزة الوصل مضمومة نحو: اغدوا، فإن كان الضم عارضًا ابتدأ بها مكسورة نظرًا للأصل نحو امشوا، وإن رأى الاسم مبدوءًا بألف، والآخرة ... ابتدأ بها مفتوحة، وإن كان الاسم غير مبدوء بأل ابتدأ بها مكسورة نحو: امرؤ وامرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الفصل السادس: إدراك الكلام أهمية السمع في الإدراك مدخل ... الفصل السادس: إدراك الكلام أهمية السمع في الإدراك التلوين الصوتي وأثره في الإدراك استخدام مكبر الصوت اللغة المنطوقة والمكتوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 إدراك الكلام نجاح فن الإلقاء يتوقف على نوع إدراك المتلقي لما يقال له، ويمكن للإنسان أن يدرك الكلمة المنطوقة في كثير من الظروف المتغيرة ولكن تتفاوت نسبة هذا الإدراك لعوامل عديدة فيكون الإدراك قويًّا في الجو الذي يتميز بالهدواء، ويكون المتكلم سليم النطق واضح العبارة، فمثلا إذا زاد الصخب في مكان يستمع فيه الإنسان قل إدراكه، أو كان المتكلم لا يحسن النطق مضطرب العبارات، كل ذلك يؤثر في عملية الإدراك ويتفاوت الناس في مثل هذه الأمور كما يتفاوتون في إدراكهم للكلمة المنطوقة فمنهم من يجيد الفهم ومنهم من يعجز عن الفهم، ومنهم من يتأثر بذلك، ومنهم من لا يتأثر تأثرًا يذكر. هناك ارتباط وثيق بين الإلقاء أو طريقة استقبال الحواس له، تلك الحواس التي تستطيع التمييز بين إلقاء وآخر، فالمادة المراد إلقاؤها واحدة، ولكن تختلف من شخص إلى آخر، ومن نبرات صوت إلى صوت آخر ومن لغة إلى أخرى، وفي ظروف محيطة لا ننكرها قد تسمح بظهور مستوى للكلمة يختلف عن ظروف أخرى قد لا تسمح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 بذلك، كل تلك الأمور نستطيع أن نجملها في دراسة مبسطة للأجواء التي تصلح للإلقاء الجيد، ومدى التفاوت الذي يحدث بين نجاح إلقاء كلمة وأخرى، فهناك العديد من العوامل التي تدخل تحت نطاق نجاح الإلقاء والذي نحن في أمس الحاجة إليها في عالمنا الحاضر عبر الاتصال المباشر وغير المباشر، عبر أجهزة إعلامنا لنصل إلى المضمون الذي نصل به إلى قلب المستمع وإدراكه له. بل قد يختلف حديث عن آخر، فهذا جذاب وآخر لا ينصت له، وهذه الأمور يجب بحثها، وبالتالي نستطيع القول إلى أن هناك عوامل عديدة تعمل على نجاح الإلقاء هي: 1- سلامة نطق المتكلم وإدراكه لما يقال وسلامة أسلوبه وخلوه من الغريب. 2- معرفة المستمع بلغة المتكلم ولهجته. 3- ثقافة المستمع ومدى إدراكه لما يقال. 4- ألفة السامع للموضوع الذي يستمع إليه. 5- هدوء مكان الاستماع من التشويش الداخلي والخارجي. 6- درجة علو الصوت وانخفاضه. 7- الحال النفسية لدى المتحدث والسامع. ويتوقف الإدراك عند المستمع على درجة إدراك المتكلم لم يقول: فإذا كان إدراك المتكلم لموضوعه إدراكا واعيا، أمكن إيصال القول بدرجة واعية، والعكس صحيح، كما أن نسبة الإدراك لكي تصل من المتحدث إلى المستمع تقل درجتها، فمثلا إذا كان إدراك المتكلم لموضوعه بنسبة 90% فإن الإدراك عند المستمع سيكون أقل من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أهمية السمع في الإدراك تصدر الأصوات من الإنسان، فتنتقل هذه الأصوات خلال الهواء الخارجي على شكل موجات صوتية، تسير حتى تصل إلى الأذن الإنسانية. وأداة السمع الطبيعية هي الأذن، وهي معقدة التركيب، يقسمها علماء التشريح إلى ثلاثة أقسام: 1- الأذن الخارجية، وتتركب من صوان الأذن وصماخها، وتنتهي الأذن الخارجية بما يسمى عادة: بطبلة الأذن. 2- والأذن الوسطى، وفيها عظيمات ثلاث صغيرة، تسمى عادة: بالمطرقة والسندان والركاب. 3- والأذن الداخلية، وفيها أعضاء السمع الحقيقية، لانتشار ألياف العصب السمعي بأجزائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وتحدث عملية الإصدار والتلقي بين المتكلم والمستمع حين تُحْدِث الأصوات تموجات في الهواء الخارجي، يستقبلها الصوان ثم تمر في القناة السمعية الخارجية إلى أن تصل إلى الغشاء الطبلي، فيهتز اهتزازات مناسبة لتلك التموجات، وتصل هذه الاهتزازات إلى الأذن الداخلية بواسطة العظيمات الثلاث، ثم تسري الاهتزازات إلى المخ فتترجم وتفسر. فالسمع هو الحاسة الطبيعية التي لابد منها لفهم تلك الأصوات، بل إنه يتميز بأمور لا توجد في الحواس الأخرى. ومن ذلك فإن إدراك الأصوات اللغوية عن طريق السمع يدع سائر الأعضاء للانتفاع بها في أمور أخرى إلى جانب السمع، كما يستطيع الإنسان أن يدرك الأصوات من مسافة قد لا يستطيع النظر عندها إدراك شيء، وخاصة حين تحول موانع من جبال، كما أنه يستطيع أن يدرك الأصوات واتجاهاتها، هذا إلى جانب أن الصوت قد ينتقل ضد التيارات الهوائية ولكنه مع ذلك يسمع. السمع حاسة تستغل ليلا ونهارا، وفي الظلام والنور، في حين أن المرئيات لا يمكن إدراكها إلا في النور. ولكي ندرك فضل السمع، علينا أن نقارن بين الإنسان الذي فقد بصره وما عليه من رقي عقلي، وبين آخر أصم لا يسمع؛ فالنبوغ والذكاء كثير الاحتمال عند الأعمى، في حين أنه نادر ما يكون عند الصُّم وإن كانوا مبصرين. وبعد اكتشاف الراديو، أمكن أن يصبح السمع وسيلة من أهم الوسائل للتثقيف الشعبي، وأن يسمع الناس بعضهم بعضا على الرغم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 من اختلاف الديار وتعدد الأوطان. فالسمع أبو الملكات اللسانية كما قال ابن خلدون، وليست الكتابة إلا وسيلة ناقصة لتصوير اللغات، فيها من الرموز ما لا حاجة إليه، كما ينقصها كثير من الرموز حتى يمكن أن يكون تصويرها للغة صححيا دقيقا، ثم هي مع هذا حديثة النشأة إذا قيست بنشأة النطق الإنساني، صنعها الإنسان ولم يتقن صنعها، ولا تزال تلك الرموز الكتابية بمثابة الجسد الخامد حتى يبعث فيها النطق حياة عن طريق الإلقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 التلوين الصوتي وأثره في الإدراك التلوين الصوتي يعين على الإدراك ويساعد على الفهم، ونحن نجد أن الكتابة تستخدم عدة طرق في تلوين الكتابة بألوان عدة تعين على إدراكها ومن ذلك: 1- استخدم اللون الأحمر والأزرق والأسود. 2- استخدام الأحرف الكبيرة والصغيرة. - وضع خطوط تحت الكلمات المهمة والعناوين البارزة، إلى غير ذلك. فهناك طرق عديدة نلجأ إليها في تلوين اللغة المكتوبة، فهل يمكن أن نلون اللغة المنطوقة؟ للغة المنطوقة عدة طرق يلجأ إليها المتحدث المدرك لطبيعة ما يقول، ومن أهمها: درجة الصوت وشدته ونوعه ونبرته حتى يستطيع أن يعطي صوته اللون المطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 1- درجة الصوت: الإنسان حين ينطق بالكلمات نرى أنه لا يتبع درجة صوتية واحدة، فالأصوات التي يتكون منها المقطع الواحد قد تختلف في درجة الصوت وكذلك الكلمات، ولاختلاف درجة الصوت أهمية كبرى إذ تختلف فيها معاني الكلمات تبعا لاختلاف درجة الصوت. والبحث عن نظام درجة الصوت وتسلسله في الكلام العربي يحتاج إلى معرفة درجات الموسيقى العربية، ذلك لأن التسلسل في درجة الصوت يخضع لنظام خاص يختلف من لغة إلى لغة. العوامل التي تؤثر في درجات الصوت الإنساني: القرب والبعد من مصدر الصوت: الهواء هو الوسط الذي ينتقل فيه أو من خلاله الصوت في معظم الحالات، فخلاله تنتقل الهزات من مصدر الصوت في شكل موجات حتى تصل إلى الأذن، وسرعة الصوت كما قررها العلماء في حوالي: 332م/ ثانية. وتتوقف شدة الصوت أو ارتفاعه على بعد الأذن من مصدر الصوت، فعلى قدر قرب الأذن من ذلك المصدر يكون وضوح الصوت. 2- شدة الصوت: لها أثرها في عملية تلوين الكلام، وتتوقف شدة الصوت على سعة الاهتزازة ودرجة الصوت pith كما برهن علماء الأصوات، وتتوقف على عدد الاهتزازات في الثانية، فإذا زادت الاهتزازات أو الذبذبات على عدد خاص ازداد الصوت حدة، فالصوت العميق عدد اهتزازته في الثانية أقل من الصوت الحاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 3- نوع الصوت: هو الصفة الخاصة التي تميز صوتًا من صوت وإن اتحدا في الدرجة والشدة، وهكذا نستطيع أن نميز الصوت الخارج من الآلات الموسيقية رغم احتمال اتحادهما في الدرجة والشدة، وتلك هي الصفة التي تميز صوتا إنسانيا من صوت آخر، وكثير من الناس يستطيعون التمييز بين أصوات أصدقائهم في الهاتف بمجرد نطقهم ببعض كلمات. ولذا يمكن استخدام صوتين من نوعين مختلفين لإلقاء حديث واحد، ويراعى أن يكونا مختلفين في الشدة والنبرة، وشدة الصوت الإنساني تتوقف إلى حد كبير على سعة الرئتين، ونسبة ضغط الهواء المندفع منهما، كماتتوقف أيضا على تلك الفراغات الرنانة أو ما يسمى بحجرات الرنين، التي يمر خلالها الهواء بعد الحنجرة، مثل: فراغ الحلق، وفراغ الفم، والفراغ الأنفي، وكلها تستغل في تضخيم الصوت، ومنحه صفته الخاصة به، والتي تميزه عن غيره من الأصوات، فهي أشبه بتلك الصناديق المجوفة التي تشد عليها أوتار العود، وأصوات الحنجرة وحدها ضعيفة، ولكنها تقوي بمرورها في تلك الفراغات الرنانة، واختلاف حجم هذه الفراغات بين الناس يجعل أصواتهم المختلفة متميزة، رغم أن تلك الفراغات لا تكاد تؤثر في درجات أصواتهم فقد تكون متحدة الدرجات أي أن: عدد الذبذبات في الحنجرة واحدة، ولكن مرور تلك الذبذبات خلال الفراغات يكسبها لونا خاصا بها يساعدنا على تمييز أصوات الأصدقاء من غيرها. 4- نبرات الصوت: تنبئ عن الشعور الداخلي، معبرة عن صاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الصوت، فالكائن العضوي الذي ينطق بالكلمات يتأثر بما يعتمل في صدر المتحدث من إحساس داخلي ويستطيع الإنسان أن يدرك الارتباط الوثيق بين التعبير الصادق وبين غيره من الكلمات المشوبة بالافتعال، وعدم صدق الإحساس، فالكلام المعبر ينبع عن امتلاء داخلي بالشعور، أما تلوين الكلام ظاهريا دون سند من تدفق داخلي؛ فيؤدي إلى التكلف والسطحية، والتذوق الفني عند العرب كان معينا بإلقاء الكلام وبالإحساس بما فيه. العوامل التي تؤثر في ذلك: 1- السيطرة على الهواء المندفع من الرئتين وتحديد نسبة ما يندفع منهما من التنفس وتنظيم هذا حسب الإرادة. 2- مرونة عضلات الحنجرة، فعلى قدر هذه المرونة تتوقف درجة الصوت، فكلما ازدادت مرونته كثرت الذبذبات وازداد الصوت حدة. 3- طول الوترين الصوتيين يؤثر في درجة الصوت تأثيرا عكسيا، بمعنى أنه كلما طال الوتران الصوتيان قلت الذبذبات وترتب على قلتها عمق الصوت، حتى يصل في بعض الحالات إلى ما يسميه الموسيقيون بالقرار. 4- ولكن نسبة شدة الوترين تؤثر تأثيرا مطردا في درجة الصوت، فالصوت المنبعث من ذبذبة وترين مشدودين شدا محكما يكون صوتا حادا، كصوت المغنيات، في حين أن غلظ الوترين في الرجال يقلل من نسبة هذا التوتر، مما يجعل درجة الصوت عند الرجال عميقة؛ لأن عدد الذبذبات أقل. وهكذا يمكن للإنسان أن يشكل في صوته وفي نغمته وفي نبرته وفي شدته وفي انخفاضه، إلى غير ذلك من الألوان التي تعينه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 التعبير وتعين المتلقي على الإدراك. يعد الصوت جزءا له أهمية بالنسبة للكلام، ففن الإلقاء يحتاج إلى صوت مميز معين، يتصف بالقوة والنبرات الواضحة المعبرة التي تحقق الهدف من توصيل القول إلى القلوب بأبعاده وألوانه، فالصوت الإنساني هو ككل الأصوات ينشأ من ذبذبات مصدرها في الغالب الحنجرة لدى الإنسان. الصوت الإنساني معقد إذ يتركب من أنواع مختلفة في الشدة ومن درجات صوتية متباينة، كما أن لكل إنسان صفة صوتية خاصة تميز صوته من صوت غيره من الناس، كما أن المولى أودع في صوت الإنسان القدرة على التشكيل وفقا لأغراض المعاني. فصوت الإنسان في أثناء حديثه لا يسير وفق شدة واحدة، أو درجة واحدة أو نغمة واحدة بل هو متعدد الشدة والدرجة والنغم وهو مع هذا أيضا ذو صفة خاصة تميزه عن غيره من أصوات الناس. وتتوقف درجة صوت المرء على سنه وجنسه: فالأطفال والنساء أَحَدُّ أصواتا من الرجال، وذلك لأن الوترين الصوتيين في الأطفال والنساء أقصر وأقل ضخامة، ويؤدي إلى زيادة في سرعتهما وعدد ذبذباتهما في الثانية. وهذا البحث حول اختلاف درجة الصوت بالنسبة للسن والجنس بحث طويل، اختلفت فيه أقوال العلماء قديماً وحديثا، ويتكلم الإنسان فتختلف درجة صوته عند معظم المقاطع، ولكن يندر أن يكون تغيير درجة الصوت في أثناء الكلام فجائيا بخلاف الغناء. ومن الحقائق العلمية التي تدعو إلى الدهشة والعجب أن علماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 التشريح لم يلحظوا أي فرق مادي بين حناجر النوع الإنساني، فحنجرة الإنسان ذي الصوت الذي يسحر الألباب، لا تكاد تختلف عن حنجرة العامل العادي من الناحية التشريحية، فليس في حنجرة المطرب أي عنصر مادي تمتاز به على حنجرة غيره من الناس، وإنما الفرق في الموهبة التي تظهر في التحكم والتشكيل والتلوين في الصوت وفي التنفس، فهو أقدر من غيره على تنظيم تنفسه والسيطرة على الهواء المندفع من الرئتين والقدرة على تكييفه وإخضاعه لنظام خاص في جريانه من الرئتين حتى يصدر من الفم أو الأنف، وإخضاعه لإرادتهم كما يفعل المغنون، فالمغني والمتحدث الجيد يستطيع بعد شيء من المران أن يملك زمام تنفسه وأن يحدد عدد ذبذبات الوترين الصوتيين كما يشاء، وكذلك ينوع في درجات صوته كما يوحي إليه فنه، ومن تلك الدرجات الصوتية المتباينة يكون مجموعة منسجمة من الأصوات هي التي تكون أصلح للأداء الجيد. وإلى جانب التلوين الإنساني لصوته هناك ألوان أخرى يمكن أن يلون بها الإنسان صوته عبر وسائل الاتصال الحديثة. ففي الإذاعة استطاع الإنسان أن يستخدم صدى الصوت Echo من التلوين، فهناك أجهزة التسجيل التي لها القدرة أن تغطي هذه النغمة المميزة، كما أنها قادرة على أن تعطي الصوت علوا وانخفاضا، هذا إلى جانب المؤثرات الصوتية على اختلاف أنواعها تعطي لونا يقترب بفن الإلقاء إلى الجو الطبيعي، مثل: استخدام أصوات الطيور والحيوانات، والطائرات، إلى غير ذلك مما يعطي للإلقاء معنى يساعد المستمع على الإدراك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 استخدام مكبر الصوت: الميكرفون لقد دخل مكبر الصوت حياتنا في كثير من اللقاءات والندوات، وأصبح من مستلزمات فن الإلقاء عبر الإذاعة المسموعة والمرئية، واحتاج إلى نمط خاص في الإلقاء. فالإلقاء ِأمام: الميكرفون قد غيَّر من طبيعة الإلقاء، فالجيد منه أصبح نوعا من الهمس وأضحت جهارة الصوت ليست مقياسا للجودة، فلقد كان القدماء يقولون: مما يزيد في حسن الخطابة وجلالة موقعها، جهارة الصوت، فإنه أجل أوصاف الخطباء، ولذلك قال الشاعر: جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الرواء جهير النغم وذم شاعر آخر بعض الخطباء برِقَّة الصوت وضآلته فقال: ومن عجب الأيام أن قمت خاطبا ... وأنت ضئيل الجسم منتفخ السحر1 فرقة الصوت وضآلته بعد أن كانت تذم قديما، صارت أمام الميكرفون ميزة من مميزات الإلقاء. وجمال الصوت هبة من الخالق -سبحانه- تحتاج إلى الدربة والمران، حتى يأتي الصوت وقد تميز بأنه صوت رائق الجرس يتمشى مع طبيعة الإذاعة التي تقتضي المودة المتبادلة بين صوت المذيع وبين مستمعيه، ويتطلب هذا أن يكون الصوت زاخرا بأنواع المودة والمشاعر التي يكون التعبير بها في أصدق حالة بالصوت المذاع، فمكبر الصوت أكثر قدرة -دائما بالنسبة للكلام- على إبراز الجمال في الصوت الأقرب إلى   1 نقد النثر، ص: 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الانخفاض نسبيًّا على أن يتوافر معه الوضوح والنبرة الساحرة واللين والمرونة وهي المميزات التي يهبها الله تعالى للصوت الذي يتلاءم أكثر من غيره مع مكبر الصوت وكأن الميكرفون يحتويه ويترنم به متلذذًا ليودعه الأثير جرسًا عذبًا ينساب في يسر إلى أفئدة المستمعين، فالمؤدي أمام مكبر الصوت لم يعد يحتاج إلى الصياح الذي كان يلجأ إليه الممثل والخطيب من قبل. ومن الأشياء المنفرة التي لا ينبغي أن تكون في صوت من يلقي الخشونة والحبسة واللثغة والفأفأة وغيرها من الصفات التي عابها القدماء 1 والتي لا يصلح معها الصوت للإذاعة ولا علاج لها إلا الاتجاه نحو الطبقات العالية في الصوت، والعنف في الأداء يمكن علاجه بالتدريب على الأصوات وفنون الأداء والإلقاء. ويجب أن تكون لغة المذيع لغة سليمة واضحة لا تشوبها لهجة محلية تحول دون الفهم والإفهام، أو تباعد بينه وبين اللغة الفصحى التي ينبغي أن يستمع إليها الناس. والنطق الواضح يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالطريقة التي يمارسها المذيع في نطق الحروف، والنطق السليم يساعد بلا شك في تيسير الفهم للمستمع. ودراسة أصوات اللغة من صميم العمل الإذاعي أو بعبارة أخرى من مكملات النجاح الإذاعي حتى يتمكن من النطق السليم الواضح2.   1 البيان والتبيين للجاحظ، ص: 32- 39. 2 الإذاعة وأصوات اللغة، مقال للدكتور إبراهيم أنيس، مجلة الفن الإذاعي، العدد 32 سنة 1965، ص: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وأخذ المذيع نفسه على النطق والتعبير بطريقة صحيحة في الحياة اليومية خير عون له على ذلك، حتى إذا وقف أمام مكبر الصوت جاءت ألفاظه ونطقه تبعًا لما اعتاد عليه. فالممارسة على عملية النطق السليم تحتاج إلى مرونة في التنفس، وعمق يساعده على النطق بالجمل الطويلة، يتمكن معه من الوقف بيسر بين الجمل، وأن يلتقط أنفاسه بطريقة سهلة خلال فترات الصمت بين الجمل. والحروف المتحركة تشكل جانبًا كبيرًا من موسيقى الكلام، فيجب أن يعطى كل حرف الوقت اللازم له حتى يخرج سليمًا واضحًا، فالحروف المتحركة ليست يسيرة في النطق، وهي تخرج بطريقة مضادة لعملية الزفير، فالرئتان تميلان إلى فصلهما ولكن عضلات الفم تضطرها اضطرارًا إلى الالتحام مع غيرها من الألفاظ الساكنة. وموهبة المتحدث تظهر في قدرته على تنظيم تنفسه وسيطرته على الهواء المندفع من الرئتين حتى يصدر من الأنف أو الفم وفقًا لطبيعة الصوت، وقليل من الناس الذين يستطيعون السيطرة على تنفسهم وإخضاعه لما يتطلبه الكلام، وذلك مثل صاحب الخط الحسن، لا فرق بين عضلات يديه من الناحية التشريحية وبين غيره إلا أنه استطاع أن يخضع عضلات يديه وحركات أصابعه لما يتطلبه الخط الحسن1. ويستلزم المتحدث أن يدرب نفسه على طبيعة المخارج، فإن لكل مجموعة من الحروف مخارجها، فمنها ما يخرج من أسفل الحلق، ومنها ما يخرج من الحلق ومنها ما يخرج من طرف اللسان. الاعتدال والثقة لهما دور كبير في نجاح الإلقاء أمام الميكرفون   1 الكلمة المذاعة: د. طه عبد الفتاح مقلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فالمتحدث يحتاج إلى أن يكون معتدلا مع نفسه فالحالة المعنوية للمذيع تؤثر على صوته، ولذا يجب أن يكون معتدلا واثقًا من نفسه حين يؤدي عمله، فمكبر الصوت الإذاعي -الميكرفون- ذو حساسية وشفافية تجعل المستمع سرعان ما يكتشف اضطراب أعصاب المذيع أو المتحدث أو عدم الثقة، مما يحول دون الأداء السليم. وقد يصرف هذا الاضطراب المستمع إلى التفكير في الطريقة التي يتكلم بها المذيع بدلا من جذب انتباهه إلى ما يقول، ومتى حدث هذا ضاع الأثر المطلوب من الكلام المذاع وضاع الهدف المرجو من عملية الاتصال. فلا مكان على الأثير لمذيع لا يثق في نفسه وفيما يقوله للمستمعين، وإن كانت للثقة أهميتها ولكن يخشى من طغيان الشعور بالثقة والمبالغة، فطالما أدى هذا بالمذيع إلى أن يطلع على المستمعين بصوت متصايح أو أسلوب فيه التعاظم، أو أداء فيه التعالي والكبر لا ترتاح الآذان إلى سماعه ولا يستميل القلب إليه، وقد تمتد الأصابع إلى جهاز الاستقبال فتغلقه، والمقصود بالثقة أن تكون ثقة واعية محدودة بخط متوازن دقيق لا تحيد عنه، ولا تنحرف به وإنما هو سبيل إلى الأداء الجيد المتوازن، وفي إحساس واضح بهدف الرسالة التي يقوم بأدائها إلى المستمع. الطابع الخاص يظهر واضحًا عبر الأثير، فقد اقتضت سنة الله في خلقه أن جعل لكل شخصية من الشخصيات طابعها الصوتي الخاص الذي يتميز به عن غيرها من الشخصيات، ولذا كان على الرغم من كثرة المذيعين والقارئين للقرآن العظيم فإن المستمع يمكنه أن يعرف الطابع الصوتي لكل منهم، فللمتحدثين والمذيعين شخصيات متباينة على الهواء، منهم المذيع الذي تفيض مشاعره بالإخلاص والحرارة والحيوية، ويحملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 على الاهتمام به كصديق لك مع أنك لم تعرفه ولم تره من قبل، ومنهم من يشعرك عند سماع صوته بأنه جارك الودود دخل عليك بيتك يسامرك، ومنهم من يلوذ بحالة الثقل فلا ترتاح لسماع صوته، ومنهم يشعرك بأنه الشخص الثقيل الظل، ومنهم من يشعرك صوته بأنه حسن المظهر وأنه صادق الطوية ومنهم من يتميز بالخشونة والقوة ومنهم من يتميز بالأناقة والنعومة، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تتكون للمتحدث في ذهن المتلقي. فالشخصيات تختلف في الأصوات كما تختلف في صفاتها الذاتية والمهنية فقد تلقى إنسانا يتكلم معك فإذا أنت قد فوجئت بصوت لا تنتظره 1، ولا تتوقع أن تكون هذه هي شخصيته. ولقد أوضحت جانت دانبر في كتابها الحديث الإذاعي2 بأنها مارست في عالم الإذاعة التباين الواضح في أصوات الآدميين والمذيعين والمتحدثين بصورة ملموسة فلكل مذيع أوصاف تشكل شخصيته على الهواء. وعلى كل مذيع أن يحدد لنفسه الطريقة التي تتلاءم مع صوته ويحس أنها خير طريقة يمكن أن يطلع على الناس بها، وإذا كان هناك برنامج يقدمه، عليه أن يختار الطريقة التي تلاءم شخصيته، فتصبح شخصية متميزة على الأثير لها مميزاتها الخاصة ولونها الفريد دون مبالغة تجنح بصاحبها بعيدًا عن الهدف المقصود وتضل طريقها إلى أفئدة المستمعين. ومن هذا يتضح أن صوت الإنسان عبر مكبر الصوت يتخذ له لونًا خاصًا وشكلا خاصًا يعبر عن صاحبه، ولذا ينبغي أن ينظر المتحدث إلى طبيعة صوته وإلى شخصية هذا الصوت وما يعبر عنه ومدى ألفته للمستمع، فإن لذلك أثره الواضح في إدراك المتلقي لما تقول.   1 على الأثير: عباس محمود العقاد، ص: 134. 2 Radio talk P:34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 السلوك أمام مبكر الصوت: ينبغي على المتحدث أن يلجأ إلى جميع الوسائل التي تهيئ له الأداء الجيد الموفق، فيجلس بثبات وصدره مفتوحًا ورأسه مرفوعة وظهره مستقيمًا وهذا يهيئ للمذيع أحسن الأوضاع لإخراج الصوت كاملا في أحسن حالاته، فالصدر المفتوح يعطي هواء كافيًا يريح في الأداء، والرأس المرفوع يجعل الفم في وضع يساعد على أن يتجه بالصوت اتجاهًا مباشرًا نحو الميكرفون، والظهر المستقيم معناه استقامة العمود الفقري، وقد دلت التجارب على أن تغير نظام فقرات الظهر يؤثر في طبيعة الصوت1. والخبرة تجعل المتحدث يعرف كيف يختار الزاوية التي تتلاءم مع صوته أمام مكبر الصوت، وكذلك انتقاء البعد الذي يتناسب هندسيًّا مع طبيعة إلقائه، وعليه أن يضع الورق بين يديه بطريقة تساعده على الانتقال من ورقة إلى أخرى دون إحداث صوت قد يحدث أثرًا في الكلام. وخير طريقة تسلكها أمام الميكرفون أن تتذكر دائمًا أنك أمام صديق حميم يتبادل معك النجوى والمودة، وفي نفس الوقت أمام جهاز يحصي عليك الهمس واللمس والحركة البسيطة بصوت مسموع. مكبر الصوت أو الميكرفون هو الأداة التي تحول الذبذبات الصوتية إلى ذبذبات كهربائية مشابهة لها تمامًا ونظرية الميكرفون بسيطية وأساسها أن أي جسم معدني يتحرك في مجال مغناطيسي يتولد فيه تيار كهربائي تتوقف شدته على قوة المجال المغناطيسي وعلى سرعة حركة الجسم في هذا المجال وعلى طبيعة الجسم المهتز. ولهذا لابد من توفر شروط لكي يكون الميكرفون صالحًا لفن الإلقاء، وتجعله صالحًا للاستخدام وهذه الشروط هي:   1 راجع: الكلمة المذاعة: طه عبد الفتاح مقلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ويجب أن يتجاوب الميكرفون مع الذبذبات الصوتية المتنوعة والتي تقدر من: 50 سيكل، إلى: 15.000، وينبغي أن يلتقطها وفق درجة معينة. ولذا يجب أن يكون ذا حساسية قياسية معلومة بالنسبة لمقدار معين وأن تقاس الحساسية بوضع الميكرفون أمام مصدر صوتي معلوم على مسافة معلومة. كما يجب أن يحتمل الضغوط الصوتية المتفاوتة في شدتها بين النغمات الخافتة والنغمات العالية بدون أن يحدث فيها تشويه وبالنسبة لمسافة معينة. وأن تكون خواصه الالتقاطية معلومة حتى يسهل استخدامه. ويجب ألا يشوه الموجات التي يلتقطها أي: ينقلها بأمانة وصدق أي يحولها إلى موجات كهربائية مشابهة لها تمامًا. ويجب ألا يتأثر بالظواهر الجوية. وينبغي أن يكون سهل التركيب خفيف الوزن. ويجب ألا يكون به اضطرابات داخلية ناشئة من تركيبه. أنواع مكبرات الصوت: وتتعدد أنواع المكبرات الصوتية وفقًا لتعدد أغرضاها والهدف من استخدامها وهي تنقسم إلى: الميكرفون الشريطي أو ميكرفون السرعة، وهو متجاوب وحساس مع الذبذبات العالية. الميكرفون الديناميكي أو ميكرفون الضغط، وهو لا يتجاوب مع الذبذبات المنخفضة بل العالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الميكرفون القلبي، وهو يجمع ما بين الاثنين يعطي صورة صوتية للمكان. وهذا التعدد يضع فرصة لاختيار ما يتناسب وطبيعة الصوت وطبيعة المكان، ووضع المتحدث أمام الميكرفون. ويعمل الآن مهندس الصوت على اختيار أحس هذه الأنواع لكي تتلاءم مع طبيعة الإلقاء الجيد، ويتناسب مع من يتحدث أمام مكبر الصوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 اللغة المنطوقة والمكتوبة لغة الكتابة تختلف عن اللغة المنطوقة اختلافًا بينًا، فعندما نخط هذه اللغة على الورق فإنما نخطها على أسطر مستقيمة، وقد تلون بأسطر بارزة أو أحرف كبيرة أو ملونة، ومهما كان الأمر فهذه الكتابة هي أسطر تتقطع إلى وحدات متفرقة تسمى الكلمات، وهذه الكلمات والحروف التي تتكون منها الكلمات، وعلامات الترقيم التي تفصل بين الفقرات التي تضم مجموعة من الجمل، والفقرات هي في الحقيقة رموز بصرية للتعبير عن الأصوات المنطوقة. فاللغة التي نتعلمها في مدارسنا وجامعاتنا تهتم بالجانب المكتوب، وتعطي الاهتمام الكبير له دون عناية بالجانب المنطوق أو صلته بالجانب المكتوب. وفن الإلقاء كما أنه يعتمد على الارتجال يعتمد كذلك على قراءة الكلمات المكتوبة، وهنا نسأل هل الكلمات المنطوقة تعبر تعبيرًا وافيًا في ذاتها يعين على الأداء السليم؟ والحقيقة أن اللغة المكتوبة تختلف عن اللغة المنطوقة من ناحية الكم، ففي اللغة العربية نجد أن الأصوات المنطوقة أكثر من الأحرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 المكتوبة وتلك ظاهرة عامة في كل اللغات. ففندرس يقول: لسنا في حاجة إلى القول بأننا لا نستطيع إحصاء الأصوات في لغة ما، بعدد الحروف الموجودة في أبجديتها، فكل لغة فيها من الأصوات، أكثر مما في كتابتها من العلامات، تلك حال الفرنسية والإيطالية والإنجليزية والألمانية1. فحين النطق بحروف اللغة نجد أن الكتابة وسيلة ناقصة لتسجيل أصوات اللغة ويرجع هذا النقص في أن الأبجديات المختلفة قد قامت على أساس الرمز لكل فونيم برمز كتابي معين يدل على جميع أفراد عائلة الفونيم. ولم تخصص هذه الأبجديات رموزًا معينة لفروع الفونيمات المتعددة وهذه إحدى عيوب تسجيل اللغة بالكتابة2. ومن ناحية الدلالة يرى علماء اللغة أن الكتابة لا يمكن أن تستقل بأداء الدلالة الكاملة للقيم الصوتية المعبرة عنها في لغة ما، بل لابد من اللجوء إلى القرائن الأخرى لتحديد المقصود بالرموز المكتوبة والتعود عليها حتى يزال ما يشوبها من غموض. ويرفض: دوسوسور، شهادة الكتابة على الواقع اللغوي، ويرى أن الكتابة العرفية كثيرًا ما تقود إلى الخطأ والضلال، وأنه لا يعصم من هذا الضلال إلا أن تكون الكتابة مفسرة، ومحددًا المراد منها بواسطة ما قدمه المعاصرون لها من شروح وأوصاف3. ولهذا لابد من اللجوء إلى القرائن الأخرى لتحديد المقصود   1 كتاب اللغة: لفندرس، ص: 62. 2 انظر: المدخل إلى علم اللغة، ص: 83- 88. 3 في علم اللغة العام، ص: 61، 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 بالرمز الكتابي، وإزالة ما يمكن أن يحدثه من غموض، إذن فانطباق الرمز الكتابي على الرمز الصوتي أمل كبير لكل متحدث باللغة متى يجد القارئ بين يديه وسيلة من رموز كتابية تنفي كل غموض، ولكن الرموز الكتابية غير كافية لأدائها من واقع الكتابة. ولابد من اتخاذ بعض المواقف في مواجهة الصيغ المكتوبة والتعود على طريقتها حتى يمكن أن تقرأها قراءة صحيحة وتُؤدى الأداء السليم. فنحن نقرأ بطريقتين: 1- الكلمة الجديدة أو قليلة الاستعمال يتهجاها القارئ حرفًا بعد حرف حتى يمكن نطقها نطقًا سليمًا. 2- الكلمة المألوفة المستعملة يدركها القارئ من أول وهلة بصرف النظر عن الحروف التي تتألف منها. ولهذا لابد من أن يتعود الإنسان على الرموز الكتابية، ومن ذلك رسم المصحف قد نجده يختلف عن الرسم الحديث، ومن هنا قد نجد صعوبة في نطق بعض الكلمات مثل الصلاة: الصلوة، والزكاة: الزكوة، مما يجعل من الصعب أداؤها من واقع الكتابة أداء صحيحًا ولابد من التلقي من فم القارئ وكذلك الكلمات: الحيوة، أي: الحياة، يبنؤم أي: يا ابن أم. وقد تختلف الكلمة المكتوبة في شكلها باختلاف علاقاتها بما بعدها مثل الأفعال المعتلة بالألف مثل: رمى، سعى، يسعى، يخشى. والكلمات مثل: ذكرى، صغرى، كبرى، ترسم جميعها بالياء وإن كانت تنطق بالألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وإذا اتصلت بضمير مضاف أو مفعول به رسمت بالألف مثل رماه يخشاه، ذكراه، بل إن هناك كلمات لا تساعدنا الحروف المكتوبة بها على نطقها النطق السليم، مثل: يس، طه، عمرو. فمعرفتنا برموز الكتابة لا تساعد في بعض الأحيان على تهجيها والعكس صحيح، فإن تهجيها وسماعها يساعد على نطقها، والأمثلة في اللغات العالمية أكثرمن أن تحصي، ففي اللغة الإنجليزية مثل: The teacher وغيرهما مما تنطق بخلاف ما تدل عليه الحروف الكتابية، وكذلك حرف C مثل مدينة City، ويستطيع Can فإنه ينطق بطريقتين. كذلك عجز الكتابة عن تسجيل الظواهر النطقية العامة مثل: 1- النبر وما يحمل من دلالات لها أثرها على المعنى المراد. 2- والتنغيم من حالات الإنكار والاستفهام والنفي والتحسر، إلى غير ذلك، مما له دلالات مباشرة في الإلقاء. 3- وكذلك التعبير عن الحالة الاجتماعية والفكرية والنفسية, وغيرها، فإن النطق بها يستطيع توضيحها بطريقة تعجز عنها الكتابة. خصائص الكلمة المنطوقة: الكلمة المنطوقة لها خصائص تختلف عن الكلمة المكتوبة، وهذه الخصائص لها أثرها في طبيعة المادة المراد إلقاؤها، بل يتوقف عليها الجزء الكبير لنجاح عملية الإلقاء في حد ذاتها، ومن الواضح أن الكلمة تخضع لمفاهيم كثيرة وذلك حسب نوعيتها واللغة التي كتبت بها، فهناك نوعيات شعرية تختلف وطبيعة كلماتها عن الشعر الحماسي مثلا أو العاطفي أو الغزل، وكلا منها يحتاج إلى نبرات خاصة وطريقة أداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 معينة، ولكي يتم ذلك لابد أن نتناول خصائص الكلمة المنطوقة التي تمثل الجزء الكبير لفن الإلقاء. وأولى الخصائص التي تتميز بها الكلمة المنطوقة وهي درجة الوضوح، ذلك لأن وضوح الكلمة في النص المكتوب ينبغي أن يكون وفق مفاهيم مقصودة من قبل الكاتب ومن يقوم بإلقائه، وأن تكون سهلة مفهومة غير مبهمة، وأن تكون بعيدة عن اللغة العامية، قريبة من تداولنا ومفهومنا لها، ذلك حتى تصل بينة فلا تحتاج إلى أمور أخرى توضيحية. ووضوح الكلمة أيضًا يتطلب أن تكون الألفاظ واضحة بينةً وليست بغريبة في الاستعمال، كما أن تكون الألفاظ حلوة في الفم سهلة على النطق غير مستثقلة ولا مستكرهة. وأن تكون كل لفظة من الألفاظ في النص المقروء ملائمة لأختها التي تليها غير نافرة عنها ولا مباينة لها، كما أنه لا يكون في الألفاظ تقديم أو تأخير يستغلق به المعنى، فيجئ نظم الكلام في الإلقاء مضطربًا. وينبغي الحرص على الأوصاف المتعلقة بالألفاظ الفصيحة والتي متى عري الكلام المنظوم والمنثور منها لم يكن فصيحًا، وإن عري عن شيء منها نقص منه جزء من الفصاحة. فالوضوح يقوم بدور الإفهام والتفهم، والمعنى الجيد قد يكون جيدًا في ذاته قويًا لكن إذا وضع في أسلوب غامض أو ضعيف أو سمج لم يستطع الناس إدراكه على اختلاف مداركهم، فالوضوح من أهم عناصر أسلوب فن الإلقاء عمومًا. وفن الإلقاء يتطلب الكلمة ذات الوضوح المتسلسل تسلسلا منطقيًّا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فتوضع المقدمات قبل النتائج والمعاني الأساسية قبل المعاني الفرعية، على أن تؤدي بعضها إلى بعض، حتى لا يكون بينها فجوات، تضطر إلى عناء في استيعابها فحسن تأليف الكلام يزيد المعنى وضوحًا. والتفاضل بين البلغاء إنما يكون بالتفاضل في توضيح المعاني على حسب وضوحها في أذهانهم وكلام يُعد أبلغ من كلام إذا كان واضحًا في المعنى وأجلى في البيان. ومن أهم الخصائص التي تتميز بها الكلمة في فن الإلقاء هي الإيجاز: إن اختيار الكلمات المناسبة التي تحوي المعاني العديدة جدير بأن تكون عنوانًا على النصوص الجيدة للكلمة المقروءة، والتي يأتي الإيجاز فيها بصورة لا تتعارض مع المعاني، وإلا يكون الترادف سبيلا إلى ملل المستمع، فالإيجاز مطلوب للمعاني الكبيرة المتناسقة في الألفاظ المعبرة تعبيرًا ملائمًا عنها في جمل قصيرة تتلائم مع طاقة الأذن. فالجمل القصيرة أفضل بكثير من الجمل الطويلة، فالمستمع يستوعب الجملة القصيرة بسهولة إذا صيغت صياغة وافية بالغرض، والجمل الطويلة المعقدة تسبب ارتباكًا أكثر للمستمع عمومًا. وإذا جاءت الجمل الطويلة فيبنغي أن تقسم إلى جمل قصيرة باستخدام أدوات الربط مع إدراك أن التنوع في طول الجملة له أهميته في دفع الملل عن المستمع. ومن أهم الخصائص التي تتميز بها الكلمة في فن الإلقاء هي صدق الكلمة: إن صدق الكلمة ينفذ إلى القلوب وليس إلى الأسماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فقط، إننا في حاجة إلى الكلمة الصادقة، والحقيقة التي تدخل نفوسنا لها اعتبارات تتعلق بالناحية النفسية، وتريحها من عناء التفكير الطويل في إدراك الأمور على طبيعتها بصدق وأمانة. الكاتب يجب أن يضع نصوصه بأمانة وإحساس صادق فالصدق في الكلمة يعين كل إنسان يلجأ إلى الأسلوب الناجح في فن الإلقاء، حيث يحتاج كلمة الصدق؛ لتتفتح إليها قلوب وأذهان من حوله ويصغي إليه في شغف. ويعتبر الصدق من أهم المعايير التي يقاس به نجاح العمل الإعلامي، ويبرز الصدق في قالبه الإيجابي إذا ما توافرت الثقة بين الإلقاء ومستقبليه. كما أن إلقاء الكلمة يختلف وفق اختلاف أجناس الكلام، فإلقاء الشعر غير إلقاء النثر، ولذا ينبعي أن نتعرف على كيفية إلقاء الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الفصل السابع: إلقاء الشعر إلقاء الشاعر قصيدته مدخل ... الفصل السابع: إلقاء الشعر إلقاء الشاعر قصيدته عذوبة النغم النبر في الشعر القافية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 إلقاء الشعر عرف إلقاء الشعر باسم الإنشاد، فالشعر العربي كان يُنشد في أسواق الجاهلية، ويطرب له السامعون وتهتز القلوب له، وظل كذلك في العصور الإسلامية؛ فلقد عرفوا للإنشاد قدره فتنافسوا فيه، وظلوا ينشدون أشعارهم حتى يومنا هذا. والنشيد في اللغة: رفع الصوت، ذلك لما فيه من قوة وحماس حين كان ينشد الشاعر قصيدته مفاخرا أو مادحا. والنشيد في اللغة: هو أيضا الشعر المتناشد بين القوم، وجمعه أناشيد. واستنشد شعرًا: طُلِب منه إنشاده، فأنشده إياه، ونشد الشعر: قرأه، ونشد بهم: هجاهم، وتناشدوا: أنشد بعضهم بعضا1. وإلقاء الشعر أعم من إنشاده، فالشعر تتعدد موضوعاته وتتنوع أغراضه، فمنها ما يحتاج إلى الإنشاد ورفع الصوت في موضوعات الفخر والحماس والمدح، ومنها ما يحتاج إلى نغم صوتي يساير   1 لسان العرب، مادة نشد. القاموس المحيط: للفيروزأبادي، ج: 1، ص: 354. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 موضوعاته الإنسانية المتعددة من وصف وتعبير عن المشاعر والأحاسيس التي تتطلب نوعًا معينًا من الإلقاء يتمشى مع طبيعة المعنى وطبيعة الموسيقى اللفظية. واستعمال كلمة الإنشاد نراها واضحة في كتب القدماء وبعض المحدثين؛ للتعبير عن إلقاء في الشعر بكافة أنواعه، وأصبحت دليلا على ذلك. ولكن حين تنظر إلى مدلول كلمة: نشيد، وتطورها فسنجد أن المنشد من يؤدي الشعر بتلحين وحسن إيقاع، والنشيد: الصوت ورفعه مع تلحين، والأنشودة: قطعة من الشعر أو الزجل في موضوع حماس وطني، تنشده جماعة من المنشدين أو القوم في إيقاع واحد، والجمع: أناشيد1. وإن كان الإنشاد للشعر قد يصحبه تلحين وحسن إيقاع، إلا أننا لابد أن نفرق بين الإنشاد والغناء. والإنشاد غير الغناء، فلم يكن الغناء من عمل الشاعر ولا مما يقوم به الشاعر، وكان الشاعر يأنف أن يجلس مجلس المغنى وإنما كان يترك ذلك للجواري والقيان المغنيين. واستمر استقلال الإنشاد عن الغناء في العصور الإسلامية، فالشعراء ينشدون والمغنون يغنون، ويكفي أن ننظر إلى كتاب: الأغاني، لأبي فرج الأصفهاني، وما جاء فيه؛ لندرك الفصل بين صنعة الشعر وإنشاده، وبين غنائه على أحد الأصوات أو الألحان المعروفة، فقد روى صاحب الأغاني المقطوعة الشعرية وكيف كان لها طريقتان في غنائها، وتنسب كل طريقة إلى مغنٍ يقوم بأدائها2.   1 المعجم الوسيط: لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ص: 921. 2 الأغاني: ج: 1، ص: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 إلقاء الشعر قصيدته الأصل في الشعر أن يلقي الشاعر شعره بنفسه إذا لم يكن هناك سبب يمنعه من ذلك؛ لأن القصيدة قطعة من الشاعر وصورة نفسه وقيض وجدانه وإحساسه ورسم تجربته. وتروي لنا كتب الأدب أن إلقاء الشعر يحتاج من الشاعر أن يحتفل له بما يجعله أنيقا في العيون، مهيبا في الصدور، جليلا في الأسماع؛ ليلفت إليه المستمع حسًّا ومعنى، وظاهرا وباطنا؛ وليعطفهم عليه، ويدفع سأمهم منه. دخل العماني الراجز على هارون الرشيد؛ لينشده وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج. فقال له الرشيد: يا عماني، إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة وخفان دلقمان. ودخل أبو تمام على المأمون في زي أعرابي فأنشده قصيدته التي أولها: دِمَنٌ أَلَمَّ بِها فَقالَ سَلامُ ... كَم حَلَّ عُقدَةَ صَبرِهِ الإِلمامُ فجعل المأمون يتعجب من غريب ما يأتي به من المعاني، ويقول ليس هذا من معاني الأعراب؟ فلما انتهى إلى قوله: هُنَّ الحَمامُ فَإِن كَسَرتَ عِيافَةً ... مِن حائِهِنَّ فَإِنَّهُنَّ حِمامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فقال المأمون: الله أكبر كنت يا هذا قد خلطت على الأمر منذ اليوم وكنت حسبتك بدويا، ثم تأملت شعرك، فإذا هو من معاني المتحضرين، وإذا أنت منهم. وحين بلغ أبا تمام نَعْيُ محمد بن حميد الطوسي، غمس طرف ردائه في مداد، ثم ضرب به كتفيه وصدره، وأنشد قصيدته المشهورة، التي تعد من أمهات قصائد الرثاء والتي مطلعها: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر وهذا يدل على إدراك الشعراء لطبيعة الموقف، وما يحتاجه الإلقاء من تهييء خاص يناسب المقام، فالرثاء له موقف وهيئة بل إن الخلفاء كان يروقهم أن يقف المنشدون أمامهم في بزة شائقة، وهيئة حسنة، وأن لباس الأعراب كان محببا إليهم، أثيرا لديهم، كما كان أثيرا لدى الشعراء أنفسهم1. وكان شاعر البادية الشيخ محمد عبد المطلب، كثيرا ما يشند شعره في المحافل وقد لبس: الكوفية والعقال تذكيرا بأسلافنا الأُوَل، فكان ذلك يزيد في هيبته ويجعله ملء البصائر والأبصار2. عادة الشعراء: للشعراء عادات في إلقائهم عُرفوا بها قديما وحديثا، وكانت تلازمهم: فالخنساء كانت تهتز في مشيتها وتنظر في أعطافها، وصنعت ذلك حين أنشدت قصيدتها الرائية التي تقول فيها: وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ   1 راجع في ذلك: الشعراء وإنشاد الشعر: على الجندي، ص: 35- 41. 2 الشعراء وإنشاد الشعر: علي الجندي، ص: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ووَإِنَّ صَخراً لَمَولَانا وَسَيِّدُنا ... وَإِنَّ صَخراً إِذا نَشتو لَنَحّارُ وكان أبو النجم العجلي- إذا أنشد- أزيد ورمي بثيابه، وكان بشار إذا أراد الإنشاد: صفق بيديه، وبصق عن يمينه وشماله ثم ينشد فيأتي بالعجب، وكان الطرماح بن حكيم لا ينشد إلا جالسا، وكان الفرزدق يتكبر أن ينشد قائما، قال أبو عبيدة: كان الفرزدق لا ينشد بين يدي الخلفاء والأمراء إلا قاعدا. وكان البحتري رديء الإنشاد، قبيح الحركات، وكان إذا أنشد يختال ويعجب بما يأتي به، وكان من عادته إذا فرغ من القصيدة، أن يعيد البيت، وقد يعيد بيتين من أول القصيدة 1. وليس كل من ينشئ الشعر، يحسن إلقاءه، فبعض الشعراء يحسنون إلقاءه كما يحسنون نظم القصيدة، فيزيد شعرهم حسنا وجودة، ويكتسي ملاحة وحلاوة، وتتضاعف منزلته حين ينشده. يقول البارودي يصف شعره وهو ينشده بنفسه: يَزِيدُ عَلَى الإِنْشَادِ حُسْنَاً كَأَنَّنِي ... نَفَثْتُ بِهِ سِحْرَاً وَلَيْسَ بِهِ سِحْرُ وبعضهم يجيء شعره وسطا، ولكن بجودة إلقائه، فيرتفع شعره إلى الذروة في نفوس مستمعيه ويفوق غيره ممن هم أقوى منه مبنى، وأجمل معنى، وألطف خيالا، ويظفر من التصفيق والاستحسان بنصيب كبير، وما ذلك إلا نتيجة جودة إلقائه. وعرف في كل عصر من عصور الشعر شعراء يجيدون إلقاء شعرهم، ومن هؤلاء: أعشى قيس، وقد لقب بصنَّاجة العرب، وقد   1 الشعراء وإنشاد الشعر، ص: 45- 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 اختلفوا في تعليل هذه التسمية فقيل: كان يتغنى بشعره، أو لكثرة ما غنت العرب في شعره أو لجودة شعره ولحسن إلقائه، وقد كانت العرب تقول لمن أجاد إلقاء الشعر: هو صناجة الشعر، وقد عرف في العصر الأموي بحسن الإنشاد: وضاح اليمن، وقد كان من أجمل الناس وجها، وأطرفهم وأخفهم شعرا، وقال الفرزدق لعباد بن العنبري: انشادك يزين الشعر في فهمي. شعراء لا يلقون أشعارهم: إن كان الأصل أن يلقي الشاعر شعره إلا أن المتأمل في أخبار الشعراء يجد أنه لم يخلُ عصر من شعراء نابهين مجودين في كتابة الشعر، ولكنهم قعدوا عن إنشاد شعرهم لسبب ما: كآفة لسانية أوكبر في السن، أو الحياء، أو غير ذلك، ومن هؤلاء الشعراء: أبو عطاء السندي1، وكانت في لسانه عجمة شديدة، ولثغة جعلتاه لا يكاد يُبِين، وكان الكُمَيت طويلا أصم، ولم يكن حسن الصوت، ولا جيد الإنشاد، فكان إذا استنشده إنسان، أمر ابنه: المستهل، فأنشد بدله2. وكانت في أبي تمام حبسة شديدة وتمتمة، وقد حدث أنه امتدح أبا دلف العجلي، وكان في المجلس من يكره أبا تمام، فلما افتتح قصيدته المشهورة: عَلى مِثلِها مِن أَربُعٍ وَمَلاعِبِ ... أُذيلَت مَصوناتُ الدُموعِ السَواكِبِ قال الرجل: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فدهش أبو تمام،   1 شاعر من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية. 2 الشعراء وإنشاد الشعر، ص: 57، 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 واستمر ينشد بنفسه، ثم ترك الإنشاد لهذه الآفة، فكان أخوه سهم ينشد نيابة عنه. وكان أحمد شوقي لا ينشد شعره بنفسه، فكان ينوب عنه في إنشاده بعض من يحسن الإنشاد مثل: كامل الشناوي، من رجال الآداب والصحافة، وكامل زيتون، من رجال التربية والتعليم. إلقاء الشعر من غير قائله: إذا كان ملقي الشعر غير القائل له، فعليه أن يلبس نَفْسَ الشاعر، ويحمل مشاعره ويتشرب عواطفه وينغمس في تجاربه، حتى يصير كأنه هو، والإنسان فيه قدرة عجيبة على أن يتقمص روح غيره، ويترجم عن وجدانه، وينطق عن لسانه. والإلقاء الجيد له أثره في نفوس السامعين؛ إذ يسمو بالشعر إلى أرقى الدرجات، كما أن سوء الإلقاء قد يخفض من قدر الشعر الجيد؛ لأن الإلقاء عنصر من عناصر الجمال في الشعر، لا يقل أهمية عن ألفاظه ومعانيه وأخيلته. فالشعر تشعر به النفوس ويتغنى به الناس في أعمالهم ومحافلهم، ويرونه فيما بينهم، وفي هذا يقول المتنبي: وَمَا الشِّعْرُ إِلا مِنْ رُوَاةِ قَصَائِدِي ... إذَا قُلْتُ شِعْرًا أَصْبحَ الدَّهرُ مُنْشِدًا فَسَارَ بِه مَنْ لا يَسِيرُ مُشَمّرًا ... وغَنَّى بِه مَنْ لا يُغَنِّي مُغَرِّدًا   1 الشعراء وإنشاد الشعر: علي الجندي، ص: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 عذوبة النغم إلقاء الشعر يتطلب الإحساس بما في الشعر من موسيقى تنبع من الوزن، فللوزن قيمة كبرى في الشعر حتى عد أهم فارق بينه وبين النثر، والشعر يحلو بالموسيقى الجيدة، ويضعف شأنه إذا كانت موسيقاه غير جيدة؛ فلابد من الإحساس بنوع الموسيقى الشعرية وتنوعها ووجه ارتباطها بالمعنى حين تلقى قصيدة ما. وجه الشبه بين الشعر والموسيقى يتجلى في: أن كلا من الموسيقى والأوزان الشعرية تتنوع أنواعًا أربعة: فالصوت يختلف عن الصوت بالطول والقصر، وأنه غليظ أو رقيق، وأنه مرتفع أو منخفض، وأنه يختلف باختلاف مصدر الصوت كعود أو قانون أو كمان، وكأوتار العود المختلفة وهذه الاختلافات الأربعة يمكن أن نراعيها في الشعر فمن النوع الأول اختلاف التفاعيل والبحور طولا وقصرًا، والحركات السكنات في متفاعلن أطول منها في مستفعلن؛ فالطويل أطول في التفاعيل من الهزج مثلا، وهذا الاختلاف له تأثير في الأذن الموسيقية والرقة ممكن أن تقابلهما بما في الشعر من حروف ضخمة، وتراكيب قوية أو حروف لينة رخوة وتراكيب ناعمة، ونرى الشعر من جهة ثالثة منه ما يتناسب مع الهدوء والسكينة، ويناسبه إنشاده في هدوء ورقة، كشعر الغزل ونحوه، ومنه ما يناسبه الشدة والبطش كشعر الحماسة، ومن ناحية رابعة نلاحظ في الموسيقى أن النغمة الواحدة إذا وقعت على الكمان ثم وقعت بنفسها على البيان كانت النغمتان مختلفتين أو على الأقل لكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 منها طعم غير طعم الأخرى، وهذا يقابله في الشعر القافية، فالقصيدتان قد تكونان في موضوع واحد ومن بحر واحد، ولكنهما تختلفان في القافية، فتختلفان في درلجة التأثير، وكذلك أنواع المحسنات البديعية، فنوع من البديع يكون ذا أثر أكثر من نوع آخر وهكذا 1. ومما يزيد في حسن الشعر ويمكِّن له حلاوة في الصدر حلاوة النغمة2، بل إنها مما يضفي على إلقاء الشعر أناقة وبراعة وطرافة، فعذوبة النغم لابد من مراعاتها ليزداد بها الشعر حسنًا في حال إنشاده كما أنها تضفي على الإنشاد نفسه أناقة وبراعة وطرافة، فتتلقاه النفوس، وتنشرح له الصدور والعواطف والوجدان وتحس له بشاشة وحلاوة، بفضل ما فيه من نغم حلو. وللشعر نواحٍ عدة للجمال أسرعها إلى نفوسنا ما فيه من جرس الألفاظ وانسجام في توالي المقاطع وتردد بعضها بعد قدر معين منها، وكل هذا هو ما نسميه بموسيقى الشعر3، ومن المعروف أن لجرس الألفاظ ضوابط ينبغي أن يحافظ عليها من يلقي قصيدة من الشعر حتى تطرب الأسماع وتوافق المقاطع في نسجه وفي معناه. وإذا سيطر النغم الشعري على السامع وجدنا إحساسًا مماثلا عنه وانفعالا في صورة البهجة أو الحزن أو الحماس وقد يصحب ذلك هزات جسمانية لإنشاد الشعر وسماعه، وقد تكون هزات جسمانية معبرة ومنتظمة.   1 النقد الأدبي: أحمد أمين، ص: 87- 89. 2 نقد النثر: ابن قدامة، ص: 90. 3 موسيقى الشعر: دكتور إبراهيم أنيس، ص: 6، 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الصوت المسموع: القراءة بصوت مسموع تساعد على إدراك النغمة الموسيقية في الشعر وتساعد على التدريب على الإلقاء وتساعد على قرض الشعر، والأداء السليم له؛ وذلك لأن القارئ الآخذ بحظ من الآداب لا تكاد تمتعه قراءة الشعر إلا بصوت مسموع؛ ليشرك أذنه مع قلبه في هذه البهجة الفائقة، على أن الشاعر كما أعرف من تجاربي وتجارب غيري -إذا استعصى عليه الاسترسال في قرض الشعر- شرع في التغني والترنم، فسرعان ما تهتز نفسه من داخلها فيتدفق عليه القول1. والكلام الموزون ذو النغم الموسيقي يثير فينا انتباها عجيبًا وذلك لما فيه من توقع لمقاطع خاصة تنسجم مع ما نسمع من مقاطع لتتكون منها تلك السلسلة المتصلة الحلقات التي لا تنبو إحدى حلقاتها عن مقاييس الأخرى، والتي تنتهي بعد عدد معين من المقاطع بأصوات بعينها نسميها القافية، فهي كالعقد المنظوم تتخذ الخرزة من خرزاته في موضع ما، شكل خاصًّا وحجمًا خاصًّا ولونًا خاصًّا، فإذا اختلفت في شيء من هذا أصبحت نابية غير منسجمة مع نظام هذا العقد2. الشعر يثير المشاعر: وعلى من يلقي الشعر أن يتذكر أن الشعر بما فيه من خصائص بأوزانه وقوافيه، وبما يتخيرون من ألفاظ تكون أثبت على إثارة المشاعر، وكذلك حين نضعها في قوالب خاصة نميزها من القوالب العديدة والتراكيب اللغوية المختلفة.   1 الشعراء وإنشاد الشعر: علي الجندي، ص: 33. 2 موسيقى الشعر: د. إبراهيم أنيس، ص: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 لأن الشعر يخاطب العواطف مباشرة؛ وذلك لما عند الشاعر من قوة إلهام، وقد يشمل الكلام المنثور على نوع من الموسيقى نشعر بعه عند الإلقاء من توالي النغمات الصوتية المتجانسة تنتهي بها فقرات تعرف بالسجع، وخاصة عندما يلتزم فيها طول معين متتابع، ولكن هذا النوع من الموسيقى يكاد يكون محدودًا في النثر إذا قيس بما يوجد في الشعر، إذ إن موسيقى الشعر من أرق الصور الموسيقية للكلام، ونظامها لا يمكن الخروج عنه حتى يأتي في نظام من التراكيب منجسم الأجزاء. بما أن الشعر هو الكلام الموزون المقفى المعبر عن الأخيلة البديعية الصور المؤثرة البليغة، وهو أيضًا يخاطب الوجدان، لذلك فإنه يحتاج إلى إلقاء خاص يميزه عن غيره من الإلقاءات. وإلقاء الشعر بطبيعته يحتاج إلى ملقٍ متمرس، ولابد له من أن يفهم معنى القصيدة كاملا ويحيط برويها وبحرها وكلماتهاومفرداتها ومعانيها، بمعنى أنه يجب على من يلقي الشعر أن يكون ملمًّا بفهم القصيدة والمناسبة التي ألقيت فيها، فالشعر تختلف معانيه، فإلقاء القصيدة في الرثاء على خلاف إلقاء قصيدة في الحكمة والنظر إلى هاتين القصيدتين كدليلين على ذلك، يقول البارودي في رثاء زوجته: يا دَهْرُ فِيمَ فَجَعْتَنِي بِحَلِيلَةٍ ... كَانَتْ خُلاصَةَ عُدَّتِي وَعَتَادِي إِنْ كُنْتَ لَمْ تَرْحَمْ ضَنَايَ لِبُعْدِهَا ... أَفَلا رَحِمْتَ مِنَ الأَسى أَوْلادِي ولننظر أيضًا إلى قصيدة أبي العلاء المعري التي يقول فيها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْ ... بَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ ال ... أرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْ ... دُ هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ ولو نظرنا إلى هذه القصيدة في الغزل: وَدَّعَ الصَبرَ مُحِبٌّ وَدَّعَك ... ذائِعٌ مِن سِرِّهِ ما اِستَودَعَك يا أَخا البَدرِ سَناءً وَسَناً ... رَحِمَ اللَهُ زَماناً أَطلَعَك إِن يَطُل بَعدَكَ لَيلي فَلَكَم ... بِتُّ أَشكو قِصَرَ اللَيلِ مَعَك فالشعر بطبيعته يختلف في إلقائه وذلك حسب ما تمثله مناسبة القصيدة وحسب ما تحمله من العبارات والجمل والأخيلة والصور البديعية التي تضفي على القصيدة ثوبًا من الجمال، ويزيد جمالها لو ألقاها أحد الملقين المتمرسين وأعطاها حق إلقائها من النبر والوقف والتقطيع وراعى في كل أبياتها حركة حرف الروي. وتختلف النغمة الموسيقية في الإنشاد وفقًا لاختلاف المعنى، فالاستفهام له نغمة تختلف عن نغمة التعجب وكذلك الإنكار، فإلقاء الشعر يراعى فيه المعنى، بل ينبغي أن تكيف النغمة وفقًا لطبعية المعنى في البيت الواحد أو في مجموعة من الأبيات، وينبغي أن ينوع في صعود النغمة وهبوطها حتى ينتهي المعنى وقد هبط الصوت إشعارًا بانتهاء المعنى، وقد تقسم القصائد إلى مقاطع كل مقطع يشمل على مجموعة من الأبيات يمكن أن تستقل كل منها بمعنى، وقد يتكون المقطع من بيتين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر، وينشد الملقي المقطع وفق النغمة التي تؤدي المعنى حتى نهاية المقطع ويتوقف عن الإلقاء قليلا ليوحي للسامع أن المعنى قد انتهى، فتستريح أذنه لتنتبه إلى المعنى الثاني للمقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الذي يليه، وقد يحتاج المعنى الواحد في المقطع إلى التنوع في النغم والهبوط والصعود بالصوت وفقًا للمعنى المراد، كما أن الشعر ينقسم إلى شعر قصصي، وشعر تمثيلي، وشعر غنائي، وشعر تعليمي، وشعر الطبيعة، وشعر الإنسانية. وفي كل هذه الأقسام يجب أن تكون هناك ملاءمة به بين الفكرة والتعبير عنها، فإلقاء كل قسم من هذه الأقسام يتميز بما يناسبه من الأداء الذي يتمشى مع الفكرة وما يراد منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 النبر في الشعر نبر الشعر يخضع لنفس القواعد التي يخضع لها النثر، غير أنه حين تلقي الشعر تزيد من الضغط على المقاطع المنبورة، وبذلك يطول زمن النطق بالبيت من الشعر فالمرء عادة يستغرق في إنشاد بيت من البحر الطويل ما يقرب من عشر ثوانٍ، في حين أنه إذا قرأه كما يقرأ النثير ينقص هذا الزمن إلى ما يقرب من ثلثه أو نصفه، ويظهر طول المقطع المنبور في الشعر عنه في النثر بصورة أوضح إذا اشتمل على حرف مد، ففي قول المتنبي: بادٍ هَواكَ صَبَرتَ أَم لَم تَصبِرا ... وَبُكاكَ إِن لَم يَجرِ دَمعُكَ أَو جَرى نلحظ أننا عند إنشاد هذا البيت، نطيل ألف المد في كلمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 باد، وهواك، وبكاك، وهي في كل كلمة من هذه الكلمات موضع النبر أكثر من قدرها حين تقع في كلام منثور أو حين يقرأ البيت كما يقرأ النثر1. الصنعة الشعرية: والإحساس بالصنعة الشعرية تعين على الإلقاء الجيد والأداء الواعي لطبيعة هذا الفن وما فيه من صناعة ينبغي إظهارها، وتشمل الصنعة الشعرية الوزن والقافية والأسلوب الشعري. فالوزن في الشعر العربي هو ما يسمى بالبحور، ونظام المقاطع وتتابعها وترتيبها هو ما يسمى بالتفاعيل، وللوزن علاقة كبيرة بالموضوع، فمن الموضوعات ما يناسبه البحر الطويل، ومنها ما يناسبه البحر الخفيف وهكذا. أما القافية فعامل له أثره في الشعر فهي تزيد في موسيقاه ولذلك تزيد النغمة فيه، إن الشاعر يخاطب مباشرة المشاعر التي في نفوسنا، وإن استمتاعنا الحقيقي بالشعر يتوقف على حدة إدراكنا الخيالي واستجابتنا للعاطفة الشعرية، وإدراكنا لما فيه من صنعة تكمن في التصريع وحسن المطلع والمقطع. التصريع في قصائد الإنشاد: يقع التصريع في أثناء القصيدة بعد التصريع في أولها وهو دليل على قدرة الشاعر وسعة بحره وقوة طبعه، وأكثر الشعراء ولوعًا بذلك امرؤ القيس الذي قال:   1 موسيقى الشعر: د. إبراهيم أنيس، ص: 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِل ... بِسِقطِ اللِّوى بَينَ الدَّخولِ فَحَومَلِ ثم قال: أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَّويلُ أَلا اِنجَلي ... بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ والتصريع في حقيقة ليس إلا ضرب من الموازنة والتعادل بين العروض والضرب يتولد منه جرس موسيقى. وهو لذلك من أمس الحلى البديعية بالشعر، وأقربها إليه نسبيًّا وأوثقها به صلة وإنك لتهش لقول المتنبي إذا يقول: مَغاني الشَّعبِ طيبًا في المَغاني ... بِمَنزِلَةِ الرَّبيعِ مِنَ الزَمانِ فهذا التصريع الذي يشبه مقدمة موسيقية خفيفة قصيرة تلهب إحساسنا وتهيئنا لاستماع قصيدته وتدلنا على القافية التي اختارها، وتدل على براعة المطلع، وبراعة الاستهلال وقد كان ابن العميد يقول: إن حسن الشعر في المطلع والمقطع. حسن المطلع: فأما حسن الابتداء، فهو أول ما يقرع أذن السامع، فينشرح له صدره وتهتز له نفسه ويشعر له بأريحية وبهجة فيتشوق لما يأتي بعده وينساق إلى الإصغاء إليه طواعية واختيارًا، ولاسيما إذا كان الافتتاح مصورًا لجو القصيدة مترجمًا عنها، وقد أحسن من يلقيه أداءه، وأحس بما فيه من روعة وبراعة في الاستهلال. ومن المطلع الحسن قول امرئ القيس: قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِل ... بِسِقطِ اللِّوى بَينَ الدَّخولِ فَحَومَلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وهو كما ذكر الأقدمون أفضل ابتداء صنعة شاعر، وكان أبو تمام فخم الابتداء له روعة وعليه أبهة والغالب عليه نحت اللفظ وجهارة الابتداء كقوله: الحَقُّ أَبلَجُ وَالسُّيوفُ عَوارٍ ... فَحَذارِ مِن أَسَدِ العَرينِ حَذارِ والشعراء في كل ذلك لا يخاطبون الناس أنفسهم بطريق التجريد المعروف عند البلغاء، والمخاطبون يعرفون ذلك تمام المعرفة ولكنهم لا يستطيعون احتمال هذه المواجهة. حسن المقطع: أن يراعي الملقي حسن المقطع ويسمي أيضا حسن الخاتمة- أي ختام القصيدة- فإنه لا يقل أهمية عن المطلع بل ربما فاقه؛ لأن به يكون الحكم على القصيدة، وهو أشبه بالحلواء التي يختم بها الطعام. اختيار البحور المناسبة: لا ريب أن لبحور الشعر وأوزانه أثر في الإلقاء وقوة الأداء وموسيقى العبارة، وكان ابن العميد يرى أن علي الشاعر أن يتخير للمعنى الذي اعتمده وقصده أحسن وزن يلائمه وأحسن قافية له؛ ذلك حتى يتفق مع طبيعة صوته ومقدرته على الأداء، ولذا ينصح بعضهم من يلقي الشعر: أن يختار البحور التي توائم صوته قوة وضعفًا، فالشاعر الطاعن في السن والشاعر الضعيف الجسم والشاعر الخفيض الصوت، والشاعر المريض بأمراض الصدر كالربو والنزلات الشعبية وغيرها، يعجزهم أن ينشدوا من البحر الطويل أو البحر البسيط لطولهما الذي يجعلها أشبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 شيء بالخطبة حتى ليحتاج المنشد لها أن يلتقط أنفاسه عقب كل بيت1. فإذا نظرنا إلى البحرالطويل والبحر البسيط، فسنرى أنهما أكثر البحور طولا لا يستطيع أن يؤديها أداء حسنا إلا ذو نفس طويل، وصدر قوي عريض وحنجرة ضخمة، تبعا لطبيعة المقاطع الصوتية التي يتكون منها البحر. فالطويل يتكون من: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيل ... فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيل والبحر البسيط يتكون من: مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن ... مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن وخير لمن لم يرزق موهبة الصوت الطويل أن يلجأ إلى البحور المتوسطة الطول: كالكامل والرجز والوافر والخفيف أو القصيرة: كالرمل والمتقارب والمجتث أو المجزوءات. ولا شك أن هناك صلة بين المعاني والأعاريض الشعرية، فمن المعاني ما يحتاج إلى نفس طويل؛ لما يحمل من معانٍ جاءت جياشة، ومنها ما هو رقيق هادئ، أو راقص، فيجب أن يصاغ في التفاعيل التي تناسبه مبنى ومعنى، فالبحر الطويل حين النظر إليه، نرى أنه قد نظم فيه القدماء كثيرا من أشعارهم، فهو يتسع لكثير من المعاني فيصلح للفخر   1 الشعراء وإنشاد الشعر: علي الجندي، ص: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 والحماس والرثاء والوصف والشكوى. وكذلك الكامل يصلح لأكثر الموضوعات وهو في الخبر أجود منه في الإنشاء وأقرب إلى الرقة؛ لذلك يصلح لقص الأخبار والمعاني التقريرية، والخفيف أخف البحور على الطبع وأحلاها للسمع، ويشبه الوافر لينا، ولكنه أكثرسهولة وأقرب انسجاما؛ ولذا إذا جاء نظمه رتبا سهلا ممتعا، لقرب الكلام المنظوم فيه من القول المنثور، في تصريف المعنى. العلة في تسمية البحور: وإذا نظرنا إلى العلة في تسمية البحور ترى أنها لم تأت إلا وهي مشتقة من صفاتها وطبيعتها وإلقائها، فلقد أدرك القدماء ذلك. فحين سأل الأخفش الخليل بن أحمد بعد أن صنع العروض، لم سميت الطويل طويلا؟ قال: لأنه طال بتمام أجزائه. قلت: فالبسيط؟ قال: لأنه انبسط عن مدى الطويل، وجاء وسطه فعلن وآخر فعلن. قلت: فالمديد؟ قال: لتمدد سباعيه حول خماسيه. قلت: فالوافر؟ قال: لوفور أجزائه وتدًا بوتد. قلت: فالكامل؟ قال: لأن فيه ثلاثين حركة، لم تجتمع في غيره من الشعر. قلت: فالهزج؟ قال: لأنه يضطرب، شبه بهزج الصوت. قلت: فالرجز؟ قال: لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة عند القيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 قلت: فالرمل؟ قال: لأنه يشبه برمل الحصير -فصوصها- لضم بعضها إلى بعض. قلت: فالسريع؟ قال: لأنه يسرع على اللسان. قلت: فالمنسرح؟ قال: لانسراحه وسهولته. قلت: فالخفيف؟ قال: لأنه أخف السباعيات. قلت: فالمقتضَب؟ قال: لأنه اقتضب من السريع. قلت: فالمضارع؟ قال: لأنه ضارع المقتضب. قلت: فالمجتث؟ قال: لأنه اجتث أي: قطع من طويل دائرته. قلت: فالمتقارب؟ قال: لتقارب أجزائه، لأنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضًا1.   1العمدة، ص: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 القافية القافية هي عدة أصوات متكررة تكون في أواخر الأشطر أو الأبيات من القصيدة، وتكرارها يعد جزءًا مهمًا من الموسيقى الشعرية فهي بمثابة الفواصل الموسيقية تردادها يعد أساسًا في بناء القصيدة، ويتوقع السامع ترددها ممن يلقي الشعر، ويستمتع بترددها في آذانه في فترات زمنية منتظمة، وعلى قدر الأصوات المكررة تتم موسيقى الشعر وتكمل. والعناية بالقافية في الإلقاء أمر ضروري؛ لأن القافية هي قوام الشعر وملاكه وأظهر سماته وأشرف أجزائه، ولذا نرى العناية بها أمس عند إلقائها وخاصة كلما تطرف الحرف في القافية ازداد به عناية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ومحافظة على حكمه، ولا شك أن العناية في الإلقاء بالقافية له أثره في المحافظة على تلك النغمة التي تتكرر في كل بيت. واختيار القوافي الخفيفة الظل العذبة الرنين المواتية للمعنى تعين على إظهار النغمة الملائمة الخالية من العيوب. وبعض الشعراء يختار القوافي التي فيها مد قبل الروي وبعده، فهذا المد يعطي للمنشد فرصة في استخدام مواهبه الصوتية وتعينه على الإلقاء الجيد. وكانوا يتجنبون الحروف التي تكون نابية في الوزن، ويضيق بها في مجال الكلام عند الوزن، ولذا يقول ابن الأثير: واعلم أنه يجب على الناظم والناثر أن يتجنب ما يضيق به مجال الكلام في بعض الحروف، كالتاء والذال والخاء والشين والصاد والطاء والغين، فإن الحروف الباقية مندوحة عند استعمال ما لا يحسن من هذه الأحرف المشار إليها4. وليس العيب يكمن في هذه الأصوات المذكورة ولكن العيب في نظمها نظمًا يأتي كريهًا في الأذن. وفي ذلك يقول المعري في مقدمة اللزوميات:   1 البيان والتبيين: للجاحظ، ص: 106. 2 العمدة، ص: 99. 3 الخصائص، ص: 85، 86. 4 المثل الثائر: ابن الأثير، ص: 69. والشعراء وإنشاد الشعر: على الجندي، ص: 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 إن المتقدمين قلما ينظمون بالروي حروف المعجم؛ لأن ما روي من شعر امرئ القيس، لا نعلم فيه شيئًا من الطاء والظاء والشين ولا الخاء ونحو ذلك من حروف المعجم، وكذلك ديوان النابغة ليس فيه روي بني على الصاد والضاد والطاء ولا كثير من نظائرهن1. فحالة الشاعر النفسية في الفرح غيرها في الحزن واليأس، ونبضات قلبه حين يتملكه السرور سريعة يكثر عددها في الدقيقة، ولكنها بطيئة حين يستولي عليه الهم والجزع، ولابد أن تتغير نغمة الإنشاد تبعًا للحالة النفسية، فهي عند الفرح والسرور سريعة متلهفة وهي في اليأس والحزن بطيئة حاسمة. والذي يلقي لا يستطيع في النَفَسِ الواحد أن ينطق بمقاطع كثيرة، إلا أن قدرته في هذا محدودة يسيطر عليها ما فيه من حالة نفسية ومعنوية، فحين يكون الإنسان هادئًا يكون أقدر على النطق بمقاطع كثيرة بعضها إثر بعضن دون أن يشوبها اليأس أو إبهام في ألفاظها. وحين يكون متلهفًا سريع التنفس كما هو الحال في الانفعال يكون أقل قدرة على النطق المتوالي للمقاطع والإبانة عنها. الوقف: قراءة الشعر تتطلب مراعاة النغمة الموسيقية والاتصال بين الفقرات.   1 اللزوميات، ص: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ووظيفة إلقاء الشعر تتطلب قراءة تعمل على اتصال كلمات القصيدة الشعرية الواحدة بعضها ببعض اتصالا وثيقًا يتفق مع طبيعة المقاطع والموسيقى الشعرية. فالإنشاد لا يتم بمجرد مراعاة المقاطع والتفاعيل في الوزن أو إعطاء النبر حقه بل لابد من مراعاة النغمة الموسيقية، والإلقاء الجيد للشعر هو الذي يراعي أن الإنشاد لا يتم إلا بمراعاة أوزان التفاعيل ومراعاة النغمة الموسيقية والمعنى حين الوقف. ولذا يراعي عند الابتداء والوقف في البيت الواحد أو القصيدة ككل أن الوقف بالسكون قد يخل بالوزن إذا كان آخر الكلمة ليس ساكنًا وأن يدرك أن تظل النغمة في صعود وهبوط مع انسجام درجة الصعود بالصوت والانخفاض به حيث إذا انتهى المعنى هبط الصوت لدرجة تشعر السامع بانتهائه، وإذا كان للمعنى بقية صعد بالصوت وأشعر السامع بوجوب انتظار بقية المعنى. وعليه كذلك أن يراعي السكنات والوقفات القصيرة التي قد يلجأ إليها لإظهار معنى ما أو جمال لفظ يلفت الانتباه إليه، أو إيضاح معنى دقيق أو كلمة من كلمات البيت. وإن حسن تخير أماكن الوقف والوقفات والسكنات تساعد على توضيح المعنى وانسجام الموسيقى، وإن الإهمال في ذلك أو عدم الاتفاق عليه يؤدي إلى نوع من الاضطراب، ويقول الدكتور إبراهيم أنيس: ولكننا تركنا الأمر فوضى ولم نتخذ للإنشاد طريقًا مرسومًا نتفق عليه جميعًا ونحتذيه دائمًا، مما أدى إلى ذلك الاضطراب في إنشاد معظمنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 للشعر العربي والأزجال العامية، ويندر أن تصادف من المعلمين، بل ولا من المذيعين من يعنون بإنشادهم، وينهجون النهج الصحيح فيه، وقد نشأ في السنين الأخيرة نوع من الإنشاد لا نكاد نشعر فيه بنغم موسيقي، فيه تشتد عناية المنشد بالمعنى وتوضيحه، ضاربًا بالنغم والتوقيع عُرض الحائط، فتراه يحرص على وصل الصفة بموصوفها، أو الفاعل بفعله، أو الجار والمجرور بمتعلقهما، ولو أدى ذلك إلى تشويه في موسيقى البيت، وتقطيع لأوصاله، ولم يقسم القدماء البيت من الشعر إلى شطرين عبسًا أو اعتباطا، وإنما روعي في ذلك ناحية موسيقية خاصة لا تتحقق إنْ نحن وصلنا أحد الشطرين بكل من الشطر الآخر. وضرب ذلك مثلاً من قول حافظ: وَتَوَسَّموهُم في القُيودِ فَقائِلٌ ... هَذا فُلانٌ قَد وَشى بِفُلانِ ويوضح أن هناك من يقرءون هذا البيت ويقفون على كلمة القيود وقفة طويلة كأنما قد انتهى الشطر عندها ثم يبدءون الشطر الثاني بكلمة فقائل ويصلونها به رغبة في الربط بين القول ومقول القول، وما دَرَوا أن الموسيقى حينذ تضطرب في أجزاء البيت وبذلك يكاد يصبح الشعر نثرًا. ويوضح بعد ذلك طريقة الوقف التي تحافظ على المعنى وعلى النغم الموسيقي فيقول: فالوقف على آخر الشطر الأول بالقدر الذي تتطلبه موسيقى الشعر أمر ضروري، وهو ليس ذلك الوقف الذي يهبط عنده الصوت، وإنما هو وقف يصعد معه الصوت؛ ليشعر السامع بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 للكلام بقية1. وصل الأبيات: يجد من يلقي قصيدة أنه يحتاج إلى أن يصل بيتين من أبيات الشعر، فما يكاد ينتهي من نطق البيت الأول حتى نسمعه ينطق بألفاظ البيت الثاني، وقد يكون هذا ميسورًا في المجزوءات في الشعر على أنه يجب أن يدرك أنه من الصعب وصل بيتين من الشعر من البحر الطويل أو البسيط في نفس واحد فهما من أطول البحور نفسًا في الشعر. فسيجد نفسه في حاجة إلى إعادة التنفس بعد كل بيت من هذه الأبيات إن لم يكن في حاجة إلى التنفس في وسط البيت الواحد، مثال ذلك من البحر الطويل: ألا رُبَّ همٍّ يمنعُ النوم دونهُ ... أقامَ كقبضِ الراحتين على الجمرِ وشَوقٍ كأطراف الأسنَّة في الحشا ... ملكتُ عليه طاعةَ الدمعِ أن يجري فإنك إذا حاولت أن تقرأ البيتين دون توقف فستجد صعوبة في ذلك لطول البيت الواحد، وكذلك البحر البسيط لا تستطيع أن تقرأ بيتين معًا مثال ذلك: أَلْبَسَنِي ذِلَّةَ العَبِيد ... مَنْ قَلْبُه صِيغَ مِنْ حَدِيدٍ   1 موسيقى الشعر، ص: 170، 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَنم طَرفِي بِمَا أُلَاقِي ... مِنْ كَمَدٍ دَائِمِ الْمَزِيد حركة الروي: على من يقرأ الشعر أو يلقيه أمام الناس أن يدرك قيمة الروي وحركته إذ يوجد في آخر البيت، بل وفي كل بيت من أبيات القصيدة، فالروي أقل ما يمكن أن يراعى تكرره، وما يجب أن يشترك في كل قوافي القصيدة، ذلك الصوت الذي تبنى عليه الأبيات ويسميه أهل العروض بالروي، فلا يكون الشعر مقفى إلا بأن يشتمل على ذلك الصوت المكرر في أواخر الأبيات، وإذا تكرر وحده ولو يشترك مع غيره من الأصوات عدت القافية حينئذ أصغر صورة ممكنة للقافية الشعرية1. والروي هو صوت تنسب له القصائد أحيانًا فيقال، لامية المتنبي وسينية البحتري وهمزية البوصيري. هذا هو أقل قدر يجب التزامه في أواخر كل بيت في القصيدة وقد يقع حرف المد رويًّا وحرف المد هو أصل من أصول الكلمات وجزء من بيتها ويظهر ذلك في الشعر، ولذا يأتي حرف المد رويًّا في الشعر إذ ختمت بمثل: يسمو، اعتبرت الواو هي الروي وسميت القصيدة واوية، وإذا ختمت بمثل كلمة: يهدي، أصبحت الياء هي الروي، وكذلك إذا ختمت بمثل: عفا، ونا، اعتبر الألف رويًّا. وإذا نظرنا إلى قول الشاعر شوقي في نهج البردة حين يقول:   1 موسيقى الشعر، ص: 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ ... أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً ... يا وَيحَ جَنبِكَ بِالسَهمِ الْمُصيبِ رُمي فقد جمع بين كسرة الروي والياء الأصيلة، واعتبر الياء في كلمة: رمي، تعادل الكسرة في حركة الروي بالكسرة في كلمة: الحرم. فالأذن ألفت أن تسمع بعد الروي شيئًا آخر من حركة يجب الحفاظ عليها. فحركة الروي يجب الحفاظ عليها وقد يجيء الروي في الشعر العربي متحركًا أو ساكنًا. وقسم القدماء القافية إلى قسمين: مطلقة وهي التي يكون فيها الروي متحركًا، ومقيدة: هي التي يكون فيها الروي ساكنًا، وهو قليل في الشعر، أما الروي المتحرك فهو الكثير الشائع في الشعر العربي ويلتزم الشعراء حركته هذه ويراعونها مراعاة تامة لا يحيدون عنها. والالتزام بحركة الروي شيء يلتزم به الشعراء، وكذلك من يقوم بإلقاء الشعر أو إنشاده، ومخالفة ذلك يعد عيبًا، فقد حدثنا أهل العروض أن عدم الالتزام في حركة الروي يسمى إقواء أو إصراف. وذكروا أن بعض الشعراء القدماء قد وقعوا في هذا العيب ويروون في ذلك قصيدة للنابغة الذبياني.   1 موسيقى الشعر، ص: 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أَمِن آلِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغتَدِ ... عَجلانَ ذا زادٍ وَغَيرَ مُزَوَّدِ فقد جعل الكسرة هي حركة الروي في أبيات القصيدة إلا في بيت قال فيه: زَعَمَ البَوارِحُ أَنَّ رِحلَتَنا غَداً ... وَبِذاكَ خَبَّرَنا الغُدافُ الأَسوَدُ فقد جاء الروي بالضم عل الدال في كلمة الأسود باعتبارها صفة للغداف، ويرى الدكتور إبراهيم أنيس أن هذا خطأ يقع من الرواة وعندي أنه لو صحت مثل هذه الرويات، يجب أن تعد خطأ نحويًّا لا خطأ شعريًّا، فالشاعر صاحب الأذن الموسيقية والحريص على موسيقى القافية لا يعقل أن يزل في مثل هذا الواضح الذي يدركه المبتدئون في قول الشعر، بل النابغة وأمثاله من شعراء فحول، والذي أرجحه أن النابغة قد نطق البيت صحيحًا وكسر الدال فيه لينجسم مع باقي أبيات القصيدة من الناحية الموسيقية1. فالبارودي يقول في قصيدته: تَرَحَّلَ مِنْ وَادِي الأَرَاكَةِ بِالْوَجْدِ ... فَبَاتَ سَقِيماً لا يُعِيدُ وَلا يُبْدِي سَقِيماً تَظَلُّ الْعَائِدَاتُ حَوَانِياً ... عَلَيْهِ بِإِشْفَاقٍ وَإِنْ كَانَ لا يُجْدِي يَخَلْنَ بِهِ مَسَّاً أَصَابَ فُؤَادَهُ ... وَلَيْسَ بِهِ مَسٌّ سِوَى حُرَقِ الْوَجْدِ فالروي في هذه القصيدة هو الدال محرك بالكسرة ومسبوق بالسكون وهذا السكون ملتزم في كل القصيدة، فالشاعر قد يسبق   1 موسيقى الشعر، ص: 259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الروي بحركة، وقد يسبقه بسكون، مثل ما حدث في هذه القصيدة والتزام ذلك في الإلقاء أمر ضروري؛ لأنه جزء من الوزن ونظام توالي المقاطع، والتزام الشاعر بحركة بعينها قبل الروي مما يكسب القافية نغمًا موسيقيًا وقد يسبق الروي حركة قصيرة مثل الفتحة أو الكسرة أو الضمة، وقد يسبق الروي حرف من حروف المد أي: حركة طويلة، والالتزام بالقافية الواحدة كانت عادة الشعراء الأقدمين ولا تزال عادة المحدثين منهم، إلا أن بعض الشعراء في العصر العباسي حين ازدهرت ألوان الغناء وتعددت الأنغام، أصبحت تتطلب من الشاعر نوعًا من الشعر تعددت فيه القوافي وتنوعت، وكذلك الأوزان قد تتعدد في القصيدة الواحدة، وظهر ذلك في عصرنا هذا من تنوع القافية والوزن في شعراء المهجر وغيرهم بصورة واضحة. وفي عصرنا هذا قلت بعناية بإلقاء الشعر إلا في القليل من المحافل والجمعيات الأدبية، وقد كان لتدوين الشعر وانتشار القراءة بين الناس أثره مما أفقد إلقاء الشعر شيئًا من جماله، وذلك لأن إلقاء الشعر يبعث فيه حياة ويبعث فيه متعة وحلاوة فلا تكاد الأذن تسمعه حتى تصل حلاوته إلى القلوب. ومن الناس من يقرأ الشعر كما يقرأ النثر غير مدرك لما فيه من متعة وجمال وموسيقى فيفقد الشعر منزلته. وقد عاد للإنشاد شيء كثير من قدره ومنزلته في النفوس منذ انتشار الإذاعة، وأصبحنا الآن نستمع أحيانًا بكل ما في الشعر من عناصر الجمال، وأصبح الشاعر الذي صب في شعره خلاصة روحه يلقي في قلوبنا وأفئدتنا -وهو ينشد علينا هذا الشعر- بعضًا من أحساسيسه الدقيقة وإلهاماته اللطيفة ولم يعد سماع الإنشاد مقصورًا على أولئك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الذين تتاح لهم فرص شهود المحافل والمجامع، بل أصبح مِلْكًا مشاعًا لكل من يرغب في الثقافة الأدبية، ويجد لذة في الشعر كفن من الفنون، وستعود للإنشاد منزلته التي كانت أيام الجاهليين، حين شاعت فيهم الأمية، فانصرفوا إلى الثقافة الأدبية عن طريق الأذن. والأذن هي الوسيلة الطبيعية لكل ثقافة لغوية، بل هي خير وسيلة لإتقان اللغة وإجادتها1. فإلقاء الشعر ينبغي أن تعود له مكانته بين الناس، وأن يعترف الدارس والباحث عل كيفية إلقاء الروي وحركته وطبيعة الوقف في الشعر وكيف أنه يتطلب العناية بأوزان الشعر، وذلك حتى يستطيع أن يتخير مواطن الوقف التي تتناسب مع موسيقى الشعر؛ ذلك لأن المحافظة على المعنى والنغم دليل على حسن الاختيار، وعلى معرفة بطبيعة الشعر وكيفية إلقائه، ودليل على الحس السليم لما في الأبيات من مواطن الجمال في النظم.   1 موسيقى الشعر: د. إبراهيم أنيس، ص: 163، 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فهرس الموضوعات ... الفهرس الفصل الأول: نشأة فن الإلقاء ... ... صلة فن الإلقاء بعلم التجويد ... ........................................... ... 10 الدراسات الحديثة ... ........................................... ... 16 التعريف بفن الإلقاء وعناصره ... ........................................... ... 18 الفصل الثاني: الأصوات اللغوية ... ... كيف يحدث الصوت ... ........................................... ... 25 جهاز النطق ... ........................................... ... 29 مخارج الأصوات، طبيعتها، أنواعها ... ........................................... ... 41 الفصل الثالث: صفات الحروف ... ... الصفات ذوات الأضداد ... ........................................... ... 56 الصفات التي لا ضد لها ... ........................................... ... 62 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الصفات العرضية ... .................................................... ... 67 الإظهار والإدغام ... .................................................... ... 69 المد والقصر ... .................................................... ... 83 الفتح والإمالة ... .................................................... ... 91 الفصل الرابع: عيوب النطق ... ... الخلط بين الأصوات ... .................................................... ... 98 أخطاء السمع ... .................................................... ... 101 عيوب صوتية ... .................................................... ... 104 فن تشكيل الأصوات ... .................................................... ... 111 المقاطع الصوتية ... .................................................... ... 112 الأصوات الساكنة وأصوات اللين ... .................................................... ... 115 الفصل الخامس: الوقف ... ... أهميته ... .................................................... ... 125 التعريف به ... .................................................... ... 127 أقسامه ... .................................................... ... 129 علامة الوقف ... .................................................... ... 138 الوقف على آخر الكلمة ... .................................................... ... 142 همزة الوصل وهمزة القطع ... .................................................... ... 151 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الفصل السادس: إدراك الكلام ... ... أهمية السمع في الإدراك ... .......................................... ... 171 التلوين الصوتي وأثره في الإدراك ... .......................................... ... 173 استخدام مكبر الصوت: الميكرفون ... .......................................... ... 179 اللغة المنطوقة والمكتوبة ... .......................................... ... 192 الفصل السابع: إلقاء الشعر ... ... إلقاء الشاعر قصيدته ... .......................................... ... 197 عذوبة النغم ... .......................................... ... 202 النبر في الشعر ... .......................................... ... 207 القافية ... .......................................... ... 213 فهرس الموضوعات ... .......................................... ... 225 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227