الكتاب: صفحات رمضانية المؤلف: عبد الكريم بن صنيتان العمري الناشر: دار المآثر، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1421هـ/2001م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- صفحات رمضانية عبد الكريم بن صنيتان العمري الكتاب: صفحات رمضانية المؤلف: عبد الكريم بن صنيتان العمري الناشر: دار المآثر، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1421هـ/2001م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] صفحات رمضانية تأليف: د/عبد الكريم بن صنيتان العمري ال مقدمة الحمد لله الذي فضل شهر رمضان على سائر الشهور، وجعل الصيام سببا في تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له الغفور الشكور، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا ونبينا محمد إمام الصائمين، وقائد الغر المحجلين، الذي كان يبشر أصحابه بقدوم رمضان، ويحثهم على الاستعداد لعمل الصالحات وطلب العفو والرضوان، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله تعالى رحيم بعباده، رؤوف بخلقه، شرع لهم مواسم للطاعة، ليمن عليهم بفضله وإحسانه، ومغفرته ورضوانه. ومن تلك المواسم الفاضلة شهر رمضان، الذي يتكرر كل سنة، ويستقبله المسلمون بالفرح والسرور، والاستبشار والحبور، إذ يبعث في نفوسهم حب الطاعة، ويحفزها على كثرة العمل والعبادة، وينبه قلوبهم من إعراضها وغفلتها ويوقظها من سباتها ورقدتها. فهم يترقبون قدومه، وتتهلل وجوههم فرحا بحلوله، إذ هو شهر الصيام والقيام، فيه تضاعف الحسنات، وترفع الدرجات، وتقال العثرات، وتمحى الذنوب والسيئات، فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب الجحيم والنيران ويصفد كل مارد شيطان، قال عليه الصلاة والسلام: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 إن شهر رمضان موسم عظيم يغتنمه عباد الله المخبتون، يزداد فيه إيمانهم، وتعظم خشيتهم لمولاهم، ويقوى إخلاصهم لخالقهم، ولا يفرطون بشيء من أوقاته، ولا يرضون بتضييع لحظة من لحظاته، فهم في عبادة مستمرة، وطاعة دائمة يرجون مغفرة الخالق ورحمته، ومنه عليهم بدخول جنته. ياذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان لقد أظلَّك شهر الصوم بعدهما ... فلا تصيره أيضا شهر عصيان ولتذكير نفسي أولا، ثم إخواني المسلمين بما ينبغي أن نكون عليه، خلال أيام شهر رمضان ولياليه، أعددت هذه الصفحات، وكتبت عليها عددا من النصائح والتوجييات، وأشرث فيها إلى بعض ما يقع من المخالفات، استنبطتها من آيات القرآن العظيم، وحديث سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وكلام أصحابه والتابعين، ومن جاء بعدهم من علماء السلف الكرام الطيبين. سائلا الله تعالى أن يحسن النية والقصد، ويرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، إنه قريب سميع مجيب. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه أفقر العباد إلى الملك الجواد: أبو وائل، عبد الكريم بن صنيتان العمري، المدينة النبوية- ص ب 89 غرة ربيع الأول 1421هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 نعمة بلوغ رمضان ها هو شهر رمضان، أفضل الشهور، قد حط رحاله، وحل بخيراته وبركاته على هذه الأمة كي تغتنم أوقاته بالعبادة والطاعة، وتؤدي ركنا من أركان الإسلام، وتنال بذلك زيادة الحسنات، ورفعة الدرجات، يأنس المسلمون فيه وتسري في نفوسهم محبته، يذكر فيه بعضهم بعضا، فتشيع الرحمة والمودة في قلوبهم، ويظهر أثرها داخل مجتمعاتهم، ويشتد رباط العطف والتآزر بين جميع فئاتهم. إن شهر رمضان يمثل للمؤمنين موسما من أعظم المواسم التي تقوى صلتهم بخالقهم، وتجدد الإيمان في أفئدتهم، ولذلك يفرحون بمقدمه، فهم يرون فيه زمنا يريح عنهم ثقل أوزار اقترفوها في أشهر مرَّت، قد زينت لهم أنفسهم الأمارة بالسوء التكاسل عن الطاعة، والتسويف بالإكثار من العبادة، فما شعروا إلا وهذا الموسم العظيم يوقظهم من سباتهم، ويذكي في قلوبهم الإسراع إلى أماكن، العبادة، والمبادرة إلى سبل الخير وسلوك طريق السعادة. أولئك هم المؤمنون حقا، الذين يفرحون، بمقدم شهر رمضان، فهم يرجون أن يكونوا ممن قال فيهم المصطفى عليه الصلاة والسلام: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه، وهم يشكرون الله تعالى الذي من عليهم ببلوغ هذا الشهر الكريم، وكتب لهم أن يكونوا في عداد الصائمين، فهو شهر يجددون فيه التوبة، ويقطعون العهد بمواصلة الطاعة، ويصطلحون فيه مع سيدهم ومولاهم، رجاء أن يعتقهم من النيران، ويمن عليهم بالمغفرة ودخول الجنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وأما أولئك المفرطون، الذين تشبعت نفوسهم بالمعاصي، وابتعدت عن أعمال الطاعات، وزينت لهم الشياطين أفعالهم، وجالت بهم في ميادين اللهو والغفلة، فهم يرون في شهر الصيام حرمانا من ممارسة تقاليدهم اليومية، ومنعا لهم من ملء بطونهم من الشراب والغذاء، فهم لا يحسون بروحانية الشهر، ولا قيمة هذا الموسم الغالي عند ذوي الهمم العالية، والنفوس الرفيعة، فأولئك اللاهون العابثون لا تتحمل معدة أحدهم جوع النهار، ولا ظمأ الهواجر، وتحدثهم نفوسهم بانتهاك حرمة الشهر، بتناول المفطرات، لكن ليتذكر أولئك، حديث سيد البشر عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: "من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض، لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه" رواه الترمذي، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه هيأة أولئك الذين يفطرون في رمضان بلا عذر، وأطلعه الله على صفة عذابهم، فأخبر أنه سمع أصواتا شديدة، وأقواما معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، وهي تسيل دما، فسأل عنهم، فأخبر بأنهم الذين يفطرون قبل تحلة صومهم". رواه ابن خزيمة وابن حبان. فالله الله، أيها الأخ المسلم، أفتح في بداية هذا الشهر الكريم صفحة جديدة مع خالقك، واشكره أن أنعم عليك فأدركت أول أيام هذا الشهر العظيم، ومنحك فرصة من العمر، وزمنا يمكنك أن تكثر فيه من الطاعات، التي تمحو بها تقصيرك الذي مضى، وأعمالك السيئة التي دعاك إليها الشيطان والهوى، واسأله أن يعينك على فعل الخيرات، وأداء العبادات، ويثبتك بالقول الثابت في الآخرة وفي هذه الحياة، ويرزقك الاستمرار على الأعمال الصالحة حتى الممات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ابتداء صيام رمضان في اليوم الأول من شهر رمضان، من السنة الثانية للهجرة، ابتدأ صيام المسلمين لشهر رمضان، حيث أوجبه الله عليهم، وفرضه وألزمهم به، وأصبح صيامه الركن الرابع من أركان الإسلام. وقد كانت فرضيته في يوم الإتنين الثاني مت شهر شعبان من هذه السنة، أي الثانية للهجرة، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن فُرض الصيام، خرج إلى المسجد، يبشر أصحابه. مما نزل عليه من خير عميم، حيث فُرض عليهم صيام شهر رمضان، وبيَّن لهم فضائل الصيام، وما أعده الله تعالى للصائمين من الأجر العظيم والثواب الجزيل، ووصف شهر رمضان بقوله: "أتاكم شهر رمضان، شهر خير وبركة، يغشاكم الله فيه، فينزل فيه الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء". رواه الطبرانى. وفرض صيام رمضان كان قد شرع بادئ الأمر على التخيير، وكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وفدى، قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [سورة البقرة، آية (184) ] ، وبعد أن توطنت نفوسهم عليه، وتعودوا على الصيام، واطمأنوا إليه، انتفى عنهم التخيير، وألزموا بصيامه {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة، آية (185) ] ، ولم يرتفع الوجوب إلا من عذر، من مرض أو سفر أو نحوهما، على أن يصوم بدل ذلك قضاء فيما بعد. ولما كان الصيام في بداية التشريع يبتدئ بالإمساك عن المفطرات من بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 صلاة العشاء، ويستمر زمن الإمساك طيلة الليل ونهار الغد، حتى تغرب الشمس، وهذه مدة زمنية طويلة، كانت تشق عليهم، وحدث أن أحد الصحابة رضي الله عنهم، كان يعمل في مزرعته نهاره كله، فجاء إلى بيته بعد غروب الشمس، وذهبت زوجته لتأتيه بالإفطار، فغلبته عيناه فنام، فلم يستطع الأكل، وواصل صيامه إلى الغد، ثم أغمي عليه وقت الظهر، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحزن لحاله، وكان يحرم عليهم طيلة رمضان مباشرة النساء، فوقع أحد الصحابة على امرأته، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فاشتد الأمر، فجاءت الرخصة والتخفيف، حيث حدد زمن الصيام من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وأبيح للرجال مباشرة نسائهم في ليالي رمضان من وقت الإفطار حتى زمن الإمساك عند طلوع الفجر، وهكذا كان صيام رمضان تفضلا من الله تعالى على هذه الأمة، التي صامته أول مرة في اليوم الأول من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 البشرى بقدوم رمضان كم هي فرحة المسلم حين يتفضل الله تعالى عليه، ويمن عليه بإدراك شهر الصيام والقيام، لأنه كان ينتظر قدومه بلهف وشوق، إنه يعرف ما أعد الله فيه من الخيرات والبركات، وزيادة الأجور ورفعة الدرجات، ويدرك كرم خالقه جل وعلا وهو يكتب لكثير من عباده العتق من النيران، في شهر رمضان. إن المسلم صدق رسوله الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، حين كان يبشر أصحابه بقدوم رمضان، ويكشف لم عما أعد الله فيه من الثواب لعباده المخبتين الطائعين، "لو يعلم العباد ما في رمضان، لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها". رواه ابن خزيمة. وورد عنه عليه الصلاة والسلام، حديث عدَّه بعض العلماء أصلا في تهنئة الناس بعضهم بعضا ببلوغ شهر رمضان، حين قال صلى الله عليه وسلم: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدَّى فريضة فيما سواه، ومن أدَّى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه". رواه ابن خزيمة وصححه. إنهم يؤمنون بترحيبه عليه الصلاة والسلام، بشهر الخير والإنعام، حين قال: "أتاكم رمضان، سيد الشهور، فمرحبا به وأهلا، جاء شهر الصيام بالبركات، فأكرم به من زائر هو آت". رواه النسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وهم أيضا يقرؤون سيرة أسلافهم الصالحين، حين نُقل عنهم أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، تم يدعونه ستة أشهر أن يتقبَّله منهم، وكان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا. إن بلوغ شهر رمضان، نعمة عظيمة، وفضل من الله الكريم، يمن به على من يشاء من عباده، لتزداد حسناتهم، وتمحى سيئاتهم، وترفع درجاتهم، وتقوى صلتهم. بمولاهم، ليكتب لهم الأجر العظيم، والثواب الجزيل، وينالوا رضاه، وتمتلئَ قلوبهم بخشيته وتقواه، ومما يدل على ذلك ويؤكده، ما ورد في حديت الثلاثة، الذين استشهد منهم اثنان، ثم مات الثالت بعدهما على فراشه، فَرُئِيَ في النوم سابقا لهما، فسئل عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فقال: "أليس صلى بعدهما كذا وكذا صلاة، وأدرك رمضان فصامه، فوالذي نفسي بيده، إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض" رواه أحمد. الله أكبر، كم هي غالية أوقات رمضان، كم هي نفيسة ساعات شهر الصيام، أرأيتم قيمتها ومنزلتها عند الملك العلام، ترى كم أهدرنا من أيام رمضان وساعاته، كم أضعنا في هذا الشهر العظيم من اللحظات، التي لو اغتنمناها لفزنا بنعيم الجنان، تكرما وتفضلا من رب الأرض والسماوات، فبادر أيها المسلم إلى ملئ أوقات شهرك بالعبادة والطاعات. إذا رمضان أتى مقبلا ... فأقبل فبالخير يُستقبل لعلك تخطئه قابلا ... وتأتي بعذر فلا يُقبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 معنى رمضان والصيام في السنة الهجرية القمرية، اثنا عشر شهرا، تبتدئ بالمحرَّم، وتنتهي بشهر ذي الحجة، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [سورة التوبة، آية (36) ] وشهر رمضان، هو الشهر التاسع في ترتيب هذه الأشهر، وهو مشتق من الرمض، والرمضاء، وهي شدة الحر، والرمض: شدة وقع الشمس على الرمل وغيره، وقد ذكرت أسباب عديدة لتسمية هذا الشهر برمضان: منها: أن العرب لما نقلت أسماء الشهور من اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي هي فيها، فوافق تسمية شهر رمضان بهذا الاسم أيام رمض الحر وشدة فسمِّيَ به. وقيل: إن زمن فرضه وتشريعه وافق شدة الحر فسمي به أيضا، وقال بعضهم: إنه اسم وضع لغير معنى. وعلل بعضهم هذه التسمية بخاصية رمضان، فإنه يرمض الذنوب ويحرقها، فلا يُبقي منها شيئا، وروي هذا عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره، وجاء حديث بهذا المعنى ولا يصح. ويجمع على: رماضانات، ورماضين، وأرمضاء، وأرمضة، وأرمض. وقد تعددت أسماء شهر رمضان عند المسلمين، لما له من مكانة خاصة، وقُدْسِيَّة عظيمة في نفوسهم، لما يرجون فيه من الأجر والثواب، من المتفضل الوهاب، فهو شهر الصيام، وشهر الصبر، وشهر العتق من النيران، وشهر القيام، وشهر الإحسان، وشهر إجابة الدعاء، وشهر الخيرات، وشهر الجود، وشهر الرحمة، وشهر المغفرة، وشهر المواساة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ودخول شهر رمضان، يوجب على المسلم البالغ العاقل المقيم الخالي من الموانع أن يمسك في نهاره من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس عن المفطرات كلها، وهذا يسمى بالصيام، فالصيام في اللغة، الإمساك عن الشيء وتركه، ومنه قول النابغة الذبيانيّ: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجما والمراد بالصائمة: الممسكة عن الصهيل. ومن هذا، اشتق معنى الإمساك عن الكلام، قال تعالى:- حكاية عن مريم عليها السلام- {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [سورة مريم، آية (26) ] أي نذرت صمتا وإمساكا عن الكلام فلن أنطق بأي كلام، ويؤيده قراءة أبَيٍّ رضي الله عنه: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً صَمتاً} بالجمع بين اللفظين، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ. صَمتاً} والمسلم في صيامه مأمور بالإمساك عن المفطرات الحسية، وكذلك منهي عن النطق والكلام والتفوه بكل ما يخدش صومه، أو من شأنه أن يقلل أجر صيامه أو ينقصه، من سائر أنواع الكلام المحرم والمنهي عنه، كالكذب، والسباب والشتم، والغيبة والنميمة، والفحش في القول، والمراء والجدال الذي يا يترتب عليه إلا الحطُّ من حسناته، وزيادة سيئاته، لذلك فإن الصوم عن الكلام الرديء، من الأمور الأساسية التي أمر بها الصائم، حتى لا يؤدِّي كلامه هذا إلى النفور، الموصل إلى الفسق والفجور، فصوم الأتقياء، الذين ينشدون الكمال في صيامهم، وتشرئب أعناقهم إلى الوصول إلى الدرجات العليا للصائمين، هو أن لا يكون صمتهم إلا فكرا، ولا كلامهم ونطقهم إلا قرأءة وذكرا، واعتافا بفضل الخالق وشكرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 من فضائل الصيام شهر رمضان، موسم عظيم فاضل للطاعة، ووقته محدود، فجدير بالمسلم أن لا يفوّتَ شيئا من لحظاته، إلا وهو في قربة لخالقه تزيد في حسناته، وما أجمل الطاعة في كل وقت، ولكنها في رمضان تفضل على الطاعات في الأوقات الأخرى، كيف لا، ونحن جميعا نعرف الخصائص التي ميّز الله بها هذا الشهر عن غيره من شهور العام، وها هو المصطفى عليه الصلاة والسلام، يوضح لأمته أنها سَمَت على غيرها من الأمم، فوهبت خصائص هذا الشهر الكريم، فاقت بها غيرها من الأمم السابقة، روى أبو هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطيت أمتي خمس خصال في رمضان، لم تعطهن أمة قبلهم، خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا، ويُزَيَّن الله عز وجل كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عباديَ الصالحون، أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك، وتُصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل يا رسول الله: أهي ليلة القدرا؟، قال: لا، ولكن العامل إنما يوفَّى أجره إذا قضىعمله". رواه أحمد والنبيهقي. ما أعظم هذه الخصائص، وما أكثر ما فضل الله به هذه الأمة على غيرها؟ عباد الله المخلصون تقوى عزائمهم، وتنشط قواهم، وتتحفز هممهم للطاعة، فهم يتسابقون إلى ميادين الطاعات، فالمؤمنون يزداد إيمانهم، والمنافقون تتضاعف حسراتهم، روى ابن خزيمة في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام، قال: "أَظَلََّكُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 شهركم هذا بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما مرَّ بالمسلمين شهر خير لهم منه، ولا مرّ بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يدخله، وذلك أن المؤمن يُعِدُّ فيه القوت من النفقة للعبادة، ويُعِدُّ فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين، واتباع عوراتهم، فهو غُنم يغنمه المؤمن". وهكذا فإن المؤمنين يتلذذون فيه بطاعة ربهم، ورد عن بعض السلف قال: "بلغنا أنه يوضع للصوام مائدة يأكلون عليها، والناس في الحساب، فيقولون: يا رب، نحن نحاسب وهم يأكلون، فيقال: إنهم طالما صاموا وأفطرتم، وقاموا ونمتم". وقال مكحول: "يفوح من أهل الجنة رائحة، فيقولون: ربنا، ما وجدنا ريحا منذ دخلنا الجنة، أطيب من هذه الريح، فيقال: هذه رائحة أفواه الصوَّام. حريٌّ بكل واحد منا أن يضاعف طاعته لله، ويكثر من كل ما يقربه لمولاه، فقد كان الأخيار السالفون، يداومون على صيام النافلة، ولا يخصون الصيام بشهر رمضان فقط، ورد أن قوما من السلف باعوا جارية لهم، فلما قرُب شهر رمضان، رأتهم يستعدون له بأنواع الأطعمة، فسألتهم عن ذلك، فقالوا: نستعد لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لاتصومون إلا رمضان، لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان، رُدُّوني عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 صلاة التراويح شهر رمضان، شهر يضاعف فيه المسلمون أعمالهم الصالحة، ويغتنمون أوقاته الثمينة، ليفوزوا بالدرجات العالية، ويَحْظَوْا برضوان الله تعالى. ومن الأعمال التي يحرص المسلم عليها في هذا الشهر الكريم، صلاة التراويح، التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغب فيها، وهي من قيام الليل، الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم فضله، وجزيل توابه بقوله: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". رواه البخاري ومسلم. وفي بداية الأمر صلى عليه الصلاة والسلام بأصحابه- رضي الله عنهم- في بعض الليالي، ثم ترك ذلك، وأوضح أنه خشي أن تفرض على الأمة فلا تقدر عليها، روت عائشة رضي الله عنها، قالت: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ذات ليلة، وصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس واجتمعوا، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: "أما إنه لم يخف علي صنيعكم البارحة، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أبي ذز رضي الله عنه، قال: "صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان، فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسب له قيام ليلة". رواه أبو داود. ثم اختلف العلماء بعد ذلك في عدد ركعاتها، لكن ينبغي للمسلم أن يواظب على صلاتها مع الإمام، وأن يحرص على عدم التخلف عن جماعة المسلمين، فإنه إذا تذكر ثوابها وفضلها وما أعده الله تعالى لمن يقوم الليل، جاهد نفسه على أدائها طلبا للمثوبة والأجر. وليخلص لله في صلاته، وليكن قصده وجه الله تعالى، فإن الإخلاص أحد شرطي العمل الصالح: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة النبينة، آية (5) ]- وأن يطهر قلبه من السمعة والرياء، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: "من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه". واه مسلم. فصلاته للتراويح، إنما هو إيمان بما أعده الله تعالى من الأجر، واحتساب للدرجات الرفيعة التي يأمل أن يكون من أهلها، وما أجمل أن يجاهد المرء نفسه، ويرغمها على مخالطة الصالحين، ويبعد عنها الكسل والخمول {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت، آية (69) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 تدريب الأطفال على الصيام من شروط وجوب الصيام البلوغ، لأن الصغير غير مكلَّف، فهو ممن سقط عنه التكليف، لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق". رواه أحمد. ويكون بالغا إذا أتم خمسة عشر عاما، أو احتلم، أو أنبت الشعر، وتزيد الأنثى بالحيض، وإذا كان الصيام لا يحب على الصغير حتى يبلغ فإنه ينبغي للوالدين الحرص على تدريبهم عليه، وتعويدهم على الإمساك عن الطعام والشراب في نهار رمضان، وليكن ذلك بشكل تدريجي، فمثلا في أول يوم يُبْدَأُ فيه بتعويده على الصيام، يؤخر إفطاره إلى وقت الضحى، وفي اليوم الثاني إلى الظهر، وفي الثالث لا يعطى من الطعام شيئا حتى يؤذن العصر، وهكذا حتى يتمرن على الصيام شيئا فشيئا، ولا يبدأ. بمنعه عن تناول المفطرات من أول مرة مدة يوم كامل، فإن ذلك يكون شاقا عليه، وقد لا تحصل الفائدة المرجوة التي يهدف الوالدان إلى تحقيقها. وليس ما ذكر من هذه الطريقة صياما شرعيا، لكنه تعويد عليه حتى يحبَّه، ويألف هذه العبادة، فإذا ما وصل سن البلوغ لم يجد صعوبة في الصيام، لأنه عُوِّدَ عليه منذ صغره. وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون مع أبنائهم، فقد كانوا يعلمونهم الصيام ويدربونهم عليه من صغرهم، ففي صحيح البخاري، عن الرُّبيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 بنت معوذ رضي الله عنها أنها قالت: "كنا نُصَوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، أي الصوف، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يأتي موعد الإفطار". ومما يدل على أنهم كانوا يصومون أبناءهم، ما ورد "أن عمر رضي الله عنه أتي برجل شرب الخمر في رمضان، فوبخه، وقال له: كيف تفطر وصبياننا صيام، ثم أمر به وجلده ثمانين سوطا". إن تعويد الأطفال على الصيام، ربط، لهم بالشعائر الدينية منذ الصغر، حتى إذا وجبت عليهم ألفوها ولم يستنكروها، وتكون قلوبهم قريبة من أجواء العبادة، على مسمع منها، يحسون بروحانيتها، فالأطفال قد ولدوا على الفطرة، وآباؤهم هم الذين يغرسون في أفئدتهم الغَضَّة حب الخير، وحب الطاعة والعبادة، من خلال تصرفاتهم أمامهم، وتوجيهاتهم لهم، فإن الطفل كالجهاز اللاقط، يقلد كل ما يفعل أمامه، ويثبت في فكره وخياله، فهو يحاكي أباه في أفعاله فتراه يتوضأ مثل أبيه، ويصلي مثله، ويعمل كعمله، وإن كان لا يدرك الهدف من ذلك، والعكس تماما فهو إذا لم يتعود على رؤية شيء من العبادات أمامه فإنه ينشأ خاليَ الوفاض، فالوالدان ينبغي أن يكونا قدوة للأبناء في السلوك والتعامل، وقبل ذلك في العبادة، فينبغي ربطهم بكتاب الله تعالى، وبالشعائر الدينية، والأخلاق الفاضلة، وتوجيههم إلى كل ما يؤدي إلى ربطهم وبالدين والتعلق بمعالي الأمور، وحميد الأخلاق، وعظيم الفضائل، والبعد عن سفاسف الأمور، وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ماكان عوَّده أبوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فوائد الإفطار على الرطب ... فوائد الإفطار في رمضان من السنن التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم في رمضان، إفطاره على الرطب أو التمر، فإن ذلك كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم، قال أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه أسلم يفطر قبل أن يُصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء". رواه أبو داود. وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة، فإن لم يجد تمرا فالماء، فإنه طهور". رواه الترمذي. لقد ارتبط شهر رمضان بالرطب والتمر على مر العصور، فنجد أن الناس يستعدُّون مبكرين عند موسم جذاذ النخيل، فيحتاطون بكميَّات من التمور يحتفظون بها لشهر الصيام، وقلما تجد أحدا من الناس لا يتوفر عنده التمر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: "بيت لا تمر فيه أهله جياع" رواه مسلم. يوضح الأطباء بعضا من أسرار الهدي النبوي في الحث على الإفطار على الرطب أو التمر، إذ يذكرون أن الأمعاء تمتص المواد السكرية الذاتية، في أقل من خمس دقائق، فيرتوي الجسم، وتزول أعراض نقص السكر والماء فيه، لأن سكر الدم ينخفض أثناء الصوم، فيؤدِّي إلى الشعور بالجوع وإلى بعض التوترات، أحيانا، وهذا سرعان ما يزول بتناول المواد السكرية، ويحتوي التمر على نسبة تصل إلى سبعين في المائة من المواد السكرية، ومعظمها من نوع السكر سهل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الهضم والاحتراق، الذي تتولد عنه طاقة. عالية، دون أن يتكلف الجسم عناء شديدا في تحويلها أو هضمها، كما يحتوي التمر على معادن أخرى هامَّة لها قيمتها الغذائية التي لا يستغني عنها جسم الإنسان. كما يذكر الأطباء أن الرطب والتمور تحتوي على نسبة من الدهون النباتية، تكفي لمعظم مطالب الجسم، وفي الوقت نفسه تسهم في خفض الوزن، إذ تعين الصائم على سحب الدهون المتراكمة من تحت الجلد وإحراقها لتوليد الطاقة. وللرطب والتمر فوائد أخرى عديدة، ولا ننسى قصة ولادة مريم لعيسى عليهما السلام: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [سورة مريم، الآيتان (25- 26) ] ولا يزال التمر أهم غذاء الإنسان، وقد كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يكثر من أكله، بل إنه كان غالب طعامه، حين سئلت عائشة عن ذلك، فأخبرت أن أكثر ما في بيته الأسودان، التمر والماء. فللرطب والتمور فوائد عديدة، ومنافع كثيرة، لا تجتمع في الأطعمة الأخرى، لذلك فإنه يوفر للصائم ما يحتاجه جسمه من حيوية ونشاط وقت إفطاره، فينبغي لكل صائم أن يحرص على ابتداء إفطاره على الرطب، فإن لم يجد فعلى التمر، ليطبق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتبع هديه الشامل لكل شيء، ومن ذلك ترغيبه بالإفطار على الرطب أو التمر: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [سورة الأحزاب، آية (21) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 السواك للصائم السواك سنة من سنن المصطفى عليه الصلاة والمسلام، التي حث عليها، وأكد على فعلها، وداوم على ملازمتها في كل وقت وحين، ورغب فيها بقوله صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب" رواه أحمد. فهو بالإضافة إلى أنه أداة لتنظيف الفم وتطهير الأسنان، مما يكون قد علِق بها من الأطعمة، فإنه موجب لمرضاة الباري جل وعلا، لأن النظافة مطلب ضروري دعا إليه الإسلام، وحث أفراده على التنظيف في جميع أحوالهم. وقد دلَّت السنة على تأكيد الاستياك في عدة مواضع، منها عند إرادة الوضوء، فهو من سننه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء". رواه البخاري، وكذلك عند الصلاة، وعند القيام من الليل، لما روى حذيفة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك". متفق عليه، وكذا عند قراءة القرآن، وعند تغيَّر رائحة الفم، فهو يعين على إزالة. البقايا التي تتراكم على الأسنان، والتي يؤدِّي بقاؤها إلى انبعاث الروائح الكريهة من الفم، فيتضايق منها الآخرون، وتتأذى منها الملائكة، فيعين السواك على إزالتها وذهابها. وقد كان عليه الصلاة والسلام يتسوك ويحافظ على ذلك حتى في نهار صيامه، وسواء كان ذلك أول النهار أو آخره. فعن عامر بن ربيعة رضي الله عمه قال: "رأيت النبي- صلى الله عليه وسلم- ما لا أحصي يتسوَّك وهو صائم". رواه الترمذي وحسنه، وقال: والعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 على هذا عند أكثر أهل العلم، لم يروْا بأسا بالسواك للصائم، أول النهار وآخره. فدل عمل النبي صلى الله عليه وسلم على مشروعية السواك للصائم في كل وقت. أما تفريش الأسنان، واستعمال المعجون للصائم، فقد ذكر العلماء له حالتين: الأولى: أن يكون المعجون قويا بحيث يصل إلى المعدة ولا يتمكن الإنسان من التحرز منه، ولا يأمن وصوله إلى جوفه، فهذا محذور عليه ولا يجوز استعماله، لأنه يؤدِّي إلى إفساد الصيام، وما أدَّى إلى المحرم فهو محرم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما"، رواه أبو داود وابن حبان، فاستثنى كون الإنسان صائما. أما الحالة الثانية: إن كان يستطيع التحرز من المعجون، ويأمن من نفاذه ووصوله إلى جوفه فلا حرج عليه في استعماله، ولكن الأولى عدم تفريش الأسنان أثناء الصيام، وأن يكتفي باستعمال السواك، إذ لا حرج في استياكه في أي وقت شاء من صيامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بركة السحور عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السحور كله بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" رواه أحمد. إن طعام السحور بالإضافة إلى أنه سنة من سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام، فهو يعين الصائم على صومه، فيقطع نهاره مرتاحا، ويؤدي عمله بنشاط وحيوية، ولذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "استعينوا على صيام النهار بطعام السحر" رواه البيهقي وابن خزيمة. ووقت السحور من نصف الليل، لكن السنة في ذلك، والتوجيه النبوي، يرشد الأمة إلى تأخير السحور، حتى يكون قريبا من أذان الفجر الثاني، بحيث إذا انتهى المتسحر من تناول الطعام لم ينتظر طويلا حتى يؤذن لصلاة الفجر، وقد نقل الصحابة رضي الله عنهم، أن ذلك كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم، قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: "تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة، وكان بين سحوره وأذانه قدر خمسين آية" متفق عليه. ولأن السحور إذا كان قريبا من الأذان، كان عونا ومساعدا على النهوض لأداء صلاة الصبح في المسجد مع جماعة المسلمين؛ كما أن تأخير السحور إلى قرب الأذان يجعل الفترة الزمنية للصيام قصيرة بخلاف ما لو تسحر مبكرا ثم نام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ثم إن التبكير في السحور، وتناوله قبل الفجر بساعة أو أكثر لا يأمن معه أن ينام ويستمر في نومه فلا يستيقظ حتى يخرج وقت صلاة الفجر، ويفوته بذلك خير عظيم. إن من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس تناول السحور في وقت مبكر، تم يعمدون إلى النوم ويواصلون نومهم، ولا ينهضون إلا إذا حان وقت العمل، ويصلون عند ذلك، وهذا خطأ جسيم ترتب عليه التفريط في أشياء كثيرة منها تفويت واجب أداء الصلاة مع جماعة المسلمين في وقتها. ومما يجدر ذكره هنا، أنه ينبغي للمسلم أن لا يدع السحور مطلقا، بل لا بد أن يتناول شيئا تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين قال: "ولو أن يرع أحاكم جرعة ماء" رواه أحد، وامتدح عليه الصلاة والسلام التمر، وحثَّ على أكله في السحر، فقال: "نعم سَحور المؤمن التمر" رواه أبو داود وابن حبان. ويوصي الأطباء المتسحر أن تكون وجبته خفيفة ما أمكن، فلا يأكل طعاما. ثقيلا من شأنه أن يسبب له متاعب في معدته، كما يؤكدون على عدم النوم مباشرة بعد تناول السحور، لأن الجهاز الهضمي يكسل أثناء النوم، فلذلك يجب إعطاؤه فرصة للعمل. ما أجمل عمل المسلم حين يكون منبعثا من اقتدائه بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثره، وتطبيق سنته في جميع أحواله، وفي سائر تصرفاته وأفعاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الإفراط في الشبع روى الترمذي بإسناده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم، لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه". في هذا الحديث يقدم المصطفى عليه الصلاة والسلام وصفة لأمته، تنظم طريقة الأكل، وتوضح المنهج المثالي الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان في تناوله لغذائه، ذلك أن معظم الأمراض تنشأ من المعدة، نتيجة عدم التقيد بنظام أكل معين. فهنا إرشاد منه صلى الله عليه وسلم، بأن لا يبالغ الإنسان في تناول الطعام، ويأكل كل ما أمامه حتى يحشو معدته بالأكل، بل يأكل ولا يملأ بطنه، فإنه إن خالف ذلك وقع فيما لا يُحمد، وقد ورد: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع". فالإنسان مأمور بأن يأكل ويشرب، ليتقوى على العبادة، لكن لا يتناول مقدارا كبيرا يضره، ولا يحتاج إليه، وإلا كان مسرفا في ذلك، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام ما يدل على أن الشره في الأكل، والزيادة فيه على الحد العادي، والحرص على الملذات، وعدم الاكتفاء باليسير من الطعام، أن ذلك ليس من صفات المسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضاف ضيفا كافرا، فأمر عليه الصلاة والسلام بشاة فحلبت، فشرب الرجل حلابها، ثم أخرى فشرب حلابها، حتى شرب حلاب سبع شياة، ثم إن الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الكافر أصبح فأسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاه فشرب حلابها، ثم بأخرى فلم يكمل شرب حلابها، فقال عليه الصلاة والسلام: "المؤمن يشرب في معي واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء"، وفي رواية: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد". رواه البخاري ومسلم. وعند الافطار في هذا الشهر الكريم نلاحظ كيف تنقض بعض الناس على الأطعمة المقدمة على مائدة الإفطار، فيتناول الصائم وقت إفطاره ما أمامه بشرهٍ، ودون تروٍّ أو تريث في الأكل، فما يشعر إلا وقد امتلأت معدته بالطعام، ثم لا يستطيع النهوض ولا القيام، وهذا فيه مخالفة للتوجيه النبوي، إضافة إلى أن فيه إيذاء للآخرين، فإن هذا بعد أن يملأ معدته بالطعام والشراب، ثم يتجه إلى المسجد ليصلي، فإن عملية الهضم في معدته لتلك الأطعمة تبدأ، وتأخذ المعدة بدفع أصوات تخرج من فم الإنسان، وهو ما يعرف بالحشاء، فإذا وقف هذا الذي ملأ معدته في الصف بجوار إخوانه المصلين، بدأت تتدافع من فمه بين الحين والآخر، أصوات تؤذي من بجانبه، وتقزز عند سماعها، وهي حالة يشمئز منها كل إنسان، وصاحبها ممقوت بين الناس، نرى الجميع يتحاشى الوقوف إلى جانبه في الصف، وقد عاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه حين سمع منه ذلك، قال ابن عمر رضي الله عنهما: تجشَّأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "كف عنا جشاءك، كان أكثرهم شبعا في الدنيا، أطولهم جوعا يوم القيامة". رواه الترمذي. إن الاعتدال في الأكل عند الإفطار، أدب من آداب الصيام، كما أن الإكثار والمبالغة في ذلك يضعف المشاعر التي ينبغي أن تصاحب الصائم في هذا الشهر الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 رمضان والمدخنون في شهر رمضان تبرز كثير من المعاني الجليلة للصيام، وتظهر في نفس الصائم معان سامية، تعطي دلالة واضحة، على قوة إيمانه، وصدقه مع خالقه، وإخلاصه في عبادته، فهو يعصم نفسه عن الوقوع في الممنوعات، ويكبح جماح هواها أن تتخطى الحواجر التي أمر بالوقوف عندها، وعدم الاقتراب منها، فإذأ ما دعته إلى تناول شيء من المفطرات، وامتدت يده إلى ما أمامه من الطعام والشراب، هو خالي بنفسه، ليس معه في المكان أحد، ولا تراه عين بشرية، تذكر في لحظته تلك، أن هناك من يراقبه ويراه، في كل سكناته وحركاته، ويطلع على خفاياه وسرائره، وسره وعلانيته، فكف يده عن تناول ما تشتهيه نفسه تنفيذا لأمر الله، وطاعة له، وامتثالا لإيجابه الصيام عليه، فتبرز في هذه اللحظات، قمة الإخلاص في العبادة، لأنه لا يطلع على عمله الا الله، ولذلك كان جزاؤه عظيما، وثوابه عند الله كبيرا، قال تعالى في الحديث القدسي: "إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه وشرابه من، أجلي" متفق عليه، فإذا كان الإيمان الصادق، والإرادة القوية، تمنع النفس من ممارسة شهواتها، وتحول دون وقوعها في المحظورات. فلماذا يصرُّ بعض الصائمين، على الاستمرار في ممارسة عادة التدخين التي ابتلوا بها، فالصائم يمتنع عن الطعام والشراب طيلة نهاره، بعزم قوي، وإرادة نافذة، لكنه ما إن يتناول إفطاره عند غروب الشمس، حتى يعود إلى تعاطي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 التدخين مرة أخرى، بعد أن صبر عنه فترة تزيد على اثني عشرة ساعة، فكان من الأجدر به أن يواصل امتناعه عن التدخين، حتى يتخلص من ملازمته له طوال عمره. يقول الدكتور نجيب الكيلاني: "قرأت بحثا لأحد العلماء يحرم فيه التدخين، وما إن مرت سنوات، وتأكّدت أخطار التدخين، وبين الأطباء أضراره السيئة، التي تصل إلى حد الإصابة بسرطان الرئة وغيره، عندها رأيت كيف التقى عالم الدين بنصوصه وهديه النبوي، مع عالم الدنيا ببحوثه المختبرية، وإحصاءاته وتجاربه، عندئذ تأكد لي، أن الأمر لا يحتاج إلى دليل أقوى من ذلك، إلا بكون ترك التدخين طوال ساعات النهار في رمضان طريقا للقضاء على هذه العادة بعد ما ثبت أن إرادة الإنسان، تلعب دورا أساسيا في ذلك. ويضيف قائلا: إن التدخين يؤدِّي إلى التهاب الشعب الهوائية، والنزلات الشعبية، وضيق التنفس، والسعال المزمن، وتمدد الرئتين، مما يؤثر على القلب، ويصيبه بالتضخم والإجهاد. أيليق بعاقل يدرك هذه الأخطار المحدقة بصحته أن يُصرَّ على ممارسة التدخين؟ إنه نداء إلى أولئك المدخنين الذين أسرفوا على أنفسهم، فأوقعوها أسرى في شراك التدخين، أن يتخذوا قرارا حاسما، يكون هذا الشهر بداية تطبيقه، فيقلعوا عنه، ويحفظوا دينهم وأموالهم وصحَّتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الإسراف في رمضان يقول الله نعالى في كتابه الكريم: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سورة الأعراف، آية (31) ] وقال جل شأنه في وصف عباده: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [سورة الفرقان، آية (67) ] أي إنهم في مأكلهم ومشربهم، وملبسهم ومسكنهم، حالهم وسط في ذلك كله، لا يسرفون ولا يقترون، ولا يضيقون على أنفسهم، وإنما كانوا كذلك لعلمهم أن خالقهم وسيدهم نهاهم عن الإسراف، وحذرهم وبيّن لهم أن التبذير صفة لا تليق بهم، لأن المبذرين إخوان الشياطين، فكانت صفة الاعتدال ملازمة لهم في جميع أحوالهم المعيشية. ولأن نبيهم صلى الله عليه وسلم حذرهم من الإسراف في قوله: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة" رواه أحمد. وإن المتأمل لحال الناس في رمضان، يجد أن كثيرا منهم يخالفون هذا التوجيه الإلهي، والإرشاد النبوي، فترى أن الإسراف يظهر في صور متنوعة، وحالات متعددة، حين تقدم على موائد الإفطار عشرات الأصناف من الأشربة والأطعمة والحلوى والفاكهة، حتى أصبح الإكثار من هذا عادة عند كثير من الناس، بل إن هناك أطعمة لا تعمل إلا في رمضان، حيث أصبحت لها عند الناس خصوصية في هذا الشهر المبارك، تعرف بمأكولات أو أشرية رمضان. وأغلب هذه الأصناف حين تقدم، لا يستهلك منها إلا الشيء اليسير، ويكون مصير الباقي إلى الإتلاف والرمي في صناديق النفايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فبالإضافة إلى أن هذا الاسراف مذموم ومنهي عنه، فإن له جوانب سلبية أخرى عديدة، منها أن هذه الأصناف التي قدمت على مائدة الإفطار، كلفت الكثير من المال، وأثقلت كاهل صاحب المنزل عند شرائها، فكانت سببا في زيادة مصاريفه النقدية في شهر رمضان عنها في بقية الشهور الأخرى، حتى إنها تصل عند بعض الأسر إلى أضعاف المصروف العادي. يضاف إلى ذلك، الأوقات التي أُهدرت في إعداد الأطعمة والأشربة، وتهيئتها، فكم من الساعات مكثت النساء والفتيات في المطابخ وهن يعملن في تجهيز طعام الإفطار، كم من أوقات ثمينة ضاعت عليهن، وكان الأجدر والأولى أن تستغل في الطاعة والعبادة، لأن أوقات رمضان أزمنة ذهبية، لاينبغي أن تفوَّت بسهولة، بل يجب الحرص على اغتنامها واستغلالها بذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، ومطالعة كتب يستفيد منه القارئ. إن أوقات رمضان ينبغي أن تشغل في العبادة، وأن تظهر في حياة المسلم اليومية خصوصية هذا الشهر، فلا يكون حاله في شهر الصيام، كحاله في باقي الأيام، لا يميز بين مواسم العبادة، ولا يحس بالأوقات الفاضلة، بل يستشعر روحانية هذا الشهر بأسمى معانيها، وأعظم مدلولاتها، قال جابر رضي الله عنه: "ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 العمرة في رمضان رمضان شهر مبارك، وموسم عظيم يتنافس فيه المؤمنون، يتقربون فيه بالأعمال الصالحات، يرجون ثواب الله ومغفرته، ويبتهلون إلى الله تعالى أن يفيض عليهم رضوانه ورحمته. وتتنوع فيه الأعمال الصالحة من نافلة وصدقة وصلة، وذكر وتلاوة لكتاب الله تعالى. ومنها الاعتمار في هذا الشهر الكريم، فالعمرة من أفضل ما يتقرب به إلى الله تعال، فإن المسلم إذا أداها بنية صادقة وقصد خالص لله تعالى، وأتم أركانها وواجباتها وشروطها، كانت سببا في مغفرة صغائر ذنوبه، وحط سيئاته، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما" متفق عليه، وحث عليه الصلاة والسلام أمته على الإكثار منها، فقال "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة". رواه ابن خزيمة في صحيحه. والعمرة في شهر رمضان لها مزية خاصة، فإن ثوابها وأجرها أعظم من الثواب والأجر في غيره، فقد روت أم معقل رضي الله عنها، قالت: "لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ورجع منها، قال لي: يا أم معقل، ما منعك أن تخرجي معنا؟ قأخبرتة بعذرها، فقال عليه الصلاة والسلام: "فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي" ". رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فبين عليه الصلاة والسلام، أن أجر العمرة في رمضان، يتضاعف ويزداد وكأن من أتى بها في هذا الشهر الكريم، رافق المصطفى عليه الصلاة والسلام في حجته، وذلك من حيث الأجر والثواب. أما وقد يسَّر الله السفر إلى مكة، والذهاب إليها، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يتقاعس عن هذا العمل الجليل، بل عليه أن يحرص على اغتنام أجر العمر؟ وثوابها، لكن ينبغي لمن أراد الذهاب إليها أن لا يكون ذلك على حساب أمر واجب عليه مكلف به، فإنا نشاهد بعض الناس يغيب عن عمله، ويهمل ويفرط فيه، أو يترك أولاده وأهله ومن استرعاه الله عليهم، فيضيعون لعدم وجود القيم عليهم، والراعي لشؤونهم، فقد يترك الأولاد شعائر دينهم الواجبة عليهم من الصيام والصلاة ونحوهما، لغياب والدهم أو وليَّهم الذي يحثهم عليها، ويراقبهم في أدائها، فلا بد من مراعاة ذلك عند الرغبة في الذهاب إلى العمرة. ومما ينبغي التنبيه عليه هنا، أن بعض النساء قد يسافرن لأداء العمرة، دون أن يكون معهن أحد من محارمهن! وهذه مخالفة شرعية، وعمل حرمه الإسلام، إذ يجب على المرأة أن يرافقها في أسفارها كلها محرم يحميها ويصونها ويحفظ كرامتها، قال عليه الصلاة والسلام: "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقال رجل: يا رسول الله، إن امرأتي انطلقت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: "انطلق فحج مع امرأتك"". متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فضائل الدعاء دعاء الله تعالى عبادة ينبغي للمسلم أن يحرص عليها، فقد أمره الله بها، ووعده بالإجابة، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة الفرقان آية (60) ] وجاء الترغيب فيه خلال آيات الصيام، وفي سياقها القرآني، في قوله جلَّ شأنه،: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة، آية (186) ] ، مما يدل على أن الدعاء في رمضان له مزيّة خاصة، والنبي صلى الله عليه وسلم، حين أورد مواطن إجابة الدعاء، ذكر منها دعاء الصائم وقت إفطاره، فقال: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم". رواه الترمذي. وقال عليه الصلاة والسلام: "إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد". رواه ابن ماجه، فحريٌّ بالمسلم الصائم، أن يحرص على اغتنام وقت إفطاره، بسؤال ربه ودعائه، عسى أن يوافق نفحة من نفحات الباري جل وعلا، لتحصل له السعادة في الدنيا والآخرة. وإن المشاهد لأحوال الناس، يرى أن بعضهم يغفل عن مثل هذا، وبالأخص أولئك الذين يجتمعون على إفطارهم في المنازل، فإن هذا الوقت الثمين، أعني وقت ساعة الإجابة، حين يفطر الصائم، يُهدِرُه أمثال هؤلاء،. مما لا فائدة فيه، إذ يُشغلون أنفسهم بالتهيئة لتناول الإفطار، ويضيع وقتهم في اللغو والحديث، وتبادل الكلام، فما يشعرون إلا وقد فاتهم الوقت النفيس، الذي حثهم المصطفى صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وسلم على اغتنامه، وشغله في الدعاء والإلحاح فيه. لذلك فإن الصائم حين يفطر في مسجد من المساجد، يكون أقرب إلي الإكثار من الدعاء، وشغل نفسه به، وحين يفطر مع أهله وأولاده يذكرهم ويحثهم على اغتنام وقت الإفطار، بالانطراح بين يدي الخالق، وإظهار الخضوع له، وسؤاله من خيري الدنيا والآخرة، أما الإفطار الجماعي الذي يحصل من البعض، فإنه في الغالب يفوِّت على أولئك هذه الفرص الذهبيَّة التي هي أرجى لإجابة الدعاء. وليحرص المسلم الذي يأمل إجابة خالقه لدعائه، أن يكون مأكله ومشربه حلالا، فلا يتناول شيئا اكتسبه بطريق غير مشروع، وليكن غذاؤه حلالا خالصا لا شبهة فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن: "أن الرجل يمد يده إلى ربه، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك" رواه مسلم، وقال أيضا: "إن العبد ليقذف باللقمة الحرام في جوفه، ما يتقبَل منه عمل أربعين يوما" رواه الطبراني. فالمال الحرام، والمكاسب المشبوهة، من أعظم الموانع التي تحول دون قبول الدعاء، لذلك فإن المسلم ينبغي أن ينتقيَ غذاءه، ليكون كله حلالا لا مدخل للحرام فيه، ولا يجمع شيئا من كسبه من طرق ملتوية محرمة، فإن المال المشبوه والمحرم مهما كثر، ومهما أنفق المرء منه أو تصدق، فلن يقبل منه شيء، فالنفقة الحلال وإن كانت يسيرة يبارك الله تعالى فيها، لأنها جاءت من طريق مشروعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 حفظ اللسان روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ ولا يجهل، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم". وقال عليه الصلاة والسلام: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". رواه البخاري. في هذين الحديثين حث للصائم على حفظ صيامه من كل ما يخدشه، وأن يمسك عن الكلام الباطل، والمحرم، ويعوِّد لسانه على طيب الكلام، وجميل القول، حتى لو تعرض له أحد بسوء، أو بادره بالسباب، فليكن صابرا محتسبا، مقدِّرا حرمة هذا الشهر، مستشعرا عظمته، ولا يسارع بالانتصار لنفسه، والانتقام من خصمه، بل يترك الرد عليه، كما ترك الطعام، الشراب فلم يتناولهما، فكذلك هنا يتنازل عن حق نفسه بالمعاقبة اللفظية لمن واجهه بلغو الكلام، والشتم، وليقل له "إني صائم"، أي لا أفعل مثلك فأعتدي على صيامي. مما يجرحه، فأنا ممسك عن قبيح القول ورديئه، فإنه إذا فعل ذلك حفظ نفسه من مجاراة من اعتدى عليه. كذلك في مجالسه، واجتماعاته، وأحاديثه مع غيره، لا يتعرض لأحد بلمز ولا غمز، ولا غيبة ولا نميمة، ولا افتراء أو بهتان، بل يقول خيرا أو يصمت. إن من أعظم ما يوقع الصائم في المحرم، ويجرح صومه، وقوعه في الكذب، أو الغيبة أو نحوهما، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "الصيام جنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ما لم يخرقها، قيل: وبم يخرقها؟ قال: بكذب أو غيبة" رواه النسائي والطبراني. والكذب والغيبة والنميمة، وإن كانت لا تفسد الصوم، لكنها تنقص أجره وثوابه، وتمنع كماله، والاسترسال في هذه المحرمات، قد يذهب أجر الصائم كله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر". رواه ابن خزيمة. "وروي أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنهما كادتا أن تموتا من العطش، فأمر بهما، وجيء بقدج، فقال لإحداهما: قيئي، فقاءت قيحا وصديدا ولحما، حتى ملأت نصف القدح، ثم قال للأخرى: قيئي، فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره، حتى ملأت القدح، تم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان من لحوم الناس". رواه أحمد. فاحفظ أيها المسلم صيامك، بحفظ لسانك عن المحرمات، فلا تنطق إلا بخير، ولا تتكلم إلا. بمعروف، عود لسانك على ذكر الله، وحمده، والثناء عليه، وترديد آياته، واجعل ذلك ديدنك في رمضان وغيره، وكن عفيفا في نطقك، نبيلا في تعاملك، حسنا في خلقك وسلوكك، تنل أعظم الدرجات، قال عليه الصلاة والسلام: "إن العبد ليدك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" رواه أبو داود وابن حبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ذم التوسل ... ذم التسوُّل أمر الدين الإسلامي أفراده بالترفع عن مواضع الابتذال والإهانة، وحرص على حفظ كرامتهم من كل ما يخدشها، وفي شهر رمضان، تبرز على الساحة ظاهرة ممقوتة، وعادة مذمومة تتجلى في هذا الشهر أكثر من غيره، إنها ظاهرة التسول التي يعتبرها بعض من يمارسها حرفة ومهنة مربحة، تدر عليه دخلا كبيرا، لا سيما وأنه شهر يوقّت فيه أكثر أصحاب الأموال، ويعقدون إلى إخراج زكاة أموالهم فيه، رجاء مضاعفة الأجر والثواب. إن التسوُّل ظاهرة غير حضارية، لها آثار سلبية، ونتائج عكسية على المجتمع، حيث تُظهر المجتمع وكأنه مجتمع عجزة ومتسوِّلين، تظهر فيه البطالة ويخيم عليه الكسل. لقد حث الدين الإسلامي أفراده على العمل والكد والتعب، لتحصيل العيش والكسب وبين أن كسب اليد خير ما يكتسب، وقد تربى الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، لأنهم عرفوا الآثار السيئة للمسألة، والتكفف، وإهانة الإنسان نفسه أمام الآخرين يستجديهم ويطلبهم، ويريق ماء وجهه أمامهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم" متفق عليه، ثم هو عليه الصلاة والسلام يحذر كل مسلم، أن يجعل التسول وسيلة لتكثير ماله، ويطلب الناس دون حاجة، فيقول: "من سأل الناس تكثرا فإنما سأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر" رواه مسلم، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أيضا: "من سأل الناس وهو غنٌّي عن المسألة، يحشر يوم القيامة وهي خموش في وجهه" رواه أحمد، ومعناه: أن وجة المتسوِّل، يظهر يوم القيامة فيه جروح وخطوط تشوِّهه، وتذهب رونقه ونضارته، ذلك أن المتسوَّل أذهب بهاء وجهه بذلِّه للناس، وإظهار الدناءة لهم، وافتقاره وضعفه أمامهم. كم نرى مظاهر التسوّل في هذا الشهر الكريم، وكيف يعمد المتسولون إلى تنويع الطرق، التي يستدرّون بها قلوب الناس، وينشدون عطفهم، ويظهرون الضعف والحاجة إليهم، وكيف أنهم يبتكرون طرقا متعددة في تسولهم، فهم يظهرون في المساجد والأسواق، والساحات المكتظة بالناس، وفي كل مرة يعرضون حالاتهم بصورة كاذبة، ينمِّقون عباراتهم، وينوعون مقالاتهم، بكلمات معسولة، وجمل مرتبة، ثم لا يقبلون إلا النقود فقط، فلو أعطوا طعاما أو لباسا أو أيّ أعيان أخرى، امتنع غالبهم من أخذها، مما يدل على عدم حاجتهم. إن علينا محاربة التسول بهذه الصور التي نراها، فلا نعين هؤلاء المتسولين على الاستمرار في هذه العادة السيئة الممقوتة. إن امتهان التسول، وجعله وسيلة للتكسب دليل على دناءة المتسول، وضعف إيمانه بالله، ورغبته عنه، وتوجُّهه بالسؤال إلى المخلوق، بدل أن يسأل خالقه، فهو يعرض حاجته على البشر، ويترك الله الرازق المعطي: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [سورة الطلاق، الآيتان (2-3) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فوائد الصيام الصحية ... فوئد الصيام الصحية يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة، آية (183) ] . هذا نداء إلهي إلى عباد الله المؤمنين بشرعية الصيام عليهم، وبيّنت الآية الغاية من الصيام وهي التقوى، وهذه إحدى القيم التربوية التي تتضمنها مدرسة الصيام، العامرة بالحكم الجليلة، والمليئة بالقيم النبيلة، والدروس النافعة المفيدة. ولو توقفنا عند واحدة من فوائد الصيام، وهي ما يعود على الصائم من الناحية الصحية، لوجدنا أن الحديث عن هذا الجانب واسع ومتشعب، فالمسلم حين يصوم يمتثل أمر ربه أولا، ويؤمن بفرضية الصيام عليه، ثم هو لا يستغني عن كل مردود إيجابي يعود عليه بالنفع والفائدة من صيامه، فالصيام ينظم الانضباط في كثير من الأمور، ومنها عملية الهضم، فإن أجهزة الجسم، وخاصة المعدة، تأخذ قسطا كبيرا من الراحة، فالشخص الذي قد اعتاد على الفوضى قي تناول غذائه طيلة أيام السنة، فيأكل في كل وقت دون مراعاة للضرر الذي قد يلحقه من عدم التنظيم، وتحديد مواعيد أكله، يتغير حاله في الصيام إذ يجد نفسه ملزما بمواعيد محددة، وأوقات معينة، يتوقف فيها عن تناول الطعام والشراب، ولا يعود إلى أكله إلا في زمن محدد أيضا، فيمسك عن المفطرات مدة تزيد على اثنتي عشرة ساعة في كل يوم، وهذا ما يعطي الجهاز الهضمي فرصة يصلح فيها من اضطراباته التي واجهها خلال الأشهر السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 كما أن الصيام يفيد من ابتلوا بالسمنة، فهو يخلص الجسم من الدهون والشحوم المتراكمة، التي تشكل عبئا ثقيلا عليه، والتي هي سبب لكثير من المتاعب والأمراض الأخرى، فالتوقف عن الأكل هو أنجح الوسائل المفيدة والطرق المجدية في معالجة السمنة، وإذابة الشحوم. ويرى الأطباء أن الصيام طريقة منظمة لفترات تناول الطعام، ويشمل ذلك إعداد الجهاز الهضمي، لتقبل الغذاء في فترتين محدودتين من اليوم، وفي هذا تنظيم له، ولو اتبع المسلم في رمضان تحديد موعد السحور والإفطار بشكل دقيق، ولم يحمل المعدة فوق طاقتها، لجنى الصائم فوائد صحية جيدة، وتحققت عنده النتائج الصحية التي تعود على الجسم بالنفع، لكن المشاهد أن كثيرا من الناس في رمضان، يمضون فترة المساء في تناول أنواع الأطعمة، وأصناف المأكولات، ويملؤون معدتهم بألوان الطعام، بل إن بعضهم يأكل في شهر الصيام أضعاف ما يأكله في غيره، وأمثال هؤلاء لا تتحقق لهم الفائدة المرجوة، ولنتذكر دائما أن المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إياكم والبطنة، فإنها ثقل في الحياة، ونتن في الممات". وقال محمد بن واسع رحمه الله: من قل طعامه فهم وأفهم، وصفا ورقّ. وقال أحد حكماء العرب وهو الحارث بن كلّدة: "الذي قتل البرية وأهلك السباع في البريّة، إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 أهمية الوقت في رمضان وقت الإنسان عمره، وهو مادة حياته الأبديّة في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، ومن عجائبه أنه يمر سريعا سريعا، دون أن نشعر به، فمن قطعه في طاعة الله تعالى، وأمضاه في عبادته فهنيئا له، ومن أمضاه في اللهو والغفلة، والأماني الباطلة، فموته خير من حياته، وسيندم حين لا ينفع الندم. أوصى أحد الصالحين أخاه فقال: "يا أخي اعلم أن الليل والنهار، مراحل تنزل بالناس مرحلة مرحلة، حتى تنتهي بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في ليلك ونهارك زادا لما بين يديك فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب، والارتحال وشيك، فتزود لرحلتك إلى الدار الآخرة، واقض ما أنت قاض من أمرك قبل أن يفاجئك الموت. إن أوقات رمضان أغلى الأوقات وأنفسها، فلذلك يجب استغلالها بالطاعة أحسن استغلال، واغتنامها قبل ذهابها، والمبادرة إلى عمارتها بالعبادة، والتقرب من الخالق جل في علاه، فلا تضيعها فيما لا يفيد، ولا تصرفها إلا فيما ينجيك يوم الوعيد، تُرى كم من الساعات تهدر في رمضان، في الليل سهر وجلسات، ولعب وتنقلات، وفي النهار نوم وغفلة عن الطاعات، وتخلف عن الصلوات. ما أعظم خسارة من لم يقدر قيمة وقته، وعمل على قضائه في اللهو والغفلة، إن هذا قد جنى على نفسه، وعرضها للعقوبة، لأنه سيسأل يوم القيامة عنه، أين قضاه وفيم وظفه، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تزول قدما عبد يقوم القيامة، حتى يسأل عن أربع وذكر منها: وعن عمره فيم افناه، وعن شبابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فيم أبلاه" رواه الترمذي. وما أجمل حياة الإنسان حين يقضيها في طاعة الله، تراه في رمضان ينتقل من عبادة إلى أخرى، في نهاره صائما، وتاليا للقرآن، يأمل أن يشفعا له يوم القيامة، وفي ليله قائما بين يدي ربه، يسأله من خيري الدنيا والآخرة. إن علينا أن نستثمر أوقات رمضان الفاضلة، ونوظفها في طاعة الله تعالى، فالأعمار مهما طالت فهي قصيرة، وقبيح بالرجل وقد تقدّمت به السن، ولا يزال يسوّف في الطاعة، ويؤخر العمل الصالح، ويعرض عن الإكثار من العبادة. نسير إلى الآجال في كل لحظة ... وأيامنا تُطوى وهنّ مراحل ولم أر مثل الموت حقا كأنه ... إذا ما تخطّته الأمانيُّ باطل وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب للرأس شاعل تَرَحَّل من الدنيا بزاد من التُّقى ... فعمرك أيام وهن قلا بادر أيها المسلم، لاغتنام شهر رمضان، واعمُر أوقاته بصالح الأعمال، واسأل ربك المغفرة والرحمة والعتق من النيران، عسى أن تفوز بعظيم الجنان، ورضا الخالق الرحمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الزكاة المفروضة الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وأحد مبانيه العظام، وهي قرينة الصلاة في آيات كثيرة، في كتاب الله تعالى وقد توعَّد الله تعالى منكريها ومانعيها، والباخلين بها، الممتنعين عن إخراجها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [سورة التوبة، الآيتان (34- 35) ] . كما أغلظ الله تعالى عقوبة من بخل بأداء الزكاة، فقال جل شأنه: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران، آية (180) ] . وقد بين عليه الصلاة والسلام، صفة هذه العقوبة وكيفيتها، بقوله: "من آتاه الله مالا فلم يؤدِّ زكاته، فمثل له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه، ويقول: أنا مالك، أنا كنزك" متفق عاجه. إن العقوبة لا تتوقف عند هذه الصور فحسب، بل إن أهل الزكاة، المستحقين لها من الفقراء وغيرهم، والذين تتعلق حقوقهم التي فرضها الله لهم في أموال الأغنياء، يُطالبون يوم القيامة أن ينصفهم الله من الأثرياء، الذين منعوهم حقوقهم، وهناك يكون الوفاء بالحسنات والسيئات، لأن زمن التعامل بالنقد قد انتهى، وكان في الحياة الدنيا، فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ويل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون. ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم، فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي، لأدنينكم، ولأباعدنهم، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} " سورة المعارج، الآيتان (24- 25) ، رواه الطبراني. إن النصوص الواردة في الحث على، الزكاة، والمحذرة من منعها، والمبينة عقوبة من تهاون بإخراجها، كثيرة جدا، لايسع المؤمن الذي يخشى الله تعالى ويخافه، إلا أن يبادر لأداء الزكاة، وتسليها حقوق المستحقين لهم، طيبة بها نفسه، فريضة واجبة، لا تكرما وتفضلا منه، لا سيما أن القدر الواجب إخراجه قليل بالنسبة لكامل المال، والله تعالى يبارك في المال المزكَّى ويزيده وينميه، ويحفظه، قال عليه الصلاة والسلام: "ما نقصت صدقة من مال" رواه مسلم، وقال أيضا: "ما منع قوم زكاة أموالهم إلا حبس الله عنهم القطر" رواه الحاكم والبيهقي، فضرر منع الزكاة ليس قاصرا على المحتاجين من بني البشر، بل إنه يتعداه ليشمل البهائم والطيور والحيوانات، والنباتات والأشجار، التي يتوقف المطر عنها بسبب حبس الأغنياء زكاة أموالهم وبخلهم بها. إن المال محبوب لكل الناس، ودليل، قوة الإيمان، وصدق اليقين، والتسليم لأوامر الله، أن يجود المالك. بمحبوبه، طلبا لرضا خالقه الذي أنعم به عليه، ومكَّنه منه، كما أن إخراجها سبيل لتطهير النفس من الشح والبخل: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الحشر، آية (9) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 صدقة التطوع قال الله تعالى في محكم التنزيل: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد، آية (7) ] . إن كل ما يحصل عليه الإنسان من مال، وما يجمعه من مكتسبات، هو هبة من الله تعالى، لا قدرة للإنسان فيه، ولا سبيل له إلى تحصيله بفطنته، بل إن الله تعالى هيأ له السبل حتى جمعه واكتسبه، لأن المال في الحقيقة مال الله، فهو المالك الحقيقي له، وليس للإنسان أن يتصرف فيه إلا بإذن المستخلف، وهو بمثابة الوكيل عليه. لذلك فإنه ينبغي للمسلم أن يواسي إخوانه المحتاجين بشيء من هذا المال، وينفق في وجوه الخير والبر، ويبذل للمستحقين، حتى ينال الأجر والثواب، من الله تعالى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يُزبي أحدكم مُهْرَه أو فصيلَه، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد" رواه البخاري ومسلم وابن خزيمة، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [سورة التوبة آية (104) ] أي: يقبلها. والصدقة في رمضان لها مزية على الصدقة في غيره، فينبغي للمسلم الاستكثار من صدقة التطوع في هذا الشهر الكريم، فقد روى أنس رضي الله تعالى عنه، قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قال: "صدقة في رمضان"". رواه الترمذي. ولو تأملنا حال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، لوجدنا أن جوده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 كان يزداد في هذا الشهر عن غيره، فقد وصفه أصحابه رضي الله عنهم: بأنه كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، وذلك لما علم عليه الصلاة والسلام من عظم أجر الصدقة فيه. لذلك فإنه ينبغي أن يتفقّد الغنيُّ أفراد مجتمعه المحتاجين، وينظر في أحوال الأرامل والمساكين، فيصلهم بشيء مما تفضل الله تعالى به عليه، فإن في الناس من لا يظهر المسألة ولا يدلف إلى أبواب الأغنياء ينتظر منهم العطاء، بل كما وصفهم الله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [سورة البقرة، آية (273) ] ، ولذلك، فإن البحث والسؤال عنهم ومعرفة حاجتهم، مما ينبغي أن يهتم به أصحاب الأموال، حتى يجبروا كسر إخوانهم المحتاجين، ويسدوا حاجتهم وعوزهم، ولا تحقرن أيها المسلم شيئا وأنت تنوي به الصدقة، فإن فضل الله أعظم وأوسع، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "اتقوا النار ولو بشق ثمره" متفق عليه، وقال أيضا: "سبق درهم مائة ألف درهم"، فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "رجل له مال كثير، أخذ من عرضه مائة ألف في درهم، وتصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به" رواه ابن خزيمة وابن حبان. وإذا تصدق المرء في شهره هذا، فإنه يكون قد جمع بين عدد من الخصال الكريمة، التي لا تجتمع إلا في رمضان، من الصيام والصدقة والقيام وطيب الكلام وشرف الزمان وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن في الجنة غرفا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى، لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام". رواه أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قراءة القرآن يدرك المسلم الواعي قيمة هذا الشهر الكريم، وعظمة أيامه ولياليه، فيعمرها بالطاعة، ويقضيها في التقرب والعبادة، ويكثر من الأعمال الصالحة، التي تزيده رفعة وقربا من الله تعالى. ومن الأعمال الصالحة، والعبادات المهمة التي تتأكد في شهر رمضان، تلاوة القرآن الكريم، فإن له خاصية في هذا الشهر، كيف وهو قد أنزل في رمضان: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [سورة البقرة، آية (185) ] ولا أدل من التأكيد على الاهتمام به في هذا الشهر من قول ابن عباس رضي الله عنهما: "وكان جبريل يلقاه، أي النبي صلى الله عليه وسلم، كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن". فهذا يدل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في هذه الأيام والليالي المباركة، حتى ينال القارئ الأجر الذي أعده الله تعالى للتالين كلامه، والمتعلقين بكتابه، قال صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: {ألم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" رواه الترمذي. بل إن القارئ لكتاب الله يحظى بمرافقة الملائكة يوم القيامة، قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق، له أجران" متفق عليه. وأوصى عليه الصلاة والسلام أبا ذر رضي الله عنه بالإكثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 من قراءة القرآن، فقال له: "عليك بتلاوة القرآن، فإنه نور لك في الأرض، ودخر لك في السماء" رواه ابن حبان. وقال صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه" رواه مسلم. والمتأمل حال السلف الصالح، يظهر له كيف كان اهتمامهم بهذا الكتاب، وشدة تعلقهم به، فكانوا يقرؤونه ليلا ونهارا، وكان بعض السلف يختم القرآن في ثلاث ليال، وكان الأسود رحمه الله يقرأ القرآن في كل ليلتين من رمضان، وكان قتادة رحمه الله يختمه في كل سبع ليالي، ونقل عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه كان يختمه في رمضان في كل يوم مرتين، وورد أن الإمام مالك بن أنس رحمه الله إذا دخل رمضان، ترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف. قال ابن رجب رحمه الله: "إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث ليال، لمن داوم على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة، كشهر رمضان، وخاصة الليالي التي ئرجى فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة والمدينة، لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب له الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان". إن أثمن لحظة في عمر المؤمن، تلك التي يقضيها مع كتاب الله تعالى، يحمله في يديه، ويبصره بناظريه، يقرأ آياته، ويتدبر تراكيبه ومفرداته، ويتأمل ما فيه من الآيات والدلائل القويمة، وما يحتويه من الألفاظ والمباني المعجزة العظيمة، ويأخذ العبرة مما فيه، من قصص الأولين والآخرين، وما أعد الله للمؤمنين المتقين من الفضل والثواب، وما ينتظر المخالفين والمجرمين من أليم العقاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 البكاء عند قراءة القرآن في شهر رمضان يحرص المسلمون على حضور صلاة التراويح، وأدائها مع جماعة المسلمين في المساجد، ابتغاء للأجر، وطلبا للمثوبة والفضل من الله تعالى، ويجاهد المسلم نفسه على المواظبة عليها عسى أن يحظى بالمغفرة من الخالق جل وعلا. وقد ورد في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة" رواه الترمذي. فبقاؤه مع الإمام، وصلاته معه حتى ينتهي ويفرغ من صلاته، ينال بها عظيم الأجر والثواب، فهو يؤمِّن خلف إمامه حين يدعو في قنوته، ويكون حاضر القلب، متأملا متدبرا آيات الله تعالى التي تتلى، آخذا العظة والعبرة من تلك القصص والمشاهد التي يرد ذكرها في سور القرآن الكريم. وينبغي للمسلم حين صلاته أن يكون حاضر القلب، متأملا تلك الآيات، متفاعلا معها بقلبه، يخشع عند سماعها، إذ هي كلام الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر، آية (23) ] ، وقال جل شأنه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ} [سورة الحشر، آية (21) ] . والبكاء عند قراءة القرآن، أو عند سماعه، بشرى خير، تدل على تأثر القارئ والمستمع والمصلي بما سمعه من كلام الباري جل وعلا، وتدل على امتلاء قلبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وزيادة إيمانه، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [سورة الأنفال، آية (2) ] ، وكان رسول الله صلى الله عليه واسلم يبكي عند القراءة، قال عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسمعت في صدره أزيزا كأزيز المرجل من البكاء"، رواه أحمد والنسائي. وكذلك كانت أحوال الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح رحمهم الله. لكن المشاهد من حال البعض، أن بكاءهم في صلاة التراويح يكون في أثناء القنوت، ويرفعون أصواتهم بالبكاء، بحيث، يشوّشون على إخوانهم المصلين، فهؤلاء مثابون على قدر نياتهم، ولكن ينبغي أن نتأمَّل أحوال السلف في ذلك، وإمامنا، وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان تأثره من قراءته في صدره، بحيث يكون بكاؤه في صدره دون، صوت، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم عند سماعهم القرآن كانت تفيض دموعهم، وتقشعر جلودهم دون أن يحدثوا صراخا، أو رفعا لأصواتهم، وهم أدرى الأمة وأعرفها، وأقرب الناس لهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام. منع القُرانُ، بوعده ووعيده ... مُقَلَ العيون بليلِها لا تهجع فهموا عن الملك العظيم كلامه ... فهما تذل له الرقاب وتخضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 التعاون على البر في رمضان ما أجمل شهر رمضان، وهو يقوّي صلة المؤمن بربّه، ويرقق قلوب المسلمين، ويؤلف بينها، ويزيد أواصر المودة والمحبة، ويقوّي روابط الأخوة بين المؤمنين، فترى تعاطفهم وتراحمهم فيما بينهم، بصور عديدة، وأشكال فريدة. ومن ذلك التناصح والتذكير الذي يقوم به المسلمون فيما بينهم، ويذكر بعضهم بعضا، ويعين كل واحد منهم أخاه على نفسه، فتراه يوجهه حين يراه على مخافة ما، ويدعوه بأسلوب سهل، وطريقة متقبلة، أخذا من قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [سورة النحل آية (125) ] . كما يحث إخواته على فعل الخيرات، وعمل الصالحات، والاستزادة منها في هذا الشهر الكريم، ابتغاءً للأجر والثواب، فهو يعرف أن فعله هذا ينال به مثل ثواب أخيه الذي دعاه وذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا" رواه مسلم. ويدخل في ذلك كله دعوة أخيك إلى حضور صلاة الجماعة، والمواظبة على صلاة التراويح، والتصدق على المساكين المحتاجين، وأعمال المعروف والبر، ودعوته إلى قراءة القرآن، والإكثار من ذكر الله تعالى، وسائر خصال الخير التي تتأكد في مثل هذا الشهر الكريم. كذلك فإن الصائم قد يعرض له في نهاره ما ينسيه أنه متلبس بعبادة الصيام، فيأكل أو يشرب نسيانا، ففي مثل هذه الحالة يجب عليك أيها المسلم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 تذكر أخاك بأنه صائم، فإن المؤمن مرآة أخيه، وتبيّن له ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإما أطعمه الله وسقاه" متفق عليه. قال العلماء رحمهم الله: "من رأى مسلما يشرب في نهار رمضان، أو يأكل أو يتعاطى شيئا من المفطرات الأخرى وجب إنكاره عليه؛ لأن إظهار ذلك في نهار الصوم منكر، ولو كان صاحبه معذورا في نفس الأمر، حتى لا يجترئَ الناس على إظهار محارم الله من المفطرات في نهار الصيام بدعوى النسيان، وكذا المسافر ليس له أن يظهر تعاطى المفطرات بين المقيمين الذين لا يعرفون حاله، وهكذا فإن المؤمن في رمضان ينبغي أن يكون داعية يوجه إخوانه، ويذكرهم ويرغبهم في أعمال الخير والبر، ويقوي صلتهم بخالقهم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة، آية (2) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 كفارة الجماع يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [سورة البقرة، آية (187) ] . هذه آية من آيات الصيام، بيّن الله تعالى فيها أحكاما عديدة، وفيها تحليل شيء كان محرما عليهم قبل نزول هذه الآية: ألا وهو إتيان النساء في أوقات معينة، وحالات خاصة، ويوضح ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن البراء رضي الله عنه قال: "لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى الآية". قال الحافظ رحمه الله: "ظاهر هذا الحديث يدل على أن الجماع كان ممنوعا في جميع الليل والنهار، بخلاف الأكل والشرب فكان مأذونا فيه ليلا ما لم يحصل النوم، لكن بقية الأحاديث الواردة في هذا المعنى تدل على عدم الفرق، فيحمل قوله: "كانوا لا يقربون النساء" على الغالب جمعا بين الأخبار. انتهى كلامه رحمه الله. فاستقر الحكم أخيرا على إباحة إتيان الزوجة ليلا في رمضان، أي فترة الإفطار المباحة وهي من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، أي ما بين أذان المغرب إلى أذان الفجر الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أما خلال نهار رمضان فإن إتيان الزوج لزوجته من المحرمات، بل هو انتهاك عظيم لحرمة الشهر، ولذلك كانت عقوبته عظيمة، وهي الكفارة التي حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على من جامع امرأته نهار رمضان. وذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فقال عليه الصلاة والسلام: هل تجد رقبة تعتقها، قال: لا، قال: فهل تستطيع أن ثصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال: لا، قال: اجلس، فجلست، فأُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيه ثمر، أي مكتل ضخم فقال للرجل: تصدق به، فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك"، رواه البخاري ومسلم. فتبيّن من هذا أن من وقع على امرأته في نهار رمضان وهو صحيح مقيم، وجبت عليه الكفارة السابق ذكر خصالها في الحديث، وكذلك تجب الكفارة على الزوجة إن كانت طائعة مختارة غير مكرهة لاشتراكها مع الزوج في انتهاك حرمة الشهر، أما إن كانت مكرهة أو معذورة فلا كفارة عليها لعدم القصد منها كما أفتى بذلك جمهور العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 السفر والمرض الصيام فريضة، وركن من أركان الإسلام، وذلك أمر معلوم من الدين بالضرورة، وهو واجب على كل مسلم بالغ عاقل، خال من الموانع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [سورة البقرة، آية (183) ] وقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [سورة البقرة، آية (185) ] ولا يعذر أحد بترك الصيام، أو الإفطار أثناء الشهر، إلا إذا كان معذورا، كأن يكون مريضا، أو مسافرا أو امرأة حائضا أو نفساء، أو حاملا أو مرضعا، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [سورة البقرة آية (185) ] فالمريض، الذي يشق عليه الصيام، ويصعب عليه الامتناع عن المفطرات، ويتضرر منه، يجوز له أن يفطر في رمضان ثم يقضي فيما بعد عدد الأيام التي أفطرها، هذا إذا كان مرضه عارضا، أما إن كان مريضا مرضا مستمرا لا يرجى شفاؤه فهذا لا يجب الصيام عليه، ويطعم عن كل يوم مسكينا، ولا يقضي، وكذلك كبير السن الهرم الذي لا يستطيع الصيام، يفطر ويطعم ولا قضاء عليه. والسفر من الأعذار المبيحة للصائم الإفطارر، لقوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [سورة البقرة، آية (185) ] ، وهذا إذا لم يقصد بالسفر التحيل على الفطر، والمسافر أعلم بحال نفسه، فإن كان الصيام أسهل عليه صام، وإن كان يشق عليه أفطر، وقضى بعد ذلك، وقد قال أنس رضي الله عنه: "كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن". رواه مسلم. وأما الحائض والنفساء، فإن الصيام يحرم عليهما، ولا يصح منهما، ويجب على كل منهما القضاء بعدد ما فاتهما من أيام رمضان. وكذلك المرأة الحامل أو المرضع إذا خافت على نفسها، أو على ولدها جاز لها الفطر، ثم تقضي بعد ذلك كل الأيام التي أفطرتها، ففي سنن أبي داود، من حديث أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة، وعن المرضع والحبلى الصوم" رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. من ذلك كله تظهر لنا سماحة الإسلام ويسره، فإنه لم يقصد في شيء من تشريعاته الإثقال على أفراده، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة. الحج آية (78) ] ، ومتى وجد المكلف صعوبة ومشقة في أداء العبادة، فإن الشرع أباح له أن يأتِيَ منها ما يطيقه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية (16) ] ، ولا تجد بابا من أبواب الشريعة، ولا مجالا من مجالاتها إلا وقد تجلت فيه السماحة بأبرز معانيها، وهذا اليسر هو الذي جعل الدين الإسلامي ينتشر بسرعة هائلة في جميع أقطار المعمورة، وتتقبله النفوس السليمة، والفطر المستقيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 سؤال الله الجنة كم هي الأحاديث النبوية الشريفة، التي رغب فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته، وحثهم فيها على طلب الجنة والسعي إليها، وأن صيام رمضان من أسباب دخولها، ومن أعظم الطرق الموصلة إليها، فمنها قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، فلم يُغلق منها باب"، رواه الترمذي وابن خزيمة، وحين حدد عليه الصلاة والسلام الخصال التي خص الله تعالى بها هذه الأمة، وأعطاها إياها في شهر رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: "ويزين الله كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك". رواه أحمد. فالله تعالى قد أعد الجنة وزينها لعباده الصائمين، وخصص لهم بابا يدخلون منه، هو باب الريان، لا يدخل منه أحد سواهم. وكلنا همَّه رضا الله، ودخول جنته، لكنها لن، تنال بالأماني، والغفلة والتسويف، وإنما بالعمل الصالح، والقرب من مجالس الخير، وأعمال البر. وحين يسمع المؤمن ويعرف أوصاف الجنة، ويقرؤها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يشتأق إليها، ويسعى لدخولها، وما أعظمها وأعظم صفاتها: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة آية (25) ] ويقول تعالى عنها: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [سورة الإنسان، الآيات (14- 20) ] . ويزيد عليه الصلاة والسلام ويوضح وصفها، ويقول: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى مناد، يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تَحْيَوْا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا، فذلك قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} " [سورة الأعراف، آية (43) ] . رواه مسلم. وحين تسمع النداء إلى الجنة وأوصافها وما أعدّه الله تعالى فيها من النعيم المقيم، والأنس والسرور، لا يسعك إلا أن تجد في طلبها، وتسعى للوصول إليها، لاسيما وأنت في شهر الخيرات، شهر مضاعفة الحسنات، ومحو السيئات، ورفعة الدرجاب، فالبدار البدار قبل الذهاب والفوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 شهر الانتصارات بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ووجد مكانا آمنا ينشر فيه دعوته بدأت المواجهات العسكرية بينه وبين المشركين، وأعظم حدث فاصل بين المسلمين والكفار، كان في موقعة بدر الكبرى الشهيرة، التي كانت في رمضان وحقق المسلمون فيهم أهم وأقوى انتصار على جحافل المشركين، وفرق الله فيها بين الحق والباطل، ولم تكن بدر هي الموقعة الوحيدة التي انتصر فيها المسلمون في رمضان. بل إن هذا الشهر العظيم حقق المسلمون فيه انتصارات باهرة منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا، وكتب الله تعالى الظهور لهذا الدين في معارك عديدة، وفتوحات كثيرة وكانت الجيوش الإسلامية تثبت وجودها في تلك المواجهات اللعسكرية، فكان الصوم أعظم عبادة تعين المسلمين على الثبات أمام أعدائهم، فالصائم حين يمسك عن المفطرت نهار رمضان، يبدأ. بمحاربة نفسه عن الوقوع فيها، ويكبح جماع شهواتها، فينتصر عليها، وعلى الشيطان، فيحقق نصرا معنويا يقوي عزمه، ويزيد من يقينه وإيمانه. ومن هنا ارتبط الصيام بالجهاد، فكلاهما حرب ومقاومة للنفس والعدو، فالصوم تدريب على الجهاد، ولذلك نجد أن المسلمين في شهر رمضان، كانت لهم أقوى المواقف الحاسمة في تاريخ المواجهة بينهم وبين أعدائم، وكان الفوز والغلبة حليفهم في مثل هذه الأيام المباركة، ففيه كان الفتح الأعظم لمكة المكرمة، وإزالة معاقل الشرك والوثنية، وتطهير الكعبة من دنسها، وإعلان كلمة التوحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 في أرجاء البلد الحرام، لتبطل كل دعوة لعبادة غير الله تعالى. ولا ننسى فتح الأندلس وبطله طارق بن زياد، ولا معركة بلاط الشهداء الشهيرة، وقائدها الفذ، الذي استشهد في ميدانها، عبد الرحمن الغافقي، ثم نداء المرأة في عمورية واستغاثتها بالمعتصم، وتلبيته لها، وتصوير قصة هذا الفتح في قصيدة أبي تمام الشهيرة. وكيف كان الانتصار الساحق للقائد المسلم، المظفر قطز، الذي هزم المغول في موقعة عين جالوت سنة ثمان وخمسين وستمائة للهجرة، كما كان فتح الظاهر بيبرس بجيشه الإسلامي لمدينة أنطاكية في منتصف القرن السابع الهجري تقريبا. كما سجَّل التاريخ أخبار الانتصارات الحاسمة على الصليبيين في الحروب التي قادها بطل الإسلام صلاح الدين الأيوبي في مواجهاته معهم. وهكذا فإن شهر رمضان كان زمنا سجل فيه المسلمون انتصارات حاسمة، وقد كتب الله لهم ذلك النصر حين نصروا دينه، وقصدوا إعلاء كلمته، وكان همهم الأكبر أن ينتصر هذا الدين في جميع أقطار الأرض، ولو أخذ المسلمون الآن بأسباب النصر وحققوها، لنصرهم الله على أعدائهم، كما نصر أسلافهم وعد الله لا يخلف الله وعده: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الجج، آية (" 4) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 معركة بدر الكبرى في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، كان انتصار المسلمين العظيم، في أول مواجهة كبرى لهم مع المشركين، وذلك في معركة بدر الكبرى. لقد أخرج المشركون المسلمين من ديارهم، وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حيث المكان الآمن الذي من خلاله يستطيع أن يبلغ رسالة الله تعالى، وينشر دعوته، وهو حين استقر في المدينة في حال حرب مع مشركي قريش، وليس بينه وبينهم عهد. سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قافلة تجارية لقريش، كانت متجهة من الشام إلى مكة، يقودها أبو سفيان، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يقطع الطريق عليها ويغنها، ليأخذ أموال قريش ويفجعها في أموالها، كما فجعت قريش المسلمين من قبل في أموالهم. وخرج المصطفى عليه الصلاة والسلام من المدينة المنورة، ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ومعهم فرسان وسبعون بعيرا، واستخلف ابن أم مكتوم رضي الله عنه على المدينة. حين تناهى إلى أسماع أبي سفيان خبر خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وعزمه الاستيلاء على القافلة، أرسل إلى قريش في مكة يعلمهم بذلك، فخرجت لحماية أموالها، وعددهم ألف رجل، معهم مائة فرس، وجمال كثيرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر خروجهم، فاستشار أصحابه رضي الله عنهم، فوافقوا على مواجهة قريش، فبشرهم بقوله: "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله كأني أنظر إلى مصارع القوم"، والتقى الجيشان على ماء بدر، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، بقوله: "اللهم هذه قريشا قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني". ثم خرج ثلاتة شبان من قريش، وثلاثة من المسلمين، وجرت المبارزة بينهم، ثم دارت رحى المعركة بين الفريقين، وقاتل المسلمون والإيمان يملأ قلوبهم، يتسابقون إلى الاستشهاد في سبيل، الله، وأمدَّهم الله بالملائكة، وأكرم الله عباده المؤمنين كرامات في هذا اليوم المشهود، فتساقطت رؤوس الطغاة على أرض بدر، أبو جهل والعاص بن هشام وأمية بن خلف وغيرهم، واستشهد عدد من الصحابة رضي الله عنهم، فقتل من المشركين سبعون رجلا وأسر مثلهم، وكتب الله النصر المؤزّر للإسلام وأهله، وقمع الله الكفر وأعوانه، في أول مواجهة كبرى عسكرية بين المسلمين والكفار، وقد كتب الله النصر للمؤمنين في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة النبوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فتح مكة المكرمة في التاسع عشر من شهر رمضان من السنة الثامنة من الهجرة، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، فاتحا ومطهرا لها من أدران الوثنية والشرك. وسبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسل أعقد صلحا بينه وبين قريش في الحديبية، لكن قريشا نقضت الصلح ولم تلتزم ببنوده، فتجهز عليه الصلاة والسلام لقتال قريش، واستعد للتوجه إلى مكة في جيش بلغ تعداده عشرة آلاف مقاتل، وانطلق من المدينة، وقبل دخول مكة، أتى إليه بعض زعماء قريش، فأعلنوا إسلامهم، منهم ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، ولما اقترب من مكة أمر أصحابه أن يوقدوا نيرانا بعدد أفرادهم، لتظهر لقريش قوة الجيش الإسلامي، وليلقي الرعب في قلوب المشركين. ثم تقدم الجيش نحو مكة، وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون، وأمر خالدا أن يدخل مكة من أسفلها، ودخل هو عليه الصلاة والسلام من أعلاها، فاتحا مؤزرا منصورا، راكبا على راحلته، منحنيا على رحله تواضعا لله تعالى وشكرا له على هذه النعمة، حتى إن جبهته تكاد أن تمس رحله، وأسامة رديفه، ثم سار وبجانبه أبو بكر رضي الله عنه، يحادثه، وهو يقرأ قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [سورة الفتح، آية (1) ] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل، دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته وأغلق عليه بابه فهو آمن" رواه مسلم ثم مضى حتى دخل المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الحرام، وقصد الحجر واستلمه بعصاه، ثم طاف حول الكعبة، وكان حولها ثلاثمائة وستون صنما، فأخذ يشير إليها بقضيب في يده، وهو يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [سورة الإسراء، آية (81) ] ، ثم أمر بتحطيمها وتطهير البيت الحرام منها. ونادى: "يا معشر قريش، ويا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء". وهكذا حطمت الأوثان، وطهرت الكعبة من المعبودات الباطلة، ونصر الله دينه، وأعلى كلمته، وسقطت معاقل الشرك والوثنية، وأعزَّ الله الإسلام وأهله، بدخوله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا منتصرا، في اليوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثامنة للهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 العشر الأواخر العشر الأواخر هي أفضل أيام هذا الشهر الكريم، وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها عتق من النار، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يضاعف عبادته فيها، ويتقرب إلى ربه بأنواع الطاعات، لا يفتأ يصلي أو يقرأ أو يذكر الله في كل حين ووقت، قالت عائشة رضي الله عنها في وصف عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر: "كان إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان، أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشدَّ مئزره". متفق عليه. لقد كان عليه الصلاة والسلام، يخص هذه العشر بأعمال جليلة، ويكثر فيها من العبادة، ويعمل أعمالا لا يعملها في بقية الشهر، فكان يحيي الليل قائما بين يدي ربه، خاضعا متذللا يسأله من فضله العظيم، وكان ينقطع عن كل شواغل الدنيا، حتى إنه يعتزل نساءه في هذه العشر المباركة، وكان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحورا، ويغتسل كل ليلة من لياليها بين المغرب والعشاء، ويحث أهله على الاجتهاد والإكثار فى العباة فيها، فقد ورد أنه كان يطرق فاطمة وعليا رضي الله عنهما ليلا، ويقول لهما: "ألا تقومان فتصليان"، وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر. ومن هذا يؤخذ استحباب إيقاظ أحد الزوجين للآخر، والحرص على ذلك، ويتأكد في مثل هذه الأيام المباركة، فإن فيه إعانة على الطاعة، ورد أن عمر رضي الله عنه كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل، أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [سورة طه الآية (132) ] وكانت امرأة أحد الصالحين تقول لزوجها: قد ذهب الليل، وبين أيدينا طريق طويل، وزاد قليل، وقوافل الصالحين سارت أمامنا، ونحن قد بقينا. يا رجال الليل جدوا ... رب داع لا يرد ما يقوم الليل إلاّ ... من له عزم وجد إن هذه الليالي الفاضلة، ينبغي أن يستثمر المسلم كل لحظاتها، ولا يضيع شيئا من أوقاتها، بل يستغل كل لحظة فيها، بكل عمل صالح يقربه من خالقه، ينتقل من عبادة إلى أخرى، ومن طاعة إلى مثلها، فهو إما يتلو آيات ربه، يرددها على لسانه، يتأفل في معانيها، ويتفكر في إعجاز ألفاظها ومبانيها، وإما أن يشغل نفسه بالركوع والسجود، والقيام بين يدي الحي المعبود، وإما يخفف عن المساكين والمحتاجين ما يجدونه من الضيق وقلة ذات اليد، فيعينهم ويصلهم بشيء يرجو ثوابه من الله تعالى، فالنفس أيها الأخ المسلم، إذا لم تشغلها بالطاعة، شغلتك بالمعصية، واقتادك هواها إلى ما يغضب خالقك، فاحذر أن يراك حيث نهاك، وأن يفتقدك حيث أمرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الاعتكاف في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله تعالى". وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان، عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما" رواه البخاري. الاعتكاف سنة مؤكدة، ويتأكد في رمضان، وفي العشر الأواخر خاصة، وهو عبادة يخلو فيها العبد لطاعة ربه، فيقطع علاقته بالدنيا ومشاغلها، التي ألهته عن الإكثار من عبادة ربه في سالف الأيام، والاعتكاف ليس خاصا بهذه الأمة، بل كان معروفا من قبل، يدل عليه قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [سورة البقرة، الآية (125) ] . وقد حرص الصحابة رضي الله عنهم، على التأسي بالحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، في أقواله وأفعاله، ومن ذلك اقتداؤهم به في هذه العبادة العظيمة، فقد اعتكفوا معه في حياته، وواظبوا اعلى سنته بعد وفاته، وكذلك أزواجه أمهات المؤمنين رضي الله عنهم اعتكفن بعده. إنما كان يعتكف عليه الصلاة والسلام، في العشر الأواخر طلبا لليلة القدر، ورجاء لموافقتها، وسؤال الله تعالى من فضله ورحمته، فيناجي ربه بذكره قائما وقاعدا، ويصلي ما شاء الله من النوافل،، ويتلو كتاب ربه، وهكذا فإن المعتكف ينبغي له أن يشغل أوقات اعتكافه كلها بسائر أنواع العبادات، من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 صلاة وذكر، وقراءة قرآن، وتمجيد وتحميد، وثناء على الله تعالى، لأن الاعتكاف انقطاع الإنسان عن المشاغل والتفرغ لعبادة الله تعالى، ولذلك فإن عليه أن يتجنب كل حديث دنيوي يشغله عن الطاعة، ويلهيه عن العبادة، فهو قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع كل شيء يلهيه عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه. ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد من المساجد التي تقام فيها صلاة الجماعة، وفي المسجد الجامع أفضل، وأفضل ذلك كله الاعتكاف في أحد الحرمين الشريفين، ويفسد الاعتكاف بالجماع، أو الخروج من المسجد لغير حاجة، فإن كان خروجه لأمر لابد منه، كقضاء حاجته، أو طهارته ووضوئه، أو لأكل أو شرب، فلا بأس بذلك، ولا يبطل اعتكافه، أما الخروج لفعل طاعة من الطاعات، كزيارة المرضى، وتشييع الجنائز ونحو ذلك فهذا لا يجوز إلا إذا اشترط الخروج لذلك عند ابتداء اعتكافه. ونية الدخول في هذه العبادة ركن، إذ يا يصح الاعتكاف بدون نية، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، ولا يلزم أن يعتكف المسلم العشر كلها، بل لو اعتكف بعضها صح اعتكافه، فإن أقله يوم وليلة، على الصحيح من أقوال العلماء. ومما يلاحظ أن هذه السنة قد رغب كثير من الناس في هذا الزمن عنها، وقل عمل الناس بها، وما ذاك إلا لقصور الهمم، والانشغال. بملذات هذه الحياة وزخارفها، فإلى الله المشتكى وهو المستعان، وعليه التكلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فضل قيام الليل ... فضل قيام رمضان ما أعظم أيام هذا الشهر الكريم، وما أنفس أوقاته، صيام بالنهار، وتهجد وقيام بالليل، ذكر واستغفار، صلاة وقرآن، جود وإحسان، بر وصلة، عطف وحنان. يقطع المسلم نهاره ممسكا عن الشهوات، ويقضي ليله قائما متذللا بين يدي خالقه، يجأر إليه، ويخضع لعظمته، يردد كلامه في صلاته، {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [سورة المزمل، الآية (6) ] ، إنه يحتسب الأجر والثواب من الله تعالى، يطمع أن يمحو الله كل ما سلف من سيئ أعماله، وأن يتجاوز عن غفلته وتفريطه وإهماله، فهو يؤمن بقوله صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم فى ذنبه" متفق عليه. إئه يتأسى بحبيبه صلى الله عليه وسلم، الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطّر قدماه، فتقول له عائشة: ما هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول. "أفلا أحب أن أكون عبدا مشكورا". متفق عليه. إن اجتهاد المسلم يكون بالإكثار من صلاة النوافل، وقيام الليل في هذا الشهر، رجاء أن يوافق نفحة من نفحات الباري جل وعلا، فينال السعادة في الدنيا والآخرة. وفي الوقت نفسه، ينأى بنفسه أن يكون ممن استحوذ عليهم الهوى، يقول صلى الله عليه وسلم: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام، ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة، عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان" رواه البخاري ومسلم. إنه يرغب أن يكون من أصحاب تلك الغرف في الجنة، الذين قال عنهم صلى الله عليه وسلم، وهو يصف غرفهم وأفعالهم: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائما والناس نيام". رواه أحمد. نعم، إنه يبيت ليله يعبد ربه، يتهجد، يرفع يديه لمولاه، يتضرع بين يديه، والناس مستغرقون في نومهم، يتلذذون به، وهو يناجي ربه. إنه يطمع أن يوافق ساعة الإجابة التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة" رواه مسلم. ويأمل أن يكون من رهبان الليل الذين وصفهم صلى الله عليه وسلم بقوله: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربّكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم" رواه الترمذى وابن خزيمة. ما أجمل تلكم الصورة التي يبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم عن الزوجين، وهو يدعو لهما بالرحمة، ويقول: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء" رواه أبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المسارعة إلى فعل الخيرات خلق الله الإنسان في هذه الحياة، لعبادته: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات، الآية (56) ] ولم يوجده ليعمرها بجمع حطامها، وتتبع زخارفها وملذاتها، ومجاراة الآخرين في زينتها ومتاعها، وعمره في هذه الحياة محدود، ومدة بقائه بها قصيرة، ولن يتمكن من إضافة دقيقة واحدة على ما كُتب له فيها، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [سورة المنافقون، الآية (11) ] ولن يقدر على النقص أيضا، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [سورة الأعراف، الآية (34) ] . فإذا كنت أيها المسلم العاقل، تدرك ماهيتك في هذه الحياة، وأنك مسافر ولست مقيما، وأن عمرك سينتهي، وأنت مقبل على لحظة تلفظ فيها أنفاسك وتغادر، مهما طال عمرك، ولو جاوزت المائة، فلماذا اللهو والغفلة، ولماذا التسويف والتأخير، والمماطلة والتأجيل؟ في كل يوم ترمي بك نفسك الأمارة بالسوء إلى تأجيل العمل، غدا أعمل، غدا أعمل، وهكذا حتى تصرَّمت سنّي عمرك وأنت في لهوك وغفلتك، أما ترى الموت ينقض دون هوادة على من هم في سنك، ومن هم أصغر وأكبر منك، لماذا لم يكن لك في ذلك عظة وعبرة؟ يا نفس ويحك توبي واعملي حسنا ... عسى تجازين بعد الموت بالحسن يا نفس كُفِّي عن العصيان واغتنمي ... فعلا حميدا لعل الله يرحمني انهض أيها الحبيب، واستدرك ما مضى وفات، فربك يغفر الزلات، ويقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 العثرات، ويعفو عن السيئات، أنت في موسم العبادة، ووقت الطاعة، أنت في أفضل الشهور، في شهر رمضان، الذي يعتق الله فيه عباده من النيران، تب إلى الله، واستغفره عن ما مضى فإن ربك غفور رحيم، يفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه مقرا معترفا بذنوبه، ردد: أستغفرك وأتوب إليك، أستغفرك وأتوب إليك. هذا هو موسم تخليص الرقاب من النيران، والفوز بنعيم الجنان. جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال حين ذكر ما أعطيت هذه الأمة من خصال: "ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله". رواه أحمد. وورد أيضا أن الله تعالى يعتق في كل ليلة من شهر رمضان ألف ألف عتيق، أي مليون، فإذا كان آخر الشهر، أعتق مثل ما أعتق في الشهر كله، فحرر نفسك من أسر الشيطان، عسى أن تكون أحد أولئك العتقاء من النيران. وادع ربك أن لا تكون ممن دعا عليه جبريل عليه السلام، حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا محمد من أدرك رمضان من أمتك فلم يغفر له فزجّه الله في النار، قل آمين، فقال عليه الصلاة والسلام: آمين" رواه ابن حبان. اللهم اجعلنا من عتقائك في هذا الشهر الكريم، وامنن علينا برحمتك وغفرانك يا عظيم يا رحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 التماس ليلة القدر أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [سورة القدر، الآيات (1- 5) ] . هذه سورة من سور القرآن الكريم، نزلت خاصة في ليلة القدر، وبيّنت خصالها العظيمة، وصفاتها الكريمة، التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات، وهي: أولا: أنها ليلة نزول القرآن الكريم، ونزول القرآن في هذا الشهر، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [سورة البقرة، الآية (185) ] . ثانيا: أن هذه الليلة خير من ألف شهر، أي أن العبادة في هذه الليلة، خير من العبادة من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ويحصل ذلك. بمضاعفة أجر الأعمال الصالحات، واستجابة الدعوات، وتنامي الثواب والصدقات، وسائر المنافع الدينية والدنيوية. ثالثا: أن الملائكة والروح ينزلون فيها إلى الأرض، فجبريل عليه السلام، سيّد الملائكة، وأمين الوحي، ينزل في مواكب الملائكة فوجا إثر فوج حتى تضيق الأرض عنهم، وهذا يدل على شرف هذه الليلة، لأن العباد والمتضرعين والمصلين في جماعة، كلما كانت جموعهم أكثر كان نزول الرحمة أوفر وأكبر. رابعا: أن هذه الليلة سلامٌ، فكل ما فيها خير كله، لا شر فيها، سالمة لا يقدر الشيطان أن يسيء فيها، فهي خير كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 خامسا: أنها تبقى حتى يطلع الفجر، فتبقى أبواب الرحمة مفتوحة طوال هذه الليلة، معمورة بنزول الملائكة، محفوفة بالخير والسلامة، حتى يطلع الفجر. إن هذه الليلة العظيمة التي هي من خصائص هذه العشر، ينبغي على المسلم أن يحرص على التماسها، وأن يجتهد ليالي العشر كلها، عسى أن يوافقها، فإن الله تعالى أخفاها حتى يضاعف المؤمنون عبادتهم في هذه الليالي المباركة، وقد قال كثير من أهل العلم: إنها ليست في ليلة معينة في كل سنة، بل تنتقل في العشر الأواخر من عام إلى آخر. وأرجى ليلة فيها ليلة سبع وعشرين، وإلى ذلك ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لما ورد عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان، والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين" رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: "ليلة القدر، من كان متحريها فليتحرها في ليلة سبع وعشرين" رواه أحمد. إن ليلة القدر ليلة شريفة عظيمة، من وافقها فقد غنم فضلا كبيرا، فلنحرص على التماسها، لنكثر من العبادة، ونضاعف الطاعة، عسى أن يغفر الله لنا ما قدمنا من الذنوب، ونفوز بالرضا والجنة، وذلك هو أعظم مطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 التوبة المسلم في هذه الحياة معرض للوقوع في المخالفات، وارتكاب الذنوب والسيئات وكثرة الهفوات وهذا أمر لا يكاد يخلو منه أحد، ولذلك شرع الاستغفار والتوبة من الذنوب، قال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم" رواه مسلم لكن المسلم إذا ذكّر تذكّر، وإذا وعظ اتعظ، ولم يصر على ذنوبه ومعاصيه، لاسيما وهو يسمع آيات الله تتلى عليه في صلواته، وتكثر قراءة القرآن في هذا الشهر العظيم، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هذه الآيات التي فيها الوعد والوعيد، فيرق فؤاده، ويعود إلى صوابه، وهو يسمع ما أعده الله تعالى للعصاة والمجرمين، والطغاة والمتكبرين من عظيم العذاب، وأليم العقاب، {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [سورة الحج، الآيات (19-22) ] . فيرغم نفسه على الإقلاع عن الذنوب، ويعزم على التوبة، ويندم على ما بدر منه من خلل وتقصير، ويتردد على مسامعه النداء الإلهي له، ويسمعه من الإمام وهو يقرأ الآية في صلاة التراويح، فيزداد عزما وتصميما، على التوبة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [سورة التحريم، الآية (8) ] . روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه" رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس مغربها"، رواه مسلم. فالله تعالى لطيف بعباده، عفو غفور، إذا رأى إقبال عبده عليه، قبل منه وتجاوز عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك، إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" رواه مسلم. فتب إلى الله تعالى أيها المقصر والمفرط في جنب الله، فأنت في شهر رمضان، شهر التوبة والغفران، عسى أن تفوز برضا الرحمن، وتسعد سعادة أبدية في نعيم الجنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الاستغفار في شهر رمضان يجد المؤمن نفسه قريبة من أعمال الخير، تنقاد معه إلى الأعمال الصالحة، فيغتنم هذه الفرصة، لأن النفس أمارة بالسوء، وإذا لم يشغلها صاحبها بالطاعة، شغلته بالمعاصي، إذا هو يروضها في هذا الشهر إذ هي قابلة لذلك، ويأمل أن تستمر وتبقى وهي تألف الخير وتحبه. فعليه أن يعودها على ذكر خالقها، وأن يكثر من الاستغفار ويلازمه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله تعالى يرضى عن عبده إذا استغفر، وأكد عليه الصلاة والسلام على الاستكثار من الاستغفار في شهر رمضان، شهر المغفرة والرضوان، والعتق من النيران، ففي حديث سلمان رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم"، وذكرهما وهما: "شهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار" رواه أبو خزيمة. فالاستغفار من أعظم أسباب المغفرة والعتق من النار؛ لأنه دعاء، ودعاء الصائم مستجاب في حال صيامه وعند فطره. وقد حمع الله بين التوحيد والاستغفار في قوله جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [سورة محمد الآية (19) ] . ونفى الله تعالى عذابه عن عباده المستغفرين، فقال جل شأنه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [سورة الأنفال الآية (33) ] وأثنى عز وجل على المستغفرين بالأسحار. وقال عليه الصلاة والسلام: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب". رواه أحمد وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لو تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم" رواه مسلم. وكان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها، كما يستغفر المذنب من ذنبه، فلازم أيها المسلم الاستغفار في شهر الصيام وسائر الأيام، وضاعفه في هذه الأيام المباركة، أيام شهر العتق من النار، فإن رمضان فرصة عظيمة، فاغتنمها، وبالأخص عند تمام أعمالك، فإن الاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، إذ به يختم الحج وتختم الصلاة، وقيام الليل، وهو ختام المجالس، فإن كانت ذكرا كان كالطابع عليها، وإن كانت لهوا كان كفارة لها، روي عنه عليه الصلاة والسلام: "ما أصرَّ من استغفر وإن عاد"، رواه أبو داود، وتعلق رجل بأستار الكعبة وهو يقول: "اللهم إن استغفاري مع إصراري لؤم، وإن تركي الاستغفار مع علمي بسعة عفوك لعجز، فكم تتحبب إلي بالنعم مع غناك عني، وأتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك، يا من إذا وعد وفى، وإذا توعد تجاوز وعفا، أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحمين. يا رب عبدك قد أتـ ... ـاك، وقد أساء وقد هفا يكفيه منك حياؤه ... من سوء ما قد أسلفا حمل الذنوب على الذنـ ... ـوب الموبقات وأسرفا وقد استجار بذيل عفـ ... ـوك من عقابك ملحفا رب اعف عنه وعافه ... فلأنت أولى من عفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وداع رمضان نعم، إن عجلة الأيام تدور بسرعة مذهلة، وتسير بخطى حثيثة، لا تكل ولا تمل، ولا تتوقف لحظة واحدة، إنها دليل على سرعة فنان العمر وذهابه، فالأيام والليالي تتوالى، والشهور والأعوام تتعاقب وتتوارى، وتمضي سريعة سريعة. إنها شاهد على الإنسان فيما يقدمه فيها من الأعمال، والعاقل من استغل أوقاته في الطاعة، في التلاوة، في صلة الرحم، في الصدقة، في إعانة الملهوف، في نصرة المظلوم، في الكلمة الطيبة، لأن مغادرته لهذه الحياة أمر حثمي لا شك فيه، وستحين تلك اللحظة عاجلا أم آجلا. سيصير المرء يوما ... جسدا ما فيه روح بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح كلُّنا في غفلة ... والموت يغدو ويروح نح على نفسك يامسـ ... ـكين إن كنت تنوح لتموتن وإن عمِّر ... ت ما عمّر نوح هاهو شهر رمضان الذي كنا قد استقبلناه قبل أيام، وفرحنا بمقدمه، يوشك أن يودعنا، شاهدا لنا أو علينا، فمن قدَّم فيه صالحا، ووفَّق لعمل الخير فليحمد الله تعالى وليشكره على ذلك، وليسأله المزيد والثبات، والتوفيق للأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الصالحات، والختام بالخاتمة الحسنة، والموت، على ما يرضي الله تعالى. ومن فرط في أيامه ولياليه، وسوَّف وأجّل، ووسوس له الشيطان، وملأ قلبه بالغفلة واللهو، فليعد إلى خالقه، وليتب إلى، مولاه وسيده، وليستغفر الله تعالى، فإن الله تعالى غفور رحيم، يفرح بتوبة عبده، ويقبلها إذا كانت بنية صادقة، وعزم على الاستمرار على الطاعة، وندم على التفريط والإضاعة، وليغتنم ما بقي من أيام هذا الشهر، عسى أن يكون فيه ن العتقاء من النار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ويغفر لهم في آخر ليلة، قالوا: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يُوفى أجره إذا قضى عمله". رواه أحمد. شهر الصيام مضى واجتاز وانصرما ... واختص بالفوز بالجنات من خدما وأصبح الغافل المسكين منكسرا ... مثلي، فيا ويحه يا عُظْمَ ما حرما من فاته الزرع في وقت البذار فما ... تراه يحصد إلا الحزن والندما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 صدقة الفطر روى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، طهرة للصائم من اللغو والرث، وطعمة للمساكين، فمن أذاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أذاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" رواه أبو داود زكاة الفطر هي التي شرعها رسول الله صلى الله علي وسلم، وفرضها على أعيان المسلمين كلهم، فهي واجبة علة أفرادهم ذكورا وإناثا، كبارا وصغارا، عبيدا وأحرارا، وهي مقدار يخرجه المسلم قبل صلاة عيد الفطر، شكرا لله تعالى على أن أنعم عليه فأتم شهر الصيام والقيام. وقد جاء في الحديث السابق الحكمة من فرضيتها، من أنها زكاة لنفس المؤمن، وتطهير لها، لما قد يكون علق بها من آثار اللغو والرفث خلال أيام صيام الشهر، وفي الوقت نفسه تتجلى فيها مظاهر الترابط بين أفراد المجتمع المسلم، إذ يعطف الأغنياء على الفقراء، فيوزعون فطرهم على المساكين والمحتاجين، وتراهم يسألون ويبحثون عن المستقين لها، مما يضفي نوعا من التآلف داخل المجتمع الإسلامي، ثم هي تمنح هؤلاء المحتاجين فرصة لمشاركة بقية إخوانهم المسلمين، أفراح عيد الفطر وبهجته، فيتبادلون مع بني جنسهم من جيرانهم وأصدقائهم وأقربائهم التهنئة بهذا العيد السعيد. وتُخرج زكاة الفطر من الطعام الذي يأكله غالب أهل البلد، تمرا أو برا أو أرزا أو شعيرا أو غير ذلك، وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 نخرج زكاة الفطر صاعا من بر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من ثمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب"، متفق عليه،. ولا يجوز العدول عن الطعام إلى القيمة؟ لأنها لم يرد ذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم ولا التابعين لهم بإحسان رحمهم الله، وقد كانت الدراهم والدنانير متداولة بينهم، فلو كان إخراجها جائزا لنقل إلينا، ولظهر بيانه للناس. وأفضل وقت لإخراج زكاة الفطر ما بين صلاة فجر يوم العيد إلى قبيل صلاة عيد الفطر، ويجوز أن تخرج قبل العيد بيوم أو يومين؟ لورود ذلك من فعل ابن عمر رضي الله عنهما. ولا يجوز تأخيرها إلى ما بعد صلاة العيد، فإن فعل ذلك فهي صدقة، إلا أن يكون تأخيره لها لعذر شرعي، كأن يكون في مكان ناء ولم يصله خبر العيد إلا متأخرا، أو نام ولم يستيقظ إلا بعد صلاة العيد، أو نحو ذلك. وتدفع زكاة الفطر إلى فقراء المكان الذي يوافيه العيد وهو فيه، ومقدار زكاة الفطر كيلوان وربع الكيلو جرام، ومن العلماء من قال ثلاثة كيلو جرامات وهو الأحوط. لقد أناط الله تعالى بزكاة الفطر وبالتكبير وبصلاة العيد الفوز والفلاح والسعادة، فقال جل شأنه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [سورة الأعلى الآيتان (14-15) ] وقد فرضت زكاة الفطر في اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك، من السنة الثانية لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ختام الشهر ها هي أيام رمضان قد انقضت، ولياليه تصرمت، مضت أوقاته كأنها طرفة عين، أو ومضة برق، كان المسلمون في جميع البلدان يترقبون دخوله، يستعدون له، يهنئ بعضهم بعضآ بمقدمه، وحل هذا الموسم الكريم، ونزل بساحتهم، بخيراته وبركاته، بفضائله وحسناته، ببره ونفحاته. من عباد الله الفطن الذكي، الذي عرف أن الفرصة باغتنامها، وها هي أمامه فرصة عظيمة، فشمر عن ساعد الجد، ووطف جوارحه في طاعة الله، بادر بقلبه وقالبه في أطراف النهار، وفي أواخر اليالي، وفي أوقات الأسحار، وفي الهواجر، يذكر ربه، يتلو آياته، يردد التسبيح والتحميد، هو بين يدي خالقه، يركع ويسجد، يقوم ويطيل القيام، يلهج بالدعاء، وطلب المغفرة والرحمة، لأنه أيقن أن مثل هذا الموسم الثمين، قد لا يعود عليه مرة أخرى، فلا بد أن يغتنم أوقاته فيما يفيده وينفعه ويبقى له في آخرته: إن لله عبادا فُطنا ... طلَّقوا الدنيا وخافوا المحنا نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحي سكنا جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سُفنا ومن الناس من ركبه الشيطان، وأضله الهوى وألف العصيان، فدخول رمضان لم يغير شيئا في مجرى حياته، ولم يعدل مسار برنامجه اليومي إلا بالسهر واللعب، والغفلة واللهو، يمتنع عن الطعام والشراب، ويصوم نهاره ولكنه بعيد عن مجالسة الصالحين، بعيد عن بيوت الله، وإن جاء إلى الصلاة أتاها كسولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وربما صلى في بيته بعد ذهاب الوقت، فهو أسير هواه، في جميع أيام الشهر الكريم، وهو في هذه اللحظات، يتأسف ويتحسر، ويرسل عبارات الندم على أن ضيع أوقاته سدى. من أحسن في هذا الشهر، وواظب على الطاعة، فليشكر الله تعالى الذي وفقه لصالح الأعمال وإقامة العبادة، وليسأله القبول، والثبات على العمل الخيِّر، وليطلب المزيد المزيد من التوفيق. ومن أساء وقصّر في رمضان فليغتنم أوقات عمره، وأيام حياته، وليتب توبة نصوحا إلى خالقه، وليندم على تفريطه، وليسأل الله التوفيق لصالح الأعمال، فإن ربنا غفور رحيم، يفرح بتوبة عبده، ويقبل توبته إذا علم منه حسن النبية، وصدق اللهجة، وسلامة القصد. وليختم شهره بالاستغفار، فإنه ختام الأعمال الصالحة، عسى الله أن يقيله ويقبل منه: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة الآية (74) ] ، سبحان من يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء الآية (110) ] راجع حساباتك مع الله، ثم تأمل، أليس من الخزي والخسارة، أن يعفو ربك عن الملايين من إخوانك المسلمين، وتبقى أنت مثقلا بذنوبك وأوزارك التي أثقلت كاهلك. بمعاصيك ومخالفاتك، وأنت تعلم أن ربك لا يظلم مثقال ذرة؟ سلام من الرحمن كلَّ أوان ... على خير شهر قد مضى وزمان سلام على شهر الصيام فإنه ... أمان من الرحمن كل أمان لئن ذهبت أيامك الغرُّ بغتة ... فما الحزن من قلبي عليك بفان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 عيد الفطر عن أنس رضي الله عنه قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "مما هذان اليومان"؟ قالوا: يا رسول الله، كنا نلعب فيهما بالجاهلية، فقال صلى الله عليه وسام: "قد أبدلكم الله خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر"" رواه أبو داود. في كل عام يحتفل المسلمون في مشارق والأرض ومغاربها بعيد الفطر، وهو يوم يفرحون فيه، يشكرون الله تعالى أن منَّ عليهم بأداء فريضية من أعظم فرائض الإسلام، هي صيام شهر رمضان، وسهّل عليهم إتمامه وقيامه، يظهر المسلمون فيه البهجة والسرور، والفرح والحبور، ويهنئ بعضم بعضا، ويتبادلون الزيارات بين الأهل والإخوان والأصدقاء. وإذا أتم المسلمون صيام شهر رمضان ثلاثين يوما، أو رئي هلال شوال، استحب للمسلم أن يبتدئ التكبير من غروب شمس ليلة العيد، قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [سورة البقرة الآية (185) ] فيردد: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. ويستمر في التكبير إلى أن يصلي العيد، وقد كان السلف يحرصون عليه ويظهرونه في المساجد والطرقات ويرفعون به أصواتهم. وتتأكد صلاة العيد على كل مسلم ومسلمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر النساء أن يخرجن إلى صلاة العيد، ووجه الحيض أن يعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعاء المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ويستحب الغسل قبل الذهاب إلى المصلى وأن يلبس أحسن ثيابه ويتطيب، ويأكل قبل خروجه تمرات وترا، واحدة أو ثلاثا أو خمسا، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذهب إلى صلاة عيد الفطر حتى يأكل تمرات. ويؤدي الصلاة بخشوع وحضور قلب، ويرجو الله تعالى أن يغفر ذنوبه، ويعيده إلى منزله وقد تخلص من كل ذنب، فقد ورد أنه إذا حان يوم عيد الفطر، وقفت الملائكة على أبواب الطرق ينادون: اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم، يعطي الجزيل ويعفو عن العظيم، فإذا برزوا إلى مصلاهم، قال الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ فيقولون: إلهنا وسيدنا جزاؤه أن توفيه أجره، فيقول: أشهدكم أني قد جعلت ثوابهم من صيامهم شهر رمضان وقيامهم رضاي ومغفرتي، انصرفوا مغفورا لكم. أورده البيهقي. قال مورق العجلي: "فينصرف أقوام من مصلى العيد وقد خرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم". إن العيد محطة تذكر، يحاسب العبد فيها نفسه، ويدقق في أعماله، ويصطلح مع خالقه، كما أنه فرصة سانحة لتصفية القلوب، وتقوية العلاقات، والصفح عن الهفوات والزلات، واستلال الشحناء والسخيمة من النفوس، وبدء صفحة جديدة بيضاء في العلاقات الأخوية، والروابط الأسرية، وإظهار التواد والتآلف والتراحم بين جميع أفراد المجتمع المسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 حال المسلم بعد رمضان ها هي الأمة الإسلامية، ودّعت قبل أيام، ضيفا كريما نزل بساحتها، وموسما عظيما حل وافدا عليها، شهر عظيم جاء بخيراته وبركاته، يزيد المؤمن فيه حسناته، ويعمل جاهدا على رفعة درجاته. ما أحمل أيام شهر الصيام ولياليها، حين ترى الناس مقبلين على فعل الخير، والمساجد مزدحمة بالمصلين، والتراحم تتضاعف صوره في مجتمع الباذلين المنفقين، والتعاطف في أرقى درجاته بين عباد الله الصائمين. لقد عشنا فيه أوقاتا جميلة، حافلة. بمسارعة الناس إلى الخيرات، ومضاعفة الأعمال الصالحات، والتسابق إلى المساجد لأداء الصلوات، والتزاحم في عمل النوافل وبذل الصدقات، فالنفوس قد أُترعت بروحانية، الشهر، والقلوب مملوءة بالمحبة والعطف. جاء رمضان، ومن الناس من عرف عظمة هذا الموسم، وقدر أوقات الشهر الكريم، فاغتنمها وزاد من عمله الصالح، وتضرع فيه بين يدي مولاه، وسأله المغفرة والعفو، ومحو الذنوب والسيئات، والعتق من النار فقدم فيه خيرا، فليحمد الله على ذلك، وليسأله الثبات على الطاعة، والمزيد من التوفيق للأعمال الصالحة. ومن الناس من دخل عليه الشهر، ولم يأبه بدخوله، ولم يقدر قيمة لحظاته، ونفاسة أوقاته، فلم يغير شيئا من نمط حياته، ولم يعدل طريقته في قضاء أوقاته، فأهدر هذا الموسم، وفرط في اغتنامه، فرحل شهر الصيام وهو غارق في غفلاته، فيحتاج هذا إلى محاسبة نفسه والتوبة إلى ربه، وفتح صفحة جديدة، وحياة يستغلها بالطاعة، ويوظف أوقاته في طلب مغفرة ربه ومرضاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 إن عباد الله الصالحين، وأولياءه المخبتين،، لا يزيدهم مرور المواسم الفاضلة، إلا قربا من ربهم، ومضاعفة لأعمالهم، لأنهم منداومون على عمل الصالحات، في جميع الأزمنة والأوقات، وفي سائر الليالي والأيام، وهم متعلقون بخالقهم، لا يجدون اللذة إلا في مناجاته، ولا الراحة إلا بدعائه والتعرض لنفحاته، {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [سورة الفتح (29) ] . قد غرس الله في قلوبهم حب الطاعة، فهم يؤمنون بأن العمل لا ينقضي إلا بانتهاء الأجل، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [سورة الحجر الآية (99) ] فالموت هو الذي يقطع عليهم الاستمرار في فعل الخيرات ولذة المناجاة. فسبحان من خالف بين قلوب العباد، وفرق بين الهمم، يمن على من يشاء بالهداية والتوفيق، ويصرف من أراد عنها. هاهم رهبان الليل، الذين ألفت قلوبهم الطاعة، وأحبت نفوسهم العبادة، يواصلون السير في طريقهم، ويداومون على العبادة في ليلهم ويومهم، قد واصلوا استغلالهم قطار الطاعة ليواصل بهم رحلته في طلب المغفرة والرضا، والفوز بالجنة وبلوغ دار السعداء، إنهم يصومون في هذه الأيام، لأن نبيهم صلى الله عليه وسلم، حثهم على ذلك بقوله: "من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدر" رواه مسلم. وذلك فضل عظيم من الله تعالى، الذي يعطي على الحسنة عشر أمثالها، ذلك أن شهر رمضان بعشرة أشهر، فهذه الأيام الستة، كل يوم منها بعشرة أيام، مجموعها ستون يوما، فكان صيام رمضان والأيام الستة باثني عشر شهرا، وذلك عام كامل، فسبحان من لا تنقص خزائنه. إنها فرصة سانحة فاغتنمها، ولا تفرط في صيامها، واعزم على فعل هذه الطاعة قبل فوات وقتها، عسى أن تحظى بالقبول من خالقك ومولاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ثم اشكر الله تعالى، على نعمة التوفيق للصيام، حيث أعانك على إتمام شهر رمضان وقيامه، فإن من جملة شكر العبد لربه أن يصوم له شكرا بعد رمضان، وقد كان بعض السلف إذا وفق لقيام ليلة من الليالي، أصبح نهارها صائما، ويجعل هذا الصيام شكر الله تعالى، فلله تعالى الهمة العالية، والنفوس العظيمة، إنها تردد دائما: إذا أنت لم تزدد على كل نعمة ... لموليكها شكرا فلست بشاكر يقول العلامة ابن رجب رحمه الله: "على كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا، يحتاج إلى شكر عليها، ثم إن التوفيق للشكر نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى تحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبدا، فلا يقدر العبد على القيام بشكر النعم، وحقيقة الشكر: الاعتراف بالعجز عنه، كما قيل: إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمر إن مقابلة نعمة التوفيق لصيام رمضان، بفعل المعاصي، وارتكاب المخالفات والمساوي، واقتراف الذنوب بعد تلك الأيام الفاضلة والليالي، انتكاس بعد توفيق ونكوص عن الحق، وغواية وضلال، وهوفعل من بدل نعمة الله كفرا، واختار طريق الضلالة والتعاسة، بعد أن سلك سبيل الهداية والسعادة، فإن كان قد بيَّت النية في صيامه لرمضان، وعزم على معاودة المعاصي بعد انقضاء شهر الصيام والقيام، فصيامه عليه مردود، قال كعب: من صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد لم رمضان يعص الله، دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر عصى ربه فصيامه مردود". إن أعمال المؤمن الصالحة ليست معلقة بانقضاء رمضان، بل إن رمضان يزيد من حيوية النفس المؤمنة، ويبعث فيها القوة والنشاط، فإذا انتهى الشهر، كان أنشط في العبادة، فيستمر على الطاعة ما دام حيا، ولذلك ورد أن الصائم بعد رمضان كالكارّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 بعد الفارّ، أي كالذي يفر من القتال في سبيل الله، ثم يعود إليه، وذلك لأن بعض الناس ذوي النفوس الضعيفة والهمم الدنيئة، يفرح بانقضاء شهر الصيام، إذ هو يشعر بثقل شهر رمضان عليه، ويمل من أيامه ولياليه، ويرى أنه طويل عليه، قد حال دون تنفيذ شهواته ورغباته، ومن كان كذلك فلا يكاد يعود النبي الصيام سريعا، وبعضهم يجتهد في شهر رمضان، فإذا انقضى عاد إلا التسويف والمماطلة، وارتكاب المخالفات، وقد سئل أحد الصالحين: عن قوم يتعبدون ويجتهدون في رمضان، فإذا انقضى تركوا العبادة، فقال: بئس القوم لا يعرفون لله حقا إلا في شهر رمضان. إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها. وقد نجد ذلك التسويف عند بعض الشباب، لأن الشاب يؤمل معاودة التوبة في آخر عمره، وهذا خطر؛ لأن الموت قد يفتك به وهو في رونق شبابه، وأقبح منه الشيخ المسن، فإنه إذا عاود المعصية بعد رمضان، كان ذلك أشنع وأفظع. اللهم يا جابر المنكسرين، ويا راحم ذل المساكين، نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، اللهم وفقنا لصالح الأعمال، وثبتنا على الطاعة والعبادة، واهدنا سبيل الفلاح والاستقامة، واجعل خير أعمارنا خواتمها، وأفضل أعمالنا أواخرها، برحمتك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، قائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ثم الكتاب وربنا محمود ... وله المكارم والعلا والجود وعلى النبي محمد صلواته ... ما ناح قمري وأورق عود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92