الكتاب: شرح (مسائل الجاهلية لمحمد بن عبد الوهاب) المؤلف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان الناشر: دار العاصمة للنشر والتوزيع الرياض الطبعة: الطبعة الأولى 1421هـ - 2005م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- شرح مسائل الجاهلية صالح الفوزان الكتاب: شرح (مسائل الجاهلية لمحمد بن عبد الوهاب) المؤلف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان الناشر: دار العاصمة للنشر والتوزيع الرياض الطبعة: الطبعة الأولى 1421هـ - 2005م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم ال مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فقد كنت ألقيت دروساً في المسجد، تتضمن شرح مسائل الجاهلية التي ذكرها شيخ الإسلام المجدد: الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -، في رسالة مختصرة، وكان بعض الطلاَّب – وفقهم الله – قد سجلوا تلك الدروس في أشرطة، وقام بعضهم – جزاه الله خيراً – بتفريغها وكتابتها وعرضها عليَّ، فلما قرأتها استحسنت طبعها ونشرها؛ لتعم الفائدة بها، على ما في ذلك الشرح من نقص وضعف، ولكن كما يقولون: شيء خير من لا شيء. وأرجو ممن قرأ هذا الشرح وأدرك فيه خطأ أن ينبهني عليه لاستدراكه، وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد المؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 شرح مسائل الجاهلية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – في مقدمة رسالته: مسائل الجاهلية: هذه مسائل خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية الكتابيين والأميين، مما لا غنى للمسلم عن معرفتها. فالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ ... وبِضِدِّها تتبيّن الأشياء فأهم ما فيها وأشدها خطراً: عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية تمت الخسارة، كما قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة العنكبوت: 52] . الشرح هذه الرسالة من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، اسمها: ((مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بداية الشرح ... الشرح هذه الرسالة من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، اسمها: ((مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية)) تشتمل على مائة وثمان وعشرين مسألة، استخلصها – رحمه الله – من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، والغرض من ذلك: تنبيه المسلمين؛ من أجل أن يجتنبوا هذه المسائل؛ لأنها خطيرة جداً. وبيّن – رحمه الله – أن هذه المسائل مما خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، من الكتابيين والأميين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 المراد بالكتابيين ... والكتابيون المراد بهم: أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأن اليهود عندهم كتاب التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، والنصارى عندهم كتاب الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، فلذلك سموا بأهل الكتاب، وهم الآن يطلقون على التوراة: العهد القديم، أو: الأسفار القديمة، ويطلقون على الإنجيل: أسفار العهد الجديد، هذا في اصطلاحهم. وهما كتابان عظيمان أنزلهما الله على نبيين كريمين، هما: موسى وعيسى عليهما السلام، لا سيما التوراة، فإنها كتاب عظيم. والإنجيل مكمل لها ومصدق لها. ولذلك سموا بأهل الكتاب؛ فرقاً بينهم وبين غيرهم ممن ليس لهم كتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وأما الأُمِّيُّون: فالمراد بهم: العرب الذين لا يدينون بالديانتين، سموا بالأميين، جمع أمّي، نسبة إلى الأم (والأمي هو: الذي لا يقرأ ولا يكتب) فإنهم قوم لا يقرأون ولا يكتبون في الغالب، وليس عندهم كتاب قبل نزول القرآن؛ فلذلك سموا بالأميين، كما قال تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] ، وكما قال تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44] ، وقال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] ، فهذا معنى الأميين. ووصف نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه أمي، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] . فكونه أميًّا لا يقرأ ولا يكتب وجاء بهذا الكتاب العظيم دليل على صدق رسالته وفي ذلك معجزة له. فالعرب أميون، ونبيهم صلى الله عليه وسلم أمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 المراد بالجاهلية ... وأما الأُمِّيُّون: فالمراد بهم: العرب الذين لا يدينون بالديانتين، سموا بالأميين، جمع أمّي، نسبة إلى الأم (والأمي هو: الذي لا يقرأ ولا يكتب) فإنهم قوم لا يقرأون ولا يكتبون في الغالب، وليس عندهم كتاب قبل نزول القرآن؛ فلذلك سموا بالأميين، كما قال تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] ، وكما قال تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 44] ، وقال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] ، فهذا معنى الأميين. ووصف نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه أمي، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] . فكونه أميًّا لا يقرأ ولا يكتب وجاء بهذا الكتاب العظيم دليل على صدق رسالته وفي ذلك معجزة له. فالعرب أميون، ونبيهم صلى الله عليه وسلم أمي. أما الجاهلية، فالمراد بها النسبة إلى الجهل، والجهل عدم العلم، والجاهلية هي التي ليس فيها رسول وليس فيها كتاب. والمراد بها: ما كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] يعني: التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان العالم كله يموج في ضلال وكفر وإلحاد؛ لأن الرسالات السابقة اندرست، فاليهود حرفوا كتابهم التوراة، وأدخلوا فيه كثيراً من الكفريات والضلال، والشنائع التي أدخلوها في التوراة، وكذلك النصارى حرفوا كتابهم الإنجيل عما كان عليه وقت نزوله على المسيح عليه الصلاة والسلام، وذلك أن رجلاً يقال له: بلس، أو شاول، كان يهودياً حاقداً على رسول الله عيسى عليه السلام، فهذا الرجل لجأ إلى المكر والخديعة، في إفساد دين المسيح عليه السلام، حيث أظهر الإيمان بالمسيح، وأنه ندم على ما كان من قبل من عداوة المسيح، وأنه رأى رؤيا – بزعمه – فآمن بالمسيح، وصدقه النصارى فيما قال، ثم إنه تناول الإنجيل الذي أنوله الله على عيسى، فأدخل فيه الوثنيات والشركيات والكفريات، حيث أدخل فيه عقيدة التثليث، أي أن الله ثالث ثلاثة، وأن عيسى ابن الله، أو هو الله. وأدخل فيه الأمر بعبادة الصليب، وأدخل كفريات شنيعة، وصدقوه في ذلك على أنه عالم، وعلى أنه مؤمن ولقبوه بالرسول بلس أي رسول المسيح بزعمهم وقصده إفساد دين المسيح، وحصل له ما أراد، فقد افسد دين المسيح وأدخل فيه الوثنيات والتثليث، واعتقاد أن عيسى ابن الله، أو أنه ثالث ثلاثة، وأدخل فيه وثنيات كثيرة فاتبعوه على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 هذه حالة أهل الكتاب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، إلاّ بقايا منهم كانوا على الدين الصحيح 1، لكن الأكثرية منهم على الكفر والانحراف عن دين الله. أما العرب فكانوا على قسمين: قسم اتبع الديانات السابقة، كاليهودية والنصرانية والمجوسية. وقسم كانوا على الحنيفية، دين إبراهيم وإسماعيل، لا سيما في الحجاز في أرض مكة المكرمة. إلى أن ظهر فيهم رجل يقال له: عمرو بن لحي الخزاعي، كان ملكاً على الحجاز، وكان يظهر التنسك والعبادة والصلاح، وذهب إلى الشام للعلاج، فوجد أهل الشام يعبدون الأصنام، فاستحسن ذلك، وجاء من الشام بأصنام معه، ونقب عن الأصنام التي كانت مدفونة تحت الأرض بعد قوم نوح، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وغيرها، كان الطوفان قد طمسها ودفنها، وجاء الشيطان فأرشده إلى أمكنتها، فنشبها وأخرجها، ووزعها على قبائل العرب وأمر بعبادتها؛ وقبلوا منه ذلك، ودخل الشرك في أرض الحجاز وفي غيرها من بلاد العرب، وغيّر دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وسيَّب السوايب للأصنام من بهيمة الأنعام؛ ولذلك رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، يعني يجر   1 قال الشيخ تقي الدين: إنهم انقرضوا قبل البعثة المحمدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أمعاءه في النار 1. فكانت حالة العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في ضلال مبين، الكتابيون والأميون وغرهم، سائر أهل الأرض، إلا بقايا من أهل الكتاب كانوا على الدين الحق، لكنهم انقرضوا قبل البعثة، فأصبح الظلام حالكاً في الأرض، وجاء في الحديث: أن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، يعني: أبغضهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب. في هذا الظلام الحالك، وهذه الجاهلية المستحكمة، وانطماس السبل، ودروس وآثار الرسالات السماوية، بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] وإن كانوا من قبل: أي قبل بعثته صلى الله عليه وسلم. والجاهلية – كما قلنا – منسوبة إلى الجهل وهو عدم العلم، وكل أمر منسوب إلى الجاهلية فإنه مذموم، ولهذا قال   1 فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجرُّ قُصْبه في النار، وكان أول من سيَّب السوائب" أخرجه البخاري (رقم 3521) ومسلم (رقم 2856) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 تعالى: [الأحزاب: 33] ، نهى نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن التبرج، وهو إظهار الزينة في الأ {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} سواق، وأمام الناس؛ لأن أهل الجاهلية كانت نساؤهم تتبرج، بل تكشف عن عوراتها، كما في الطواف عندهم، يرون أن هذا من المفاخر. وقال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] وهذا من باب الذم، فحمية الجاهلية مذمومة، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار حصل بينه وبين رجل من المهاجرين في بعض الغزوات، اقتتال ونزاع، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، كل واحد منهم دعا قومه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة" 1يعني الاعتزاء بالقبلية؛ لأن المؤمنين كلهم إخوة، لا فرق بين أنصاري ومهاجري، ولا بين قبيلة كذا وكذا، هم إخوة في الإيمان، كالجسد الواحد، والبنيان يشد بعضه بعضاً، هذا الواجب على المسلمين، أنهم لا يميزون بين عربي وعجمي، وأسود وأبيض، إلا بالتقوى، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ   1 أخرجه البخاري (رقم 3518، 4905، 4907) ومسلم (رقم 2584) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] فالاعتزاء بالأنساب والاعتزاء بالقبائل من أمور الجاهلية. وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" 1؛ لأن أهل الجاهلية هم أهل الفوضى، الذين لا يخضعون لسلطان ولا لأمير. هذه حالة الجاهلية. فالحاصل: أن أمور الجاهلية كلها مذمومة، ونهينا عن التشبه بأهل الجاهلية في كل الأمور، والجاهلية انتهت ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فبعد بعثته زالت الجاهلية العامة، وجاء العلم والإيمان، ونزل القرآن والسنة، وانتشر العلم وزال الجهل، وما دام القرآن موجوداً، والسنة النبوية موجودة، وكلام أهل العلم موجوداً، فإنه لا جاهلية حينئذ، أعني الجاهلية العامة، أما أنه يبقى بعض الجاهلية في بعض الناس، أو في بعض القبائل، أو في بعض البلدان، فالجاهلية الجزئية تكون موجودة. ولهذا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعيّر أخاه بقوله: يا ابن السوداء، قال له: "أعيّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية" 2، وقال صلى الله عليه وسلم: "أربع في أمتي من أمور الجاهلية لا يتركونهن:   1 أخرجه مسلم (رقم 1850) . 2 أخرجه البخاري (رقم 30، 2545، 6050) ومسلم (رقم 1661) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم" 1 فدل على أنه تبقى أشياء من أمور الجاهلية في بعض الناس، وهي مذمومة، لكنه لا يكفر بها لكن الجاهلية العامة زالت ولله الحمد. ولهذا لا يجوز أن يقال: الناس في جاهلية، أو: العالم في جاهلية؛ لأن هذا جحود لوجود الرسالة، وجحود للقرآن والسنة. هذا الإطلاق لا يجوز، أما أن يقال: في بعض الناس جاهلية، أو: في بعض الأشخاص جاهلية، أو: هناك خصال من خصال الجاهلية، فهذا موجود، ففيه فرق بين ما كان قبل البعثة وما بعد البعثة. قد قال بعض الناس: ما الداعي إلى ذكر مسائل الجاهلية، ما دامت الجاهلية قد انتهت؟ نحن مسلمون ولله الحمد.   1 أخرجه البخاري مختصراً (رقم 3850) ومسلم واللفظ له (رقم 934) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الإجابة عن سؤال: ماالداعي غلى ذكر مسائل الجاهلية ... قول: الداعي لذلك: الحذر منها، فإنه إذا عرفها طالب العلم فإنه يحذر منها، أما إذا جهلها ولم يعرفها، فإنه قد يقع فيها، فذكرها ومدارستها من أجل أن تعرف حتى تجتنب، وحتى يحذر منها، قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 عَرَفْتُ الشَّرَّ لا للشر ولكن لتوقِّيه ... ومن لا يعرف الشرَّ يَقَعْ فيهِ هذا من ناحية، والناحية الثانية، أنك إذا عرفت الجاهلية عرفت فضل الإسلام، كما قال الشاعر: الضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ ... وبِضِدِّها تتبيّنُ الأشياءُ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، فإذا كان الإنسان يجهل أمور الجاهلية فإنه حري أن يقع فيها؛ لأن الشيطان ما نسيها ولا نام عنها، يدعو إليها. فالشيطان وأتباعه من دعاة الضلال لا يزالون يدعون إلى الجاهلية، وإلى إحياء أمور الجاهلية، إلى الشركيات والبدع، وإلى الخرافات، وإلى إحياء الآثار، وكل هذا القصد منه: طمس الإسلام، وعودة الناس إلى اللجاهلية، فلا بد من دراسة أمور الجاهلية من أجل أن نتجنبها ونبتعد عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 قال الشيخ: "و أعظم مسائل الجاهلية وأخطرها: عدم الإيمان بما جاء به الرسول صلى اله عليه وسلم؛ لأن أهل الجاهلية كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به، ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به، قال رحمه الله: "فإذا انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية تمت الخسارة"، أي حصل فساد في الظاهر والباطن، فساد في الباطن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 قال الشيخ: "وأعظم مسائل الجاهلية وأخطرها: عدم الإيمان بما جاء به الرسول صلى اله عليه وسلم؛ لأن أهل الجاهلية كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به، ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به، قال رحمه الله: "فإذا انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية تمت الخسارة"، أي حصل فساد في الظاهر والباطن، فساد في الباطن وهو عدم الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفساد في الظاهر وهو استحسان أمور الجاهلية، فإذا فسد الظاهر والباطن تمت الخسارة، والعياذ بالله. وهذا نتيجة الجهل وعدم معرفة أمور الجاهلية، فلا يجوز استحسان ما عليه أهل الجاهلية، بل يجب إنكاره واستبشاعه، أما من استحسنه فإنه يكون من أهل الجاهلية، واستدل الشيخ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52] . {آمَنُوا بِالْبَاطِل} يعني: صدقوا الباطل، والباطل ضد الحق، فما خالف الحق فهذا باطل، والباطل هو: الذاهب الزائل الذي لا فائدة فيه، قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المسألة الأولى: دعاء الأولياء والصالحين ... دعاء الأولياء والصالحين المسألة الأولى [إنهم يتعبَّدون بإٍشرَاك الصَّالحين في دُعاءِ اللهِ وعِبَادَتِهِ؛ يُريدُون شَفَاعتَهُم} عِنْدَ اللهِ؛ لِظَنِّهِمْ أنَّ اللهَ يُحبُّ ذَلِكً، وأنَّ الصًّالحين يُحِبُّونَهُ، كما قالَ تعالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] . {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وَهَذِهِ أَعْظَمُ مَسْأَلَةٍ خّالَفَهُمْ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى بالإِخْلاَصِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُ اللهِ، الذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعً الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ لا يُقْبَلُ مِنَ الأَعْمَالِ إِلاَّ الخَالصُ، وَأَخْبَرَ أنَّ مَنْ فَعَلَ مَا اسْتَحٍْسَنُوا فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عليه الجَنَّةَ، وَمَأْواه النَّارُ، وَهَذِهِ هِيَ المسأَلَةُ التِّي تَفَرَّقَ النَّاسُ منْ أّجْلِها بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَعِنْدَهَا وَقَعَتِ العَدَاوَةُ، وَلِأَجْلِهَا شُرِعَ الجِهَادُ، كَمَا قَالَ تَعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الشرح قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ،فالعبادة حق الله جل وعلا، لا يجوز أن يُعبد معه غيره كائناً من كان، فالجاهلية عكسوا هذا الأمر، فتركوا عبادة الله التي خُلقوا من أجلها، وعبدوا غير الله جل وعلا من الأصنام والأشجار والجن والملائكة والأولياء والصالحين، فصرفوا العبادة لغير الله عز وجل، فمنهم من لا يعبدوا الله أصلاً، وهم الكفار، من الملاحدة والدهرية، ومنهم من يعبد اله ويعبد معه غيره. والحكم واحد، فالذي يعبد مع الله غيره كالذي لا يعبد الله أصلاً؛ لأن عبادته باطلة، والله لا يرضى بالشرك، وأيضاً لا بد أن يكون العمل موافقاً لما شرعه الله سبحانه وتعالى، فالله لا يقبل العمل الذي فيه بدعة، كما يقبل العمل الذي فيه شرك، فأعظم أمور الجاهلية: الشرك بالله عز وجل والابتداع. وبدأ الشيخ- رحمه الله –بهذه المسألة؛ لأنها أخطر مسائل الجاهلية، ولأنها هي المسألة التي بدأ الرسول صلى لله عليه وسلم في إنكارها، ودعوة الناس إلى تركها، فالرسول أول ما بدأ –كغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 من الرسل –بالأمر بإخلاص العبادة لله عز وجل، وترك عبادة ما سواه هذا فاتحة الرسل؛ لأن هذه هو الأساس الذي يبنى عليه غيره، فإذا فسد الأساس فلا فائدة من الأمور الأخرى، لا فائدة من الصلاة ولا من الصيام ولا من الحج ولا من الصدقات ولا من العبادات؛ إذا كان الأصل فاسداً والتوحيد معدوماً، فلا فائدة من الأعمال الأخرى ؛ لأن الشرك يفسدها ويبطلها. وكانوا في الجاهلية يعبدون الله، ويعبدون أشياء كثيرة، ومنها: عبادة الأولياء والصالحين، كما حصل لقوم نوح لما غلوا في الصالحين: ود وسواع ويغوث ونسر، وعبدوا قبورهم من دون الله عز وجل، بحجة أنهم صالحون، وأنهم يقرّبون إلى الله، وأنهم شفعاء عند الله، كذلك درجت الجاهلية على هذا المنوال، فكانوا يعبدون الأولياء والصالحين والملائكة، ويقولون: ما نعلدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ولا يقولون: هؤلاء شركاء لله، إنما يقولون: إنما هم عباد الله يتوسطون لنا عند الله، ويشفعون لنا، ويقربونا إلى الله زلفى، ولا يسمون عملهم هذا شركاً؛ لأن الشيطان زين لهم أن هذا ليس بشرك، وإنما هو توسل بالصالحين واستشفاع بالصالحين، والعبرة ليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بالأسماء، العبرة بالحقائق، فهذا شرك وإن سَمَّوْه تشفعاً وتقرباً، فهو شرك؛ لأن الأسماء لا تغيّر الحقائق، والله لا يرضى أن يُشْرك معه أحد في عبادته، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] ، وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] ، العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. فهذه أعظم مسائل الجاهلية، وهي عبادة الأولياء والصالحين، من الأموات والغائبين والاستغاثة بهم، والاستعاذة بهم، وطلب الحوائج منهم، كما عليه عباد القبور اليوم تماماً، فعبادة الأضرحة الآن، والتقرب إلى الأموات، ودعاؤهم من دون الله، والاستغاثة بهم، هذا هو ما كانت عليه الجاهلية، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] . كذلك نفس الشيء الآن، هؤلاء القبوريون إذا نوقشوا ونُهو عن عبادة القبور، قالوا: نحن ما نعبد القبور؛ لأن العبادة لله، لكن هؤلاء وسائط بيننا وبين الله، وشفعاء لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عنده. هذا هو الذي أنكره الله على أهل الجاهلية تماماً {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} [يونس:18] ، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ما عبدوهم لأنهم يرون أنهم يشاركون الله في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، هم يعترفون أن هذا لله، وإنما عبدوهم ليقربوهم إلى الله زلفى، فيقولون: نحن عباد مذنبون، وهؤلاء رجال صالحون لهم جاهٌ عند الله، فنريد منهم أن يتوسطوا لنا عند الله في قبول توبتنا وعبادتنا. هكذا زين لهم شياطين الإنس والجن هذا الأمر. والعجيب أنهم يقرؤون القرآن ويمرون على هذه الآيات ولا ينتبهون لها، ومع هذا يستمرون على عبادة القبور، وهي من فعل الجاهلية، وهذا لأنهم لم يعرفوا ما كانت عليه الجاهلية؛ لم يعرفوا أن هذا من أمور الجاهلية، هذا نتيجة الجهل بأمور الجاهلية. ثم قال الشيخ رحمه الله: وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بالإخلاص، وأخبر أنه دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص، وأخبر أن من فعل ما استحسنوا فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار. وهذه هي المسألة التي تَفَرَّقَ لأجلها الناس بين مسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] . هل الله عز وجل بحاجة إلى أن يجعل بينه وبين العبد واسطة؟ الله جل وعلا قريب مجيب، يسمع ويرى، ويرحم ويقبل التوبة عن عباده، ولم يأمرنا باتخاذ الوسائط في الدعاء، بل أمرنا بدعائه مباشرة {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] ، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ، أمرنا الله بدعائه مباشرة، ولم يأمرنا باتخاذ الوسائط بيننا وبينه. وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مسألة الشرك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله وأرسله إلى الناس، أول ما بدأ، بالدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وإنكار الشرك، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا" 1 ويقول: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا   1 أخرجه أحمد في مسنده (3/492) (4/63، 341) ، وابن حبان في صحيحه (رقم 6528) والطبراني في الكبير (5/61 رقم 4582) والدارقطني في السنن (3/ 45) والبيهقي في دلائل النبوة (5/380) والحاكم في المستدرك (3/512 رقم 4275) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 مني دماءهم وأموالهم" 1، فكان صلى الله عليه وسلم يغشاهم في مجتمعاتهم وفي منازلهمن وفي أيام الموسم في الحج، ويدعوهم إلى التوحيد، ويذهب هنا وهناك، كما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى التوحيد. وإفراد الله جل وعلا بالعبادة، هذا أول ما بدأ به صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا هو الأساس، وهكذا يجب على الدعاة أن يهتموا بهذا الأمر، وأن يجعلوا الدعوة إلى التوحيد هي أهم شيء في دعوتهم. فقد أتى صلى الله عليه وسلم بالإخلاص، إخلاص العبادة لله عز وجل، وترك عبادة ما سوى الله من الأولياء والصالحين أو غيرهم، هذا هو دين الرسل، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] فهذا هو منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، الدعوة إلى عبادة الله، وترك ما سواه، وبقية الإصلاحات تأتي تبعاً لذلك. والله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلاّ ما كان خالصاً لوجهه، ليس فيه شرك، وأيضاً لا بد أن يكون العمل موافقاً لما شرعه الله سبحانه وتعالى، فالله لا يقبل العمل الذي فيه بدعة   1 أخرجه البخاري (رقم 1399، 2946) ومسلم (رقم 20، 21) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ولا ما كان فيه شرك، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] ، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36] لم يقتصر على الأمر بعبادة الله، بل نهى عن الشرك؛ لأن عبادة الله لا تقبل إذا كان فيها شرك، والكفر بالطاغوت مقدم على الإيمان بالله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] . وهذا هو معنى لا له إلا الله، فهي مكونة من نفي وإثبات، نفي الشرك وإثبات التوحيد، (لا إله) إبطال لجميع المعبودات (إلا الله) إثبات لعبادة الله وحده، فالله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، ولا يقبل العمل الذي فيه بدعة ومخالفة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" 1، وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 2ولذلك قال العلماء: إن العمل لا يقبل إلا بشرطين: الشرط الأول: الإخلاص لله عز وجل، والشرط الثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا اختل أحد   1 أخرجه مسلم (رقم1718/ 18) والبخاري تعليقاً في كتاب الاعتصام، باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ الرسول من غير علم فحكمه مردود. 2 أخرجه البخاري رقم (2697) ومسلم (رقم 1718/ 17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الشرطين؛ لم يقبل هذا العمل، ولم يكن عملاً صالحاً. وأخبر جل وعلا أن من عبد ما يستحسنه من الأصنام والأولياء والأشجار والأحجار والقبور، ولم يرجع في العبادة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما اعتمد على الاستحسان أو على ما تهواه نفسه، ولو خالف الكتاب والسنة، أخبر الله جل وعلا أن الله قد حرم عليه الجنة ومأواه النار، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] يعني، منعه من دخول الجنة منعاً باتاً، فالتحريم في اللغة: المنع، فالمشرك ممنوع من دخول الجنة بتاتاً، لا طمع له فيها، ومأواه النار، هذه عاقبة الشرك بالله عز وجل، وإن كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، هؤلاء إذا ماتوا على ذلك، غير تائبين، حرم الله عليهم الجنة، وجعل النار مأواهم أبد الآباد, فالذي يريد لنفسه النجاة يتنبه لهذا، ولا يبقى على أمور الجاهلية في هذا وغيره. وقوله رحمه الله: (وهذه المسألة هي التي تَفَرَّقَ الناس لأجلها بين مسلم وكافر) يعني مسألة التوحيد والشرك، جماعة صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، وأخلصوا العبادة لله عز وجل، هؤلاء مؤمنون، وقوم خالفوه وبقوا على شركهم وعبادتهم، وما كان يعبد آباؤهم من قبل، كما عليه أمم الكفر الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 يعارضون الرسل؛ لأنهم يريدون البقاء على ما كان عليه آباؤهم، كما قال تعالى: {) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] ، وقالوا: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 62] ، هذه مقالتهم وحجتهم، وهي التمسك بما عليه الآباء والأجداد، من عبادة غير الله عز وجل. وقوله رحمه الله: (وعندها وقعت العداوة) أي: بين الموحدين والمشركين، بين المؤمنين والكفار، فإنه يجب على المؤمنين أن يعادوا الكفار، فلا يجوز محبة الكفار حتى ولو كانوا أقرب الناس، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] فلا بد من الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من الكفر والكافرين، والشرك والمشركين {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] هذه ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. أما الذين ينادون الآن بالمحاورة بين الأديان، والمفاهمة بين الأديان، وأنها كلها أديان سماوية؛ بل بعضهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 يتجرّأ ويقول: لا تكفر اليهود والنصارى. فهذا خلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلاف ما جاء به القرآن، وخلاف ملة إبراهيم التي أمرنا باتباعها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23] وهؤلاء يقولون: اليهوج والنصارى أهل كتاب وأهل إيمان، وكلها أديان من عند الله، نتفاهم فيما بيننا ونتعاون، ولا تكفرون اليهود والنصارى. هذه دعوة الآن قائمة، وهي قضاء على الولاء والبراء بين المؤمنين والكفار، كل من يؤمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، سواء كان كتابياً أو غير كتابي؛ لأنه بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسع أحداً إلا أن يؤمن به، فمن لم يؤمن به فهو كافر، واليهود والنصارى لا يؤمنون بالرسول، فهم كفار، قال صلى الله عليه وسلم: "والَّذي نَفْسُ محمَّدٍ بيَدِه لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذه الأُمَّةِ وَلاَ نَصرانيٌّ، ثم يَمُوتُ ولم يُؤمِن بالذي أُرْسِلْتُ به إلا كان من أصحاب النَّار" 1فبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يسع أحداً الخروج عن ملته، حتى إنه قال عليه الصلاة والسلام: "والله لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي".   1 أخرجه مسلم (رقم 153) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه دين صحيح غير دين الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] . فهذه دعوة باطلة، تعقد لها الآن مؤتمرات وندوات، وتنفق فيها أموال للدعوة للتقارب بين الأديان –يسمونه- الحوار بين الأديان. سبحان الله! حوار بين إيمان وكفر؟! وبين شرك وتوحيد؟! بين أعداء الله وأولياء الله؟! ثم قال الشيخ رحمه الله (ولأجلها شُرع الجهاد، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} [الأنفال: 39] . فالواجب علينا نحو الكفار: ثلاثة أمور: الأمر الأول: عداوتهم؛ لأنهم أعداء لله سبحانه وتعالى، وأعداء لرسوله. الأمر الثاني: دعوتهم إلى الإيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا أمر واجب على المسلمين. الأمر الثالث: جهادهم إذا دُعوا إلى الإسلام وأَبوا، فالواجب جهادهم وقتالهم، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} [الأنفال: 39] ، فالمرحلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الأخيرة معهم القتال، إذا كان المسلمون يطيقون القتال، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] الآية، وهذه الآية بيان الحكمة من الجهاد في الإسلام، وأنها: إزالة الشرك، حتى لا تكون فتنة، والمرتد بالفتنة: الشرك، أي حتى لا يوجد شرك، ويكون الدين كله لله، هذا هو المقصود من الجهاد، ليس المقصود من الجهاد توسيع السلطة والاستيلاء على الممالك، وحصول الثروة، ليس هذا هو المقصود، المقصود إعلاء كلمة الله عز وجل، وإزالة الشرك من الأرض، هذا هو المقصود. وكذلك ليس المقصود من الجهاد في الإسلام الدفاع، كما يقوله بعض الكتاب المخذولين، يقولون: إن الإسلام من أجل الدفاع، يعني: إذا اعتدوا علينا نحن نقاتلهم؛ لصد العدوان فقط. سبحان الله! الله جل وعلا يقول: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} [الأنفال: 39] المقصود بالقتال في الإسلام: نشر الدعوة، ونشر الدين، وإزالة الشرك {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} [الأنفال: 39] ، هذا هو المقصود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 منه، فالقتال في الإسلام على نوعين: النوع الأول: قتال دفاع، عند عجز المسلمين. النوع الثاني: قتال طلب، عند قوة المسلمين وقدرتهم عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 المسألة الثانية: تفرق أهل الجاهلية في عباداتهم ودينهم ... تفرق أهل الجاهلية في عبادتهم ودينهم المسألة الثانية [إِنَّهُم مُتَفرِّقُونَ فِي دِينِهِم، كَمَا قَالَ تَعَالىَ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] وَكَذَلِكَ فِي دُنْيَاهُم، وَيَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ، فَأَتَى بالاجْتِمَاع فِي الدِّينِ بِقَوْلِهِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وَنَهَانَا عَنْ مُشَابَهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] ، وَنَهَانَا عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] . الشرح هذه هي المسألة الثانية من المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، وهي أن أهل الجاهلية كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 متفرقين في دينهم وفي دنياهم، وصفتهم التفرق والاختلاف، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31،32] ، هذه صفة أهل الجاهلية من اليهود والنصارى والوثنيين، وسائر الملل الجاهلية كانوا على هذا النمط، متفرقين في دينهم، كل منهم له دين ينادي به وينتسب إليه، النصرانية تدعو إلى النصرانية، واليهودية تدعو إلى اليهودية، وكل من الديانتين يكفّر الديانة الأخرى، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 113] الذين لا يعلمون هم المشركون؛ لأنهم لا كتاب لهم وليس لهم دين سماوي، وهم أيضاً يكفر بعضهم بعضاً، ويخالف بعضهم بعضاً. {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] أي بين الله سبحانه وتعالى من هو على الحق ومن هو على الباطل، ودين الله واحد، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] . فدين الله واحد لجميع الخلق من يهودي ونصراني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ووثني وعربي وعجمي، فدين الله واحد، وهو عبادته وحده لا شريك له؛ لكن هؤلاء فرقوا دينهم وصار لكل طائفة منهم دين يختلف عن الدين الآخر، فاليهود أنفسهم كانوا مختلفين فيما بينهم، والنصارى كانوا مختلفين، كانوا فرقاً مختلفة، وهم إلى الآن على اختلاف. وكذلك العرب الوثنيون متفرقون في عبادتهم، منهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار. هذه حالة أهل الجاهلية من كتابيين وأميين، لا يجمعهم دين، وعندهم حزبيات {) كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] وهذا من تمام العقوبة والابتلاء؛ كون الإنسان يفرح بما هو عليه من الباطل، كان الواجب العكس، وأن الإنسان يخاف من الضلال، ويخاف من الانحراف، ويخاف من الهلاك، لكن هؤلاء بالعكس {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] دون النظر إلى كون ما هو عليه حقاً أو باطلاً، المهم أنها نِحْلَةُ آبائهم وأجدادهم وقومهم وعشيرتهم، ولا فرح الإنسان بالباطل، فهذه عقوبة؛ لأنه إذا فرح بالباطل فلن يتحول عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 هذه صفة أهل الجاهلية، والله جل وعلا نهانا عن ذلك، فقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الروم: 31، 32] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159] ، وأنزل على رسوله {) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] هذا هو الذي شرعه الله، إقامة الدين الذي هو دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، صلى الله وسلم عليهم أجمعين، وهو دين الأنبياء جميعاً، لكن ذكر هؤلاء؛ لأنهم أفضل الرسل وأولو العزم، الخمسة، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد –صلى الله وسلم عليهم –هم أولو العزم وأفضل الرسل، وأخذ الله وسلم عليهم- هم أولو العزم وأفضل الرسل، وأخذ الله ميثاق من جميع الرسل، وعلى الخصوص على هؤلاء الخمسة، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب:7] وجميع الرسل دينهم واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، هذا دين جميع الرسل عموماً، والخمسة خصوصاً، لا يقبل الاختلاف ولا التفرق، فلا يكن لكل واحد دين، ولا لكل طائفة دين، وإنما دين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الجميع واحد، هو دين الله جل وعلا على جميع الخلق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . جميع الخلق الجن والإنس يجب أن يكون دينهم واحد، هو التوحيد، وإفراد الله بالعبادة جل وعلا، والعبادة بينها على ألسن الرسل، ما وكلها إلى الناس؛ بل أنزل علينا كتاباً وأرسل إلينا رسلاً، وقال: هذا هو الدين، وهذه هي العبادة. وهي توفيقية، والدين توقيفي، ليس من حق الناس أن يشرعوا لهم الدين {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] ، هذا إنكار منه سبحانه وتعالى، عليهم ما شرعه الله، وأنزله في كتبه، وعلى ألسن رسله، عليهم الصلاة والسلام، فهو توقيفي، والرسل إنما هم مبلغون عن الله جل وعلا، يبلغون عن الله ما شرعه لعباده، هذه وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم متعبدون بهذا الدين مثل غيرهم، عباد يعبدون الله جل وعلا بهذا الدين الذي شرعه لهم، ولأممهم. وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] هذا نهي لنا نكون مثل أن نكون مثل أهل الجاهلية الذين تفرقوا في دينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 واختلفوا، ولم يكن هذا عن جهل منهم، وإنما هو عن هوى {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} تركزا البينات واتبعوا الهوى، فالذي حملهم على هذا التفرق هو الهوى-؛ والعياذ بالله- اتخذوا أهواءهم آلهة من دون الله عز وجل، والله جل وعلا لم يترك حجة لأحد، أرسل الرسل وأنزل الكتب {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38،39] . فالله جل وعلا ما ترك الناس، منذ أن أهبط آدم إلى الأرض، لم يترك الناس بلا دين وبلا نبي؛ بل ما زال جل وعلا يرسل الرسل متتابعة، ويشرع للناس الدين ويبينه لهم، إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا تنسخ ملته حتى تقوم الساعة، ومدادها الكتاب والسنة، فما فيه وقت من الأوقات إلا وهناك دين لله جل وعلا جاءت به الرسل، {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] ، {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ليس لأحد حجة {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19] فالله جل وعلا أقام الحجة على الخلق. لكن أهل الجاهلية خالفوا ما جاءت به الرسل، لا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 جهل، وإنما هو عن عناد واتباع للهوى، خصوصاً اليهود والنصارى فهم على علم بذلك؛ ولذلك سماهم أهل الله أهل الكتاب، من باب العيب عليهم، أنهم أهل كتاب وأهل علم، ومع هذا يخالفون أمر الله سبحانه وتعالى، ويتبعون أهواءهم. نهى الله هذه الأمة أن تسلك هذا المسلك الجاهلي، وأمرهم أن يتمسكوا بالدين الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي سار عليه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون، هذا هو الدين الذي يجب أن تتمسك به الأمة إلى أن تقوم الساعة، وإذا اختلفوا في شيء أن يردوه إلى الكتاب والسنة {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] . والاختلاف من طبيعة البشر، لكن الله جل وعلا أحالنا على الكتاب والسنة إذا اختلفنا ولا ندري أيُّنا المصيب، نرجع إلى الكتاب والسنة، فمن شهد له الكتاب والسنة بأنه حق أخذنا به، وما شهدا أنه غير حق تركناه؛ لأن هدفنا اتباع الحق، لا الانتصار للآراء، أو تعظيم الآباء والأجداد أو الشيوخ، ليس هذا شأن المسلمين، الحق هو ضالة المؤمن؛ أين وجده أخذه، الهدف الحق {ِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ} [النساء:59] من بقائكم على النزاع {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] يعني: أحسن عاقبة. وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى لنا؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أنه أبقى فينا ما يحل النزاع ويدل على الحق، وهو كتابه، ولهذا قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] وهو القرآن {جَمِيعاً} ليس بعضكم فقط، بل جميعاً، أي جميع الخلق عموماً، وهذه الأمة خصوصاً {وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] {شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّار} دين الجاهلية {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] أنقذكم بالإسلام، وبهذا القرآن، فاشكروا نعمة الله عز وجل. والاعتصام بحبل الله هو الاعتصام بالكتاب؛ لأن الكتاب هو حبل الله الممدود الذي من تمسك به نجا، ومن أفلت منه هلك. هذا ما قصّه علينا من حالة أهل الجاهلية: أنهم {فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] ، ثم نهانا عن ذلك، نهانا أن نتشبه بهم، ثم أمرنا بالاعتصام بكتابه الذي هو أمان من الاختلاف وأمان من النزاع والهلاك، فلا نجاة إلا بالاعتصام بكتاب الله جل وعلا، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ، فأهل الجاهلية متفرقون في دينهم، كما قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] مسرورون بمذهبهم، وإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 باطلاً. وكذلك كانوا متفرقين في دنياهم؛ لأن من ضيع الدين ضيع الدنيا، فكانوا في دنياهم متفرقين لا يجمعهم جماعة؛ بل كل قبيلة تحكم نفسها بنفسها، وكل قبيلة تستبيح دماء القبيلة الأخرى وأموالها. هذه حالة العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، لما ضيعوا دينهم ضيعوا دنياهم، وصار الخوف والقلق والجوع ملازماً لهم دائماً، وكانت الجاهلية كلها حروب، وكلها غارات وثارات، حتى الإخوة يتقاتلون في الجاهلية، فالأوس والخزرج في المدينة هم أخوة من ناحية النسب، قبيلة واحدة قحطانية، لكن قامت بينهم حرب طاحنة استمرت أكثر من مائة سنة، يسمونها "حرب بعاث" بين الأوس والخزرج، وكان اليهود يوقدونها، فلما بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وهاجر إلى المدينة، جمعهم الله به، وطفئت الحروب، وتآخى المسلمون، وصاروا يداً واحدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ذكَّرهم الله به {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103] ألف الله بين قلوبهم بالإسلام، وانطفأت الحروب التي بينهم، وصلحت دنياهم كذلك بقية قبائل العرب لما دخلوا في الإسلام، صلحت دنياهم لما صلح دينهم، وأمنوا على دمائهم وأموالهم، وصاروا يسيرون في الأرض آمنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وصار العربي يلقى العربي الآخر من أي قبيلة فلا يعرض له بسوء؛ بل سادت المحبة بينهم، تآخوا في دين الله عز وجل. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] هذه براءة من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، أي: أحزاباً؛ لأن المطلوب أن يكون الدين واحداً، وأن يكون الناس جماعة واحدة على الدين، هذا هو الذي أمر الله به سبحانه وتعالى، فمن كان كذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يواليه، وهو وليه، أما من فَرَّق دينه وبقي على النزاع، وبقي على أمر الجاهلية، فالرسول بريء منه. يبقى أن نعرف حقيقة الاختلاف، أو الخلاف، في المسائل الفقهية. فالخلاف واقع وموجود الآن في أمور الفقه، فهل هذا من الاختلاف المذموم؟ نقول: الاختلاف على قسمين: القسم الأول: الاختلاف في الدين، كالاختلاف في العبادة والعقيدة، وهذا اختلاف مذموم ومحرم؛ لأن الدين ليس مجالاً للاجتهاد، وليس مجالاً للآراء، بل الدين توقيفي، والعقيدة توقيفية، لا مجال للاجتهاد فيها، علينا أن نتمسك بما شرعه الله لنا من الدين ومن العقيدة، دون أن نتدخل بآرائنا واجتهاداتنا، كذلك العبادة توقيفية؛ ما جاءنا به دليل علمنا به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وما ليس عليه دليل فإنه بدعة يجب علينا تركه؛ لحديث: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"1، وحديث: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 2، فأمور العقيدة وأمور العبادة وأمور الدين عموماً لا مجال للخلاف فيها أبداً، وإنما تتبع فيها النصوص من الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف هذه الأمة. القسم الثاني: الاختلاف فيما للرأي فيه مجال، أو ما هو مسرح للاجتهاد من مسائل الفقه، واستنباط الأحكام من الأدلة، هذا يقع فيه الاختلاف؛ لأن مدارك الناس تختلف في الاستنباط من النصوص، ومسائل الإجماع محصورة، ولا يجوز مخالفتها. لكن ما ليس عليه إجماع من المسائل الاجتهادية التي هي مجال للاجتهاد فالله جل وعلا أعطى كل عالم بحسب ما خصه به من المدارك والفهم، وما يصل إليه من النصوص، والاجتهاد مشروع في ذلك، وقد حصل الاجتهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كما هو معروف، فهذا اختلاف   1 تقدم ص 25. 2 أخرجه النسائي 3/209-210 رقم 1577 واللفظ له وأبو داود 5/12-13 رقم 4607 وابن ماجه 1/30-31 رقم 42 والترمذي 5/44 رقم 2681 بنحوه وأخرج الإمام مسلم قطعة منه "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" رقم 867. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 في الاجتهاد، وليس اختلافاً في العقيدة ولا في الدين، وإنما هو اختلاف في مسائل الفقه، وكان الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يجتهدون ويختلفون. وهذا الاجتهاد على قسمين: قسم ظهر الدليل مع أحد الطرفين المختلفين فيه فيجب أخذ ما عليه الدليل، وترك ما لم يقم عليه الدليل، فتعرض آراء الفقهاء على الدليل، فما دل عليه الدليل وجب الأخذ به وترك ما خالفه، ويجب على المجتهد الذي لم يوفق للصواب وخالف الدليل أن يقبل الحق ويرجع إلى الصواب، ولا يجوز له الاستمرار في الاجتهاد الخاطئ، ولا يجوز لنا أن نتبعه على الاجتهاد الخاطئ، والأئمة يوصوننا بهذا ويقولون: اعرضوا أقوالنا على الكتاب والسنة، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: "إذا جاء الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء الحديث عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء الحديث عن التابعين فنحن رجال وهم رجال". هذا كلام الإمام أبي حنيفة، أقدم الأئمة الأربعة. والإمام مالك رحمه الله يقول: "كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول رحمه الله: "أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 تركنا ما نزل به جبريل على محمد لجدل هؤلاء؟! " هذا كلام الإمام مالك رحمه الله. ويقول رحمه الله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، ما هو الذي أصلح أولها؟ الكتاب والسنة. وهذا كلام الإمام مالك رحمه الله. والإمام الشافعي رحمه الله يقول: "أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن له أن يدعها لقول أحد"، ويقول رحمه الله: "إذا خالف قولي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضربوا بقول عرض الحائط"، ويقول رحمه الله: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". هذه كلمات الشافعي رحمه الله 1. والإمام أحمد رحمه الله يقول: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان! والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".   1 انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 10/34-35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 إذاً، هذه أقوال الأئمة المجتهدين، اجتهدوا عن علم وعن أهلية للاجتهاد، لكن لم يدَّعوا لأنفسهم العصمة، بل أوصوا أن يؤخذ من أقوالهم ما وافق الدليل، فيجب على الحنبلي إذا رأى الدليل مع الشافعي أن يأخذ بقول الشافعي، وواجب على الشافعي إذا رأى الدليل مع الحنفي أن يأخذ بقول الحنفي، وواجب على المالكي إذا رأى الدليل مع الحنبلي أن يأخذ بقول الحنبلي؛ لأن الغرض هو اتباع الدليل، ليس الغرض قول فلان ولا فلان، فلا يتعصبون لأئمتهم، وإنما يتعصبون للدليل فقط. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب كلهم يأمرون بهذا ويقولون: انظروا في أقوال العلماء، فخذوا ما قام عليه الدليل. وكلامهم في هذا معلوم من كتبهم. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، لا تعصب، لكن ليس معنى هذا أن نرفض المذاهب ونتركها؛ بل نستفيد من المذاهب ومن فقه الأئمة؛ لأنه ثروة عظيمة، لكن نتابع الدليل، من كان معه دليل أخذنا بقوله، هذا هو الواجب. ومن لا يعرف الدليل يسأل أهل العلم، قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ؛ لأنك تريد براءة الذمة، فإذا كنت تعرف، فالحمد لله، خذ بالدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وإذا كنت لا تعرف تسأل أهل العلم، هذا هو الواجب. القسم الثاني من هذا: الاجتهاد الفقهي ما لم يظهر فيه دليل مع أحد القولين؛ بل كلا القولين محتمل، فهذا لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ما دام لم يترجح شيء منها بالدليل، فلا إنكار على من أخذ بقول من الأقوال؛ شريطة ألا يكون عنده تعصب أو هوى، وإنما قصده الحق؛ لذلك لا ينكر الحنبلي على الشافعي، ولا ينكر الشافعي على المالكي، والأئمة الأربعة وأتباعهم إخوة على مدار الزمان، ولله الحمد، ما وقع بينهم عداوات، ولا وقع بينهم حزازات، وإن وقع شيء من ذلك فإنما هو من بعض المتعصبة، الذين لا عبرة بهم، لكن جمهور أصحاب المذاهب الأربعة – والحمد لله – ليس بينهم عداء ولا تفرق ولا حزازات، يتزاوجون، ويصلي بعضهم خلف بعض، ويسلم بعضهم على بعض، ويتآخون، مع أن عندهم اختلاف في بعض المسائل الاجتهادية المحتملة، التي لم يظهر رجحان بعضها على بعض، ومن هنا قالوا الكلمة المشهور: "لا إنكار في مسائل الاجتهاد". فإذا كان أهل بلد على قول من هذه الأقوال الاجتهادية التي لم يظهر ما يخالفها ولا ما يعرضها، مجتمعين على رأي من هذه الآراء الفقهية، فلا يسوغ لأحد أن يفرق هذا الاجتماع، بل ينبغي الوفاق وعدم الاختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 المسألة الثالثة: أعتبارهم مخالفة ولي الأمر فضيلة ... اعتبارهم مخالفة ولي الأمر فضيلة وطاعته والانقياد له ذلة ومهانة المسألة الثالثة [إن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة له ذل ومهانة، فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذلك وأبدى وأعاد. وهذه المسائل الثلاث هي التي جمع بينها فيما صح عنه في الصحيح أنه قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" 1. ولم يقع خلل في دين الناس ودنياهم إلا بسبب الإخلال في هذه الثلاث أو بعضها.] الشرح من مسائل الجاهلية: أنهم لا يخضعون لولي الأمر، ويرون أن هذا ذلة، ومعصية الأمير يعتبرونها فضيلة وحرية؛   1 أخرجه مسلم رقم 1715. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ولذلك لا يجمعهم إمام، ولا يجمعهم أمير؛ لأنهم لا يخضعون، وعندهم أنفة وكبر. فجاء الإسلام بمخالفتهم وأمر بالسمع والطاعة لولي الأمر المسلم؛ لما في ذلك من المصالح، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فأمر بطاعة ولاة الأمور، والرسول صلى الله عليه وسلم حدد ذلك في غير المعصية، فقال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" 1 وقال: "إنما الطاعة في المعروف" 2، فتجب طاعة ولي الأمر في غير معصية الله، إذا أمر بمعصية فلا يطاع، لكن لا يخالف في بقية الأمور، لا يطاع في هذه المسألة خاصة التي فيها معصية، أما بقية الأمور فلا ينتقض بيعته بسبب ذلك، ولا يخالف، ما دام أنه على الإسلام؛ لما في طاعة ولاة الأمور من اجتماع الكلمة، وحقن الدماء، واستتاب الأمن، وإنصاف المظلوم من الظالم، ورد الحقوق إلى أصحابها، والحكم بين الناس بالعدل، حتى ولو كان ولي الأمر غير مستقيم في دينه، حتى   1 أخرجه أحمد في المسند 1/131 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 7520. 2 أخرجه البخاري بلفظ: "لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف" رقم 7257، ومسلم رقم 1840/39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ولو كان فاسقاً، ما لم يصل إلى الكفر، كما قال صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم عليه من الله برهان" 1، فما دامت معاصيه دون الكفر، فإنه يُسمع له ويطاع، وفسقه على نفسه، لكن ولايته وطاعته لمصلحة المسلمين. ولهذا لما قيل لبعض الأئمة: إن فلاناً فاسق لكنه قوي، وإن فلاناً صالح لكنه ضعيف، أيهما يصلح للولاية؟ قال: الفاسق القوي؛ لأن فسقه على نفسه، وقوته للمسلمين. أما هذا الصالح فإن صلاحه لنفسه وضعفه يضر المسلمين. فيُسمع له ويطاع وإن كان فاسقاً في نفسه، بل وإن جار وإن ظلم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك" 2؛ لأن في طاعته مصلحة أرجح من المفسدة التي هو عليها، ولأن مفسدة الخروج عليه أعظم من مفسدة البقاء على طاعته وهو عاص؛ لأن في الخروج عليه سفكاً للدماء وإخلالاً بالأمن وتفريقاً للكلمة. وماذا حصل للذين خرجوا على الأمراء وولاة الأمور   1 أخرجه البخاري رقم 7056، ومسلم رقم 1709/42. 2 أخرجه مسلم رقم 1847. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 مما قصه التاريخ؟ ماذا حصل لما إن نازغةً من الشذاذ في عهد عثمان رضي الله عنه قاموا وشقوا عصا الطاعة وقتلوا أمير المؤمنين عثمان؟ ماذا حصل على المؤمنين من النكسات إلى الآن؛ بسبب الخروج على أمير المؤمنين وقتله؟ فلا يزال المسلمون يعانون من النكسات المتوالية والمفاسد، وكذلك في حق بقية الولاة الصبر على طاعته وإن كان فيه مفسدة جزئية أخف من مفسدة الخروج عليه؛ فلذلك أوجب النبي صلى الله عليه وسلم طاعته ما لم يخرج عن الإسلام، ولو كان فاسقاً، ولو كان ظالماً، فإنه يصبر على هذه المفاسد الجزئية؛ درءًا للمفسدة العظيمة، وارتكاب أخف الضررين لدفع أعلاهما، هذا شيء معروف. وما من قوم خرجوا على إمامهم إلا كانت المفسدة في الخروج عليه أعظم من المفسدة في الصبر على طاعته. وهذا فرق ما بين أهل الجاهلية: وأهل الإسلام في مسألة ولاة الأمور، أهل الجاهلية لا يرون الطاعة لولاة الأمور، ويرون ذلك ذلة. وأما الإسلام: فإنه أمر بطاعة ولاة الأمور المسلمين، وإن كان عندهم شيء من الفسق في أنفسهم، أو عندهم ظلم للناس، يصبر عليهم؛ لأن في ذلك مصالح للمسلمين، وفي الخروج عليهم مضار للمسلمين أعظم من المفاسد التي في البقاء على طاعتهم مع انحرافهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الذي لا يخرجهم عن الإسلام، هذه القاعدة العظيمة التي جاء بها الإسلام في هذا الأمر العظيم. وأما أهل الجاهلية – كما سبق – لا يرون انعقاد ولاية، ولا يرون سمعاً ولا طاعة، ومثلهم الأمم الكافرة الآن، الذين يقولون بالحريات والديمقراطيات، ماذا تكون مجتمعاتهم الآن؟ همجية، بهيمية، قتل وسلب وفساد أعراض، وشر واضطراب أمن، وهم دول كبرى، وعندهم أسلحة، وعندهم مدمرات، لكن حالتهم حالة بهيمية – والعياذ بالله – لأنهم باقون على ما كانت عليه الجاهلية. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لهم، وأمر بالنصيحة لهم سراً، بينهم وبين الناصح. وأما الكلام فيهم وسبهم واغتيابهم؛ فهذا من الغش لهم؛ لأنه يؤلب الناس عليهم ويفرح أهل الشر، وهذا من الخيانة لولاة الأمور. أما الدعاء لهم وعدم ذكر معائبهم في المجالس، فهو من النصيحة لهم، ومن كان يريد أن ينصح الإمام فإنه يوصل النصيحة إليه في نفسه، إما مشافهة، وإما كتابة، وإما بأن يوصى له من يتصل به ويبلغه عن هذا الشيء؛ وإذا لم يتمكن فهو معذور. أما أنه يجلس في المجالس أو على المنابر أو أمام أشرطة ويسب ولاة الأمور ويعيبهم، فهذا ليس من النصيحة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وإنما هو من الخيانة لولاة الأمور، والنصيحة لهم تشمل الدعاء لهم بالصلاح، وتشمل ستر عيوبهم وعدم إفشائها على الناس، وكذلك من النصيحة لهم: القيام بالأعمال التي يكلونها إلى الموظفين، ويعهدون بها إلى الولاة في القيام بها، هذا من النصيحة لولاة الأمور. ثم قال الشيخ رحمه الله: وهذه المسائل الثلاث هي التي جمع بينها فيما صح عنه في الصحيح أنه قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" 1. ولم يقع خلل في دين الناس ودنياهم إلا بسبب الإخلال في هذه الثلاث أو بعضها. يقول الشيخ رحمه الله: وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسائل الثلاث، يعني: التي تقدّم ذكرها وهي: المسألة الأولى: أن أهل الجاهلية كانوا يعبدون الأولياء والصالحين، ويقولون: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] . والمسألة الثانية: أن أهل الجاهلية كانوا متفرقين في   1 تقدم في ص 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 دينهم ودنياهم. والمسألة الثالثة: أنهم لا يخضعون لولي الأمر، ويرون ذلك ذلة ومهانة. هذه المسائل الثلاث جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلام وفصل الخطاب في كلمة واحدة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" 1. الأولى: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ويدخل في الشرك عبادة الأولياء والصالحين. الثانية: أن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، عكس ما كان عليه أهل الجاهلية من أنهم كانوا متفرقين في دينهم ودنياهم، وحبل الله هو القرآن، والاعتصام به هو أن تتمسكوا به، فتعملوا بما أمركم به، وتجتنبوا ما نهاكم عنه؛ لأن القرآن هو المنهج الرباني الكفيل بمصالح العباد في دينهم ودنياهم، فالتمسك به رحمة، وعدم التمسك به عذاب وشقاء. الثالثة: أن تناصحوا من ولاّه الله أمركم، وهذا بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية الذين لا ينقادون لولي الأمر، وهذا   1 تقدم في ص 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فيه الأمر بالانقياد لولي الأمر، ومناصحته وطاعته، وعدم الخروج عليه، وعدم الكلام فيه أما الناس وذكر عيوبه بين الناس، لأن هذا من الخيانة لولي الأمر، ليس هذا من النصيحة، وإن كان بعض الناس يزعم أن هذه نصيحة، فهذه ليست نصيحة، وإنما هذا تشهير وشر، وإلقاء للعداوة بين الوالي والرعية، وليس فيه مصلحة أبداً، بل هو مضرة محضة. ثم بيّن – رحمه الله – أن الخلل الذي يقع في دين الناس ودنياهم، إنما سببه الإخلال بهذه الثلاث أو الإخلال ببعضها وهو الشرك بالله، والتفرق، والخروج على ولي الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المسألة الرابعة: التقليد الأعمى ومضاره ... التقليد الأعمى ومضاره المسألة الرابعة [إن دينهم مبني على أصول: أعظمها التقليد، فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار، أولهم وآخرهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21] ، فأتاهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ... } [سبأ: 46] الآية، وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] . الشرح من مسائل الجاهلية: أنهم لا يبنون دينهم على ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وإنما يبنون دينهم على أصول أحدثوها هم من عند أنفسهم، ولا يقبلون التحول عنها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 منها: التقليد، وهو المحاكاة، بأن يقلد بعضهم بعضاً، وإن كان المقلد لا يصلح للقدوة، كما قال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] . ومترفوها هم: أهل الرفاهية والمال في الغالب؛ لأنهم أهل الشر وعدم قبول الحق، خلاف الضعفاء والفقراء فإن الغالب عليهم التواضع وقبول الحق. فأهل الترف هم أصحاب الجاه وأصحاب المال {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} أي أصحاب المال والجاه فيهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 23] أي: على ملة ودين، وإنا متبعون لهم على دينهم، يعني: لسنا بحاجة إليكم أيها الرسل، يزعمون أن هذا يغنيهم عن اتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهذا هو التقليد الأعمى، وهو من أمور الجاهلية. أما التقليد في الخير فهذا يسمى اتباعاً واقتداء، قال تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 38] . وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} . ولهذا قال الله تعالى في أهل الجاهلية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] فالذي لا يعقل ولا يهتدي ليس محلاً للقدوة، إنما القدوة فيمن يعقل ويهتدي، فالتقليد الأعمى من أمور الجاهلية، وهذا يسمى بالتعصب؛ لأن القدوة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه. ثم قال الشيخ رحمه الله: وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21] . وإذا قيل للمشركين والكافرين {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وهو القرآن {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ} أي يدعو هؤلاء الآباء {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أتتبعونهم للسعير؟ يعني: تقتدون بآبائكم وإن كانوا من أتباع الشيطان، ومآلهم إلى السعير؟ العاقل يجب أنه ينظر في أمره، وفيمن يقلد. ثم قال الشيخ رحمه الله: فأتاهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] ، وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] . أي: أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، فهم يقولون: نحن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 نتمسك بما عليه آباؤنا، ولا نطيع هذا الرجل، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم. والله جل وعلا يقول: انظروا وتفكروا فيما قال لكم هذا الرجل، تفكروا، ولا تأخذكم العصبية، {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [ (سبأ: 46] جماعات وفرادى، تنظرون فيما دعاكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان حقاً وجب عليكم اتباعه، ولا يجوز لكم البقاء على ما كان عليه الآباء والأجداد. {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} يعني: لا للهوى والعصبية؛ بل يكون قيامكم لله، تريدون الحق {مَثْنَى وَفُرَادَى} اثنين اثنين، يفكرون ويجتمعون، ويعقدون جلسة؛ لأن تعاون الجالسين أو الجماعة فيه رجاء الوصول إلى الحق، أو فرادى، أن يخلو بنفسه ويفكر، ويتأمل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيجد أنه حق فيجب عليه اتباعه، {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، الذي تقولون: إنه مجنون، وهو ليس به جنون؛ بل هو أعقل الرجال وأعقل الخلق صلى الله عليه وسلم، وأنصح الخلق وأعلم الخلق، عليه الصلاة والسلام، فكيف تقولون: إنه مجنون؟ فكروا، انظروا في عقله، انظروا في تصرفاته، هل هي مثل تصرف المجنون؟ {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] إنْ لم تؤمنوا به وتتبعوه، فإنه سيحل بكم العذاب الشديد، فهو جاءكم ناصح لكم، يريد لكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الخير، ويريد لكم النجاة، ويريد لكم الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، فكيف تصفونه بهذا الوصف، تقولون إنه مجنون، بدون رويّة وبدون تفكر وبدون تأمل لما جاء به؟ وهكذا يجب على كل عاقل أن ينظر في أقوال الناس، فيميزها ويفحصها، ويرى الخطأ من الصواب، فيقبل الحق ويرد الخطأ، ولا يحمله التقليد الأعمى على البقاء على الباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المسألة الخامسة: الاحتجاج بما عليه الأكثرون دون نظر إلى مستنده ... الاحتجاج بما عليه الأكثر دون نظر إلى مستنده المسألة الخامسة [إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ قَوَاعِدِهِم: الاغتِرَارَ بِالأَكْثَرِ، وَيَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الشَّيْءِ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى بُطْلاَنِ الشَّيءِ بغُرْبَتِهِ وَقِلَّةِ أَهْلِهِ، فَأَتَاهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَأَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ مِنَ القُرْآَنِ] . الشرح من مسائل الجاهلية: أنهم يستدلون بالأكثرين على الحق، ويستدلون بالأقلين على غير الحق، فما كان عليه الأكثر عندهم فهو الحق، وما كان عليه الأقل فهو غير حق، هذا هو الميزان عندهم في معرفة الحق من الباطل. وهذا خطأ؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَْ} [لأعراف: 187] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 إلى غير ذلك. فالميزان ليس هو الكثرة والقلة؛ بل الميزان هو الحق، فمن كان على الحق –وإن كان واحداً- فإنه هو المصيب، وهو الذي يجب الاقتداء به، وإذا كانت الكثرة على باطل فإنه يجب رفضها وعدم الاغترار بها، فالعبرة بالحق، ولذلك يقول العلماء: الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق. فمن كان على الحق فهو الذي يجب الاقتداء به. والله جل وعلا –فيما قص عن الأمم –أخبر أن القلة قد يكونون على الحق، كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] وفي الحديث –الذي عرضت فيه الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم رأى النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والرجلان، والنبي وليس معه أحد. فليست العبرة بكثرة الأتباع على المذهب أو على القول، وإنما العبرة بكونه حقاً أو باطلاً، فما كان حقاً –وإن كان عليه أقل الناس، أو لو لم يكن عليه أحد، ما دام أنه حق –يُتمسك به فإنه هو النجاة. والباطل لا يؤيده كثرة الناس أبداً، هذا ميزان يجب أن يتخذه المسلم دائماً معه. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 بدأ" 1وذلك حين يكثر الشر والفتن والضلال، فلا يبقى على الحق إلا غرباء من الناس ونزاع من القبائل، يصبحون غرباء في المجتمع البشري، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث والعالم كله يموج في الكفر والضلال، ودعا الناس، فاستجاب له الرجل والرجلان، إلى أن تكاثروا. وكانت قريش –وكانت الجزيرة كلها، وكان العالم كله – على الضلال. والرسول صلى الله عليه وسلم وحده يدعو الناس، والذين اتبعوه قليل بالنسبة للعالم. فالعبرة ليست بالكثرة، العبرة بالصواب وإصابة الحق. نعم، إذا كانت الكثرة على صواب فهذا طيب، ولكن سنة الله جل وعلا أن الكثرة تكون على الباطل {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] .   1 أخرجه مسلم (رقم 146) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 المسألة السادسة: الاحتجاج بما عليه الأقدمون دون نظر إلى مستنده ... الاحتجاج بما عليه الأقدمون دون نظر إلى مستنده المسألة السادسة [الاحْتِجَاجُ بالمُتَقَدِّمِينَ، كَقَوْلِهِ: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51] ، وَقَوْلِهِ: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24] . الشرح أي: إذا جاءتهم الرسل بالحق احتجوا بآبائهم، فإن موسى عليه السلام لما دعا فرعون إلى الإيمان احتج فرعون بما عليه الأولون {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51] يريد أن يحتج بما عليه القرون الأولى التي سبقته من الكفرة، وهذه حجة باطلة، وهي حجة جاهلية. وكما قال قوم نوح لما دعاهم إلى الله، قالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24] فقابلوا دعوة نبي الله نوح بما عليه آباؤهم على أنه حق، وأن ما جاء به نوح باطل؛ لأنه مخالف لما عليه آباؤهم. وكفار قريش يقولون: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 إِلَّا اخْتِلاقٌ} [صّ: 7] أي: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} ملة آبائهم وأجدادهم {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} كذب، فهم وصفوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كذب، لماذا؟ لأنه مخالف لما عليه آباؤهم، وهو عبادة الأوثان، ولم يرجعوا إلى دين أبيهم إبراهيم وإسماعيل؛ بل رجعوا إلى ما كان عليه آباؤهم قريباً، وهم آباؤهم وأجدادهم في مكة من كفار قريش، فهذه سنة الكفار، وهذه سنة الجاهلية؛ أن يحتجوا بمن سبقهم من الأمم. والواجب على العقلاء أن ينظروا ما مع الرسل، ويقارنوا بينه وبين ما عليه آباؤهم؛ ليتضح لهم الحق من الباطل، ويقارنوا بينه وبين ما عليه آباؤهم؛ ليتضح لهم الحق من الباطل، أمّا إغلاق الباب على أنفسهم، يقولون: ما نقبل إلا ما عليه آباؤنا، ولا نقبل ما يخالفه، فهذا ليس من شأن العقلاء فضلاً عن الذين يريدون النجاة لأنفسهم. والآن عُبّاد القبور إذا نُهوا عن عبادة القبور، قالوا: هذا عليه البلد الفلاني، وعليه الجماعة الفلانية، وعليه قرون مضت. وأصحاب الموالد إذا نهوا، قيل لهم: هذه بدعة قالوا: هذا شيء معمول به قبلنا، ولو كان باطلاً ما عملوه. وهذا احتجاج أهل الجاهلية، فليس العبرة بما عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الناس، وإنما العبرة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس يخطئون ويصيبون، لكن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو صواب قطعاً، والواجب اتباعه، والله لم يكلنا إلى آبائنا وأجدادنا، ولو كان الذي عند الآباء والأجداد يكفي ما احتجنا إلى الرسل. وهكذا الصوفية، يقولون: أحوالنا تكفي عن اتباع الرسول، ولنا أحوال، ولنا اتصال مع الله، ونأخذ عن الله مباشرة، وأهل السنة يأخذون دينهم عن أموات – يعنون رجال السند-، أما نحن فنأخذ ديننا عن الحي الذي لا يموت، ويقولون: الرسل إنما يحتاجهم العوام، أما الخواص فهؤلاء ليسوا بحاجة إلى الرسل؛ لأنهم وصلوا إلى الله، وعرفوا وليسوا بحاجة إلى الرسل، هكذا يقول لهم الشيطان، ويقول: إن أصحاب الطرق لا يحتاجون للرسل؛ لأنهم يأخذون عن الله مباشرة. وهذا من دين الجاهلية، والوقائع كثيرة من هذا النوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 المسألة السابعة: الاستدلال بما عليه أهل القوة بأنه هو الحق ... الاستدلال بما عليه أهل القوة بأنه هو الحق المسألة السابعة [الاستدلال بقوم أعطوا قوى في الأفهام والأعمال، وفي الملك والمال والجاه، فرد الله ذلك بقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف:26] ، وقوله: {َكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] ، وقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] . الشرح من مسائل الجاهلية: أنهم يستدلون أنَّ ما كان عليه الأقوياء من الناس وأصحاب الجاه وأصحاب الذكاء، أنه هو الحق. فهذا هو الضابط عندهم لمعرفة الحق؛ أنهم ينظرون في الناس، فما كان عليه أهل القوة والمال والترف والجاه اعتبروه هو الحق، وما كان عليه الضعفاء والفقراء يعتبرونه باطلاً. هذه حالة أهل الجاهلية. وهذا الضابط باطل، فإن الله عز وجل أخبر عن الأمم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 السابقة الكافرة أنها كانت على قوة، وأنها كانت على ثروة، في آيات كثيرة، وأنهم أهل جاه، وعندهم ذكاء وأفهام، لكن ما نفعهم ذلك، بل كانوا على الباطل، وقد ذكر الله هذا في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم:73] ، فقال تعالى رداً عليهم: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} [مريم:74] ، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44] ، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً} [قّ:36] ، وقال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6] . فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن العبرة ليست بالقوة والمال، إذا كان أهل ذلك على ضلال، فإن هذه القوة، وهذا المال وهذا الثراء لا ينفعهم. وبين سبحانه أنه يعطي الكفار من أجل استدراجهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 {شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45،44] ، وقال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44،45] ، وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] . فالله يعطيهم هذه الثروة ويمكنهم في الأرض ويعطيهم الملك والسلطة، ويمكنهم من المخترعات والصناعات، كما عليه الكفار في هذا الوقت، وهذا لا يدل أن ما هم عليه حق، ولا يدل على أن الله راضٍ عنهم في إعطائه لهم، وإنما هذا من باب الاستدراج لهم والإملاء؛ ليزدادوا إثماً. إنما يستدل بهذا الدليل أهل الجاهلية. أما أهل البصيرة فإنهم ينظرون إلى ما عليه الأمم، فإن كان حقاً قبلوه وإن كانوا فقراء. وإن كان باطلاً ردُّوه وإن كانوا أغنياء. والآيات في هذا كثيرة، منها ما ذكره الشيخ هنا، وهو قول الله تعالى لما ذكر هلاك قوم عاد: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ ... } [الأحقاف: 26] ، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 6-8] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 رأي: قبيلة إرم، أو البلد الذي كانت تسكنه، تسمى إرماً {ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 7-9] ينحتون الجبال وينقشونها، ويجعلونها مساكن لهم، وهي موجودة إلى الآن، على طريق القوافل إلى الشام {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58] ، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52] . فهؤلاء أعطاهم الله من القوة الشيء العظيم، وهم كفار، ولما جاءهم أنبياؤهم اغتروا بما عندهم من القوة، ومن الثروة، ومن الأبهة، فتكبروا على الرسل، وبقوا على شركهم، ولم يقبلوا الحق؛ غروراً بما هم عليه من القوة، حتى إن الله ذكر عن عاد أنهم اغتروا بقوتهم {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] . وأما الاستدلال بالفهم، فبنو إسرائيل، اليهود، أعطاهم الله فهماً وعلماً، وكانوا يعرفون من صفات النبي صلى الله عليه وسلم الذي سيبعث في آخر الزمان، بما عندهم في التوراة والإنجيل، وأنه سيبعث نبي هو خاتم الأنبياء، وأن صفاته كذا وكذا، وكان بينهم وبين العرب في المدينة – من الأوس والخزرج – حروب، {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 يقولون: سيبعث النبي الذي في آخر الزمان، ونتبعه، ونقتلكم معه، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] أي: لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ وكان من بني إسماعيل، حسدوه؛ لأنهم يريدون أن تكون النبوة في بني إسرائيل، ويحتجزونها لأنفسهم، فلما كانت في بني إسماعيل، حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنه رسول الله؛ ما نفعهم فهمهم ومعرفتهم. فما كل من عرف الحق يعمل به، فقد يصرفه صارف: إما الحسد، وإما الكبر، وإما الطمع في الدنيا، أو الطمع في الرياسة، هناك صوارف تصرف الإنسان عن الحق وهو يعرفه. فالهداية والتوفيق من الله سبحانه وتعالى، ليست عن المعرفة وعن العلم والفهم، فالأمر راجع إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: "يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلبي على دينك" 1، فمجرد المعرفة والعلم والفهم والفقه، كلها أسباب جيدة، لكن لا تكفي. فهذا مما يعطي المؤمن الحذر، وعدم الاغترار بعلمه، عدم الاغترار بفهمه، وأن يسأل ربه الثبات على الحق والهداية   1 أخرجه الترمذي 5/573 رقم 3596 والحاكم 2/211 رقم 1970، وابن ماجه 1/132 رقم 199 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 7987، 7988. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 للصواب دائماً وأبداً، كما أنه لا يغتر بالقوة، ويقال: هذه دولة قوية، ما يمكن أن يتغلب عليها أحد؛ لأنها دولة قوية محصنة بالأسلحة والذخيرة الفتاكة والقنابل الذرية، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] . فهذه مسألة عظيمة، يغفل عنها كثير من الناس، ويحتج بالقوة والثروة والجاه والأبهة، ويقولون: هذه أمة راقية، مما يدل أنها على حق، وما توصلت إلى هذا المستوى إلا وهي على حق؛ لأن عندهم حضارة وعندهم ثقافة وفهم. وهكذا يقول بعض المغرورين، دون نظر إلى ما هم عليه من الكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 المسألة الثامنة: الاستدلال بأن ما عليه الضعفاء ليس حقا ً ... الاستدلال بأن ما عليه الضعفاء ليس حقاً المسألة الثامنة [الاسْتِدْلاَلُ عَلَى بُطْلاَنِ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَبِّعْهُ إِلاَّ الضُّعَفَاءُ، كَقَوْلِهِ: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] وَقَوْلُهُ: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] ، فَرَدَّ اللهُ بِقَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] . الشرح هذه المسألة عكس التي قبلها- وهي الاستدلال بالقوة على أن أصحابها على الحق- وفي هذه المسألة يستدلون بالضعف على أن الضعفاء ليسوا على الحق، لو كانوا على حق ما صاروا ضعفاء. هذا ميزان أهل الجاهلية، في معرفة الحق من الباطل، ولا يعلمون أن القوة والضعف بيد الله سبحانه وتعالى، وأن الضعيف قد يكون على الحق وهو ضعيف، وأن القوي قد يكون على الباطل، وهذا منطق قوم نوح لما دعاهم إلى الله {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] يعني الضعفاء منا، فلو كنت على حق لاتبعك الأقوياء. وفي الآية الأخرى: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الرَّأْيِ} أي: الذين ليس عندهم رأي، هم الذين اتبعوك، من غير روية ومن غير تفكير. وكذلك المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يسخرون من ضعفاء المؤمنين، من بلال وسلمان وعمار بن ياسر وأبيه وأمه، ويسخرون من ضعفاء الصحابة، حتى إنهم قالوا: ما نجلس معك وهؤلاء عندك، اجعل لنا مجلساً غير مجلسهم –أراد أن يجعل لهم مجلساً خاصاً، فعاتبه الله عز وجل بقوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 52، 53] . وقوله: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} هؤلاء: يعنون ضعفاء الصحابة، لا يمكن أن يسبقونا إلى الخير {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} ، ومثلهم الآن الذين يصفون العلماء بأنهم ما عندهم رأي ولا تفكير، وأن نظرهم قريب، وعندهم تحجر، وعندهم شدة، إلى آخر ما يقولون. والشيخ ما كتب هذه المسائل للتاريخ، وإنما كتبها للتحذير، بأن يُحذر هذه الأمور؛ لأنها من أمور الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 اقتداؤهم بفسقة العلماء وجهّال العباد المسألة التاسعة [اقْتِدَاؤُهُمْ بِفَسَقَةِ العُلَمَاءِ وَجُهَّالِ العُبَّادِ، فَأَتَى بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] ، وَقَوْلِهِ: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] . الشرح من مسائل الجاهلية: الاستدلال بفسقة العلماء، والفاسق هو: الخارج عن طاعة الله في علمه عمله، وفسقة العلماء هم: الذين لا يعملون بعلمهم، أو يقولون على الله الكذب وهم يعلمون أنهم كاذبون، من أجل الوصول إلى رغباتهم واتباع الأهواء، تحت مظلة أنهم علماء، والناس يثقون فيهم، وفسقة العباد هم الذين يعملون بغير علم، والناس يثقون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فيهم، يقولون: هؤلاء صالحون. فلا يغتر بالعالم ولا بالعابد حتى يكون كل منهما مستقيماً على دين الله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى في اليهود والنصارى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] ، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } [التوبة: 31] ذلك بأن حلّلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرّموا علهم الحلال فأطاعوهم، فصاروا بذلك أرباباً من دون الله، والعياذ بالله؛ لأن التحليل والتحريم حق لله جل وعلا، ليس لأحد أن يحرّم أو يحلّل حسب هواه وحسب أغراضه، ويرضي الناس ويساير الناس، والآن هناك ناس يتحايلون على الشرع، يحلّون المحرمات لأجل مسايرة الناس وإرضاء الناس –بزعمهم- يلتمسون الحيل، ويلتمسون الرُّخَص، أو الكذب على الله، بأن الله أحل هذا، أو حرم هذا؛ من أجل مصلحة فلان. هؤلاء هم فسقة العلماء، والفاسق هو: الخارج عن طاعة الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ} [التوبة: 34] وهذا نداء للمؤمنين للتحذير، والأحبار هم العلماء، وغالباً يطلق على علماء اليهود، والرهبان هم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 العُبّاد، وهذا في الغالب يطلق على عُبّاد النصارى، فالرهبنة في النصارى، والعلم في اليهود، لكن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون. والله جل وعلا أمرنا في كل ركعة في الصلاة أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6، 7] وهم أهل العلم والعمل {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، وهم أهل العلم بدون العمل، وهم فسقة العلماء {وَلا الضَّالِّينَ} الرهبان من النصارى وغيرهم، الذين يعبدون الله على غير دليل، على غير برهان، وإنما يعبدون الله بالبدع والمحدثات والخرافات. والله نهانا عن العلماء الفسقة، والعباد الضالين، وأمرنا أن نأخذ الحق بدليله، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والآن إذا صار للواحد رغبة في شيء، قال: هذا أفتى به فلان. دون نظر إلى مستنده من الكتاب والسنة، تقول له: هذه الفتوى خطأ. يقول: ما علي، ما دام قد أفتى به فلان. وإذا صارت الفتوى لا توافق هواه، قال: هذه الفتوى ليست صحيحة أو متشددة. وصاروا يجمعون ترهات وأخطاء العلماء ويجعلونها في كتاب، يظهرونه للناس، من باب التوسعة على الناس –بزعمهم- ويقولون: دين الإسلام سمح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 لا تضيّقوا على الناس، وإذا قيل لهم: اعرضوها على الكتاب والسنة، قالوا: هذا كلام العلماء. وهل العالم أكبر من الكتاب والسنة، فلا يعرض قوله على الكتاب والسنة؟! هذا إنما يفعله أهل الأهواء، والعياذ بالله، الذين {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] وإذا نُهوا عن البدعة التي حَذَّّرَ منها الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: هذه يعمل بها فلان، وهو عالم، أو صالح، ويعمل بها أهل البلد الفلاني، وهم عندهم صلاح وتقوى. ونقول: الصلاح والتقوى لا يكفيان، لا بد من موافقة الكتاب والسنة. فأخذ أقوال العلماء والعباد قضيةً مسلمةً دون عرض على الكتاب والسنة، هي طريقة أهل الجاهلية، الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 المسألة العاشرة: رميهم أهل الدين بقلة فهمهم وعدم حفظهم ... رميهم أهل الدين بقلة فهمهم وعدم حفظهم المسألة العاشرة [الاسْتِدْلاَلُ عَلَى بُطْلاَنِ الدِّينِ بِقِلَّةِ أَفْهَامِ أَهْلِهِ وَعَدَمِ حِفْظِهِمْ، كَقَوْلِهِمْ: {بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] . الشرح مما ذكره الله عن قوم نوح قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] أي: الضعفاء {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي: الذين ليس عندهم فهم. فيعيِّرون أتباع الرسل بأن ما عندهم فهم ولا حذق للأمور، ولا عندهم بعد نظر. وهذا ما يتبجح به كثير من فسقة وأعداء الله اليوم، يتندّرون من المسلمين ومن علماء المسلمين، بأنهم ما عندهم فهم ولا بُعد نظر، ويتنقصونهم بهذه الفرية، مع أن علماء المسلمين هم أهل البصيرة، وهم أهل المعرفة؛ لأنهم ينظرون بنور الله عز وجل، ويأمرون بأمر الله، وينهون عما نهى الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ولا شك أن العلماء العاملين هم أفضل الناس بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، فلا يتنقّص العلماء ويتهمونهم بقصر النظر وعدم الفهم إلا من هو شبيه بأهل الجاهلية، وبقوم نوح الذين يصفون أتباع الرسل بهذا الوصف؛ لينفروا الناس عنهم. وهذا يأتي على ألسنة بعض الناس اليوم، يقولون: هؤلاء العلماء علماء حيض ونفاس، وعلماء أحكام الاستجمار، وعلماء جزئيات، ولا يعرفون فقه الواقع، وفقه الواقع عندهم أمور السياسة والثورة على الولاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 المسألتان الحادية عشرة والثانية عشرة: اعتمادهم على القياس الفاسد وإنكار القياس الصحيح ... اعتمادهم على القياس الفاسد وإنكار القياس الصحيح المسألتان الحادية عشرة والثانية عشرة [الاسْتِدْلاَلُ بِالقِيَاسِ الْفَاسِدِ، كَقَوْلِهِمْ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] . إِنْكَارُ القِيَاسِ الصَّحِيحِ: وَالجَامِعُ لَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ: عَدَمُ فَهْمِ الجَامِعِ وَالفَارِقِ] . الشرح المسألة الحادية عشرة والثانية عشرة: اعتمادهم على القياس الفاسد وإنكار القياس الصحيح. ولا قياس عند الأصوليين نوعان: قياس علة وهو: إلحاق فرع بأصل في الحكم لجامع بينهما. فإن اختل شرط من شروطه فهو قياس فاسد، لا يعتمد عليه في إثبات حكم من الأحكام. وهذه مسألة خطيرة، يقول ابن القيم: أكثر ضلال الناس إنما هو بسبب القياس الفاسد. وأول من مارس القياس الفاسد إبليس، لما أمره الله بالسجود لآدم {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] يزعم أن النار خير من الطين، فيكون هو خيراً من آدم. وهذا قياس فاسد؛ لأن النار ليست خيراً من الطين، بل الطين خير من النار؛ لأن النار محرقة متلفة للأشياء، أما الطين فهو ينبت الأشياء والبذور، وفيه خير للناس. فلو ذهبنا إلى القياس لقلنا: الطين خير من النار، مع أن الاعتماد ليس هو على القياس، بل الاعتماد على اختيار الله سبحانه وتعالى وتفضيله، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويختار، لا اعتراض عليه، وله الحكمة البالغة، سبحانه وتعالى. كذلك المشركون قاسوا هذا القياس لما كذبوا الرسل، قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] استدلوا ببشريتهم على عدم صحة رسالتهم؛ لأن الرسالة لا تصح في البشر بزعمهم. وهذا قياس رسالتهم؛ لأن الرسالة لا تصح في البشر بزعمهم. وهذا قياس باطل، لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الرسل فضلهم الله على غيرهم، واصطفاهم واختارهم، وهو أعلم –سبحانه وتعالى –بحالهم وصلاحهم للرسالة {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [الحج: 75،76] ، ولهذا لما قالوا لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] . تقول الرسل: الله فضّلنا بأنه منّ علينا واختارنا للرسالة، فقياسكم قياس مع الفارق؛ لأن البشر لا يستوون، وليسوا على حد سواء، منهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنهم الرسل والعلماء والصالحون، ومنهم الجهال والكفار والفساق، فالبشر يتفاوتون، فهناك فارق، والقياس مع الفارق يكون باطلاً؛ لأن هذا من قوادح القياس عند الأصوليين. بل الحكمة تقتضي أن يكون الرسول إلى البشر بشراً مثلهم؛ من أجل أن يبين لهم، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} [الإسراء:95) ] ، فالرسول يكون من جنس المرسل إليهم؛ من أجل تبليغ الرسالة، والحكمة تقتضي أن يكون رسول البشر من البشر، ولو كان الذين يعيشون على وجه الأرض ملائكة، لأرسل إليهم من جنسهم ملكاً. ومن عجائب انتكاس هؤلاء: أنهم يستبعدون الرسالة في البشر، ولا يستبعدون أن تكون العبودية للحجر! فلا يستبعدون أن تكون الربوبية والإلهية للأحجار والأشجار، ومع هذا يستبعدون ويستنكرون أن تكون الرسالة في البشر، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 القياس الباطل عليه سائر أئمة الكفرة من قوم نوح وغيرهم، ينكرون رسالة الرسل لأنهم بشر، فقوم نوح وغيرهم، ينكرون رسالة لأنهم بشر، فقوم نوح قالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 24،25] ، كذلك غيرهم، فقريش قالوا في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [القمر: 25] ، فهذه قاعدة مطردة عند الكفار، وهي القياس الفاسد. والنوع الثاني من القياس: قياس الشبه وهو أن يتردد الفرع بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبها –والله جل وعلا لا يقاس بخلقه لا قياس على ولا قياس شبه يستوي أفراده، وإنما يستعمل في حقه سبحانه قياس الأولى وهو أن يقال: كل كمال ثبت للمخلوق لا يستلزم نقصاً فالخالق أولى به. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60] . وقال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] . والمسألة التي بعدها، وهي: وأنكروا القياس الصحيح. وهو: أن يكون الرسل إلى البشر بشراً مثلهم، وأن يكون الرسل إلى الملائكة من الملائكة، هذا هو القياس الصحيح، الذي تقتضيه الحكمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 والفطر السليمة؛ أن المرسل يكون من جنس المرسل إليهم، لا من جنس آخر. والذي حملهم على هاتين المسألتين هو الجهل بالجامع والفارق، الجامع الذي يبنى عليه القياس، والفارق الذي لا يصح معه القياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المسألة الثالثة عشرة: الغلو بأهل العلم والصلاح ... الغلو بأهل العلم والصلاح المسألة الثالثة عشرة [الغُلُوُّ فِي العُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ، كَقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] . الشرح وهذه مسألة خطيرة، والغلو معناه في اللغة: الزيادة عن الحد، يقال: غلا القدر، إذا ارتفع فيه الماء بسبب الغليان، ويقال: غلا السعر، إذا ارتفع عن الحد المعروف. فالغلو هو: الزيادة والارتفاع عن الحد المعروف. والغلو في الشرع هو: الزيادة في رفع شخص فوق منزلته اللائقة به، كالزيادة في حق الأنبياء أو الصالحين، ورفعهم عن قدرهم إلى الربوبية أو الألوهية. فأهل الجاهلية غلوا في الأشخاص حتى رفعوهم عن قدرهم، إلى أن جعلوهم أرباباً مع الله، كما غلا اليهود في عزير وقالوا: هو ابن الله. وكما غلت النصارى ورفعوا عيسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ابن مريم- عليه الصلاة والسلام- من البشرية والرسالة إلى الألوهية، وقالوا: هو ابن الله. وكذلك قوم نوح لما غلوا في الصالحين، وصوروا صورهم وتماثيلهم، ثم عبدوهم من دون الله، فرفعوهم إلى مرتبة الألوهية {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] جعلوهم آلهة. وكذلك غيرهم من طوائف المشركين إلى اليوم، يغلون في الصالحين، ويطوفون بقبورهم، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويستغيثون بالموتى ويستنجدون بهم، يطلبون منهم قضاء الحوائج. فالغلو يجرُّ أصحابه إلى الشرك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى ابن مريم" والإطراء هو: الغلو في المدح "إنما أنالا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" 1. والغلو في الأشخاص من الأنبياء والصالحين، هو الذي أوقع المشركين –من الكتابيين والأميين- في الشرك الأكبر. والواجب أن يُعرف للأشخاص قدرهم اللائق بهم، فيعرف للرسل رسالتهم، ويعرف للصالحين صلاحهم، ويعرف للعلماء علمهم، وأنهم أفضل من غيرهم، ففضل العالم على   1 أخرجه البخاري (رقم 3445) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، ويُنزلون منازلهم، ولا يرفعون فوق منازلهم، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء: 171] ، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" 1. فلا يجوز الغلو في المخلوقين، ورفعهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله فيها؛ لأن هذا يجر إلى السرك بالله عز وجل، وكذلك الغلو في العلماء والعباد، قال تعالى عن اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] غلوا في علمائهم وعبادهم، حتى اعتقدوا لهم الصلاحية في تحليل الحرام وتحريم الحلال، وتغيير الشرع المطهر.   1 أخرجه النسائي (5/296 رقم 3057) وابن ماجه (3/476 رقم 3029) وأحمد في المسند (1/215، 437) وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 2680) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المسألة الرابعة عشرة: نفيهم الحق وإثباتهم الباطل ... نفيهم الحق وإثباتهم الباطل المسألة الرابعة عشرة [إِنَّ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ: النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ؛ فَيَتَّبِعُونَ الهَوَى وَالظَّنَّ، ويُعْرِضُونَ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ] . الشرح كل ما تقدم من المسائل التي ذكرها الشيخ عن أهل الجاهلية إنما مبنية على النفي والإثبات، فهم يثبتون ما نفاه الله، وينفون ما أثبته الله، ولذلك وقعوا في الضلال. فالله جل وعلا نفى الشرك وأثبت التوحيد، وأمر التوحيد. وهم عكسوا؛ فأثبتوا الشرك، ونفوا التوحيد، فعكسوا معنى (لا إله إلا الله) تماماً، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52] الإيمان بالباطل هو المنفي، وهم آمنوا به وأثبتوه، بدلاً من أن يكفروا به، والإيمان بالله هو الإثبات، وهم كفروا بالله، فنفوا المثبت حيث آمنوا بالباطل، فأثبتوا المنفي ونفوا المثبت، حيث كفروا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وهذه قاعدة الجاهلية التي يسيرون عليها، ويتخبطون في ضلالهم. فلو تتبعت أحوالهم لوجدتها لا تخرج عن هذه القاعدة، فمن أشرك بالله فقد نفى ما أثبته الله، وأثبت ما نفاه الله. ومن أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً، فهو من هذا القبيل، فمن نفى ما أحلّه الله، وأثبت ما حرّمه الله، فهو من هذه القاعدة، التي لا يخرج عنها شيء من أفعال الجاهلية. ومن عادى أهل التوحيد، ووالى أهل الشرك، فقد نفى ما أثبته الله، وأثبت ما نفاه الله؛ لأن الله أمر بموالاة المؤمنين، ونهى عن موالاة المشركين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 المسألة الخامسة عشرة: اعتذارهم عن قبول الحق بعذر باطل ... اعتذارهم عن قبول الحق بعذر باطل المسألة الخامسة عشرة [اعتذارهم عن اتباع ما آتاهم الله بعدم الفهم، كقوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] ، {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91] ، فأكذبهم الله، وبين أن ذلك بسبب الطبع على قلوبهم، وأن الطبع بسبب كفرهم] . الشرح أي: اعتذروا عن قبول الحق بأنهم لا يفهمونه، كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن اليهود، لمّا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام، قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] ، {غُلْفٌ} يعني: عليها غلاف، لا يصل إليها كلام الرسول، ولا تطمئن قلوبهم إلى كلامه، فاتخذوا هذا حجة في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا هو المعنى المشهور للآية. والمعنى الثاني: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} يعني: أنها مملوءة من العلم، فلسنا بحجة إلى كلام أحد، فليسوا – بزعمهم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 بحاجة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فالله جل وعلا يبين أن العلة ليست ما يقولون، بل العلة أن الله لعنهم بسبب كفرهم، يعني: طردهم وأبعدهم عن رحمته، فصاروا لا يقبلون الحق بسبب كفرهم، فالباء سببية، فصاروا لا يفقهون قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعبأون به؛ لأن الله صرفهم عقوبة لهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] ، فمن لم يقبل الحق ابتلاه الله بالباطل، وصار بعد ذلك لا يقبل الحق، لأنه يفسد قلبه، والعياذ بالله، كما قال تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] ، {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160، 161] ، هذا في اليهود، وقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} هذا ليس صحيحاً، وإنما الله صرفها؛ عقوبة لهم، وإلا أصل القلب أنه على الفطرة، يقبل الحق بفطرته، لكن إذا فسدت الفطرة صار لا يقبل الحق، مثل الأرض إذا فسدت وصارت سبخة، فإنها لا تنبت؛ لأنها فسدت، كذلك القلب إذا فسد صار لا يقبل الحق. وكذلك قوم شعيب عليه الصلاة والسلام، مع أنه أفصح الأنبياء وأبينهم خطاباً، حتى لقب بخطيب الأنبياء؛ لقوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فصاحته وتأثيره، وبلاغة كلامه عليه الصلاة والسلام، ومع هذا {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] ، فهم لا يفقهون كلام شعيب؛ لأن الله سبحانه وتعالى طمس على قلوبهم، مثل ما حصل لبني إسرائيل، وهذه سنة الله جل وعلا، أن من تكبر عن الحق ولم يقبله إذا بلغه، فإنه يبتلى بفساد القلب؛ عقوبة له. وكذلك كفار قريش، ماذا قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم؟ {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5] . فالكفار طريقتهم واحدة، يقابلون دعوات الرسل بأنهم لا يفهمون كلامهم، هل هذا لقصور في بلاغ الرسل؟ لا، لكن لقصور في استعدادهم بسبب كفرهم وإعراضهم وعدم التفاتهم وعدم رغبتهم في الخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 المسألة السادسة عشرة: اعتياض اليهود عن الثورة بكتب السحر ... اعتياض اليهود عن التوراة بكتب السحر المسألة السادسة عشرة [اعْتِيَاضُهُمْ عَمَّا آتَاهُمُ اللهُ بِكُتُبِ السِّحْرِ، كَمَا ذَكَرَ اللهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} ] . الشرح اليهود لما كفروا بالتوراة التي فيها صفات محمد صلى الله عليه وسلم، وأمرهم باتباعه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] كما بشر به عيسى في الإنجيل حيث قال: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] . فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم موجود ذكره في التوراة والإنجيل، اسمه ورسالته وصفاته عليه الصلاة والسلام، حتى إنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلما كفروا بكتاب الله التوراة ولم يعلموا به، ابتلاهم الله جل وعلا بأن أخذوا بكتب السحر التي هي من عمل الشياطين، واستبدلوا عمل الشياطين بوحي رب العالمين، وهذه عقوبة لهم، فكل من أعرض عن الحق فإنه يبتلى بالباطل. وكذلك كل من ترك الحق، فإنه يٌبتلى بالباطل، فالذي يترك منهم دعوة الرسل من الدعوة إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة، وبيان ذلك، يبتلى بأنه يروج للشرك والخرافات، ويستدل لها، ويروجها عند الناس على أنها حق، وهذا واقع كثير من علماء الخرافيين وعلماء القبوريين، بدلاً من أن يدعوا إلى توحيد الله، وإلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله، يدعون إلى الباطل، ويدعون إلى الله وإلى عبادة القبور، والتعلق بالأموات، ويلتمسون لذلك الشبهات التي يروجونها على الناس، فيشتغلون وقتهم في هذا الباطل، والعياذ بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 المسألة السابعة عشرة: نسبتهم الباطل إلى الأنبياء ... ن سبتهم الباطل إلى الأنبياء المسألة السابعة عشرة [نِسْبَةُ بَاطِلِهِمْ إِلَى الأَنْبِيَاءِ، كَقَوْلِهِ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: 102] ، وَقَوْلِهِ: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [آل عمران: 67] . الشرح من مناهج الجاهلية: أنهم ينسبون ما هم عليه من الكفر والضلال إلى الأنبياء، كما نسبت اليهود السحر إلى سليمان، فقالوا: السحر من عمل سليمان، وهو الذي كان يسيطر به على الجن والشياطين، وما علموا أن الشياطين من خلق الله، يسخرهم سبحانه كيف يشاء، وقد سخرهم لنبيه سليمان عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء اليهود نسبوا السحر إلى سليمان؛ من أحل أن يروجوه عند الناس، ويقولوا: هذا من عمل الأنبياء. وكذلك اليهود والنصارى ينسبون كفرهم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إمام الحنفاء، ينسبون إليه ما هم عليه من الكفر، ويقولون: هذا دين إبراهيم، ولهذا رد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الله عليهم بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] هذا دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أنه على دين التوحيد، والبراءة من الشرك والمشركين، عكس ما عليه اليهود والنصارى. وأيضاً ما حدثت اليهودية والنصرانية إلا من بعد إبراهيم بقرون، فكيف تنسب إليه اليهودية والنصرانية؟! هذا من أقبح الكذب، فالتاريخ يكذبهم؛ لأن بينهم وبين إبراهيم قروناً طويلة، والتوراة ما نزلت على موسى –عليه السلام- والإنجيل ما أنزل على عيسى –عليه السلام-إلا بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام. كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران:65] . [كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ} [آل عمران: 93] . وكذلك كان في هذه الأمة من ينسب ما هو عليه من الباطل إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيضع الأحاديث المكذوبة لنصرة باطله. وكذلك من هذه الأمة من ينتسبون إلى الأئمة وهم يخالفونهم في العقيدة، فينتسبون إلى أبي حنيفة وإلى مالك وإلى الشافعي وإلى أحمد، وهم على عقيدة المعتزلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 والأشاعرة، وينسبون هذا الاعتقاد الباطل إلى أئمة السلف، وما كان هؤلاء الأئمة- رحمهم الله- معتزلة، بل كانوا يحاربون المعتزلة وعلماء الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 المسألة الثامنة عشرة: انتسابهم إلى الأنبياء مع مخالفتهم ... انتسابهم إلى الأنبياء مع مخالفتهم المسألة الثامنة عشرة [تَنَاقُضُهمْ فِي الانْتِسَابِ؛ يَنْتَسِبُونَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ مَعَ إِظْهَارِهِمْ تَرْكِ اتِّبَاعِهِ] . الشرح التناقض في الانتساب هو: أن ينتسب إلى شيء وهو محالف له، وهذا انتساب باطل وكذب. والانتساب الصحيح هو أن ينتسب إلى الشيء ويكون موافقاً له، فالذي إلى إبراهيم يوافق ما جاء به من توحيد الله سبحانه وتعالى، وإخلاص العبادة له، والبراءة من المشركين، ولا يخالفه في شيء من ذلك. ومن ذلك انتساب اليهود إلى إبراهيم مع امتناعهم من الحج واستنكارهم لاستقبال الكعبة، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ.فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96،97] . وكذلك من ينتسب إلى الأئمة الأربعة، يجب أن يوافقهم في اعتقاد غيرهم من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المسألة التاسعة عشرة: عيب الصالحين بفعل بعض المنسبين غليهم ... عيب الصالحين بفعل بعض المنتسبين إليهم المسألة التاسعة عشرة [قَدْحُهُمْ فِي بَعْضِ الصَّالِحِينَ بِفِعْلِ بَعْضِ المُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِمْ؛ كَقَدْحِ اليَهُودِ فِي عِسى، وَقَدْحِ اليَهُودِ فِي عِيسى، وَقَدْحِ اليَهُودِ وِالنَّصَارَى فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم] . الشرح قدحهم في الصالحين بما يفعله بعض المنتسبين إليهم من الأفعال السيئة، فينتسبون أفعال الأتباع إلى المتبوعين، وهم منها برآء، كقدح اليهود في عيسى بانحراف أتباعه من الصليبيين، والمعتقدين أن الله ثالث ثلاثة، أو أن المسيح هو الله، أو ابن الله. وكذلك من يقدح في محمد صل الله عليه وسلم بما يفعله بعض المنتسبين إلى دينه من القبورية، ومن الجهمية والمعتزلة والخوارج. فنقول لمن يقدح في هؤلاء الأنبياء: ليس هذا هو دين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 موسى عليه السلام، وليس هذا دين عيسى عليه السلام، وليس هذا دين محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا كان عند الأتباع انحراف فإنه لا ينسب هذا الأصل، وإنما ينسب إلى من يصدر منه هذا الشيء، فلا تعاب رسالة موسى عليه السلام بأن اليهود حرّفوا وبدّلوا وغيّروا، ولا ينسب ما عند النصارى من الشرك والصليبية والكفر القبيح إلى دين عيسى عليه السلام، ولا ينسب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما عند القبوريين الذين يدّعون الإسلام، أو الملاحدة من الرافضة والباطنية، وإن تسمّوا بالإسلام، هذا لا ينسب إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم، إنما ينسب إلى النبي من اتبعه وآمن به، وينسب إلى الصالحين من اقتدى بهم واتبعهم، كما قال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضو عنه ..... } . وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68] . وكذلك لا ينسب إلى الأئمة الأربعة ما عند المنتسبين إليهم من انحراف في العقيدة ومخالفة للدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 المسألة العشرون: اعتقادهم أن أفعال السحرة والكهان من كرامات الأولياء ... اعتقادهم أن أفعال السحرة والكهان من كرامات الأولياء المسألة العشرون [اعْتِقَادُهُمْ فِي مَخَارِيقَ السَّحَرَةِ وَأَمْثَالِهِمْ أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى الأنْبِيَاءِ، كَمَا نَسَبُوهُ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ] . الشرح المخاريق هي: الأمور الخارقة للعادة، ولا يقدر عليها إلا الله، وإذا جرت على يدي نبي فهي معجزة، مثل قلب العصا حية لموسى 0عليه السلام، ومثل ما عند عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى فإذن الله، وما أعطاه الله لمحمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات التي أعظمها هذا القرآن العظيم، الذي أعجز البشرية كلها، وأعجز الجن والإنس أن يأتوا بمثله. أمّا إذا جرى خارق العادة على يد عبد صالح تقي مؤمن، فهذا يسمى: كرامة من الله عز وجل، إما لحجة في الدين، وإما لحاجة المسلمين، كما حصل على يده، إما لحجة في الدين، وإما لحاجة المسلمين، كما حصل لمريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 عليها السلام في أن زكريا إذا دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً، وهي متفرغة للعبادة بهذا المحراب، وهو مكان العبادة، كذلك ما حصل لأصحاب الكهف من النوم الطويل، وبقائهم على حالتهم لم تأكل الأرض أجسامهم، ولم يحصل في حياتهم خلل. هذا من كرامات الأولياء. أمّا ما يجري مما يشبه خوارق العادات على أيدي الكفرة، فهذه تعتبر من أفعال الشياطين فهذه تعتبر من أفعال الشياطين فهذه تعتر من الشعوذات والحيل والسحر التخييلي أو من أعمال الشياطين واستخدامهم لإفساد عقائد الإنس والإضرار بهم وليست من الكرامات، كالذي يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، وهو فاجر، فهذا من فعل الشياطين؛ لأنهم لما تقربوا إليهم بالكفر والشرك؛ خدموهم. فحملوهم في الهواء ومشوا بهم على الماء. فما يجري على أيدي هؤلاء الفجرة من الشعوذات والشرك هو من أعمال الشياطين أو من حيلهم ودجلهم على الناس وهي أمور يتعلمونها فيما بينهم شيء منها ولهذا لما نسب اليهود السحر إلى نبي الله سليمان عليه السلام، رَدَّ الله عليهم بأن السحر كفر ولا ينسب الكفر إلى الأنبياء، وسليمان عليه السلام منهم، ولا يليق به السحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 المسألة الحادية والعشرون: تعبدهم الله بالصفير والتصفيق ... تعبدهم الله بالصفير والتصفيق المسألة الحادية والعشرون [تَعَبُدُّهُمْ بِالمُكَاءِ والتَّصْدِيَةِ] . الشرح من مسائل الجاهلية التي خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعبدهم-أي تقربهم- إلى الله بالمكاء والتصدية، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] أي: ما كان تَقَرُّب المشركين إلى الله عند الكعبة المشرفة إلا مكاء وتصدية، والمكاء هو: الصفير، والتصدية هي: التصفيق بالأيدي والأكف. يعملون هذا عند البيت، ويسمونه صلاة، يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى. وذلك مما زينه لهم شياطين الإنس والجن؛ لأن العبادة لا تكون إلا بما شرعه الله سبحانه وتعالى، وهي توقيفية، فالإنسان لا يُحدث شيئاً من عند نفسه، أو يتلقاه من غيره مما لم يشرعه الله يتعبد به إلى الله وهو ليس له أصل في الشرع. ومن هنا يؤخذ تحريم هاتين الخصلتين: الصفير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 والتصفيق، وإن لم يقصد الإنسان بهما العبادة؛ لأن في ذلك تشبعاً بالمشركين. والتصفيق إنما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم للنساء خاصة 1عند الحاجة، كتنبيه الإمام إذا سها في الصلاة؛ لما في صورتها- إذا كانت بحضرة الرجال –من الفتنة، ولا يجوز للرجل أن يتشبه بالكفار ولا بالمرأة في التصفيق.   1 فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" أخرجه البخاري (رقم 1203) ، ومسلم (رقم 422/ 106) . وفي حديث سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق، من رابه شيء في صلاته فليُسبّح، فإنه إذا سبح التُفت إليه، وإنما التصفيق للنساء" أخرجه البخاري (رقم 684) ، ومسلم (رقم 421) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 المسألة الثانية والعشرون: اتخاذهم الدين لهواً ولعباً ... اتخاذهم الدين لهواً ولعباً المسألة الثانية والعشرون [إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِباً] . الشرح اللهو هو: كل باطل يُلهي عن الحق، واللعب هو ضد الجد، وهو ما لا فائدة فيه. فاتخاذ اللهو واللعب ديناً يتقرب به إلى الله عز وجل هو من دين الجاهلية، وهذا موجود عند الصوفية، فيتخذون ضرب الدفوف، ويتخذون الأغاني عبادة لله عز وجل، يتقربون إلى الله بالأغاني، ويتقربون إلى الله بضرب الدفوف. والأغاني وآلاتها لهو ولعب، وهي محرمة في حد ذاتها، فكيف إذا اتُخذت عبادة لله عز وجل؟ ويشبههم الآن الذين يتخذون الأناشيد التي يسمونها الإسلامية، ويجعلونها من وسائل الدعوة إلى الله، كما يقولون. والدعوة إلى الله عز وجل من الدين، ولا يدخل فيها شيء من الأغاني ومن الأنغام والتنغيمات التي تلهي النفوس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وتشغل الناس عن ذكر الله وعن قراءة القرآن، وهي من شعارات المناهج الحزبية، وليست من وسائل الدعوة؛ لأن الدعوة توقيفية، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس بالكتاب والسنة، والوعظ والإرشاد، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولم يتخذ الأناشيد الجماعية وسيلة للدعوة. وإنشاد الشعر الجيد النزيه؛ للرد على المشركين والدفاع عن الإسلام، كشعر حسان رضي الله عنه، أو للتنشيط على العمل والسير في السفر، ليس ذلك شبيهاً بالأناشيد الجماعية المستعملة الآن، فلا تُقاس عليه؛ لما بينهما من الفارق الواضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الاغترار بالدنيا المسألة الثالثة والعشرون [إِنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا غَرَّتْهُمْ، فَظَنُّوا أَنَّ عَطَاءَ اللهِ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاه، كَقَوْلِهِمْ: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35] . الشرح أهل الجاهلية يعتبرون إعطاءهم الأولاد والأموال من كرمهم على الله عز وجل، وأن الله لا يعذبهم {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ: 35،37] إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] فليست كثرة الأموال والأولاد والثورة دليلاً على محبة الله للعبد، بل إنه قد يعطي الكافر من أجل أن يستدرجه، وفي الحديث: "إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، وأما الدين فلا يعطيه إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 من يحب" 1، وفي الحديث الآخر: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء" 2. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكرم الخلق على الله، وكذلك صحابته، يصيبهم الفقر والفاقة، وهم أكرم الخلق على الله بعد النبيين، والكفار يسرحون ويمرحون في النعم على الله بعد النبيين، والكفار يسرحون ويمرحون في النعم من باب الاستدراج لهم. فلا يستدّل بزهرة الدنيا على كرامة أهلها عند الله سبحانه وتعالى، وإنما يستدل بكرامة العبد على الله إذا كان على عمل صالح، سواء كان غنيًّا أو فقيراً، فهذا هو الكريم على الله سبحانه وتعالى، ومعايير الناس أن أهل الدنيا وأهل الغناء والثروة هم أكرم عند الله عز وجل، وأن أهل الفقر وأهل الفاقة إنما كانوا كذلك لهوانهم على الله.   1 أخرجه أحمد 1/387، والحاكم 1/193 رقم 102، 5/230 رقم 7381. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. 2 أخرجه الترمذي 4/560 رقم 2325، وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه. والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع رقم 5292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 المسالةالرابعة والعشرون: زهدهم في الحق إذا كان عليه الضعفاء ... زهدهم في الحق إذا كان عليه الضعفاء المسالة الرابعة والعشرون [ترك الدخول في الحق إذا سبقهم إليه الضعفاء؛ تكبروا وأنفة، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ... } [الأنعام: 52] . الشرح أهل الجاهلية يرفضون الحق إذا كان عليه الضعفاء من الناس، ولهذا قالوا: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] يعني: ليسوا أولى بالجنة منا، نحن أقدم منهم، وأشرف منهم، هؤلاء ضعفاء ما لهم قيمة ولا مقدار في المجتمع. وقد رد الله عليهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] فالله جل وعلا لا يعطي هذا الدين إلا لمن أحب، أما الدنيا فيعطيها لمن يشاء من أحبابه ومن أعدائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المسألة الخامسة والعشرون: الاستدلال على كون الشيء باطلاً بسبق الضعفاء إليه ... الاستدلال على كون الشي باطلاً بسبق الضعفاء إليه المسألة الخامسة والعشرون [الاستدلال على بطلانه بسبق الضعفاء، كقوله: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] . الشرح من عادات أهل الجاهلية: الاستدلال على بطلان الشيء بسبق الضعفاء إليه، كما قال الله عن المشركين أنهم يقولون: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] يقولون: نحن أهل معرفة، وأهل خبرة، وأهل تفكير، نعرف الأمور، ولما رأينا أن هذا الذي جاء به محمد ليس حقاً، تركناه، ولو كان حقاً لسبقنا إليه، فتركنا له دليل على أنه ليس حقاً. وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الحق ليس اتباعه موقوفاً على طبقة من الناس، بل اتباع الحق منّة يمنّ الله بها على من يشاء من عباده ويوفقه لها. وأتباع الرسل أكثرهم من الضعفاء، كما قال تعالى: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وقوله: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] أي: ليس عندهم تفكير. ويزعمون أنهم هم أهل التفكير وأهل العقول، فلو كان ما جاء به نوح صلى الله عليه وسلم حقاً؛ اتبعه أهل الرأي والملأ من الناس، فتركهم له دليل على أنه ليس حقاً. وهذا باطل؛ لأن الغالب أن الذين يكفرون بالحق هم أهل الترف، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34] ، وغالب من يتبع الحق الضعفاء والفقراء؛ لأنهم ليس عندهم تكبر. فالاستدلال على الشيء بأنه حق باتباع الأغنياء له، أو ذوي الجاه، والاستدلال على أنه باطل باتباع الضعفاء، هذا معيار أهل الجاهلية، لا يجوز أن يتخذ ميزاناً يوزن به معرفة الحق من الباطل؛ ولهذا يقول العلماء: الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المسألة السادسة والعشرون: تحريف أدلة الكتاب بعد معرفتها لتوافق أهواءهم ... تحريف أدلة الكتاب بعد معرفتها لتوافق أهواءهم المسألة السادسة والعشرون [تحريف كتاب الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون] الشرح من شأن اليهود والنصارى: تحريف كتاب الله، التوارة والإنجيل، من بعد ما عقلوه، تعلموه وفهموه، حرفوه بزيادة أو نقصان، أو تفسير بغير المعنى الصحيح، من أجل أن توافق أهواءهم، وهذه مصيبة لا يزال المسلمون يعانون منها، وأول ما كانت عند أهل الكتاب من أهل الأهواء والرغبات والشهوات، إذا لم يقدروا على تكذيب النص وجحوده، سطوا عليه بالتحريف والتأويل والتفسير بغير معناه. ولا يزال المسلمون يعانون من هذه الآفة من أهل الأهواء والفرق الضالة وأصحاب الشهوات. إذا قيل لهم: الربا حرام، قالوا: المراد بالربا كذا، يفسرون الربا على حسب هواهم، والآن موجود لهم كتب وكتابات وفتاوى تبيح الربا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وإذا قيل: هذا حرّمه الله ورسوله، قالوا: ليس هذا هو الربا الذي حرمه الله ورسوله؟ الربا الذي حرمه الله ورسوله هو ربا الجاهلية، زيادة الذين عن المعسر فقط، وأما ربا الفضل فهم يكنزونه. أو يقولون الربا المحرم هو الربا الاستهلاكي أما الربا الاستثماري فهو مباح. وقد صح في الأحاديث في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تحريم ربا الفضل، في الصحيحين: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد" 1 هذا ربا الفضل، وحرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وربا الفضل داخل في عموم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} . فلما كان في اليهود من يحرّف التوراة، وكان في النصارى من يحرف الإنجيل، وجد في هذه الأمة من يحرّف القرآن والسنة، من أجل إباحة ما هو عليه أ, عليه غيره. والواجب على المسلم اتباع الكتاب والسنة.   1 أخرجه البخاري رقم 2134، 2174، ومسلم رقم 1584، 1587. واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ومن تحريف اليهود: أن الله لما قال لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] . حط عنا ذنوبنا واغفر لنا، حرفوا وقالوا: حبة من حنطة، زادوا حرف النون. والمؤولة لصفات الله، لما قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قالوا: معناه: استولى. فزادوا اللام من جنس نون اليهود. هذا تحريف بالزيادة، وهناك تحريف بالنقص، وتحريف في المعنى، وهو تفسير القرآن بغير تفسيره الصحيح، وتفسير الأحاديث بغير تفسيرها الصحيح، هذا كله من تحريف الكلم عن مواضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 المسألة السابعة والعشرون: تأليف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله ... تأليف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله المسألة السابعة والعشرون [تَصْنِيفُ الكُتُبِ البَاطِلَةِ وَنِسْبَتُهَا إِلَى اللهِ، كَقَوْلِهِ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79] . الشرح من آفات اليهود: أنهم يؤلفون المؤلفات ويكتبونها بأيديهم، ويضمنونها الباطل، ويقولون: هذا من عند الله؛ ليحصلوا على مكافأة من الناس، أو يبيعوا هذه الكتب في الأسواق وتدر عليهم أموالاً. وتصنيف الكتب الضالة وترويجها على الناس حرفة اليهود، وَمَنْ تشبه بهم من هذه الأمة. والواجب على العالم حينما يكتب شيئاً من العلم: أن يتقي الله سبحانه وتعالى، ولا يكتب إلا ما يوافق الكتاب والسنة؛ لأنه مسئول عن كتابته، فلا يكتب في فتواه ولا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 مؤلّفه ولا في مقالته إلا ما يوافق الكتاب والسنة، ولا يكتب شيئاً من عند نفسه وهواه، ويقول: هذا من الشرع، أو هذه هي الشريعة. وما أكثر تصنيف الكتب في هذه الأيام، أو الرسائل، أو الفتاوى الضالة الباطلة باسم الإسلام، وهذا مثل فعل اليهود. فهذا ينبّه المسلم الذي يريد أن يكتب أو يؤلف أو يفتي، أن يتوقف عند حدود الله سبحانه وتعالى، وأن يتقي الله، وأن يكتب للحق، وإن لم يرض الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 المسألة الثامنة والعشرون: رفضهم ما عند غيرهم منالحق ... رفض ما عند غيرهم من الحق المسألة الثامنة وعشرون [أَنَّهُمْ لاَ يَقْبَلُونَ مِنَ الحَقِّ إِلاَّ الَّذِي مَعَ طَائِفَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ: {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] . الشرح إذا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] أي على موسى عليه السلام {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91] أي: غيره {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] يقولون: نحن نؤمن بالتوراة التي أنزلت على نبينا موسى {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91] وهو الإنجيل الذي أنزل على عيسى، والقرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} الإنجيل والقرآن مصدقان لما في التوراة. فرد الله عليهم بأنكم إذا كنتم تتبعون ما أنزل على موسى، فكيف تقتلون الأنبياء؟ هل أنزل على موسى قتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الأنبياء؟ حيث قتلوا زكريا، وقتلوا يحيى، وهموا بقتل عيسى عليه السلام، فرفعه الله إليه، وعصمه منهم، وهموا بقتل محمد صلى الله عليه وسلم، فهم مهمتهم قتل الأنبياء، كما قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] بعض الرسل كذبوهم، وبعض الرسل قتلوهم/ لماذا؟ لأنهم جاءوهم بما لا تهوى أنفسهم، فكيف يقولون: نؤمن بما أنزل علينا؟ وأين هذا من الإيمان بالذي أنزل عليهم؟ وأيضاً مما أنزل عليهم في التوراة نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان رسالته وصفاته عليه الصلاة والسلام، فلماذا لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ إن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم هو إيمان بما أنزل عليهم، وقد كفروا به، وهم يقولون: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] . وهذا يشمل من يقول: أنا لا أتبع إلا فلاناً من العلماء والواجب أنه يقبل الحق، ولا يتعصب لإمامه، أو لمدرسّه، أو لشيخه، مثل مشايخ الطرق؛ يتعصب لهم المريدون والأتباع، ولا يقبلون الحق إلا ما قال هؤلاء، وهذا أمر باطل؛ لأنه لا يجب اتباع معين من الخلق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قال: إنه يجب اتباع معين غير الرسول فإنه مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قتل، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه جعل فلاناً مساوياً للرسول صلى الله عليه وسلم. فلا أحد يجب اتباعه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما غيره من الأئمة والعلماء –رحمهم الله- فيتبعون فيما وافقوا فيه الحق، وما أخطأوا فيه من الاجتهاد، فإنه لا يجوز أخذه، ولو كان من الأئمة، وهم يقولون ذلك، يقولون: لا تأخذوا من أقوالنا إلا ما وافق كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 المسألة التالسعة والعشرون: لا يعملون بقول من يزعمون أنهم يتبعونهم ... لا يعلمون بقول من يزعمون أنهم يتبعونهم المسألة التاسعة والعشرون [إِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لاَ يَعْلَمُونَ بِمَا تَقُولُهُ طَائِفَتُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَنَبَّهَ: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] . الشرح أي: هؤلاء اليهود يدعون أنهم يتبعون ما أنزل إليهم في التوراة، وهذا يكذبه أمران: أولاً: قتلهم الأنبياء، وليس في التوراة قتل الأنبياء، بل فيها الإيمان بهم، وتعظيمهم، واتباعهم والاقتداء بهم. الأمر الثاني: أن التوراة تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . هذه صفاته صلى الله عليه وسلم في التوراة، ولم يؤمنوا به صلى اله عليه وسلم، فلم يقولوا بما قاله أنبياؤهم وعلماؤهم الذين يدعون الإيمان بهم. ولا يعلمون بما يقولون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 المسألة الثلاثون: الأخذ بالافتراق وترك الاجتماع ... الأخذ بالافتراق وترك الاجتماع المسألة الثلاثون [وَهِيَ مِنْ عَجَائِبِ آيَاتِ اللهِ! –أَنَّهُمْ تَرَكُوا وَصِيَّةَ اللهِ بالاجْتِمَاعِ، وَارْكَبُوا مَا نَهَى عَنْهُ مٍنَ الافْتِرَاقِ، وَصَارَ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحِينَ] . الشرح من عجائب آيات الله سبحانه وتعالى: أنهم لما تركوا الاجتماع على كتاب الله عز وجل، وشرعه المنزل على الرسل، والاعتصام به، ابتلاهم الله بالتفرق والتشتت والتناحر، والفرح بما هم عليه من الباطل. وهذه عقوبة لهم؛ لأن الإنسان إذا فرح بالباطل فإنه لا يتركه، أما إذا لم يفرح به وكان عنده تشكك منه، فهذا حريٌّ أنه يتوب ويرجع عنه، لكن إذا اطمأن إليه وفرح به، فإنه لا يتحول عنه، وهذه عقوبة من الله اطمأن إليه وفرح به، فإنه لا يتحول عنه، وهذه عقوبة من الله جل وعلا؛ لأن من ترك الحق يبتلى بالباطل، ومن ترك الاجتماع فإنه يبتلى بالتفرق والتشتت، والتناحر والتطاحن، فما تجد أناساً مختلفين فيما بينهم من أمور الدين والدنيا إلا وتجد بينهم العداوات والحزازات والبغضاء، بل ربما الاقتتال فيما بينهم، ولا تجد من يتمسك بالاجتماع على الكتاب والسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 إلا وتجد بينهم الألفة والمحبة والتناصر والتعاون، كأنهم جسدٌ واحد، فلا عصمة إلا بالاجتماع على الكتاب والسنة، ولا وحدة إلا باتباع الكتاب والسنة، وما عدا ذلك فإنه فرقة وعذاب. فهؤلاء الذين يريدون توحيد المسلمين كما يقولون، يقال لهم: إذا كنتم تريدون توحيد المسلمين، وَحِّدوا العقيدة؛ بأن تكونوا جميعاً على عقيدة التوحيد التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تتركوا الناس، هذا قبوري، وهذا صوفي، وهذا شيعي، وحدوا العقيدة أولاً، واعتصموا بلا إله إلا الله، ثم وحدوا الحكم بما أنزل الله، فارجعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله، وانبذوا القوانين والأنظمة والعادات القبلية وغير ذلك، ارجعوا إلى الكتاب والسنة، إذا كنتم تريدون الاجتماع ووحدة المسلمين، فلن يتحد المسلمون إلا على هذا، إلا على وحدة العقيدة ووحدة المرجع؛ وهو الحكم بما أنزل الله، ووحدة القيادة؛ وذلك بالسمع والطاعة لولي أمر المسلمين، هذا الذي يوحد أمر المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم" 1.   1 تقدم ص 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 المسألة الحادية والثلاثون: عداوتهم للدين الحق، ومحبتهم للدين الباطل ... عداوتهم للدين الحق، ومحبتهم للدين الباطل المسألة الحادية والثلاثون [وَهِيَ مِنْ أَعْجَبِ الآيَاتِ أَيْضًا! مُعَادَاتُهُمُ الدِّينَ الَّذِي انْتَسَبُوا إِلَيْهِ غَايَةَ العَدَاوَةِ، وَمَحَبَّتُهُمْ دِينَ الكُفَّارِ –الذينَ عَادُوهُمْ وَعَادُوا نَبِيَّهُمْ وَفِئَتَهُمْ- غَايَةَ المَحَبَّةِ، كَمَا فَعَلُوا مَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا أَتَاهُمْ بِدِينِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَاتَّبَعُوا كُتُبَ السِّحْرِ، وَهِيَ مِنْ دِينِ آلِ فِرْعَوْنَ] . الشرح من مسائل أهل الجاهلية التي خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاداتهم لدينهم الذي أمروا باتباعه، واتباعهم لدين عدوهم، إذ معلوم أن اليهود كانوا على دين موسى عليه السلام، وأن عدوهم هو فرعون وآل فرعون الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، يقتلون أبناءهم، ويستحيون نساءهم ويستعملونهم في أخس الحرف، إلى أن بعث الله نبيه وكليمه موسى عليه السلام، فخلصهم الله على يده من عدوهم وأعزهم به وأكرمهم، وخذل عدوهم وأغرقه وهم ينظرون إليه، وأقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أعينهم بذلك، وكان في التوراة التي بين أيديهم، وهي كتاب الله الذي جاء به موسى عليه الصلاة والسلام، كان فيها أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم، والأمر باتباعه، وهو {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] بسبب أنهم شددوا، فشدد الله عليهم، وحرم عليهم طيبات أحلت لهم، بسبب كفرهم وعنادهم، فلو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لوضع الله عنهم هذه الآصار وهذه الأغلال، ولكنهم أخذهم الحسد، وقالوا: كيف يكون هذا النبي الموعود في آخر الزمان من العرب ومن بني إسماعيل؟ اللائق أن يكون هذا من بني إسرائيل، ولا يكون من بني إسماعيل، هكذا قالوا، فحسدوا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته وكفروا به، وهم يعلمون أنه رسول الله، والذي حملهم على هذا هو الحسد والكبر، والعياذ بالله. ولما كفروا بمحمد كانوا كافرين بموسى عليه السلام، وبكتابه الذي هو التوراة، فكفروا بالتوراة التي عندهم؛ من أجل الحسد لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستبدلوا التوراة بكتب السحر التي هي دين عدوهم فرعون؛ لأن السحر كان فاشياً في قوم فرعون، فتركوا الوحي المنزل، وأخذوا بالسحر الذي كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 عليه عدوهم، وهذا من العجائب! يقول الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:101] ، {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} هذا الرسول وصفاته وما جاء به، عمروا عمل الجهال الذين لا يعرفونه؛ تكبراً وعناداً. لم يقل: لأنهم لا يعلمون، بل قال: {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} لأن العالم إذا لم يعمل بعلمه، فكأنه لا يعلم؛ لأن ثمرة العلم العمل، فإذا لم يعمل صار هو والجاهل سواء، بل الجاهل يكون أخف منه إثماً. {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] وهو السحر. فأصل السحر أنه من عمل الشياطين، ثم توارثه الكفرة على اختلاف الأزمان، ورثه فرعون وقومه، وورثه اليهود، بديلاً عن التوراة فالسحر قديم، ولكن تتوارثه الكفرة جيلاً بعد جيل. فهذا من العقوبات؛ أن الإنسان إذا ترك الحق يُبتلى بالباطل، وهذه سنة لا تتبدل ولا تتغير، فبعض المسلمين تركوا كتاب الله وسنة رسوله، وأخذوا بأقوال الناس، وأخذوا علم المنطق، أخذوا علم الكلام، هم من هذا القبيل، لما تركوا كتاب الله وسنة رسوله، ولم يأخذوا غيرهما؛ لأنهم لما اعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله، ولم يأخذوا عقيدتهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الكتاب والسنة، ابتلوا بأخذ العقيدة من علوم الكفرة والملاحدة، فما أشبه الليلة بالبارحة! وهكذا كل من ترك الحق فإنه يبتلى بالباطل، ومن ترك مذهب أهل السنة والجماعة، فإنه يبتلى بمذاهب الفرق الضالة، والذي يتحزب مع الجماعات الضالة المخالفة للكتاب والسنة ومنهج أهل السنة والجماعة، يُبتلى بأن يكون مع الفرق الضالة. هذه سنة الله سبحانه وتعالى، فهذا مما يُحَذِّر المسلم من أن يترك الحق؛ لأنه إذا ترك الحق ابتلي بالباطل، وإذا ترك أهل الحق اتبع أهل الباطل، دائماً وأبداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 المسألة الثانية والثلاثون: كفرهم بالحق الذي مع غيرهم ممن لا يهوونه ... كفرهم بالحق الذي مع غيرهم ممن لا يهوونه المسألة الثانية والثلاثون [كُفْرُهُمْ بِالحَقِّ إِذَا كَانَ مَعَ مَنْ لاَ يَهْوَوْنَه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] . الشرح وهذه المسألة من أخطر المسائل، وهي: كفرهم بالحق إذا كان مع من لا يهوونه، أي لا يحبونه، فيتركون الحق الذي معه؛ تعصباً لكراهتهم للشخص، فيتركون الحق من أجله. والواجب على المسلم أن يقبل الحق ممن جاء به؛ لأن الحق ضالة المؤمن أينما وجده أخذه، مع صديقه أو مع عدوه؛ لأنه يطلب الحق. أما إذا كان يعتبر الأشخاص فقط، فهذا دين أهل الجاهلية. ومثال ذلك: ما ذكره الله عن اليهود والنصارى- وهم أهل كتاب وعلم- فاليهود رفضوا الحق الذي مع النصارى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 والنصارى رفضوا الحق الذي مع اليهود، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] والذي حملهم على هذا هو الهوى؛ لما كان اليهود يبغضون النصارى جحدوا ما معهم من الحق، ولما كان النصارى يبغضون اليهود جحدوا ما معهم من الحق {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} الذي يأمرهم بقبول الحق، {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113] فالذين ليس معهم كتاب ساروا على هذا المنهج، كل طائفة تكفر الأخرى، وتجحد ما معها من الحق. والحاصل: أن الواجب على المسلم تجنب سنة اليهود والنصارى، وهي الكفر بالحق إذا كان مع من لا يحبه، فلا يحملك بغض الشخص على أن ترفض ما معه من الحق. ومثل هذا ما هو موجود الآن: إذا كانت طائفة أو جماعة تبغض أَحد العلماء، فإنّهم يرفضون ما معه من الحق، فيحملهم بغضهم لهذا العالم على أن يرفضوا ما معه من الحق، وأن يُعَتِّموا عليه، ويُزَهِّدوا فيه، ويُحَذِّروا من مؤلفاته، ومن أشرطته، ولو كانت حقاً. لماذا؟ لا لشيء إلاّ لأنهم لا يحبون هذا الشخص. والواجب عليك أيها المسلم أن تقبل الحق، وإن كان مع من لا تحب، ولا تكون العداوات الشخصية والأهواء النفسية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 مانعة من قبول الحق. والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه اليهودي، وقال: إنّكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشاء محمد أمر أن يقولو: " ماشاء الله وحده " ولا يقولو ماشاء الله وشاء محمد 1. فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا الحق، وأمر أَصحابه بترك الخطأ. وكذلك الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود وقال: إن الله يطوي السموات بيمينه، ويحمل الجبال على أصبع، والأرضين على أصبع ... إلى آخر الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه؛ تصديقاً لهذا الحبر 2، وأنزل الله قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ، فلما طابق قول هذا الحبر من اليهود الحق، قلبه النبي صلى الله عليه وسلم وسُرَّ به.   1 عن قتيلة امرأة من جهينة: أن يهودياًّ أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم تُندِّدون وإنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربِّ الكعبة ويقولوا: ما شاء الله ثم شئت". أخرجه النسائي (7/10 رقم 3782) ، وبنحوه عند ابن ماجه عن حذيفة بن اليمان (2/550 رقم 2118) ، وأحمد في المسند (6/ 371- 372) ، والبيهقي في الكبرى (3/ 54) . 2 أخرجه البخاري (رقم 4811، 7414، 7415) ، ومسلم (2786) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الحاصل: أن المسلم يجب عليه أن يقبل الحق، ولا تحمله عداوته الشخصية، وأغراضه النفسية، والإشاعات التي تشاع عن بعض أهل الحق، لا تحمله هذه الأمور على رفض ما يقوله هذا العالم بل ينتفع به، حتى ولو كان هذا العالم غير مستقيم، لو كان ما يقال فيه من الذم والعيب صحيحاً، إذا قال كلمة حق وجب أن تقبل، لا لأجل هذا الشخص، ولكن لأجل الحق، هذا هو الواجب. فيجب على طلبة العلم أن ينهجوا هذا المنهج الرباني، قبول الحق ممن جاء به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 المسأةلالثالثة والثلاثون: تناقضهم في الإقرار والإنكار ... تناقضهم في الإقرار والإنكار المسألة الثالثة والثلاثون [إِنْكَارُهُمْ مَا أَقَرُّوا أَنَّهُ مِنْ دِينِهِمْ، كَمَا فَعَلُوا فَي حَجِّ البَيْتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] . الشرح اليهود يدّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولكنهم لما حُوِّلت القبلة إلى الكعبة التي بناها إبراهيم أنكروا هذا غاية الإنكار، والعياذ بالله؛ لأنهم لا يعترفون بالكعبة، ولا بالحج الذي هو من دين إبراهيم، ويكفرون بالتوجه إلى القبلة، وهم يعلمون أن هذا هو الحق، وأن الكعبة هي هذا البيت، وبناه بأمر الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] وقال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] الآية، فصارت الكعبة من بناء إبراهيم، بأمر الله، وهي قبلته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وهم ينكرون هذا. وكذلك الحج، من ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهم ينكرونه، لكن حملهم بغض محمد صلى الله عليه وسلم على أن أنكروا هذا كله. فالكعبة ميراث إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والتوجه إليها بالصلاة، وقصدها للحج والعمرة من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء ينتسبون إلى دين إبراهيم وينكرون أعظم شعائره، فهذا من التناقض العجيب! ومثل هذا كل من ينتسب إلى الإسلام، ويرفض بعض أحكامه، كالذي يقول: أنا مسلم، ثم يطوف بالقبور ويدعوها ويتبرك بها ويتمسح بها، فإذا قيل له: هذا شرك، فإنه لا يتجول عنه بل يستمر عليه ويبغض من نهى عنه. وهذا من التناقض في الانتساب، ينتسب إلى الإسلام ويخالفه في أعظم شعائره، وهو التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 المسألة الرابعة والثلاثون: كل فرقة تزكي نفسها دون غيرها ... كل فرقة تزكي نفسها دون غيرها المسألة الرابعة والثلاثون إنَّ كُلَّ فِرقَةٍ تَدَّعِي أَنَّها النَّاجيَةُ فَأَكْذَبَهُمُ اللهُ بقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] ثُمَّ بَيَّن الصَّوَابَ بِقَوْلِه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 112] . الشرح من مسائل أهل الجاهلية: أن كل فرقة منهم تدّعي أنها هي التي على الحق، وأن غيرها على الباطل وكان هذا في اليهود والنصارى ومن شابههم {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] حصروا الهداية ودخول الجنة في اليهود والنصارى. ومثلهم الفرق الضالة، كل فرقة تدّعي أنها هي التي على الحق، وأن غيرها على الباطل، وكل فرقة تدّعي أنها الفرقة الناجية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة" ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين العلامة الفارقة لهذه الفرقة عن غيرها لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 قالوا: "من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على ما أنا عليه وأصحابي" 1. ولهذا قال جل وعلا: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] يعني: هاتوا دليلكم على ما تقولون، أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى؛ لأن هذه دعوى، والدعوى لا تُقبل إلا بدليل؛ ولهذا قال بعدها: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 112] ، {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} يعني: أخلص دينه لله، وسلم من الشرك، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: متبع للرسول صلى الله عليه وسلم، فمن توفر فيه هذان الشرطان فإنه من أهل الجنة، ومن اختل فيه هذان الشرطان أو أحدهما فهو من أ÷ل النار، وإن ادّعى أنه من أهل الجنة. فقوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} إلخ هذا المنهج السليم الذي من كان عليه صار من الفرقة الناجية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي" هذا ضابط من السنة، والآية ضابط من القرآن، فمن كان يريد الجنة فليسلم وجهه إلى الله، ويحسن عمله على السنة، ويتجنب البدع والمحدثات التي ما أنول الله بها من سلطان.   1 أخرجه أبو داود 5/7 رقم 4596، 4597، والترمذي 5/25-26 رقم 2645، 2646، وابن ماجه 4/352-353 رقم 3991، 3992، 3993، والحديث صححه الترمذي والألباني في صحيح الجامع رقم 1082، 1083. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المسألة الخامسة والثلاثون: تقربهم إلى الله بفعل المحرم ... تَقَرُّبَهم إلى الله بفعل المحرم المسألة الخامسة والثلاثون [التَّعَبُّدُ بِكَشْفِ العَوْرَات، كقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] . الشرح يتعبد أهل الجاهلية بكشف العورات في الطواف؛ لأن الشيطان زين لهم أن من لم يكن من أهل الحرم، وجاء من الآفاق، فإنه لا يدخل الحرم بثيابه التي جاء بها؛ لأنه عصى الله فيها، فإن وجد من أهل الحرم من يعطيه ثوباً ليلبسه ويطوف به، وإلا فإنه يخلع ثيابه عند حدود الحرم، ويدخل عرياناً، كذا زين لهم الشيطان، حينما فعلوا هذه الفاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] . فانظروا كيف سمى كشف العورة: فاحشة، وهي: ما تناهى قبحه. وكثير من الناس في هذا الزمان يعتبرونه رقيّاً وتحضراً! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ثم رد الله عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] أي: لا يشرع لعباده كشف العورات، وإنما شرع لهم سترها؛ لما في ذلك من البعد عن الفتنة، وعدم الوقوع في الجرائم الخلقية، وقد كذبوا على الله وقالوا عليه بغير علم، فاحتجوا بحجتين باطلتين، إحداهما أبطل من الأخرى: الأولى: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28] والثانية أعظم وأخطر {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} ، كذبوا على الله سبحانه وتعالى، فرد عليهم سبحانه بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] والقول على الله بلا علم جريمة خطيرة جداً. ثم بيّن سبحانه ما نهى عنه فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] الفواحش جمع فاحشة، وهي: المعصية المتناهية في القبح، ومنها كشف العورة، {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} علانية أمام الناس، {وَمَا بَطَنَ} ما فعله الإنسان خفية بينه وبين الله. {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [الأعراف: 33] يعني: حجة، فالله ما أنزل لأهل الشرك حجة أبداً، إنما أنزل الحجة على التوحيد. أما الشرك فالله نهى عنه سبحانه وتعالى. {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] القول على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الله بلا علم أعظم من الشرك، ومن ذلك: قولهم؛ الله أمرنا بكشف العورات. فليحذر الذين يقولون: هذا حلال وهذا حرام، بدون دليل من كتاب الله وسنة رسوله. إلى أن قال سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} يعني: استروا عوراتكم {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] يعني: عند كل صلاة، ومنها الطواف بالبيت. الشاهد: أن أهل الجاهلية يتقربون إلى الله بكشف العورات، ويعدونه عبادة لله، فهذا من أفحش الكذب والزور، والعياذ بالله. ومنه نأخذ تحريم كشف العورات مطلقاً إلا لضرورة، كالعلاج الضروري، أو ما بين الزوجين بعضهما مع بعض، وكشف العورة في غير هاتين الحالتين حرام شديد التحريم؛ لأنه يجر إلى الفاحشة والوقوع في الجريمة، والشيطان عرف أن العري يجر إلى الزنا واللواط؛ فلذلك رغب الناس في كشف العورات، وسمى هذا تقدماً وحضارة ورقياً، ونفَّر من الستر واللباس المحتشم، وقال: هذا تأخر ورجعية وتقاليد بالية. وما يقال عن الحجاب الآن، والتزهيد فيه، والتمسخر من أهله شيء معروف في الصحف والمجلات والمجالس وغير ذلك، لكن هذا لا يضر أهل الإيمان إذا تمسكوا بدينهم. 90 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 المسألة السادسة والثلاثون: تقربهم إلى الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام ... تقربهم إلى الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام المسألة السادسة والثلاثون [التَّعَبُّدُ بتَحْريم الحَلاَلِ، كما تَعَبَّدوا بالشرك] الشرح من مسائل أهل الجاهلية: تعبدهم – أي: تقربهم إلى الله – بتحريم ما أوجب الله، فحرموا ستر العورة في الطواف كما سبق من حال المشركين. وكذلك اليهود والنصارى، فالنصارى: حرموا على أنفسهم كثيراً من الطيبات، واليهود أباحوا لأنفسهم ما حرم الله مثل الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل، والمشركون حرموا أنواعاً من بهيمة الأنعام، منها البحيرة والسائبة والوصيلة، أنواع من الأنعام يسمونها بهذه الأسماء، ويحرمونها للأصنام، وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] ، فالمؤمن لا يتشدد في تحريم ما أحل الله، ولا يتساهل ويستبيح المحرمات؛ بل يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 معتدلاً، فتحريم الحلال وتحليل الحرام من دين الجاهلية، فلا يجوز لأحد أن يحلل ويحرم إلا بدليل من كتاب الله، وإذا اعتبر ذلك من التعبد، مثل ما عليه النصارى في الرهبانية، أو عليه المشركون في الطواف بالبيت، فهذا تعبد بما لم يشرعه الله، وتعبد الله بمعصيته سبحانه وتعالى، وتقرب إلى الله بمعصيته، وشرع دين لم يأذن به. فالمسألة خطيرة جداً، كما تعبد أهل الجاهلية بالشرك وهذا أعظم، وهو موجود قديماً وحديثاً، فالذين يطوفون بالقبور، ويذبحون لها، وينذرون لها، ويقولون: هذا تقرب إلى الله {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] هذا عند المشركين الأولين، وعند المشركين المعاصرين المنتسبين إلى الإسلام، ويقولون: هذا تقرب إلى الله جل وعلا بواسطة هؤلاء الصالحين: فهم شفعاؤنا، ويقربوننا إلى الله زلفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 المسألة السابعة والثلاثون: اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله ... اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله المسألة السابعة والثلاثون [التَّعَبُّدُ باتِّخاذ الأحبار والرُّهبان أربَاباً من دون الله] الشرح قال الله تعالى في اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة: 31] والأحبار هم العلماء، والرهبان هو العبّاد، فاليهود والنصارى يتعبدون لله باتباع الأحبار والرهبان في معصية الله سبحانه وتعالى، حيث يحرمون ما أحل الله، ويحلّون ما حرم الله، فيطيعهم هؤلاء، ويعتبرون هذا عبادة، حيث يقولون: طاعة العلماء واجبة. فنقول: طاعتهم واجبة إذا أطاعوا الله، أما من خالف طاعة الله فلا طاعة له، قال صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" 1، ولو كانوا علماء أو عباداً من أزهد الناس،   1 تقدم في ص 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ما داموا ليسوا على حق فلا يجوز لنا اتباعهم، ومن اتبعهم وهو يعلم أنهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، فقد اتخذهم أرباباً، يعني: أشركهم مع الله سبحانه وتعالى؛ لأن التحليل والتحريم حق لله جل وعلا، لا يجوز لأحد أن يحلل ويحرم ويشرع إلا بدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116-117] فلا نطيع العلماء مطلقاً أصابوا أو أخطأوا، لكن نتبعهم إن أصابوا، ونتجنب خطأهم إذا أخطأوا، فنطيع من أطاع الله، ونعصي من عصى الله سبحانه وتعالى ونخالف خطأ من أخطأ، هذا هو الدين الحق. أما لو كنت لا تعلم أن هذا العالم مخطئ، فأنت معذور. أما من يقول: إذا كان أخطأ فخطأه عليه. فنقول: هذا لا يجوز، ولا ينفعك هذا يوم القيامة، عليهم ما حُمِّلوا وعليك ما حُمِّلت، والفتاوى لا يُعتمد عليها إلا إذا كانت مبنية على دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان يعلم أنها على غير دليل، فإنه يحرم عليه أن يأخذ بها، ومن كان يجهل هذا فهذا معذور، لكن يجب عليه التحرّي وزيادة التثبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 المسألة الثامنة والثلاثون: إلحادهم في أسماء الله وصفاته ... إلحادهم في أسماء الله وصفاته المسألة الثامنة والثلاثون [الإِلْحَادُ في الصِّفاتِ، كَقَوْلِه تَعَالى: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22] . الشرح الصفات: أي صفات الله عز وجل التي أثبتها لنفسه، والإلحاد في اللغة معناه: الميل عن الاستقامة، والمراد به هنا: الميل في صفات الله، ومن ذلك نفيها عنه سبحانه وتعالى، فنفي الصفات إلحاد؛ لأنه ميل عن الحق، وانحراف عن الحق، فأهل الجاهلية يلحدون في صفات الله، بمعنى أنهم يجحدونها وينفونها عن الله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22] حيث ظنوا أن الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم، فنفوا صفة العلم عن الله. هذا وجه الشاهد من الآية؛ لأن العلم صفة عظيمة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 صفات الله سبحانه، فهو يعلم كل شيء، لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده ومن غيرها {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [التغابن: 4] يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فعلمه سبحانه وتعالى شامل ومحيط بكل شيء، فمن ظن أنه لا يعلم بعض أعماله فإنه يكون ملحداً في صفات الله، نافياً لصفة العلم. ثم قال جل وعلا: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23] . أي: أوقعكم في الردى، وهو الهلاك: {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] فدل على أن من نفى صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، أنه متشبه بأهل الجاهلية، ومتوعد بأشد الوعيد، فعلى هذا يكون نفات الصفات –من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتوردية –قد ورثوا هذه الخصلة القبيحة عن أهل الجاهلية، وأنهم متعرضون لهذا الوعيد الشديد، وأنهم ظنوا بالله ظن السوء. ومن الإلحاد في الصفات تأويلها وصرفها عن معناها الصحيح إلى معنى باطل كتأويل الاستواء بالاستيلاء واليد بالقدرة وغير ذلك. ومن الإلحاد فيها تفويض معناها إلى الله وجحد معناها الذي تدل عليها نصوصها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 المسألة التاسعة والثلاثون: الإلحاد في أسماء الله تعالى ... الإلحاد في أسماء الله تعالى المسألة التاسعة والثلاثون [الإِلْحَادُ فِي الأَسْمَاءِ، كَقَوْلِهِ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] . الشرح أهل الجاهلية يلحدون في الصفات، ويلحدون في أسماء الله سبحانه وتعالى، فينفونها، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} والرحمن من أسمائه سبحانه وتعالى، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لمّا أراد أن يكتب الصلح بينه وبين المشركين في الحديبية، فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم"، قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو 1قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة –يعنون مسيلمة؛ لأن مسيلمة تسمّى بالرحمن -،فأنزل الله تعالى:   1 أخرجه البخاري (رقم 2731، 2732) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30] . وكذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وكان يصلي ويدعو ويقول: يا ألله، يا رحمن. قال المشركون: انظروا إلى هذا الرجل، يزعم أنه يعبد إلهاً واحداً، وهو يقول: يا ألله، يا رحمن، يعبد إلهين. فأنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ} [الإسراء: 110] فأسماء الله كثيرة، وتعدد الأسماء لا يدل على تعدد المسمى، وإنما يدل على عظمة هذا المسمى الذي تعددت أسماؤه. فالشاهد: أن المشركين ينكرون أسماء الله، فمن نفى أسماء الله من الفرق الضالة كالجهمية، أو نفى معانيها وأثبت ألفاظها كالمعتزلة أو نفي بعض الصفات وأثبت بعضها كالأشاعرة، فإنه يكون وارثاً لأهل الجاهلية. وقد قال الله تعالى مثبتاً أسماءه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [لأعراف: 180] ، وقال سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8] ، وقال الله تعالى: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 في علم الغيب عندك" 1، فأسماء الله كثيرة، منها ما أنزله في كتابه، وهذا كثير في القرآن، الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم، الرؤوف، التواب، الغفار ... وفي آخر سورة الحشر {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 22،24] . فيجب الإيمان بأسماء الله سبحانه وتعالى، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة" 2، والأدلة على أسماء الله سبحانه وتعالى كثيرة، فمن لم يؤمن بأسماء الله، فإنه لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى.   1 أخرجه أحمد في المسند (1/391) ، والحاكم (2/189 رقم 1920) ، وابن حبان في صحيحه (2/160 رقم 968) ، وصححه الشيخ أحمد شاكر (حديث رقم 3712) ، والألباني في الصحيحة (رقم 198) . 2 أخرجه البخاري (رقم 2736) ، ومسلم (رقم 2677) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 المسألة الأربعون: جحود الرب سبحانه وتعالى ... جحود الرب سبحانه وتعالى المسألة الأربعون [التَّعْطِيلُ، كَقَوْلِ آلِ فِرْعَوْنَ] . الشرح التعطيل في الأصل: إخلاء الشيء، يقال: عطل المكان، إذا أخلاه، ويقال: امرأة عاطل، يعني: خالية من الحلي، فالتعطيل هو: إخلاء الشيء عن غيره. المراد به هنا: إخلاء الكون عن خالقه، ونفي أن يكون هناك خالق لهذا الكون، وإنما وجد نتيجة الطبيعة كما يقولون. وإمام المعطلة هو فرعون، حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ، ولكن هذا من باب المكابرة والعناد. وفي الآية الأخرى يقول: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر: 36، 37] ، {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38] ، هذا هو التعطيل. والفِطَرُ والعقول تدل على كذب هذا القول؛ لأنه لا يمكن وجود مخلوق بدون خالق، ولا يوجد فعل بدون فاعل أبداً {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور: 35،36] ، ما أجابوا على شيء من هذا. فلا هم خلقوا غيرهم، ولا هم خلقوا أنفسهم، ولم يوجدوا من غير خالق، لا بد أن يكون خالق، وإذا كان هناك خالق: هل هم هذا الخالق؟ هل هم خلقوا أنفسهم؟ هل أصنامهم خلقت شيئاً من السموات والأرض؟ حاشا وكلا، فالعقول والفطر تكذب هذا القول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 المسألة الحادية والأربعون: وصف الله بالنقص ... وصف الله بالنقص المسألة الحادية والأربعون [نِسْبَةُ النَّقَائِصِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، كَالْوَلَدِ وَالحَاجَةِ وَالتَّعَبِ، مَعَ تَنْزِيهِ رُهْبَانِهِمْ عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ] . الشرح النقائص ضد الكمالات، ونسبة النقائص إلى الله سبحانه وتعالى هضم لربوبيته، وذلك كنسبة الولد إليه؛ لأن الوالد يحتاج إلى الولد وهو يشبهه، فاليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ومشركو العرب قالوا: الملائكة بنات الله، مع أن النصارى ينزهون أحبارهم عن الأولاد والزوجات؛ لأن هذا نقص في حقهم، فهم لا ينزهون الله عما ينزهون عنه رهبانهم! كذلك العرب كانوا يكرهون البنات، وينسبونها إلى الله، فينسبون إلى الله ما يكرهونه لأنفسهم، ويعتبرونه عيباً ونقصاً {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57] . ومما يذكر أن عالماً من علماء المسلمين ذهب برسالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 إلى أحد ملوك الروم، فلما دخل عليه قال له: كيف الزوجة والأولاد؟ فغضب الحاضرون؛ كيف يصف رئيسهم بأن له زوجة وأولاد؟! فقال لهم رحمه الله: أنتم تنزهون رئيسكم عن الزوجة والولد، وتنسبونهما إلى الله عز وجل؟! ولا تنزهونه فبذلك أفحمهم، وخصمهم بهذا، وأخجلهم غاية الخجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الشرك في الملك المسألة الثانية والأربعون [الشِّرْكُ فِي المُلْكِ، كَقَوْلِ المَجُوسِ] . الشرح من مسائل أهل الجاهلية: الشرك في الملك، كقول المجوس منهم. والمجوس: طائفة من البشر في بلاد فارس، يعبدون النيران ويقولون: إن هذا الكون له خالقان، النور والظلمة، فالنور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، ولهذا سُمُّوا بالثانوية. وهذا شرك في الربوبية. وفي مذهبهم: جواز نكاح المحارم، ومن مذهبهم: الاشتراك في الأموال والزوجات، فلا يرون لأحد تملكاً خاصاً فيشتركون في النساء، ويشتركون في الأموال، وعليه الشيوعية في الوقت الحاضر والاشتراكية. وهذا مذهب باطل مناقض للأديان والفطر، فخالق الكون واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ة ولم يكن له كفواً أحد. وقد أباح الملكية الفردية، وحرم نكاح المحارم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 المسألة الثالثة والأربعون: جحودهم لقدر الله ... جحودهم لقدر الله المسألة الثالثة والأربعون [جُحُودُ القَدَرِ] . الشرح القدر هو: علم الله بالأشياء، وتقديره لها –جل وعلا- قبل وقوعها، وكتابتها في اللوح المحفوظ، ثم خلقه لها. والإيمان بذلك ركن من أركان الإيمان الستة، قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" 1. وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، والقدر من أفعال الله سبحانه وتعالى، ولا يقع شيء في ملكه وإلا وقد قدره وشاءه سبحانه، وذلك أن الله عَلِمَ ما كان وما يكون، بعلمه الأزلي الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، ثم كتب ذلك في اللوح المحفوظ، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي   1 أخرجه البخاري (رقم50) ، ومسلم (رقم 10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] أي: نخلقها: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطأك لم يكن ليصيبك 1"، "رفعت الأقلام وجفت الصحف" 2، فلا يكون شيء إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، ولا يحصل شيء إلا والله خالقه {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] خلق الخير وخلق الشر، وقدر الخير وقدر الشر، وهذا ما يسمى: مراتب الإيمان بالقدر: أولاً: الإيمان بان الله علم كل شيء. ثانياً: أن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ. ثالثاً: الإيمان بأن الله شاء كل شيء يقع في هذا الكون، فلا يقع شيء إلا بمشيئته سبحانه وتعالى. رابعاً: الإيمان بأن الله خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل. هذا هو الإيمان بالقدر. والجاهلية كانوا ينكرون القدر،   1 أخرجه أبو داود (5/51- 52 رقم 4699، 4700) ، وابن ماجه (1/59- 60 رقم 77) . 2 جزء من حديث وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "يا غلام إني معلمك كلمات ... " أخرجه أحمد (1/293) وصححه الشيخ أحمد شاكر (رقم 2669) وكذا الشيخ الألباني في صحيح الجامع (رقم 7957) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 والدليل على ذلك: ثلاث آيات في القرآن: الأولى في سورة الأنعام: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] ، وفي سورة النحل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35] ، وفي سورة الزخرف: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] . والعلماء في تفسير هذه الآيات على قولين: القول الأول: أن المراد بقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 148] : نفي القدر، يقولون: لو كان لله مشيئة ما تركنا نعمل هذه الأشياء. فقصدهم نفي القدر، وأنهم هم الذين يفعلون هذه الأشياء بدون مشيئة الله سبحانه وتعالى، فنفوا القدر، وأضافوا هذه الأفعال إلى أنفسهم واستقلالهم، فيكون هذا نظير مذهب المعتزلة تماماً؛ لأنهم يقولون: ليس لله مشيئة في الكفر والإيمان والخير والشر، وإنما هذا من صنع العباد. فيكون المعتزلة قالوا بقول أهل الجاهلية. القول الثاني: أن المراد بقولهم: "لو شاء الله ما أشركنا" أي أن الله جل وعلا راضٍ عن أفعالنا هذه؛ لأنه لو لم يرض لم يتركنا نعمل هذا، فيكونون يؤمنون بالقدر، لكن يحتجون به على تسويغ كفرهم، بل يبلغ الأمر إلى أن يقولوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 إن هذا طاعة لله؛ لأن الله شاء، ونحن أطعنا مشيئته وأطعنا قدره. فالقول الثاني – وهو الاحتجاج بالقدر على فعلهم القبيح، وأن الله شاء ذلك منهم – هو قول الجبرية، حيث أثبتوا القدر واحتجوا به على استحسان أفعالهم القبيحة، ويقولون: إن العبد مجبر على أفعاله. فهم ورثة أهل الجاهلية في هذا. فالآية تدل على أحد معنيين، إما نفي القدر، وإما إثبات القدر والاحتجاج به على الله سبحانه وتعالى، فرد الله عليهم بقوله: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] ، أي ما هي الحجة على القول – وهو أن الله لم يشأ هذا الكفر -؟ وعلى التفسير الثاني: ما هي الحجة على أن الله رضي لكم هذه الأفعال، وهذا الكفر، وهذا الشرك، وهذه الفواحش؟ ما دليلكم أن الله رضيها؟ أين الدليل؟ {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148، 149] ، الله جل وعلا يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، لحكمة منه سبحانه وتعالى، ويعلم من يستحق الهداية، ويعلم من لا يستحق الهداية، فلا يضع الهداية إلا في موضعها الصحيح اللائق بها. ورد عليهم بأنه لو كان راضياً بأفعالهم لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 بعث الرسل بإنكار الشرك، والأمر بالتوحيد: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، فلو كان راضياً بعبادة الطاغوت وراضياً بالكفر والشرك – على زعمكم – لما أرسل الرسل تنهى عن ذلك، فدل هذا على أنه لا يرضى الكفر ولا الشرك ولا المعاصي والمخالفات، بل يبغضها وينكرها سبحانه وتعالى. وكذلك في سورة الزخرف رد عليهم بقوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20] ، وبقوله: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] ، فهم يتقوّلون على الله سبحانه وتعالى ما لا يعلمون، وهذه الأمور لا يجوز الكلام فيها إلا بدليل من الشارع، دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتمد فيها على العقول والأفكار والآراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 المسالة الرابعة والأربعون: الاعتذار عن كفرهم بأن الله تعالى قدره عليهم ... الاعتذار عن كفرهم بأنه الله قدَّره عليهم المسألة الرابعة والأربعون [الاحْتِجَاجُ عَلَى الله به] الشرح أي: الاحتجاج على الله سبحانه وتعالى بالقدر، وأنهم معذورون في كفرهم ومعاصيهم؛ لأن الله قدر ذلك عليهم. والله جل وعلا ما ترك لهم حجة، بل إنه أعطاهم الاختيار، وأعطاهم القدرة، وأعطاهم المشيئة، وبيّن لهم طريق الخير، وبين لهم طريق الشر، وأعطاهم إمكانيات يستطيعون بها أن يفعلوا أو يتركوا، وليسوا مجبرين على ما يقولون، وأيضاً الله بيّن أنه لا يرضى لعباده الكفر، قال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] وإن كان قدّره وشاءه فليس من لازم القدر الرضا، فالله يقدر الكفر وهو يبغضه؛ من أجل أن يتميز الناس بعضهم من بعض، ويتميز الصادق من الكاذب، ويتبين المؤمن من الكافر، ويتبين المنافق من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 المؤمن الصحيح، فالله قدّر هذه الأمور المكروهة لحكمة منه سبحانه، ما قدرها عبثاً، ورتب الجزاء على أفعالهم التي يفعلونها باختيارهم. ولذلك المجنون والمعتوه والمكره والنائم، لا يؤاخذون؛ لأنهم ليس عندهم اختيار، وليس عندهم عقل، مهما فعل لا يؤاخذ. فمن أعطاه الله العقل والتفكير، ولم يكن مكرهاً على فعله، فإنه يؤاخذ؛ لأنه أقدم على الشر باختياره، فالزاني يزني باختياره، وتارك الصلاة يتركها باختياره، وعنده القدرة أنه يقوم يصلي، والزاني أيضاً بُيِّن له أن الزنا حرام، وعواقبه وخيمة، ورتب الله على الزنا حداً رادعاً، وأرسل الرسل تنهى عن الشرك والكفر، فكيف يحتجون على الله جل وعلا على معاصيهم وكفرهم وشركهم وضلالهم؟ وهم ليس لهم حجة على الله، وإنما الحجة لله عليهم {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] . فلا يجوز الاحتجاج بالقدر إلا على المصائب، إذا أصابك مصيبة فلا تجزع، وقل: هذا قَدَرُ الله، وما شاء فعل، وتصبر وتحتسب. أما المعصية فلا يحتج عليها بالقدر، بل على العاصي أن يتوب إلى الله، وتجنب المعاصي والشرور، فالاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي هو فعل الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 المسألة الخامسة والأربعون: دعواهم التناقض بين شرع الله وقدره ... دعواهم التناقض بين شرع الله وقدره المسألة الخامسة والأربعون [مُعَارَضَةُ شَرْعِ اللهِ بِقَدَرِهِ] الشرح هذه المسألة أيضاً تتعلق بالقدر؛ لأن هناك من يعارضون شرع الله بقدره، ويقولون: كيف يقدر الله الكفر والإيمان، ثم يشرع لعباده الشرائع والأوامر والنواهي، مع أنها لا فائدة منها إذا كانت الأمور مقضية ومقدّرة، فإن الناس يعتمدون على القدر؟ وهذه من أخطر مسائل الجاهلية، ويتبعها كل من سلك هذا المسلك إلى يوم القيامة ممن يزعمون أن بين الشرع والقدر معارضة، وهذا مذهب باطل، فلا معارضة بين الشرع والقدر أبداً، فالله قدر الشرك والمعاصي والكفر، ونهى عن ذلك، وشرع الإيمان والاستقامة والصلاح، ولا معارضة بينهما؛ لأن العباد هم الذين يفعلون هذه الأفعال باختيارهم وإرادتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ومشيئتهم، فالفعل منسوب إليهم، ولذلك يعاقبون على المعاصي، ويثابون على الطاعات، وإن كانت مقدرة من الله سبحانه وتعالى، فإنهم إنما يجازون على فعالهم لا على القدر. ولمّا بيّن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقال: "ما منكم من أحد إلا ومقعده معلوم من الجنة أو النار" قالوا: يا رسول الله، ألا نتكل على كتابنا ونترك العمل؟ قال صلى الله عليه وسلم: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له" 1، فأنزل الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5-10] . فالعبد يعمل من جانبه الخير، ويتجنب الشر، وأما القدر فهو سر الله سبحانه وتعالى، لا تبحث فيه؛ لأنه لا يعنيك، ولن تصل إلى نتيجة. وقد تلخّص من هذه المسائل: أن الناس في القدر مع الشرع، انقسموا إلى أربعة أقسام: القسم الأول: من يثبت القدر، وينفي الشرع. وهم الجبرية.   1 أخرجه البخاري رقم 4945، 4947، ومسلم رقم 2647. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 القسم الثاني: من يثبت الشرع، وينفي القدر. وهم القدرية. القسم الثالث: من يثبت الشرع والقدر، ويزعم أن بينهما تناقضاً، وهم المشركون. القسم الرابع: من يثبت الشرع والقدر، وينفي عنهما التناقض، وهم أهل السنة والجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 المسألة السادسة والأربعون: نسبتهم الحوادث إلى الدهر ومسبتهم له ... نسبتهم الحوادث إلى الدهر ومسبتهم له المسألة السادسة والأربعون [مَسَبَّة الدَّهرِ، كقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] . الشرح الذين ينسبون الحوادث إلى الدهر هم الدهرية، وذلك أنهم إذا حلّ بهم مكروه فإنهم ينسبونه إلى الدهر، ويذمون الدهر من أجل ذلك. والواجب أن تنسب الأشياء إلى الخالق سبحانه وتعالى، والدهر إنما هو وقت مخلوق من مخلوقات الله، ليس عنده تصرف، وقد أنكر الله سبحانه على من يسند الحوادث إلى الدهر بقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] لأن هذا إنكار للآخرة وإنكار للبعث، {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يموت ناس ويحيا ناس، ويقولون: رحم تدفع وأرض تبلع، ويقولون: هذه طبيعة الحياة، {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ينسبون الهلاك إلى الدهر، فسبب الموت عندهم مرور الليالي والأيام، وليس هناك آجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 مقدرة، ولا هناك مَلَك يقبض الأرواح عند انتهاء آجالها. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الدهر فقال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر" 1 يعني: أن الله خالق الدهر، وأنَّ ما يجري في الدهر هو بتقدير الله، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" 2، فإذا سببت الدهر فقد سببت خالق الدهر سبحانه وتعالى، وهذا مما يؤذي الرب سبحانه وتعالى؛ لأن الذم يقع على الله؛ لأنه هو مصرِّف الأمور، ومقدِّر الآجال والمصائب وكل شيء، وأما الدهر فإنه زمان مخلوق لله عز وجل. فيجب على المسلمين أن يتجنبوا هذا، وإذا أصابهم شيء فإنهم يحاسبون أنفسهم، ويعترفون بذنوبهم {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] فينبغي أن يذم الإنسان نفسه ويلومها ولا يذم الدهر.   1 بوّب البخاري في كتاب الأدب من صحيحه باباً وسمَّاه: باب "لا تسبوا الدهر" وأخرج فيه الحديث التالي وأخرجه مسلم (رقم 2246/5) واللفظ له. 2 أخرجه البخاري (رقم 4826، 6181، 7491) ومسلم (رقم 2246) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 المسألة السابعة والأربعون: كفرهم بنعم الله تعالى ... كفرهم بنعم الله المسألة السابعة والأربعون [إِضَافَةُ نِعَمِ اللهِ إِلَى غَيْرِهِ، كَقَوْلِهَ: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83]] . الشرح إضافة النعم إلى غير الله سبحانه وتعالى شرك بالله وكفر به، وهو من عمل أهل الجاهلية، قال الله تعالى فيهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83] قيل: معنى الآية: يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، ثم ينكرون ذلك؛ عناداً واستكباراً، مع أنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنه رسول الله، كما قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام:33] فهم يعرفون نعمة الله بإرسال الرسول فالرسول صلى الله عليه وسلم هو أكبر نعمة على البشرية، ثم يكفرون بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعاندونه. هذا قول في تفسير الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 والقول الثاني: أنهم يعرفون نعم الله عليهم التي ذكرها في هذه السورة –أي سورة النحل- ثم ينكرونها، بمعنى أنهم ينسبونها إلى غير الله، ينسبونها إلى حولهم وقوتهم، وكدّهم وكسبهم، كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] أي: أنا حصّلته بخبرتي ومهارتي وكسبي، فيجحد نعمة الله عليه، وكذلك غير قارون، فالله جل وعلا ذكر أن الإنسان إذا أنعم الله عليه نعمة قال: هذا لي. أي: هذا أستحقه، وأنا محقوق به، ليس لله. وينسب ما يحصل عليه من الخير إلى نفسه، ولا يقول: هذا بفضل الله وبرحمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 المسألة الثامنة والأربعون: كفرهم بآيات الله جملة ... كفرهم بآيات الله جملة المسألة الثامنة والأربعون [الكُفْرُ بِآيَاتِ اللهِ] . الشرح من مسائل أهل الجاهلية: الكفر بآيات الله التي أنزلها على رسله في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وغيرها من الكتب المنزلة، وقد توعد الله من فعل ذلك فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40] ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} [العنكبوت: 23] ، وغير ذلك من الآيات التي تذكر أن الكفار يكفرون بآيات الله سبحانه وتعالى، ويعارضونها بعقولهم الفاسدة، وبشبههم الباطلة، وهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه من آيات الله؛ أو بحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه من آيات الله؛ لأنه وحي من الله عز وجل، فالذي يكذب ببعض الأحاديث الصحيحة، كما يفعله بعض المغرورين والمثقفين، إذا لم توافق أفكارهم وعقولهم، كما عليه العقلانيون، كل هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 من التكذيب بآيات الله سبحانه وتعالى. والواجب على المؤمن أن يؤمن بآيات الله، وأن يصدّق بها، وأن يعمل بها؛ لأنها حق لا يعتريه الباطل {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] لا يتطرق إليها شك ولا ريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 المسألة التاسعة والأربعون: كفرهم ببعض آيات الله تعالى ... كفرهم ببعض آيات الله المسألة التاسعة والأربعون [جَحْدُ بَعْضِهَا] الشرح أهل الجاهلية متفاوتون في التكذيب بآيات الله، منهم من يكذب بآيات الله كلها ولا يؤمن بكتاب من كتب الله، كما عليه المشركون الذين لا يؤمنون بالأنبياء جملة وتفصيلاً، ومن باب أَوْلى لا يؤمنون بالكتب المنزّلة من عند الله عز وجل. ومن أهل الجاهلية من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض كاليهود والنصارى، ومن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه فإنه: مثل من كذب به كله، قال سبحانه وتعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ} [البقرة: 85] الآية، فهم لا يؤمنون إلا بما يوافق أهواءهم، وما خالف أهواءهم كذّبوا به، فلا ينفعهم الإيمان ببعض الكتاب إذا كفروا بالبعض الآخر، ولو آية، ولو كلمة من القرآن، لا ينفعهم ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ومنهم من يقول: إن القرآن مخلوق، لفظه ومعناه أو: إنّ ألفاظه مخلوقة، دون معناه كالأشاعرة، وهذا تكذيب بالقرآن، فمن قال: القرآن مخلوق، لفظه ومعناه، كما تقول الجهمية، أو قال: إن لفظه مخلوق، وأما معناه فمن الله، فهذا أيضاً كفر؛ إلاّ أن يكون صاحبه مقلداً أو متأولاً فيكون ضلالاً لأن القرآن كلام الله جل وعلا، لفظه ومعناه، حروفه ومعانيه، كله كلام الله سبحانه وتعالى. ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 المسألة الخمسون: جحودهم إنزال الكتب على الرسل ... جحودهم إنزال الكتب على الرسل المسألة الخمسون [قَوْلُهُمْ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]] . الشرح قالت اليهود: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] ومعناه: إنكار الرسالات كلها، وإنكار الوحي كله، والذي حملهم على ما قالوه: الحسد لمحمد صلى الله عليه وسلم، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91] فهذا تناقض من اليهود –لعنهم الله- حملهم عليه الحسد، حتى كَذَّبوا بالرسل كلهم، وبالكتب كلها، من أجل محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أجل القرآن، نسأل الله العافية. فانظروا ما يفعل الحسد بأهله؟ ومثله قول الجهمية: إن القرآن لم ينزل من عند الله. وقول من قال: إن السنة ليست وحياً من الله، وإنما هي من اجتهاد الرسول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 المسألة الحادية والخمسون: وصفهم للقرآن بأنه من كلام البشر ... وصفهم للقرآن بأنه من كلام البشر المسألة الحادية والخمسون [قَوْلُهُمْ فِي القُرْآنِ: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]] . الشرح من مسائل أهل الجاهلية: أنهم يقولون: إن القرآن قول البشر، كما قاله الوليد بن المغيرة. والقرآن كلام الله سبحانه وتعالى، تكلم الله به حقيقة وأوحاه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل، فهو كلامه حقيقة، وسماه كلامه في آيات كثيرة. مثل قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} [التوبة: 6] ، {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ... } [الفتح: 15] . وهذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة وأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. والمشركون يعرفون أنه كلام الله، وأنه ليس من كلام محمد؛ لأنه لو كان من كلام محمد لكان باستطاعتهم أن يقولوا مثله؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم مثلهم، فلو كان من كلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 كان باستطاعتهم أن يحاكوه، والله جل وعلا تحدّاهم، أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة واحدة مثله، فلم يأتوا بشيء من ذلك، مع كفرهم وعنادهم وحرصهم على مشاقة الله ورسوله، فلو كان باستطاعتهم أن يأتوا بسورة من مثله لما تأخروا، ولكن عجزوا عن ذلك، فدل ذلك على أنه كلام الله جل وعلا، لا كلام غيره، لا كلام جبريل ولا كلام محمد –عليهما الصلاة والسلام- مبلغان عن الله جل وعلا كلامه بأمانة والكلام يضاف إلى من قاله مبتدأ لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً. والكفار يكابرون، تارة يقولون: القرآن سحر، وتارة يقولون: إنه تعلمه محمد صلى الله عليه وسلم من علماء أهل الكتاب، وينوّعون الأقوال؛ مما يدل على كذبهم في هذا وتخرصاتهم. فالذي يعتقد أن القرآن كلام محمد، وأنه قول البشر، فقوله هذا هو قول أهل الجاهلية، كما عليه الجهمية والمعتزلة ومن شابههم، ممن يقولون: إن القرآن ليس كلام الله، وإنما خلقه الله جل وعلا في جبريل، أو في اللوح المحفوظ. أو غير ذلك من الأقوال الباطلة التي هي من جنس قول الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 المسألة الثانية والخمسون: نفيهم الحكمة عن أفعال الله تعالى ... نفيهم الحكمة عن أفعال الله المسألة الثانية والخمسون [القَدْحُ فِي حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى] . الشرح الله جل وعلا وصف نفسه بالحكمة، وأنه حكيم. والحكمة: وضع الشيء في موضعه، فالحكيم هو: الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها. والله جل وعلا وصف نفسه بالحكمة وأنه حكيم، والحكيم: ذو الحكمة البالغة. وكذلك المخلوقات كلها مبنية على الحكمة، ما خلق الله شيئاً إلا لحكمة، ما خلق الله شيئاً عبثاً، خلق السموات لحكمة، وخلق الأرضين لحكمة، وخلق الجبال لحكمة، وخلق العوالم الجن والإنس والبهائم والحشرات، كل شيء خلقه الله لحكمة. وإذا تدبرت إتقان المخلوقات ونتائجها عرفت حكمة الله جل وعلا، وأن خالقها حكيم ذو حكمة بالغة {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرض وَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] . والله جل وعلا حكيم في خلقهن وحكيم في أمره ونهيه وتشريعه، لا ينهى عن شيء إلا وفيه مضرة خالصة أو راجحة، ولا يأمر بشيء إلا وفيه مصلحة خالصة أو راجحة. ومن حكمته سبحانه وتعالى: أنه يحاسب الخلائق، فيجازي المحسن بإحسانه، ويجازي المسيء بإساءته، ولا يترك الناس بدون جزاء كل يعما ثم لا يجازى، هذا يخالف الحكمة، ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] ، ويقول جل وعلا -رداً على الذين ينكرون البعث -: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] ، {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:36] يعني: لا يُؤمر ولا يُنهى ولا يجازى؟! وأهل الجاهلية ينكرون حكمة الله سبحانه وتعالى في خلقه وأمره، والمعتزلة والأشاعرة ينفون الحكمة في أفعال الله سبحانه وتعالى، فالأشاعرة ينفون الحكمة في أفعال الله سبحانه وتعالى، فالأشاعرة يقولون: الله لا يفعل لحكمة، وإنما يفعل لمشيئة مجردة فقط، لا لحكمة؛ لأن الحكمة معناها: أنه يعمل لغرض، والله منزّه عن الأغراض، ولأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الحكمة تؤثر عليه فيكون خلقهم من أجل هذه العلة، والله جل وعلا يفعل ما يشاء بمجرد المشيئة والإرادة فقط، لا لحكمة. فينفون الحكمة في أفعال الله وفي شرعه؛ تنزيهاً لله –بزعمهم –عن الأغراض، ولهذا يقولون: يجوز أن يأمر الله بالكفر والفسق والمعاصي، وينهى عن الطاعة وعن إقام الصلاة وعن صلة الأرحام وعلى فعل الخير؛ لأنه يفعل ما يشاء. ونقول لهم: نعم، يفعل ما يشاء سبحانه، وأن لا يفعل شيئاً إلا لحكمة. ويقولون: يجوز أن يدخل الله الكافر الجنة، وأن يدخل المؤمن التقي النار؛ لأن هذا راجع إليه، فلا تحكمه العلل. ونقول: هذا كلام باطل لا يليق بحكمة الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا يقول: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [صّ:28] ، ويقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] فالذين قالوا هذه المقالة وصفوا الله بالسوء والجور، تعالى الله عن ذلك. فهذا هو مذهب أهل الجاهلية ونفاة الحكمة من الأشاعرة ونحوهم، نسأل الله العافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 المسألة الثالثة والخمسون: تحيلهم لإبطال شرع الله تعالى ... تحيلهم لإبطال شرع الله المسألة الثالثة والخمسون [إِعْمالُ الحِيَلِ الظَّاهِرَةِ والبَاطنَة في دَفْعِ ما جاءت به الرُّسُلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالى عَنْهُم: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] ، وقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ ... } [آل عمران: 72] . الشرح من أعمال أهل الجاهلية من الكتابيين والأميين: إعمالهم الحيل في تغيير شرع الله سبحانه وتعالى؛ للتخلص منه وإنفاذ كفرهم وضلالهم؛ لأنهم لا يقدرون على المصارحة، فصاروا يلجأون إلى حيل خفية ماكرة، ومن ذلك: قوله تعالى عنهم: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] والمكر هو: إيصال المكروه بطريقة خفية، واليهود حين أرادوا قتل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام؛ لأن عادتهم قتل الأنبياء، فأرادوا أن يقتلوا المسيح عليه السلام، فذهبوا إلى ملك كافر وثنيّ فقالوا له: إن هذا الرجل سيغيّر حكمك إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 تركته، فأرسل هذا الملك جماعة لقتل المسيح، ودخلوا عليه في مكانه يريدون قتله، ولكن الله جل وعلا مكر لنبيه، فألقى شبه المسيح على رجل من أتباعه قدم نفسه لذلك يريد الأجر من الله، حتى صار كأنه المسيح، فأخذوه وقتلوه وصلبوه على الخشبة، يظنون أنه المسيح، ورفع الله المسيح إليه من بينهم وهم لا يشعرون؛ ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] . هذا معنى قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] ، وهذا من باب المقابلة والمجازاة، وهو عدل منه سبحانه وتعالى، بخلاف مكر المخلوق فإنه ظلم؛ لأنه بغير حق. وقال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72] وهذا من مكر اليهود أيضاً، لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وظهر أمر الله سبحانه وتعالى، وانتصر على المشركين في غزوة بدر، يوم الفرقان، ولما عجز اليهود عن صد الناس عن دين محمد صلى الله عليه وسلم، لجأوا إلى حيلة ومكر، فقال جماعة منهم: أسلموا في أول النهار، وإذا صار آخر النهار ارتدوا عن الإسلام، وقولوا: ما وجدنا في دين محمد صلاحية، فإن الناس سيتبعونكم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 لأنكم أهل كتاب، ويقولون: لولا أنهم ما وجدوا صلاحية في دين محمد لما خرجوا منه، فيقلدونكم. فكشف الله خطتهم بقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} [آل عمران: 72] يعني: أول النهار، فَوَجْهَ الشيء: أوله ومقدمه. وكل من لجأ إلى الحيل لتغيير شرع الله، والإضرار بأوليائه، فإنه على طريقة أهل الجاهلية، ولك من صانع أهل السنة وأهل التوحيد للوصول إلى غرض من أغراضه الدنيئة، فهو على طريقة أهل الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 المسألة: الرابعة والخمسون: الإقرار بالحق، للتوصل إلى دفعه ... الإقرار بالحق؛ للتوصل إلى دفعه المسألة الرابعة والخمسون [الإِقْرَارُ بالحَقِّ؛ لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى دَفْعِهِ، كَمَا قَال في الآية] . الشرح مما عليه أهل الجاهلية: الإقرار بالحق، لا اقتناعاً به، وإنما ليتوصلوا إلى دفعه، مثل ما حصل من اليهود في قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72] ، وسبق بيان ذلك. وهذه مكيدة لا تزال تحاك للمسلمين ممن يندسُّون في صفوفهم من أعدائهم، ويتظاهرون بقبول الحق، يريدون قلب الإسلام وإفساد الإسلام، وهذا وقع في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مستمر إلى وقتنا هذا، وإلى أن يشاء الله جل وعلا، يندسُّ أناس من أعداء الإسلام ويتظاهرون بالإسلام من أجل إفساد الإسلام، ومن أجل بَثِّ الشُّبه بين المسلمين وتفريق الكلمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وإلقاء العداوة بين المسلمين وتقطيعهم إلى أحزاب وإلى جماعات، وهذا من كيد الأعداء ومكرهم. فيجب على المسلمين أن يتنبهوا لهذا المكر الخبيث، وأن لا يمنحوا الثقة لكل ما هب ودب، بل عليهم أن يجرّبوا الناس تجربة صادقة، ويختبروهم اختباراً دقيقاً، فإذا ثبت صدقهم منحوهم الثقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 المسألةالخامسة والخمسون: تعصبهم لما هم عليه من الباطل ... تعصبهم لما هم عليه من الباطل المسألة الخامسة والخمسون [التَّعَصُبُ للمَذْهَبِ، كقوله تعالى: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73] . الشرح التعصب الممقوت للشيء هو: التمسك به، مع العلم ببطلانه. ومن مسائل أهل الجاهلية: التعصب للمذهب الباطل، ولهذا قالت اليهود: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73] وفي الآية الأخرى: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] أي على أنبيائنا فقط، والواجب أن يؤمنوا بما أنزل الله على أنبيائهم، وعلى غيرهم من الأنبياء، مع أنهم لا يؤمنون بما أنزل على أنبيائهم، ولهذا قال: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} [البقرة: 91] أي: هل فيما أنزل الله عليكم قتل الأنبياء الذي تفعلونه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ومن ذلك: تعصّب أتباع المذاهب لمذاهبهم من غير دليل، فالواجب على المسلمين عموماً – وعلى طلبة العلم – أن يتبعوا الحق، سواء كان في مذهبهم، وفي مذهب غيرهم، فنحن لا نأخذ المذهب بكل ما فيه من إصابة وخطأ، بل نأخذ الصواب ونترك الخطأ، فإذا كنت حنبلياً ورأيت الصواب في مسألة من المسائل مع المالكي، أو مع الحنفي، أو مع الشافعي، خذ بقول المالكي أو الشافعي أو الحنفي، وإن كان خلاف مذهبك؛ لأن هدفك الحق، والعبرة بما قام عليه الدليل، هذا هو الواجب، هذا إن كنت من أهل العلم، أما إذا كنت لست من أهل العلم. فعليك أن تسأل أهل العلم الموثوقين، فما أفتوك به أخذت به، هذا هو طريق الصواب، أما التعصب للمذهب، سواء كان حقاً أو باطلاً، فهذا من أمور الجاهلية، كما ذكر الله عن اليهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 المسألة السادسة والخمسون: تسميتهم التوحيد شركا ً ... تسميتهم التوحيد شركاً المسألة السادسة والخمسون [تَسْمِيَةُ اتِّباع الإسلام شِرْكاً، كَمَا ذَكَرَه في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 79] الآية] . الشرح من مسائل أهل الجاهلية: تسمية التوحيد واتباع الحق: شركاً، وهذا من قلب الحقائق، أن يسموا التوحيد شركاً؛ وهذا لانتكاس الفطر، وهذه الآية نزلت في وفد نجران من النصارى، جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتفاوضون معه عليه الصلاة والسلام، فدخلوا عليه في المسجد، وأخذوا يتفاوضون معه، فالنبي صلى الله عليه وسلم عرض عليهم الدخول في الإسلام، وبيّن لهم أن الأنبياء جميعاً أخذ عليهم الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأَحَدٌ منهم حيٌّ ليتبعنه، قال واحد منهم: أتريد يا محمد أن نعبدك؟ سمى اتباع الحق شركاً، وعبادة للرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } [آل عمران: 79] ؛ لأن الأنبياء جاءوا بالتوحيد، ولم يجيئوا بالشرك، وما جاءوا بدعوة الناس إلى عبادتهم، حاشا وكلا، بل جاؤوا بإنكار ذلك، لكن هؤلاء من تعصبهم قالوا هذه المقالة، فأنزل الله هذه الآية، رداً عليهم. وما أشبه الليلة بالبارحة! فهناك من يسمون إخلاص العبادة لله كفراً، وخروجاً عن الدين، ويسمونه شركاً، ويقولون: عبادة القبور هي التوحيد، وهي الإسلام؛ لأنها توسل بالصالحين ومحبة لهم، وعندهم أن الذي لا يعبد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يستغيث به، يكون مبغضاً للرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون جافياً في حق الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا مثل قول نصارى نجران في اتباع الرسول أنه عبادة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا امتداد لمذهب أهل الجاهلية، كُلٌ سَمَّى الحق باطلاً، والباطل حقاً، والعياذ بالله. والجهمية والمعتزلة سموا إثبات الصفات لله عز وجل شركاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 المسألتان السابعة والثامنة والخمسون: التحريف ولي الألسنة في كتاب الله تعالى ... التحريف ولَيُّ الألسنة في كتاب الله المسألتان السابعة والثامنة والخمسون [تَحْرِيفُ الكَلِمِ عَنْ مواضِعِهِ، ولَيُّ الأَلْسِنَةِ بالكتاب] الشرح تحريف الكلم عن مواضعه، هو: تغيير حروفه، أو صرفه عن معناه، فأهل الكتاب من حرفتهم الخبيثة: أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه إما بتغيير ألفاظه، وإما بتغيير معانيه، وتفسيره بغير تفسيره، فكل من حرَّف كلام الله فإنه على مذهب أهل الجاهلية، ولك أهل الباطل والمخالفين للإسلام من الفرق الضالة المنتسبة إلى الإسلام تحرِّف النصوص؛ لتوافق مقاصدها ومذاهبها، سواءً حرّفوا الألفاظ، أو حرّفوا المعاني وفسّروها بغير تفسيرها، فهذا من ميراث أهل الجاهلية. والواجب الإيمان بما أنزل الله سبحانه وتعالى بألفاظه ومعانيه، والعمل بمقتضاه، من غير تغيير وتحريف، هذا هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الواجب، سواء وافق هواك ورغبتك أو خالفهما. والآن أصحاب المبادئ الخبيثة والمذاهب الباطلة يلوون أعناق النصوص والواردة الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويفسرونها بغير تفسيرها، إذا عجزوا عن ردها وتكذيبها، وهذه طريقة من طرائق أهل الجاهلية، ومن طرائق اليهود. والواجب على المؤمن أن يحترم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيؤمن بهما لفظاً ومعنى، على ما أراده الله وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يحرّف النصوص عن معانيها، ولا يغيّر الألفاظ عما جاءت بزيادة أو نقص، أو دسٍّ للباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 المسألة التاسعة والخمسون: تلقيبيهم أهل الجق بالألقاب المنفرة ... تلقيبهم أهل الحق بالألقاب المنفرة المسألة التاسعة والخمسون [تَلْقِيبُ أَهْلِ الهُدَى والصَّوابِ بالصَّابِئَة والحَشَويَّة] الشرح من مناهج أهل الجاهلية: احتقارهم لأهل الهدى، وتلقيبهم بالألقاب الشنيعة المنفرة، يقولون: صابئة، والصابئ هو: الخارج عن الدين، فيسمون أهل الحق بالصابئة الخارجين عن الحق؛ لأن الحق في عُرْفهم ما كانوا عليه من الكفر والضلال، فمن اتبع الرسول فهو صابئ، أي خارج عن عاداتهم وتقاليدهم ومذهبهم ونظامهم وما وجدوا عليه آباءهم. ويسمونه: حشويّاً، من الحشو، وهو الشيء الذي لا فائدة منه، وحشو الكلام هو: الكلام الذي ليس فيه فائدة. ويسمونهم سطحيين ومتأخرين وجامدين، إلى غير ك من الألفاظ. لكن هذا لا يضر أهل الحق، فقوم نوح قالوا: {وَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] أي: سطحيون، ما عندهم تفكير، اتبعوك على غير تفكير، أما العقلاء والذين عندهم رزانة فلم يتبعوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 افتراء الكذب على الله والتكذيب بالحق المسألتان الستون والحادية والستون [افتراءُ الكَذِب على الله والتَّكذِيب بالحقِّ] الشرح افتراء الكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتكذيب بالحق، من طريقة أهل الجاهلية، مثل ما قالوا – لما كانوا يطوفون بالبيت عراة -: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] وهذا من الكذب على الله، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الأنعام: 21] ، {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105] {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] . وكذلك الذين يفترون الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه جاء عنه كذا من الأحاديث، وهي كذب، والذي يحدث بهذا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 غير توثّق ومن غير تثبّت، يكون أحد الكاذبين، ولهذا جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حدّث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" 1. وهذا من حرفة أهل الجاهلية أنهم يفترون على الله الكذب، حيث زعموا أن الله أمرهم بكشف العورة في الطواف، وحرّموا ما أحلّ الله، وزعموا أن الله شرع لهم هذا {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ... } [النحل: 35] ، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] ، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] ، وهذا كله كذب على الله سبحانه وتعالى، لأن الله جل وعلا أرسل الرسل لإنكار ما هم عليه. فالحاصل: أن نسبة الكذب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، هو من أمور أهل الجاهلية، فعلى المسلم أن يحذر من هذا العمل الخبيث، وقد لا يكذب هو على الله، لكن لا يتحرّى في نقل الأمور عن الله وعن رسوله، والفتاوى لا يتحرّى فيها، فإذا كان ما نقله خطأ، وهو لم يتثبت فيه، ونشره على الناس، فإنه يصير أحد الكاذبين، ويصير قد ضَرَّ الناس بهذا الشيء الذي نقله لهم ونشره بينهم.   1 أخرجه مسلم في المقدمة باب رقم 1 وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 والواجب أن الأحاديث الموضوعة المكذوبة لا تروج، ولا تُروى، بل تحاصر وتضايق، وأن الوعاظ والدعاة يتثبتون فيما يقولون عن الله ورسوله. كذلك في أمور الحلال والحرام والفتوى، عليهم أن يتثبتوا في شأنها، وألا يتعجلوا فيها؛ لأن الخطأ فيها قول على الله بغير علم. وكذلك التكذيب بالحق الثابت عن الله ورسوله، لا يقل في الجريمة عن الكذب على الله ورسوله، كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر: 32] ، وذلك أنه إذا لم يوافق هواه، حاول رده بالتكذيب والتشكيك فيه، كفعل أهل الأهواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 المشألتان الثانية والستونك استنفار الملوك ضد أهل الحق ... استنفار الملوك ضد أهل الحق المسألة الثانية والستون [كَوْنُهُم إذَا غُلِبُوا بالحُجَّةِ، فَزَعُوا إلى الشَّكْوى للمُلوك، كما قالوا: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 127] الشرح من مسائل أهل الجاهلية: أنهم كانوا إذا غلبوا بالحجة، لجأوا إلى الشكوى إلى السلطان، ومعنى "غلبوا بالحجة" أي: أقيمت عليهم الحجة، على بطلان ما هم عليه، ولم يكن لهم حجة يقاومون بها، فإنهم يلجأون إلى القوة لمنع القائم بالحق، كما قال فرعون لموسى عليه السلام {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] لما لم يكن عنده حجة يرد بها على نبي الله، لجأ إلى قوة السلطان فقال: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] ، وهذه طريقة المهزومين، وكذلك آل فرعون وهم أتباعه، لما انتصر عليهم موسى عليه السلام في المحفل العظيم الذي عقدوه، وجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فرعون السحرة من مشارق الأرض ومغاربها؛ لأجل أن يبطل ما مع موسى من الآيات؛ لأنه يزعم أنه ساحر، فجمع السحرة، وطلب من موسى تحديد الموعد، من أجل عرض ما معه وما مع السحرة، من أجل أن يموّه على الناس أن عنده ما يقاوم ما مع موسى من المعجزة. فلما حان الموعد واجتمع الناس من أجل مشاهدة ما يحصل، وألقى السحرة ما معهم من السحر، وامتلأ الوادي من سحرهم، وما معهم من العصي والحبال التي حشوها بالزئبق، وبمواد تحركها كأنها حيات، يريدون أن يضاهئوا ما مع موسى من المعجزة، وهي الحية التي تتحول من العصا التي معه، فجاؤوا بسحر عظيم، كما قال الله تعالى، حتى إن موسى عليه السلام خاف {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67] خاف أن يلبّسوا على الناس، وإلا فهو واثق بما معه، واثق بنصر الله، لكنه خاف أن يلبّسوا على الناس؛ لأنهم خافوا أن تصل إليهم، وعند ذلك: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 118-122] ؛ لأنهم عرفوا أن ما مع موسى ليس سحراً، فلما آمن السحرة وسجدوا لله عز وجل، هددهم فرعون بالقتل والصلب، فقتل السحرة الذين آمنوا وتابوا إلى الله، وصلبهم. ثم التفتوا إلى بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى وقالوا لفرعون {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 127-128] . الشاهد من هذا: أنهم طلبوا منه اللجوء إلى القوة، واشتكوا إلى فرعون ليقهر هذا الحق وهذا الإيمان وهذا فعل أشباههم في كل زمان ومكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 المسألة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والستون: رميهم أهل الحق بما هم برءاء منه ... رميهم أهل الحق بما هم برءاء منه المسائل الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والستون [رميهم أهل الحق بالصفات الذميمة رميهم إياهم بالفساد في الأرض كما في الآية، وبانتقاص دين الملك وآلهته، وتبديل الدين] الشرح من مناهج أهل الجاهلية كذلك: أنهم لا يكتفون بالشكوى إلى أصحاب القوة، والانتقام؛ بل يصفون أهل الإيمان بالمفسدين في الأرض، كما قالوا لفرعون: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 127] سموا الإصلاح إفساداً. والحق هو العكس؛ أن الإيمان والتوحيد: إصلاح في الأرض، وأن الكفر والمعاصي والفسوق والظلم والطغيان: إفساد في الأرض، فالذي عليه موسى وقومه إصلاح، والذي عليه فرعون وقومه إفساد، لكنهم عكسوا الأمر، فسموا الإصلاح إفساداً، وهذا دأب الكفار والمشركين والمنافقين دائماً، يسمون المصلحين والدعاة إلى الله على بصيرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ويسمون المؤمنين الموحدين الذين يدعون إلى توحيد الله وعبادته، يسمونهم بالمفسدين في الأرض. وهذا شيء مستمر في الناس إلى يوم القيامة، أهل الكفر والظلم والطغيان يسمون المصلحين بالمفسدين، وهذا منحدر من القرون الأولى من وقت فرعون وقومه، وهذا لا يضر أهل الإيمان، ولا يضر أهل الإصلاح، وإن لُقِّبوا بما لُقِّبوا، فكم لقبوا أهل الحق والدعاة إلى الله بالشناعات، لقبوا شيخ الإسلام ابن تيمية بألقاب شنيعة، ولقبوا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بألقاب شنيعة، وأنه خارجي، وأنه يريد أن يغيّر عقيدة الناس، ويكفّر الناس، إلى آخر ما يقولون، مما هو موجود في كتبهم من الاتهامات والتزوير والشر وهذا موقفهم من كل مصلح. وأما رميهم إياهم بانتقاص دين الملك، كما قال تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] الآية، وكما قال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر: 26] . مما عليه أهل الجاهلية – ومن تشبه بهم -: وهو تحريض أصحاب السلطة على المؤمنين والدعاة إلى الله على بصيرة ومنهج سليم بأنهم يفسدون على أصحاب السلطة، دينهم وسياستهم، إذا نصحوهم وأرشدوهم إلى ما فيه صلاحهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وصلاح ملكهم، كما قال تعالى حكاية عن آل فرعون، وما سعوا به عند فرعون من الوشاية، لما دعاه موسى عليه السلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له، التي فيها صلاحه وصلاح ملكه وصلاح رعيته، وقالوا له: إنهم سيفسدون الناس عليك، ولا يكون لك ربوبية ولا إلهية على الناس، ويحولون الناس من عبادتك إلى عبادة الله. وهذا من باب إغراء فرعون بأنه إن ترك هؤلاء فإنهم سيصرفون الناس عن عبادته وربوبيته؛ لأنه قال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] ، وفي الآية الأخرى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ففسروا دعوة الرسل بأنها إفساد في الأرض، وأن الكفر إصلاح في الأرض، وهذا من قلب الحقائق، ومن الغش للراعي والرعية، وما أكثر هذا الصنف الذي يقوم بهذه المهمة الشيطانية اليوم، ممن يقودون الناس إلى الهاوية، ويقفون في وجه المصلحين، ويزوّرون الحقائق، ويغرون بالسلطة، وهم بطانة السوء، الذين يحولون بين المسئولين وبين قبول النصيحة. اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، وأصلح بطانتهم، واجعلهم هداة مهتدين. وأما رميهم بانتقاص آلهة الملك، كما في الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فإن هذه المسألة تابعة لما قبلها مما ذكر الله في الآية من خبر آل فرعون، حيث قالوا له: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] يعنون: ألوهيتك على الناس وعبادتهم لك، يقولون: أنت لك شأن، ولك عظمة في الأرض، فلو تركتهم يدعون إلى الله تنقّصوك عند الناس، وأرخصوك عند الناس، فأنت بادر بالقضاء عليهم من أجل أن تبقى لك هيبتك ومكانتك. وهذا من الغش لفرعون، وتعريضه للهلاك. ويا سبحان الله! يتنقّصون الله جل وعلا رب السموات والأرض، ولا يعيبون هذا على أنفسهم، ويعيبون على موسى وقومه إذا نصحوا فرعون وقومه، ودلوهم على طريق السعادة والنجاة، وبقاء الملك وصلاحه؟! وهكذا تفعل بطانة السوء دائماً وأبداً، ولهذا على الولاة أن يتخذوا البطانة الصالحة الناصحة، ويحذروا من بطانة السوء وأصحاب المبادئ الهادمة، والأفكار المنحرفة، فإنهم يقودونهم إلى الهاوية، كما حصل من بطانة فرعون، حيث أوقعوه في الهلاك والبوار، وحالوا بينه وبين قبول الحق. وأما رميهم إياهم بتبديل الدين، كما قال تعالى عن فرعون: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الْفَسَادَ} [غافر: 26] ورميهم إياهم بانتقاص دين الملك، كقولهم: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] . فهاتان المسألتان حصلتا من فرعون في حق كليم الله موسى عليه السلام ودعوته، وتحذيره للناس من قبولها، وتظاهره بمظهر الناصح للرعية، وجاءهم عن طريقة النصيحة والمحافظة على الدين، والمحافظة على صلاح الأرض، {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] كما قال أتباعه: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 127] ، سموا المصلحين بالمفسدين، والفساد عندهم هو التوحيد وإفراد الله بالعبادة، والصلاح هو الشرك؛ لأن القلوب إذا فسدت رأت الحق باطلاً، والباطل حقاً. ومن هو الذي يبدّل الدين ويُظهر في الأرض الفساد؟ إنه فرعون الذي بدّل دين التوحيد بالكفر والشرك. أما موسى عليه الصلاة والسلام، فإنه يدعو إلى الدين الصحيح، الذي خلق الله الخلق من أجله، والذي هو صلاح في الأرض؛ لأن الأرض لا تصلح إلا بعبادة الله وحده لا شريك له، هذا هو صلاح الأرض، أما الشرك فإنه فساد في الأرض، والكفر فساد في الأرض، والمعاصي فساد في الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 المسألة الثامنة والستون: مدحهم أنفسهم بما ليس فيهم ... مدحهم أنفسهم بما ليس فيهم المسألة الثامنة والستون [دَعْوَاهُمُ العَمَلَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الحَقِّ كَقَوْلِهِ: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] مَعَ تَرْكِهِمْ إِيَّاهُ] . الشرح من مسائل أهل الجاهلية: دعوى اليهود العمل بما عندهم من الحق، مع تركهم إياه، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] ، {بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] قيل: معناه: بما أنزل على رسلنا من أنبياء بني إسرائيل؛ لأن هذه الآية في اليهود {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] أي: ما أنزل على بني إسرائيل، مع أن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا يخالف ما جاءت به رسلهم {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} يعني: غيره، مما أنزل على عيسى ومحمد {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] فالذي جاء به عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، هو موافق لما جاء به أنبياؤهم من الحق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2001 ومبيّن لما أدخلوه في كتابهم من التحريف والتكذيب والتضليل، هذا من ناحية. والناحية الثانية: أنهم غير صادقين في هذه المقالة، بدليل ارتكابهم هذه الجرائم المذكورة في قوله تعالى ردًّا عليهم {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:91،92) ] هذا رد عليهم، فالله رد عليهم بردين: الرد الأول: أنّ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا يخالف ما جاء به موسى من توحيد الله وإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه؛ بل هو مصدّق لذلك. والأمر الثاني: أنهم غير صادقين حتى فيما ادعوا أنهم يؤمنون به، حيث عبدوا العجل، وقتلوا الأنبياء، وقولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93] وعدم وفائهم بالميثاق الذي أخذ عليهم، وهذا يتناول كل تعصب مذموم، أن يقول الإنسان: أنا لا أعمل إلا بما هو في مذهبي، أو مذهب إمامي؛ لأنه يجب عل المسلم أن يتبع الحق في مذهبه أو في غير مذهبه، مع إمامه أو مع غيره، يقبل الحق ولا يتعصب التعصب المذموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2002 زيادتهم في العبادة ما شرعه الله ونقصهم منها المسألتان التاسعة والستون والسبعون [الزِّيَادَةُ فِي العِبَادَةِ، كَفِعْلِهِمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَنَقْصُهُم مِنْهَا، كَتَرْكِ الوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ] . الشرح أما زيادتهم في العبادة: فكما يفعلون في يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهذا اليوم حصل فيه حدث عظيم، هو إغراق فرعون وقومه، وإنجاء موسى عليه السلام وقومه، فهو يوم انتصر فيه الحق على الباطل، وصامه موسى عليه الصلاة والسلام؛ شكراً لله، وبقي صيامه مشروعاً عند المسلمين؛ لأنه لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد اليهود يصومون هذا اليوم، فسألهم: لماذا يصومونه؟ فقالوا: إنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فيه فرعون وقومه، وصامه موسى ونحن نصومه، فقال عليه الصلاة والسلام: "نحن أحق بموسى منكم" 1فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، وأمر   1 أخرجه البخاري (رقم 2004، 3942، 3943) ومسلم (رقم 1130، 1131) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2003 بصومه يوم قبله أو ويوم بعده؛ مخالفة لليهود. هذا هو المشروع في يوم عاشوراء، وهو الصيام، لكن أهل الجاهلية يزيدون فيه على الصيام، فاليهود يجعلونه يوم عيد يزينون فيه بيوتهم، ويزينون فيه أولادهم ونساءهم، ويعتبرونه يوم عيد، فهم زادوا فيه على المشروع، فالزيادة على الصيام في يوم عاشوراء من دين الجاهلية. وكذلك الرافضة، زادوا في هذا اليوم واعتبروه يوم حزن، ويوم نياحة وندب؛ لأنه اليوم الذي قتل فيه الحسين رضي الله عنه. وأما نقصهم من العبادة، فكما حصل منهم في الحج، كانوا في الجاهلية يحجون البيت لأنه من بقايا دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لكن أدخلوا في الحج تغييرات وشركيات؛ لأن الله شرع الوقوف بعرفة، فصاروا لا يقفون بعرفة، بل يقفون في مزدلفة، وهذا نقص في العبادة. ولما حج النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أنه سيقف معهم في مزدلفة، فتجاوز عليه الصلاة والسلام إلى عرفة، ووقف في عرفة، وأعاد الحج على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] يعني: من عرفة. وهذا رد على المشركين في وقوفهم بالمزدلفة وكذلك زادوا في التلبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2004 قولهم: (إلا شريكاً هو لك. تملكه وما ملك) . وهكذا كل من نقص شيئاً من العبادة، فإنه على دين أهل الجاهلية، وكذلك من زاد في الدين، فإنه على دين أهل الجاهلية، فالبدع والخرافات كلها من دين الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2005 المسلة الحادية والسبعون: تركهم ما أوجب الله عليهم من باب الورع ... تركهم ما أوجب الله عليهم من باب الورع المسألة الحادية والسبعون [تَرْكُهُمُ الوَاجِبَ وَرَعًا] . الشرح أي: يتقربون إلى الله بترك الواجب، مثل الوقوف بمزدلفة، بدل الوقوف بعرفة؛ يزعمون أنه ورع؛ لأنهم أهل الحرم ولا يخرجون إلى عرفة؛ لأنها من الحل، فهم يتركون الحق تورعاً، وهذا من عمل الجاهلية، نسأل الله العافية. وكذلك من تركهم الحق تورعاً: أنهم يطوفون بالبيت عراة، ويتركون ستر العورة –الذي هو الحق –من باب الورع، يقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها 1.   1 قال عروة: "كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحُمْسَ، والحُمْسَ قريش وما ولدت، وكانت الحمس يحتسبون على الناس يُعطي الرجلُ الرجلَ الثيابَ يطوف فيها وتعطي المرأةُ المرأةَ الثيابَ تطوف فيها فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت عريانا ... " أخرجه البخاري (رقم 1665) ومسلم (رقم 1219/ 152) وأخرجه البخاري في كتاب الصلاة (باب رقم 2) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يطوف بالبيت عريان. وكذا (رقم 369) ومسلم (1347) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2006 وكذلك كل من ترك شيئاً من العبادة تورعاً، كمن لا يتصدق ولا يصلي مع الجماعة في المسجد، خشية الرياء والسمعة –كما سمعنا عن بعضهم- أو لا يطلب العلم، أو غير ذلك من ترك العبادات خشية الرياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2007 تقربهم إلى الله بترك الطيبات من الرزق وبترك الزينة المسألتان الثانية والثالثة والسبعون [تَعَبُّدُهُمْ بِتَرْكِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَتَرْكِ الزِّينَةِ فِي اللِّبَاسِ] . الشرح أي: تقربهم إلى الله بترك الطيبات من الرزق، وترك لباس الزينة، وهذا عند النصارى ومن شابههم من الصوفية المنتسبين للإسلام، يتركون الطيبات تعبداً لله عز وجل، فلا يتزوجون النساء، ولا يأكلون من الطيبات، ويتقشفون في المآكل والمشارب والملابس، يزعمون أن هذا عبادة لله؛ ولهذا قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] . وكذلك حرّموا بعض بهيمة الأنعام. والله قد أباح بهيمة الأنعام، فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] ، فحرموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2008 بعض بهيمة الأنعام من أجل أصنامهم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87] . فتحريم الطيبات من دين النصارى الرهبان، ومن دين الجاهلية. ومن حرّم حلالاً مجمعاً على حِلِّه ارتد عن دين الإسلام، فإذا أضاف إلى ذلك اعتبار هذا من التعبد لله عز وجل، فهذا افتراء على الله؛ لأن الله لم يشرع لعباده ترك الطيبات بل أمرهم بالأكل منها {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51] . ولما هَمَّ جماعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا، غضب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم. وأما تعبدهم بترك زينة الله: أي: تقربهم إلى الله بترك زينة الله، أي التزين باللباس، حيث كانوا يطوفون بالبيت عراة، فرد الله عليهم بقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] أي: ما هو دليلكم على ما تفعلون من ترك اللباس والتجمل وترك الطيبات من الرزق؟ لأن التحريم يحتاج إلى دليل، والأصل في اللباس والمآكل والمشارب الحل؛ لأن الله خلق هذه الأشياء لعباده، وكما في الحديث الصحيح: "إن الله جميل يحب الجمال" 1، فترك التجمل من باب الورع ليس من دين   1 أخرجه مسلم (رقم 91/ 147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2009 المسألتان الثانية والثالثة والسبعون: تقربهم إلى الله بترك الطيبات من الرزق وبترك الزينة ... الإسلام، فليتجمل باللباس، وليأكل من الطيبات، ويشكر الله عز وجل، وفي الحديث: "إن الله يحب إذا أنعم عبد نعمة أن يرى أثر نعمته عليه" 1لكن يكون ذلك من غير إسراف ولا مخيلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمل في جسمه وفي ملابسه، ويخص مقابلة الوفود بمزيد تجمل.   1 أخرجه الترمذي (5/1232- 124 رقم 2824) وقال: هذا حديث حسن وحسنه الألباني في صحيح الجامع (رقم 1887) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 دعوتهم الناس إلى الضلال المسألة الرابعة والسبعون [دَعْوَتُهُمُ النَّاسَ إِلَى الضَّلاَلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ] . الشرح الدعوة إلى الله بغير علم هي من عمل أهل الجاهلية، لأن الله أمر بالدعوة إلى سبيله على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن. فدعوتهم الناس إلى الضلال، أي: ترغيب الناس في مخالفة الحق قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] فيدعونهم إلى الشرك، وإلى تحريم الحلال وتحليل الحرام بغير حجة، ويدعونهم إلى أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، فهؤلاء دعاة ضلال، والدعاة إلى الحق هم الذين يدعون إلى ما أنزل الله سبحانه وتعالى وإلى ما شرع. ومن دعاة الضلال اليوم: الذين يدعون الناس إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الشرك، وعبادة الأضرحة والقبور، ويدعون الناس إلى البدع والمحدثات في الدين، التي ما أنزل الله بها من سلطان، ويكتبون ويؤلفون ويتكلمون بدعوة الناس إلى إحياء البدع والمحدثات، والذين يدعون الناس إلى الإباحة والفسوق والعصيان، كل هؤلاء دعاة ضلال، حذّرنا الله سبحانه وتعالى منهم ومن طريقتهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100] ، وقال تعالى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ} [البقرة: 221] وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116] ، فبيَّنَ سبحانه أن الكفار على اختلاف مللهم قديماً وحديثاً، جادون في الدعوة إلى الضلال في كل زمان وفي كل مكان، كما قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 المسألة الخامسة والسبعون: دعوتهم الناس إلى الكفر، مع العلم ... دعوتهم الناس إلى الكفر، مع العلم المسألة الخامسة والسبعون [دَعْوَتُهُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى الكُفْرِ، مَعَ العِلْمِ] . الشرح وهذا صنف آخر من دعاة الضلال، وهم الذين يدعون إلى صرف الناس عن الحق مع معرفته؛ بغياً وعناداً، والصنف الأول يدعون الناس إلى الباطل وهم لا يعرفون الحق، وكلا الصنفين خطير وهم لا يقولون للناس: اكفروا، وإنما يأتونهم بطريقة مزخرفة، ظاهرها أنها حسنة وباطنها كفر، هكذا دعاة الضلال، وإبليس جاء إلى قوم نوح لما وجدهم قد حزنوا على الصالحين الذين ماتوا، جاءهم بطريق دين، وقال: صَوِّروا صُوَرَهم من أجل إذا رأيتموها أن تنشطوا على العبادة وتذكروا أحوالهم وصلاحهم ودينهم فينشطونكم على العبادة. فهو جاءهم بطريق النصيحة، وطريق الدين، وهو يريد أن هذه الصور تكون أصناماً في النهاية، فكانت أصناماً، لما مات أهل العلم ومات هذا الجيل، جاء جيل جاهل بعدهم، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الشيطان: إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلا ليعبدوها، وبها كانوا يُسقون المطر، فعبدوها من دون الله عز وجل. وكذلك دعاة الضلال، لا يأتون للناس بالدعوة إلى الشر المكشوف، إنما يأتونهم بطريقة مزخرفة يحسنونها للناس، ثم في النهاية يحصل لهم مقصدهم، ودعاة الضلال لما دعوا الناس إلى الشرك بعبادة الأضرحة لم يقولوا لهم: اعبدوها، بل قالوا: لهم: هؤلاء أولياء وصالحون، لهم مكانة عند الله، فأنتم تقرّبوا إليهم من أجل أن يقرّبوكم إلى الله، ويكونوا وسائط ووسائل لكم عند الله عز وجل، جاءهم بهذه الطريقة، وهي محبة الصالحين واتخاذهم وسائل ووسائط عند الله عز وجل، فعبدوا القبور والأضرحة بهذه الخديعة الشيطانية، وأشركوا بالله عز وجل. فدعاة الكفر يدعون الناس بأساليب مختلفة، لا يظهر عليها شيء من الانتقاد، ولا يعرفها إلا أهل البصيرة، وقد تبين من هاتين المسألتين أن دعاة الضلال على قسمين. قسم يدعو الناس بغير علم، وقسم يدعو الناس إلى مخالفة الحق وهو يعلمه والأول ضال والثاني فاسق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 المسألة السادسة والسبعون: المكر الشديد لتثبيت الشرك ودفع الحق ... المكر الشديد لتثبيت الشرك ودفع الحق المسألة السادسة والسبعون [المَكْرُ الكُبّارُ، كفِعْلِ قوم نوح] الشرح المكر: إيصال المكروه بطريقة خفية وهو نوعان: مكر حسن ومكر سيئ. والمكر السيئ هو: الحيل الخفية لإيصال الشر لمن لا يستحقه، قال تعالى في قوم نوح: {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [نوح: 22-24] والكبّار هو: العظيم، فهم يمكرون بالناس مكراً عظيماً بهذه الحيل، وهذه الطرق الخبيثة التي يدعونهم بها إلى الشرك، وإذا جاءتهم دعوة التوحيد حذّروهم منها، وقالوا: هؤلاء يريدون أن يترأسوا عليكم، ويريدون أن يتفضلوا عليكم. فتحسين القبيح للناس، وتقبيح الحسن، هو المكر الكُبّار الذي لا يزال يزاوله دعاة الضلال قديماً وحديثاً؛ لصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الناس عن الحق إلى الباطل، وإخراجهم من النور إلى الظلمات، كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] أي: اتركهم وكذبهم، ولا تلتفت إليهم. فهذا فيه: النهي عن الإصغاء لدعاة الضلال، إلا على سبيل معرفة باطلهم لرده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 المسألة السابعة والسبعون: اقتداؤهم بمن لا يصلح للقدوة ... اقتداؤهم بمن لا يصلح للقدوة المسألة السابعة والسبعون [إِنَّ أَئِمَّتَهُم: إِمّا عالِمٌ فاجرٌ، وإمَّا عابدٌ جاهلٌ، كمَا في قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 75-78] . الشرح قدوة أهل الجاهلية من اليهود والنصارى وغيرهم: إما عالم فاجر، وهو الذي لا يعمل بعلمه، مثل أحبار اليهود. وإما عابد جاهل، وهو العامل بغير علم، مثل رهبان النصارى، كما قال الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] يحلِّلون لهم الحرام، ويحرِّمون عليهم الحلال، ويطيعونهم في ذلك، وفي سورة البقرة يقول تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] فقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} أي: من بعد ما عرفوا لفظه ومعناه الصحيح، من أجل أهوائهم وأغراضهم وشهواتهم، كما حصل منهم في قصة الزاني في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، حينما زنا رجل من اليهود بامرأة من اليهود، فقالوا: اذهبوا إلى هذا الرجل – يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم يعلمون أن التوراة فيها الرجم، وهم لا يريدون الرجم، لعله يحكم فيهما بحكم أسهل من الرجم، فجاءوا إليه يطلبون منه الحكم على هذا الزاني وهذه الزانية، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ما تجدون في التوراة على من زنى؟ " وفي رواية: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم" قالوا: فيها أننا نُسَوِّدُ وجوههم، ونُركبهم على حمير، ونطوف بهم في الأسواق. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام (لأنه من أحبارهم، وقد أسلم) قال: كذبوا يا رسول الله، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم منهم التوراة، فلما أحضروها وضع ابن صوريا أصبعه على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع أصبعك، فلما رفعه إذا آية الرجم تلوح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 في التوراة، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما بالحجارة حتى ماتا 1. فهذا من تحريف علمائهم لكلام الله، وقد كذبوا على الله سبحانه وتعالى وأخفوا حكمه. ومن تحريفهم: ما ذكره الله أن الله أمرهم أن يدخلوا الباب سجداً، وأن يقولوا حطة، يعني: حط عنا خطايانا، فأبدلوا حطة بكلمة: حنطة، بالنون، فزادوا في كلام الله ما ليس منه. والتحريف هو: الزيادة في كتاب الله، أو النقص من كتاب الله، أو تفسير كتاب الله بغير معناه، هذا هو التحريف؛ لأن التحريف إما أن يكون في اللفظ، وإما أن يكون في المعنى، وعلى هذا النمط كل من يحاول تفسير القرآن أو الأحاديث بغير معناهما الصحيح؛ من أجل نصرة مذهبه، أو اتباع شهوته، أو حصول مطعمه، وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 76] الآية، وهذا هو النفاق، والنفاق وتحريف النصوص طريقة اليهود. ثم قال بعدها: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا   1 أخرجه البخاري رقم 3635، 4556، 6819، 7543، ومسلم رقم 1699، 1700. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] ، هؤلاء هم العُبَّاد الجُهّال، يقرؤون التوراة ولكن لا يعرفون معناها، فيتخذهم هؤلاء، يقرؤون التوراة ولكن لا يعرفون معناها، فيتخذهم هؤلاء أئمة لهم وهم جُهّال، فلا يجوز الاقتداء إلا بعالم عامل، وهؤلاء هم الربانيون. وكذلك العبّاد الجهّال لا يُقتدى بهم، وإن كان عندهم زهد وعبادة، لكنهم على غير طريق صحيح وغير هدىً من الله سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 المسألة الثامنة والسبعون: تناقضهم في محبة الله ... تناقضهم في محبة الله المسألة الثامنة والسبعون [دعواهم مَحَبَّةَ اللهِ، مع تركهم شَرْعَهُ، فطالبهم الله بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31] . الشرح من ضلال اليهود ومن شابههم: دعواهم محبة الله مع أنهم يخالفون أمره سبحانه وتعالى، وعلامة محبة الله: اتباع أمره، كما قال الشاعر إن المحب لمن يحب مطيع وهذا كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فاليهود والنصارى يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ، ومع هذا يخالفون شرع الله سبحانه وتعالى، فدل ذلك على كذبهم في دعواهم، حيث طالبهم الله بإقامة الدليل على ما يدعونه من محبته، وذلك باتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فلما لم يفعلوا ظهر كذبهم، وكذلك الصوفية يبنون دينهم على أنهم يحبون الله عز وجل، ويقولون العبادة هي المحبة، فنحن لا نعبد الله خوفاً من ناره، ولا طمعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 في جنته، وإنما نعبده؛ لأننا نحبه. مع أنهم يخالفون شرع الله سبحانه وتعالى، فلا يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يتبعون مشائخهم، وأصحاب الطرق التي يبايعونهم عليها على السمع والطاعة لهم، وأنهم لا يخالفون لهم أمراً مهما أُمِروا، حتى إنهم يقولون: إن المريد مع شيخه كالميت بين يدي غاسله، ما له اختيار ولا له ما غير ما اختاره شيخه. فأين اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فهم كاذبون في هذه الدعوى. ولهذا تحدّى الله جل وعلا هؤلاء المدّعين لمحبته بهذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فعلامة محبة الله: اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن وجدت فيه هذه الصفة فإنه صادق في دعواه المحبة، ومن فقد هذه الصفة –وهي الاتباع للرسول –فإنه كاذب في دعواه، فقد ذكر سبحانه دليل المحبة وثمرتها، فدليلها اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وثمرتها نيل محبة الله للعبد، ومغفرة ذنوبه، وكذلك هذا يطّرد في كل من يدّعي محبة الرسول وهو لا يتبعه، كمن يدعون محبة الرسول ويكتبون في الصحف والمجلات: عَلِّموا أولادكم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم يبتدعون البدع، ويحدثون الموالد، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البدع فهم يدّعون محبته، ويخالفونه في إحداث البدع والخرافات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 المسألة التاسعة والسبعون: اعتمادهم على الأماني الكاذبة ... اعتمادهم على الأماني الكاذبة المسألة التاسعة والسبعون [تَمَنّيهمِ الأَمَانِيَّ الكّاذِبَةَ، كَقَوْلِهِمْ: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] . الشرح اليهود والنصارى يعتمدون على الأماني الكاذبة، ويتمنون على الله الأماني، كما ذكر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] هي أيام عبادتهم للعجل –بزعمهم-، فرد الله عليهم بقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 80، 81] فهذا رد على قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] ، كما رد عليهم في سورة آل عمران: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:23- 25] ، وقال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 123، 124] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 المسألة الثمانون: غلوهم في الأشخاص ... غُلُوُّهم في الأشخاص المسألة الثمانون [اتِّخَاذُ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِم مَسَاجِدَ.] الشرح مما عليه أهل الجاهلية من أهل الكتاب وغيرهم: اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وهذا كان ولا يزال عند اليهود والنصارى، وعند مشركي العرب، وعند المنتسبين إلى الإسلام ممن يعبدون القبور والأضرحة، وأهل الكتاب هم أول من عمل ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد" يعني: مصليات يصلون عندها؛ لأن الصلاة عندها وسيلة إلى عبادتها، وإن كان المصلي يصلي لله، لكن إذا صلى عند القبر واستنجد به واستغاث بهن كما يقال الآن عند الأضرحة؟ هذا من دين الجاهلية، من يهود ونصارى وغيرهم، قال صلى الله عليه وسلم، لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة رضي الله تعالى عنها عما رأتاه في أرض الحبشة من الكنايس وما فيها من التصاوير؛ لأن أم سلمة وأم حبيبة قد هاجرتا إلى الحبشة مع زوجيهما الهجرة الأولى، فرأتا في بلاد الحبشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الكنائس المزخرفة، بها الصور، فذكرتا ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" 1. فمن دين الجاهلية: اتخاذ الأولياء والصالحين أرباباً من دون الله عز وجل، يزعمون أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، وأنهم يشفعون لهم عند الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وهؤلاء لا يعتقدون فيهم أنهم يخلقون ويرزقون ويحيون ويميتون، بل لا يعترفون أن هذا خاص بالله عز وجل، وإنما اتخذوهم وسائط بينهم وبين الله وشفعاء، فصرفوا لهم أنواعاً من العبادات؛ من أجل أن يقرِّبوهم إلى الله زلفى. فهذا دين الجاهلية، وعليه عُبَّاد القبور اليوم، نسأل الله العافية والسلامة. ومن الغلو في القبور وأصحابها البناء عليها وإسراجها ووضع الستائر عليها والكتابة عليها وتجصيصها وغير ذلك من مظاهر الغلو. ولهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله.   1 أخرجه البخاري (رقم 427، 434، 1341) ومسلم (رقم 528) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 المسألة الحادية والثمانون: الغلو في آثار الأنبياء ... الغلو في آثار الأنبياء المسألة الحادية والثمانون [اتخاذ آثار أنبيائهم مساجد كما ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ] الشرح من دين الجاهلية: اتخاذ آثار أنبيائهم مساجد، أي يصلون عندها تبركاً بها والفرق بين هذه والتي قبلها: أن التي قبلها غلو في الأشخاص، وهذا غلو في آثار الأشخاص، والآثار: جمع أثر، وهو المكان الذي جلس فيه نبي أو صلى فيه، يتتبعون هذه المواطن فيتعبدون فيها لله عز وجل، يظنون أن الصلاة فيها فيها فضيلة، مثل الذين يذهبون الآن إلى غار حراء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد تعبد فيه قبل البعثة. فهم يذهبون إليه للصلاة والدعاء فيه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يزوره بعد البعثة، ولا أحد من صحابته الكرام ذهب إلى غار حراء؛ لعلمهم أن ذلك غير مشروع. كذلك يذهبون إلى غار ثور الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 قبل الهجرة، ويصلون فيه، ويضعون فيه الطيب، وربما يرمون فيه النقود. هذا كله من دين الجاهلية، فالجاهلية هي التي تُعَظِّم آثار أنبيائها، ولهذا يقول عمر رضي الله عنه – لما رأى الناس يذهبون إلى شجرة البيعة -: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم تتبعوا آثار أنبيائهم" ثم أمر بقطع الشجرة، وهذه الأماكن لم يقصدها النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع، أما الأماكن التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع، مثل صلاته عند مقام إبراهيم، عملاً بقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] ، فإنها تشرع الصلاة فيها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أما جلوسه في غار حراء، وفي غار ثور، أو جلوسه في الطريق بين مكة والمدينة للاستراحة، فهذا لم يفعله من أجل التشريع، وإنما فعله اتفاقاً وللحاجة. فيجب أن يُفَرَّق بين هذا وهذا، فالأماكن التي لم يقصدها للتشريع، وإنما مرّ بها أو جلس فيها من باب العادة؛ أو للاستراحة أو صادفته الصلاة وصلى فيها من غير قصد لها، فإنه لا يتخذ هذا المكان الذي صلى فيه الرسول مصلى؛ لأنه فعله لا من باب القصد، وإنما فعله لأن الصلاة أدركته في هذا المكان فصلى فيه، وهذا المكان وغيره سوى من الأرض، ليس له ميزة، ولأن تتبعها يحدث الوثنية فيما بعد بتبرك الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 به، ويقصدونه من بعيد، ويسافرون إليه، فيحصل في ذلك ما حصل في الأمم السابقة من الشرك، وربما يُبنى عليه، وهناك من يطالبون الآن بذلك، يقولون: ابنوا على الآثار التي مر بها الرسول وجلس فيها، ابنوا عليها من أجل الذكرى. وهذا كلام باطل، نحن لا نفعل شيئاً لم يفعله سلفنا الصالح، لو كان هذا مشروعاً لسبق إليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم، وما هلكت الأمم إلا بمثل هذه الأفعال، فإحياء آثار المعظّمين يجر إلى الوثنية، كما حدث في قوم نوح والأمم السابقة، ولا يقال: إن الناس الآن على وعي من دينهم فلا يخاف عليهم؛ لأنها تأتي أجيال جاهلية فيزيّن لها الشيطان الوثنية. ولأنها لا تؤمن الفتنة على أحد كما قال الخليل عليه السلام {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 المسألة الثانية والثمانون: اتخاذهم لوسائل الشرك ... اتخاذهم لوسائل الشرك المسألة الثانية والثمانون [اتخاذ السرج على القبور] . الشرح اتخاذ السرج على القبور: أن يجعل فيها أنوار من المصابيح أو الفوانيس، أو الكهرباء، على شكل قناديل؛ لأجل الزيارة. ولا يجوز هذا؛ لأنه من أسباب الشرك، وإذا احتاج الناس إلى النور من أجل دفن الميت، فإنهم يأتون معه بسراج أو فانوس بقدر الحاجة، أما إنه يجعل في المقبرة أعمدة كهرباء وتنور، فهذا منهي عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" 1، والحديث في السنن، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم زائرات القبور يدل على أن المرأة ممنوعة من زيارة المقابر، وإنما زيارة القبور خاصة بالرجال،   1 أخرجه أبو داود 3/362 رقم 3236، والترمذي 2/136 رقم 320، وقال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 5109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 واللعن يفيد أن زيارة المرأة للقبور كبيرة من كبائر الذنوب. ولعن صلى الله عليه وسلم المتخذين عليها المساجد، أي: الذين يتحرون الصلاة عندها، أو يبنون عليها المساجد، وهذا أشد؛ أو الذين ينورونها لأن هذا وسيلة إلى الشرك، بأن تعبد هذه القبور وتدعى من دون الله عز وجل، فالقبور تترك كما كانت قبور الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لا تسرج ولا يبنى عليها أبنية، وإنما تترك كما هي على حالها، وترفع عن الأرض قدر شبر فقط، ويوضع عليها نصايب؛ لتعرف أنها قبور، ولا يزاد على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: " لا تدع قبراً مشرفاً" يعني مرتفعاً: "إلا سويته" 1 يعني: أزلت ارتفاعه وسويته بالأرض؛ لأن إشرافه وارتفاعه يغري الجهال بقصده؛ لأن الشرك أسرع إلى قلوب الجهال من السيل إلى منحدره؛ لأن شياطين الإنس والجن يزينون للناس هذه الأمور ويفتنونهم بها، فإذا كان القبر ليس فيه ما يلفت النظر، ولا يعرف هل هو قبر نبي أو غيره، فهذا أبعد عن الفتنة، أمّا إذا قصد وعظم وجعل عليه بنية وزخارف، ووضع عليه أنوار، فهذا يصرف الأنظار إليه، ويقول الجهال: ما عمل فيه هذا الشيء إلا لأن له سراً، فيقصدونه بالعبادة.   1 أخرجه مسلم رقم 969. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فالواجب أن يتبع في القبور هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ليس فيه غلو أو بناء أبنية، أو إيقاد سرج، أو كتابات، أو تجصيص، أو غير ذلك، كما كانت القبور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 المسالة الثالثة والثمانون: عكوفهم عند القبور ... عكوفهم عند القبور المسألة الثالثة والثمانون [اتخاذ القبور أعياداً] الشرح الأعياد جمع عيد، وهو: ما يتكرر ويعود، وهو ينقسم إلى قسمين: عيد زماني: كعيد رمضان، وعيد الأضحى. القسم الثاني: عيد مكاني: وهو المكان الذي يجتمع فيه على مدار السنة، أو على مدار الأسبوع، أو على مدار الشهر، يجتمع فيه للعبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجعلوا قبري عيداً" يعني: مكاناً للاجتماع حوله، والعكوف حوله، والتردد عليه، "وصلوا عليّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" 1 فليس للصلاة على الرسول عند قبره خاصية، بل صَلِّ عليه في أي   1 أخرجه أبو داود 2/366 رقم 2542 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 7226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 مكان في المشرق أو في المغرب، في أي مكان صَلِّ على الرسول، ويبلغه ذلك. وتكرار زيارته، والجلوس عنده، من اتخاذه عيداً، وهو يؤول إلى الشرك، فأهل الجاهلية يتخذون قبور الصالحين أعياداً، يجتمعون حولها ويعكفون عندها، كما هو الآن حاصل عند قبر البدوي وغيره، يأتيه الزوار من كل مكان، ويجلسون وينصبون الخيام، ويذبحون الذبائح ويقيمون الأيام، عند قبر البدوي أو غيره، وهذا من دين الجاهلية. وإذا كان قبر الرسول صلى الله عليه وسلم منهياً عن الاجتماع حوله والتردد عليه، فكيف بقبر غيره؟ لأن هذا وسيلة من وسائل الشرك. ولما سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نذر أن ينحر إبلاً ببوانة – اسم موضع – فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد." قالوا: لا، قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم – أي اجتماع – يجتمعون فيه؟ " قالوا: لا، قال: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" 1. الشاهد: قوله: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " أي:   1 أخرجه أبو داود 3/394 رقم 3313. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 عيد مكاني، فدل على أنه لا يجوز اتخاذ مكان مخصص للعبادة، إلا ما خصصه الله ورسوله، كالمساجد ومشاعر الحج والعمرة، وما عداها فالأرض كلها سواء، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" 1   1 أخرجه البخاري رقم 335، 438 ومسلم رقم 521، 522، 523. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 المسالة الرابعة والثمانون: تقربهم إلى الله بالذبح عند القبور ... تقربهم إلى الله بالذبح عند القبور المسألة الرابعة والثمانون [الذبح عند القبور] الشرح قال الله تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] . وقال تعالى: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 161-162] فالذبح عبادة لله. والذبح عند القبور: إذا كان تعظيماً لها فهذا شرك أكبر. وإذا كان تعظيماً لله، ولكن فعله عند القبر يظن أنه مشروع، فهذا بدعة ووسيلة إلى الشرك، فلا يجوز الذبح عند القبور حتى ولو كان الذابح لا يعتقد في القبور وإنما يذبح لله؛ لأنه إذا اعتاد الناس الذبح عند القبور آل هذا إلى عبادتها دون الله عز وجل، وكذلك الذبح للجن لاتقاء شرهم أو للعلاج، فهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 شرك بالله. أما الذبح للأكل، أو الذبح لإكرام ضيف ويذكر عليه اسم الله، فهذا لا بأس؛ لأنه من العادات لا من العبادات. أما ذبح الأضحية وذبح العقيقة والذبح الذي يقصد به العبادة، فهذا عبادة لله عز وجل؛ ولا يذبح لمخلوق، تعظيماً له تعظيم عبادة ولا يذبح عند قبر مخلوق؛ لأن هذا يؤول إلى عبادته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 المسألتان الخامسة والسادسة والثمانون: احتفاظهم بآثار المعظمين ... احتفاظهم بآثار المعظَّمين المسألتان الخامس والسادسة والثمانون [التَّبَرُكُ بآثار المعظَّمين، كدار النَّدوة، وافتخار من كانت تحت يده بذلك، كما قيل لحكيم بن حزام: بعت مكرمة قريش؟! فقال: ذهبت المكارم إلا التقوى] . الشرح تعظيم آثار المعظمين من العلماء أو من الملوك أو من الرؤساء، بأن تُحيا هذه الآثار وترمم وتصان، فهذا العمل وسيلة من وسائل الشرك، وهذا من دين الجاهلية؛ لأنه يأتي جيل فيما بعد ويقولون – أو يقول لهم الشيطان -: إن آباءكم ما احتفظوا بهذه الآثار إلا لأن فيها بركة وفيها خيراً، فيعبدونها من دون الله؛ لأن الجيل الأول هيأ لهم الأسباب، كما فعل الشيطان مع قوم نوح لما أمرهم بتصوير الصالحين لأجل أن تبعث فيهم النشاط على العبادة، فهم أسّسوا هذا الشيء بنية صالحة، ولكن جاء جيل جُهّال فعبدوها، وهذا من فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الجاهلية، هم الذين يعظمون آثار العظماء، ويحافظون عليها ويصونونها، ثم تعبد من دون الله ولو على المدى البعيد. فلا يقل قائل: الناس الآن على دين صحيح وعلى توحيد. نقول: لا يقتصر على الوقت الحاضر، وإنما يجب النظر للمستقبل، مع أن الحاضرين لا تُؤمن عليهم الفتنة أيضاً، ولكن المستقبل أشد، فلا يجوز العناية بهذه الآثار، وما هلكت الأمم إلاّ بمثل هذا، وهو أنهم عظّموا آثار كبرائهم حتى صارت أوثاناً في المستقبل، فالواجب على المسلمين التنبه لهذا الأمر. وذكر الشيخ شاهداً لذلك؛ دار الندوة في مكة، وهي مكان يجتمع فيه أكابر قريش؛ للتشاور في الأمور المهمة. فلما جاء الإسلام وزالت الجاهلية، بقي مبنى دار الندوة على حاله إلى وقت معاوية رضي الله عنه للتملك والانتفاع بسكناها وتحويلها عن هيئتها، فاشترى هذه الدار من حكيم بن حزام رضي الله عنه، فلام الناس حكيماً على ذلك، قالوا: لِمَ بعت هذا الأثر من آثار أسلافنا، وبعت مكرمة قريش؟ قال: رضي الله عنه: ذهبت المكارم إلا التقوى. وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] هذا هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الجواب السديد الموافق لكلام الله عز وجل، وهذا من نور البصيرة ونور الإيمان. فدل على أنه لا يجوز الاحتفاظ بالآثار القديمة؛ لأن هذا يؤول إلى الشرك، ولو فيما بعد، والدين جاء بسد الطرق المفضية إلى الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 المسال السابعة والثامنة والتاسعة والثمانون، والتسعون: من خصال الجاهلية الباقية في بعض هذه الأمة ... من خصال الجاهلية الباقية في بعض هذه الأمة المسائل السابعة والثامنة والتاسعة والثمانون، والتسعون [الفَخْرُ بالأحساب، الطعن في الأنساب، الاستسقاء بالأنواء، النياحة على الميت] الشرح هذه المسائل الأربع من مسائل الجاهلية، قال صلى الله عليه وسلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت" 1. والفخر بالأحساب: أن يفتخر الإنسان بأمجاد آبائه وأجداده، وهذا من دين الجاهلية؛ لأنهم كانوا يجتمعون في منى، وبدل أن يذكروا الله عز وجل يذكرون مفاخر آبائهم، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: 200] ، فالواجب ذكر الله   1 أخرجه مسلم رقم 934. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 عز وجل، ليس ذكر الآباء والأجداد. والطعن في الأنساب: كأن يقول: فلان ما له أصل، فلان من قبيلة ليست هي أصيلة، وهذا معناه تنقّص الآخرين، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فالفخر ليس بالنسب، الفخر إنما هو بالتقوى، ولا ينفعك النسب إذا فقدت التقوى، قال صلى الله عليه وسلم: "من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه" 1، فلا ينفع الإنسان كونه من قريش، ولا كونه من بني هاشم، ولا كونه من بيت الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن معه عمل صالح لا ينفعه إلا العمل الصالح وتقوى الله عز وجل. والاستسقاء بالنجوم: اعتقاد أن المطر ينزل من تأثير طلوع النجم أو غروبه، وهذا من دين الجاهلية، فالمطر إنما يحصل بإرادة الله سبحانه وتعالى {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] ، فالله هو الذي ينزل المطر بإرادته ومشيئته وحكمته، وينزله كيف يشاء سبحانه وتعالى، ينزله على أرض، ويمنع منه أرضاً أخرى {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [الفرقان:   1 جزء من حديث أخرجه مسلم رقم 2699. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 50] ، فالذي يعتقد أن لطلوع النجم أو غروب النجم تأثيراً في نزول المطر، فهذا الاعتقاد شرك، تجب التوبة منه، ويجب نسبة نزول المطر إلى الله جل وعلا. والنياحة على الميت: والمراد بها: رفع الصوت عند موت الميت؛ جزعاً وتسخطاً، أو ذكر محاسن الميت، فالنياحة من كبائر الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب" 1، فالنياحة كبيرة من كبائر الذنوب، وهي من أمور الجاهلية، والواجب: الصبر والاحتساب. ولا يدخل في هذا البكاء على الميت؛ لأنه ليس باستطاعة الإنسان أن يحبسه، والنبي صلى الله عليه وسلم بكى لما مات ابنه إبراهيم، وقال: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" 2، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا – يعني اللسان – أو يرحم" 3، فإذا تكلم الإنسان بكلام يرضي الله عند المصيبة، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون،   1 أخرجه مسلم رقم 934. 2 أخرجه البخاري رقم 1303، ومسلم بنحوه رقم 2315. 3 أخرجه البخاري رقم 1304، ومسلم رقم 924. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وحَمِدَ الله وشَكَرَه؛ غفر الله له وجبر مصيبته. فهذه الأربع من أمور الجاهلية، وهي باقية في الناس، فيجب التوبة منها، ودلّ الحديث على أنه ليس كل من فيه شيء من الجاهلية يكون كافراً، فأمور الجاهلية منها ما هو كفر، ومنها ما هو دون ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 المسألة الحادية والتسعون: قيام مجتمعهم على البغي ... قيام مجتمعهم على البغي المسألة الحادية والتسعون [إِنَّ أَجَلَّ فَضَائِلَهُمُ البَغْيُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ فِيهِ مَا ذَكَرَ] الشرح البغي هو: التعدِّي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وأهل الجاهلية يعتبرون ذلك من مفاخرهم، ويتمدحون به في أشعارهم ومقالاتهم، فجاء الإسلام بتحريمه والنهي عنه، وأمر بالعدل بين الناس، وشرع لمن بُغي عليه أن يقتص لنفسه؛ حتى يرتدع الباغي وينتصر المظلوم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [لأعراف:33] ، فقرن البغي مع الفواحش والشرك والقول عليه بغير علم. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: "إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ " 1. وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] وبإقامة هذه الأحكام الربانية استتب الأمن، وسادت المحبة بين المسلمين، وزالت عنهم فوضى الجاهلية وعنجهيتها، والحمد لله رب العالمين.   1 أخرجه البخاري رقم 67، 105، 1739، ومسلم رقم 1679. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 المسالة الثانية والتسعون: الفخر بغير الحق أو بحق ... الفخر بغير الحق أو بحق المسألة الثانية والتسعون [إِنَّ أَجَلَّ فَضَائِلَهُمُ الفَخْرُ وَلَوْ بِحَقٍّ، فَنُهِيَ عَنْهُ] . الشرح من مسائل الجاهلية: الفخر ولو بحق، فهم يفخرون بأفعالهم وأفعال آبائهم، وهذا منهي عنه؛ لأن الفخر بالأعمال يؤدِّي إلى الإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين، وهو منهي عنه، وهو من أفعال الجاهلية، فلا يجوز للمسلم أن يفتخر؛ لأنه مهما بذل ومهما عمل فإنه مقصر، ولا يؤدي كل ما أوجب الله عليه، فحق الله عظيم، وحق الوالدين عظيم، وحق الأقارب عظيم، وعليه حقوق عظيمة، فكيف يفخر الإنسان إذا فعل شيئاً من الإحسان، أو من المعروف، أو من أفعال الخير، مع أنه إنما أتى بشيء يسير؟ هذا في الافتخار فيما بينه وبين الخلق، أما إذا افتخر بأعماله التي بينه وبين الله، فهذا أشد؛ لأنه يؤدي إلى الإعجاب بالعمل، وإلى استكثار العمل، وهذا يبطل العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فالواجب على الإنسان أن يعتبر نفسه مقصراً دائماً وأبداً فيما بينه وبين الله، وهذا واضح، وفيما بينه وبين الخلق أيضاًُ؛ فإنه إذا اعتبر نفسه مقصراً، حمله ذلك على التواضع، وحمله ذلك إلى المزيد من الخير، أما إذا اعتبر نفسه مكمّلاً، وأنه قام بالواجب، فهذا يستدعي أنه يتوقف عن فعل الخير، ويرى أنه قد بلغ النهاية، فيتوقف عن فعل الخير. والحاصل: أن الافتخار لا ينبغي أن يصدر من مسلم، وإنما هو من أفعال الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم –لما ذكر أنه سيد ولد آدم- قال: "ولا فخر" 1 مع أن مقامه هذا لا يساويه فيه أحد، ومع هذا قال "ولا فخر"، نفى عن نفسه الفخر، وإنما أخبر بذلك من باب التحدث بنعمة الله عز وجل والشكر عليها لا من باب الفخر.   1 فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ... " أخرجه الترمذي 5/308 رقم 3160 5/587 رقم3624، وقال في الموضعين: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 1468. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 المسألة الثالثة والتسعون: التعصب الممقوت ... التعصب الممقوت المسألة الثالثة والتسعون [أنَّ تَعَصُّبَ الإِنْسَانِ لِطَائِفَتِهِ عَلَى الحَقِّ وَالبَاطِلِ، أَمْرٌ لاَبُدَّ مِنْهُ عَنْدَهُمْ، فَذَكَرَ اللهُ فِيهِ مَا ذَكَرَ] الشرح التعصب المذموم هو الاستمرار على الباطل، مع العلم ببطلانه؛ تكبراً وعناداً ونصرة للشخص أو للقبيلة على حق أو باطل، وهذا من أمور الجاهلية. ويقول شاعرهم: غَوَيْتُ وإنْ تَرْشَدْ غزية أَرْشد ... وما أنا مِنْ غزية إن غَوَتْ فأنزل الله في ذلك ما أنزل، من قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] أي: لا يحملكم بغض قوم على ألا تعدلوا في حقهم، ولو كانوا أعداءكم، فالعدل مطلوب مع الأصدقاء ومع الأعداء، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] ، فلا تحملك القرابة على أنك تحيف مع قريبك، بل إذا كان مخطئاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 تُغيِّر خطأه، ولا تتابعه بل تنصحه، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:135] . فالواجب على الإنسان العدل مع نفسه ومع صديقه ومع عدوه، لا تحمله عداوة أحد أن يظلمه، أو يجور عليه، هذا هو شأن المسلم. وأما أهل الجاهلية فإنهم يتعصبون لقومهم، ولو كان قومهم ظالمين، فأمرنا الله جل وعلا بمخالفتهم، وأن نقول الحق ولو على أنفسنا وعلى أقاربنا وعلى أصدقائنا وعلى أعدائنا، وقال صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، قالوا: يا رسول الله، ننصره إذا كان مظلوماً، فكيف ننصره إذا كان ظالماً؟! قال: "تمنعه عن الظلم، فذلك نصره" 1فنصره: أن تمنعه من الظلم، وليس نصره أن تساعده على الظلم، فهذا خذلان له.   1 أخرجه البخاري رقم 2443، 2444، 6952. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 المسألة الرابعة والتسعون: أخذ البريء بجريمة غيره ... أخذ البريء بجريمة غيره المسألة الرابعة والتسعون [أَنَّ مِنْ دِينِهِمْ: أَخْذَ الرَّجُلِ بِجَرِيمَةِ غَيْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] . الشرح من مسائل الجاهلية: أنهم يأخذون الرجل –أي يعاقبونه- بسبب جرم غيره، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] فالذي لم يحصل منه ظلم لا يؤاخذ بظلم غيره، حتى لو كان قريبه ابن عمه أو والده أو ولده، لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يؤخذ البريء بجريمة المعتدي، فإذا أُخذ غير المعتدي بعدوان المعتدي، فهذا ظلم وجور لا يقره الإسلام. والآن في بعض البوادي: إذا حصل اعتداء من شخص من قبيلة، وكان هذا الشخص لا وزن له، لا يقتصون منه، وإنما يقتلون أو ينتقمون من غيره من القبيلة ممن هو أشرف منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وأعز منه، ولا يأخذون المعتدي، وإنما يأخذون شيخ القبيلة أو من له قيمة أو مقام في القبيلة، وهذا من فعل الجاهلية. الواجب أن الجريمة تختص بصاحبها، ويقتص من صاحبها، هذا هو العدل ... {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . فالحاصل: أن هذه قاعدة عظيمة: أن الجريمة تختص بمن فعلها، ولا تتناول غيره. فإن قلت: يرد على هذا أن الله جعل دية الخطأ على العاقلة، ولم يجعلها على القاتل، أليس هذا فيه تحميل لغير المذنب بذنب غيره؟ نقول: لا، هذا من العدل والتعاون، لما كان القاتل خَطَأً غير متعمد، ناسب ذلك أن تعينه عصبته، كما أنهم يرثون ماله لو مات، فكذلك يحملون عنه الخطأ الذي وقع فيه من غير قصد. أما المتعمد للجريمة فهذا يختص جزاؤه به ولذلك لا تحمل العاقلة عمداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 المسألة الخامسة والتسعون: تغيير الرجل بنقص في غيره ... تعيير الرجل بنقص في غيره المسألة الخامسة والتسعون [تَعْبِير الرَّجُلِ بِمَا فِي غَيْرِهِ، فَقَالَ: "أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ"] الشرح هذا في قصة أبي ذر رضي الله عنه، لما قال في واحد من أفاضل الصحابة من السابقين الأولين إلى الإسلام، قال له: يا ابن السوداء؛ لأن أمه سوداء، قال له صلى اله عليه وسلم: "أَعَيَّرْتَهُ بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية" 1فتعيير الشخص بشيء ليس فيه، وإنما هو في غيره، أو بدناءة نسبه، هو من أمور الجاهلية، وليس كل من كانت فيه خصلة من خصال الجاهلية يكون كافراً.   1 أخرجه البخاري (رقم 30، 6050 ومسلم رقم 1661. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 المسألة السادسة والتسعون: افتخارهم بأعمالهم الطيبة ... افتخارهم بأعمالهم الطيبة المسألة السادسة والتسعون [الافْتِخَارُ بِوِلاَيَةِ البَيْتِ، فَذَمَّهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67] . الشرح من مسائل الجاهلية: أنهم يفتخرون بقيامهم على المشاعر، بسدانتها وتنظيمها، ورفادة الوافدين إليها، وسقاية الحجيج، فهم يفتخرون بهذا العمل {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} [المؤمنون: 67] أي: بولاية البيت وبخدمة البيت الشريف، وبخدمة الوافدين إليه، يفتخرون بهذا على غيرهم من العرب، فهذا من أمور الجاهلية؛ لأن خدمة بيوت الله عبادة، فلا يجوز الإنسان أن يفتخر بالعبادة؛ لأنه يتقرب بها إلى الله، لا يريد الثناء من الناس والمدح من الناس، بل يحمد الله أن جعله ممن يقومون بهذا العمل، دون أن يتكبر به أو أن يفتخر به. فهم بدلاً من أن يؤمنوا بالرسول وبالكتاب ويتبعوه، يفتخرون بعملهم في البيت، ويظنون أن هذا يكفيهم عن اتباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الكتاب واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا وجه الذم لهم؛ أنهم اعتاضوا عن اتباع الكتاب بخدمة البيت، ظناً منهم أنها تكفيهم، فهذا من أمور الجاهلية. والله جل وعلا يقول: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19] نعم، سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام عمل صالح، ولكن لا يفتخر الإنسان بهذا، ويظن أنه يكفيه، بل عليه أن يسهم بالأعمال الصالحة الأخرى، التي هي أجلّ من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وهي الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله، والهجرة، وأعمال جليلة. فالإنسان لا يقتصر على عمل ويظن أنه يكفيه، لا سيما إذا ظن أنه يكفيه عن اتباع القرآن والسنة. والآن هناك من يظنون أن سكناهم في مكة والمدينة تكفيهم عن العمل حتى قال قائلهم: النائم فيه –يعني الحرم – خير من القائم في غيره وهذا غرور من الشيطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 المسألة السابعة والتسعون: افتخارهم بانتسابهم إلى الطيبين مع مخالفتهم لهم ... افتخارهم بانتسابهم إلى الطيّبين مع مخالفتهم لهم المسألة السابعة والتسعون [الافْتِخَارُ بِكَوْنِهِمْ ذُرِّيَةَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَتَى اللهُ بِقَوْلِهِ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 134] . الشرح من عمل بني إسرائيل: أنهم يفتخرون بكونهم ذرية الأنبياء، دون أن يتبعوهم، ولا سيما خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وكان الواجب عليهم أن يتبعوه، أما أن يقولوا: نحن ذرية الأنبياء، ويكتفوا بهذا، دون أن يتبعوهم، فهذا رد الله عليه بقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 134] فالإنسان يُعتبر بعمله هو، لا بعمل غيره، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أفضل الخلق، ولكن هذا لا يغني عن ذريتهم إذا لم يتبعوهم، فأعمال الأنبياء لهم، وأنتم لكم أعمالكم، وكذلك كل من يفتخر بعمل آبائه وأجداده، وأنهم صالحون وأنهم علماء، ويظن أن هذا يكفيه عن أن يعمل هو، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 كالذين ينتسبون إلى أهل البيت، ويظنون أن انتسابهم إلى أهل البيت يكفيهم دون أن يقوموا هم بأعمال صالحة، هذا من هذا القبيل. وكذلك الذين يتوسلون بعمل النبي، أو بجاه النبي، أو بعمل الأولياء أو الصالحين، ما علاقتهم بعمل غيرهم؟ عملهم لهم، وعملك لك، ولا ينفعك عملهم، يوم القيامة لا أحد ينفع أحداً {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] ، فهذا فيه رد على الذين يتوسلون بالأولياء والصالحين أو بجاههم، أو يكتفون بانتسابهم إلى الصالحين أو إلى الأنبياء، أو قرابتهم منهم، دون أن يعملوا لأنفسهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنكم كمن الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً" 1، فالرسول يقول لأقرب الناس إليه: "لا أغني عنكم من الله شيئاً"، فكونكم تنتسبون إلى الرسول، أو قرابة الرسول، أو قرابة الأولياء والصالحين، أو تتوسلون بجاههم،   1 أخرجه البخاري رقم 2753، 3527، 4771) ومسلم رقم 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 هذا لا ينفعكم شيئاً. ويوم القيامة يقول الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19] ، وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34- 37] كل مشغول بنفسه؛ حتى إن عيسى عليه السلام يقول: رب، لا أسألك مريم التي ولدتني، نفسي نفسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 المسألة الثامنة والتسعون: افتخارهم بصنائعهم على من دونهم في ذلك ... افتخارهم بصنائعهم على من دونهم في ذلك المسألة الثامنة والتسعون [الافْتِخَارُ بِالصَّنَائِعِ، كَفِعْلِ أَهْلِ الرّحْلَتَيْنِ عَلَى أَهْلِ الحَرْثِ] الشرح الافتخار بالصنائع، التاجر يفتخر بتجارته على الحرفي، وعل النجار وعلى الحداد، والموظف يفتخر بوظيفته على من دونه من الموظفين. المسلم لا يحتقر من هو دونه، بل لا يحتقر الناس عموماً، فكيف يحتقر المسلمين لأجل حرفهم، وأنها دون حرفته؟ هذا من أمور الجاهلية، كما ذكر الله عن قريش في الرحلتين، فالله سبحانه وتعالى أنعم على قريش بالرحلتين التجاريتين، رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام؛ للتجارة، فهم يفتخرون على الناس بأنهم أصحاب الرحلتين، ويفتخرون على من دونهم من المزارعين وأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الحرث. وهذا يتناول كل من افتخر بصنعته أو وظيفته على من دونه، فالإنسان لا يستكبر. ومن ذلك: تنقصهم لمن حِرَفُهُمْ صنائعهم ليس مثل حرف أشرافهم، كالحدادين والنجارين، وهذه خصلة لا تزال موجودة في بعض الناس. ومن هذا الباب: الذين يحتقرون أئمة المساجد والمؤذنين، مع أن وظيفة الإمام هي أفضل الوظائف، وهي عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك وظيفة المؤذن، فأشرف وظيفة هي وظيفة الإمام والمؤذن، فهما أشرف من عمل الوزير، وأشرف من جميع الأعمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 المسألة التاسعة والتسعون: نظرتهم إلى الدنيا نظرة إعجاب ... نظرتهم إلى الدنيا نظرة إعجاب المسألة التاسعة والتسعون [عَظَمَةُ الدُّنْيَا فِي قُلُوبِهِمْ، كَقَوْلِهِمْ: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] . الشرح من مسائل الجاهلية: عظمة الدنيا في نفوسهم، فالذي عنده دنيا هو العزيز عندهم، والذي ليس عنده دنيا ذليل محتقر عندهم، حتى في الرسالة – التي هي من اختيار الله جل وعلا –يرون أنها يجب أن تكون في الأغنياء، ولا تكون في الفقراء، ويقولون: الله ما وجد إلا يتيم أبي طالب ليرسله؟ (يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم) {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] القريتان: مكة والطائف، وهذا الرجل هو الوليد بن المغيرة في مكة، أو حبيب بن عمرو الثقفي -، وقيل: عروة بن مسعود –في الطائف، يقولون: لو كانت الرسالة في أحد هذين الرجلين؛ لكان هذا أليق بالرسالة، أما أن تذهب ليتيم فقير، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا غير لائق عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] أي: يتدخلون في أعمال الله جل وعلا، ويريدون أن يقسموا رحمة الله، ولا يثقون بقسمة الله عز وجل، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 المسألة المائة: الاستدراك والاقتراح على الله ... الاستدراك والاقتراح على الله المسألة المائة [التَّحَكُّمُ عَلَى اللهِ، كَمَا فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ] الشرح التحكم على الله يعني: الاقتراح على الله، كما في الآية: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] ويقترحون على الله، ويقولون: كيف يفرق الله القرآن وينزله منجماً، ولم ينزله جملة واحدة؟ يتدخلون فيما لا يعنيهم وفيما لا علم لهم به. ثم بيّن سبحانه الحكمة في إنزال القرآن مفرقاً، وقال: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33] ، وقال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وأيضاً لأجل التسهيل لوقت العمل به، ولو نزل القرآن جملة واحدة ما استطاع الناس العمل به وكذلك الله نزله منجماً على حسب الوقائع؛ لأجل أن يبين حكم كل نازلة أو كل حادثة، هذه هي الحكمة في تنزيل القرآن مفرقاً. ولا يخلو الزمان ممن هم على هذه الشاكلة، يتدخلون في النصوص، ويقترحون على الله ورسوله، أنه لو كان النص كذا، أو كان الحديث كذا وكذا، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] لا تقترحوا على الله وعلى الرسول، عليكم بالإيمان بالله، والعمل بما أنزل الله، دون الاقتراحات والاعتراضات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 المسألة الحادية بعد المائة: احتقارهم للفقراء ... احتقارهم للفقراء المسألة الحادية بعد المائة [اِزْدِرَاءُ الفُقَرَاءِ، فَأَتَاهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] . الشرح هذه سبق لها نظير، وهو أنهم يتركون اتباع الأنبياء؛ لأن الفقراء هم الذين اتبعوهم، {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] أي: الفقراء والذين لا شأن لهم في المجتمع، وهذا من دين الجاهلية، حتى إنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمنع هؤلاء وأن يجلسوا معهم؛ تكبراً، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52] فلو طردهم عليه الصلاة والسلام لكان من الظالمين. ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:53،54] فمن اتبع الحق- ولو كان فقيراً –فهو الكريم عند الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يستحق أن يقابل بالمقابلة الحسنة ويفسح له في المجلس، وأما من أعرض عن الحق واستكبر عنه فهذا لا يستحق التكريم؛ لأنه هو الذي أهان نفسه، فيستحق الإبعاد والإقصاء والهجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 المسألة الثانية بعد المائة: اتهامهم لأهل الإيمان في نياتهم ومقاصدهم ... اتهامهم لأهل الإيمان في نهايتهم ومقاصدهم المسألة الثانية بعد المائة [رَمْيُهُمْ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ بِعَدَمِ الإِخْلاَصِ، وَطَلَبِ الدُّنْيَا، فَأَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] ، وَأَمْثَالُهَا] . الشرح من أعمال أهل الجاهلية: أنهم يرمون الفقراء بأنهم ما آمنوا إلا من أجل ألان يحصلوا على شيء من مطامع الدنيا، كما قال آل فرعون لموسى عليه السلام هو وهارون: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24] يرمون الأنبياء بأنهم يريدون الشرف والرئاسة، ويرمون فقراء المؤمنين بأنهم يريدون الغنى والثروة باتباعهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله جل وعلا قال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 [الأنعام: 52] فهذا رد عليهم بقولهم في المؤمنين: إنهم يريدون الدنيا، والله عز وجل يقول: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فأثبت لهم الإخلاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 كفرهم بأصول الإيمان المسائل: الثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة بعد المائة [الكُفْرُ بالمَلاَئِكَةِ، الكُفْرُ بالرُّسُلِ، الكُفْرُ بالكُتُبِ، الإِعْرَاضُ عَمَّا جَاءَ عَنِ اللهِ، الكُفْرُ باليَوْمِ الآخِرِ، التَّكْذِيبُ بِلِقَاءِ اللهِ] . الشرح كل هذه المسائل من أمور الجاهلية، فهم لا يؤمنون بالكتب، ولا يؤمنون بالرسل، ولا يؤمنون بالملائكة، ولا يؤمنون باليوم الآخر، ولا يؤمنون بلقاء الله؛ لأن هذه من أمور الغيب، وهم لا يؤمنون بالغيب، وإنما يؤمن بهذه الأمور من يؤمن بالغيب، فلذلك كفروا بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر؛ ولهذا أثنى الله على الذين يؤمنون بالغيب في أول القرآن فقال: { ... هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ... } [البقرة: 2، 3] ويدخل في ذلك الإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 بالله، والإيمان بالملائكة، والكتب، والوحي، والإيمان باليوم الآخر، كل ذلك يدخل في الإيمان بالغيب، والجاهلية لا يؤمنون بالغيب، فلذلك يكفرون بهذه الأمور، ويكفرون بلقاء الله يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 المسالة التاسعة بعد المائة: تكذيبهم لبعض ماأخبرت به الرسل ... ت كذيبهم لبعض ما أخبرت به الرسل المسألة التاسعة بعد المائة [التَّكْذِيبُ بِبَعْضِ مَا أَخْبَرتْ به الرُّسُلُ عن اليوم الآخر، كما في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف: 105] ، ومنها: التكذيب بقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، وقوله: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254] ، وقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] . الشرح منهم من يكفر باليوم الآخر جملة {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29] ومنهم من يؤمن باليوم الآخر، ولكن يجحد بعض الأمور التي تكون فيه، كأن يجحد الحساب أو وزن الأعمال، أو الجنة أو النار، فمنهم من يكفر به جملة، ومنهم من يكفر ببعض ما يكون فيه، ... فالذي يكفر ببعضه كالذي يكفر به كله، لا فرق؛ لأنه يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 103-105] ... ومنهم من يكذب بالحساب، كما في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، فالدين هنا هو الحساب، وهم يكذبون به، وبالجزاء على الأعمال، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ... } [البقرة: 254] وهذا اليوم هو يوم الدين ... {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] ، إذا لم يكن معك عمل صالح يوم القيامة فإنه لا حيلة لك في ذلك اليوم في النجاة، فلا تجد أعمالاً تباع فتشتريها كما يشتري الإنسان الحوائج في الدنيا ... {وَلا خُلَّةٌ} ... فإذا لم تجد أحداً يبيع لك في الدنيا، فيمكن أن يكون لك صديق تذهب إليه، فيعطيك مما عنده، ولكن لا توجد خلة يوم القيامة، ولن ينفعك أحد ولو كان صديقك، ولكن ربما يشفع لك أحد، ويتوسط لك كما في الدنيا، وهذا أيضاً غير موجود يوم القيامة {وَلا شَفَاعَةٌ} . إذا تقطعت عنك كل الوسائل يوم القيامة، وليس لك حيلة، إلا إذا كان معك عمل صالح قدمته لنفسك، وأعظم ذلك: التوحيد والسلامة من الشرك؛ ولذلك قال تعالى: {وَلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، {شَهِدَ بِالْحَقِّ} أي قال: لا إله إلا الله، في الدنيا، ومات عليها، ولا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، بل لا بد أن يعلم معناها، ولذلك قال: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فلا يكفي مجرد اللفظ من غير فهم للمعنى، ولا يكفي اللفظ ومعرفة المعنى بدون العمل بمقتضاها؛ لأن العلم وسيلة للعمل، فإذا لم يكن مع العلم عمل فلن تنفعك لا إله إلا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 المسألة العاشرة بعد المائة: اعتداؤهم على دعاة الحق ... اعتداؤهم على دعاة الحق المسألة العاشرة بعد المائة [قَتْلُ الذين يأمرون بالقسط من الناس] الشرح من جملة أعمال اليهود القبيحة: قتل الأنبياء، وقتل الدعاة إلى الله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وكذلك من قام في وجه الحق وصد عن سبيل الله، وقتل الدعاة إلى الله، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن الآية الكريمة تتناوله؛ لأنه سلك مسلك أهل الجاهلية، فيكون حكمه حكمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 المسألة الحادية عشرة بعد المائة: الإيمان الباطل ... الإيمان بالباطل المسألة الحادية عشرة بعد المائة [الإيمان بالجبت والطاغوت] الشرح قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] ، والجبت، قيل: هو السحر، وقيل: الشيطان، والطاغوت: من تجاوز حدود الله. وسبب نزول الآية: أن اليهود الذين كانوا بالمدينة لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وعقد معهم المعاهدة على ألا يقاتلوا المسلمين، وأن يدافعوا عن المدينة مَنْ قَصَدها، وأعطوا العهد على ذلك، فلما ضاقوا بالنبي وبأصحابه ذرعاً، ورأوا أن الإسلام ينتصر وينمو، ذهب سادتهم إلى قريش بمكة يستنجدون بهم على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريدون منهم أن يذهبوا معهم القتال النبي صلى الله عليه وسلم، فألهم الله قريشاً أن يسألوا هؤلاء وقالوا لهم: أنتم أهل كتاب، فأينا على الحق، محمد صلى الله عليه وسلم أم نحن؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 قالوا: ماذا أنتم عليه؟! قالوا: نحن نكرم الضيف، ونصل الأرحام، ونسقي الحجيج، وكذا وكذا، وأما محمد فإنه سبَّ آلهتنا، وعاب ديننا، وخالف دين أجداده، وقطع أرحامنا و ... و ... و ... ، فقالوا لهم: أنتم على الحق، ومحمد على باطل. وهم يعلمون أن محمداً على الحق، وهو رسول الله، وأن هؤلاء عبدة أصنام وأوثان، فقال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء: 51] ولاحظوا كيف أن الله قال: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} ، مع أن الأمر موافقة في الظاهر فقط، وسماه إيماناً، فدل على أن الموافقة للكفار على ما هم عليه من غير إكراه إيمان بما هم عليه، ولو لم يعتقد بقلبه. وهناك أناس الآن يقولون: إن الإنسان لا يكفر ولو قال الكفر حتى يعتقد بقلبه، فلو قال كلام الكفر من غير إكراه، وفعل أفعال الكفر، وسب الله ورسوله، وفعل ما فعل، فإنه لا يُكفَّر عند هؤلاء حتى يُعلم ما في قلبه. وهذا مذهب غلاة المرجئة، نسأل الله العافية والسلامة. فالله وصف هؤلاء بأنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] مع أن ما حصل منهم هو موافقة في الظاهر، وهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قلوبهم يعتقدون أنهم خاطئون، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم على الحق، لكن حملهم الكبر والحسد وعداوة الرسول أن يوافقوهم في الظاهر، وكفّرهم الله بذلك. وهذه دقيقة عظيمة من مسائل التكفير، وفيها رد على من يقول: لا يكفر الإنسان مهما قال: ومهما فعل، ومهما أتى من الكفر، ولو سب الله ورسوله، حتى يعلم أنه في قلبه يوافق على هذا الشيء! نسأل الله العافية من هذا الضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 المسألة الثانية عشرة بعد المائة: تفضيلهم الكفر على الإيمان ... تفضيلهم الكفر على الإيمان المسألة الثانية عشرة بعد المائة [تفضل دين المشركين على المسلمين] الشرح كما حصل من اليهود مما جاء ذكره في المسألة السابقة. وهذا يتناول كل من فضل دين الكفر على دين المسلمين، أو ساوى بينهما، ومن ذلك الذين يحاولون التقريب بين الأديان الثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلام، ويقولون: كلها أديان سماوية، يجب التآخي بين أصحابها والتعاون فيما بينهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 المسألة الثالثة عشرة بعدالمائة: خلط الحق بالباطل ليقبل الباطل ... خلط الحق بالباطل ليُقبل الباطل المسألة الثالثة عشرة بعد المائة [لَبْسُ الحَقَّ بِالبَاطِلِ] الشرح من عادة الكفار وأهل الجاهلية من اليهود والنصارى وغيرهم: لَبْسُ الحق بالباطل، واللَّبْسُ هو: الخلط، فهم يخلطون الحق بالباطل؛ من أجل أن يروج الباطل؛ لأنه لو كان الباطل وحده ما قبله أحد، لكن إذا لبس بالحق فإن الأغرار من المؤمنين وقاصري النظر يقبلونه، ويقولون: هذا فيه حق، فيقبلونه كله، أما لو أنهم قبلوا الحق منه فقط وردوا الباطل، كان حسناً، ولكن إذا قبلوه كله فهذا هو الخطأ، فالواجب على أهل النظر وأهل العقول السليمة أنهم لا يقبلون الأشياء على عواهنها، بل يُمَحِّصُونها ويختبرونها، فيقبلون ما كان فيها من حق، ويردون ما كان فيها من باطل. فالكفار قد يذكرون الحق لا رغبة في الحق، ولا محبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 له، وإنما يذكرونه من أجل ترويج الباطل به، والواجب التنبُّه لهذا الأمر، وهو تمييز الأشياء، وعدم التسرع في قبولها لما يظهر فيها من بريق الحق، حتى تُختبر وتُمحّص، ويُؤخذ ما فيها من حق، ويُردّ ما فيها من باطل، وهذا إنما يعلمه أهل العلم وأهل البصيرة، وأما العوام والجهال –وقاصرو النظر- فينخدعون في مثل هذه الأمور، وتنطلي عليهم، لكم الواجب عليهم أن يسألوا أهل العلم، ويستشيروا أهل النظر قبل قبولها؛ حتى يَسْلَمُوا من التمويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 كتمان الحق مع العلم به المسألة الرابعة عشرة بعد المائة [كِتْمَانُ الحَقِّ مَعَ العِلْمِ بِهِ] . الشرح من مسائل الجاهلية من اليهود والنصارى والوثنيين، وغيرهم من طوائف الكفر: كتمان الحق مع العلم به، وهذا يظهر في أهل الكتاب من اليهود والنصارى أكثر؛ فإنهم يعلمون الحق، ولكنهم يكتمونه، ولا يبينونه للناس؛ من أجل مصالحهم الدنيوية، أو من أجل إرضاء الناس، وأعظم الكتمان أنهم علموا أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل، وعلموا صحة رسالته وما جاء به، ومع هذا كتموا ذلك، وأنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، كما ذكر الله تعالى ذلك عنهم في مواضع من القرآن، ومن ذلك: قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 146، 147] ، وهذه الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 في سياق تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستكون قبلته الكعبة المشرفة، قبلة إبراهيم عليه السلام، يعلمون هذا في كتبهم، ومع هذا أنكروا تحويل القبلة، وكتموا ما عندهم من العلم في ذلك. وكذلك كل من كتم حقاً وهو يعلمه من غير اليهود والنصارى، حتى من المسلمين، من كتم الحق ولم يبينه للناس، فإنه على طريقة اليهود والنصارى، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 187] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَإِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160] . شرط في قبول توبتهم: البيان لما كتموه، فلا تكفي التوبة المجملة، ولكن لا بد من البيان، فيجب على من علم الحق أن يبيّنه للناس، ولا يشتري به ثمناً قليلاً، فيكتمه من أجل أن يحصل على مصلحة من مصالح الدنيا، أو من أجل أن يرضي الناس، فالله أحق أن يخشاه –عز وجل –وأن يرضيه، فلا يجوز كتمان الحق لمن قدر على بيانه وإظهاره، أما من لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 يقدر، أو خاف بالبيان فتنة أكبر، فإنه معذور، لكن من لم يكن عنده مانع من البيان، وإنما كتم الحق من أجل رغبته هو ومصلحته هو، فهذا يلعنه الله ويلعنه اللاعنون. فهذه صفة اليهود، وهي منطبقة على كل من كتم الحق، من أجل اتباع الهوى، ولم يبينه للناس، وإذا سئل عن حكم مسألة أجاب بغير الحق وهو يعرف الجواب الصحيح، فهذا من كتمان الحق، والله جل وعلا أمر بقول الحق ولو على النفس: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] ، فيجب بيان الحق في الشهادات وفي غيرها. وأشد من كتمان الشهادة: كتمان العلم، الذي هو حياة الناس وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، فالواجب بيان الحق، وعدم المداهنة، ومن ذلك: إذا رأى الناس على باطل أو خرافات أو شرك، فإنه لا يسكت، بل يجب عليه أن يبين، ولا يترك الناس يقعون في عبادة القبور، وعبادة الأضرحة، ومزاولة البدع المضلة، ويسكت ويقول: ليس لي شأن بالناس، أو يرى الناس يتعاملون بالمعاملات المحرّمة ويسكت، فهذا كتمان للعلم وخيانة للنصيحة، فالله لم يعطك هذا العلم من أجل أن تسكت عليه، وإنما حمّلك إياه من أجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 أن تبينه للناس، وأن تدعو إلى الله على بصيرة، وأن تحاول إخراج الناس من الظلمات إلى النور. فلا يسوغ للعلماء أن يسكتوا، وهم يقدرون على البيان، لا سيما إذا رأوا الناس في ضلال وشرك وبدع وخرافات، فلا يسعهم السكوت، فإن سكتوا فإن هذا من كتمان العلم الذي عاب الله به اليهود والنصارى، فكيف إذا قال بخلاف الحق وهو يعلمه، وأفتى بخلافه معتمداً، من أجل إرضاء الناس، أو من أجل تمشية الأمور، أو من أجل أن يساير الناس على ما هم عليه؟!، فالحق أحق أن يتبع، فأنت ترضي الله عز وجل، ولا ترضي الناس وهم على باطل، وفي الحديث: "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" 1.   1 أخرجه الترمذي 4/609-610 رقم 2419 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 6097. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 املسألة الخامسة عشرة بعد المائة: القول على اله بغير علم ... القول على الله بغير علم المسألة الخامسة عشرة بعد المائة [قاعدة الضلال، وهي: القول على الله بغير علم] الشرح قاعدة الضلال، أي: أصل ضلال العالم ومنشؤه، القول على الله بغير علم. والقول على الله بلا علم أعظم من الشرك؛ ولذلك قال الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فجعل القول على الله فوق الشرك بالله عز وجل، فلا يجوز لأحد أن يقول على الله بغير علم، كأن يقول: إن الله حرم كذا، أو: إن الله أباح كذا، أو: إن الله شرع كذا، وهو غير مشروع، هذا قول على الله بغير علم، والعياذ بالله. أو يفتي وهو لا يعلم، بل يتخرّص، وهذا خطير جداً، وهذا كذب على الله عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 [الزمر: 32] ، فلا يجوز القول على الله بلا علم. والرسول صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء لم ينزل عليه فيه وحي يؤجل الإجابة حتى ينزل عليه الوحي من الله عز وجل، فكيف بغيره؟ والعالم يخفى عليه أشياء كثيرة، فإذا لم يكن عندك وضوح في المسألة ودليل من الكتاب والسنة، فقل: لا أدري، ولا ينقص هذا من علمك وقدرك، بل يزيد هذا من قدرك عند الله سبحانه، فقد سئل الأمام مالك رحمه الله عن أربعين مسألة، فأجاب عن بعضها، وقال عن أكثرها: لا أدري، قال له السائل: أنا جئتك من بلاد بعيدة، وتحملت سفراً، وتقول: لا أدري، فقال له الإمام مالك: اركب راحلتك، واذهب إلى البلد الذي جئت منه، وقل للناس: سألت مالكاً، وقال: لا أدري, وهكذا أهل العلم وأهل الخشية من الله عز وجل. وحتى في التأليف: فالإنسان لا يؤلّف وهو ليس عنده أهلية التأليف، فليتنا سَلِمنا من كثير من المؤلفات والرسائل، ولم تبق لنا إلا الكتب الصحيحة الموافقة للكتاب والسنة، والمشكل أن هذه الكتب والرسائل ستبقى وتضلل أجيالاً بعدك، وتكون أنت المسؤول عنها، الإنسان يتقي الله في فتواه، وفي كتابه، وفي كلامه، وفي حديثه، وفي محاضرته، فلا يقول إلا ما يغلب على ظنه أنه صواب، وأنه موافق الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 السمألة السادسة عشرة بعد المائة: تناقض أقوالهم وتضاربها ... تناقض أقوالهم وتضاربها المسألة السادسة عشرة بعد المائة [التناقض الواضح، لما كذَّبوا بالحق، كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] . الشرح التناقض هو: تضارب الأقوال واختلافها، فمن ترك الحق فإنه يُبتلى بالتناقض وتضارب أقواله؛ لأن الضلال يتشعب، ولا حد لشعبه. وأما الحق: فإنه شيء واحد لا يتشعب ولا يختلف، والله جل وعلا يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: 32] ، فمن ترك الحق وقع في الضلال، والضلال متاهة والعياذ بالله، فتجد أصحابه مختلفين فيما بينهم؛ بل تجد الواحد منهم مختلفة آراؤه؛ لأنه ليس عنده هدىً يسير عليه، وإنما يتخبط، تارة يقول كذا، وتارة يقول كذا. قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 مَرِيجٍ} [ق: 5] يعني: مختلف، فأهل الباطل يختلفون فيما بينهم، ويتعادون ويضلل بعضهم بعضاً، أو يكفر بعضهم بعضاً، أما أهل الحق المتمسكون بالحق فإنهم لا يختلفون، وإن اختلفوا عن اجتهاد فإنهم لا يتعادون ولا يتقاطعون، وإذا تبين لهم الصواب رجعوا إليه، وتركوا أقوالهم، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] ، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، وتجدون الخلاف بين الأئمة الأربعة وبين الفقهاء، ولا أحد منهم ضلّل الآخر أو كفّر الآخر، كل يعمل بحسب ما يظهر له من الدليل، وإذا ظهر أنه مخالف رجع إلى الحق. أما أهل الضلال فليس لهم مرجع يرجعون إليه، وإنما مرجع كل منهم إلى هواه، والأهواء تختلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 المسألة السابعة عشرة بعد المائة: الإيمان ببعض ما أنزل دون بعض ... الإيمان ببعض ما أنزل دون بعض المسألة السابعة عشرة بعد المائة [الإيمان ببعض المنزَّل دون بعض] الشرح الإيمان ببعض المنزل من عند الله عز وجل دون بعض سنة اليهود والنصارى، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 83، 84، 85] تؤمنون ببعض الكتاب: وهو فداء الأسير، وتكفرون ببعضه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وهو القتل والإخراج من الديار فتستحلونه {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 85، 86] هذا جزاء من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر؛ لأن الواجب الإيمان بالكتاب كله، ولا يأخذ الإنسان ما يوافق هواه ويترك ما يخالف هواه ورغبته، هذه صفة اليهود ومن حذا حذوهم من كل من يأخذ من الكتاب ما يوافق هواه، ويترك ما يخالف هواه. وفي الآية الأخرى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] أي: إذا جاءهم الرسول بما يوافق أهواءهم قبلوه، وإذا جاءهم بما يخالف أهواءهم رفضوه، ثم يكون موقفهم مع هذا الرسول الذي جاءهم بما لا يهوونه: إما أن يكذبوه، وإما أن يقتلوه، والعياذ بالله. وفي هذا عظة للمسلمين أن لا يفعلوا مثل فعلهم، فيصيبهم مثل ما أصابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 المسألة الثامنة عشرة بعد المائة: الإيمان ببعض الرسل دون بعض ... الإيمان ببعض الرسل دون بعض المسألة الثامنة عشرة بعد المائة [التفريق بين الرسل] الشرح التفريق بين الرسل بالإيمان ببعضهم والكفر بالبعض الآخر من صفة أهل الكتاب خاصة، أما الوثنيون والمشركون فلا يؤمنون بالرسل أصلاً، بل يكفرون بالرسل جميعاً، أما اليهود فإنهم كفروا بعيسى عليه السلام، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بنبي واحد فهو كافر بالجميع؛ لأن الرسل طريقتهم واحدة ودينهم واحد، وهم أخوة، فمن كفر بواحد منهم، فقد كفر بالجميع، فالحجة التي مع الرسول الذي كفر به هي الحجة التي مع الرسل الذين آمن بهم؛ فلا يفرق بينهم، ولهذا يقول جل وعلا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] ، {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] . لا نفرق بين أحد من رسله، فالإيمان بالرسل هو أحد أركان الإيمان الستة، التي جاءت في حديث جبريل، لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" 1، ولا يكفي الإيمان ببعضهم؛ بل لا بد من الإيمان بهم جميعاً، وإلا فمن كفر بواحد منهم فهو كافر بالجميع؛ ولهذا يقول جل وعلا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] ، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123] ، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 141] مع أنهم ما كذبوا إلا بنبيهم، فلما كذبوا نبيهم كانوا مكذبين لجميع الرسل.   1 أخرجه البخاري رقم 50 ومسلم رقم 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 المسألة التاسعة عشرة بعد المائة: المحاجة فيما ليس لهم به علم ... المحاجّة فيما ليس لهم به علم المسألة التاسعة عشرة بعد المائة [مخاصمتهم فيما ليس لهم به علم] الشرح أي: أن أهل الجاهلية يجادلون ويخاصمون فيما ليس لهم به علم. والواجب أن الإنسان لا يجادل إلا بعلم، أما ما لا يعلمه فإنه يسكت عنه، قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] يعني: وحقيقته التي يؤول إليها. وهذا يتضمن ناحيتين: الناحية الأولى: أن الإنسان لا يدخل فيما لا يعلم، ولا ينكر ما لا يعلم، بل يقول: الله أعلم؛ ولهذا يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] ، فالإنسان لا يدعي أنه أحاط بالعلم، بل يتقاصر، ويعرف قدر نفسه، ولو كان عنده علم كثير، فما خفي عليه أكثر، والله جل وعلا يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] حتى ينتهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 العلم إلى الله سبحانه وتعالى. الناحية الثانية: أنه لا ينكر الشيء الذي يعلمه غيره، فإذا كان عند غيرك علم خفي عليك، فلا تنكر ما عند غيرك، فما أحد من البشر أُعطي العلم كله، ولهذا يقول العلماء: هذه العبارة التي يكررونها دائماً: "من حفظ حجة على من لم يحفظ". والدهريون والمشركون ومعطلة الصفات وسائر أهل الضلال، أنكروا ما أنكروه؛ لجهلهم به، وكونه لا تدركه عقولهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالغيب، وبنوا مذاهبهم على القياس الفاسد، فضلوا عن سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 المسألة العشرون بعد المائة: تناقضهم في اتباعهم لغيرهم ... تناقضهم في اتباعهم لغيرهم المسألة العشرون بعد المائة [دعواهم اتباع السلف مع التصريح بمخالفتهم] الشرح عامة اليهود والنصارى، وأهل الضلال من المنتسبين إلى الإسلام، كلهم يدّعون أنهم يتّبعون مَن سبقهم من المؤمنين قبلهم، فاليهود يدّعون أنهم من أتباع موسى عليه السلام ومن آمن به، والنصارى يدّعون أنهم يتبعون المسيح عليه السلام ومن آمن به، وأهل الضلال من هذه الأمة يدّعون أنهم يتبعون سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم، وأن ما هم عليه هو مذهب السلف. وما كل من ادّعى أنه على مذهب السلف أو على منهج السلف تكون دعواه صحيحة؛ حتى يعرض ما عنده على منهج السلف الصالح، فإن طابق فهو على منهج السلف، وإن خالف فإنه ليس على منهج السلف، وإن ادعى هذا. كل الطوائف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الضالة الآن تدّعي أنها على مذهب السلف، ولكنهم ليسوا على منهج السلف؛ لأنهم لا ينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم – في ضابط مذهب السلف -: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" 1 هذا الذي يكون على منهج السلف. أما من خالف هذا فإنه ليس على منهج السلف، وإن ادّعى ذلك، والعبرة ليست بالدعوى، وإنما العبرة بالحقيقة، فالذين يدّعون السلفية كثيرون، لكن لا بد من عرض ما هم عليه على منهج السلف الصالح، فإن طابق فهذا حق، وإن خالف فإنهم ليسوا على منهج السلف الصالح. وكذلك الذين ينتسبون إلى المذاهب الأربعة وهم يخالفون الأئمة في الاعتقاد، فانتسابهم غير صحيح؛ لأنهم خالفوهم في أهم الأشياء وهو العقيدة.   1 تقدم ص 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الصَّدّ عن سبيل الله المسألة الحادية والعشرون بعد المائة [صدهم عن سبيل الله من آمن به] الشرح الصد عن سبيل الله هو: صرف الناس عن الدخول في دين الله، وهذا عمل الكفار قديماً وحديثاً، من يهود ونصارى ومشركين، فمن مناهج الجاهلية في كل زمان ومكان: الصد عن سبيل الله، والفرق الضالة الآن على هذا النهج، تحاول تضليل المسلمين، وجلبهم إلى نحلهم الباطلة، وكذلك اليهود والنصارى، لا يزالون يحاولون في المسلمين صدهم عن الإسلام، ويقولون: تعالوا نتحاور فيما بيننا، ويقولون بحرية الأديان. هذا من الصد عن سبيل الله عز وجل، هل نحن على شك من صحة ديننا وبطلان دينكم حتى نتحاور معكم؟! لسنا على شك من ديننا، وبطلان ما أنتم عليه. فهؤلاء يريدون من هذه الدعايات الحوار بين الأديان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 والتعاون بين الأديان، يريدون به الصد عن سبيل الله، هذا مرادهم، وهذا مقصدهم، ولا يزال الكفار إلى الآن يحاولون إضلال المسلمين، ويقتلونهم، ويرشدونهم، ويعذبونهم، من أجل دينهم وصدهم عنه. وهم الذين يقولون: نتحاور فيما بيننا، ويقولون بحرية الأديان والمعتقدات، لكنهم يقصدون أديانهم ومعتقداتهم، قال الله تعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] ، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] ، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] ، لكنهم يريدون لبس الحق بالباطل، ومساواة الدين الباطل بالدين الحق، ثم لا يثبتون على هذا، بل يريدون إزالة الإسلام، فهم يقتلون المسلمين ويشردونهم من أجل أن يصرفوهم عن دينهم، ويريدون أن لا يبقى على وجه الأرض مسلم، هذه أمنيتهم، وهذا قصدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 المسألة الثانية والعشرون بعد المائة: موالاة الكفار ... موالاة الكفار المسألة الثانية والعشرون بعد المائة [مودتهم الكفر والكافرين] الشرح من مسائل الجاهلية: أنهم يردون الكفر والكافرين، كما ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك عن بني إسرائيل، أنهم اتخذوا الكفار أولياء، قال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 80] . وقد حرّم الله موالاة الكفار، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] نهى الله المسلمين أن يفعلوا مثل ما فعل اليهود من موالاة الكفار ومحبة الكفار {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] ، الأمر واضح في هذا، وأنه تجب معاداة الكفار والبراءة منهم ومن دينهم، والولاء والبراء من أعظم الواجبات في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 المسائل الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والعشرون بعد المائة:اعتمادهم على الخرافات ... اعتمادهم على الخرافات المسألة الثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة والعشرون بعد المائة [العِيَافَة، والطَّرْقُ، والطِّيَرَة، والكَهَانَة، والتَّحَاكُمُ إلى الطَّاغُوتِ، وكَرَاهَة التَّزْوِيجِ بين العيدين] الشرح العيافة: زجر الطير، وكذلك الطيرة؛ لأنهم في الجاهلية كانوا يتشاءمون بالطيور؛ فإذا رأوها تطير على شكلٍ يكرهونه تراجعوا عما عزموا عليه من أسفارهم وغيرها. والله جل وعلا أمرنا بالتوكل عليه وحده، والمُضِيِّ فيما فيه مصلحة للإنسان، وإذا أشكل عليه شيء من أموره، أو تردد في شيء، فإنه يصلي صلاة الاستخارة، ويدعو بعدها أن يهديه الله للصواب. وكذلك يستشير أهل الخبرة والمعرفة. والطرق: الخطُّ، يخط بالأرض، وهذا إنما يكون عند المشعوذين الذين يخطون في الرمل، ويقولن: سيحصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 كذا، سيحدث كذا. وهذا من فعل الجاهلية؛ لأنه من ادِّعاء علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وهو خَرْصٌ وتخمين، ولكن قد يقع ما قالوا؛ من باب الفتنة والاستدراج للناس، فالواجب تجنب هؤلاء والابتعاد عنهم. والتحاكم إلى الطاغوت هو: التحاكم إلى غير كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من القوانين الوضعية، وحكم العوائد، عوائد البادية وسوالفها، أو علم الكلام والقواعد المنطقية. وكانوا في الجاهلية يتحاكمون إلى الطاغوت، وهو مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، والمراد به هنا: من حكم بغير ما أنزل الله. والواجب على المسلمين التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] . وكراهة التزويج بين العيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى، هو من التشاؤم بالأيام المنهي عنه، وهو نوع من الطيرة. وقد شرع الله التزويج في جميع الأوقات، ما عدا حالة الإحرام بحج أو عمرة، ولا يدخل للأيام في نجاح التزويج أو فشله، وإنما هذا بيد الله سبحانه وتعالى. والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301