الكتاب: شرح الرسالة التدمرية المؤلف: محمد بن عبد الرحمن الخميس الناشر: دار أطلس الخضراء الطبعة: 1425هـ/2004م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- شرح الرسالة التدمرية محمد بن عبد الرحمن الخميس الكتاب: شرح الرسالة التدمرية المؤلف: محمد بن عبد الرحمن الخميس الناشر: دار أطلس الخضراء الطبعة: 1425هـ/2004م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] شرح الرسالة التدمرية محمد بن عبد الرحمن الخميس ال مقدمة إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراًوَنِسَاءًوَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70ـ71] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدَثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار1. وبعد: فإن العقيدة أهم ما يوليه المسلم الحريص على دينه اهتمامه، فالنبي صلى الله عليه وسلم،   1 هذه خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بها خطبه كلها، رواها الإمام أحمد في المسند (1/292ـ293) ، وأبو داود (2118) ، والترمذي (11.5) ، وابن ماجه (1892) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 لم يزل يعلم أصحابه ذلك، وكذلك علماء المسلمين جميعاً دعوا إلى ذلك وكان من أولئك العلماء: شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه ورسائله، ومن بين تلكم الرسائل (الرسالة التدمرية) . ولا تخفى أهمية هذه الرسالة لما فيها من تحرير للقواعد، وتأصيل في الرد على أهل البدع، وذلك في أصلين عظيمين: الأول: في الاعتقاد. والثاني: في العمل. فالاعتقاد: انحرف فيه جماعة من أهل الكلام فعارضوا الكتاب والسنة بأفكار فلسفية، وآراء كلامية. والعمل: انحرف فيه مجموعة من العُبَّاد والزُّهاد الذين عملوا بغير هدى من الكتاب والسنة. فبيَّن ـ رحمه الله ـ الواجب في الأصل وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ما نفاه عن نفسه، والواجب في الثاني الاجتهاد في فعل المأمور وترك المحظور مع الاستغفار بعد ذلك قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] ، ثم بيَّن حال الناس في الاستعانة والعبادة وأنهم على أربعة أحوال: الأولى: المؤمنون الذين جمعوا بينهما. الثانية: من عبدوا الله من غير استعانة. الثالثة: من عندهم استعانة من غير استقامة. الرابعة: من لا يعبد الله ولا يستعين به وهم من شر هذه الأنواع. وأما المخالفون في الاعتقاد فقد رد عليهم شيخ الإسلام وحصر مناظرتهم في أصلين: الأول: القول في بعض الصفات كالقول في بعض. الثاني: القول في الصفات كالقول في الذات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ثم ضرب مثالين ليبيِّن مباينة الخالق للمخلوق (الأول في الجنة ونعيمها والثاني في الروح) ، وبين أن نعيم الجنة يباين موجودات الدنيا مع الاتفاق في الأسماء، فمباينة الخالق أوْلى، وكذلك الروح موصوفة بأنها تذهب وتجيء، ومع ذلك هي مباينة لغيرها من المخلوقات فمباينة الخالق أولى. ثم ذكر سبع قواعد لمناظرة أهل التعطيل والتفويض: القاعدة الأولى: أن الله تعالى موصوف بالإثبات خلافاً للمعطلة، وموصوف بالنفي خلافاً للمشبِّهة. القاعدة الثانية: أن ما يُضاف إلى الله منه ما هو ثابت في الكتاب والسنة فيثبت لله، ومنه ما لم يرد فيهما فلفظه غير مقبول، وأما المعنى فيستفصل عنه ويتوقف في لفظه، فإن كان حقاً قبل وإلا رد اللفظ والمعنى. القاعدة الثالثة: في بيان معنى ظاهر النصوص، وهل هو مراد أم لا؟. القاعدة الرابعة: ومحورها يدور على ما يترتب من التوهم في صفات الله عند المعطلة فمن يتوهم التشبيه ثم ينفي الصفات يقع في محاذير أربعة: أـ تعطيل النصوص، ب ـ وتعطيل الله عن صفاته، ج ـ ثم تشبيه الله بخلقه، د ـ ووصفه بما لا يليق به سبحانه. القاعدة الخامسة: في بيان أن ما وصف الله به نفسه معلوم المعنى دون الكيف. القاعدة السادسة: في بيان الضابط السديد في باب الأسماء والصفات وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ما نفاه عن نفسه، وما لا دليل على نفيه وإثباته يتوقف فيه وكل كمال لا نقص فيه فالله أولى به، وكل نقص فالله منزه عنه. القاعدة السابعة: تدور على أن ما جاءت به الأدلة في هذا الباب تعرف عن طريق العقل كذلك، إذ العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، وبهذه القاعدة ختم شيخ الإسلام هذه القواعد المباركة. ونظراً لأهمية الرسالة التدمرية، وما فيه من أصول وردود على أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 البدع، ولإلحاح بعض طلاب العلم عليَّ أن أشرح هذه الرسالة المباركة شرحاً ميسَّراً على طريقة المعاصرين، يقرِّب غايات الكتاب ويوضح مقاصده، ويكشف للقارئ عما يدل عليه من مضمون. فاستجبت لرغبتهم وكتبت هذا الشرح الميسَّر وسميته: تيسير فهم الرسالة التدمرية، شرح ميسَّر على طريقة المعاصرين أما المنهج الذي سأتبعه في هذا الشرح فهو كالآتي: 1 ـ قسَّمت الكتاب إلى فقرات رئيسة ووضعت لكل منها عنواناً، وذلك على حسب موضوعها، تسهيلاً للقارئ. 2 ـ بيَّنت معاني ما يحتاج إلى التوضيح من كلمات النص بعده مباشرة، بحيث تصبح تلك المعاني بمثابة الشرح المختصر للنصوص. 3 ـ ذكرتُ عناصر الموضوع بشكل يجعل القارئ يحقق أكبر قدر من الاستفادة وفهم النص. 4 ـ عزوتُ الآيات القرآنية إلى مواضعها من كتاب الله ولك بذكر السورة ورقم الآية. 5 ـ قمتُ بتخريج الأحاديث الواردة في الكتاب ما أمكن ذلك. 6 ـ ترجمتُ لشيخ الإسلام ترجمة موجزة وجعلتها في مقدمة الكتاب. هذا، وقد استفدت ممن سبقني ممن شرح الرسالة التدمرية وخاصة كتاب (تقريب التدمرية) للعلامة محمد بن صالح بن عثيمين ـ رحمه الله ـ و (التوضيحات الأثرية على متن الرسالة التدمرية) 1وهو لتلميذي فخر الدين بن الزبير المحسي. هذا، والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر لي الخطأ والزلل، والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. المؤلف   1 وهو في الأصل من شروحي، وقد جمعه في كتاب، جزاه الله خيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 القسم الأول الفصل الأول: ترجمة المؤلف المبحث الأول: حياته الشخصية ... القسم الأول التعريف بالمؤلِّف والمؤلَّف الفصل الأول: ترجمة المؤلِّف المبحث الأول ـ حياته الشخصية: أولاً ـ اسمه ونسبه. ثانياً ـ مولده وموطنه. ثالثاً ـ أسرته. رابعاً ـ وفاته. المبحث الثاني ـ حياته العلمية: أولاً ـ نشأته العلمية. ثانياً ـ أشهر شيوخه. ثالثاً ـ أشهر تلاميذه. رابعاً ـ مكانته العلمية وثناء العلماء عليه. خامساً ـ مؤلفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الفصل الأول: ترجمة المؤلف المبحث الأول: حياته الشخصية أولاً ـ اسمه ونسبه: هو أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية النميري1 الحرَّاني ثم الدمشقي2   1 انظر التبيان لابن ناصر الدين (ق62ـ ب) . 2 انظر في ترجمته الكتب التالية: 1 ـ العقود الدرية لابن عبد الهادي. 2 ـ الأعلام العلية للبزاز. 3 ـ البداية والنهاية (14/132) . 4 ـ تذكرة الحفاظ (4/1496) . 5 ـ ذيل طبقات الحنابلة (2/387) . 6 ـ الوافي بالوفيات (7/15) . 7 ـ الدرر الكامنة (1/154) . 8 ـ فوات الوفيات (7/15) . 9 ـ النجوم الزاهرة (9/271) . 1. ـ البدر الطالع (1/63) . 11 ـ فهرس الفهارس (1/277) . 12 ـ تاريخ ابن الوردي (2/4.6) . 13 ـ القول الجلي في ترجمة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الحنبلي، تأليف: محمد صفي الدين البخاري. 14 ـ جلاء العينين للآلوسي. 15 ـ كتاب ابن تيمية، حياته، عصره، لمحمد زهرة. 16 ـ شذرات الذهب (6/8.) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 واختلف العلماء في علة تسمية الأسرة بـ "ابن تيمية" فذكر الصَّفدي: أنَّ تيمية لقب لجده الأعلى1وقال ابن النجار: "ذكر لنا أن جده محمداً، كانت أمه تُسمى تيمية وكانت واعظة فنسب إليها وعرف بها"2. وقيل: إن جده محمد بن الخضر حجَّ على درب تيماء، فرأى هنالك طفلة، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت بنتاً له، فقال يا تيمية، يا تيمية، فلُقّب بذلك3. ثانياً ـ موطنه ومولده: تُجمع المصادر التي بين أيدينا أن ابن تيمية ولد بحرّان، ثم انتقل مع والده إلى دمشق سنة (667هـ) هرباً من التتار، ولم أر في ذلك خلافاً بين المؤرخين، ويقولون في ترجمته (الحراني ثم الدمشقي) . أما عن تاريخ ولادته: فتُجمع المصادر التاريخية على أن ولادة أبي العباس ابن تيمية كانت سنة (661هـ) في شهر ربيع الأول في اليوم العاشر منه4. ثالثاً ـ أسرته: ابن تيمية: سليل أسرة كريمة، اشتغلت بالعلم وعرفت به رجالاً ونساء. فأبوه: هو العالم الجليل: عبد الحليم بن عبد السلام، قال عنه الذهبي: "كان إمامنا محققاً، كثير الفنون، له يد طولى في الفرائض والحساب"5.   1 الوافي بالوفيات (7/16) . 2 العقود الدرية (ص4) . 3 العقود الدرية (ص4) . 4 العقود الدرية (ص4) . 5 شذرات الذهب (5/376) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وذكر ابن كثير1: أن له كرسياً للدراسة والتعليم والوعظ، وأنه تولى مشيخة دار الحديث السكرية، وبها كان مسكنه، مات سنة (682هـ) ، ذلك أبوه. أما جَدّه: فهو شيخ الإسلام، مجد الدين، أبو البركات، عبد السلام، قال عنه ابن شاكر الكتبي: كان إماماً حجة بارعاً في الفقه والحديث، وله يد طولى في التفسير ومعرفة تامة في الأصول، والاطلاع على مذاهب الناس، ولم يكن في زمانه مثله وله المصنفات النافعة في الأحكام: المسمى بالمنتقى مات سنة (651هـ) وإذا تركنا أباه وجده نجد آخرين كثيرين مشهورين بالعلم من هذه الأسرة الكبيرة. فمن الرجال2: 1 ـ عبد الرحيم بن محمد بن الخضر بن تيمية، مات سنة (6.3هـ) 3. 2 ـ محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن تيمية، الفقيه الواعظ، خطيب حرّان، مات سنة (622هـ) 4. 3 ـ عبد الغني بن محمد بن الخضر بن تيمية، خطيب حرّان، وابن خطيبها، مات سنة (639هـ) 5. 4 ـ عبد القاهر بن أبي محمد بن القاسم بن تيمية، المحدِّث، حدّث في دمشق وفي حرّان، وخطب بجامع حرّان، مات سنة (671هـ) 6.   1 البداية والنهاية (13/3.3) . 2 الأسماء مرتبة على تاريخ الوفاة. 3 شذرات الذهب (5/1.) . 4 شذرات الذهب (5/1.2) . 5 شذرات الذهب (5/2.4) . 6 شذرات الذهب (5/376) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 5 ـ عبد الأحد بن أبي القاسم بن عبد الغني بن تيمية، مات سنة (712هـ) 1. 6 ـ أبو القاسم بن محمد بن خالد، الحرّاني الفقيه، أخو شيخ الإسلام لأمه مات سنة (717هـ) 2. 7 ـ عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، الفقيه الإمام، أخو شيخ الإسلام، مات سنة (727هـ) 3. 8 ـ عبد الرحمن بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، أخو شيخ الإسلام، مات سنة (747هـ) 4. ومن النساء: 9 ـ تيمية: جدة الشيخ، وكانت واعظة5. 1. ـ زينب بنت عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام، بنت أخي الشيخ، قال ابن حجر كما في (شذرات الذهب) : "سمعت من الحجار وغيره، وحدّثت وأجازت لي". مات سنة (799هـ) 6. رابعاً ـ وفاته: أجمعت المصادر التاريخية على أن: وفاة تقي الدين ابن تيمية كانت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة من الهجرة في العشرين من شهر ذي الحجة، حيث مات سجيناً محتسباً صابراً بقلعة في دمشق.   1 شذرات الذهب (6/3) . 2 ذيل طبقات الحنابلة (2/37.) . 3 ذيل طبقات الحنابلة (6/76) . 4 ذيل طبقات الحنابلة (152) . 5 العقود الدرية (ص4) . 6 شذرات الذهب (6/358) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 المبحث الثاني: حياته العلمية أولاً ـ نشأته العلمية: ترعرع ابن تيمية في بيئة علمية صالحة، حيث نشأ تحت رعاية والده، وكان من العلماء الصالحين، وعني بتعليم ابنه وتهذيبه منذ نعومة أظافره، وساعد على ذلك: أن بدا عليه النجابة منذ حداثة سنه، وذلك لأمور: أولاً: الجد والاجتهاد والانصراف التام إلى طلب العلم وتحصيله، لا يلهو لهو الصبيان ولايعبث عبثهم. قال البزار: "ولم يزل إبان صغره مستغرق الأوقات في الجد والاجتهاد"1. ثانياً: رزقه الله الذاكرة الحادة، والعقل المتيقظ، والفكر المستقيم، والنبوغ المبكر، قال البزار: "خصّه الله بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان، ولم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء غالباً إلا ويبقى على خاطره إما لفظه، أو معناه، وكان العلم كأنه اختلط بلحمه ودمه"2. كان أول ما يتلقاه طلاب العلم في ذلك الوقت حفظ القرآن الكريم، ثم بعد ذلك يوجهون عنايتهم إلى دراسة الحديث النبوي الشريف وسائر العلوم الشرعية الأخرى، فحفظ القرآن الكريم في صغره، ثم اشتغل بحفظ الحديث مع ملازمته لمجالس الذكر وسماع الحديث والآثار، فسمع عدة مرات على عدد من الشيوخ ذوي الروايات الصحيحة العالية: مسند أحمد،   1 الأعلام العلية (ص17) . 2 الأعلام العلية (ص18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وصحيح البخاري، ومسلم، وجامع الترمذي، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، وأول كتاب حفظه في الحديث: الجمع بين الصحيحين للإمام الحميدي1. قال ابن عبد الهادي: "وأقبل على الفقه وقرأ العربية على عبد القوي، ثم فهمهما وأخذ يتأمل كتب سيبويه حتى فهم النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك، هذا كله وهو يُعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وسرعة إدراكه"2. وقال الذهبي: "نشأ ـ يعني الشيخ تقي الدين رحمه الله ـ في تصوّن تام وعفاف وتألّه وتعبُّد واقتصادٍ في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحيَّر منه أعيان البلد في العلم، فأفتى وله تسع عشرة سنة؛ بل أقل، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكبّ على الاشتغال، ومات والده ـ وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم ـ فدرّس بعده بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره، وبعُدَ صِيته في العالم"3. وكان من أسرة عريقة في العلم كما تقدم. ثانياً ـ أشهر شيوخه: رأينا من قبل ابن تيمية اتصل بالعلماء منذ حداثة سنه4. فتلقى عن كل شيخ من شيوخ دمشق وامتاز به، وبلغ شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ5 ومن أشهرهم6:   1 الأعلام العلية (ص17ـ 18) . 2 العقود الدرية (ص4 ـ 5) . 3 المرجع السابق (ص4 ـ 5) . 4 المرجع السابق (ص5) . 5 المرجع السابق (ص18) . 6 الأسماء مرتبة على تاريخ الوفاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 1 ـ زين العابدين أحمد بن عبد الدائم المقدسي، مسند الشام وفقيهها ومحدثها توفي في سنة (668هـ) 1. 2 ـ المجد بن عساكر، محمد بن إسماعيل بن عثمان بن مظفر بن هبة الله الدمشقي، توفي في سنة (669هـ) 2. 3 ـ عبد الرحمن بن سليمان بن سعيد بن سليمان البغدادي، توفي سنة (67.هـ) 3. 4 ـ محمد بن علي الصابوني بن محمود بن أحمد المحمودي، توفي سنة (67.هـ) 4. 5 ـ تقي الدين إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر، مسند الشام، توفي في سنة (672هـ) 5. 6 ـ كمال الدين بن عبد العزيز بن عبد المنعم بن الخضر بن شبل الدمشقي، توفي في سنة (672هـ) 6. 7 ـ سيف الدين يحيى بن عبد الرحمن بن نجم الدين بن عبد الوهاب الحنبلي، توفي في سنة (672هـ) 7. 8 ـ المؤمل بن محمد البالسي ثم الدمشقي توفي في سنة (677هـ) 8. 9 ـ يحيى بن أبي منصور الصيرفي، توفي سنة (687هـ) 9.   1 فوات الوفيات (1/81) ، شذرات الذهب (5/325) . 2 شذرات الذهب (5/331) ، العقود الدرية (ص5) . 3 شذرات الذهب (5/332) . 4 شذرات الذهب (5/333) . 5 شذرات الذهب (5/338) ، فوات الوفيات (1/17.) . 6 شذرات الذهب (5/338) . 7 المرجع السابق (5/34.) . 8 المرجع السابق (5/36.) . 9 المرجع السابق (5/363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 10ـ أحمد بن أبي الخير سلامة بن إبراهيم الدمشقي الحداد الحنبلي، توفي سنة (678هـ) 1. 11 ـ أبو بكر بن عمر بن يونس المزي الحنفي، توفي سنة (68.هـ) 2. 12 ـ عبد الرحيم بن عبد الملك بن يوسف بن قدامة المقدسي، توفي في سنة (68.هـ) 3. 13 ـ المسلم بن محمد المسلم بن خلف القيسي، توفي في سنة (68.هـ) 4. 14 ـ القاسم بن أبي بكر بن القاسم بن غنيمة الأربلي، توفي في سنة (68.هـ) 5. 15 ـ إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم الدرجي القرشي الحنفي، توفي سنة (681هـ) 6. 16 ـ المقداد بن أبي القاسم، هبة الله القيسي توفي سنة (681هـ) 7. 17 ـ عبد الحليم بن عبد السلام، ابن تيمية والد شيخ الإسلام، ودرس عليه الفقه والأصول، توفي سنة (682هـ) 8. 18 ـ محمد بن أبي بكر العامري الدمشقي، توفي سنة (682هـ) 9. 19 ـ إسماعيل بن أبي عبد الله بن العسقلاني، توفي سنة (682هـ) 10.   1 شذرات الذهب (5/36.) . 2 المرجع السابق (5/37.) . 3 المرجع السابق (5/366) . 4 المرجع السابق (5/369) . 5 المرجع السابق (5/367) . 6 المرجع السابق (5/373) . 7 المرجع السابق (5/374) . 8 المرجع السابق (5/376) . 9 المرجع السابق (5/381) . 10 المرجع السابق (5/375) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 20 ـ محمد بن عبد المنعم القواس، توفي سنة (682هـ) 1. 21 ـ محمد بن عامر بن أبي بكر الصالحي، توفي سنة (684هـ) 2. 22 ـ أحمد بن شيبان بن حيدرة الشيباني الصالحي العطار، ثم الخيّاط، توفي سنة (685هـ) 3. 23 ـ الجمال أحمد بن أبي بكر الحموي، توفي سنة (687هـ) 4. 24 ـ يوسف بن يعقوب المجاور، توفي سنة (69.هـ) 5. 25 ـ الشيخة الجليلة: أم العرب فاطمة ينت أبي القاسم علي بن عساكر، توفيت في سنة (683هـ) 6. 26 ـ الشيخة الصالحة: أم الخير بنت العرب بنت حي بن قايماز الدمشقية الكِندية، توفيت سنة (684هـ) 7. 27 ـ الشيخة الصالحة: زينب بنت أحمد بن عمر بن كامل المقدسية، توفيت سنة (722هـ) 8. 28 ـ الشيخة الصالحة: زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحراني، توفيت سنة (688هـ) 9.   1 شذرات الذهب (5/38.) . 2 المرجع السابق (5/389) . 3 المرجع السابق (5/39.) . 4 المرجع السابق (5/4..) . 5 المرجع السابق (5/416) . 6 المرجع السابق (5/383) . 7 المرجع السابق (5/385) . 8 المرجع السابق (5/4.4) . 9 المرجع السابق (6/56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 هذا وقد صرّح شيخ الإسلام بالأخذ عن هؤلاء الشيوخ كما في الجزء (18/76 ـ 122) من مجموع فتاوى شيخ الإسلام. ثالثاً ـ من أشهر تلاميذه: 1 ـ أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، توفي سنة (711هـ) 1. 2 ـ علي بن المظفر بن إبراهيم الكندي الاسكندراني ثم الدمشقي، توفي سنة (716هـ) 2. 3 ـ محمد بن سعد بن عبد الأحد الحرّاني ثم الدمشقي، توفي سنة (723هـ) 3. 4 ـ محمد بن النجا التنوخي الدمشقي، توفي سنة (724هـ) 4. 5 ـ عبد الله بن موسى الجزري، توفي سنة (725هـ) 5. 6 ـ أبو بكر بن شريف بن محصن بن معن بن عمار الصالحي، توفي سنة (728هـ) 6. 7 ـ عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي الصالحي، توفي سنة (737هـ) 7. 8 ـ عبادة بن عبد الغني بن عبادة الحراني ثم الدمشقي، توفي سنة (738هـ) 8. 9 ـ محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن   1 الرد الوافر (ص124) . 2 المرجع السابق (ص187) . 3 المرجع السابق (ص187) . 4 ذيل طبقات الحنابلة (2/377) . 5 الرد الوافر (ص172) . 6 المرجع السابق (ص221) . 7 المرجع السابق (ص169) . 8 شذرات الذهب (6/117) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 قدامة المقدسي، توفي سنة (744هـ) 1. 10ـ بهاء الدين بن علي بن عبد الولي بن خولان، البعلي، الفقيه الحنبلي، توفي في سنة (744هـ) 2. 11 ـ أحمد بن محمد بن عبد الغني الحراني ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي، توفي سنة (745هـ) 3. 12 ـ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي الشافعي، إمام المعدلين والمجرحين وناقد المحدثين، توفي سنة (748هـ) 4. 13 ـ عمر بن سعد الله بن عبد الأحد الحراني ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي، توفي سنة (749هـ) 5. 14 ـ محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي، المعروف بابن القيم، وهو أبرز تلامذة شيخ الإسلام وأشهرهم وأكثرهم أخذاً عن الشيخ وتأثراً به، توفي سنة (751هـ) 6. 15 ـ محمد بن أبي بكر بن معالي بن إبراهيم بن زيد الأنصاري الخزرجي الدمشقي، المعروف ابن المهيني، توفي سنة (755هـ) 7. 16 ـ صلاح الدين خليل بن الأمير سيف الدين بن عبد الله العلائي مولاهم الدمشقي الشافعي، توفي سنة (761هـ) 8.   1 شذرات الذهب (6/141) . 2 المرجع السابق (6/142) . 3 المرجع السابق (6/142) . 4 المرجع السابق (6/142) . 5 الرد الوافر (ص65) . 6 شذرات الذهب (6/162) . 7 شذرات الذهب (6/168) . 8 الرد الوافر (ص163) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 17 ـ محمد بن إبراهين محمد الأنصاري، الخزرجي البيساني الدمشقي المقدسي، توفي سنة (762هـ) 1. 18 ـ أحمد بن موسى الزرعي الحنبلي، توفي سنة (762هـ) 2. 19 ـ محمد بن مفلح بن محمد المقدسي، ثم الصالحي الحنبلي، توفي سنة (763هـ) 3. 2. ـ إبراهيم بن مؤيد الدين أبي المعالي بن العز التميمي بن القلانسي الدمشقي الشافعي، توفي سنة (765هـ) 4. 21 ـ أحمد بن الحسن بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، توفي سنة (771هـ) 5. 22 ـ إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير، صاحب التفسير الشهير، توفي سنة (774هـ) 6. 23 ـ محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب السعدي المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، توفي سنة (788هـ) 7. 24 ـ أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن الحميري، المصري الأصلي ثم الدمشقي8. 25 ـ أحمد بن الحسن بن عبد الله بن الشيخ أبي عمر9.   1 الرد الوافر (ص8.) . 2 شذرات الذهب (6/197) . 3 شذرات الذهب (6/199) . 4 الرد الوافر (ص145) . 5 الرد الوافر (ص132) . 6 شذرات الذهب (6/231) . 7 الرد الوافر (ص91) . 8 الرد الوافر (ص122) . 9 ذيل طبقات الحنابلة (2/453) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 رابعاً ـ مكانته العلمية وثناء العلماء عليه: كان ابن تيمية إماماً مجتهداً، تعددت مجالاته العلمية، فنبغ في العلوم لا سيما في علم العقيدة والحديث والتفسير، وأتقن العربية أصولاً وفروعاً. قال الحافظ أبو الفتح اليعمري: يصف نبوغ ابن تيمية وسعة علمه: "إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه، وذو روايته، أو حاضر بالنِّحَل والمِلَل لم يُرَ أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه"1. وكان له مع ذلك اطلاع واسع وإدراك لعلوم كثيرة أخرى، كالحساب والجبر والمقابلة وأنواع الفلسفة. وقال عنه ابن العماد: "أحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والمقابلة وغير ذلك من العلوم، ونظر في الكلام والفلسفة وبرز في ذلك على أهله، وردّ على رؤسائهم وأكابرهم"2. وسوف أقدم في هذا البحث حديثاً موجزاً عن هذه الجوانب العلمية مقتصراً على العلوم الشرعية: · أولاً ـ في العقيدة: كان ابن تيمية واسع المعرفة العقدية وآراء أصحابها، وليس أدلّ على ذلك من كتبه: (درء تعارض العقل والنقل) ، و (تلبيس الجهمية) ، و (الاستقامة) ، و (الصفدية) ، و (منهاج السنة) . ففيها عرضٌ كامل للعقيدة الإسلامية الصحيحة والرد على المذاهب الكلامية والمخالفة لمنهج السلف، فقد ناقش مذهب الجهمية والمعتزلة   1 ذيل طبقات الحنابلة (2/39.) . 2 شذرات الذهب (6/18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 والمرجئة والشيعة، وتدلّ ردوده على هذه المذاهب على سعة معرفته بأصولها. قال البزّار: "أبانَ بحمد الله تعالى فيما ألَّف فيها لكل بصير الحق من الباطل، وأعانه بتوفيقه حتى رد عليهم بدعهم وآراءهم، وخدعهم وأهواءهم، مع الدلائل بالطريقة العقلية حتى يجيب عن كل شبهة من شبههم بعدة أجوبة جلية واضحة، يعقلها كل ذي عقل صحيح، ويشهد لصحتها كل عاقل صحيح"1. ولم يكتف ـ رحمه الله ـ بمعرفة مذاهب أهل البدع؛ بل قرأ كتب الفلاسفة وأهل المنطق وأحاط بها ورد عليها في كتبه، خاصة كتاب (نقض المنطق) ، و (الرد على المنطقيين) ، و (الصفدية) . قال الذهبي: "عرَف أقوال المتكلمين ورد عليهم، ونبّه على خطئهم وحذّر منهم، ونصر السُّنة بأوضح حجج وأبهر براهين"2. كذلك: قرأ كتب النصارى ودرسها دراسة "فاحصة" وردّ عليهم في كتابه القيم (الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح) ، فقد كان يعد نفسه للدفاع عن الإسلام في كل الميادين؛ لذلك أكثر من التصنيف والتأليف في العقيدة وأصول الدين. قال البزار: "ولقد أكثر رضي الله عنه التصنيف في الأصول فضلاً عن غيره من بقية العلوم، فسألته عن سبب ذلك والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، ومن قلّد فيها المسلم أحد العلماء المقلدين، جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه. وأما الأصول: فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية، والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية،   1 الأعلام العلية (ص35) . 2 ذيل طبقات الحنفية (2/389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 والنصيرية، والجهمية، والحلولية، والمعطِّلة، والمجسِّمة، والمشبِّهة، والراوندية، والكلابية، والسليمية، وغيرهم من أهل البدع، فقد تجاذبوا فيها بأزِمَّة الضلال وبَان لي أن كثيراً منهم إنما قصدوا إبطال الشريعة المقدسة المحمدية، الظاهرة العلية على كل دين، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم؛ ولهذا قلَّ أن سمعتُ أو رأيتُ معرضاً عن الكتاب والسنة مقبلاً على مقالاتهم إلا تزندق، أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده. فلما رأيت الأمر على ذلك بَانَ لي أنه يجب على كل من يقدر دفع شبههم وأباطيلهم، وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم وزيف دلائلهم ذباً عن الملة الحنيفية والسنة الصحيحة الجلية. ولا ـ والله ـ ما رأيتُ فيهم أحداً ممن صنّف في هذا الشأن وادّعى علو المقام إلا وقد ساعد بمضمون كلامه على هدم قواعد دين الإسلام. وسبب ذلك: إعراضه عن الحق الواضح المبين، وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين، واتباعه طرق الفلسفة وفي الاصطلاحات التي سموها بزعمهم: حكميات وعقليات وإنما هي: جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضاً عن غيرها أصلاً ورأساً، فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم، فتخبط حتى خبط فيها عشواء، ولم يفرق بين الحق والباطل وإلا فالله أعظم لطفاً بعباده ألا يجعل لهم عقلاً يقبل الحق ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه، لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال، وقد جعل الله العقل السليم من الشوائب ميزاناً يزن به العبد الواردات، فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق، وما هو من قبيل الباطل. ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده، فكيف يقال: إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى؟. هذا باطل قطعاً يشهد له كل عقل سليم، لكن {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 4.] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قال الشيخ الإمام ـ قدّس الله روحه ـ: "فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جلّ همي إلى الوصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم وأجبتُ عنها، بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة النقلية والعقلية"1. · ثانياً ـ في الحديث: علم الحديث لا يؤخذ إلا بالسماع على الشيوخ ليسند روايته على من قرأ عليه، ورأينا من قبل: أن ابن تيمية بدأ في طلب الحديث وسماعه في حداثة سنه، وشيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ، فسمع أكثر من مرة مسند الإمام أحمد، والكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء. قال ابن عبد الهادي: "قرأ بنفسه الكثير، وطلب الحديث، وكتب الطباق والإثبات، ولازم السماع بنفسه مدة سنتين"2. وقال الذهبي: "كان عجيباً في معرفة علم الحديث، فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والمسند فما رأيت من يدانيه في ذلك أصلاً"3. وذكر الحافظ أبو الفتح اليعمري: أن ابن تيمية كاد يستوعب السنن والآثار حفظاً4. أما معرفته بعلم الجرح والتعديل والصحيح والضعيف: فذكر الذهبي: " أن له خبرة تامة بالرجال وتعديلهم وطبقاتهم وله معرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه التي انفرد به فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث   1 الأعلام العلية (ص33ـ 35) 2 العقود الدرية (ص248) . 3 ذيل الطبقات للحنابلة (2/391) . 4 ذيل طبقات الحنابلة (2/39.) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث"1. وقال البزار: "أما معرفته بصحيح النقل وسقيمه: فإنه في ذلك من الجبال التي لا تُرتَقى ذروتها، ولايُنال سنامها، قلَّ إن ذكر له قول إلا وقد أحاط علمه بمبتكره وذاكره وناقله وأثره، أو راوٍ وقد عرف حاله من جرح ٍ وتعديل بإجمال وتفصيل"2. · ثالثاً ـ في التفسير: ابن تيمية إمامٌ في التفسير وصاحب تصنيف فيه. قال الذهبي: "أما التفسير فمسلّم إليه، وله من استحضار الآيات من القرآن وقت إقامة الدليل بها على المسألة قوة عجيبة، ولفرط إمامته في التفسير وعظم اطلاعه بيَّن خطأ كثير من أقوال المفسرين، ويوهي أقوالاً عديدة وينصر قولاً واحداً موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث"3. قال البزار: "أما غزارة علومه فمنها: ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد واستنباطه لدقائقه، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه، وفنون حكمه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنه فيه من الغاية التي يُنتهى إليها، والنهاية التي يعوّل عليها، ولقد كان إذا قُرئ في مجلسه آيات من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجملته، والدرس برمته وهو في تفسير بعض آية منها، وكان مجلسه في وقتٍ مقدَّرٍ بقدر ربع النهار يفعل ذلك بديهة من غير أن يكون له قارئ معين يقرأ له شيئاً معيناً يبيته ليستعدّ لتفسيره، بل كان من حضر يقرأ ما تيسر ويأخذ هو في القول على تفسيره. وكان غالباً لا يقطع إلا ويفهم السامعون أنه لولا مضي الزمن المعتاد لأورد أشياء أُخَرَ من معنى ما هو فيه من التفسير، لكن يقطع نظراً في مصالح   1 ذيل طبقات الحنابلة (2/391) . 2 الأعلام العلية (ص3.) . 3 الأعلام العلية (ص3.) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الحاضرين، ولقد أملى من تفسير: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] مجلداً كبيراً، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] نحو خمس وثلاثين كراسة. ولقد بلغني أنه شرع في تفسير لو أتمه لبلغ خمسين مجلداً"1. · رابعاً ـ في الفقه: كان ابن تيمية ـ رحمه الله ـ على مذهب الإمام أحمد بن حنبل إلا أنه لم يكن يلزمه في آرائه وفتاويه، بل كان مجتهدا يقول ويفتي بما قام عليه الدليل عنده. قال الذهبي: "وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين بحيث إذا أفتى لم يلتزم بمذهب بل بما يقوم عليه الدليل"2. وقال كمال الدين بن الزِّمْلِكاني: "كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان في علم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها"3. وذكر الصفدي أن ابن تيمية: "أقبل على الفقه دقائقه، وغاص على مباحثه، ونظر في أدلته وقواعده وحججه والإجماع والاختلاف حتى كان يقضى منه العجب، إذا ذكر مسألة من الخلاف استدل ورجح واجتهد"4. فمن المسائل التي أفتى فيها باجتهاده وخالف فيها أهل المذاهب الأربعة، أو خالف فيها المشهور ما نقله تلميذه (ابن عبد الهادي) في (العقود الدرية) 5، وإليك بعضاً منها:   1 الأعلام العلية (ص2.ـ21) . 2 ذيل طبقات الحنابلة (2/389) . 3 شذرات الذهب (6/82) . 4 الوافي بالوفيات (7/16) . 5 العقود الدرية (ص212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 1 ـ القول: بوجوب الكفارة في الحلف بالطلاق، وإن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة، وإن الحلف بلفظ الطلاق لا يقع به الطلاق إذا حنث وليس على الحالف إلا كفارة اليمين. 2 ـ القول: بقصر الصلاة في كل ما يسمى سفراً طويلاً كان أو قصيراً دون اشتراط مسافة معينة، كما هو عند بعض الصحابة. 3 ـ القول: بأن سجود التلاوة لا يُشترط له وضوء كما يشترط للصلاة. 4 ـ القول: بأن من أكل في شهر رمضان معتقداً أنه بليل فبان الوقت نهاراً لا قضاء عليه كما هو الصحيح عن عمر بن الخطاب، وإليه ذهب بعض التابعين. 5 ـ القول: بإباحة وطء الوثنيات بملك يمين، أي مثل إماء أهل الكتاب. 6 ـ القول: بأن المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة، كما هو في القارن والمفرد. 7 ـ القول: بجواز بيع الأصل بالعصير: كالزيتون بالزيت. 8 ـ القول: بأن المائع لا ينحبس بوقوع النجاسة فيه إلا أن يتغير قليلاً كان أو كثيراً. وفي الجملة: فالإمام (ابن تيمية) قد فاق أهل عصره برجحان عقله وسعة علمه وصدق جهاده وصحة اجتهاده، حتى أكثر العلماء من الثناء عليه، ومن أبلغ ما قاله إمام الجرح والتعديل (الحافظ المزي) المتوفى (742هـ) حيث قال: "ما رأيت مثله، ولا هو رأى مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه"1. · خامساً ـ مؤلفاته: الإمام (ابن تيمية) من المكثرين في التأليف، فقد وصفه ابن عبد الهادي، بقوله: "ولا أعلم أحداً من متقدمي الأمة ولا متأخريها جمع مثل جمع،   1 شذرات الذهب (6/84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ولا صنف نحو ما صنف ولا قريباً من ذلك، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثير منها صنفها في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب"1. وتبلغ تصانيف (ابن تيمية) خمسمائة مجلد، ذكر ذلك الذهبي2. أما ابن عبد الهادي: فيذكر أن للشيخ من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط3، ولو أراد الشيخ ابن تيمية أو غيره حصرها لما قدروا. وعلّل على ذلك بقوله: "قد متّ الله عليه سرعة الكتابة ويكتب من حفظه من غير نقل، وكان يكتب في السؤال الواحد مجلداً وأما جواب السؤال فيكتب فيه خمسين ورقة أو أربعين أو عشرين فكثير، وكان يكتب الجواب فإن حضر من يبيضه وإلا أخذ السائل خطه وذهب. ويكتب قواعد كثيرة في فنون من العلم فإن وجد من نقله بخطه وإلا لم يشتهر ولم يعرف، وربما أخذه بعض أصحابه فلا يقدر على نقله ولا يرده إليه فيذهب، وكان كثيراً يسأل عن الشيء فيقول: قد كتبت في هذا، فلا يدري أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول: ردوا خطي، وأظهروه لينقل، فمن حرصهم عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يُعرف اسمه، فهذا تعذر إحصاء ما كتبه وصنفه"4. وهذه طائفة من أهم مصنفاته: 1 ـ كتاب الإيمان ـ مجلد. 2 ـ درء تعارض العقل والنقل. طبع في عشرة مجلدات، بتحقيق د. محمد رشاد سالم ـ رحمه الله ـ.   1 انظر: العقود الدرية (ص2.ـ21) . 2 انظر: شذرات الذهب (6/84) . 3 انظر: العقود الدرية (ص2.) . 4 انظر: العقود الدرية (ص47ـ48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 3 ـ كتاب الاستقامة. طبع في مجلدين بتحقيق د. محمد رشاد سالم. 4 ـ كتاب الصفدية. طبع في مجلدين بتحقيق د. محمد رشاد سالم. 5 ـ تلبيس الجهمية. طبع قسم منه في مجلدين بتصحيح الشيخ: محمد بن قاسم. 6 ـ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح. طبع في سبع مجلدات. 7 ـ منهاج السنة. طبع في تسعة مجلدات بتحقيق د. محمد رشاد سالم. 8 ـ وقد جمع من رسائل شيخ الإسلام وفتاويه حتى بلغت (35) مجلداً تحت اسم: مجموعة فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ طيب الله ثراه ـ قام بجمعها وترتيبها الشيخ: عبد الرحمن بن قاسم وساعده ابنه محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الفصل الثاني: التعريف بالكتاب أـ اسم الكتاب: (التدمرية) تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، وحقيقة الجمع بين القدر والشرع. والتدمري نسبة إلى بلد السائل وهي (تدمر) مدينة بالشام، ومن المعروف أن الشيخ لم يؤلف هذا الكتاب ابتداء بل كان عبارة عن إجابة لسؤال ورد عليه من طلاب العلم من مدينة تدمر. وبذلك سمي هذا الكتاب نسبة إلى بلد السائل كبعض رسائل شيخ الإسلام الأخرى التي لم يؤلفها شيخ الإسلام ابتداءً، وإنما السؤال ورد عليه، كـ (الواسطية) ، نسبة إلى (واسط) ، و (الحموية) نسبة إلى بلد السائل (حماة) . ب ـ موضوع الكتاب: موضوع الكتاب يُفهم من اسمه (تحقيق الإثبات للأسماء والصفات حقيقة الجمع بين القدر والشرع) . فالمراد بالتوحيد هو توحيد الربوبية. وبالصفات: توحيد الأسماء والصفات. وبالشرع: توحيد الألوهية، أي التوحيد الاعتقادي والعملي، فقد اشتمل موضوع الرسالة التدمرية على التوحيد الاعتقادي والعملي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما بعد؛ فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات والشرع والقدر"، وسيأتي تفصيل موضوع الكتاب في ثنايا الشرح. ج ـ أهمية الكتاب: الرسالة التدمرية من الكتب السلفية المهمة التي تبين عقيدة أهل السنة والجماعة في التوحيد الاعتقادي والتوحيد العملي. وترجع أهمية الكتاب للأمور التالية: 1 ـ أهمية المواضيع التي بحثها المؤلف في ثنايا الكتاب، وعاج فيها الإشكالات والتساؤلات التي يثيرها من ليس على منهج السلف، وخاصة في باب الأسماء والصفات فيورد الإشكالات المحتملة، ويتناول الإشكال بالتحليل ويبين حقيقته ومعناه، ويستعرض آراء الفرق في الموضوع ويرد كل رأي إلى أصحابه، ويبيّن خطأهم من صوابه بالقرآن والسنة النبوية المطهرة ومن فهم الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فأظهر ما في المذاهب المبتدعة في باب الأسماء والصفات من عوار واضطراب في العقيدة، وأصول الاستدلال. 2 ـ ما غلب على الناس من انتحال البدع الاعتقادية من بينها: نفي الصفات عن الله والخلط بين التوحيد الاعتقادي والعملي، وبين مقام الإحسان الشرعي ومقام الفناء الصوفي، فهذا الكتاب المهم فيه ردود مفحمة على نفاة الصفات مفوضين كانوا أو مأولين، وفيه رد على المنحرفين من أهل التصوف والسلوك، وفي هذا بلاغ وبيان لمن أراد سبيل الرشد وآثر الحق وتجرد عن الهوى والتعصب. 3 ـ أقام الأدلة في هذا الكتاب على إبطال أصول المتكلمين، كالتأويل الكلامي والخلط بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتفسير الإله بمعنى القادر على الاختراع، وحقية التوحيد عند المتكلمين وأهل التصوف وما يترتب على ذلك من أنواع الضلالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 4 ـ قلة الكتب السلفية ـ فيما أعلم ـ التي تظهر البناء العقلي لمذهب السلف على وجه من الدقة في المبنى والمعنى، فبيّن شيخ الإسلام في هذا الكتاب الاستعمالات الصحيحة والمجالات الممكنة للعقل، من خلال تلك المناظرات بين السني والمعطل كما في الأصل الأول والأصل الثاني. د ـ مباحث الكتاب: اشتمل الكتاب على المباحث الآتية: أولاً ـ المقدمة: بيّن فيها شيخ الإسلام موضوع الكتاب، وسبب تأليفه والفرق بين التوحيد والشرع والقدر. ثانياً ـ ثم تكلم عن قاعدة السلف في النفي والإثبات موضحاً ذلك بالأمثلة والأدلة من القرآن الكريم مبيناً مذهب السلف في ذلك كله. ثالثاً ـ وبين فرق الضلال في النفي والإثبات، وبيان مذاهبهم بأسلوب ينبئ عن بطلانها ورد عليها بدلالة المعقول المعتمد على المنقول. رابعأ ـ وتحث عن اتفاق المسميات بين الخالق والمخلوق، وبيّن أن ذلك اتفاق في المعنى العام ولا يلزم منه الاتفاق في الخصائص، وبين ما يترتب على القول بأن الاتفاق لفظي، وبين أن الإضافة إلى الرب أو العبد مانعة من اشتراك كل منهما في خصائص الآخر، وأن المعاني المختصة لا يمكن إثباتها وفهمها إلا بعد إثبات الاتفاق في المعنى العام، لأنه أصل المعنى ونفيه تعطيل للمعنى كله؛ العام والخاص، وأطال الاستشهاد لذلك من القرآن الكريم. خامساً ـ عقد فصلاً أصّل فيه أصلين في مناظرة أهل البدع هما: 1 ـ القول في الصفات كالقول في بعض الصفات. 2 ـ القول في الصفات كالقول في الذات. وضرب لكل من الأصلين أمثلة موضحة لهما. سادساً ـ وذكر مثلين أراد أن يبين من خلالهما أن الاتفاق المعنوي بين صفات الخالق والمخلوق لا يستلزم التماثل في الخصائص وهما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 1 ـ ضرب المثل بالعلامة اللغوية بين ما في الدنيا وما في الآخرة، والذي بفهمنا لهذه العلامة المشتركة بينهما يحصل في نفوسنا الرغبة والرهبة كما في الآخرة، وفرّع على ذلك الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين أهل البدع في إثبات حقائق اليوم الآخر، وكيف أن إنكار هذا النوع من المعاني أدى بهم إلى الإنكار لبعض حقائق اليوم الآخر. 2 ـ وضرب المثل بالروح، وذلك لأن كل واحد منا فيه روح، وهذه الروح موصوفة بالصفات، وموصوفة بأنها تذهب وتجيء، ومع ذلك هي مباينة لغيرها من المخلوقات، فمباينة الخالق أولى. سابعاً ـ ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ سبع قواعد لمناظرة أهل التعطيل والتفويض هي: القاعدة الأولى: أن الله تعالى موصوف بالإثبات خلافاً للمعطلة، وموصوف بالنفي خلافاً للمشبهة الممثلة. القاعدة الثانية: أن ما يضاف إلى الله؛ منه ما هو ثابت في الكتاب والسنة فيُثبت لله، ومنه ما لم يرد فيهما؛ فيستفصل عن المعنى، فإن كان حقاً قبل وإلا رد المعنى واللفظ. القاعدة الثالثة: في بيان ظاهر النصوص وهل هو مراد أم لا؟ القاعدة الرابعة: ومحورها يدور على ما يترتب من التوهم في صفات الله عند المعطلة فمن يتوهم التشبيه ثم ينفي الصفات يقع في محاذير أربعة: 1 ـ تعطيل النصوص. 2 ـ وتعطيل الله عن صفاته. 3 ـ ثم تشبيه الله بخلقه. 4 ـ ووصفه بما لا يليق به سبحانه. القاعدة الخامسة: في بيان أن ما وصف الله به نفسه معلوم المعنى دون الكيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 القاعدة السادسة: في بيان الضابط السديد في باب الأسماء والصفات، وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ما نفاه عن نفسه، وما لا دليل على نفيه وإثباته يتوقف فيه، وكل كمال لا نقص فيه فالله أولى به، وكل نقص فالله منزه عنه. القاعدة السابعة: تدور على أن ما جاءت به الأدلة في هذا الباب تعرف عن طريق العقل، كذلك إذ العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، وبهذه القاعدة ختم شيخ الإسلام هذه القواعد المباركة. ثامناً ـ بَيَّن شيخ الإسلام الأصلَ الثاني من موضوع الرسالة التدمرية ألا وهو الشرع والقدر وذكر الواجب فيه، وهو عبادة الله وحده وما تضمنه العبادة من كمال الذل والخضوع لله، وأن ذلك هو دين الإسلام وأن الأنبياء جميعاً جاؤوا به، وأنه الحكمة التي خلق الله الإنس والجن من أجلها ثم تحدث عن الصوفية وأخطائهم ومعنى الفناء. وأنه ثلاثة أنواع هي: أولاً: الفناء الديني الشرعي، وهو الفناء بعبادته عن عبادة غيره. ثانياً: الفناء عن شهود ما سوى الله، وهو الفناء في توحيد الربوبية، وبيّن أن هذا ليس من لوازم الطريق إلى الله، وأن السابقين الأولين لم يكونوا يعرفونه، بل إن المشركين أنفسهم كانوا مقرين به. ثالثاً: الفناء عن وجود السوي بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، وهو قول أهل الاتحاد والحلول من الصوفية، وبيّن ما في قول هؤلاء من الباطل. وبيّن العلاقة بين العبادة والاستعانة، وأن إعانة العبد غير واجبة على الله بل هي محض التفضل منه. وذكر أقسام الناس في ذلك وما يترتب على هذه الأقسام من قول الحق أو قول الباطل. ثم بيّن الواجب في العبادة والاستعانة، وبيّن أن محاجة آدم لموسى إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 كانت في المصائب ولم تكن محاجة على المعصية، لأنه تاب منها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. تاسعاً ـ الخاتمة: وبيّن فيها أنه لا بد في العبادة والاستعانة من الإخلاص والمتابعة للشرع، وأن الحق كله فيما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وأن الواجب اتباع ما هم عليه؛ لأن ذلك هو صراط الله المستقيم، وما عداه فهو من السبل المخالفة له. هـ ـ منهج المؤلف في الكتاب: كما هو معلوم فإن الكتاب عبارة عن جواب لسؤال ورد على شيخ الإسلام من طلاب العلم في (تدمر) لذا خلا من الأبواب، ويمكن استخلاص منهج المؤلف فيما يلي: 1 ـ الاستدلال بالأدلة النقلية من الكتاب والسنة والآثار عن السلف. 2 ـ الاستدلال بالأدلة العقلية التي تؤيد الأدلة النقلية. 3 ـ الاحتجاج على المخالفين من المتكلمين والصوفية بمصطلحاتهم المنطقية الكلامية. 4 ـ استخدام الأساليب الجدلية في بعض الأحيان حينما يعرض المقدمات ويستخلص النتائج منها. ومن أمثلة استخدامه لأسلوب المتكلمين: تقريره أن الله منزه عن كل نقص؛ فيمتنع عليه العدم والفناء؛ لأنه واجب الوجود بخلاف المحدَث، وهو مفتقر إلى محدِث، واجب الوجود. 5 ـ العدالة في الحكم على الأقوال وذلك ظاهر من قوله: "وغلت طائفة منهم" فلم يعمم هذا الغلو عليهم جميعاً. 6 ـ التوسع والإطالة في بعض المواضيع، كتوسعه عند ضرب المثل الثاني بالروح، فذكر اضطراب الناس في ماهية الروح، وسبب هذا الاضطراب وأقوال الناس في لفظ الجسم وغير ذلك. 7 ـ حكاية الأقوال للمخالفين لأهل السنة والجماعة على وجه يعرف منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بطلانها مع العدالة في الحكم على الأقوال كما تقدم. 8 ـ استعماله لبعض الألفاظ المنطقية في بعض مواضع الكتاب، حيث أن خصوم شيخ الإسلام المردود عليهم في هذا الكتاب هم أهل الفلسفة والكلام. 9 ـ التكرار في بعض المسائل مثل: تقريره لمذهب الباطنية في الأصل الأول ورد عليهم بالأصل الأول، وأعاد ذلك في الأصل الثاني، وكذلك شبهة التقابل ذكرت في القاعدة السابعة، وقد تقدمت قبل ذلك. وـ ما يُنتقد على الكتاب: انتقد بعض أهل العلم عدة أمور، وهي في الحقيقة شكلية لا تثبت أمام التحقيق وهي: 1 ـ صعوبة بعض ألفاظ الكتاب: لاشتماله على مجموعة من المصطلحات المستعملة عند المتكلمين وأهل التصوف، وهو في مقام الرد عليهم فيخاطبهم بما يفهمونه من اصطلاحاتهم، حتى يقيم الحجة عليهم، ويبيّن اضطرابهم في هذا الباب. 2 ـ الاستطراد: وهذا يدل على سعة علمه وطول باعه رحمه الله تعالى. ز ـ طبعات الكتاب: طبع الكتاب عدة طبعات، فأول تلك الطبعات هي المطبوعة الحسينية طبعت ضمن مجموع يشتمل على الرسالة التدمرية، وكتاب الحيدة للإمام عبد العزيز الكناني سنة 1325هـ بمصر. وطبع في بيروت بتحقيق الأستاذ زهير الشاويش في المكتب الإسلامي. وكذا طبع بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط. وطبع ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، الطبعة الأولى سنة 1381هـ، وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ضمن الجزء الثالث من مجموع فتاوى شيخ الإسلام من ص1 إلى ص128. وأجودها وأفضلها، طبعة مكتبة العبيكان عام 14.6هـ بتحقيق الشيخ الدكتور محمد بن عودة السعوي. ح ـ شروح الكتاب: للكتاب عدة شروح مختصرة وهي كالآتي: 1 ـ التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية تأليف الشيخ فالح بن مهدي آل مهدي، طبعت بتعليق وعناية الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود. 2 ـ تقريب التدمرية، تأليف سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ. 3 ـ الأجوبة المرضية في تقريب التدمرية لأبي مصعب الجزائري. 4 ـ التوضيحات الأثرية على الرسالة التدمرية تأليف فخر الدين المحسي. 5 ـ توضيح مقاصد المصطلحات العلمية في الرسالة التدمرية ومعه الأسئلة والأجوبة المرضية مع الرسالة التدمرية مؤلفه صاحب الكتاب العبد الفقير إلى الله، وهو يدل على عنوانه حل ألفاظ ومصطلحات الرسالة التدمرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 القسم الثاني مقدمة ابن تيمية الفصل الأول: الأصل الأول "التوحيد والصفات" الأصل الأول: التوحيد والصفات ... الأصل الأول التوحيد والصفات قال شيخ الإسلام: "فأما الأول وهو التوحيد في الصفات فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيُثبَت لله ما أثبته لنفسه ويُنفَى عنه ما نفاه عن نفسه، وقد عُلِم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله ذمَّ الذين يلحدون في أسمائه، وآياته كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 18.] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] . فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد للإلحاد والتعطيل. والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصّل، ونفيٍ مجمل، فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 والتمثيل، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] ، قال أهل اللغة: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أي نظيراً يستحق مثل اسمه، ويقال: مسامياً يساميه. وهذا معنى ما يُروى عن ابن عباس: هل تعلم له مثلاً أو شبيهاً. وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 3ـ4] ، وقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] ، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} [البقرة: 165] . وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ*بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100ـ 101] ، وقال تعالى: {َتبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً*الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْك} [الفرقان: 1ـ2] ، وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ*أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ*أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ*وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ*أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ*أَفَلا تَذَكَّرُونَ*أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ*فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ*سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ*إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 149ـ160.] إلى قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 18.ـ182] ، فسبَّح نفسه عما يصفه المفترون المشركون، وسلّم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات. وأما الإثبات المفصّل فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته، كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة: 255] الآية بكمالها، وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص: 1ـ4] ، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2] ، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] ، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [ابراهيم: 4] ، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 1.7] ، {وَهوالْغَفُورُ الْوَدُودُ*ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ*فعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، [البروج: 14ـ16] ، {هو الأول وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ*هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 3ـ4] ، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] ، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] ، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 1.] ، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة: 21.] ، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] ، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] ، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] ، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس: 82] ، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22ـ24] . إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الربّ تعالى وصفاته، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل صلى الله عليهم أجمعين". معاني الكلمات: سلف الأمة: السلف في اللغة: كل من تقدم، وفي الاصطلاح: هم أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة من الصحابة والتابعين دون من رمي ببدعة أو شهر بلقب غير مرضي. تكييف: مأخوذ من الكيف وهو الهيئة، والمقصود: إثبات كيفية معينة للصفات أو السؤال عنها بكيف. التمثيل: هو التسوية والمشابهة بين الخالق والمخلوق. التحريف: ويراد به التغيير والإمالة لكلام الله لفظاً ومعنى. التعطيل: هو جحد ما وصف الله به نفسه من الصفات وإنكار قيامها بذاته وتجريده من صفات الكمال. الإلحاد: وهو مأخوذ من اللحد وهو الميل: والمراد به هنا: الميل عن الحق في باب الأسماء والصفات. التنزيه: عبارة عن تبعيد الرب عن مشابهة البشر، التنزيه لغة: هو: التباعد والترفع عن النقائص، وقال الأزهري: تنزيه الله: تبعيده وتقديسه عن الأنداد والأشباه1، وليس في إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة تشبيه. التشبيه: من اعتقد أن صفات الله من جنس صفات المخلوقين فالمثبت لصفات الكمال ليس مشبهاً ولا مجسماً. عناصر الموضوع: 1 ـ موضوع الأصل الأول: موضوع الأصل الأول هو في الصفات نفياً أو إثباتاً فيثبت لله تعالى ما أثبت لنفسه وينفي ما نفاه عن نفسه.   1 لسان العرب (13/548) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 2 ـ الصلة بين الأصل الأول وما سبق: تقدم أن موضوع الرسالة التدمرية هو الكلام في أصلين عظيمين. الأول: التوحيد والصفات. الثاني: القدر والشرع. فشرع شيخ الإسلام في بيان الأصل الأول تأصيلاً وتفصيلاً، وسيتكلم في توحيد الأسماء والصفات دون الربوبية لأمرين: الأول: لأن الأسماء والصفات متضمن للربوبية. الثاني: لكثرة الخلاف في الأسماء والصفات دون الربوبية. فنبدأ بذكر القاعدة الأصلية في هذا الباب، وهي أن يوصف الله بما وصف نفسه نفياً وإثباتاً، فيثبت ما أثبته الله لنفسه لقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وينفي ما نفاه عن نفسه لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . الأدلة التي نثبت بها أسماء الله وصفاته هي كتاب الله وسنة رسوله، فلا نثبتُ أسماء الله وصفاته بغير دليل، ودليل ذلك السمع والعقل. فأما السمع: فقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155] ، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [لأعراف: 158] . والدليل العقلي: من المعلوم أن تفصيل القول فيما يمتنع أو يجب أو يجوز في حق الله من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، يجب الرجوع فيها إلى ما جاء في الكتاب والسنة، قال ابن قتيبة: "فنحن نقول كما قال تعالى، وكما قال رسوله ولا نتجاهل. ولا يحملنا ما نحن فيه من نفي التشبيه على أن ننكر ما وصف به نفسه، ولكنّا نقول: كيف والله وضع عنا أن نفكر كيف كان؟، وكيف قدر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وكيف خلق؟ ولم يكلفنا ما لم يجعله في تركيبنا ووسعنا"1. ونقتصر على جملة ما قاله الله ورسوله في الكتاب والسنة ونمسك عما لم يرد فيهما. 3 ـ على ما يدور الأصل الأول: مدار الأصل الأول على مسألتين: 1 ـ تقرير مذهب السلف في باب الصفات. 2 ـ الرد على المنحرفين في هذا الباب. 4 ـ على من يرد شيخ الإسلام بالأصل الأول: يرد شيخ الإسلام بهذا الأصل على طائفتين: • الأولى: الغلاة في الإثبات، وهم الذين غلوا في إثبات الأسماء والصفات بدون التنزيه حتى مثلوها بصفات المخلوقين. • الثانية: الغلاة في التنزيه بدون إثبات ما أثبته الله من صفات، حتى أدى بهم تنزيههم إلى أن يكون إلهاً معدوماً وهم المعطلة. 5 ـ طريقة السلف في باب الأسماء والصفات: طريقة السلف في باب الأسماء والصفات أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل كما جمع الله تعالى بينهما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} نفي متضمن لكمال صفاته مبطل لمنهج أهل التمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إثبات لأسمائه وصفاته وإبطال لمنهج أهل التحريف التعطيل، فنثبت ما أثبته الله   1 انظر: عقيدة الإمام ابن قتيبة (ص134) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 لنفسه وننفي ما نفى الله عن نفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكيف ولا تمثيل. 6 ـ الأدلة على صحة طريقة السلف: منهج السلف وطريقتهم في باب الصفات منهج سليم مبنيٌّ على العلم والحكمة والسداد في القول والاعتقاد؛ لأنه مأخوذ من أدلة الشرع المؤيد بالعقل السليم الخالي من الشبهات، وسأذكر دليلين، أحدهما أثري سمعي والآخر عقلي على صحة طريقة السلف. • أما الدليل الأثري السمعي فمنه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 18.] ، وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، وقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الاسراء: 36] . • أما النظري العقلي: فلأن القول في أسماء الله وصفاته من باب الخبر المحض الذي لا يمكن للعقل إدراك تفاصيله، فوجب الوقوف فيه على ما جاء به السمع. 7 ـ طريقة السلف في الإثبات: الإثبات عندهم إثبات بلا تشبيه وبيان ذلك في الآتي: أـ الإيمان والتسليم بما ورد من الأسماء والصفات: يجب الإيمان بالأسماء والصفات الثابتة بالكتاب والسنة دون تجاوزها بالنقص أو الزيادة. قال ابن خزيمة: "إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى نقلها الخلف عن السلف قرناً بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا على سبيل الصفات لله تعالى والمعرفة والإيمان به، والتسليم لما أخبر الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 تعالى في تنزيله ونبيه عليه الصلاة والسلام مع اجتناب التأويل والجحود، وترك التمثيل والتكييف"1. وقال أبو بكر الإسماعيلي: "اعلموا رحمني الله وإياكم أن مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة الإقرار بالله وكتبه ورسله، وقبول ما نطق به كتاب الله وصحت به الرواية عن رسول الله لا معدلٍ عما ورد به، ولا سبيل إلى رده إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة مضموناً لهم الهدى فيهما مشهوداً لهم بأن نبيهم عليه الصلاة والسلام يهدي إلى صراط مستقيم محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم، ويعتقدون أن الله مدعو بأسمائه الحسنى، موصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه ووصفه بها نبيه"2. فجميع نصوص الأسماء والصفات يمرُونَها صريحة على ظواهرها كما أتت، ويسلمون لما تقتضيه تلك الصفات من كمالات تليق بالله، من غير تحريف ولا تكييف لكل ما نص عليه كتاب الله وحديث رسول الله وجب الإيمان به، فمن أنكر فإنه يخشى عليه الكفر بعد ثبوت الحجة عليه كما قال الشافعي: "لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه لا يسع أحداً من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله القول بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل"3. ب ـ إن أسماء الله عز وجل وصفاته كلها عندهم توقيفية: فلا يطلقون على الله شيئاً منها إلا بإذن من الشرع، فما ورد من الشرع وجب إطلاقه، وما لم يرد به فلا يصح إطلاقه، قال عبد الرحمن بن قاسم العُنَقي: "لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن"4.   1 ذمّ التأويل لابن قدامة (ص14.) ، ضمن مجموع الرسائل الكمالية. 2 ذمّ التأويل لابن قدامة (ص139) ، ضمن مجموع الرسائل الكمالية. 3 ذم التأويل (ص143) . 4 أصول السنة لابن أبي زمنين (1/212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وقال الجزي: "قد اتفقت الأئمة على أن الصفات لا تؤخذ إلا توقيفاً، وكذلك شرحها لا يجوز إلا بتوقيف، ولا يجوز أن يوصف الله سبحانه إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام"1. وذلك لأن الإيمان بصفات الله وأسمائه من الإيمان بالغيب، ولا يمكن معرفة الغيب إلا عن طريق الرسل الذين يبلغون وحي الله. ج ـ إثباتهم للصفات إثبات وجود معلوم المعنى مجهول الكيفية: سُئل الإمام مالك عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى؟ قال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"2. فبيَّن أن الاستواء معلوم المعنى، مجهول الكيفية، وهكذا بقية الصفات، يقال فيها ما قيل في الاستواء. قال أبو سليمان الخطابي: "فإذا كان معلوماً أن إثبات البارئ سبحانه وتعالى، هو إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف"3. وقال الحافظ أبو القاسم التميمي: "وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات ... وعلى هذا مضى السلف كلهم"4. وقال السجزي: "إن الله تعالى إذا وصف نفسه هي معقولة عند العرب والخطاب ورد عليهم بما يتعارفون بينهم، ولم يبيّن سبحانه أنها بخلاف ما يعقلونه، ولا فسّرها النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير يخالف الظاهر فهي على ما يعقلونه"5.   1 كتاب الحرف والصوت (ص139) . 2 أخرجه الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص17ـ18) . 3 الأربعين في صفات رب العالمين (ص117) ، والعلو (ص173) كلاهما للذهبي. 4 الحجة في بيان المحجة (ص34) . 5 الحرف والصوت (ص183) وانظر أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة (ص288ـ29.) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقال السرخسي الحنفي: "وأهل السنة والجماعة أثبتوا ما هو الأصل المعلوم بالنص ـ أي بالآيات القطعية والدلالات اليقينية ـ وتوقفوا فيما هو المتشابه وهو الكيفية ولم يجوزوا الاشتغال بذلك"1. وقال البزدوي الحنفي: "إثبات الوجه واليد حق عندنا معلوم بأصله، متشابه بوصفه، ولا يجوز إبطال الأصل بالعجز عن إدراك الوصف بالكيف، وإنما ضلّت المعتزلة من هذا الوجه، فإنهم ردوا الأصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة"2. د ـ الإثبات عندهم يكون على وجه التفصيل: وهذه هي طريقة القرآن، فالإثبات للصفات في كتاب الله يكون مفصلاً، والنفي يكون مجملاً3. ومن شواهد الإثبات المفصل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22ـ24] . والمراد بالتفصيل: التعيين والتخصيص، وذلك بذكر الأسماء والصفات معينة منصوصاً عليها، لا مجملة في لفظ عام كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 18.] . هـ ـ صفات الله كلها كاملة عندهم: ما ورد في الكتاب والسنة وصفاً لله تعالى إنما هو عندهم من صفات الكمال الواجبة لله تعالى، ولو لم يتصف بها للزم النقص في حقه تعالى وتقدس. ومما يدل على ذلك أن الله تعالى ذكر أن الأصنام لا توصف   1 شرح الفقه الأكبر للقاري (ص6.) . 2 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار لعلي الدين البخاري (1/6ـ61) . 3 شرح العقيدة الطحاوية (ص53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 بالكلام ولا بالنطق ولا بالنفع ولا بالضر، وهذا دليل على عدم استحقاقها للعبادة. وإذا كان كذلك فهذه الصفات صفات كمال والفاقد لها لا يستحق أن يكون متصفاً بالألوهية. قال تعالى عمن عبد العجل من دونه: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148] ، وقال تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ*أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه: 88] . فالكمال المطلق الذي لا نقص فيه ثابت لله تعالى. وـ أسماء الله كلها حسنى عندهم: أسماء الله جميعها حسنى؛ لأنها دالة على صفات كمال عظيمة، ولو كانت أعلاماً محضة لم تكن حسنى1، لذلك أمر الله عباده أن يدعوه بها، لأنها وسيلة مقربة إليه يحبها ويحب من يحفظها ويتعبد بها2. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 18.] . فكل اسم من أسماء الله دال على جميع الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها، ودلالة الأسماء على الذات والصفة تكون بالمطابقة إذا فسرنا الاسم بجميع مدلوله وبالتضمن إذا فسرناه ببعض مدلوله، وبالالتزام إذا استدللنا به على غيره من الأسماء التي يتوقف عليها هذا الاسم، مثال ذلك: الرحمن: دلالته على الرحمة والذات دلالة مطابقة، وعلى أحدهما دلالة تضمّن؛ لأنها داخلة في الضمن، ودلالة الأسماء لا توجد   1 انظر: مجموع الفتاوى (3/8) . 2 انظر: تيسير كلام المنان (3/12.، 121، 5/145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الرحمة إلا بثبوتها كالحياة والعلم والقدرة ونحوها دلالة التزام1. فالمقصود أن أسماء الله أعلامٌ وأوصافٌ دالّة على معانيها، وكلها أوصاف مدح وثناء. 8 ـ طريقة السلف في التنزيه: التنزيه الذي دلّ عليه الكتاب والسنة وفهمه سلف الأمة هو تنزيه الله عن مشابهة الخلق بلا تعطيل، لما أثبت الله لنفسه، وأثبت له رسوله عليه الصلاة والسلام، وليس نفي الصفات الثابتة في الكتاب والسنة من التنزيه في شيء، بل هو عين التنقص. وأهل السنة ينفون ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله عليه الصلاة والسلام مع اعتقادهم ثبوت كمال ضده، ولا يتعرضون لصفات الكمال ونعوت الجلال بنفي ولا تحريف. وإثبات الصفات الثابتة في الكتاب والسنة ليس من التشبيه في شيء، بل التشبيه في نفي الصفات لا في إثباتها. والتنزيه عند السلف بُني على أصول هي: أـ تنزيه الله تعالى عن النقائص والعيوب مع إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة إثباتاً بلا تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، فينُزَّه الله عن كل ما يوجب النقص أو العيب سواء كان متصلاً بالموت والعجز والسنة والنوم والذل والسَّفه والنسيان والغفلة والحاجة والتعب واللغوب، أو كان منفصلاً كالشريك والظهير والشفيع بدون إذنه والولد والوالد واتخاذ صاحبة والكفؤ والند والولي من الذل. ب ـ النفي عندهم مجمل: تقدم أن الإثبات عند السلف يكون إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته رسوله على وجه التفصيل من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، أما النفي فهو مجمل عندهم كما في القرآن الكريم،   1 انظر: بدائع الفوائد (1/162) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . والمراد بالإجمال: التعميم والإطلاق، والنفي المجمل: هو الذي لا يُتعرض فيه لنفي عيوب ونقائص معينة فقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} هو نفي مجمل؛ لأنه نفي للمماثلة في جميع الصفات، فلم يقل ليس كمثله شيء في علمه أو في قدرته أو في سمعه أو في بصره، وما ذكر من الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات إنما هو في الغالب، وإلا فإنه قد يأتي النفي مفصلاً كما يأتي الإثبات مجملاً، فالأول كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] ، وقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] ، والثاني كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 18.] ، وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] . ج ـ لا يصفون الله بالنفي المحض: ومع نفيهم عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه رسوله عليه الصلاة والسلام فهم يثبتون ضد الصفات المنفية كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] ، فهم يثبتون كمال عدله. وكقوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة} [سبأ: 3] ، فهم يثبتون كمال علمه. وكقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ: 38] ، فهم يثبتون كمال قدرته. وكقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] ، فهم يثبتون كمال حياته وقيُّوميته؛ لأن النفي الصرف لا مدح فيه ولا كمال لأنه عدم محض، العدم المحض ليس بشيء1.   1 شرح العقيدة الطحاوية (ص52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 9 ـ الجمع بين النفي والإثبات في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] : إن الله تعالى فيما وصف به نفسه في هذه الآية جمع بين النفي والإثبات، لأنه لا يتم كمال الموصوف إلا بنفي صفات النقص، وإثبات صفات الكمال، وكل الصفات التي نفاها الله عن نفسه فهي صفات نقص. فهذه الآية ونحوها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة من إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، فالله لا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في أسمائه، لا في ذاته لا في صفاته ولا في أفعاله، لأن أسماء الله كلها حسنى وصفاته صفات كمال وعظمة، وأفعاله سبحانه أوجد بها مخلوقاته العظيمة من غير مشارك، فليس كمثله شيء لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه. والآية فيها رد على الممثلة موافقة لظاهر الآية في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعلى المعطلة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وليس كافياً في هذا الباب مجرد نفي التشبيه بدون إثبات، أو مطلق الإثبات بدون تنزيه. 1. ـ الآيات التي ذكرها المؤلف الدالة على النفي المجمل1. والمراد بالإجمال: التعميم والإطلاق، والنفي المجمل لا يُتعرض فيه لنفي عيوب ونقائص معينة. الآيات الدالة على النفي المجمل الشاهد ووجهه 1ـ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] أي نظيراً يستحق مثل اسمه. فيها استفهام إنكاري وهو نفي مجمل. 2 ـ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص: 3ـ4] أي مكافئاً ومثيلاً. النفي المجمل في قوله: {َلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وما قبلها مفصل.   1التوضيحات الأثرية (ص4.) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الآيات الدالة على النفي المجمل الشاهد ووجهه 3 ـ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادا} [البقرة: 165] . الدلالة على نفي الأنداد من دلالة العبارة ولم يصرح بها لكنها مفهومة. 4 ـ {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22] والند هو الشبيه والنظير. النهي عن الأنداد متضمن لنفيها وهو مجمل. 5 ـ {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ*بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 1..ـ1.1] . فيها شواهد: 1 ـ نفي الشركاء بدلالة العبارة. 2 ـ سبحانه: تنزيه عن النقائص ففيه معنى النفي المجمل. 3 ـ تعالى: تقدس وتعاظم عن النقائص فهو متضمن للنفي المجمل بمفهومه. 6 ـ {َتبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً*الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْك} [الفرقان: 1ـ2] . فيهما شاهدان: 1 ـ تبارك: دوام وجوده وكثرة خيره ومجده وعلوه وعظمته وتقدسه، فهو متضمن لنفي النقائص بمفهومه. 2 ـ ولم يكن له شريك: نفي مجمل. 7 ـ {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} .. إلى قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّايَصِفُونَ} [الصافات: 148ـ182] . سبحان الله: تنزيه عن جميع النقائص. 8 ـ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 18.ـ182] . {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} كما سبق فيه نفي مجمل.11 ـ الآيات التي ذكرها المؤلف الدالة على الإثبات المفصل1. والمراد بالتفصيل: التعيين والتخصص، وذلك بذكر الأسماء والصفات معينة منصوص عليها.   1 المرجع السابق (ص41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الآيات الدالة على الإثبات المفصل الشاهد 1 ـ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة: 255] . 2 ـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ} [الاخلاص: 1ـ2] . الحي، القيوم، الأحد، الصمد. 3 ـ {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2] . 4 ـ {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] . العليم، الحكيم، القدير. 5 ـ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] 6 ـ {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [ابراهيم: 4] . السميع، البصير، العزيز. 7 ـ {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 1.7] . 8 ـ {وَهوالْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14ـ16] . الغفور، الرحيم، الودود. 9 ـ {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ*فعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 15ـ16] المجيد، الفعال لما يريد. 1. ـ هو الأول وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] . الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، العليم. 11 {ـ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] . الخالق، استوى على العرش، العليم، وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير. 12 ـ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] . إثبات السخط. 13 ـ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] إثبات صفة المحبة لله. 14 ـ {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8] . إثبات صفة الرضا. 15 ـ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] . إثبات صفة الغضب. 16 ـ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 1.] . إثبات صفة المقت وهي شدة الكراهية. 17 ـ {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 21.] . إثبات إتيان الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 18 ـ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا} [فصلت: 11] . ملاحظة: الاستواء هنا بمعنى القصد لأنه لم يتعد بعلى وإنما تعدى بإلى على الراجح مع إثبات العلو. إثبات القول والكلام لله تعالى 19 ـ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] . 2. ـ {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] . 1 ـ إثبات صفة الكلام لله 2 ـ إثبات المناداة والمناجاة 21 ـ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] إثبات المناداة والقول 22 ـ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس: 82] إثبات الإرادة، الكلام 23 ـ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22ـ24] . الله عالم الغيب والشهادة، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، الباريء، المصور، العزيز، الحكيم. 12 ـ النفي قد يأتي مفصلاً والإثبات مجملاً في القرآن: ما ذكر من الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات إنما هو في الغالب والأمانة، وقد يأتي النفي مفصلاً كما قد يأتي الإثبات مجملاً لأسباب تعرف عن طريق معرفة أسباب نزول الآية، كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] ، وقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] ، والثاني كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [لأعراف: 18.] ، وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 13 ـ الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات التي نفاها عن نفسه: الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات التي نفاها عن نفسه؛ وذلك لأن الصفات الثبوتية التي وصف الله بها نفسه صفات كمال؛ لأنه كلما كثر الأخبار عنها وتنوعت دلالاتها ظهر من كمال الموصوف بها وعلم مالم يكن من الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه فكلها صفات نقص لا تليق بالله تعالى، والغالب فيها الإجمال؛ لأن ذلك أبلغ في تعظيم الموصوف وأكمل في التنزيه. 14 ـ الكمال ثابت لله تعالى بمقتضى الأدلة النقلية والعقلية: الكمال المطلق ثابت لله تعالى، دلّ على ذلك الأدلة النقلية والعقلية، فدلالة القرآن على مسائل الاعتقاد، ومنها الدلالة على إثبات الكمال لله تعالى نوعان: أـ خبر الله الصادق: فالله أعلم بما يستحقه من صفات الكمال من غيره، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم أعلم بصفات ربه من غيره؛ فوجب إثبات صفات الكمال لله تعالى الواردة في الكتاب والسنة. ب ـ دلالة القرآن: فثبوت معنى الكمال قد دلّ عليه القرآن كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 6.] . فالمثل الأعلى هو المتضمن لإثبات الكمالات لله وحده1. 15 ـ ثبوت الكمال لله تعالى مستقر في الفطر السليمة: فإن معنى الكمال لله تعالى مستقر في فطر الناس، فالناس مفطورون   1 الصواعق المرسلة (3/1.3.) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 عليه كفطرتهم على الإقرار لخالقهم، فإنهم كذلك مفطورون على أنه تعالى أعظم وأجلّ وأكبر وأعلم وأكمل من كل شيء1. 16 ـ ما يقدح في توحيد الأسماء والصفات عند السلف: يقدح في هذا التوحيد خمسة أمور كلها من ضروب الإلحاد في أسمائه الذي ذمه الله وأهله في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] . وهذه القوادح هي: التشبيه والتعطيل، وتسميته ووصفه بما لا يليق به. قال ابن القيم: " الإلحاد في أسماء الله أنواع: أحدهما: أن يسمي الأصنام بها كتسمية اللات من الإله، والعزى من العزيز تسميتهم الصنم إلهاً. الثاني: تسميه بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أباً، وتسميته الفلاسفة له موجباً بذاته أو علة فاعلة. ثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود: إنه فقير، وقولهم: إنه استراح بعد أن خَلَقَ خلقه، ولقولهم: يد الله مغلولة، وأمثال ذلك. رابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني. خامسها: تشبيه صفاته بصفات المخلوقين تعالى عما يقول المشبهة علواً كبيراً2.   1 مجموع الفتاوى (6/72) . 2 بدائع الفوائد (1/169ـ17.) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 cc17 ـ الأسئلة والأجوبة على مقدمة الأصل الأول: (التوحيد والصفات) : س1 ـ اذكر القاعدة العامة في باب الصفات. ج ـالقاعدة العامة في باب الصفات هي: (أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً) . فيثبت ما أثبته لنفسه كقوله سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وينفي ما نفاه عن نفسه كقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . س2 ـ ما خصائص طريقة السلف؟ ج ـ تتميز طريقة السلف عن غيرها بخصائص كثيرة منها: 1 ـ أنها مستمدة من الكتاب والسنة. 2 ـ أنها مؤيدة بالعقل والفطرة. 3 ـ أنها وسط بين الإفراط والتفريط والتمثيل والتعطيل، فالمشبهون أفرطوا في الإثبات وفرطوا في التنزيه، والمعطلة أفرطوا في التنزيه وفرطوا في الإثبات، فكانت طريقة السلف لبناً سائغاً بين دم التشبيه وفرث التعطيل. 4 ـ أنها أصح المذاهب وأسلمها من التناقض وأحكمها تأصيلاً واستدلالاً. 5 ـ أنها خلت من جميع المعاني الباطلة وهي التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل والإلحاد. س3 ـ ما هي أصول السلف في الإثبات والنفي؟ ج ـ أولاً ـ أصولهم في الإثبات ما يلي: 1 ـ أنه متلقى من الوحي. 2 ـ أنه إثبات بلا تمثيل. 3 ـ أن الكيف مجهول عندهم، وإن كان للصفات كيفية ولكنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 مجهولة، فإنهم قالوا: الكيف مجهول ولم يقولوا: إنه غير موجود. 4 ـ أن المعاني المثبتة كلها معلومة. 5 ـ أن الأصل في إثباتهم التفصيل كما في القرآن. 6 ـ إثبات الكمال المطلق لله. 7 ـ استخدام المثل الأعلى في حق الله. 8 ـ إثباتها على وجه الحسن والجمال (ولله الأسماء الحسنى) . ثانياً ـ أصولهم في النفي ما يلي: 1 ـ أن النفي متلقى من الوحي ضمناً أو تصريحاً. 2 ـ أن غالبه الإجمال على وفق النصوص. 3 ـ أن النفي متضمن لإثبات كمال الضد ففي قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] إثبات لكمال عدله، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} [فاطر: 44] إثبات لكمال قدرته. 4 ـ أنه يتضمن تنزيهاً بلا تعطيل. 5 ـ أن النفي منه متصل كنفي الجهل والعجز والنوم، ومنه ما هو منفصل كالولد والصاحبة والشريك. والمتصل نفي النقائص عن ذات الله، والمنفصل نفي ما يضاد كماله من الخارج. س4ـ اذكر منهج الرسل في صفات الله نفياً وإثباتاً؟ واشرح قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] ؟ ج ـ طريقة الرسل أنهم يثبتون لله الصفات على وجه التفصيل، وينفون عنه ما لا يصح له من التشبيه والتمثيل على وجه الإجمال على طريقة قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . * وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} قال أهل اللغة: هل تعلم له نظيراً يستحق مثل اسمه، وقال ابن عباس: هل تعلم له مثلاً أو شبيهاً، ويقال: مسامياً يساميه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 س5 ـ أوضح بالتفصيل مع ذكر السبب هل قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص: 3ـ4] في النفي المفصل أو المجمل؟ ج ـ إن طريقة القرآن التي جاءت بها الرسل واتبعها السلف هي الإثبات المفصل، أي المعين والمخصص في كل صفة كقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ، والنفي المجمل وهو العام المطلق كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وقد يأتي العكس قليلاً فيأتي الإثبات مجملاً كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} والنفي مفصلاً كقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ولكن الإجمال في النفي أبلغ في التعظيم لذلك فهو الأكثر، وإنما قد يأتي العكس قليلاً فيأتي الإثبات مجملاً والنفي مفصلاً لأسباب منها: 1 ـ نفي ما ادعاه الكاذبون في حقه تعالى كقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] وأمثاله. 2 ـ دفع توهم نقص في كماله كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ: 38] أي إعياء وتعب، ولأنه بعد خلقها قد يتوهم التعب فدفع ذلك. 3 ـ كون الصفة كمالاً عند المخلوق فيتوهم كمالها في حقه تعالى فينفيها كقوله تعالى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ، وكقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} من النفي المجمل. س6 ـ اذكر ثلاث آيات ثدل على إثبات مفصل ونفي مجمل، وبيّن وجه الاستشهاد فيها؟ ج ـ من الإثبات المفصل قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} ، وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ} ، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ومن النفي المجمل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 * وقد يأتي الإثبات مجملاً كقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} كما يأتي النفي مفصلاً كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} . للأسباب وقد ذكرناها في السؤال السابق. ووجه الاستشهاد فيها: أن هذه الطريقة هي التي جاءت بها الرسل واتبعها السلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 طريقة الزائغين عن سبيل الرسل وأتباعهم في أسماء الله وصفاته قال شيخ الإسلام: "وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة الباطنية ونحوهم فإنهم على ضد ذلك، فإنهم يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان، فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل‘ فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات. فغالبيتهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم بزعمهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيصين، وهذا ممتنع في بدائه العقول، وحرّفوا ما أنزل الله تعالى من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقعوا في شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات، وقد علم بالاضطرار أن الوجود لا بد له من موجد واجب بذاته غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما يمتنع وجوده فضلاً عن الوجوب أو الوجود أو القِدَم. وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والإضافات دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 صفات الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا فيما خرج عنه من الموجودات وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البديهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحداً للعلوم الضروريات. وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم فأثبتوا له الأسماء دون ما تضمنته من الصفات، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفة، ومنهم من قال: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات، والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها يصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات. وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه، مع ما يلزمهم من التحريفات والتعطيلات، ولو أمعنوا النظر لسوّوا بين المتماثلات، وفرّقوا بين المختلفات كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أن ما أنزل الله إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات". معاني الكلمات: زاغ: الزيغ هو الميل عن الحق إلى الباطل. سبيلهم: أي طريقتهم. الكفار: كلمة جامعة تشمل كل من لم يسلم، وزيغهم في هذا الباب هو كفرهم بالرحمن كما قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الرعد: 3.] . المشركون: الشرك هو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، وزيغهم في هذا الباب وقوعهم في التمثيل كما قال تعالى: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] والشرك من أعظم أنواع التمثيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أوتوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، وزيغ اليهود وقوعهم في التعطيل، وزيغ النصارى وقوعهم في التشبيه. الصابئة: من الصبوة، يقال: صبا الرجل إذا مال وخالف دين آبائه، وقيل: غير ذلك، والصابئة نوعان: حنفاء موحدون، ومشركون، وزيغهم في هذا الباب وقوعهم في التمثيل. المتفلسفة: أصل الفلسفة بلسان اليونان هي محبة الحكمة وسيأتي بيان زيغهم في باب الصفات. الجهمية: أتباع الجهم بن صفوان، وأطلق السلف هذا اللقب على كل من عطل الصفات أو بعضها. القرامطة الباطنية: نسبة إلى حمدان قرمط، وسموا بالباطنية لزعمهم أن للنصوص ظاهراً عند العامة وباطناً عند الخاصة. السلبية: أي المنفية عن الله نفياً لايتضمن إثبات كمال الضد. وجوداً مطلقاً: هو الوجود العام الكلي، الذي يصدق على كثيرين في الذهن. الأعيان: أي عالم المشاهدة. غاية التعطيل: قولهم يؤدي إلى نفي وجود ذات الله تعالى. غاية التمثيل: لأنهم إذا نفوا وجوده شبهوه بالمعدومات، وإذا نفوا وجوده وعدمه شبهوه بالممتنعات، لأن نفي الوجود والعدم ممتنع وإذا نفوا بعض الصفات شبهوه بالجمادات. عناصر الموضوع: مذاهب الناس في الأسماء والصفات: الناس في باب الأسماء والصفات على ثلاثة أصناف: • الصنف الأول ـ المؤمنون الموحدون: هم الذين يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 والسلام من صفات الكمال على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته، من غير تمثيل ولا تشبيه، ومن غير تحريف ولا تعطيل لشيء من أوصاف الله1. قال الصابوني: "إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جلّ جلاله منها ما أثبتها لنفسه في كتابه وفي لسان رسوله عليه الصلاة والسلام لا يعتقدون فيها تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه ولا يحرفون كلاماً عن مواضعه، وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتكييف والتشبيه، ومنَّ عليهم بالتعريف والتفهيم، حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه واتبعوا قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] 2. • الصنف الثاني ـ المشبهة: وهم الذين يشيهون صفات الله بصفات المخلوقين، كقول بعضهم: لله سمع كسمعي، وبصر كبصري، قال إسحاق بن راهويه: "إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا هو التشبيه"3. وقال ابن تيمية: "من قال: علم كعلمي، أو قوة كقوتي أو حب كحبي، أو رضاء كرضائي، أو يدان كيدي، أو استواء كاستوائي كان مشبهاً ممثلاً لله بالحيوانات"4. ومن التشبيه التعرض التعرض لكيفية صفات الرب وحقيقتها التي لايعلمها إلا الله5.   1 انظر: كتاب الحق الواضح المبين (ص12) ـ ط. السلفية، وص2.، ط دار ابن القيم. 2 اعتقاد السلف أصحاب الحديث (ص3ـ4) . 3 جامع الترمذي (3/5.،51) . 4 مجموع الفتاوى (3/16) . 5 انظر مقدمة كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص4) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قال ابن القيم: عن إلحاد المشبهة: "فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم إلحاد وتفرقت بهم طرقه"1. • الصنف الثالث ـ المعطلة: وهم الذين عطّلوا الرب عما يجب أن يثبت له من الأسماء والصفات. والتعطيل على ثلاث مراتب: 1 ـ وصف الله بسلب النقيضين، هو مذهب غلاة المعطلة، فإنهم يقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، لأننا لو وصفناه بالإثبات لشبهناه بالمخلوقات، ولو شبهناه بالنفي لشبهناه بالمعدومات. 2 ـ وصف الله بالسلب والإضافة دون صفات الإثبات وهو مذهب المعطلة من الفلاسفة والجهمية، وهؤلاء كلهم ينفون الأسماء والصفات. 3 ـ إثبات الأسماء دون الصفات وهو مذهب المعتزلة ومن تبعهم2. والمعطلة قسمان: أهل تأويل وأهل تجهيل: أما أهل التأويل: فهم الذين يصرفون معاني نصوص الكتاب والسنة عن معانيها الظاهرة بغير حجة، وهذا التحريف بعينه3. وأما أهل التجهيل: فهم الذين ينُكرون معاني الأسماء والصفات ويثبتون ألفاظاً لا معاني لها4. 2 ـ وجه مفارقة المعطلة بطريقة الرسل في الصفات: المعطلة فارقت طريقة الرسل من وجوه: 1 ـ أن المعطلة لا يصفون الله إلا بالصفات السلبية التي لا تتضمن إثبات   1 بدائع الفوائد (1/17.) . 2 مجموع الفتاوى (3/7ـ8) بتصرف. 3 درء تعارض العقل والنقل (1/8،9) . 4 مختصر الصواعق (ص54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 كمال الضد بل هي نفي محض، وأما طريقة الرسل وصف الله بصفات الإثبات، وإما النفي فهو إثبات كمال الضد. 2 ـ أن المعطلة يفصلون في النفي ولا يجملون، بينما طريقة الرسل: الإجمال في النفي ولا يأتي التفصيل إلا لأسباب. 3 ـ المعطلة لا يثبتون إلا وجوداً لله مطلقاً وهو الوجود العام الكلي الذي يكون في الذهن. 4 ـ أن المعطلة ينفون عنها ما لم ينفه الله عن نفسه، بينما طريقة الرسل ما لم يرد الشرع بنفيه وسكت عنه فإنهم يسكتون عنه. 3 ـ المعطلة يستخدمون القياس العقلي في صفات الله: المعطلة يقيسون الخالق بما يُقاس به المخلوق، فلم يفهموا من نصوص الصفات الشرعية إلا ما يليق بالمخلوقين، وهذا خلاف ما فطر الله عليه العباد من أنه ليس كمثله شيء. فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في القياس سواء كان قياساً تمثيلياً ففيه تسوية بين المقيس والمقيس عليه، فهو يستلزم التمثيل بين الله وبين خلقه، وهذا ما يسمى بالقياس بين الغائب والشاهد. وكذلك لا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس شمولي وهو القياس المنطقي بحيث تستوي الأفراد في كلٍ يشملها وهذا ممتنع على الله؛ لأن فيه تمثيل الله بمخلوقاته، ولكن يستعمل في حقه قياس الأولى أو القياس الأولوي، وهو المثل الأعلى، وهو ما جاءت به الأدلة الشرعية قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] ، ومضمونه أن كل من اتصف به المخلوقين من صفات الكمال وصح أن يتصف به الخلق فالخالق أولى به، وكل ما يُنزه عنه المخلوق من نقص، فالخالق أولى بالتنزيه عنه. 4 ـ المعطلة يقولون بتأويل الصفات الذي هو التحريف المعطلة لا يثبتون الصفات الواردة في الكتاب والسنة وإنما يتأولون النصوص الدالة عليها على خلاف ظاهرها، والقول بالتأويل يعتبر محاولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 لتكييف الصفة على نحو ما غير ظاهره بينما كان منهج القرآن والسنة هو إثبات وجود الصفة كما وردت لا إثبات كيفيتها؛ لأن الكيف هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، فترك الوحي واتباع الرأي والتأويلات الفاسدة، عزل للكتاب والسنة كمصدرين للهداية في واقع الحياة، وليس بعد الهداية إلا الغواية قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلال} [يونس: 32] . 5 ـ الأصول التي بنى عليها المعطلة قولهم بالتأويل: إن للمعطلة أصولاً كثيرة بنوا عليها بالقول بالتأويل، وسأذكر بعض هذه الأصول وهي كالتالي: 1 ـ معارضة نصوص الوحي بالعقول وإخضاعها للآراء البشرية، فقدموا العقل على النقل. 2 ـ القول بالمجاز في نصوص الشرع، والمجاز هو خلاف الحقيقة عندهم، فنصوص الصفات على خلاف ظاهرها إذ لا يعرف هذا القول إلا بعد القرن الثاني، وهو لفظ جهمي اعتزالي. 3 ـ قولهم بأن نصوص الشرع أدلة نقلية لا تفيد اليقين، وهذا قول مبتدع لا يعرف أحد من المتكلمين سبق الرازي إليه، ومقصودهم رد خبر السنة الصحيحة إذا خالفت عقولهم. 6 ـ لوازم القول بالتأويل البدعي: اعلم أن القول بالتأويل البدعي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره بدعوى أنه ليس مراداً؛ يلزم عليه لوازم باطلة منها على سبيل المثال لا الحصر: 1 ـ أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد ترك الناس في ذلك بدون بيان للحق الواجب سلوكه، ولم يهد الأمة بل رمز إليه رمزاً أو لغز ألغازاً، ومعلوم أنه ليس في الرموز والألغاز بيان. 2 ـ أن يكون الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد تكلّم في هذا الباب ـ باب الصفات ـ بما ظاهره خلاف الحق، ولم يتكلم في ذلك كلمة واحدة توافق مذهب الخلف المتكلمين من النفاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 3 ـ الطعن في القرآن الذي هو تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وقول فصل ليس بالهزل، وأن من قال به فقد هُديَ إلى صراط مستقيم، وأين الهداية إذا كان ما يقوله المتأولون حقاً؟! 4 ـ الطعن في وظيفة الرسول التي هي البلاغ، والله وصفه بأنه قد بلغ البلاغ المبين، وقد نزل قوله تعالى قبل وفاته: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} [المائدة: الآية3) ، فإن كان حقاً ما ذهب إليه المتأولون، فأين كمال الدين وتمام النعمة؟! بل أين البلاغ المبين وأين الهدى والبيان؟! هذا وقد وقف شيخ الإسلام في وجه أولئك الذين سمّاهم بأهل التحرف والتبديل وقفة مسلم يَغَارُ على دينه، فمن المحال أن يكون الرسول قد ترك الناس في هذا الأمر الأهم بلا بيان لما يجب اعتقاده، حتى يأتي أمثال الخلف والعقول القاصرة من المتكلمين ليبينوا للناس ما أنزل إليهم من ربهم. ومحال أن يكون الرسول قد استعمل في خطابه ألفاظاً لا يفيد ظاهرها إلا الإلحاد والضلال والتشبيه. ومحال على من أرسله الله هادياً وممبيناً أن يستعمل في خطابه رموزاً وطلاسماً لا يفهمها المخاطب، فاللهم ثبّتنا على صرطك المستقيم. 7 ـ المعطلة يقولون بالتفويض إذا تعذر عندهم التأويل: المعطلة إذا تعذر عندهم التأويل يقولون بالتفويض، وهو إمرار النصوص على ظاهرها من غير اعتقاد لها قال صاحب الجوهرة: وكلّ نصٍّ أوهم التشبيها أوِّله أو فوِّض ورُمْ تنزي وهذا المسلك وهو التفويض قال عنه شيخ الإسلام إنه من شر أقوال أهل البدع والإلحاد فالصفات عندهم غير معروفة المعنى بمنزلة الكلام الذي لا معنى له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 8 ـ اللوازم التي تستلزم طريقة المعطلة في الصفات: قول المعطلة في الصفات يستلزم منه لازمين كلٌّ بحسب مدى تعطيله: الأول: أن طريقتهم تؤدي إلى الوقوع في غاية التعطيل؛ إذ يلزم من قولهم نفي وجود الله فقد شبهوه بالمعدومات. وإذا نفوا وجود الله وعدمه معاً شبهوه بالممتنعات، وإذا نفوا بعض الصفات شبهوه بالجمادات. 9 ـ المحاذير التي وقعت فيها المعطلة: كل طائفة من طوائف المعطلة واقعون في محاذير لا ينفكون عنها: الأول: مخالفتهم لطريقة السلف. الثاني: تعطيل النصوص المراد بها. الثالث: تحريف النصوص إلى معاني غير مرادة بها. الرابع: تعطيل الله عن صفات الكمال التي تضمنتها هذه النصوص. الخامس: تناقض طريقة المعطلة فيما أثبتوه وفيما نفوه. 1. ـ المعطلة يفرون من شيء فيقعون في نظيره أو أشر منه: المعطلة تفرُّ من شيء فتقع في نظيره أو أشر منه، مع ما يلزمهم من التحريف للنصوص الشرعية، ولو أمعنوا النظر والفكر لخرجوا بنتائج عقلية صحيحة وهي: أـ التسوية بين الأسماء والصفات والذات من حيث الإثبات فإنها من باب واحد من حيث دلالة النصوص عليها. ب ـ التفريق بين المختلفات وهي ما يليق بالله من الغنى والكمال المطلق، فإنه يفارق تماماً ما يتصف به المخلوق من الحدوث والافتقار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 والنقص مما يجعل صفات الله لائقة باقتداره، وصفات المخلوق مناسبة لافتقاره. ج ـ السير على طريقة أهل العلم أتباع الرسل من السلف وأتباعهم الذين يعتقدون جازمين أن ما جاءت به الرسل فيه كفاية للعالمين كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم"1. 11 ـ المعطلة يجمعون بين التمويه والتحريف: المعطلة يجمعون بين التمويه والتحريف والخداع والمغالطة في الأمور العقلية الثابتة؛ لجحدهم معاني نصوص الصفات أو بعضها، وموهوا مع علمهم بما دلت عليه من الباطل، لذا حرفوا نصوص الصفات، فقرمطوا في النقليات وسفسطوا في العقليات، ووجه قرمطتهم: أنهم جعلوا للنص معنى باطناً يخالف معناه الظاهر. 12 ـ مذهب الباطنية في الصفات وشبهتهم والرد عليها: أـ مذهبهم في الصفات: أنهم أنكروا في حق الله تعالى الإثبات والنفي، فنفوا عنه الوجود والعدم والحياة والموت، وقالوا: إنه لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت. ب ـ وشبهتهم: أنهم اعتقدوا أنهم إنْ وصفوا الله بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإن وصفوا بالنفي شبهوه بالمعدومات. • الرد عليهم من وجوه: 1 ـ أن تسمية الله ووصفه بما سمَّى ووصف به نفسه ليس تشبيهاً، ولا يستلزم التشبيه، فإن الاشتراك في الاسم والصفة لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات، وتسميتكم ذلك تشبيهاً ليس إلا تمويهٌ وتلبيسٌ على العامة والجهال، ولو قبلنا مثل هذه الدعوى الباطلة لأمكن كل مبطل أن يسمي الحق بأسماء ينفر بها الناس عن قبوله.   1 رواه الدارمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 2 ـ أن إنكارهم الإثبات والنفي يستلزم نفي النقيضين معاً وهذا ممتنع؛ لأن النقيضين لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، بل لا بد من وجود أحدهما وحده فيلزم على قياس قولهم تشبيه الله بالممتنعات، لأنه يمتنع أن يكون الشيء لا موجوداً ولا معدوماً إلا أمراً يقدره الذهن ولا حقيقة له ووصف الله بهذا كفر صريح بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. 13 ـ مذهب غلاة الجهمية والقرامطة ومن تبعهم في الصفات وشبهتهم والرد عليهم: أـ مذهبهم في الصفات أنهم ينكرون الأسماء والصفات ولا يصفون الله تعالى إلا بالنفي المجرد عن الإثبات، ويقولون: هذا الموجود المطلق بشرط الإطلاق، أي أنه مطلق عن أي صفة ثبوتية؛ لأن الصفة تقيد الموصوف. ب ـ وشبهتهم: أنهم اعتقدوا أن إثبات الأسماء والصفات يستلزم التشبيه والتعدد. ج ـ الرد عليهم: 1 ـ أن الله تعالى جمع فيما سمى ووصف به نفسه بين النفي والإثبات، فمن أقر بالنفي وأنكر الإثبات، فقد آمن ببعض الكتاب دون البعض، والكفر ببعض الكتاب كفر بالكتاب كله. 2 ـ أن الوجود المطلق بشرط الإطلاق لا ودود له في الخارج المحسوس وإنما هو أمر يفرضه الذهن ولا وجود له في الحقيقة؛ وتكون حقيقة القول به نفي وجود الله تعالى إلا في الذهن، وهذا غاية التعطيل والكفر. 3 ـ أنه لا يلزم من تعدد الصفات تعدد الموصوف كما أن المشاركة في الاسم أو الصفة لا تستلزم تماثل المسميات والموصوفات. 4 ـ قولهم: إن الصفة عين الموصوف، وإن كل صفة عين الصفة الأخرى؛ مكابرة في المعقولات وسفسطة في البديهيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 14 ـ مذهب المعتزلة ومن تبعهم في الصفات وشبهتهم والرد عليهم: مذهبهم أنهم يثبتون لله تعالى الأسماء دون الصفات، ويجعلون الأسماء أعلاماً محضة، ثم منهم من يقول إنها مترادفة، فالعليم والقدير والسميع شيء واحد، ومنهم من يقول: إنها متباينة، ولكنه عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وسميع بلا سمع ونحو ذلك. * وشبهتهم: إنهم اعتقدوا أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه. • الرد عليهم: 1 ـ إما أن تثبتوا الأسماء والصفات جميعاً، فتوافقوا السلف، وإما أن تنفوا الجميع فتوافقوا غلاة الجهمية والباطنية، وإما أن تفرقوا بين الأسماء والصفات فتقعوا في التناقض. 2 ـ لو كانت أسماء الله أعلاماً محضة لكانت غير دالة على معنى سوي تعيين المسمى فضلاً عن أن تكون حسنى ووسيلة في الدعاء. 3 ـ أن من لا يتصف بصفات الكمال لا يصلح أن يكون ربّاً ولا إلهاً، إذ إن كل موجود لا بد له من صفة، ولا يمكن وجود ذات مجردة عن الصفات، وحينئذٍ لا بد أن يكون الخالق الواجب الوجود متصفاً بالصفات اللائقة به. 4 ـ أن القول بأن الله تعالى عليم بلا علم، وسميع بلا سمع؛ قول باطل مخالف لمقتضى اللسان العربي وغير العربي؛ إذ من المعلوم أن المشتق دال على المعنى المشتق منه وإنه لا يمكن أن يقال عليم لمن لا علم له.. وهكذا. 15 ـ مذهب الأشاعرة والماتريدية في الصفات وشبهتهم والرد عليهم: مذهبهم: أنهم أثبتوا لله الأسماء وبعض الصفات، ونفوا حقائق أكثرها، وردوا ما يمكن رده من النصوص إما بالتفويض أو بالتأويل الذي هو التحريف، فأثبتوا لله من الصفات سبع صفات: الحياة والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر. * وشبهتهم: أن العقل قد دل على ذلك فإن إيجاد المخلوقات يدل على القدرة وتخصيص بعضها بما يختص بها يدل على الإرادة، وإحكامها يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 على العلم، وهذه الصفات: القدرة والإرادة والعلم، تدل على الحياة، والحي إما أن يتصف بالكلام والسمع والبصر وهذه صفات كمال، أو بضدها وهو الخرس والصمم والعمى وهذه صفات نقص ممتنعة على الله، فوجب ثبوت الكلام والسمع والبصر. • الرد عليهم: 1 ـ أن الرجوع إلى العقل في هذا الباب مخالف لما كان عليه السلف الصالح. 2 ـ أن الرجوع إلى العقل في هذا الباب مخالف للعقل، لأن هذا الباب من الأمور الغيبية التي ليس للعقل فيها مجال. 3 ـ أنهم إذا صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معنى زعموا أن العقل يوجبه، فإنه يلزمهم في هذا المعنى نظير ما يلزمهم في المعنى الذي نفوه مع ارتكابهم تحريف الكتاب والسنة. 4 ـ أن الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات. 5 ـ إن كان إثبات الصفات يستلزم التشبيه، فإن ما أثبتوه يستلزم التشبيه أيضاً. فإن منعتم ذلك لزمكم منعه فيما نفيتموه إذ لا فرق، وحينئذٍ إما أن تقولوا بالإثبات في الجميع فتوافقوا السلف، وإما أن تقولوا بالنفي في الجميع فتوافقوا المعتزلة ومن ضاهاهم، وأما التفريق فتناقض ظاهر. 16 ـ الأسئلة والأجوبة على ما تقدم: س1 ـ اذكر بعض الزائغين في هذا الباب مع التعريف بهم وبمذهبهم؟ ج ـ من الطوائف الزائغة في هذا الباب ما يلي: 1 ـ الكفار: كلمة جامعة تشمل كل من لم يسلم، كالمشركين وأهل الكتاب والمجوس وغيرهم، ولكن لما عطف المؤلف بعض هذه الطوائف على الكفار دلّ على المغايرة، فيكون معنى الكفر هنا: التكذيب بالله ورسله والاستكبار عنهم وإنكار اليوم الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 * ومذهبهم في هذا الباب: هو كفرهم بالرحمن كما قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 3.] . 2 ـ المشركون: الشرك مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله. * ومذهبهم في هذا الباب: هو وقوعهم في التمثيل في الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات كما قال تعالى عنهم: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] . وإن كان الشرك أعظم أنواع التمثيل. 3 ـ أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى. * ومذهب اليهود في هذا الباب: هو وقوعهم في التعطيل. * ومذهب النصارى في هذا الباب: هو وقوعهم في التشبيه. 4 ـ الصابئة: من الصبوة، يقال: صبا الرجل إذا مال. قال شيخ الإسلام وغيره: الصابئة نوعان: أـ صابئة حنفاء موحدون. ب ـ صابئة مشركون. * مذهبهم في هذا الباب: هو التمثيل. 5 ـ المتفلسفة: أصل الفلسفة بلسان اليونان هي محب الحكمة، ويقصد بالمتفلسفة من دخلوا في الفلسفة من أهل الإسلام لأن الفلاسة قسمان: دهريون ملحدون، وإلهيون وهم المقصودون كالفارابي وابن سينا، وكل من حاول الجمع بين الفلسفة والشرع فهو متفلسف. * مذهبهم: 1 ـ أنهم وصفوا الله بالسلوب والإضافات، والسلوب أي الصفات السلبية وهي الصفة التي تدل على النفي المحض دون الدلالة على معنى قائم به. كقولهم: (موجود) أي مسلوب عنه العدم، وقولهم: (واحد) أي مسلوب عنه القسمة والشركة. والإضافات: هي الصفات الإضافية وهي صفات اعتبارية لا وجود لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 في الخارج لا تعقل إلا بتعقل ما يقابلها، كالأولية باعتبار أن المخلوقات حادثة. 2 ـ أنهم جعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق؛ أي الوجود الكلي المجرد عن الإضافة الذي يتصوره الزمن، لكنهم يقولون: بشرط الإطلاق أي بشرط أن لا يقيد بشيء فيزيدونه امتناعاً. 3 ـ وجعلوا الصفة الثبوتية هي عين الموصوف أي لا تدل على معنى زائد عن الذات فهي من جنس الأعلام المحضة، فالعلم ـ أي صفة العلم ـ عندهم هو عين العالم ليس معنى زائداً عن ذات الله تعالى. 6 ـ الجهمية: هم أتباع جهم بن صفوان السمرقندي الضال الذي أخذ مقالته في التعطيل عن الجعد بن درهم وأخذها الجعد عن أبان بن سمعان عن طالوت عن لبيد الساحر اليهودي. * ومذهبهم: أنهم ينفون الأسماء والصفات فيقولون: لا موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أي هي مجرد مجازات لا حقيقة لها. * شبهتهم: شبهتهم في ذلك أن الإثبات يستلزم التشبيه بالموجودات الحية العليمة القديرة. 7 ـ القرامطة الباطنية: نسبة إلى حمدان قرمط، وسموا بالباطنية لزعمهم أن للنصوص ظاهراً عند العامة وباطناً عند الخاصة، ولهم تحريفات شنيعة وانحرافات فظيعة ومن الباطنية الآن: الدروز، والنصيرية، والإسماعيلية، وغلاة الرافضة، وغلاة المتصوفة، ومنهم البَهَرة شيعة الهند الجامعين بين الرفض والتصوف والحلول والغلو، وهم طائفة من الإسماعيلية. * ومذهبهم: نفي النقيضين فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، والصحيح أن الحياة والموت والعلم والجهل نقيضان. شبهتهم: زعموا أن وصف الله تعالى بالإثبات تشبيه له بالموجودات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ووصفه بالنفي تشبيه له بالمعدومات، فلذلك رفعوا السلب والإيجاب أي النفي والإثبات. 8 ـ المعتزلة: هم أتباع واصل بن عطاء الغزال، وهو الذي اعتزل مجلس الحسن البصري في مسألة صاحب الكبيرة فقط فنسبت إليه الفرقة، وهذا أشهر ما قيل في ذلك. ثم تطور مذهبهم وافترقوا فرقاً كثيرة: منهم معتزلة الصرة كالجاحظ وواصل نفسه والنظَّام والجبائيين. ومنهم معتزلة بغداد كأحمد بن أبي دؤاد والكعبي وعبد الجبار. * وتجتمع أصولهم في خمسة نذكرها للفائدة وهي كما يلي: 1 ـ التوحيد: ويدخلون فيه نفي الصفات ويثبتون الأسماء فقط. 2 ـ العدل: ويدخل فيه نفي خلق العبد لفعله، ونفي القدر. 3 ـ والوعد والوعيد: ويريدون به تخليد مرتكب الكبيرة في النار. 4 ـ المنزلة بين المنزلتين: أي صاحب الكبيرة بين الإيمان والكفر في الدنيا وهي سبب اعتزال واصل بن عطاء الغزال لمجلس الحسن البصري رحمه الله. 5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ويدخلون فيه الخروج على ولاة الأمور. * مذهبهم: إثبات الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات. * شبهتهم: أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم. س2 ـ ما المقصود بمن زاغ عن طريق الرسل في صفات الله، وما مذهبهم في ذلك، وما الذي يستلزمه مذهبهم الباطل، ولماذا؟ ج ـ المراد بمن زاغ عن طريق الرسل هو من حاد عن طريقتهم وسبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب، ومن دخل في هؤلاء من الصابئين والفلاسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم. * ومذهبهم في الصفات ضد مذهب السلف يصفون الله بالصفات السلبية على وجه التفصيل فيقولون: ليس له وجه ولا يغضب ولا ينزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ونحو ذلك. ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان، ومعنى هذا أن سلب الصفات عن الله غايته ونهايته أن الله غير موجود أصلاً؛ لأن الموجود المطلوب وهو المجرد عن الصفات لا حقيقة له إلا في الأذهان ولا وجود له في الخارج لأن الذات لا بد لها من صفة وقد نفوا الصفة فانتفت الذات، وهذا مذهب باطل يستلزم التعطيل والتمثيل بالممتنعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات. س3 ـ ما المراد بالإلحاد؟ ج ـ الإلحاد: الإلحاد لغة: الميل، ومنه سمي الشق في جانب القبر لحداً؛ لأنه مائل عن وسط الحفرة. واصطلاحاً: الميل عن الحق والصراط المستقيم علماً وعملاً، وقد خصه المصنفون في الملل والمذاهب بالجحد للخالق، فإذا قالوا: ملحد أي منكر للخالق، والمعنى اللغوي أعم من ذلك. والمراد بالإلحاد في باب الأسماء والصفات ما يلي: • أولاً ـ الإلحاد في أسماء الله تعالى ويكون في عدة أشياء منها: 1 ـ تسمية المخلوق بها كما قال صلى الله عليه وسلم: "أخنع الأسماء عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الأملاك"1. 2 ـ تجريد الأسماء عن معانيها كما قالت المعتزلة: سميع بلا سمع، وعليم بلا علم. 3 ـ نفي أسماء الله وهو سبيل الجهمية ومن هذا قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 3.] . 4 ـ تسمية الله بما لم يسم به نفسه كتسمية النصارى له بالأب والفلاسفة بالعلة الفاعلة.   1 أخرجه مسلم (6/174) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 5 ـ الاشتقاق منها كتسمية المشركين لآلهتهم، فالعزى من العزيز، ومناة من المنان. • ثانياً ـ الإلحاد في صفات الله ويكون بأشياء منها: 1 ـ تحريف المعنى الظاهر. 2 ـ تفويض المعنى وإبطال دلا لته. 3 ـ تكييف الصفات. 4 ـ إثبات صفات مماثلة في حقائقها للمخلوقين. وانظر الإلحاد في آيات الله الكونية والشرعية في كتاب التوضيحات الأثرية على متن الرسالة التدمرية لأبي العالية المحسي ص34. س4 ـ عرّف المصطلحات الآتية: واجب الوجود، الممكن، المعدوم، الممتنع، النقيضان، الضدان، المتضايفان، الملكة والعدم. ج ـ واجب الوجود: هو الذي وجوده واجب وعدمه ممتنع وهو الله تعالى. والوجود: قسمان: واجب وممكن. أـ الوجود الواجب: هو ما لم يسبق بعدم ولا يلحقه فناء (ولا يفتقر إلى غيره في الإيجاد) وهو وجود الله تعالى. ب ـ الوجود الممكن: هو ما جاز عليه العدم (وافتقر إلى غيره في الإيجاد) وهو وجود المخلوقات جميعها. المعدوم: وهو قسمان: أـ المعدوم الممكن: وهو المعدوم الذي يجوز وجوده كغراب أخضر وبحر من زئبق وغيرها، فهي معدومة لكنه لا يستحيل وجودها. ب ـ المعدوم الممتنع: وهو المعدوم المستحيل وجوده كالجمع بين الضدين مثل: إنسان وجماد معاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ونوضح هذه المصطلحات في الشكل الآتي1: 1 ـ الوجود 2 ـ العدم واجب ممكن ممكن ممتنع (وهو الله تعالى) (المخلوقات) (بحر زئبق) (حي وميت معاً) النقيضان: وهو تقابل أمري أحدهما وجودي والآخر عدمي بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان بل يجب وجود أحدهما دون الآخر، مثل السلب والإيجاب. الضدان: وهو تقابل أمرين وجوديين لا يجتمعان معاً ولكن يمكن ارتفاعهما مثل السواد والبياض، لا يجتمعان في محل واحد ولكن يجوز أن يرتفعا بالأحمر أو الأخضر مثلاً. المتضايفان: هما أمران وجوديان لا يمكن إدراك أحدهما إلا بالإضافة إلى الآخر مثل الأبوة والبنوة والقبل والبعد. الملكة والعدم: وهو تقابل بين أمرين أحدهما وجودي والآخر عدمي بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان عن المحل الذي شأنه أن يتصف به كالعمى والبصر. جدول توضيحي للتقابل بين هذه الأشياء2 1 ـ نقيضين 2 ـ ضدين 3 ـ متضايفين 4 ـ ملكة، وعدم (السلب والإيجاب) (السواد والبياض) (الأبوة والبنوة) (البصر ملكة، والعمى عدم)   1 انظر التوضيحات الأثرية (ص65) . 2 انظر المرجع السابق (ص67) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 س5 ـ اذكر مذاهب الباطنية في الصفات، وشبهتهم، والرد عليهم؟ ج ـ مذهبهم: في الصفات: نفي النقيضين وقد سبق تعريفه، فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، والصحيح أن الحياة والموت والعلم والجهل نقيضان. شبهتهم: زعموا أن وصف الله تعالى بالإثبات تشبيه له بالموجودات ووصفه بالنفي تشبيه له بالمعدومات، فلذلك رفعوا السلب والإيجاب أي النفي والإثبات. الرد عليهم من وجوه: 1 ـ أن نفي النقيضين ممتنع في بدائه العقول، أي يحكم بامتناعه من أول وهلة دون نظر أو استدلال. 2 ـ أن مذهبهم هذا تحريف لما أنزل الله من الكتاب ولما جاءت به الرسل في هذا الباب. 3 ـ أنهم وقعوا في شر مما فروا منه فإنهم فروا من تشبيهه بالموجودات فوقعوا في تشبيهه بالمعدومات التي يستحيل وجودها أصلاً، فإن رفع النقيضين معاً ممتنع كجمعهما عند عامة العقلاء، فكما أنه لا يمكن أن يكون الشيء موجوداً معدوماً في آن واحد، فكذلك لا يمكن أن يكون غير موجود وغير معدوم في آن واحد، بل لا بد أن يكون إما موجوداً أو معدوماً. 4 ـ ثم إنه علم بالاضطرار؛ أن جميع الموجودات لا بد لها من موجد واجب لذاته لا بغيره لا يقبل الحدوث ولا العدم غني عما سواه قديم أزلي، وفي هذا إثبات لموجد موصوف بالصفات وهي الوجود والغنى والأولوية. 5 ـ ويظهر مدى انحرافهم في أنهم (وصفوه بما يمتنع وجوده فضلاً عن الوجوب أو الوجود أو القدم) س6 ـ اذكر مذهب الفلاسفة في الصفات وشبهتهم والرد عليهم؟ ج ـ مذهب الفلاسفة وأتباعهم كباطنية الشيعة وباطنية الصوفية: أنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 يصفون الله بالسلوب ـ وهو الأمر المنفي ـ مثل قولهم: إن الله ليس بجسم ولا عَرَض، كما يصفونه بالإضافات، مثل قولهم: إن الله مبدأ الكائنات وعلة الموجودات، وهي الأمور المتضائفات التي لا يعقل الواحد منها إلا بتعقل متعلقه دون صفات الإثبات كالحياة والعلم ونحوهما. وغاية قولهم أنهم جعلوه سبحانه هو الموجود المطلق أي المجرد عن الصفات بشرط الإطلاق، أي جعلوا وجوده سبحانه بحيث تسلب عنه كل صفة ثبوتية وسلبية. • والرد عليهم من وجوه: أن مما علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا فيما خرج عنه إلى الوجود، أي من سلب عنه الصفات الثبوتية والعدمية فلا وجود له في الواقع والخارج وإنما يتصوره الذهن فقط. 2 ـ جعلهم كل صفة هي عين الذات ـ الموصوف ـ مكابرة للبديهيات العقلية فضلاً عن الشرعية؛ لأن لازم ذلك أن جميع الصفات لا يتميز بعضها عن بعض فيكون العلم هو القدرة وهو الكلام ويكون معنى قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] بمعنى قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] وهكذا مما يعلم بطلانه بداهة. 3 ـ أنهم جحدوا الضروريات في قولهم بالموجود المطلق وكون الصفة عين الذات، وهذا غاية الضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الرد الإجمالي على المخالفين لطريقة السلف قال شيخ الإسلام: "وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجد قديم غني عما سواه إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد علم بالاضطرار أن المحدَث لا بد له من محدِث والممكن لا بد له من واجب كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] ، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقاً خلقهم، وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتقييد والتخصيص ولا في غيره، فلا يقول عاقل إذا قيل: إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود، إن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه بل الذهن يأخذ معنى مشتركاً كلياً هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل: هذا موجود، وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما. ولهذا سمى الله نفسَه بأسماء وسمَّى صفاته بأسماء، فكانت تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمّى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص، لا اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص. فقد سمى الله نفسه حيّاً فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وسمى بعض عباده حياً فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ} [الروم: 19] وليس هذا الحي مثل هذا الحي؛ لأن قوله: {الْحَيَّ} اسم الله مختص به، وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ} اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجُرِّدا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل بفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين، وعند الاختصاص يقيّد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق. ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، ويُفهم منها ما دلّ عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دلّ عليه بالإضافة والاختصاص، المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى. وكذلك سمّى الله نفسه عليماً حليماً، وسمّى بعض عباده عليماً حليماً، فقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] ، يعني إسحاق، وسمّى آخر حليماً، فقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 1.1] يعني: إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم. وسمّى نفسه سميعاً بصيراً فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58] . وسمّى بعض خلقه سميعاً بصيراً فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الانسان: 2] ، وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وسمّى نفسه بالرؤوف الرحيم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] ، وسمّى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] ، وليس الرؤوف كالرؤوف ولا الرحيم كالرحيم. وسمّى نفسه بالملك، فقال: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23] ، وسمّى بعض عباده بالملك فقال: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] ، و {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 5.] وليس الملك كالملك. وسمّى نفسه بالمؤمن، فقال: {الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23] ،وسمّى بعض عباده بالمؤمن، فقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] ، وليس المؤمن كالمؤمن. وسمّى نفسه بالعزيز، فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّر} [الحشر: 23] ، وسمّى بعض عباده بالعزيز، فقال: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [يوسف: 51] ، وليس العزيز كالعزيز. وسمّى نفسه الجبار المتكبر، وسمّى بعض خلقه بالجبار المتكبر، فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] وليس الجبار كالجبار ولا المتكبر كالمتكبر. ونظائر هذا متعددة. وكذلك سمّى صفاته بأسماء، وسمّة صفات عباده بنظير ذلك، فقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] ، وقال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه} [النساء: 166] ، وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] ، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] . وسمّى صفة المخلوق علماً وقوة، فقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الاسراء: 85] ، وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وقال: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْم} [غافر: 83] ، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] ، وقال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] ، وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] أي: بقوة، وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [صّ: 17] أي: ذا القوة، وليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة. وكذلك وصف نفسه بالإرادة، ووصف عبده بالإرادة، فقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ*وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28ـ29] ، وقال: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً *وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الانسان: 29ـ3.] . وكذلك وصف نفسه بالإرادة، ووصف عبده بالإرادة فقال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لأنفال: 67] . ووصف نفسه بالمحبة ووصف عبد بالمحبة فقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران: 31] . ووصف نفسه بالرضا، ووصف عبده بالرضا، فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] . ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه. وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت فقال: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 1.] وليس المقت مثل المقت. وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، وكما وصف عبده بذلك فقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [لأنفال: 3.] ، وقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً*وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15ـ16] ، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ووصف نفسه بالعمل فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يّس: 71] . ووصف عبده بالعمل، فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] وليس العمل كالعمل. ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة في قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] ، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِم} [القصص: 62] ، وقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 22] ، ووصف عبده بالمناداة والمناجاة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] ، وقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12] ، وقال: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة: 9] ، وليس المناداة كالمناداة، ولا المناجاة كالمناجاة. ووصف نفسه بالتكليم في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] ، وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] ، وقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] ، ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] ، وليس التكليم كالتكليم. ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة فقال: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] وليس الإنباءُ كالإنباءِ. ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم، فقال: {الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الإنْسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1ـ4] ، وقال: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] ، وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة} [آل عمران: 164] ، وليس التعليم كالتعليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وهكذا وصف نفسه بالغضب في قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [الفتح: 6] ، ووصف عبده بالغضب في قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [الأعراف: 15.] وليس الغضب كالغضب. ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر في سبع آيات من كتابه أنه استوى على العرش، ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِه} [الزخرف: 13] ، وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] ، وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ} [هود: 44] وليس الاستواء كالاستواء. ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] ، ووصف بعض خلقه ببسط اليد، في قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] ، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم. ونظائر هذا كثيرة. فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه، فمن قال: ليس لله علم ولا قوة ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب ولا يرضى، ولا نادى ولا ناجى، ولا استوى؛ كان معطلاً جاحداً، ممثلاً لله بالمعدومات والجمادات. ومن قال: له علم كعلمي، أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، وأو رضى كرضاي، أو يدان كيديّ، أو استواء كاستوائي؛ كان مشبهاً، ممثلاً لله بالحيوانات، بل لا بد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. ويتبين هذا بأصلين شريفين، وبمثلين مضروبين، ولله المثل الأعلى، وبخاتمة جامعة". معاني الكلمات: القديم: هو الأول عند أهل السنة وهو القِدَم المطلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الحادث: معنى الحادث هو المخلوق. الممكن: ما استوى وجوده وعدمه. الواجب: ما كان وجوده ضرورياً، فالله سبحانه واجب الوجود. الممتنع: هو ما كان عدمه ضرورياً كوجود خالقين مثلاً، أو الشريك لله فإنه لا يمكن أن يكون لله شريكاً. الاسم المطلق: وهو الاسم العام الذي لا تقييد فيه، فمن هذه الناحية: يشترك وجود الله تعالى والخلق في الوجود المطلق العام، لأنه مفهوم عام مطلق غير مقيد. لكن إذا قيل الوجود بإضافته إلى الله تعالى صار فيه تخصيص، وكذا إذا أضيف الوجود إلى المخلوق صار فيه تخصيص، لأن كل صفة تناسب موصوفها فوجود الله تعالى غير وجود الخلق. تماثلها: هو كون الشيئين متساويين متشابهين من كل وجه. اتفاقهما: الاتفاق: هو كون الشيئين متفقين في اللفظ والمعنى. الإضافة: ضم الشيء إلى الشيء للتخصيص والتعريف. التقييد: الوصف بأمر زائد عن الحقيقة. التخصيص: هو قصر المعنى العام على بعض أفراده. عناصر الموضوع: 1 ـ الرد على المعطلة إجمالاً: بعد أن بيَّن شيخ الإسلام أصول فرق المعطلة، بدأ بإبطال تلك المذاهب فبدأ هنا بالرد الإجمالي ثم سيفصل الرد عليهم عند كلامه عند الأصلين والرد الإجمالي مركب من وجهين: الوجه الأول: في الوجود. الوجه الثاني: في الاتفاق في الأسماء. وإليك تفصيل الوجه الأول: هو أن الموجود إما خالق وهو الله، وإما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 مخلوق وهو العبد، ولكل منهما وجود يخصه، فلا بد من موجود قديم تنتهي إليه المخلوقات المحدثة إذ إن وجود المخلوقات من غير موجد ممتنع. والخالق والمخلوق كل منهما يتفقان في الوجود، ومع ذلك لم يلزم من اتفاقهما في المعنى العام وهو لفظ الوجود تماثلهما. الوجه الثاني: أن الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات كما دل على ذلك السمع والعقل والحس. 2 ـ الأدلة على الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم منه تماثل المسميات دل على ذلك السمع والعقل والحس، وإليك التفصيل: 1 ـ أما دليل السمع فقد قال الله تعالى عن نفسه: {ِإِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58] ، وقال عن الإنسان: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] ، ونفى أن يكون السميع كالسميع والبصير كالبصير، فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وأثبت لنفسه علماً وللإنسان علماً فقال عن نفسه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} [البقرة: 235] . وقال عن الإنسان: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 1.] ، وليس علم الإنسان كعلم الله، فقد قال تعالى عن علمه: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 98] ، وقال عن علم الإنسان: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الاسراء: 85] . وأما العقل فمن المعلوم بالعقل أن المعاني والأوصاف تتقيد وتتميز بحسب ما تضاف إليه، فكما أن الأشياء مختلفة في ذواتها فإنها كذلك مختلفة في صفاتها وفي المعاني المضافة إليها، فإن صفة كل موصوف تناسبه لا يفهم منها ما يقصر عن موصوفها أو يتجاوزه، ولهذا نصف الإنسان باللين والحديد المنصهر باللين، ونعلم أن اللين متفاوت المعنى بحسب ما أضيف إليه وأما الحس: فإننا نشاهد للفيل جسماً وقدَمَاً وقوةً، وللبعوضة جسماً وقدماً وقوة، ونعلم الفرق بين جسميهما وقدميهما وقوتهما. فإذا علم أن الاشتراك في الاسم والصفة في المخلوقات لا يستلزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 التماثل في الحقيقة مع كون كل منهما مخلوقاً ممكناً فانتفاء التلازم في ذلك بين الخالق والمخلوق أولى، وأجلى، بل أن التماثل في ذلك بين الخالق والمخلوق ممتنع غاية الامتناع. 3 ـ أمثلة لأسماء سمى الله بها نفسه وسمى بعض عباده بها: سمى الله نفسه بأسماء وسمى مخلوقاته ببعض هذه الأسماء، ولكن أأسماء الله تعالى مختصة به، وأسماء المخلوقات مختصة بهم، فمجرد الاتفاق في الاسم لا يدل على الموافقة في الحقيقة والكنه، وإليك هذه الأمثلة التي ذكرها شيخ الإسلام في هذا الجدول الآتي: الاسم دليل تسمية الله به نفسه دليل تسميه بعض عباده به الحي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة: 255] {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ} [الروم: 19] العليم، الحليم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] ، {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 1.1] السميع، البصير إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58] . {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الانسان: 2] الرؤوف، الرحيم {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] الملك {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23] {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 5.] المؤمن {الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23] {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] الجبار المتكبر {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّر} [الحشر: 23] {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] العزيز {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24] {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [يوسف: 51] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 4 ـ أمثلة لصفات وصف الله بها نفسه وهي تليق به ووصف بها المخلوق: ذكر شيخ الإسلام هذه الأمثلة للصفات التي اتصف الله بها وهي تليق به واتصف بها المخلوق وهي تناسبه. فكل هذه الصفات الاتفاق فيها في المعنى الكلي فقط دون الكيفيات والخصائص إليك التفصيل كما في الجدول الآتي: الصفة دليل اتصاف الخالق بها ما تليق بعظمته دليل اتصاف المخلوق بها بما يناسب ضعفه القوة {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54] {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [صّ: 17] العلم {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه} [النساء: 166] {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85] {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْم} [غافر: 83] المشيئة وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29] {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ} [التكوير:28] {وَمَا تَشَاءُونَ} [التكوير: 29] {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29] الإرادة وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [لأنفال: 67] . {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [لأنفال: 67] . المحبة {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} [المائدة: 54] {يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران: 31] . {وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31] . الرضا {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [البينة: 8] {وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8] المقت {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [غافر: 1.] {مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر: 1.] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 المكر {وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [لأنفال: 3.] {وَيَمْكُرُونَ} [لأنفال: 3.] الكيد {وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 16] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} [الطارق: 15] العمل {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يّس: 71] . ووصف {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] المناداة والمناجاة {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِم} [القصص: 62] {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 22] {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4] {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12] {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة: 9] ، التكليم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] التنبئة {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ ... فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} [التحريم: 3] التعليم {عَلَّمَ الْقُرْآنَ* ... عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1ـ4] {عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] {تُعَلِّمُونَهُنَّ} [المائدة: 4] {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة} [آل عمران: 164] الغضب {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [الفتح: 6] {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [الأعراف: 15.] الاستواء في سبعة مواضع: [الأعراف: 54] ، [يونس: 3] ، [الحديد: 4] ، [الرعد: 2] ، [طه: 5] ، [الفرقان: 59] ، [السجدة: 4] {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِه} [الزخرف: 13] {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ} [هود: 44] بسط اليدين {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وإذا كانت بمعنى الإعطاء والجود فكذلك بلا تمثيل {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الاسراء: 29] ونظائرها كثيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 5 ـ معنى قول شيخ الإسلام: "ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل..": معناه: أن هؤلاء الكفار من فلاسفة اليونان ومن معهم من المتفلسفة والجهمية والمعطلة لا يؤمنون بصفات الله تعالى، ولا يصفون الله تعالى بشيء من صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يعتقدون أنه وجود مطلق خال عن الصفات التي تقيد الموصوف، والشيء إذا لم يكن له صفة فهو غير معقول؛ ولا يكون له وجود خارج الأذهان وإنما وجوده وجود ذهني. فالذهن يتصوره ولكن لا وجود له في الخارج فهو شيء معدوم؛ لأن المعدوم لا صفة له. فالله تعالى على قول هؤلاء الجهمية معدوم في الحقيقة ولا وجود له لأنهم يصفونه بصفات المعدوم بل الممتنع. فيقولون: إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل بالعالم ولا منفصل عنه، ولا فوقه ولا تحته ولا كذا ولا كذا، فهؤلاء مع كونهم غلاة المعطلة فهم مشبهة أيضاً لأنهم شبهوا الله بالمعدومات. 6 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "وجعلوا هذه الصفة الأخرى فجعلوا العلم عين العالم مكابرة ... ": هذه حكاية مذهب آخر لنوع آخر من المعطلة الغلاة وهذا المذهب شبيه بالمذهب الأول: ولكنه أخف كفراً، والأول أشد كفراً. لأن الأولين كانوا يصفون الله بالوجود المطلق عارياً عن الصفات. وأما هؤلاء المعطلة فقد وصفوه بالسلوب، وأيضاً وصفوه بالصفات الإضافية نحو: قبل كل شيء وبعد كل شيء، ونحو ذلك من الصفات التي هي صفات بالنسبة إلى شيء آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فهؤلاء بسبب إثباتهم الصفات الإضافية صاروا أخف كفراً من الأولين. ولكنهم مع هذا كله قولهم في غاية التعطيل الذي يستلزم كون الله تعالى معدوماً بل ممتنعاً مثل المذهب الأول؛ لأنهم لا يميزون بين الصفة وموصوفها، فيقولون باتحاد العالم والعلم فجعلوا الصفة هي الموصوف وجعلوا العلم هو العالم، كما أنهم لا يميزون بين صفة وأخرى، فيقولون باتحاد العلم والقدرة وهذا معلوم فساده بالبداهة الضرورية. هذا هو المذهب الثاني يتلوه المذهب الثالث. 7 ـ قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات": أقول: هذا نوع ثالث من المعطلة وهم كثير من المعتزلة فهم أثبتوا لله تعالى الأسماء ولكن بدون ما تدل عليه من المعاني التي هي صفات كمالية. فجعلوا أسماء الله تعالى كأسماء الأعلام المجردة عن المعاني نحو زيد وعمر وبكر بدون ملاحظة أي صفة وأي معنى هذا هو معنى (الأعلام المحضة) فالعلم المحض لا معنى له غير المسمى نحو زيد، فمعنى زيد هو المسمى بزيد لا غير، وهكذا جعلوا أسماء الله تعالى أعلاماً محضة بدون معنى مع أن أسماء الله تعالى نحو السميع والبصير والعليم مع دلالتها على الله تعالى تدل على معانٍ هي صفات كمالية، وهي السمع والبصر والعلم. فليست أسماء الله تعالى كالأعلام المحضة بل هي أسماء مع دلالتها على الصفات الكمالية، ولذلك سميت حسنى لدلالتها على الصفات الحسنة. 8 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية " ... المترادفات": الأسماء المتعددة الدالة على مسمى واحد بدون تعدد المعاني تسمى مترادفات؛ كأن يكون لشيء واحد أسماء عديدة بدون ملاحظة معانيها، كالأسد والغضنفر للحيوان المفترس المعروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فهؤلاء الجهمية جعلوا أسماء الله تعالى: من السميع والبصير والقدير والعليم. أسماء لمسمى واحد بدون ملاحظة معانيها وهي السمع والبصر والقدرة والعلم؛ وهذا تعطيل سافر وإلحاد. 9 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومنهم من قال: عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر ... ": أقول: هذا صنف آخر من المعتزلة الجهمية. وقولهم لا يختلف عن قول الصنف الأول إلا في التعبير، وإلا فكلهم يثبتون الأسماء دون ما تدل عليه من الصفات الكمالية والمعاني الحسنة. غير أن الأولين لا يصرحون بأن الله عليم بلا علم بل يقولون عليم وسميع ولا صفة له، ولكن هؤلاء يفسرون قولهم فيقولون: إنه عليم بلا علم سميع بلا سمع. 10ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "ولو أمعنوا النظر لسوّوا بين المتماثلات، وفرّقوا بين المختلفات كما تقتضيه المعقولات": معناه: أن زيداً وعمراً وبكراً قد يكونون من المتماثلات وصفاتهم من المتماثلات فالعقل يجوز أن زيداً مثل عمرو وصفة زيد مثل صفة عمرو مثلاً. والخالق والمخلوق من المختلفات. فالعقل يحكم أن الخالق لا يشبه المخلوق فهكذا صفة الخالق لا تشبه صفة المخلوق. وهؤلاء يدعون أنهم من أهل المعقولات. ولكنهم في الحقيقة من أهل المجهولات وأهل السفسطة والقرمطة وكذلك تراهم يفرقون بين المتماثلات ويسوون بين المختلفات فيزعمون أنه لو ثبت لله تعالى صفة لكان مشابهاً للمخلوق فسووا بين المختلفات. ونفوا القدر المشترك بين الصفات ففرقوا بين المتماثلات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 11 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات": معناه: أن هؤلاء المعطلة بسبب تعطيلهم. ليسوا أصحاب العقول والعلوم والأدلة والبراهين المعلومة، بل هم أصحاب الأمور الجهلية المجهولة، التي لا تزيدهم إلا جهلاً على جهل وعمى على عمى وضلالاً على ضلال وظلمات على ظلمات، وهي شبهات وليست أدلة ولكن هذه الشبهات المجهولة اشتبهت عليهم فظنوها أدلة قطعية وبراهين قوية، مع أنها مكسورة وشبهات محضة. 12 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع": أقول: الحادث في الاصطلاح العام للمناطقة والمتكلمين ما وجد بعد أن لم يكن، فهو مرادف للمخلوق. وقد يطلق "الحادث" ويراد به المتجدد ـ فيكون أعم من المخلوق. فالحادث على هذا قد يكون مخلوقاً كالحوادث اليومية في الكون وكذا الكون نفسه، وقد لا يكون مخلوقاً مع كونه متجدداً؛ نحو قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث} [الأنبياء: 2] . فالذكر المحدث هو القرآن. وهو غير مخلوق وإن كان متجدداً. والمراد من "الحادث" في كلام الشيخ هو المعنى الأول وهو المخلوق. و"الممكن" ما استوى طرفاه أي وجوده وعدمه، أي وجوده وعدمه غير ضروري. فالممكن إذا ترجح جانب وجوده فالله تعالى يخلقه ويوجده بعد أن لم يكن. و"الواجب" ما كان وجوده ضرورة، فإن وجود الله واجب أي ضروري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 "والممتنع" هو ما كان عدمه ضرورياً كوجود خالقين مثلاً أو الشريك لله تعالى. فإنه لا يمكن أن يكون لله شريك لا عقلاً ولا شرعاً. 13 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "بل الذهن يأخذ معنى مشتركاً كلياً هو مسمى الاسم المطلق": أقول: إن الجهمية يزعمون أنه لو ثبت لله الصفات لكان مشابهاً للمخلوقات. فرد عليهم شيخ الإسلام وقال لهم: إنه لاشك أن الله تعالى يطلق عليه أنه موجود والمخلوق يطلق عليه أنه موجود. فكلاهما يشتركان في الوجود العام الكلي المطلق الذي لا خصوص فيه ولا تقييد. فهذا هو معنى "الاسم المطلق" أي الاسم العام الذي لا خصوص فيه ولا تقييد فيه. فمن هذه الناحية يشترك الله تعالى والخلق في الوجود المطلق العام. وهذا هو القدر المشترك. لأن كل واحد موجود، ولكن سرعان ما يزول التشبيه ويتحقق الفارق بين وجود الله تعالى وبين وجود المخلوق. لأن "الوجود" قبل الإضافة كان له مفهوم عام مطلق غير مقيد وغير مخصص. ولكن إذا قيد (الوجود) بإضافته إلى الله تعالى صار فيه تخصيص وتقييد، وكذا إذا أضيف (الوجود) إلى المخلوق صار فيه تخصيص وتقييد. لأن كل صفة تناسب موصوفها فوجود الله تعالى غير وجود الخلق ووجود الخلق غير وجود الخالق، فمن ههنا ارتفع التشبيه وتحقق الفارق فلا تشبيه إذاً في إثبات الصفات لله تعالى فزالت شبهة الجهمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 14 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق": أقول: هذا الكلام تفصيل وتفسير وتوضيح للكلام السابق. وخلاصته: أن "العلم" مثلاً له جهتان جهة العموم الإطلاق وعدم التخصيص وعدم التقييد. فلا شك أنه بهذا الاعتبار كلي واسم مطلق وأمر عام، ومشترك بين علم الله تعالى وبين علم المخلوق. ولكن "العلم" بهذا الاعتبار لا وجود له في الخارج لأن الاعتبار الكلي والاسم المطلق والشيء العام لا يوجد في الخارج. وإنما يتصوره الذهن فقط دون وجوده في الأعيان؛ لأن الشيء من حيث عمومه لا وجود له في الواقع، وإنما الموجود هو الأفراد بخصوصها لا بعمومها فالعلم المطلق من حيث إنه كلي مشترك لا وجود له في الخارج وإنما وجوده وجود ذهني فقط، يتصور العقل وجوده في الأذهان دون الأعيان. ولكن إذا قيد "العلم" ويقال: "علم" الله تعالى، أو "علم" المخلوق فحينئذٍ يوجد في الخارج لأنه صار مقيداً خاصاً بسبب الإضافة وهذه هي الجهة الثانية فالآن لا اشتراك فيه ولا تشبيه فإذا قيل: علم الله وعلم المخلوق تميز علم الخالق عن علم المخلوق. 15 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "ما دل عليه الاسم بالمواطأة..": أقول: هذا أيضاً شرح للكلام السابق وتفسير له. وحاصله: أن "العلم" مثلاً قبل الإضافة وقبل التقييد وقبل التخصيص: يطلق على "علم" الله تعالى وعلى "علم" المخلوق إطلاقاً سوياً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فعلم الله أيضاً "علم" وعلم المخلوق أيضاً "علم" والعلم يطلق عليهما على حد سواء. هذا هو معنى "المواطأة" ومعنى "الاتفاق"؛ فالكلي المتواطئ هو ما يدل ويطلق على أفراد على حد سواء كالإنسان فإنه يطلق على زيد وبكر على السواء، ويقابله الكلي المشكك كالأبيض فإنه يطلق على أفراد ولكن مع التفاوت والزيادة والشدة في بعض أفراده دون بعض، فإن بياض هذا الجدار أشد من بياض ذلك الجدار مثلاً. 16 ـ الأسئلة والأجوبة على ما تقدم: س1 ـ كيف نرد على هذه الفرق رداً إجمالياً؟ ج ـ الرد الإجمالي عليهم مركب من وجهين: الأول: في الوجود. الثاني: في الاتفاق في الأسماء. • الوجه الأول ـ في الموجود: وهو أن الموجود إما خالق وإما مخلوق ولكل منهما وجود يخصه، والمعنى أنه لا بد من موجود قديم واجب بنفسه تنتهي إليه المخلوقات المتحدثة، وبرهانه في مقدمتين: المقدمة الأولى: أننا نشاهد حدوث المخلوقات كالحيوان والمعدن والنبات، وهذه المحدثات ممكنة وليست واجبة لأنها مسبوقة بالعدم، كما أنها ليست ممتنعة لأنها موجودة الآن، والممتنع لا يتحقق وجوده. المقدمة الثانية: فما دامت هذه المخلوقات محدثة ممكنة فإنه يعلم ضرورة أنه لا بد لها من خالق واجب بنفسه تنتهي إليه لئلا يلزم التسلسل الممتنع عند عامة العقلاء وهو كون الموجود مفتقراً إلى موجود والموجود إلى موجود وهكذا. والدليل النقلي على هذا البرهان العقلي قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] المقصود من الآية الكريمة ما يلي: 1 ـ أنهم وجدوا من غير موجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 2 ـ أو أنهم أوجدوا أنفسهم. 3 ـ أو أوجدهم الله تعالى. فالأول: إيجادهم من غير موجد ممتنع لأن المُحدَث لا بد له من مُحدِث. والثاني: أنهم أوجدوا أنفسهم: إما أن نفس المخلوق أوجد نفسه أو أن المخلوق أوجده مخلوق مثله، فالأول: باطل لأنه يلزم أن بكون المخلوق متقدماً على نفسه باعتباره محدثاً ومتأخراً باعتباره حادثاً وتقدم الشيء على نفسه وتأخره عنه محال في غاية الامتناع. والثالث: كون المخلوق أوجده مخلوق آخر محال لإفضائه إلى التسلسل كما سبق. فلزم بانقضاء هذه الأسباب إيجاد الخالق لهم وهو الواجب القديم الغني عما سواه. • الوجه الثاني: الاتفاق في الأسماء: فالاتفاق في الأسماء لا يوجب تماثل المسميات، ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء فتكون هذه الأسماء خاصة به لائقة بعظمته لا يشركه فيها غيره، وكذلك سمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مناسبة لافتقارهم مع أنها توافق أسماء الله عند الإطلاق ولكن تخالفها عند التقييد لاختلاف خصائص الله تعالى عن خصائص خلقه. انتهى الجواب. * وهنا بعض الألفاظ ينبغي بيانها للفائدة وهي: 1 ـ التسوية بين المتماثلات: والمقصود بها الأسماء والصفات فإنها من باب واحد من حيث دلالة النصوص عليها بطريق سواء ومن حيث اتصاف الله بها ومن حيث ما يلزم عليها وما لا يلزم. 2 ـ التفريق بين المختلفات: وهي ما يليق بالله تعالى من الغنى والكمال المطلق فإنه يفارق تماماً ما يتصف به المخلوق من الحدوث والافتقار والنقص، مما يجعل صفات الله لائقة باقتداره وصفات المخلوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 مناسبة لافتقاره، فالتسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات مما تقتضيه المعقولات. 3 ـ السفسطة في العقليات: السفسطة مصدر سفسط يسفسط سفسطة وهي كلمة يونانية مركبة من جزئين (سوفيا) بمعنى الحكمة، و (اسطس) بمعنى المموهة فالمعنى (الحكمة المموهة) . ويقصد شيخ الإسلام بالسفسطة في العقليات: التمويه والمغالطة في الأمور العقلية الثابتة، فإنه يرى أن كل من جحد حقاً معلوماً وموّه فيه بالباطل فهو مسفسط وليست السفسطة مذهباً عاماً لطائفة معينة. 4 ـ القرمطة في النقليات: نسبة إلى القرامطة لأنهم أعظم الطوائف تحريفاً للنقليات. والخلاصة: أن لمسمى الوجود ثلاث حالات: 1 ـ حالة الإطلاق: وهو المعنى الكلي الذهني ولا يوجد في الخارج. 2 ـ حالة الإضافة إلى الخالق. 3 ـ حالة الإضافة إلى المخلوق. * وهنا لا بد من ملاحظة الفرق بين ما ذكر في هذه الخلاصة بما يلي: أولاً: ما يدل عليه الاسم عند الإضافة والاختصاص التي تمنع من مشاركة المخلوق للخالق في خصائصه. نذكر مثالاً على ذلك مما ذكره شيخ الإسلام وهو لفظ (الحيّ) فإذا أضيف إلى الله اختص به وإذا أضيف إلى المخلوق اختص بفنائه وافتقاره. س2 ـ ما المقصود بالقديم؟ وهل هو من أسماء الله؟ وضح ذلك؟ ج ـ المراد بالقديم: هو المتقدم على غيره وهو نوعان: 1 ـ تقدم أزلي: وهو ما لا نهاية له في الماضي وهو القدم المطلق ولا يصح إلا لله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 2 ـ تقدم نسبي: وهو التقدم بين المخلوقات بالنسبة إلى بعضها كما قال تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يّس: 39] فالقديم أعم من الأزلي لأنه يشمل الأزلي والنسبي، فلذلك قيد شيخ الإسلام ـ القديم بالأزلي. * اختلف العلماء في إطلاق القديم على الله ورجح المحققون أنه من باب الإخبار عن الله تعالى وليس من أسمائه الحسنى، كما يقال: واجب الوجود، وشيء، وقائم بنفسه، وغير ذلك، فهو خبر وليس اسماً. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" فلا يدل على التسمية لأنه لم يطلق عليه تعالى وإنما يدل على الإخبار كما سبق. وهذا الحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (باب ما يقال عند دخول المسجد، ج1/ح441/ص93) . ولإخبار: أن يخبر عن الله تعالى بألفاظ وإن لم تكن واردة إن دلت على معنى صحيح، وأما الأسماء الحسنى فهي كمال مطلق يتعبد بألفاظها ومعانيها، فباب الإخبار أوسع من باب الأسماء. س3 ـ لماذا سمي أهل الكلام بهذا الاسم؟ ج ـ سموا بأهل الكلام: أـ لأنهم أتوا بزيادة كلام لا يفيد، كما قال ابن أبي العز، إنما سمي هؤلاء أهل الكلام لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد. ب ـ وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فناً من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان. س4 ـ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: 165] ، ما المقصود بالمحبة هنا؟ وعدد أقسامها، وما حكم كل قسم؟ ج ـ هذه الآية تدل على ذم الكفار في اتخاذهم الأنداد والنظراء ومساواتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 بالتعظيم لهم مع الله، وأثنى على المؤمنين بأنهم أشد حباً وتعظيماً لله من هؤلاء لأندادهم. * والمقصود بالمحبة هنا المحبة الشركية المستلزمة للخوف والتعظيم، وهذه صرفها لغير الله شرك ينافي التوحيد بالكلية. * وأقسام المحبة خمسة ترجع إلى ثلاثة وهي: 1 ـ محبة طبيعة: وهي ميل الإنسان إلى ما يلائمه كمحبة المال والولد ونحو ذلك وهذه لا تحرم إلا إذا ألهت عن طاعة الله. 2 ـ محبة شرعية: يدخل فيها ما يلي: أـ محبة الله. ب ـ محبة ما يحبه الله كالطاعات. ج ـ محبة في الله كمحبة أوليائه ومحبة عباده الصالحين وحكمها فرض ولا تكفي محبة الله وحدها ـ لأن المشركين يحبون الله بل لا بد من محبة ما يحبه الله. 3 ـ محبة شركية: وهي محبة مع الله وهي حرام. س5 ـ اذكر ثلاثة آيات تدل بمنطوقها على صفات الكمال وبالتضمن على نفي صفات النقص. ج ـ قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] هذه الآية دلت بمنطوقها على إثبات صفة الكمال لله وهي (القدرة) وبالتضمن على نفي صفة النقص وهي (العجز) . 2 ـ قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] هذه الآية دلت بمنطوقها على إثبات صفة الكمال لله وهي (الحياة) وبالتضمن على نفي صفة النقص وهي (الموت) . 3 ـ قال تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] هذه الآية دلت بمنطوقها على إثبات صفة الكمال لله سبحانه وهي (العلم) وبالتضمن على نفي صفة النقص وهي (الجهل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 س6 ـ قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ، ما وجه كون هذه الآية أعظم آية في كتاب الله؟ وما الفرق بين السِّنة والنوم؟ ووضح معنى (القيوم) عند السلف، وعند النفاة، وبين نوع النفي فيها؟ ج ـ وجه كونها أعظم آية في كتاب الله لاشتماله على كثير من الأسماء والصفات مما لم يشتمل عليه غيرها. * والفرق بين السِّنة والنوم: أن السِّنة هي النوم الخفيف والمراد به النعاس وهو ما يكون في الرأس فإذا وصل إلى القلب صار نوماً. * أما معنى (القيوم) عند السلف فهو القائم على كل شيء الذي لا يحتاج إلى أحد، والمقيم لغيره. وعند الخلف ـ عند النفاة ـ هو الذي لا يتحرك قاصدين بذلك نفي المجيء والنزول والإتيان عن الله سبحانه وتعالى. * ونوع هذا النفي: هو من النفي المفصل. س7 ـ ما معنى قول الشيخ: "ولو أمعنوا النظر لسوّوا بين المتماثلات وفرقوا بين المختلفات كما تضمنته المعقولات"؟ ومن هم المعنيون بهذا القول؟ ج ـ معنى قوله أن هؤلاء النفاة لو نظروا بعين البصيرة والتأمل لسوّوا بين الأمور المتماثلة وفرقوا بين الأمور المختلفة فمن يثبت الأسماء وينفي الصفات فقد فرق بين المتماثلات لأن الأسماء والصفات بابها واحد من حيث دلالة النصوص عليها بطريق سواء، ومن اتصاف الله بها ومن حيث ما يلزم عليها وما لا يلزم، ومن يثبت بعض الصفات وينفي بعضها كذلك فرق بين المتماثلات لأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر. والتفريق بين المختلفات: وهي ما يليق بالله تعالى من الغنى والكمال المطلق فإنه يفارق تماماً ما يتصف به المخلوق من الحدوث والافتقار والنقص، مما يجعل صفات الله لائقة به وصفات المخلوق مناسبة لافتقاره فالتسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات مما تقتضيه المعقولات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 * والمعنيون بذلك: هم المعتزلة وأتباعهم الذين ينفون الأسماء والصفات أو من يثبت بعض الصفات وينفي البعض الآخر. س8 ـ ما معنى قول الشيخ: يسفسطون في العقليات ويقرمطون السمعيات ـ النقليات؟ ج ـ السفسطة ـ التغليظ والتمويه ـ نفي الحقائق الثابتة مع العلم بها وسفسطتهم في الصفات أنهم جحدوا معاني نصوص الصفات عن علمهم بما دلت عليه، والقرمطة، تفسير النصوص بمعان تخالف ما هو مقتضى لفظها والانحراف بها عن حقيقة المقصود منها. ووجه قرمطتهم أنهم جعلوا للنص معنى باطناً يخالف معناه الظاهر. س9 ـ كيف ترد على من عطل الله عن الوجود، وأوضح الدليل العقلي على وجود الله من قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] ؟ ج ـ يرد عليهم بما علم من ضرورة العقل بأنه لا بد من موجد قديم غني عما سواه إذ نحن نشاهد حودث المحدثات كالحيوانات ونحوها، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع وقد علم بالاضطرار أن المحدث لا بد له من محدِث والممكن لا بد له من موجد. تنبيه: تدل هذه الآية على احتمالات ثلاثة: الأول: أن العدم خلق هذا العالم. الثاني: أن العالم خلق نفسه. الثالث: أن الله خلق هذا العالم. فالاحتمالان الأولان باطلان ببداهة العقل، فثبت أن الله هو الخالق لهذا الكون بما فيه. س10 ـ هل يلزم من مطلق اشتراك المسميات في الاسم اتفاقهما في المسمى؟ وضح ذلك بالتمثيل والتعليل، وهل اشتراك المسميين يكون في الذهن والخارج؟ أم ماذا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ج ـ لا يلزم من اشتراك المسميات في الاسم اتفاقهما في المسمى. فمثلاً: العرش شيء موجود فلا يقول عاقل: إن العرش موجود مثل البعوض لاتفاقهما في مسمى الشيء الموجود؛ لأنه ليس في الخارج شيء موجود يشتركان في المعنى العام الكلي، وهذا لا وجود له إلا في الذهن لا في الحس، بل الذهن يأخذ معنى كلياً مشتركاً وهو مسمى الاسم المطلق والاشتراك المطلق يكون في الذهن من ناحية المعنى العام فهو يخالف البعض الآخر، فإذا قيل: هذا موجود وهذا موجود فلكل منهما وجود يخصه ولا يشركه في غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما. س11 ـ هل اتفاق المسميين في الاسم الواحد يستلزم تماثل مسماهما؟ وضح ذلك؟ ج ـ لا يستلزم ذلك اتفاقهما وتماثلهما عند الاطلاق والتجريد فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص، فهو سبحانه سمى نفسه (حياً) وسمى بعض عباده (حياً) وليس هذا (الحي) مثل هذا (الحي) أبداً، وكذلك سمى نفسه (سميعاً بصيراً) وسمى الإنسان (سميعاً بصيراً) ولا يلزمه هذا تماثل المسمى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الرد التفصيلي على المخالفين لطريقة السلف قال شيخ الإسلام: "ويتبين هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} وبخاتمة جامعة فأما الأصلان": معاني الكلمات: يتبين هذا: أي ما تقدم من عدم التلازم بين الإثبات والتمثيل وبطلان قول المخالفين للسلف وتناقضهم. أصلين شريفين: هما القول في بعض الصفات كالقول في البعض والقول في الصفات كالقول في الذات. مثلين مضروبين: هما الجنة والروح. عناصر الموضوع: 1 ـ مناسبة هذا الفصل لما سبق: تقدم فيما سبق أنه يجب إثبات ما أثبته الله لنفسه مع نفي المماثلة، فمن نفى صفات الله كان معطلاً جاحداً من جهة وممثلاً له بالمعدومات والجمادات من جهة أخرى، ومن قال: إن صفات الله مثل صفات خلقه كان مشبهاً بالحيوانات، أي بالحيوانات الحية تعالى الله عن ذلك، وهذا هو حقيقة التشبيه الذي نفته النصوص وهو الذي جرى السلف على التنفير منه. قال إسحاق بن راهويه: "إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا هو التشبيه" وأما مجرد إثبات الصفات فليس من التشبيه في شيء، فلذلك فإن قاعدة السلف في هذا الباب هي: الإثبات بلا تمثيل والتنزيه بلا تعطيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وتتبين صحة هذه القاعدة وصحة ما تقرر سابقاً ببيان أصلين شريفين ومثلين مضروبين وخاتمة جامعة تشتمل على سبع قواعد نافعة هي: 1 ـ صفات الله نفي وإثبات. 2 ـ حكم ما يُضاف إلى الله من الأسماء والصفات. 3 ـ معنى ظاهر النصوص وحكم القول بأنه مراد أو غير مراد. 4 ـ المحاذير التي يقع فيها من يتوهم التمثيل ثم ينفيها. 5 ـ أنا نعلم ما أخبر الله به من الغيبيات من وجه دون وجه. 6 ـ الضابط الذي يعرف به ما يجوز لله وما لا يجوز له نفياً وإثباتاً. 7 ـ دلالة العقل على كثير مما دل عليه السمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الرد على الأشعرية والمعتزلة بالأصل الأول قال شيخ الإسلام: "فأما الأصلان: فأحدهما: أن يقال: القول في بعض الصفات كالقول في بعض. فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، وقدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازاً ويفسره إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، قيل له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته بل القول في أحدهما كالقول في الآخر. فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به وله رضا وغضب يليق به وللمخلوق رضا وغضب يليق به، وإن قال: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق. وكذلك يُلزم بالقول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفى عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك ما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتفٍ عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات، وإن قال: إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه. قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة. فهذا المفرِّق بين بعض الصفات وبعض، يقال له فيما نفاه كما يقوله هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزليُّ: ليس له إرادة ولا كلام قائم به لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يُبيَّن للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا، ونحو ذلك. فإن قال: تلك الصفات أثبتها العقل؛ لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك. قال له سائر أهل الإثبات: لك جوابان: أحدهما: أن يقال: عدم الدليل المعيَّن لا يستلزم عدم المدلول المعيَّن، فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل؛ لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم. الثاني: أن يُقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتَّ به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم وعقاب الكفار يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته ـ وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة ـ تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأوْلى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة. وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات، ويقرّ بالأسماء كالمعتزلي، الذي يقول: إنه حي عليم قدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة. قيل له: لا فرق بين إثبات الأسماء وبين إثبات الصفات، فإنك إن قلت: إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيهاً وتجسيماً، لأنّا لا نجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 في الشاهد متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم. قيل لك: ولا تجد في الشاهد ما هو مسمى بأنه حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا لجسم فانفِ الأسماء، بل وكل شيء؛ لأنك لا تجده في الشاهد إلا لجسم. فكا ما يحتج به من نفى الصفات، يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جواباً لذلك كان جواباً لمثبتي الصفات. وإن كان المخاطب من الغلاة، نفاة الأسماء والصفات، وقال: لا أقول هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير. قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، كان ذلك تشبيهاً بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات. فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات. قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً، ويمتنع أن يوصف باجتماع الوجود والعدم، والحياة والموت، والعلم والجهل، أو يُوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل. فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما وهذا يتقابلان تقابل العدم والمَلَكة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له: أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذ ليس بمقابل لهما. قيل لك: أولا: هذا لا يصح في الوجود والعدم، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب، باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر. وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل، فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاؤون والاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ*أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 2.ـ21] ، فسمى الله الجماد ميتاً، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وقيل لك: ثانياً: فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر، ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما، فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك. وأيضاً فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعاً من القابل للوجود والعدم، بل ومن اجتماع الوجود والعدم، ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتنعاعاً، مما نفيت عنه الوجود والعدم، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول فذلك أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات، وهذا غاية التناقض والفساد. وهؤلاء الباطنية منهم من يصرّح برفع النقيضين: الوجود والعدم، ورفعهما كجمعهما، ومنهم من يقول: لا أثبت واحداً منهما، وامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر، وإنما هو كجهل الجاهل، وسكوت الساكت، الذي لا يعبر عن الحقائق. وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعاً مما يُقدَّر قبوله لهما ـ مع نفيهما عنه ـ فما يُقدَّر لا يقبل الحياة ولا الموت، ولا العلم ولا الجهل، ولا القدرة ولا العجز، ولا الكلام ولا الخرس، ولا العمى ولا البصر، ولا السمع ولا الصمم، أقرب إلى المعدوم والممتنع مما يُقدَّر قابلاً لهما مع نفيهما عنه، وحينئذٍ فنفيهما مع كونه قابلاً لهما أقرب إلى الوجود والممكن، وما جاز لواجب الوجود قابلاً، وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره، فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود المقبول وجب. وقد بسط هذا في موضوع آخر وبيَّن وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه. وقيل له أيضاً: اتفاق المسميَّيَن في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل، الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات، وإنما نفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ذما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق، مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يَشركه فيه مخلوق، ولا يُشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى. وأما ما نفيتَه فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك تشبيهاَ وتجسيماً تمويه على الجهّال، الذين يظنون أن كل معنى سمّاه مسمٍّ بهذا الاسم يجب نفيه، ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس، ليكذب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل. وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقولهم ودينهم حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة، وأبلغ الغيّ والضلالة. وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع. قيل: وإذا قلتم: هو موجود واجب، وعقل عاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟، فهذه معانٍ متعددة متغايرة في العقل وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيداً. فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيباً ممتنعاً. قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة وليس هو تركيباً ممتنعاً. وذلك أنه من المعلوم بصريح المعقول أنه ليس معنى كون الشيء عالماً هو معنى كونه قادراً، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالماً قادراً، فمن جوّز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، وأن تكون الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة، ثم إنه متناقض، فإنه إن جوّز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحداً بالعين لا بالنوع. وحينئذٍ فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب كان وجود كل مخلوق ـ يُعدم بعد وجود، ويُوجد بعد عدمه ـ هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي الذي لا يقبل العدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وإذا قدَّر هذا، كان الوجود الواجب موصوفاً بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب كما يصرح بذلك أهل وحدة الوجود، الذين طردوا هذا الأصل الفاسد، وحينئذٍ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير. وهذا باب مطرد، فإن كل واحد من النفاة لِما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصفات، لا ينفي شيئاً ـ فراراً مما هو محذور ـ إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فرّ منه، فلا بدّ له في آخر الأمر من أن يثبت موجوداً واجباً قديماً متصفاً بصفات تميّزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه، فيقال له: وهكذا القول في جميع الصفات، وكل ما نثبته من الأسماء والصفات فلا بدّ أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميّات، ولولا ذلك لما فُهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال". معاني الكلمات: المخاطب: هو الأشعري ومن يسلك مسلك الأشاعرة، ولم يسمهم شيخ الإسلام واقتصر على مذهبهم ليشمل الرد كل من يوافقهم من الماتريدية وغيرهم. مجازاً: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له. عناصر الموضوع: 1 ـ القول في الصفات جميعها من باب واحد: الصفات الواردة في الكتاب والسنة هي من باب واحد؛ إذ لا فرق بينهم البتّة؛ لأن الموصوف بها واحد، وهو جل وعلا لا يشبهه الخلق في سيء من صفاته البتة. فكما أنكم يا معشر الأشاعرة أثبتم سمعاً وبصراً لائقين بجلاله لا يشبهان شيئاً من أسماع المخلوقين وأبصارهم، فكذلك يلزم أن تجروا هذا بعينه في صفة الاستواء والنزول والمجيء إلى غير ذلك من صفات الجلال والكمال التي أثنى الله بها على نفسه، واعلموا أن رب السماوات والأرض يستحيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 عقلاً أن يصف نفسه بما يلزمه محذور ويلزمه محال، أو يؤدي إلى نقص. كل ذلك مستحيل عقلاً، فإن الله لا يصف نفسه إلا بوصف بالغ من الشرف والعلو والكمال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . 2 ـ موضوع الأصل الأول: موضوع الأصل الأول في الرد على من أثبت بعض الصفات ونفى البعض الآخر وهم الأشاعرة. ففيه من الإلزام والقوة في الرد على المخالف مما يجعله يذعن ويستسلم للحق ممن يطلبه؛ لأن من الأمور البديهية عدم التفريق بين المتماثلين إلا بدليل، وقد دلّ السمع والعقل على أنه لا يجوز التفريق بين الصفات وإلا كان تحكماً وقولاً على الله بغير علم وتنكباً للطريق المستقيم. فمن حاول أن يثبت البعض وينفي البعض الآخر فهو واقع في التناقض والاضطراب وليس أمامه إلا أن يثبت جميع الصفات كما يليق بجلاله. خلاصة القول أن هذا الأصل حجة لمن أثبت جميع الصفات على ما يليق بجلال الله وكماله، ولم يفرّق بين بينهما؛ لأن طريقها واحد من حيث الإثبات ونفي المماثلة وعدم العلم بالكيفية فالذي قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] هو الذي قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] والجميع لا نعلم كيفيته؛ لأنه سبحانه قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 3ـ4] . 1 ـ شرح الأصل الأول: عقد شيخ الإسلام هذا الأصل، لبيان أن ما يجب اعتقاده في بعض الصفات يجب في بعضها الآخر، فإن وجب إثبات بعضها وجب إثبات بعضها الآخر ومن نفى بعضها لزمه نفي ما سواها، ومن زعم أن بعضها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 يستلزم تشبيهاً كان كلها كذلك، فهذا الأصل مبني على القاعدة العقلية وهو وجوب التسوية بين المتماثلات، فحكم الصفات واحد، فهي متماثلة من حيث إنها لمسمى واحد ولموصوف واحد، ومن حيث الدليل فقد جاءت بها الأدلة من الكتاب والسنة. 2 ـ التعريف بالأشاعرة: هم المنتسبون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، وهو: علي بن إسماعيل بن أبي بشر ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري، وكان أبو الحسن معتزلياً ثم أعلن رجوعه وتوبته وسلك طريقة عبد الله بن سعيد بن كُلاّب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر، ثم انتقل إلى متابعة الإمام أحمد وأهل الحديث ونصر مذهب السلف كما في كتبه الثلاثة: الإبانة، مقالات الإسلاميين، رسالة أهل الثغر، وتوفي سنة 324هـ، والأشاعرة المنتسبون إليه يتابعونه في مرحلته الثانية، لذلك يُقال الأشاعرة الكلاّبية ولهم أصول خالفوا فيها السلف في مختلف أبواب الاعتقاد1. 3 ـ مذهب الأشاعرة في الصفات: يثبت عامة الأشاعرة أسماء الله الحسنى مع سبع من الصفات هي: الحياة والقدرة والعلم والكلام والإرادة والسمع والبصر، ويجعلون هذه الصفات حقيقة وليست مجازية ويرجعون بقية الصفات إلى الصفات السبع. ومتقدموا الأشعرية يثبتون أكثر من ذلك. 4 ـ مواقف الأشاعرة من نصوص الصفات التي نفوها: تقدم أن الأشاعرة يثبتون سبعاً من الصفات وينفون بقية الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ويسلكون طريقتين في نفي الصفات من خلال النصوص:   1 شذرات الذهب (2/3.3) ، الخطط للمقريزي (2/358) ، الملل والنحل (1/94) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 • الطريقة الأولى: أنهم يفسِّرون الصفات التي نفوها بالصفات التي أثبتوها، فمن الصفات التي نفوها صفة المحبة، يقولون عنها إرادة الثواب، وكذلك صفة الغضب يفسرونها بإرادة الانتقام. • الطريقة الثانية: يفسرون نصوص الصفة المنفية بلازمها، فيفسرون صفة المحبة التي نفوها بلازمها ألا وهو الإنعام، ويفسرون صفة الغضب بلازمها ألا وهي العقوبة. 5 ـ مقارنة بين طريقة السلف وطريقة الأشعرية من حيث الإثبات والنفي في نصوص الصفات: أهل السنة الأشعرية 1 ـ يثبتون نصوص الصفات الواردة في الكتاب والسنة إثباتاً بلا تشبيه وتنزيهاً بلا تعطيل. 1 ـ يثبتون الأسماء وسبع من الصفات. 2 ـ ينفون ما نفى الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله بلا تعطيل للصفات الواردة في الكتاب والسنة. 2 ـ ينفون الصفات الواردة في الكتاب والسنة ما عدا السبع ويعتقدون في إثبات الصفات التشبيه، قال صاحب الجوهرة: "وكل نص أوهم التشبيه أوِّله..". 3 ـ يعظمون نصوص الصفات الواردة في الكتاب والسنة فلا يتعرضون لها بتحريف أو تبديل. 3 ـ يحرِّفون الكلم عن مواضعه بالتأويل الذي هو التحريف، وتحميل النصوص ما لا تحتمل. 4 ـ لم يفهموا نصوص الصفات إلا أنها تليق بالخالق لأن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. 4 ـ لم يفهموا من نصوص الصفات إلا بما يليق بالمخلوقين وهذا خلاف ما فطر الله عليه الخلق والكلام في الذات فرع عن الكلام في الصفات. 5 ـ لا يخوضون في كيفية الصفات ولا يقيسون الخالق بما يقاس به المخلوق. 5 ـ يخوضون في كيفية الصفات ويتعرضون لمعانيها بالتحريف أو التفويض، نتيجة قياسهم الخالق بما يقاس به المخلوق. 6 ـ يجملون في النفي ويفصلون في الإثبات متبعين طريقة القرآن، فلا ينفون إلا ما نفاه الله عن نفسه كالسنة والنوم. 6 ـ يفصلون في النفي فيعمدون إلى ألفاظ مجملة سكت عنها الشارع فينفونها كلفظ: الجوهر والعرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 6 ـ الرد على الأشاعرة في نفيهم بقية الصفات: تقدم أن الأشاعرة يثبتون سبعاً من الصفات وينفون ما عداها من الصفات، فينفون صفة المحبة والرحمة والغضب وغيرها وفرقوا بين الصفات من حيث الإثبات والنفي والرد عليهم من وجوه: 1 ـ أنه لا فرق بين ما نفيتموه من الصفات كالرحمة والغضب والمحبة وبين ما أثبتموه، فإن القول فيهما واحد لأن القول في أحدهما كالقول الآخر. 2 ـ يلزم الأشعري في طريقته هذه بالتفريق بين الصفات ثلاثة لوازم: أـ إثبات جميع الصفات على وجه التمثيل تمثيل الخالق بالمخلوق وهذا باطل وهو مذهب المشبهة. ب ـ نفي جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة وهذا باطل فيلحق بغلاة المعطلة، فإذا بطل الوجهين السابقين فيبقى اللازم الأخير وهو الصحيح. ج ـ إثبات جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة على ما يليق بالله تعالى مع نفي مشابهة الخالق للمخلوق، وهذا هو الحق وهو مذهب الرسل عليهم الصلاة والسلام. 7 ـ المثال التطبيقي لمحاورة السني مع الأشعري: الأشعري يتبت الصفات السبع ـ كما تقدم ـ وينازع فيما عداها من صفة المحبة والغضب وغير ذلك، بدعوى أن إثبات هذه الصفات تشبيه، فلا يثبت صفة الغضب بزعمه أن الغضب هو غليان دم القلب بطلب الانتقام وهذا لا يليق بالله. ردّ عليه السني فقال: أنت تثبت الإرادة، والإرادة التي تثبتها هي ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، وهذا لا يليق بالله. فأجاب الأشعري: أن هذه الإرادة التي ذكرتها أيها السني هي إرادة المخلوق، أما إرادة الله فكما تليق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فرد عليه السني فقال: وهذا الغضب الذي ذكرته أيها الأشعري إنما هو غضب المخلوق لا غضب الله اللائق به، فهذا المفرق بين الصفات. يقال فيما نفاه من الصفات الفعلية كما يقول هو لمنازعه في الصفات السبع، أي يرد عليه بنفس الردود التي يرد بها هو على المعتزلي، ألا وهي أن الله يتصف بالصفات اللائقة به والمخلوق يتصف بالصفات التي تناسبه وتليق به ولا يلزم من ذلك التشبيه. 8 ـ مثال تطبيقي لمحاورة بين أشعري ومعتزلي: الداعي لذكر هذه المحاورة: أن الأشعري يرد على المعتزلي فيما يثبت من الصفات السبع وبمثل رده على المعتزلي يرد السني على الأشعري، وهذا من أبلغ الاحتجاج فهذا المفرق بين الصفات يقال له فيما نفاه كما يقول هو لمنازعه في الصفات السبع، أي يرد عليه بنفس الردود التي يرد بها هو على المعتزلي، وإليك مادة هذا الحوار: ـ إذا قال المعتزلي: ليس لله صفات، وليس له إرادة ولا كلام قائم به ولا سمع ولا بصر؛ لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بأجسام فيلزم التشبيه. ـ فيرد الأشعري فيقول: بأن الله يتصف بالصفات السبع المذكورة، وهي لائقة بالله لا تشبه صفات المخلوقين ولا تكون كخصائص المحدثات. ـ فيرد أهل السنة على الأشعري بعين رده على المعتزلي، فيقال: فهكذا يقول المثبتون في سائر الصفات من المحبة والرضا والغضب والرحمة وغير ذلك فيلزم الأشعري بعين ما ألزم به المعتزلي. 9 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "وإن قلت: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال له: الإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة. فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق". أقول: هذان نقضان وإلزامان من جانب شيخ الإسلام للرد على هؤلاء الجهمية المعطلة الذين يعطلون بعض الصفات بشبهة التشبيه دون بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فيثبتون لله الإرادة، ولكن ينفون عنه الغضب بشبهة التشبيه، لأن الغضب عندهم غليان دم القلب بطلب الانتقام، والله تعالى منزه عن الدم والقلب فإذا ثبت لله تعالى "الغضب" صار مشابهاً لخلقه. هذه كانت شبهة التشبيه فعارضهم شيخ الإسلام وقال لهم: قولكم هذا متناقض متهافت مضطرب لأنكم نفيتم "الغضب" بحجة التشبيه فهلا نفيتم عنه "الإرادة" مع أن الإرادة ميل النفس إلى جلب المنفعة أو دفع المضرة، والله تعالى منزه عن ميل النفس عندكم وكذا عن جلب المنفعة ودفع المضرة لأنه غني غير محتاج، هذه كانت المعارضة الأولى والمعارضة الثانية هي: أنه إن قالوا في الجواب: إن هذه إرادة المخلوق لا إرادة الخالق، فيقال لهم: هذا غضب المخلوق دون غضب الخالق، فلا تشبيه البتة. إذاً لا بد من إثبات الصفات كلها من غير تفريق. 10 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين". معناه: أن المدلول (الدعوى) أو (المطلوب) قد تكون له أدلة كثيرة. فإذا انتفى دليل واحد لا يستلزم ذلك انتفاء ذلك المدلول، لأن ذلك المدلول ثابت بأدلة أخرى غير ذلك الدليل. فانتفاء الدليل المعين الخاص لا يستلزم انتفاء المدلول. مثال ذلك: أن الشمس ثابتة بأدلة كثيرة منها الحس ومنها النور ومنها الحرارة فإذا انتفى دليل النور في الأعمى مثلاً لا يستلزم انتفاء الشمس. لأن الشمس ثابتة بدليل النور وبدليل الحرارة أيضاً. 11 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما وهذا يتقابلان تقابل العدم والمَلَكة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له: أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت ... ". أقول: هذا الكلام يحتاج إلى ذكر عدة من المصطلحات المنطقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فأقول: النسبة بين الشيئين قد تكون نسبة التخالف فهما متخالفان. 1 ـ والمتخالفان إن كان أحدهما وجودياً والآخر عدمياً، فهما نقيضان نحو الإنسان واللا إنسان والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. 2 ـ وإن كان كلاهما وجودياً لا يمكن أن يجتمعا ولكن يجوز ارتفاعهما نحو الإنسان والحجر فهما ضدان، أو متضادان فالإنسان والحجر لا يجتمعان في محل واحد. فلا يقال: هذا الشيء إنسان وهذا حجر، ولكن يجوز ارتفاعهما. فيقال: هذا الشيء لا حجر ولا إنسان لأنه كتاب. 3 ـ وإن كان تَعَقُّل أحدهما موقوفاً بتعقُّل الآخر فهما متضائفان. نحو الأب والابن. فزيدٌ لا يمكن أن يكون أباً وابناً في جهة واحدة، ولكن يجوز أن يكون أباً لشخص آخر ولكن لا يتصور الأب بدون الابن ولا الابن بدون الأب. 4 ـ وإن أحدهما وجودياً والآخر عدمياً ولكن محل العدمي قابل للوجودي. فهما عدم وملكة نحو العمى والبصر. فالعمى: عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيراً. وإذا علمت هذا فاعلم: أن من الجهمية من قال: إن الله تعالى لا حي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، فينفي عنه النفي والإثبات، فرد عليهم شيخ الإسلام بأن هذا رفع للنقيضين وهذا باطل بإجماع العقلاء. فقال هؤلاء الجهمية: إن هذا ليس من قبيل رفع النقيضين، بل هذا من قبيل رفع العدم والملكة، ويجوز في العدم والملكة أن يرتفعا فيقال: هذا الجدار لا أعمى ولا بصير، لأن المحل إذا لم يكن قابلاً يجوز حينئذٍ أن تنفي عنه العدم والملكة. فأجاب شيخ الإسلام: بأن الوجود والعدم ليسا من قبيل العدم والملكة بل هما من قبيل الإيجاب والسلب، أي هما من قبيل المتناقضين، ولا يجوز رفع المتناقضين كما لا يجوز اجتماعهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 هذا أول جواب وهو يتعلق بالوجود والعدم. والجواب الثاني: أن الحياة والموت والعلم والجهل وإن كانا من قبيل العدم والملكة عندكم، ولكن هذا اصطلاح خاص بكم لا نسلم به فإن هذا اصطلاح يصادم الشرع والعقل واللغة: أما الشرع: فقد أطلق الله تعالى على الجماد أنه ميت، فقال تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21] فسمى الجماد ميتاً. وهكذا أهل اللغة: يسمون الجماد ميتاً، والعقل يحكم أن الشيء إذ لم يكن حياً فهو ميت. والجواب الثالث: أننا لو سلمنا اصطلاحكم، نقول لكم: إن المتصف بالحياة والبصر والعلم أفضل ممن لا يتصف بها، فكيف تنفون عن الله تعالى الحياة والبصر والعلم وتصفون المخلوق بهذه الصفات الكمالية. فقد جعلتم المخلوق أفضل من الخالق وهذا غاية الشناعة في التشبيه. 12 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "وهؤلاء الباطنية منهم من يصرّح برفع النقيضين: الوجود والعدم، ورفعهما كجمعهما". أقول: معناه أن طائفة من الباطنية تزعم أن الله لا موجود ولا معدوم فيرفعون الوجود والعدم. ولا شك أن نفي الوجود والعدم عن الله تعالى كجمعهما في البطلان، كمن قال: إن الله معدوم وموجود وكلاهما من أوضح الأباطيل. 13 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "ومن يقول: لا أثبت واحداً منهما" إلى آخره. معناه: أن هذا الباطني الجهمي المعطل الغالي يزعم أنه لا يقول: إن الله عالم كما لا يقول إنه جاهل، كما أنه لا يقول إنه حي كذلك لا يقول إنه ميت فلا يثبت هذا ولا هذا، بل يتوقف في ثبوت كل واحد منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أجاب شيخ الإسلام عن هذه الشبهة بجوابين: • الجواب الأول: إن امتناع هذا الجهمي عن إثبات أحد هاتين الصفتين لا يستلزم نفيهما في نفس الأمر؛ لأن الامتناع عن إثبات شيء لا يمنع تحقق ضد ذلك الشيء في نفس الأمر، لأن جهل الجاهل وسكوت الساكت لا يعبر عن الحقائق لأن عدم العلم بالشيء ليس علماً بعدمه وامتناعه، فإن الجاهل بالشيء لا يقتضي جهله أن يحكم بأنه غير موجود، وكذا الساكت عن الشيء والمتوقف فيه لا يقتضي توقفه وسكوته بأنه غير موجود. • والجواب الثاني: أن ما يقبل الحياة والموت والعلم والجهل أكمل حالاً مما لا يقبل الحياة ولا الموت ولا العلم ولا الجهل، فإن نفيت عن الله تعالى الحياة والعلم مثلاً فقد شبهت الله تعالى بما لا يقبل الحياة ولا العلم. وما لا يقبل الحياة ولا العلم أقرب إلى الامتناع مما يقبل تلك الصفات. فصار هذا المعطل أعظم مشبه، لأنه قد شبه الله تعالى بالمعدومات والممتنعات. ولهذا قال شيخ الإسلام في الرد عليهم: "وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعاً مما يقدر قبوله لهما. فما يُقدَّر لا يقبل الحياة ولا الموت ولا العلم ولا الجهل ولا القدرة ولا العجز ... أقرب إلى المعدوم والممتنع مما يُقدَّر قابلاً لهما مع نفيهما عنه ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الرد على الممثلة والمعطلة بالأصل الثاني قال شيخ الإسلام: "وهذا يتبيّن بالأصل الثاني، وهو أن يُقال: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات. فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له ـ كما قال ربيعة ومالك وغيرهما ـ: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة1. لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه. وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى سماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته. قيل له ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه ونزوله واستوائه، وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟!   1 أخرج قول الإمام مالك ابن عبد البر في التمهيد (7/138) . وأما قول ربيعة فأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/398) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وإذا كنت تقرّ بأن له ذاتاً حقيقة، ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره، وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم، وكلامهم ونزولهم واستواؤهم. وهذا الكلام لازم لهم في العقليات وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئاً ونفى شيئاً بالعقل، إذاً ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته، وطولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا لم يجد بينهما فرقاً. ولهذا لا يُوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض ـ الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ ـ قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لِمَ تأوّلتم هذا وأقررتم هذا، والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جوابٌ صحيح. فهذا تناقض في النفي. وكذلك تناقضهم في الإثبات، فإن من تأوّل النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه، فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت والرضا والسخط، ولو فسِّر ذلك بمفعولاته وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب، فإنه يلزمه في ذلك نظير ما فرّ منه، فإن الفعل المعقول لا بدّ أن يقوم أولا بالفاعل، والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه المثيب والمعاقب، فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثَّلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك، فكذلك سائر الصفات". معاني الكلمات: بالأصل: الأصل في اللغة: ما يبنى عليه غيره، ويطلق في الاصطلاح على معان منها الدليل والمعنى والجامع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الذات: هي حقيقة الشيء وعينه. عناصر الموضوع: 1 ـ موضوع الأصل الثاني: موضوع الأصل الثاني هو الرد على الذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات وهم المعتزلة. فيقال لهم كما أنكم تثبتون لله تعالى ذاتاً حقيقة على ما يليق بجلاله من غير تشبيه لذات الخالق بذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ثابتة بنفس المنهج وبنفس الطريقة؛ إذ لا يعقل أن توجد ذاتٌ مجردة عن الصفات، فكما أن لله ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين، فكذلك لله صفاتٌ لا تشبه صفات المخلوقين. وبهذه الطريقة نلزمهم إثبات الصفات على ما يليق بجلال الله وكماله، ولا ريب أن هذا الأصل ملزم للمعطلة جميعهم، فإما أن يثبتوا الصفات كما أثبتوا الذات من غير معرفة الكيفية، أو ينفوا الأسماء الواردة والصفات والذات، فيكونوا بذلك نافين لوجود الله؛ لأنه لا فرق بين الذات وبين الصفات من حيث الإثبات. قال الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ: "أما الكلام في الصفات: فإن ما رُوي منها في السنن الصحاح، مذهب السلف رضي الله عنهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها ... والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين ـ عز وجل ـ إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف"1.   1 ذمّ التأويل لابن قدامة (ص14) ، وكذا ذكر الذهبي كلام البغدادي في تذكرة الحفّاظ (3/1142) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 2 ـ لماذا عقد شيخ الإسلام الأصل الثاني؟ عقد شيخ الإسلام هذا الأصل لبيان أن ما يجب اعتقاده في الذات يجب اعتقاده في الصفات، فكما أننا نثبت ذاتاً لائقة بالله عز وجل فكذلك نثبت صفاتٍ لائقة بالله تعالى. فمن أثبت لله ذاتاً لا تماثل ذوات المخلوقين لزمه أن يثبت له صفات لا تماثل صفات المخلوقين، لأن القول في الصفات كالقول في الذات، فكما أن لله ذات حقيقية فصفاته حقيقية، وكما أنه لا يلزم من إثبات الذات تشبيهاً، فإنه لا يلزم من إثبات الصفات تشبيهاً، فليس له شبيهاً لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكما أننا لا نفهم كُنْهَ ذات الله لا نعلم أيضاً كُنْهَ صفات الله. 3 ـ الطوائف التي يرد عليها شيخ الإسلام بالأصل الثاني: يرد شيخ الإسلام بهذا الأصل على جميع فرق المعطلة؛ لأن كل من لم يقر بوجود الله فإنه يقر بأن له ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين، ومن أثبت ذاتاً لزمه أن يثبت له صفاتٍ وإلا شبهه بالمعدومات والطوائف التي يرد عليها بهذا الأصل هم: الفلاسفة الجهمية الذين ينفون جميع الصفات، والباطنية والمعتزلة فهؤلاء جميعاً يثبتون ذاتاً لله مجردة من الصفات، أما الأشاعرة فيكفي الأصل الأول في الرد عليهم وإبطال مذهبهم. وكذلك يرد بهذا الأصل على الممثلة الذين يمثلون صفات الرب ويكيفونها فيقولون كيف استوى؟ وكيف ينزل؟ وكيف يجيء؟ 4 ـ الرد على الممثلة: يُردّ عليهم بجوابين: 1 ـ ما ورد عن السلف كمالك وربيعة وغيرهم أن كيفية الصفة غير معقولة لنا ولا يعلمه العباد؟ فنقول: إنما تعرف كيفية الشيء بمشاهدته أو مشاهدة نظير له والله لا نظير له، فالصفات معلومة المعنى مجهولة الكيفية. 2 ـ وهو رد عقلي وهو مستفاد من الأصل الثاني الذي ذكره شيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الإسلام، فإذا قال كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ نقول: كيف ذات الله؟ فإن قال: لا أعلم كيفية ذات الله. نقول: نحن لا نعلم كيفية صفات الله، فالعلم بكيفية الموصوف فرع للعلم بكيفية الصفة وتابع له. فإذا امتنع العلم بكيفية الذات امتنع العلم بكيفية الصفات. فإذا كنت تقر بأن له ذاتاً لا تشبه سائر الذوات وأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر فيلزمك أن تقر بأن له صفات، وصفاته لا تشبه سائر الصفات. 5 ـ الممثلة وطريقتهم في الصفات، شبهتهم والرد عليهم: الممثلة هو الذين غلوا في جانب الإثبات وقصّروا في جانب النفي. وطريقتهم في الصفات: أنهم أثبتوا لله صفاتٍ على وجه يماثل صفات المخلوقين فقالوا: لله سمع كسمع المخلوقين ووجه كوجههم. • شبهتهم: قالوا: إن الله خطبنا في القرآن بما نفهم ونعقل، ونحن لا نفهم ولا نعقل إلا ما كان مشاهدة فإذا خاطبنا عن الغائب بشيء وجب حمله على المعلوم في الشاهد. • الرد عليهم: قولهم هذا باطل مردود لأن الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] ، ثم إن القول بالمماثلة بين الخالق والمخلوق يستلزم نقص الخالق سبحانه لأن تمثيل الكمال بالناقص يجعله ناقصاً. 6 ـ معنى قول الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول: يقرر الإمام مالك أصلاً من أصول أهل السنة والجماعة ألا وهو أن الصفة معلومة المعنى بمقتضى اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن، وأن الكيفية مجهولة إذ استأثر الله بعلمها، فهي غير معلومة للعباد وإليك التفصيل فيما يأتي: قول الإمام مالك: "الاستواء معلوم" أي: معلوم المعنى في اللغة العربية التي نزل الله بها القرآن، ولها معان بحسب إطلاقه وتقييده بالحرف. فإذا قيد بـ "على" كان معناه العلو والاستقرار كما قال تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] ، وكذلك قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِه ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13] ، فاستواء الله تعالى على عرشه علوه عليه علواً خاصاً يليق به على كيفية لا نعلمها ولا تماثل صفة المخلوقين، وليس هو العلو المطلق على سائر المخلوقات. وقوله: "والكيف مجهول" أي: أن كيفية استواء الله على عرشه مجهولة لنا، وذلك لوجوه ثلاثة: 1 ـ أن الله أخبر أنه استوى على عرشه ولم يخبرنا كيف استوى. 2 ـ أن العلم بكيفية الصفة فرع عن العلم بكيفية الموصوف وهو الذات، فإذا كنا لا نعلم كيفية ذات الله، فكذلك لا نعلم كيفية صفاته. 3 ـ أن الشيء لا تعلم كيفيته إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره أو الخبر الصادق عنه وكل ذلك منتفٍ في استواء الله عز وجل على عرشه، وهذا يدل على أن السلف يثبتون للاستواء كيفية لكنها مجهولة لنا. وقول: "والإيمان به واجب" أي: أن الإيمان بالاستواء على هذا الوجه واجب؛ لأن الله تعالى أخبر به عن نفسه، وهو أعلم بنفسه، وأصدق قولاً وأحسن حديثاًَ فاجتمع في خبره كمال العلم، وكمال الصدق وكمال الإرادة وكمال الفصاحة والبيان، فوجب قبوله والإيمان به. وقوله: "والسؤال عنه" أي: عن كيفيته "بدعة"؛ لأن السؤال عنها لم يُعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه الراشدين، وهو من الأمور الغيبية فكان إيراده بدعة، ولأن السؤال عن مثل ذلك من سمات أهل البدع، ثم إن السؤال عنه مما لا تمكن الإجابة عليه فهو من التنطع في الدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون". وهذا القول الذي قاله مالك وشيخُه يقال في صفة نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا وغيره من الصفات: إنها معلومة المعنى، مجهولة الكيفية، وأن الإيمان بها على الوجه المراد بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 7 ـ مذهب السلف وسط بين التمثيل والتعطيل: أهل السنة والجماعة لا يمثلون صفاتِ الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصف به رسوله، فلا يعطلون أسمائه الحسنى وصفاته العلى، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، فهم وسط بين التعطيل والتمثيل، وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطلون فإنهم مثلوا أولاً إذ لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فجمعوا بذلك بين التعطيل والتمثيل حيث مثلوا أولاً وعطّلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيلٌ لما يستحقه الله من الأسماء والصفات اللائقة به. 8 ـ كل ممثل معطل وكل معطل ممثل: كل واحد من فريقي التمثيل والتعطيل فهو جامع بين التمثيل والتعطيل. • أما الممثل: فقد عطّل الصفة الحقيقية تحت ستار التمثيل ففي قوله: استواء كاستوائي أو كأي استواء تعطيل للصفة الحقيقية التي عليها استواء الحق سبحانه وتعالى، حيث منع ظهورها على الوجه الحقيقي بالقول الباطل الذي رفعه. • أما المعطلون: فلأنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوقات فقالوا: لو كان على العرش لكان محمولاً، ثم شرعوا في نفي تلك الصفة التي اعتقدوها وتعطيلها فجمعوا بين التعطيل والتمثيل. ـ مثّلوا أولاً. ـ وعطّلوا آخراً. وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسماء الله وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 9 ـ الممثل يعبد صنماً والمعطل يعبد عدماً: • فالممثل: اعتقد أو تصور في ذهنه صورةً لربه نحتها من خياله وزعم أنها حقيقة ما دلّت عليه نصوص الكتاب والسنة ثم عبدها من دون الله؛ فهو في الحقيقة يعبد صنماً. • أما المعطل: فلأن اعتقاده مبني على النفي المحض المفرغ من الإثبات والتنكر لمعظم الصفات، فهو لا يثبت شيئاً كما تقدم كان كالذي لا يعبد إلا العدم المحض. 1. ـ الأسئلة والأجوبة الواردة على الأصلين الشريفين: س1 ـ اذكر بإيجاز الأصلين اللذين ذكرهما الشيخ رداً على كل من الماتريدية والأشاعرة، والمعتزلة والجهمية في باب الأسماء والصفات؟ ج ـ الأصل الأول: لأن يقال إن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر. فيقال للمفرق بين الصفات، إما أن تثبت جميع الصفات أو تنفيها معاً لأن الكل من باب واحد. فالذي يلزم من المحذور في بعضها يلزم في بعضها الآخر. الأصل الثاني: أن القول في الصفات كالقول في الذات؛ فكما أن لله ذاتاً لا تشبه الذوات فكذلك له صفات لا تشبه الصفات، فالصفاتُ فرع من الذات فما يقال فيها يقال في الصفات. س2 ـ عرّف الأشاعرة واذكر مذهبهم في الصفات مع الرد عليهم؟ ج ـ أولاً: التعريف بالأشاعرة: فالأشاعرة وهم المنسوبون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري وهو علي بن إسماعيل بن أبي بشر ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري. ثانياً ـ مذهب الأشاعرة في الصفات: 1 ـ أنهم يقرون بالأسماء مع سبع صفات وهي: (الحياة، والقدرة، والعلم، والكلام، والإرادة، والسمع، والبصر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 2 ـ أنهم يجعلون هذه الصفات حقيقية وليست مجازية. 3 ـ أنهم ينازعون في غيرها من الصفات كالمحبة والغضب. 4 ـ أنهم يجعلون هذه الصفات مجازاً، ويفسرونها بأحد تفسيرين: أـ بالإرادة: فيقولون: المحبة هي إرادة الثواب، والغضب إرادة الانتقام وهكذا. ب ـ بالإنعام والعقوبة: فيقولون: المحبة هي الإنعام، والغضب هو العقوبة. * وباختصار فمذهبهم: أنهم يثبتون لله الأسماء مع سبع صفات فقط وهي (الحياة، والقدرة، والعلم، والكلام، والإرادة، والسمع، والبصر) . وهذه الصفات يثبتونها حقيقة ويؤولون باقي الصفات. وحقيقة صفة الكلام عندهم هي المعنى النفسي، لا الكلام الحقيقي المشتمل على الحرف والصوت. ثالثاً ـ الرد على مذهب الأشاعرة: يقال لهم: لا فرق بين ما نفيتموه من الرحمة والغضب والمحبة وغيرها وبين ما أثبتموه من الإرادة والكلام ... فإن القول في أحدهما كالقول في الآخر، ويلزمكم أحد ثلاثة لوازم: 1 ـ أن تقولوا: إن إرادته مثل إرادة المخلوق فكذا المحبة وغيرها، فتقعوا في التمثيل. 2 ـ أن تنفوا الجميع فراراً من الوقوع في التمثيل فتقعوا في التعطيل. 3 ـ أن تقولوا فيما تثبتونه من الإرادة والكلام إنها ثابتة له كما تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به، وحينئذٍ يلزمكم هذا في المحبة والغضب فتقولوا: له محبة كما تليق به، كما أن للمخلوق محبة تليق به وهكذا. س3 ـ هل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة أو لا؟ ج ـ اختلف في ذلك على قولين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 • القول الأول: أنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة وممن لم يعدهم من أهل السنة والجماعة ابن بطة صاحب كتاب (الإبانة في أصول الديانة) ، والسجزي صاحب كتاب: (الصوت والحرف) . • القول الثاني: أنهم يعدون من أهل السنة والجماعة في الأصول التي وافقوا فيها أهل السنة، وليسوا منهم في الأصول التي خالفوهم فيها، وممن قال بهذا الشيخ عبد العزيز عبد الله بن باز والشيخ الألباني رحمهما الله تعالى. ـ فمن الأصول التي وافقوا فيها أهل السنة والجماعة ما يلي: 1 ـ في الصحابة: فالأشاعرة والماتريدية يوافقون أهل السنة والجماعة في الصحابة ولا يخالفونهم فيهم، فأفضلهم عندهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين ويمسكون عن ما شجر بينهم، ويترضون عليهم، ويوالون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 ـ في الإمامة: يرون أنه لا بد من تعيين إمام وطاعته بالمعروف والجهاد معه ودم الخروج عليه. 3 ـ في مسائل اليوم الآخر: من الصراط والميزان والحوض والجنة والنار وأنهما مخلوقتان لا فناء لهما. ومن الأصول التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة ما يلي: 1 ـ في التوحيد: فهم اقتصروا على توحيد الربوبية، وزعموا أن الغاية من خلق الخلق وإرسال الرسل هو توحيد الربوبية. وأنكروا توحيد الألوهية. 2 ـ في الصفات: فهم لم يثبتوا لله عز وجل إلا سبع صفات ويؤّولون باقي الصفات. 3 ـ في الإيمان: زعموا أن الإيمان هو تصديق بالقلب فقط. 4 ـ في القدر: زعموا أن العبد يكسب الفعل وليس له إرادة واختيار في كسبه. وهو مذهب الجهمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 5 ـ في العقل والنقل: فهم يرون تقديم العقل على النقل في مسائل التوحيد والغيبيات والإيمان، ويطلقون على ذلك (العقليات والإلهيات) غير أنهم مسلمون بما ورد في الكتاب والسنة من اليوم الآخر ويسمونه (بالسمعيات) . 6 ـ في خبر الواحد: فهم لا يرون خبر الواحد في مسائل الاعتقاد. 7 ـ في مسائل التحسين والتقبيح العقليين. س4 ـ إذا احتج الأشاعرة بدلالة العقل على ما يثبتونه فكيف ترد عليهم؟ ج ـ أولاً: ننقل احتجاجهم في إثبات الصفات السبعة ثم نرد عليهم. احتج الأشاعرة في إثباتهم للصفات السبعة بأن العقل قد أثبت هذه الصفات ودل عليها وهي كما يلي: 1 ـ القدرة: دل عليها الفعل الحادث: فالفعل هنا مصدر بمعنى المفعول والمقصود وجود المخلوقات. 2 ـ الإرادة: دل عليها التخصيص: أي تميز كل شيء بميزة تخصه من صفة أو وقت أو مكان دليل على إرادة الله لذلك. 3 ـ العلم: دل عليه الإحكام والإتقان في المخلوقات، فهذا لا يكون إلا بكامل العلم. 4 ـ الحياة: لأن القدرة والإرادة والعلم لا تقوم إلا بالحي، فهي مستلزمة للحياة. 5 ـ السمع. 6 ـ البصر. 7 ـ والكلام: لأن الحي لا يخلو من السمع والبصر والكلام أو ضدها من الصمم والعمى والخرس، وهذه الأضداد نقائص يتنزه الله عنها فوجب إثبات الكمال له. وبهذه الدلالات العقلية أثبت الأشاعرة تلك الصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ثانياً: جواب أهل السنة عليهم: أجاب أهل السنة على ذلك بجوابين شافيين وهما كما يلي: • الجواب الأول: على فرض التسليم: أي على فرض التسليم بأن العقل دل على هذه السبع الصفات ولم يدل على غيرها، ومضمون هذا الجواب من ثلاث مقدمات ونتيجة: المقدمة الأولى: أن عدم الدليل المعين وهو هنا العقل لا يستلزم عدم المدلول المعين وهو هنا بقية الصفات، فلو قدرنا أن العقل لا يدل على بقية الصفات لكنه لا ينفيها لعدم مصادمتها للعقل. المقدمة الثانية: وما دام أن العقل لا ينفيها فلا يجوز نفيها بلا دليل؛ لأن النافي عليه الدليل على نفيه كما أن المثبت عليه الدليل كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] فهنا نفوا دخول الجنة لغيرهم فطالبهم الله بالدليل في قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] . المقدمة الثالثة: أن السمع ـ النقل ـ قد دل على بقية الصفات كما سبق سرد الآيات فيها، وهذا السمع لم يعارضه صريح العقل كما قلنا ولم يعارضه دليل في النقل أيضاً. فالنتيجة: أنه يجب إثبات ما أثبته الدليل السالم من المعارض المقاوم له، وهو هنا دليل النقل فإنه سلم من أي معارض فالأصل بقاؤه، وهذا هو المطلوب. • الجواب الثاني على فرض المنع: هذا الجواب مبني على منع قولهم بأن العقل لا يدل على غير تلك الصفات السبع، بل نستطيع أن ندلل على باقي الصفات بنظير ما دللتم به على تلك الصفات من العقليات فنقول: 1 ـ الرحمة: يدل عليها نفع العباد بالإحسان إليهم كدلالة التخصيص على المشيئة عندكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 2 ـ المحبة: يدل عليها إكرام الطائعين في الدنيا والآخرة. 3 ـ البغض: يدل عليه عقاب الكافرين عاجلاً وآجلاً. 4 ـ الحكمة: تدل عليها الغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته أي في مخلوقاته وشرائعه. ودلالة العواقب الحميدة على الحكمة التي ينازع فيها الأشاعرة كدلالة التخصيص على الإرادة بل هي أولى. س5 ـ قال شيخ الإسلام: "الأصل الأول: القول في بعض الصفات كالقول في بعض" على من يرد بهذا الأصل؟ ج ـ يرد بهذا الأصل على كل الطوائف السابقة وبالأخص الأشاعرة والمعتزلة والجهمية. س6 ـ ما معنى العلة الغائية والعلة الفاعلية؟ ج ـ العلة نوعان: 1 ـ علة فاعلية.2 ـ علة غائية. 1 ـ علة فاعلية: وهي سبب وجود الشيء، فيقال: علة وجود الخلق قدرة الله وخلقه، مثالها في القرآن قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس: 82] . 2 ـ علة غائية: وهي الغاية من وجود الشيء، فيقال: علة وجود الخلق عبادة الله تعالى، ومثالها في القرآن قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . س7 ـ ما مذهب الجهمية وما شبهتهم؟ وكيف يجاب عنهم؟ ج ـ أولاًـ مذهبهم: أنهم ينفون الأسماء والصفات فيقولون: لا موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 مجازات لا حقيقة لها. ثانياً ـ شبهتهم: شبهتهم في ذلك أن الإثبات يستلزم التشبيه بالموجودات الحية العليمة القديرة. ثالثاً ـ الجواب على شبهتهم من وجهين: • الوجه الأول: على فرض التسليم بأن الإثبات يستلزم التشبيه بالموجودات فكذلك النفي يستلزم التشبيه بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات. • الوجه الثاني: على فرض المنع، وهو أن إثبات الأسماء والصفات لا يستلزم التشبيه وغاية ما يحصل هو إثبات القدر المشترك الكلي عند الإطلاق، ولذا فإن التشبيه الذي نفته الأدلة النقلية والعقلية ليس هو الاتفاق في المسميات وإنما نفت ما يستلزم اشتراك الخالق والمخلوق فيما يختص به الخالق من صفات الكمال. س8 ـ ما الاعتراض المشهور للباطنية وما الجواب عليه باختصار؟ ج ـ الاعتراض المشهور عندهم هو الاعتراض المبني على ما مقدمات ثلاث ونتيجة: المقدمة الأولى: أن نفي النقيضين إنما يمتنع عما يكون قابلاً للنقيضين. المقدمة الثانية: أن هذه المتقابلات هي من قبيل تقابل الملكة والعدم أي قد يرتفعان عن المحل الذي لا يقبلهما. المقدمة الثالثة: أن الله تعالى ليس بقابل لهذه المتقابلات أصلاً. ـ والنتيجة عندهم: أن الله لا يمتنع عليه رفع النقيضين لأنه ليس بقابل لهما أصلاً. الجواب على هذا الاعتراض من ثلاثة وجوه: • الوجه الأول ـ على فرض المنع: إن هذا الكلام وهو أن هذه المتقابلات من قبيل الملكة والعدم على نوعين: 1 ـ الوجود والعدم وهذا لا يصح كونهما في الملكة والعدم لأنهما من قبيل السلب والإيجاب، أي النقيضين عند عامة العقلاء فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر ويستحيل جمعهما أو رفعهما معاً؛ فلا بد أن يكون الشيء إما موجوداً وإما معدوماً لا ثالث لهما، وهذا مما لا يختلف فيه العقلاء. 2 ـ أما الحياة والموت والعلم والجهل فتسميتهما بالملكة والعدم ومع اتصاف الجمادات بها إنما هو اصطلاح المشائين وهم أتباع أرسطو، وسموا بذلك لأنه كان يلقي الدرس وهو يتمشى والتلاميذ يسيرون من حوله وهذا الاصطلاح مردود لوجوه منها: أولاً: أنه معلوم عقلاً أن ما ليس بحي فهو ميت، وما ليس بعالم فهو جاهل والاصطلاحات لا تدل على نفي الحقائق العقلية الثابتة. ثانياً: أن الله وصف الجمادات بالموت كما في قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] . ثالثاً: أن تسمية الجمادات بالأموات مشهور في لغة العرب كتسميتهم الأرض الجرداء بالميتة ويقال: إحياء الموات، وغيره كثير. • الوجه الثاني ـ على فرض التسليم: لو سلمنا بأن الله تعالى لا يقبل المتقابلات وإنها كتقابل الملكة والعدم في حقه فيقال: 1 ـ إن ما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر وغيرها، أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي لا يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل الاتصاف بالعمى ولا بالبصر، فأنت فررت من تشبيهه بالأحياء القابلة لصفات الكمال فوصفته بالجمادات غير القابلة لها. 2 ـ وأيضاً فإن ما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعاً مما يقبلهما، بل ما لا يقبلهما أعظم امتناعاً مما يقبل اجتماعهما أو ارتفاعهما، فإذا كان اجتماعهما وارتفاعهما ممتنعاً في صرائح العقول فعدم قبوله لهما أعظم امتناعاً، فبقولك هذا جعلت الواجب الذي لا يقبل أي عدم هو أعظم الممتنعات وهذا غاية التناقض والفساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 • الوجه الثالث: أن اتفاق الشيئين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة النقلية والعقلية؛ وإنما التشبيه المنفي هو الذي يستلزم اشتراك المخلوق فيما يختص به الخالق، فما يجب على الله يختلف عما يجب على المخلوق كذلك ما يمتنع على الله يختلف عما يمتنع على المخلوق وهكذا الجواز، فهذه الخصائص لا يمكن أن تشترك بين الخالق والمخلوق. وأما ما نفاه هؤلاء فهو ثابت له تعالى وإنما سموه تشبيهاً وتجسيماً ليموّهوا على العوام وينفروا الجهال عن إثبات صفات الكمال، وبهذا أفسدوا على الناس دينهم وهذه طريقة أهل البدع. س9 ـ تكلم عن شبهة التركيب: من حيث معناها، والقائلون بها، الرد عليهم؟ ج ـ أولاً: معنى شبهة التركيب: معناها: أن إثبات العلم والقدرة والإرادة وغيرها يستلزم تعدد الصفات وها التركيب ممتنع لأنها صفات متغايرة فيلزم أن يكون الموصوف بها مركباً منها، وفي هذا تشبيه بالمخلوق فلذلك فهم يقولون: إن جميع الصفات بمعنى واحد وهي عين ذاته وليست شيئاً زائداً. ثانياً: القائلون بهذه الشبهة: القائلون بها هم الفلاسفة ومن تبعهم من المعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات. ثالثاً: الرد عليهم: من ثلاثة وجوه: • الوجه الأول ـ على فرض التسليم: أي على فرض التسليم بأنه تركيب فأنتم أيضاً تقولون في الله هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، وهذه المعاني متعددة متغايرة المعنى وأنتم تثبتونها فهو تركيب كذلك على مذهبكم وأنتم تسمونه توحيداً، وهذا غاية الاضطراب. ـ وهذه المعاني مع كونها دليلاً عليهم لم يرد بها النص وفيها ما ينزه عنه تعالى من النقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 * فالعقل: مأخوذ من المنع لأنه يضبط النفس لما فيها من القصور، وهذا لا يليق بالله تعالى. * والعشق: هو الحب المفرط المتعلق بالشهوة، وهذا باطل ينزه الله عنه. * واللذة: لم ترد بها النصوص الشرعية، فجميع هذه المعاني باطلة، وإن تعسفوا في تفسيرها. اعتراض: إن قالوا إن هذه الإطلاقات توحيد وليست تركيباً ممتنعاً. الجواب: أن اتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد كذلك وليس بتركيب ممتنع بل هي أولى لدلالة النقل عليها وموافقة العقل لها. • الوجه الثاني ـ على فرض المنع: هذا الجواب مبني على منع قولهم: إن جميع الصفات بمعنى واحد وأنها هي عين ذاتها لا شيئاً زائداً، ويكون المنع بالإبطال من ثلاثة وجوه: 1 ـ أنه من المعلوم بصريح العقل الاختلاف بين كون الشيء عالماً وبين كونه قادراً وبين نفس الذات ومعاني الصفات، فإن كون الموصوف عالماً قادراً زائداً على مجرد الذات. قمن جوَّز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى أو هذه الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة وتمويهاً ومكابرة لصريح المعقول وصحيح المنقول. 2 ـ ثم في قولهم هذا تناقض واضح ووجهه: أنه إن لم يكن للواجب وهو الله تعالى صفات تميزه عن غيره لم يكن واجباً لأن الشيء المجرد عن جميع الصفات ممتنع الوجود فلا يكون واجباً ضرورة، وهؤلاء إنما نفوا التركيب لأنه يستلزم عندهم نفي الوجوب فوقعوا ـ بنفي التركيب ـ في نفي الوجوب الذي فروا منه ووقعوا في التناقض الواضح الفاضح. 3 ـ ثم إن جوزنا أن تكون الصفة هي عين الذات جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا؛ لأن صفة الخلق والإحداث تصبح هي عين الخالق فيكون المخلوق هو الخالق، وهذا يقتضي أن الوجود واحد بالعين أي متحد بين الخالق ومخلوقاته وليس مشتملاً على أفراد متنوعة، وهذا مدخل أهل وحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الوجود، وهم: الذين لا يثبتون وجوداً متنوعاً بل عندهم وجود واحد والخالق هو المخلوق تعالى الله عن قولهم. وعليه يكون وجود الممكن المخلوق هو عين وجود الواجب الذي لا يقبل العدم، وهذا القول هو الذي يفضي إليه زعمهم بأن الصفات عين الذات والله أعلم. • الوجه الثالث ـ الاستفصال: وهو أن يستفصل عن هذا اللفظ فإن لفظ التركيب أصبح من الألفاظ المجملة التي عارض بها المبتدعة النصوص، وقد بين شيخ الإسلام حكم الألفاظ المجملة بقوله: "والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة لما فيها من لبس الحق بالباطل مع ما توقعه في الاشتباه والاختلاف والفتنة". وقال:"فمن لم يستفصل عنها المتكلم بها ... كما كان السلف والأئمة صار متناقضاً أو مبتدعاً من حيث لا يشعر" وسيأتي تفصيل ذلك في القاعدة الثانية بإذن الله. فيقال في التركيب إن له معان منها: 1 ـ المركب: ما كان متفرقاً فركبه غيره، وهذا لا يجوز وصف الله به بل ولم يعتقده أحد من طوائف الأمة. 2 ـ المركب: ما له أبعاض مختلفة، ويقبل التفريق والانفصال والله تعالى مقدس عن ذلك. 3 ـ المركب: ما يقيل الانقسام والتفريق وإن كان بسيطاً غير مركب من أعضاء كالماء، والله منزه عنه أيضاً فهذه المعاني لا تختلف في نفيها مع المتفلسفة والمعتزلة، ولكنهم لا يعنون بنفيهم للتراكيب ما سبق بل لكل منهم اصطلاحات خاصة في لفظ للتركيب أوجبوا نفيها وزعموا أن التوحيد لا يتم إلا بنفيها، قال شيخ الإسلام: "وهؤلاء أحدثوا اصطلاحاً لهم في لفظ التركيب لم يسبقهم إليه أحد من أهل اللغة ولا من طوائف أهل العلم". ومنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ـ أن التركيب هو ما تركب من الذات والصفات كمسمى الحي والعالم والقادر، وهذا إن سلمنا أنه تركيب فنفيه باطل كما سبق في الوجه الثاني. س10 ـ إذا قال بعض النفاة: أنا أنفي النفي والإثبات فما مقصوده بذلك؟ وما الذي يلزمه تجاه ذلك. ج ـ إذا قال بعض النفاة هذه المقولة فمقصوده أن ذلك لا يلزمه التشبيه بالموجودات ونقول له يلزمك التشبيه بالمعدومات بل بالممتنعات؛ لأنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً أو ممنوعاً وكما يمتنع أن يكون الشيء لا هو موجود ولا هو معدوم، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل الاتصاف به. س11 ـ ما المراد بالتشبيه الذي نفته الأدلة السمعية والعقلية. وهل من ذلك اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات؟ ج ـ المراد بالتشبيه المنفي هو الذي يستلزم اشتراك الخالق بالمخلوق فيما يختص به الخالق مما يختص (بوجوبه) كصفات الكمال، أو (جوازه) مثل كونه يحيي ويميت، أو (امتناعه) كاتخاذه الصاحبة والولد ونحوها. * وليس من ذلك اتفاق المسميين في بعض الصفات. س12 ـ ما غرض النفاة في كونهم جعلوا إثبات الأسماء والصفات تشبيهاً وتجسيماً، وما الذي يترتب على ذلك لو كان صحيحاً، وما نتيجة ذلك، وما هو لازم مقالة الملاحدة؟ ج ـ غرضهم التمويه على الجهال الذين يظنون أن كل معنى سمي له هذا الاسم يجب نفيه، وأما ما نفوه فهو ثابت في الشرع والعقل وليس منفياً. * ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ويستفسر منها بعض الناس ليكذبهم بالحق المعلوم بالسمع والعقل. * ونتيجة ذلك: أن هؤلاء الملاحدة أفسدوا على طوائف الناس عقولهم ودينهم حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 س13 ـ وضّح المقصود بالأصل الثاني: "القول في الصفات كالقول في الذات"؟ ج ـ المقصود منه: أن ما يجب اعتقاده في الذات يجب اعتقاده في الصفات فكما أننا نثبت ذاتاً لائقة بالله عز وجل فكذلك نثبت صفات لائقة بالله تعالى. وقال ناظم مختصر خليل1: وما نقول في صفات قدس فرع الذي نقوله في نفس وقال صاحب الكفاية في العقيدة والفِرَق: وثاني الأصلين قل والقول في صفاته كالقول في الذات يفي س14 ـ اذكر أقوال الأئمة المؤيدة لهذا الأصل؟ ج ـ 1 ـ قال الإمام أبو الحسن الأشعري: "وأجمعوا على أن صفته عز وجل لا تشبه صفات المحدثين كما أن نفسه لا تشبه أنفس المخلوقين". فالقول في الصفات كالقول في الذات. 2 ـ وقال الإمام السجزي: "ومع ذلك فلازم لهم في إثبات الذات مثل ما يلزمون أصحابنا في الصفات". 3 ـ قال الخطيب البغدادي: "والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه، فإذا كان معلوماً أن إثبات الباري سبحانه وتعالى إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف". 4 ـ وقال الإمام أبو القاسم التيمي: "وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات ثم قال ... وعلى هذا مضى السلف كلهم". إلى غير ذلك فهذا مما اجتمع عليه سلف الأمة وعلماؤنا الأئمة2.   1 التوضيحات الأثرية لأبي العالية (ص14.) . 2 التوضيحات الأثرية لأبي العالية (ص141) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 س15 ـ تكلم عن معنى الذات مع ذكر الخلاف في دخول أل عليها؟ ج ـ معنى الذات: الذات: أصلها في اللغة: مؤنث ذو، بمعنى صاحب وصاحبة، ثم استعملت ذات الشيء بمعنى حقيقته وعينه، ومنه قول ابن عباس رضي الله عنهما: "تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله". ـ وقال قوم من أهل العلم: ذات الله حقيقته. ـ وقال التيمي في الحجة: (1/171) فصل في بيان ذكر الذات. * واختلف أهل العلم في دخول (أل) عليها على قولين: الأول: أنها تدخل عليها وهي عربية وهو قول جماعة من السلف. الثاني: أنها لا تدخل عليها بل هي مما شاع عند المتأخرين فهي لفظ مولد وهو قول المحققين واختاره شيخ الإسلام. والصواب أنها تأتي في اللغة مضافة وشواهده من الكتاب والسنة واللغة كثيرة ومنها ما يلي: 1 ـ من القرآن: قوله تعال {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] . 2 ـ من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات اثنتان في ذات الله" رواه البخاري ومسلم (2371) . 3 ـ ومن اللغة: أبيات خبيب الأنصاري في مقتله فإنه قال: ولست أبالي حين أُقتل مسلماً وذلك في ذات الإله وإن يشأ على أي شق كان في الله مصرعي1 يبارك على أوصال شلو ممزع 16 ـ ما الرد على من سأل عن كيفية الصفات؟ ج ـ إذا سأل عن كيفية استواء الله تعالى فيجاب عليه بجوابين نقلي وعقلي:   1 المصدر السابق (ص143) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أولاً ـ الجواب النقلي: ـ قول الإمام ربيعة ومالك وغيرهما: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة "فالاستواء معلوم المعنى وقد فسره أئمة التابعين كما في البخاري في كتاب التوحيد (باب وكان عرشه على الماء) (13/4.3) فتح الباري. عن مجاهد: أن استوى بمعنى علا. وعن أبي العالية: بمعنى ارتفع. والكيف مجهول لقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 11.] . والإيمان بالاستواء واجب والسؤال عن كيفيته بدعة لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكن الإجابة عنه، وهذا باب مطرد في جميع الصفات الثابتة لرب البريات وعلى هذا مضى السلف وأقوالهم متوافرة متواترة، وللاستزادة انظر الأصل (ص 1.6، 1.7) . ثانياً ـ الجواب العقلي: 1 ـ يقال للسائل: كيف هو؟ أي كيف ذاته جل وعلا؟ فإذا قال: لا أعلم كيفية ذاته، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية استوائه فإن العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الذات الموصوفة، فالصفة فرع عن الموصوف، فكيف تطالبنا بالعلم بكيفية سمعه ونزوله واستوائه وأنت لا تعلم كيفية ذاته! 2 ـ فإذا كنت تقر بأن له ذاتاً حقيقية ثابتة مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء فسمعه وبصره ونزوله واستواؤه ثابت متصف بالكمال لا يشابهه شيء من صفات المخلوقين. وهذا الرد العقلي هو تطبيق لهذا الأصل وهو: "القول في الصفات كالقول في الذات". س17 ـ ما حكم السؤال عن كيفية الصفة. علل لما تقول. وكيف تجيب من يسأل عن كيفية الصفة؟ ج ـ حكمه لا يجوز بل هو بدعة؛ لأنه سؤال عن كيفية لا يعلمها البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 * والجواب على سؤاله يجاب عليه بجواب مالك بن أنس وربيعة الرأي فمثلاً لو سأل عن كيفية الاستواء يقال له: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة". س18 ـ عندما يسأل المعطل كيف ينزل ربنا، كيف نجيب عليه؟ ج ـ إذا قال المعطل ذلك، أقول له: كيف هو؟ عند ذلك يقول هو لا أعلم كيفيته، فأقول له: وكذلك نحن لا نعلم كيفية نزوله؛ لأن العلم يكيفيته يستلزم العلم بكيفية الموصوف وهو فرع له وتابع له إذ الكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات، فكيف تطالبني بمعرفة كيفية سمعه وبصره ونزوله واستوائه وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟ س19 ـ قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا الكلام لازم له في العقليات وفي تأويل السمعيات". من المقصود بهذا الكلام؟ وما معنى ذلك؟ وما الذي يلزم من نفى شيئاً أو أثبت شيئاً بطريق العقل؟ وهل يجد المفرق بين الصفات فرقاً حقيقياً بينهما؟ وما الذي يلزم من عدم التفريق بين الصفات؟ ج ـ المقصود هنا هم الأشاعرة والماتريدية. * معنى ذلك: أن الكلام السابق الذي ذكره المؤلف من حيث ثبوت جميع الصفات ونفي المماثلة وعدم العلم بالكيفية شامل لجميع الصفات. * وهو لازم للأشاعرة في الصفات السبع التي يسمونها عقليات وفي البقية التي يسمونها سمعيات، ومن حاول التفريق بينهما تناقض، وإذا أثبت بعض الصفات بالعقل ونفى البعض الآخر لزمه فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته. * لا يجد المفرق فرقاً بين المحذور فيما أثبته وهي الصفات السبع وبين المحذور فيما نفاه من الصفات. * الذي يلزم من عدم التفريق بين الصفات هو أنه لا يوجد لنفاة بعض الصفات قانون مستقيم. فإذا قيل لهم لِمَ تأوّلتم هذا؟ وأثبتم هذا؟ لم يكن لديهم جواب صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 س20. ـ وضح التناقض عند الأشاعرة والماتريدية في الإثبات؟ وما الذي يلزم من ذلك؟ بيّن ذلك بالتفصيل؟ ج ـ تناقض الأشاعرة والماتريدية في الإثبات هو تأويلهم النص من معنى إلى آخر. * والذي يلزم من ذلك: أنهم إذا حرّفوا النص على المعنى الذي هو مقتضاه إلى المعنى الآخر لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه. فمثلاً، قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران: 31] . يؤولون المحبة بإرادة القلوب فالذي يلزمهم من المحذور في الإثبات صفة المحبة وهو المعنى المصروف عنه لازم في صفة الإرادة وهو المعنى المصروف إليه. س21 ـ كيف نجيب على الأشعري إن قال بأن صفات المحبة والغضب عبارة عما يخلقه الله من الثواب والعقاب؟ ج ـ يجاب عليه بجوابين: • الأول: أن الفعل المعقول أي الذي يعقله العقلاء لا بد أن يقوم أولاً بالفاعل؛ فالثواب فعل يفعله الله في مخلوقاته فلا بد أن يوصف الفاعل بالإثابة لأنه فاعل للثواب فهو مثيب، وكذلك العقاب فحينئذٍ أثبتم لله الفعل والعبد يوصف بالفعل وهذا نظير ما فررتم منه فإن الإثابة والمعاقبة أفعال يتصف بها المخلوق، فإذا أثبتموها على الوجه الذي يتصف به المخلوق وقعتم في التشبيه إن أثبتموها كما يليق بالله فكذلك جميع الصفات. • الثاني: أن الثواب والعقاب المفعول إنما يكون على ما يحبه ويرضاه المثيب ويسخطه ويبغضه المعاقب، فلزم من إثبات الثواب والعقاب إثبات تلك الصفات. س22 ـ اذكر المسلكين اللذين بنى عليهما الأشاعرة معتقدهم؟ ج ـ المسلكان هما: • الأول ـ التأويل: وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 المرجوح لغير دليل كقولهم في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [صّ: 75] أي بقدرتي. • الثاني ـ التفويض: وهو إمرار النصوص على ظاهرها من غير اعتقاد معنى لها، ففي المثال السابق يقولون: (اليد) لفظ لا يعلم معناه بل هو بمنزلة الحروف المقطعة في القرآن. وكلا المسلكين يرجعان إلى التعطيل لأن في المسلكين نفياً للمعاني الصحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 المباينة بين مخلوق ومخلوق دليلٌ على المباينة بين الخالق والمخلوق قال شيخ الإسلام" "وأما المثلان المضروبان: فإن الله سبحان وتعالى أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات من أصناف المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً وماء ولحماً وفاكهة وحريراً وذهباً وفضة وحوراً وقصوراً، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء1"، فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا، وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق. وهذا بَيِّنٌ واضحٌ، ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق: ـ فالسلف والأئمة وأتباعهم: آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وأن مباينة الله لخلقه أعظم. ـ والفريق الثاني: الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب   1 أورده ابن جرير الطبري في تفسيره (1/391ـ392) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 والعقاب، ونفوا كثيراً مما أخبر به من الصفات، مثل طوائف من أهل الكلام: [المعتزلة] ومن وافقهم. ـ والفريق الثالث: نفوا هذا وهذا، كالقرامطة الباطنية والفلاسفة أتباع المشائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر. ثم إن كثيراً منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب، فيجعلون الشرائع المأمور بها، والمحظورات المنهي عنها، لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون الصلوات الخمس:، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، فيقولون: إن الصلوات الخمس: معرفة أسرارهم، وإن صيام شهر رمضان: كتمان أسرارهم، وإن حج البيت: السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم، وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله. وقد يقولون: إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم رفعوا عنه الواجبات، وأباحوا له المحظورات. وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب. وهؤلاء الباطنية الملاحدة أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى. وما يحتج به أهل الإيمان والإثبات على يَشرِك هؤلاء في بعض إلحادهم، فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات، كما دلّت على ذلك الآيات البيّنات كان ذلك هو الحق الذي يوافق المنقول والمعقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ويهدم أساس الإلحاد والضلالات. والله سبحانه وتعالى لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يُستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أَوْلى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أَوْلى أن يُنزّه عن مماثلة المخلوق وإن حصلت موافقة في الاسم. وهكذا القول في المثل الثاني وهو الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تُقبض من البدن، وتُسل منه كما تُسل الشعرة من العجين. والناس مضطربون فيها: فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءاً من البدن، أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النفس أو الريح التي تتردد في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة أو المزاج، أو نفس البدن. ومهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفونه به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون: لا هي داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا هي عَرَض، وقد يقولون: إنها لا تدرك الأمور المعينة، والحقائق الموجودة في الخارج، وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة، وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة. وربما قالوا: ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها، مع تفسيرهم للجسم بما يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل. قالوا: بل هذا ممكن، بدليل أن الكليات ممكنة موجودة، وهي غير مشار إليها. وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال. واضطرب النفاة والمثبتة في الروح كثير، وسبب ذلك أن الروح ـ التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة ـ ليست هي من جنس هذا البدن، ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرّفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكلا القولين خطأ. وإطلاق القول عليها بأنها جسم، أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل، فإن لفظ (الجسم) للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي. فأهل اللغة يقولون: الجسم هو الجسد والبدن، وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسماً، ولهذا يقولون: الروح والجسم، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم} [المنافقون: 4] ، وقال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْم} [البقرة: 247] . وأما أهل الكلام، فمنهم من يقول: الجسم هو الموجود ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المركب من الجواهر المنفردة. ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة، وكل هؤلاء يقولون: إنه مشار إليه إشارة حسية. ومنهم من يقول: ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا، بل هو ما يشار إليه ويقال: إنه هنا أو هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فعلى هذا إذا كانت الروح مما يشار إليه ويتبعه بصر الميّت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الروح إذا خرج تبعه البصر"1، وإنها تقبض ويعرج بها إلى السماء كانت الروح جسماً بهذا الاصطلاح. والمقصود، أن الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً، والشيء إنما تدرك حقيقته إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أوْلى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول هم أعجز أن يحدّوه أو يكيّفوه (منهم عن أن يحدّوا الروح أو يكيفوها) . فإن كان من نفى صفات الروح جاحداً معطلاً لها، ومن مثَّلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلاً ممثلاً لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات مستحقة لما لها من الصفات فالخالق سبحانه وتعالى أوْلَى أن يكون من نفى صفاته جاحداً معطلاً، ومن قاسه بخلقه جاهلاً به ممثلاً، وهو سبحانه ثابت بحقيقة الإثبات، مستحقٌ لما له من الأسماء والصفات". معاني الكلمات: المثال: هو قياس شيء على شيء، فالأمثال أقيسة عقلية تقرب المعاني إلى الأفهام. المباينة: المفارقة. الحقائق: جمع حقيقة. عناصر الموضوع: 1 ـ لماذا عقد شيخ الإسلام هذا المبحث؟ عقد شيخ الإسلام هذا المبحث لتقرير صفات الرب سبحانه وتعالى وأن إثباتها لا يستلزم تشبيهاً.   1 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (2/634) برقم 92. من حديث أم سلمة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 2 ـ المقصود بالمثل الأول وهو نعيم الجنة: أن الله تعالى أخبرنا أن في الجنة نعيماً سواء في المأكل والمشرب والمسكن والملبس وكل ما سماها من المسميات لها نظير في الدنيا، فموجودات الآخرة من النعيم مثل موجودات الدنيا من النعيم والاسم والمعنى العام ولكن الحقيقة والكنه مختلف كما قال ابن عباس: "ليس في الدنيا شيء من الآخرة إلا الأسماء" فالاتفاق هو الأسماء والمعنى الكلي العام المشترك وأما الحقائق فهي مختلفة. 3 ـ شرح للمثل الأول: أخبر الله تعالى أن في الجنة طعاماً وشراباً ولباساً، وزوجات ومساكن ونخلاً وفاكهة، ولحماً وخمراً ولبناً وحلية من ذهب وفضة وغير ذلك، وكله حق على حقيقته وهو في الاسم موافق لما في الدنيا من حيث المعنى لكنه مخالف في الحقيقة. أما موافقته لما في الدنيا في المعنى فلأن القرآن عربي، ولولا موافقته له في المعنى لما فهمناه ولا عقلناه وأما مخالفته له في الحقيقة؛ لأن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، فإذا كانت هذه الأسماء دلالة مسمياتها حقيقة وكان اتفاقهما مع ما في الدنيا من الأسماء لا يستلزم اتفاق المسميات في الحقيقة بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله فإن مباينة الخالق للمخلوق أعظم وأظهر من مباينة المخلوق للمخلوق، لأن في التباين بين المخلوقات تباين بين مخلوق ومخلوق مثله. 4 ـ الداعي لإثبات قدر مشترك بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة: لو لم نثبت القدر المشترك وهو الاتفاق في الاسم وفي المعنى الكلي العام لما فهم الخطاب، فلا بدّ من إثبات قدر مشترك عام تتواطأ فيه المسميات، أي تتفق في المعاني العامة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وأما الحقائق فهي مختلفة فإن نعيم الجنة مباين لنعيم الدنيا، والدليل على مباينة نعيم الجنة لنعيم الدنيا قول الله في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "اقرؤوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] . فإن قيل: هذا فيما لم يذكر من نعيمها في القرآن؟ قيل: هذا يتناول هذا وذاك كما في الأسماء والصفات فإنه يشمل ما ذكر وما استأثر الله بعلمه. 5 ـ أقسام الناس فيما أخبر الله من نعيم الجنة واليوم الآخر: افترق الناس في الأمور الغيبية فيما أخبر الله عن نفسه وعن اليوم الآخر إلى ثلاث فرق: • الأولى: السلف والأئمة واتباعهم آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، وأنه حق على حقيقته، مع اعتقادهم التباين بين ما في الدنيا وما في الآخرة، وأن التباين بين الخالق والمخلوق أولى ولأعظم وأبين لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . • الثانية: طوائف من أهل الكلام يؤمنون بما أخبر الله به عن اليوم الآخر من الثواب والعقاب، وينفون كثيراً مما أخبر الله به عن نفسه من الصفات. • الثالثة: القرامطة والباطنية والفلاسفة لا يؤمنون بما أخبر الله به عن نفسه ولا عن اليوم الآخر بل ينكرون حقائق هذا وهذا. فمذهبهم فيما أخبر الله عن نفسه وعن اليوم الآخر أنه تخيل لا حقيقة له، وأما في الأمر والنهي فكثير منهم يجلبون للمأمورات والمنهيات تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، فيقولون: المراد بالصلوات: معرفة أسرارهم، وبالصيام: كتمان أسرارهم، وبالحج: السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام أنه كذب وافتراء وكفر. وإلحاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقد يقولون: إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا وصل الرجل إلى درجة العارفين والمحققين عندهم ارتفعت عنه التكاليف فسقطت عنه الواجبات، وحلت له المحظورات، وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب، وهؤلاء الباطنية هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى، لعظم إلحادهم ومخالفتهم لجميع الشرائع الإلهية. 6 ـ شرح المثل الثاني الذي ضربه شيخ الإسلام من المباينة لمباينة الروح بالمخلوقات: يسهب شيخ الإسلام بتمهيد طويل عن الروح بذكر مذاهب الناس فيها واضطراب الناس في حقيقتها واختلافهم اختلافاً شديداً متبايناً، وسأضرب صفحاً عن هذا الاستطراد حتى لا يتشتت ذهن القارئ وأُبيِّن المقصود فيه. وإيضاح هذا المثل: أن الروح التي بها الحياة، وهي أقرب شيء إلى الإنسان وقد وصفت بأنها تقبض من البدن ويصعد بها إلى السماء ويعاد بها إلى البدن ولا ينكر أحد وجودها حقيقة، وقد عجز الناس عن إدراك كنهها وحقيقتها إلا ما علموه عن طريق الوحي، فإذا كانت الروح حقيقة واتصافها بما وصفت به في الكتاب والسنة حقيقة مع أنها لا تماثل الأجسام المشهورة كان اتصاف الخالق بما يستحقه من صفات الكمال مع مباينة للمخلوقات من باب أولى، وكان عجز أهل العقول عن الله أو يكيفوه أبين من عجزهم عن حد الروح وتكيفها. 7 ـ تعريف القدر المشترك: القدر المشترك هو: "المعنى الكلي الذي لا يوجد إلا في الذهن". وبعبارة أخرى: فإن القدر المشترك بين الأسماء والصفات المقولة على الرب وعلى غيره، هو المعنى اللغوي الذي نفهمه من لغة التخاطب ـ اللغة العربية ـ التي نزل بها الوحي، وهو المشترك المعنوي الذي تتفاضل أفراده، وهو المشكك أحد أقسام المتواطئ وهو شبه بين هذه الأسماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 والصفات من هذا الوجه مع التفاضل والتباين من وجه آخر. 8 ـ القدر المشترك ضروري لفهم الخطاب: تقدّم بيان أن القدر المشترك ضروري لفهم الخطاب إجمالاً. وسأذكر ذلك تفصيلاً من كلام شارح الطحاوية ابن أبي العز ـ رحمه الله تعالى ـ فقال: "وأعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط. فالرسول صلى الله عليه وسلم لما بيَّن لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها وأتي بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني وجعلها أسماء لها، فيكون بينها قدر مشترك كالصلاة والزكاة والصوم والإيمان والكفر. وقد يكون الذي يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ، وبين مفردات ألفاظ ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه شهادة كاملة، ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب أشهدهم إياه وأشار لهم إليه، وفعل فعلاً يكون حكاية له وشبهاً به يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهود هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة، فينبغي أن تعلم هذه الدرجات: أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة. ثانيها: عقله لمعانيها الكلية. ثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية المعقولة. فهذه المراتب الثلاثة لا بد لها منها في كل خطاب، فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلا بد من تعريفنا للمعاني المشتركة بينها وبين الحقائق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 المشهودة، والاشتباه الذي بينهما وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة، ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق وإن لم يكن مثلها، وبين بذكر الفارق، بأن يقال: ليس ذلك مثل هذا ونحو ذلك وإذا تقرر انتفاء المماثلة، كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق، وانتفاء التساوي، لا يمنع من وجود القدر المشترك، الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط"1. 9 ـ مثال يوضح المقصود من القدر المشترك: سبق بيان القدر المشترك بمثال وهو: نعيم الآخرة، فإن الله تعالى أخبرنا بما وعدنا في الدار الآخرة من النعيم والعذاب، وأخبرنا بما يؤكل ويشرب وينكح، ويفرش وغير ذلك، فلولا معرفتنا بما يشبه ذلك في الدنيا لم نفهم ما وعدنا به ونحن نعلم من ذلك أن تلك الحقائق ليست مثل هذه فبين هذه الموجودات في الدنيا وتلك الموجودات في الآخرة مشابهة وموافقة واشتراك من بعض الوجوه، وبه فهمنا المراد وأحببنا ورغبنا فيه أو أبغضناه ونفرنا منه، وبينهما مباينة ومفاضلة لا يقدر قدرهما في الدنيا، وهذا من التأويل الذي لا نعلمه نحن، بل يعلمه الله تعالى فما أخبرنا الله من صفات المخلوقين نعلم تفسيره ومعناه، ونفهم الكلام الذي خوطبنا به، ونعلم معنى العسل واللحم واللبن والحرير والذهب والفضة، نفرق بين مسميات هذه الأسماء، وأما حقائقها على ما هي عليه، فلا يمكن أن نعلمها نحن، ولا نعلم متى تكون الساعة، وتفصيل ما أعده الله لعباده: لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، بل هذا من التأويلات الذي لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى. فإذا كان هذا في هذين المخلوقين، فالأمر بين الخالق والمخلوق أعظم فإن مباينة الله لخلقه وعظمته وكبريائه وفضله أعظم وأكبر مما بين مخلوق ومخلوق. فإذا كانت صفات ذلك المخلوق مع مشابهتها لصفات هذا المخلوق،   1 شرح العقيدة الطحاوية (1/64ـ68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بينهما من التفاضل والتباين ما لا نعلمه في الدنيا بل هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وصفات الخالق عز وجل أولى أن يكون بينها وبين صفات المخلوق من التباين والتفاضل ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وأن يكون هذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله1. وقال شيخ الإسلام: "ولولا أن هذه الأسماء والصفات تدل على معنى مشترك كلي يقتضي من المواطأة والموافقة والمشابهة ما به نفهم ونثبت هذه المعاني لله؛ لم نكن قد عرفنا عن الله شيئاً ولا صار في قلوبنا إيمان به ولا علم ولا معرفة ولا محبة ولا إرادة لعبادته ودعائه وسؤاله ومحبته وتعظيمه. فإن جميع هذه الأمور لا تكون إلا مع العلم، ولا يمكن للعلم إلا بإثبات تلك المعاني التي فيها من الموافقة والمواطأة ما به حصل لنا ما حصل من العلم لما غاب عن شهودنا2. وهذا القدر المشترك الضروري هو وجه الشبه بين ما يقال على الله تعالى من الأسماء وعلى المخلوق "وكون الله شبيهاً بخلقه من بعض الوجوه متفق عليه بين سائر المسلمين لاتفاقهم على أن الله تعالى موجود وشيء وعالم وقادر، فما من موجود إلا وله شبيه من بعض الوجوه، لاشتراكهما في الوجود"3. هذا الشبه هو المعنى اللغوي، ولا يقتضي أبداً مماثلة في كيفية ولا قدر بل هو موجود مع المفاضلة والمباينة. وعلى هذا لا يصح أن ينفي الشبه بين الله وبين خلقه مطلقاً في أصل اللغة إنما يكتفي بنفي المماثلة فحسب، ولذلك جاء القرآن والسنة بالثاني دون الأول. ففي القرآن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ولم   1 انظر شرح حديث النزول (ص1.4ـ1.9) . 2 المصدر السابق (ص111) . 3 نقض التأسيس (1/382) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 يأت في شيء من القرآن والسنة (ولا يشبهه) لما ذكرنا. وأما ما جاء عن بعض الأئمة من نفي الشبه، فهو مصطلح معين يقصد به نفي المماثلة فقط، لا نفي المعنى اللغوي والقدر المشترك. ومن هذا نعلم أن نفي الشبه من الألفاظ المجملة1، فإن قصد به نفي المماثلة فهو صحيح، وإن قصد ما يقصده الجهمية من نفي القدر المشترك فهو باطل، والأولى في هذا، الاقتصار على ألفاظ النصوص ـ والله أعلم ـ ولذلك لم يعبر شيخ الإسلام في (العقيدة الواسطية) إلا بنفي المماثلة، لما في نفي الشبه من الإجمال والتلبيس. 1. ـ أقسام الناس في القدر المشترك: انقسم أهل الكلام في القدر المشترك إلى قسمين: • القسم الأول: من أهل الكلام من قال: إن إثبات القدر المشترك وهو كون هذه الأسماء والصفات حقيقة في حق الخالق وفي حق المخلوق يلزم أن يكون مماثلاً للمخلوقات2، ولزم أن يجوز ويجب ويمتنع على المخلوق وما يجوز وما يجب وما يمتنع على الخالق، فنفوا ما نفوه من الصفات أو الأسماء والصفات أو بعض الصفات بناءً على ذلك. وهذه هي شبهة التشبيه المشهورة عند المعتزلة وغيرهم، وقد رد عليهم الأئمة وبينوا أنه لا يلزم من إثبات هذا القدر المشترك إثبات مماثلة بين الله وبين خلقه وأن نفيه يلزم منه تعطيل الله سبحانه وتعالى عن صفاته، وإنكار ما وصف به نفسه وهذا هو الكفر. قال نعيم بن حماد: "من شَبّه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه". وقال إسحاق بن راهويه: "علامة جهمٍ وأصحابه: دعواهم على أهل   1 انظر: منهاج السنة (2/11.ـ112) ، وشرح العقيدة الطحاوية (1/57) . 2 انظر مجموع الفتاوى (3/77) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 السنة والجماعة أنهم مشبهة، بل هم المعطلة"1. وقال: "إنما يكون التشبيه إذا قال: يد مثل يدي، أو سمع مثل سمعي، فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله: يد وسمع وبصر، فلا يقول: كيف ولا يقول مثل، فهذا لا يكون تشبيهاً عنده قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] 2. وقال أبو عمر الطلمنكي: "قال قوم من المعتزلة والجهمية: لا يجوز أن يسمى الله عز وجل بهذه الأسماء على الحقيقة، ويسمى بها المخلوق، فنفوا عن الله الحقائق وأثبتوها لخلقه. فإذا سئلوا: ما حملكم على هذا الزيغ؟ قالوا: الاجتماع في التسمية يوجب التشبيه. قلنا: هذا خروج عن اللغة التي خوطبنا بها؛ لأن المعقول في اللغة أن الاشتباه في اللغة لا يحصل بالتسمية وإنما تشبيه الأشياء بأنفسها أو بهيئات فيها كالبياض بالبياض، والسواد بالسواد، والطويل بالطويل، والقصير بالقصير، ولو كانت الأسماء توجب اشتباهاً لاشتبهت الأشياء كلها لشمول اسم الشيء لها وعموم تسمية الأشياء به فنسألهم: تقولون إن الله موجود؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: يلزمكم على دعواكم أن يكون مشبهاً للموجودين. وإن قالوا: موجود ولا يوجب وجوده الاشتباه بينه وبين الموجودات، قلنا: كذلك هو حي عليم قادر مريد سميع بصير متكلم يعني ولا يلزم من ذلك اشتباهه بمن اتصف بهذه الصفات3. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: "وقد يجوز أن يدعى البشر ببعض هذه الأسماء وإن كانت مخالفة لصفاتهم، فالأسماء فيها متفقة والتشبيه والكيفية   1 نقله عنهما ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية (1/85) . 2 نقله عنه الترمذي في جامعه. 3 نقله عنه الذهبي في (العلو) كما في (مختصر العلو) (ص264) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 مفترقة، كما يقال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، يعني في الشبه والطعم والذوق والمنظر واللون، فإذا كان كذلك فالله أبعد من الشبه وأبعد، فإن كنا مشبَّهة عندك إن وحدنا الله إلهاً واحداً بصفات أخذناها عنه وعن كتابه، فوصفناه بما وصف به نفسه في كتابه، فالله في دعواكم أول المشبهين بنفسه، ثم رسوله الذي أنبأنا ذلك، فلا تظلموا أنفسكم ولا تكابروا العلم إذ جهلتموه، فإن التسمية من التشبيه بعيدة1. • القسم الثاني: قالوا: إن هذه الأسماء والصفات المقولة على الرب تعالى وعلى المخلوق مقولة بالاشتراك اللفظي فقط2من غير أن يكون بين المسميين معنى عام. وهذا هو عين التعطيل لأسماء الله وصفاته، وهو نوعٌ من أنواع تفويض المعاني للصفات، وهو أنَّا نتلو اللفظ من غير أن نفهم منه أي معنى، وهذا فيه مع ما فيه من أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفهموا معاني الصفات، بل يجعلون الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ قرآناً بما لا يفهم معناه، وتكلم بأحاديث الصفات وهو لا يفهم معناها ولم يدر ما يقول، ولا يجوز لعاقل أن يظن هذا بأحد العقلاء، فضلاً عن أفضل الخلق وأعلمهم بالله وأفصحهم وأنصحهم للخلق، ومع هذا يجعلونه هو قول السنة وأنه معنى قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ، ولو تصوروا حقيقة ما قالوه ولوازمه لعلموا أنه يلزمهم ما هو من أقبح أقوال الكفار في الأنبياء، وهم لا يرتضون مقالة من يقدح في الأنبياء، إذن لاستحلوا قتله وهم مصيبون في ذلك. وقولهم هذا أعظم القدح في الأنبياء لكن لم يعرفوا ذلك، ولازم القول ليس بقول، وهذا ضلال عظيم وهو أحد أنواع الضلال في كلام الله   1 نقضه على المرسي (1/3.) . 2 انظر: شرح حديث النزول (ص82) ، وشرح العقيدة الطحاوية (1/63) .ر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ورسوله1، بل إن قول أهل التفويض من شر أقوال أهل البدع والإلحاد2. 11 ـ سبب اضطراب أهل الكلام في القدر المشترك: سبب اضطراب وحيرة أهل الكلام في هذا الباب ما يلي: • السبب الأول: أن هذه الأسماء والصفات التي يسمى ويوصف الخالق بها الخالق والمخلوق وضعت عند الإطلاق لخصائص المخلوقين، وهذا واضح جلي في كلامهم مثل قول بعضهم: ننزه الله عن اليدين لأن اليد جارحة تتكون من لحم وعظم وعصب وهذا كله جهل وضلال، في الشرع وكذب وخطأ، فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافته إليه، فإذا قال سمع العبد وبصره فهذا خاص بالإنسان، وإذا قيل سمع الله وبصره فهذا خاص بالرب سبحانه وتعالى لائقة به، فهذه الأسماء والصفات لم توضع لخصائص المخلوقين عند الإطلاق ولا عند الإضافة إلى الله، ولكن عند الإضافة إليهم، وإذا أطلقت ولم تضف إلى شيء أصبحت كلية لا توجد إلا في الأذهان، ثم هي عند أهل اللغة بحسب ما تضاف إليه، وهي عند الإطلاق تكون قدراً مشتركاً، ويكون هذا القدر المشترك هو أن نسبة كل صفة إلى موصوفها، فإذا أضيف العلم إلى الإنسان وإلى الملك وإلى الجني فنسبة علم الملك والجني إليها كنسبة علم الإنسان إليه، وكذلك الوجه وسائر الصفات3. • السبب الثاني: أنه اشتبه عليهم ما يتصور في الأذهان بما يوجد في الأعيان فظنوا أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعنى، أي أن هذه الأسماء والصفات التي تطلق على الخالق والمخلوق   1 انظر: شرح حديث النزول (ص2.5ـ23.) . 2 انظر: درء التعارض (1ـ2.5) . 3 انظر: مجموع الفتاوى (2/218) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 إذا أطلقت بدون إضافة كما إذا قيل: "الحي، الموجود، السميع ... " أن ذلك موجود في الخارج وفي الأعيان لا في الأذهان فقط وهذا سبب غلطهم، فإن الأسماء المطلقة الكلية لا توجد في الخارج والأعيان وإنما توجد في الخارج والأعيان إذا أضيفت إلى معين1. ولكي يتضح أكثر نضرب هذا المثال: "القدر المشترك الكلي مطلق لا يوجد إلا في الذهن" نذكر هذا المثال وهو: أنك لو طلبت من شخص مثلاً أن يحضر لك الإنسان أو الحيوان، أو يخبرك عن العلم أو الوجود أو نحو ذلك لقال لك: أي إنسان تريد؟ أو أي حيوان تريد؟ فإذا عينته له أحضره لك، لأن الإنسانية المطلقة أو الحيوانية المطلقة ليس لها في الخارج وجود، وإنما هي كلية تطلق على كثيرين لا توجد إلا في الذهن، ولا يمكن وجودها في الخارج إلا معينة. وكذلك في المثال الآخر: فإنه لن يخبرك إلا عن العلم المطلق فيعرفه لك أو يعرف لك الوجود، فإنه ينقسم إلى ممكن وواجب ونحو ذلك، وهذا لا يوجد إلا في الذهن ليس له وجود في الخارج، وليس في الخارج إلا المعينات، فلا يمكنه أن يخبرك إلا أن تقول له علم زيد ووجود زيد مثلاً، فلا يشتبه ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء طالما لم يفرقوا بين ما في الأذهان وما في الأعيان وقعوا في الاضطراب والحيرة والغلط2. 12 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "وإن قال نفاة الصفات، إثبات العلم والقدرة والإرادة مستلزم تعدد الصفات وهذا تركيب ممتنع": أقول: حاصل هذا الكلام: أن من شبهات الجهمية أنهم يزعمون أنه لوثبت لله صفات متعددة كالعلم والبصر والحياة والكلام مثلاً. يستلزم ذلك تركيباً في الله تعالى، والله منزه عن التركيب.   1 انظر: شرح حديث النزول (ص 83ـ87) ، وشرح العقيدة الطحاوية (1/63) . 2 انظر: صفة النزول الإلهي لعبد القادر محمد (ص367) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذه الشبهة بقوله: إنكم أيها الجهمية الباطنية: قد قلتم إن الله تعالى موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، ومعشوق ولذيذ وملتذ ولذة؛ أليست هذه صفات متعددة؟! أليس هذا تركيباً في الله تعالى؟! فما بالكم تُسمون تركيبكم توحيداً وتسمون توحيدنا تركيباً وتشبيهاً؟! 13 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "واجب الوجود": أقول: الواجب الوجود: هو الذي وجوده واجب وعدمه ممتنع وهو الله تعالى وضده "ممتنع الوجود" وهو الذي عدمه واجب ووجوده ممتنع كشريك الباري، وقصد شيخ الإسلام أن هؤلاء المعطلة يحاولون أن يثبتوا أن الله تعالى واجب وجوده، ولكنهم لأجل تعطيلهم جعلوا الله تعالى ممتنع الوجود لأنهم وصفوه بصفات المعدوم والممتنع. فدليلهم الذي أقاموه على إثبات كون الله تعالى واجب الوجود هو في الحقيقة دليل على كون الله تعالى ممتنع الوجود، فقد هدموا بنيانهم بأيديهم! 14 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "إنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة": أقول: "الأمور المعينة" يقصد بها الجزئيات الخارجية التي هي أفراد واقعية في العالم المحسوس. كأفراد الإنسان نحو زيد وعمرو وبكر وخالد ومحمد وأحمد فإن الإنسان الكلي باعتبار مفهومه العام لا يوجد في الخارج لأنه أمر ذهني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وإنما يوجد في الخارج هو أفراد ذلك المعنى الكلي. قوله: "والحقائق الموجودة في الخارج" بيان وتفسير وشرح لقوله: "الأمور المعينة". وقوله: "الأمور الكلية المطلقة". معناه: الكلي من حيث العموم لا من حيث حصوله في أفراده. والمعنى: أن الروح عند هؤلاء لا تدرك الأمور الجزئية بل تدرك الأمور العامة الكلية غير المقيدة. أقول: هذا مذهب باطل لا دليل عليه، بل الروح تدرك الأمور الجزئية كما تدرك الأمور الكلية، فإن الروح موصوفة بأنها تعرج وتصعد وتقبض وتُسلُ وغير ذلك من الأمور الكلية والجزئية التي وردت في الكتاب والسنة مع بيان أن الروح تدركها. 15 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان": أقول: الكليات جمع كلي، وهو خلاف الجزئي، والكلي عند المناطقة، ما لا يمنع نفس تصور مفهومه عن وقوع الشركة فيه كالإنسان العام، فإنه يشترك فيه زيد ومحمد وبكر فيدخل جميع أفراد الإنسان في مفهومه العام بخلاف الجزئي، نحو زيد؛ فإنه لا يصدق إلا على هذا الفرد الواحد فقط لا غير. وإذا عرفت تعريف الكلي، فاعلم أن الكلي من حيث العموم أمر ذهني لا يوجد في الخارج، لأن الخارج لا يوجد فيه إلا الأعيان دون الأمور الذهنية، فالكي يتصوره الذهن فقط فلا وجود له في الخارج. الحاصل: أن هؤلاء المعطلة يصفون الله تعالى بصفات تقتضي أن لا يكون الله تعالى موجوداً في الخارج، بل تجعله موجوداً ذهنياً فقط فلا شك في إبطال هذا المذهب لأن الله تعالى موجود بذاته خارج الأذهان في الخارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 16 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "هو المركب من الجواهر المنفردة ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة..". أقول: اختلف المتفلسفة تبعاً للفلاسفة الكفرة في تركيب الجسم، ما هو الجسم؟ ومن أي شيء يتركب فذكر شيخ الإسلام ههنا عدة أقوال لهم في الجسم وتركيبه مع اتفاقهم على أن الجسم يشار إليه إشارة حسية بأنه هنا أو هناك أو ههنا؟ فبعضهم يقول: الجسم ما كان مركباً من الجواهر المنفردة. والجواهر المنفردة جمع الجوهر المفرد. الجوهر المفرد هو الجزء الصغير الذي لا يمكن تقسيمه؛ أي لا يقبل القسمة والانقسام قطعاً. ويقال له: الجزء الذي لا يتجزأ، أي لا ينحل. فالجوهر خلاف العرض؛ فالجوهر ما كان قائماً بنفسه كالجسم مثلاً. والعرض ما كان قائماً بغيره كاللون مثلاً نحو بياض الثلج، وسواد الزنجي، وهي قائمة بغيرها لا تقوم بأنفسها. والمفرد أي الجزء المتفرد الذي لا ينقسم إلى جزئين فصاعداً. وبعضهم يقول: الجسم ما كان مركباً من المادة والصورة. والمراد من "المادة" أصل الشيء، والمراد من "الصورة" وضع الشيء بعد تركيبه، أي هيئته وشكله وتناسب بعض أجزائه مع بعض. (المادة) ههنا جوهر، (والصورة) ههنا عرض. وأقول: مقصود شيخ الإسلام من هذا المبحث الطويل تبكيت المتكلمة ومناظرتهم بقواعدهم وعلومهم ومصطلحهم، فيريد شيخ الإسلام إثبات أمور. • الأمر الأول: أن الروح مما يشار إليه إشارة حسية فالروح سواء كانت جسماً أم لا ولكنها متصفة بعدة صفات؛ كالوجود والحياة، والعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 والسمع والبصر والصعود والنزول والذهاب والمجيء ونحوها من الصفات وهي فينا ومعنا، وهي مخلوقة. ومع ذلك نرى أن العقول قاصرة عن إدراك حقيقتها؛ فكيف تصل العقول إلى إدراك حقيقة صفات الله تعالى وذاته وكنهه وكيفية صفاته وتحديدها. • الأمر الثاني: أن من نفى صفة من صفات الروح، كان جاحداً معطلاً مبطلاً؛ فما بالك بمن نفى صفة من صفات الله تعالى فإنه يكون معطلاً جاحداً مبطلاً بالطريق الأولى. • الأمر الثالث: أن من شبه صفة الروح بصفات غيرها من المخلوقات كان مشبهاً. فكذلك من شبه صفة من صفات الله تعالى بصفات خلقه، كان مشبهاً بالطريق الأولى. • والأمر الرابع: وهو الأهم: وهو أن الروح مخلوقة وموجودة فينا وهي معها وهي متصفة بعدة صفات كما سبق بيانه، فإذا آمنا بصفات الروح ووصفنا الروح بتلك الصفات التي اتصفت بها الروح ولم يلزم من ذلك أن نكون مشبهين، فكذلك إذا آمنا بصفات الله تعالى ووصفنا الله تعالى بصفاته اللائقة به سبحانه وتعالى من غير تكييف ولا تشبيه ـ لا يلزم من ذلك أن نكون مشبهين الله تعالى بخلقه. 17 ـ الأسئلة والأجوبة على المثلين المضروبين: س1 ـ بين المراد من إيراد هذين المثلين: (الجنة والروح) مع ذكرهما بإيجاز؟ ج ـ المراد من إيرادهما هو توكيد الأصلين السابقين وتوكيد ما ينفي من مماثلة الله لخلقه. • المثل الأول: إنه لا يلزم من اشتراك المسميات في الاسم العام اشتراكهما في المسمى والحقيقة، فمثلاً ما في الجنة ـ من نعيم ومقام ـ ليس مثل ما في الدنيا بل بينهما تباين عظيم لا يعلمه إلا الله فقد قال ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 عباس ـ رضي الله عنهما ـ: (ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء) . فالخالق سبحانه أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق ومباينته سبحانه للمخلوقات أعظم من مباينة موجود للآخرة من موجودات الدنيا ذلك لأن المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق. • المثل الثاني: أنه لا يلزم من كون الشيء موجوداً معرفة كيفية صفاته، لأن الروح موجودة فينا لا ينكر وجودها أحد، ولكن مع ذلك لا يقدر أحد على تكييف صفاتها. فكذلك صفات الله تعالى لا يمكن تكييفها. س 2 ما المقصود بضرب المثال بالجنة؟ وعلى من يردّ بهذا المثال؟ ج ـ المقصود بهذا المثل: أن التشابه بين موجودات الدنيا وموجودات الآخر في الأسماء والمعاني دون الحقائق والكيفيات، فإذا كان هذا التباين واقعاً بين المخلوقات فمن باب أولى أن يقع بين الخالق ومخلوقاته. * يرد بهذا المثال: على من زعم أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه بناء على الاتفاق في الاسم، فإن جميع ما في الجنة يتفق مع ما في الدنيا ومع ذلك لم يستلزم التشبيه فكيف بالخالق جل وعلا، فالمباينة بين الخالق والمخلوق أعظم من مباينة المخلوق للمخلوق، وأعظم من مباينة موجود الآخر لموجود الدنيا، وهذا جد واضح. س3 ـ اذكر مواقف الناس فيما أخبر الله به من الغيبيات؟ ج ـ للناس ثلاث مذاهب من الغيبيات: • المذهب الأول: مذهب السلف والأئمة وأتباعهم: آمنوا بجميع ذلك مع علمهم بالمباينة بين ما في الآخرة وما في الدنيا، وأن مباينة الله لخلقه أعظم وأولى كما صرحت بذلك الأدلة. • المذهب الثاني: هم الذين أثبتوا ما أخبر الله به عن الآخرة ولكنهم نفوا كثيراً مما أخبر به عن نفسه فمنهم من نفاه جميعاً ـ الأسماء والصفات ـ كالجهمية، ومنهم من نفى الصفات كالمعتزلة، ومنهم من نفى بعضها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 كالأشاعرة والماتريدية، فالجميع يؤمنون بما جاء عن اليوم الآخر وينفون تفاصيل الصفات إذا اعتبرنا مسألة الرؤية في الآخرة من مسائل الصفات لأنهم ينفونها باعتبار تعلقها بالله تعالى ويزعمون امتناعها في حقه. • المذهب الثالث: نفوا جميع ذلك وهم القرامطة الباطنية والفلاسفة المشاؤون، وزعموا أن أخبار اليوم الآخر خيالات جاءت بها الرسل لإصلاح الخلق أو يسمونه "بمصلحة الجمهور". * فالفريق الأول: هم أهل التنزيل. والثاني: هم أهل التعطيل، والثالث: هم أهل التخييل. س4 ـ اذكر مذهب الباطنية في الأحكام مع بعض الأمثلة لتأويلاتهم، وأنواعهم، والحكم عليهم؟ ج ـ أولاً ـ مذهبهم في الأحكام: كثير منهم جعل الأمر والنهي أي الشرائع من هذا الباب، أي من باب الأمور التي لها ظاهر وباطن كالغيبيات عندهم فتأويلاتهم في عامة أبواب الدين. ثانياً ـ أمثلة لتأويلاتهم في الأحكام: 1 ـ الصلوات الخمس عندهم: هي معرفة أسرارهم. 2 ـ صيام رمضان عندهم: يؤولونه بكتمان أسرارهم. 3 ـ حج البيت عندهم: هو السفر إلى شيوخهم. 4 ـ الربا عندهم: هو إيصال الرغبة في الإكثار في الخير. 5 ـ الزنا عندهم: هو إيصال المستجيب من غير شاهد. ونحو ذلك من أنواع التحريف والإلحاد. ثالثاً ـ من تلزمهم الشرائع عندهم: يقولون إن هذه الشرائع تلزم العامة دون الخاصة فإذا صار الرجل من عارفيهم وموحديهم رفعوا عنه الواجبات وأباحوا له المحرمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 رابعاً ـ أنواع الباطنية: وهم نوعان: 1 ـ باطنية قرامطة: وهم بعض فرق الرافضة. 2 ـ باطنية صوفية: وقد تبنوا رفع الشرائع عن الخاصة وغيرها. خامساً ـ حكم الباطنية: * أجمع المسلمون على أن الباطنية الملاحدة أكفر من اليهود والنصارى لوجهين: 1 ـ أن كفر الباطنية باطن كالمنافقين، وأما اليهود والنصارى فهم يعلنون كفرهم. 2 ـ أن الباطنية في حقيقتهم ينكرون الرسالات وينكرون الخالق والمعاد، وأما اليهود والنصارى فيقرون بجنس النبوة فهم أقل كفراً ممن ينكر أصلها، ويقرون بالخالق والمعاد. * وهم أخطر من المنافقين الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين: 1 ـ أن المنافقين دخلوا الإسلام خوفاً لحقن دمائهم وحفظ أموالهم، وأما الباطنية فدخلوه للكيد منه. 2 ـ أن المنافقين كانوا يقرون ما يقر به أهل زمانهم من إثبات الخالق والمعاد، وقد يقرون بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم باطناً لكنهم لم يتابعوه، وأما الباطنية فجحدوا الشرائع والنبوات ظاهراً وباطناً. س5 ـ اذكر الأقيسة الجائزة وغير الجائزة في حق الله تعالى مع التعليل؟ ج ـ الأقيسة على ثلاث أقسام: 1 ـ قياس التمثيل: وهو القياس الأصولي وهو مساواة فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما. وهذا القياس ممتنع في حق الله تعالى لأنه يستلزم التمثيل بينه وبين خلقه لأن فيه التسوية بين المقيس والمقيس عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 مثاله عند المتكلمين: قولهم بافتقار الله إلى العرش قياساً على افتقار المخلوق إذا استوى على العرش. فالفرع عندهم: استواء الله. والأصل: استواء المخلوق. والعلة: الاستواء. والحكم: هو الافتقار. 2 ـ قياس الشمول: وهو القياس المنطقي وهو ما كان مركباً من مقدمتين فأكثر ونتيجة بحيث تستوي الأفراد في كلي يشملها. وهذا القياس ممتنع في حق الله تعالى لأن فيه تمثيلاً لله بمخلوقاته. ومثاله عند المتكلمين: كل متصف بالصفات فهو جسم، والله متصف بالصفات فالنتيجة أن الله جسم فركبوا القياس ثم نفوا الصفات حتى لا يقعوا في التجسيم وهذا مسلك المعتزلة. وهذان القياسان لا يجوز استخدامها في حق الله، وهما اللذان ينصب عليهما نهي السلف رحمهم الله. 3 ـ قياس الأوْلَى: وهو أن كل كمال اتصف به المخلوق فالخالق أولى به وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بالتنزيه عنه، وهذا يجوز في حق الله بضابطين: • الضابط الأول: أن يكون الكمال ليس فيه نقص بأي وجه من الوجوه، فالأكل والشرب كمال عند المخلوق لكن فيه نقص من وجه وهو الافتقار والحاجة إليهما، فلا يصح أن يتصف بهما الخالق لهذا النقص. • الضابط الثاني: أن يكون الكمال قد دل عليه النقل ثم يأتي القياس تعضيداً وتعزيزاً فقط. * وقياس الأولى: مستفاد من النصوص الشرعية ومنها ما يلي: 1 ـ قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 6.] أي وصف الكمال المطلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 2 ـ وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] . س6 ـ ما حكم ضرب الأمثال لله تعالى؟ ولماذا؟ وما المثل الأعلى الذي يجب لله؟ ج ـ لا يجوز ضرب الأمثال لله تعالى التي فيها مماثلة بخلقه. لأنه سبحانه لا مثيل له بل له المثل الأعلى. والمراد بالمثل الأعلى الذي يجب لله: هو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال جاز أن يتصف به الخالق فالخالق أولى به، وكل مل ينزه المخلوق عنه من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق كنزهاً عن مماثلة المخلوق وإن حصلت موافقة في الاسمية، فالله تعالى أولى بذلك. س7 ـ ما هو مراد شيخ الإسلام من إيراده بحث الروح هنا؟ وما سبب اختلاف واضطراب النفاة والمثبتة فيها، مع ذكر بعض من أقوال النفاة فيها؟ ج ـ مراده بيان أن الروح متصفة بصفات والبدن متصف بالصفات ولم يوجب ذلك أن تكون الروح مثل البدن فالرب سبحانه متصف بصفات وكذلك المخلوق، وليست صفات الخالق كصفات المخلوق. وسبب اضطراب النفاة والمثبتة في الروح أن الروح التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة ليست هي من جنس هذا البدن ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها في الأجسام المشهودة وطائفة أخرى يجعلونها من أجزاء البدن أو صفة من صفاته كقول بعضهم إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن. والخلاصة أن سبب اختلافهم فيها: ـ مخالفة النفس للمحسوس مما جعلهم يختلفون في تعريفها. س8 ـ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "وإطلاق القول على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الروح بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل.." اشرح هذا التفصيل؟ ج ـ إطلاق القول على الروح بأنها جسم ... أو ليست بجسم.. يحتاج إلى تفصيل. لأن في لفظ الجسم أقوالاً للناس متعددة الاصطلاح غير معناه الأصلي اللغوي، فأصل الجسم عند أهل اللغة: هو الجسد والبدن وبهذا الاعتبار ليست الروح جسماً وبهذا ليست الروح جسماً وبهذا يقولون: الروح، والجسم فيقرنون بينهما كما قال الله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْم} [البقرة: 247] ، وأما أهل الكلام فعندهم أن الجسم هو القائم بنفسه أو المركب من الجواهر المفردة أو المركب من المادة والصورة أو ليس مركباً مما ذكر.. بل هو ما يشار إليه. ويقال: إنه هنا وهناك، وهذا القول هو الصحيح الذي يشهد له العقل والنقل في تعريف الجسم وهو ما يقبل الإشارة الحسية ويمكن رؤيته، ومتصف بالصفات وعليه يصح أن تسمى الروح جسماً، لأنه مما يصح أن يشار إليه ويتبعها بصر الميت وإنها تقبض فيعرج بها إلى السماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. س9 ـ اذكر مذاهب الناس في الروح؟ ج ـ أولاً: مذهب أهل السنة والجماعة أنها حقيقة موجودة موصوفة بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص بأنها تعرج وتصعد كما في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه} [المعارج: 4] ، وتقبض من البدن كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر"، وتسل كما تسل الشعرة من العجين كما في حديث البراء بن عازب الذي أخرجه أحمد وغيره وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص159، وغير ذلك من الصفات. ثانياً: مذهب أهل الكلام وهم على قولين: القول الأول: القائل بأنها من جنس الأجسام المشاهدة ثم يختلفون في تفسيرها كما يلي: 1 ـ أنها نفس البدن كما نقل عن عبد الرحمن بن الأصم وهو من معتزلة البصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 2 ـ أنها جزء من البدن. 3 ـ أنها هي النفس أو الريح المترددة في البدن كما نقل عن الباقلاني. القول الثاني: القائل بأنها صفة من صفات البدن أي من جنس الأعراض ثم يفسرونها بما يلي: أـ أنها الحياة. ب ـ أنها المزاج. ثالثاً: مذهب الفلاسفة: يصفون الروح بما يصفون به إلههم واجب الوجود فلا يصفونها إلا بالصفات السلبية الممتنعة كما سبق فيقولون: لا هي داخل البدن ولا هي خارجه، ولا مباينة ولا مداخلة، ولا متحركة ولا ساكتة، ولا تصعد ولا تهبط ولا جسم ولا عرض، ولهم أقوال أخرى. س1. ـ عرّف ما يلي: النفس الناطقة، الجسم، الجواهر المفردة، الهيولى، الصورة والمادة؟ ج ـ النفس الناطقة: هي العاقلة المفكرة المدبرة التي تدرك الأمور الكلية والجزئية. الجسم: في اللغة: هو الجسد والبدن الخارجي كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] .فائدة: إذا كان الجسم هو الجسد والبدن الخارجي إذاً فلا يصح أن تسمى الروح في اللغة جسماً. أما في الاصطلاح: فقد اختلف المتكلمون في الجسم على عدة أقوال منها: 1 ـ أن الجسم: هو الموجود وبهذا الإطلاق يصح تسمية الروح جسماً. 2 ـ أن الجسم هو القائم بنفسه ويصدق هذا على الروح بعد القبض أي بعد الموت لأنها تستقل عن الجسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 3 ـ أن الجسم: هو المركب من الجواهر المفردة. وهذا لا يصدق على الروح. 4 ـ أن الجسم: هو المركب من المادة والصورة وهذا لا يصدق على الروح. الجواهر المفردة: هي الأجزاء التي لا تقبل انقساماً لا في الخارج ولا في الفرض العقلي. وهذا عند المتكلمين، يخالفهم فيها جمهور العقلاء. المادة: هي أصل الشيء، والجوهر الذي تقوم عليه الأشياء كالطين مثلاً وتسمى (الهيولى) . الصورة: هي وضع الشيء وشكله بعد تركيبه وهو العرض القائم بالمادة كتشكيل ذلك الطين، فاجتماع الطين مع شكله يكون جسماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 " الخاتمة الجامعة لسبع قواعد جامعة نافعة في الرد على المعطلة" القاعدة الأولى ... " الخاتمة الجامعة لسبع قواعد جامعة نافعة في الرد على المعطلة" قال شيخ الإسلام: "وأما الخاتمة الجامعة: ففيها قواعد نافعة: القاعدة الأولى أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي فالإثبات كإخباره أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك. والنفي كقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] ، وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء هو كما قيل: ليس بشيء فضلاً أن يكون مدحاً أو كمالاً، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال. فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ* لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] إلى قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فنفيُ السِّنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبيِّن لكمال أنه الحي القيوم. وكذلك قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يكرثه، ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقد على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته، وعيبٌ في قوته. وكذلك قوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْض} [سبأ: 3] ، فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات والأرض. وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ: 38] ، فإنّ نفيَ مسَّ اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة، ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من النصب والكلال ما يلحقه. وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 1.3] ، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء، ولم ينفِ مجرد الرؤية؛ لأن المعدوم لا يُرَى وليس في كونه لا يُرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً، وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُئي، كما أنه لا يُحاط به وإن عُلم، فكما أنه إذا عُلِم لا يُحاط به علماً، فكذلك إذا رُئي لا يُحاط به رؤية. فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفة كمال، وكان ذلك دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. وإذا تأمّلت ذلك وجدتَ كل نفي لا يستلزم ثبوتاً هو مما لم يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً، بل ولا موجوداً. وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا: إنه لا يتكلم، أو لا يُرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستوِ على العرش، ويقولون: ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايث له، إذ هذه الصفات يمكن أن يُوصف بها المعدوم، وليس هي مستلزمة صفة ثبوت، ولهذا قال محمود بن سُبكتكين لمن ادّعى ذلك في الخالق: ميِّز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم. وكذلك كونه لا يتكلم، أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها م لا يتصف به إلا الجماد أو الناقص. فمن قال: لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة من قال: لا هو قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدَث، ولا متقدم على العالم ولا مقارن له. ومن قال: أنه ليس بحي ولا سميع، ولا بصير ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتاً أصم أعمى أبكم. فإن قال: العمى عدم البصر عمّا من شأنه أن يقبل البصر، وما لا يقبل البصر كالحائط لا يقال له: أعمى ولا بصير قيل له: هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يُوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والصمم والعمى والخرس والعجمة. وأيضاً: فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حياً، كما جعل عصا موسى حيَّة، ابتلعت الحبال والعصي. وأيضاً: فالذي لا يقبل الاتصاف بهذا الصفات أعظم نقصاً ممن يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يُوصف بالبصر ولا العمى، ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصاً من الحيّ الأعمى الأخرس. قيل: إن الباري ـ عز وجل ـ لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ذلك، مع أنه إذا جُعل غير قابل لهما كان تشبيهاً له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منهما، وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات، فكيف ينكر من قال ذلك على غيره ما يزعم أنه تشبيه بالحي. وأيضاً: فنفس نفي هذه الصفات نقصٌ، كما أن إثباتها كمالٌ، فالحياة من حيث هي هي ـ مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها ـ صفة كمال، وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والفعل، ونحو ذلك، وما كان صفة كمال فهو ـ سبحانه وتعالى ـ أحقّ بأن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به لكان المخلوق أكمل منه. واعلم أن الجهمية المحضة كالقرامطة ومن ضاهاهم ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولون: ليس بموجود ولا ليس بموجود، ولا حيّ ولا ليس بحي. ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائهِ العقول، كالجمع بين النقيضين. وآخرون وصفوه بالنفي فقط، فقالوا: ليس بحي ولا سميع، ولا بصير وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه، وأولئك أعظم كفراً من هؤلاء من وجه. فإذا قيل لهؤلاء: هذا يستلزم وصفه بنقيض ذلك كالموت والصمم والبكم. قالوا: إنما يلزم ذلك لو كان قابلاً لذلك. وهذا الاعتذار يزيد قولهم فساداً. وكذلك من ضاهى هؤلاء، وهم الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، إذا قيل لهم: هذا ممتنع في ضرورة العقل، كما إذا قيل: ليس بقديم ولا محدث، ولا واجب ولا ممكن، ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره. قالوا: هذا إنما يكون إذا كان قابلاً لذلك، والقبول إنما يكون من المتحيز، فإذا انتفى المتحيّز انتفى قبول هذين النقيضين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فيقال لهم: علم الخلق بامتناع الخلو من هذين النقيضين هو علم مطلق، لا يُستثنى منه موجود، والتحيز المذكور إن أُريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به، فهذا هو الداخل في العالم، وإن أُريد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي: مباين له متميز عنها، فهذا هو الخروج. فالمتحيز يُراد به تارة ما هو داخل العالم، وتارة ما هو خارج العالم، فإذا قيل: ليس بمتحيز، كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه. فهم غيَّروا العبارة ليُوهِموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر، وهو المعنى الذي عُلم فساده بضرورة العقل، ولا عالم ولا جاهل". معاني الكلمات: وأما الخاتمة: عطف على قوله المتقدم: (فأما الأصلان. وأما المثلان ... ) وهو تفصيل لقوله: ويتبين هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين. موصوف بالإثبات والنفي: أي إثبات جميع صفات الكمال ونفي جميع صفات المعائب والنقائص. المعدوم والممتنع: أي موصوف الكمال مع نفي جميع صفات المعائب والنقائص. عناصر الموضوع: 1 ـ موضوع القاعدة الأولى: إن الله موصوف بالإثبات لجميع صفات الكمال وموصوف بالنفي لجميع صفات النقص وهذا هو المدح، فالمدح يكون بإثبات الكمال ونفي النقص ولا أحد أحب إليه من الله وأن النفي المحض لا مدح فيه إلا إذا تضمن إثبات كمال الضد. 2 ـ على من يَردُّ شيخُ الإسلام بالقاعدة الأولى؟ يردُ شيخ الإسلام بالقاعدة الأولى على طائفتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 المعطلة: الذين يقتصرون على صفات النفي دون الإثبات فلا يصفونه إلا بالنفي والسلوب. المشبهة: الغالين في إثبات الصفات ولكنهم لا ينزّهون الله عن النقائص. 3 ـ شرح القاعدة الأولى: يقرر شيخ الإسلام من خلال استقرائه للنصوص أن الله تعالى جمع فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وإنما جمع الله تعالى لنفسه بين النفي والإثبات، لأنه لا يتم كمال الموصوف إلا بنفي صفات النقص، وإثبات صفات الكمال، وكل الصفات التي نفاها الله عن نفسه صفات نقص كالإعياء واللغوب والعجز والظلم ومماثلة المخلوقين. وكل ما أثبته الله لنفسه فهو صفات كمال كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 6.] ، سواء كانت من الصفات الذاتية التي يتصف بها أزلاً وأبداً أم من الصفات الفعلية التي يتصف بها حيث تقتضيها حكمته؟، وإن كان أصل هذه الصفات الفعلية ثابتاً له أزلاً وأبداً فإن الله تعالى لم يزل ولا يزال فعالاً، وكل صفة نفاها الله عن نفسه فإنها متضمنة لشيئين: أحدهما: انتفاء تلك الصفة. الثاني: ثبوت كمال ضدها. 4 ـ من أصول أهل السنة والجماعة: أن النفي عندهم متضمن لإثبات كمال الضد: تقدم أن من أصول أهل السنة في باب الأسماء والصفات أن النفي متضمن لإثبات كمال الضد، فإن النفي المحض ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً للكمال، وذلك للأسباب الآتية: 1 ـ لأن النفي المحض غير المتضمن للإثبات عدمٌ محض، والعدم المحض ليس بشيء لأنه عدم، وما دام عدماً وليس بشيء فلا يكون كمالاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 2 ـ ولأن النفي المحض يوُصف به المعدوم، فيقال ليس بموجود ولا حي وغير ذلك، بل يوصف به الممتنع فيقال: ليس بممكن ولا موجود. 3 ـ ولأن النفي المحض فيه إساءة أدب، قال ابن أبي العز: "وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب، فإنك لو قلت للسلطان: أنت لستَ بزبّال ولا كساح ولا حجّام ولا حائك لأدّبك"1. 5 ـ أمثلة ذكرها المؤلف للنفي المتضمن لكمال الضد: فجميع ما وصف الله تعالى به نفسه من النفي متضمن لإثبات كمال ومدح وأمثلة ذلك يوضحها الجدول الآتي2: الآية تضمنها لكمال الضد {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] لكمال حياته وقيوميته. {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] .أي لا يكترثه ولا يثقله. لكمال قدرته التي لا تتخلها مشقة. {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] لكمال علمه. {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ: 38] لكمال قدرته ونهاية قوته. {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 1.3] أي لا تحيط به. لكمال عظمته. {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] لكمال عدله.6 ـ صفات الله عز وجل لا يكون النفي فيها محضاً: صفات الله لا يكون النفي فيها محضاً بل لا بد أن يكون لإثبات كمال ضد ذلك للوجوه الآتية: 1 ـ أن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 6.] أي الوصف الأكمل، وهذا معدوم في النفي المحض.   1 شرح الطحاوية (1/7.) . 2 التوضيحات الأثرية (ص13.) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 2 ـ النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء فكيف يكون مدحاً وكمالاً. 3 ـ أن النفي إن لم يتضمن كمالاً فقد يكون لعدم قابلية الموصوف لذلك المنفي أو ضده أو يكون لنقص الموصوف لعجزه عن الكمال. 7 ـ المعطلة يصفون الله تعالى بالنفي المحض: المعطلة يقتصرون على النفي المحض ولا يثبتون كمال الضد، فيقولون عن الله تعالى: إن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا فوق العالم ولا تحته ولا متصل بالعالم ولا منفصل عنه، كما أنهم يقولون: إن الله ليس بحي ولا بصير ولا متكلم. فلزمهم أن يكون ميتاً أصماً أعمى وأبكم، وهم بهذا لا يثبتون إلهاً موجوداً بل إلهاً معدوماً. والأخذ بالنفي دون الإثبات تفريق بين المتماثلين وهو ممتنع في بدائه العقول فلا بد من الجمع بين الإثبات والتنزيه كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . ومن القواعد المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة الجمع بين الإثبات والتنزيه في باب الصفات وهذه الطريقة موافقة للعقل الصريح، وذلك لأن إثبات صفات الكمال لا يتأتَّى إلا بنفي صفات النقص المتضمن لإثبات الكمال. 8 ـ مفهوم التنزيه عند المعطلة: خالف المعطلةُ أهلَ السنة في مفهوم التنزيه، حيث جعلوه معولاً لهدم بنيان صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة، وأول من أدخل النفي في التنزيه هم الجهمية، فقد قال عنهم الإمام أحمد: أن توحيدهم غالبه سلوب بدون إثبات، وتابعهم بعد ذلك المعتزلة، فقد نقل عنهم الأشعري في المقالات أنهم أجمعوا على: "أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وليس بجسم ولا شبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عَرَض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق، ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء، وجوارح وأعضاء وليس بذي جهات ولا بذي يمين وشمال وأمام وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه الماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق ... "1فهذه جملة قولهم في التوحيد وقد شاركهم في هذه الجملة الخوارج وطوائف المرجئة وطوائف من الشيعة. قال ابن أبي العز في بيان فساد هذه الطريقة: "والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات ولا يتدبرون معانيها، ويجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده ... والمقصود أن غالب عقائدهم السلوب ليس بكذا، ليس بكذا، وأما الإثبات فهو قليل وهو أنه قادر حيّ، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات فإن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي، ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله2. 9 ـ معنى قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} : أي لا تحيط به الأبصار لعظمته وجلاله وكماله، وإن كانت تراه في الآخرة وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم، فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية بل   1 مقالات الإسلاميين للأشعري (ص155) . 2 شرح العقيدة الطحاوية (1/71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 يثبتها بالمفهوم، فإنه إذا نفى الإدراك الذي هو أخص أوصاف الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة. فإنه لو أراد نفي الرؤية لقال: لا تراه الأبصار، ونحو ذلك، فعُلِم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة، الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة، بل فيها ما يدل على نقيض قولهم. وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم من أهل السنة. وقال بعضهم: إن الإدراك بمعنى أن الله لا يُرى في الدنيا دون الآخرة وأما أهل البدع فإن معنى الإدراك عندهم هو نفي الرؤية مطلقاً في الدنيا والآخرة، ولازم قولهم: إن الله معدومٌ؛ إذ المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يُرى مدحٌ؛ إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُؤي. 1. ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ) فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب ... ) . أقول: السلوب جمع سلب والسلب هو النفي، والمراد أن هؤلاء المعطلة الغلاة لا يصفون الله تعالى بصفات ثبوتية كالسمع والبصر والعلو ونحوها من الصفات الكمالية الدالة على مطالب عظيمة ومعارف دالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، بل هؤلاء المعطلة الغلاة ـ يصفون الله تعالى بأمور عدمية فيقولون: الله لا معدوم ولا موجود، ولا يتكلم ولا يرى ولا يسمع، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا أمام ولا خلف، ولا داخل ولا خارج، ولا متصل ولا منفصل، فهذه الصفات في الحقيقة ليست بصفات كمالية بل هي صفات للمعدوم المحض، بل للممتنع البحت وليست هذه الصفات للموجود أصلاً، فضلاً عن أن تكون لواجب الوجود؟! 11 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (قيل له: هذا اصطلاح اصطلحتموه ... مع اتصافه بنقائضها) . أقول: هذا جواب عن اعتراض الجهمية، وتقرير هذا الاعتراض: أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الجهمية لما وصفوا الله تعالى بأنه "لاحي ولا ميت"، فنفوا عن الله تعالى الحياة والممات معاً فأورد عليهم أهل السنة إشكالاً ـ تقريره: إنكم أيها الجهمية قد وصفتم الله تعالى بأنه لا حي ولا ميت فنفيتم عن الله تعالى الحياة وضدها الممات. وهذا النفي لا يمكن عقلاً، لأنه إذا لم يكن حياً لابد أن يكون ميتاً وإذا لم يكن ميتاً لابد أن يكون حياً. وإلا يلزم رفع النقيضين، ورفع النقيضين باطل باتفاق العقلاء. فأجاب هؤلاء الجهمية عن هذا الإشكال فقالوا: لا يلزم من قولنا: (لاحي ولا ميت) ـ رفع النقيضين: لأن الحياة والممات ليسا نقيضين؛ بل هما من قبيل العدم والملكة والقاعدة في المتخالفين تخالف العدم والملكة: أن يكون محل العدمي صالحاً للوجودي وبالعكس. نحو: العمى والبصر، فالعمى عدمي والبصر وجودي. فمحل العدمي هنا صالح للوجودي وبالعكس، فزيد بصير مثلاً لكنه صالح لأن يكون أعمى، وبكر أعمى مثلاً ولكنه صالح لأن يكون بصيراً. وأما إذا لم يكن ذلك المحل قابلاً للآخر ـ فحينئذٍ يجوز لك أن تنفي الوجودي والعدمي كليهما؛ لأنه لا يلزم حينئذٍ ثبوت أحدهما بنفي الآخر أو بنفي أحدهما ثبوت الأخر. وذلك كالجدار فإن الجدار ليس محلاً للعلم ولا للجهل، فإذا قلت: هذا الجدار لا عالم ولا جاهل جاز لك هذا؛ لأنه لا يلزم من قولك: الجدار ليس بعالم ـ أن يكون الجدار جاهلاً. وإذا نفيت الجهل عن الجدار وقلت الجدار ليس بجاهل لا يلزم منه أن يكون الجدار عالماً، فيصح لك أن تقول: هذا ليس بعالم ولا جاهل ولا حي ولا ميت، فهكذا يجوز لك أن تقول: الله ليس بحي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل. هذا كان تقرير اعتراض الجهمية وبيان إشكالهم على جواب أهل السنة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ولكن أجيب عن هذا الإشكال على لسان شيخ الإسلام فقال: إن هذا الذي ذكرتم في بيان التناقض والتخالف والعدم والملكة ـ من تلك القاعدة ـ فهذه القاعدة فاسدة غير صادقة؛ فإن هذه القاعدة مجرد اصطلاح اصطلحتموه ولسنا متفقين معكم عليها؛ فلا حجة لكم فيها علينا؛ لأنه من المعلوم: أن ما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة. فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأوصاف ونقائضها؛ يجوز لك أن تصفه بها أو بأضدادها كقولك: زيد بصير وعمرو أعمى، ولكن لا يجوز لك أن تقول: زيد لا بصير ولا أعمى. وكل من يجوز أن تصفه بهذه الكلمات دون أضدادها ـ لا يجوز لك أن تصفه بتلك الأضداد، فواجب عليك أن تقول: الله عليم بصير، ولا يجوز أن تقول: الله جاهل وأعمى؛ كما لا يجوز أن تقول: الله لا عالم ولا جاهل ولا حي ولا ميت فإنه أشد فساداً. عقلاً ونقلاً. وكل ما لا يجوز وصفه بتلك الكلمات ويجوز وصفه بأضدادها ـ تصفه بأضدادها كالجدار مثلاً، فيصح أن يقال للجدار: جاهل لا علم له، وإنه ميت لا حياة فيه فإن الله تعالى وصف الجماد بالموت وعدم العلم. فقال: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] ، ولا تقول: الجدار لا عالم ولا جاهل ولا حي ولا ميت. • هذا هو الجواب الأول. • والجواب الثاني: أن نقول: إن الله تعالى قادر على جعل الجماد حياً؛ كما جعل عصا موسى حيةً. • والجواب الثالث: أن نقول: إن الذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات هو أعظم نقصاً ممن يقبل الاتصاف بها ـ مع اتصافه بنقائضها ـ فإن الجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس أعظم نقصاً من الحي الأعمى الأخرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وإذا عرفت هذا فاعلم: أن من قال: إن الله لا حي ولا ميت ولا متكلم ولا أخرس فقد جعل الله تعالى أنقص من الميت الأخرس، فهذا الرجل قد وقع في أشد مما فر منه حيث جعل الله تعالى مشابهاً بشيء أنقص حالاً من الميت لأن هذا الرجل قد أراد تنزيه الله تعالى، ولكن وقع في أقبح التشبيه وأوقحه. حيث أراد أن ينزه الله تعالى عن تشبيه الحيوان الذي يسمع. فشبه الله تعالى بشيء أحط منزلة من الميت الذي لا يسمع. فإن هذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات فلو شبه الله تعالى بالحيوانات لكان أقل قبحاً وكلاهما قبيح. • والجواب الرابع: الذي أشار إليه شيخ الإسلام أن الحيوان الذي يسمع أولى من الجماد الذي لا يسمع، فمن قال: إن الله تعالى لا حي ولا ميت بحجة أنه غير قابل للحياة والممات كان تشبيهاً لله تعالى بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات وضدها. وهذا لاشك أنه تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات والتشبيه بالجمادات أبطل من التشبيه بالحيوانات. 12 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "قالوا: هذه إنما يكون إذا كان قابلاً لذلك والقبول إنما يكون من المتحيز، فإذا انتفى الحيز انتفى قبول هذين المتناقضين". أقول: هذا الاعتراض شبيه بالاعتراض السابق من جريه على قاعدة القبول وعدم القبول أي اتصاف المحل بالعدم والملكة. ولكن ساقه شيخ الإسلام لاعتراض آخر. وحاصل هذا الاعتراض: أن من ضاهى هؤلاء الجهمية الغلاة في قولهم: إن الله لا حي ولا ميت ولا متكلم ولا أخرس، ومشوا على منوالهم في الجحود والنفي للضدين عن الله ورفع المتناقضين عنه تعالى فقالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 إن الله تعالى ليس بداخل العالم ولا خارج العالم ولا متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه. فأورد عليهم أهل السنة إشكالاً تقريره: أنتم أيها الماتريدية والأشعرية، قد نفيتم عن الله تعالى الدخول والخروج والاتصال والانفصال وهذا رفع للنقيضين. وهذا غير ممكن عقلاً؛ فإنه إذا لم يكن داخلاً في العالم كان خارجاً عنه ولا بد من ذلك. وإذا لم يكن متصلاً بالعالم كان منفصلاً عنه ولا بد من ذلك! فإن نفي أحدهما يستلزم إثبات الآخر إذ لا يجوز نفيهما جميعاً؛ لئلا يلزم رفع النقيضين. فأجاب هؤلاء الجهمية الماتريدية والأشعرية عن إشكال أهل السنة هذا بقولهم: إن الله تعالى ليس بمتحيز أصلاً، والقبول وعدمه من صفات المتحيز أي كون الشيء داخلاً أو خارجاً أو متصلاً أو منفصلاً لا يتحقق إلا في المتحيز والله غير متحيز، فالله تعالى غير قابل للدخول والخروج والاتصال والانفصال. فلا يرد ذلك الإشكال البتة. فأجاب شيخ الإسلام عن هذا الاعتراض بجوابين: • الجواب الأول بقوله: "فيقال لهم: علمُ الخلق بامتناع الخلو من هذين النقيضين علم مطلق لا يستثنى منه موجود". والمعنى أن قولكم: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل عنه. باطل في بداهة عقول الناس؛ فإن عِلم الناس بهذا البطلان علم مطلق قوي بديهي ضروري عند كل إنسان، فكل إنسان يعلم علماً يقينياً: أن كل موجود إما أن يكون داخلاً فلا يكون خارجاً وإما أن يكون خارجاً فلا يكون داخلاً، وهكذا في الاتصال والانفصال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وأما إذا كان لا داخلا ولا خارجاً، فهذا ليس بشيء موجود وإنما هو معدوم، بل هو ممتنع. وهذا واضح بالضرورة عند كل إنسان. الحاصل أن قولكم هذا من أوضح الباطل في بداهة العقول. هذا هو الجواب الأول. • الجواب الثاني: كم تقولون: إن الله ليس بمتحيز، فليس هو قابلاً لتلك الصفات وضدها فنقول: هذا باطل جداً لأن المتحيز له معنيان: الأول: أن يكون الشيء تحيط به الأحياز فهذا الشيء لاشك أنه في داخل العالم وليس بخارج العالم البتة ومتصل بالعالم وليس منفصلاً عنه؛ لأنه جزء من العالم. والمعنى الثاني: هو كون الشيء بحيث يكون منحازاً عن العالم أي مبايناً عنه. فالمتحيز بهذا المعنى لا شك أنه خارج عن هذا العالم وليس بداخل في العالم. فالله تعالى في الحقيقة متحيز بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول. وإذا عرفت المعنيين للمتحيز ـ نقول: إذا قلت: إن الله تعالى ليس بمتحيز هكذا مطلقاً ـ. كان معناه أن الله تعالى ليس بداخل العالم ولا خارجه وهذا من أبطل الباطل في بداهة العقول كما سبق. فهؤلاء قصدهم من قولهم: "ليس بمتحيز" أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه ولكنهم قد غيروا العبارة، فالذين لا يعرفون مصطلحات هؤلاء الماتريدية والأشعرية الجهمية، لا يعرفون حقيقة ما قصدوا. الحاصل: أن قول الماتريدية: إن الله ليس بمتحيز، أو قولهم: إن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 لا داخل العالم ولا خارجه هو بعينه مثل قول الجهمية الأولى. الغلاة: إن الله لا حي ولا ميت ولا متكلم ولا أخرس. 13 ـ الأسئلة والأجوبة الواردة على القاعدة الأولى: س1 ـ هل يمكن أن يكون النفي في صفات الله عز وجل نفياً محضاً، وضّح ذلك على التفصيل؟ ج ـ لا يمكن أن يكون النفي في صفات الله عز وجل نفياً محضاً، بل لا بد أن يكون لإثبات كمال وذلك لما يأتي: 1 ـ أن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 6.] أي الوصف الأكمل والوصف الأكمل معدوم في النفي المجرد المحض. 2 ـ أن النفي المحض عدم محض والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء كيف يكون مدحاً بل كيف يكون كمالاً. 3 ـ أن النفي إن لم يتضمن إثبات كمال الضد فقد يكون لنقص الموصوف به بل لعجزه عنه. س2 ـ بيّن ما يترتب من وصف الله بالنفي المحض؟ ج ـ الذين يقتصرون على النفي المحض ولا يثبتون كمال الضد هم في الحقيقة لم يثبتوا إلهاً موجوداً بل إلهاً معدوماً، فقولهم في الله عز وجل: إن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا فوق العالم ولا تحته، ولا متصل بالعالم ولا منفصل عنه ونحو ذلك. كما أن من قال عن الله عز وجل: إنه ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم واقتصر على النفي المحض: لزمه أن يكون ميتاً أصماً أعمى أبكم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. س3 ـ بيّن أوجه كون النفي المحض لا مدح فيه؟ ج ـ من أصول السلف كما سبق أن النفي متضمن لإثبات كمال الضد، فإن النفي المحض ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً للكمال وذلك للأسباب التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 1 ـ لأن النفي المحض غير المتضمن للإثبات عدم محض والعدم المحض ليس بشيء لأنه عدم، وما دام عدماً وليس بشيء فلا يكون كمالاً. 2 ـ ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم فيقال: ليس بموجود ولا حي وغير ذلك بل ويوصف به الممتنع، فيقال: ليس بممكن ولا موجود وكلاهما لا يوصفان بمدح ولا كمال. 3 ـ ولأن النفي المحض قد يكون لعدم قابلية الموصوف بذلك المنفي، فإذا قيل: الجدار لا يظلم فهذا ليس بمدح لعدم قابلية الجدار للظلم أصلاً. 4 ـ ولأن النفي إن لم يتضمن كمال الضد فقد يكون لنقص الموصوف أو عجزه، كقول الشاعر النجاشي: قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل أراد بنفي الغدر والظلم بيان عجزهم لا مدحهم بدليل تصغيرهم بقوله: قبيلة. 5 ـ ولأن النفي المحض فيه إساءة أدب، قال ابن أبي العز: وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجَّام ولا حائك لأدبك. س4 ـ اذكر الخلاف في معنى الإدراك في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 1.3] ؟ ج ـ اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: • القول الأول: وهو لجمهور السلف أن الإدراك هو الإحاطة كما قال شيخ الإسلام وهو قول أكثر العلماء. • القول الثاني: وهو لبعض السلف أن الإدراك بمعنى الرؤية وحملوا الآية على نفي الرؤية في الدنيا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" رواه مسلم (8/193) . وهذا قول عائشة رضي الله عنها حيث استدلت بالآية على نفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة الإسراء، مما يدل على أنها فهمت من الآية عدم الرؤية في الدنيا وبه قال الإمام أحمد في رده على الجهمية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 والإمام الملطي حيث قال: فأما تفسير الآية {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} يعني لا يراه الخلق في الدنيا دون الآخرة. انظر أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (3/52.ـ522) . • القول الثالث: وهو قول عامة المعتزلة والخوارج فالإدراك عندهم بمعنى الرؤية ويستدلون بالآية على نفي الرؤية مطلقاً في الدنيا والآخرة، وقولهم هذا مخالف للكتاب والسنة والإجماع. س5 ـ كيف ترد على من استدل على نفي الرؤية بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ؟ ج ـ يرد على استدلالهم بالآية بما يلي: 1 ـ مردود بالأدلة المصرحة بالرؤية في الآخرة كقوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ*وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 21ـ22] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر". 2 ـ ومردود بالآيات الدالة على أن الإدراك بمعنى الإحاطة كقوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] ففرق بين الرؤية والإحاطة. 3 ـ نفي الرؤية ليس فيه كمال بل الكمال في إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة لإظهار عظمته كما أنه سبحانه وتعالى يعلم ولا يحاط به علماً، فكذا يرى ولا يحاط به رؤية. س6 ـ أجب عن شبهة التقابل ـ وهي أن الله غبر قابل لهذه الصفات ـ من أربعة أوجه؟ ج ـ الجواب على ذلك في أربعة أوجه: وجهان على فرض المنع، ووجهان على فرض التسليم: • الوجه الأول على فرض المنع: وهو أن هذا الاصطلاح اصطلحتموه أنت والفلاسفة وإلا فإن الأصل أن ما يوصف بعدم الحياة يجوز وصفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بالموت كما سمى الله الجمادات أمواتاً في قوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21] . وهكذا بقية الصفات. • الوجه الثاني على فرض المنع أيضاً: وهو أن كل موجود يقبل الاتصاف بهذه الصفات ونقائضها بقدرة الله كعصا موسى أصبحت حية، وهكذا طين عيسى كان يصير طيراً بإذن الله، وهكذا حنين الجذع عند النبي صلى الله عليه وسلم. • الوجه الثالث على فرض التسليم: بأن الله تعالى لا يقبل هذه الصفات ونقائضها: من المعلوم أن الذي لا يقبل الاتصاف بها أصلاً أعظم نقصاً ممن يقبل الاتصاف بها مع الاتصاف بنقيضها، فالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بالعمى مثلاً أعظم نقصاً من الحي الأعمى مثلاً. • الوجه الرابع على فرض التسليم أيضاً: أن نفس نفي هذه الصفات نقص بقطع النظر عن تعيين الموصوف بها، فالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والفعل كلها كمال، كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17] ، وكما حكي عن إبراهيم قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 42] ، وذم الله عجل قوم موسى بقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُم} [لأعراف: 148] فنفي هذه الصفات نقص وإثباتها كمال. فالله أحق بالاتصاف بها لأنه لو لم يتصف بها لكان المخلوق أكمل منه. س7 ـ قارن بين مذهب من ينفي النقيضين ومن يصف الله بالنفي فقط؟ ج ـ أشار شيخ الإسلام هنا إلى طائفتين: الأولى: من ينفون عنه النقيضين: وهم الجهمية المحضة الغالية كالقرامطة الباطنية فيقولون: ليس بموجود ولا معدوم وهكذا. • الثانية: من يصفونه بالنفي فقط وهم الجهمية والمعتزلة، فيقولون: ليس بحي ولا سميع ولا بصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 * ووجه المقارنة بينهما: 1 ـ أن الطائفة الأولى: أكفر من جهة أنهم شبهوه بالممتنعات، وهو أقبح من مجرد العدم. 2 ـ والطائفة الثانية: أكفر من جهة أنهم لم يصرحوا بنفي النقائض عنه بل قالوا: ليس بحي، ولم يقولوا ليس بميت، فتنزيههم أقل من الطائفة الأولى التي صرحت بنفي النقائض عنه، فكل من الطائفتين أكفر من الأخرى من جهة. س8 ـ ما معنى التحيز وما المراد به؟ وما الذي يقصده النفاة بقولهم: "إنه ليس بمتحيز"؟ وكيف تجيب عن هذه الشبهة؟ وناقش من قال بنفي التحيز أو إثباته؟ ج ـ التحيز: هو الوقوع في الحيز. والمراد به عند المتكلمين: هو الفراغ المتوهم الذي يشغله شيء ممتد كالجسم أو غير الممتد كالجوهر الفرد، وهو أعم من المكان عندهم، فإن المكان هو البعد الذي يشغله الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي. * ويقصد هؤلاء النفاة بهذه العبارة: أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه. * والرد على هذه الشبهة بما رُدَّ به على القرامطة لأن كليهما سالب للنقيضين فإن أراد بالتحيز: 1 ـ أن الله تحوزه المخلوقات فهذا باطل لأن الله أكبر وأعظم بل قد وسع كرسيه السموات والأرض قال الله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] . 2 ـ وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها منفصل عنها ليس حالاً فيها كما قال أئمة السلف وأهل السنة أن الله فوق سماواته مستوٍ على عرشه بائن من خلقه: فهذا صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 س9 ـ كيف ترد على من نفى العلو بحجة أن ذلك يستلزم التحيز؟ ج ـ يرد عليهم من وجهين: 1 ـ أن امتناع الخلو من هذين النقيضين عام لا يستثنى منه موجود فالتفريق بين المتحيز وغيره باطل. 2 ـ أن التحيز المذكور يراد به معنيان: إما أن الأحياز تحيط به، فهذا هو الداخل في العالم، وإما أنه منحاز عن العالم، فهذا هو الخارج المباين وهو الذي يوصف الله به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 القاعدة الثانية حُكم ما يضاف إلى الله تعالى من الأسماء والصفات قال شيخ الإسلام: "القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه عز وجل فإنه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه. وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة، متفقاً عليه بين سلف الأمة. وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظ أو نفيه، حتى يعرف مراده فإن أراد حقاً قُبلَ، وإن أراد باطلاً رُدَّ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً، ولم يرد جميع معناه، بل يُوقف اللفظ ويفسر المعنى كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك. فلفظ "الجهة" قد يُراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السموات، وقد يُراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم. ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ "الجهة" ولا نفيه، كما فيه إثبات "العلو" و"الاستواء" و"الفوقية" و"العروج إليه" ونحو ذلك. وقد عُلِم أنه ما ثمّ موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. فيُقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات. أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم، بائنٌ من المخلوقات. وكذلك يُقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم، أم تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأولَ فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطلٌ. وكذلك لفظ "المتحيِّز"، إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض، وقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] . وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض"1. وفي حديث آخر: "وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة"2. وفي حديث ابن عباس: "ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يدِ أحدكم"3. وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها، منفصل عنها، ليس حالاً فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة: فوق سمواته على عرشه، بائنٌ من خلقه".   1 متفق عليه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أخرجه البخاري في صحيحه (8/551) برقم (4812) ، ومسلم في صحيحه (4/2148) برقم (2787) . 2 أخرجه ابن جرير في تفسيره (24/17) سورة الزمر بنحوه، وأورده ابن القيم في الصواعق (1/42 ـ 43) . 3 أخرجه ابن جرير في تفسيره (24/17) في تفسير سورة الزمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 معاني الكلمات: ما أخبر به الرسول: من الصفات كالنزول والضحك والمجيء وغير ذلك. هذا الباب: أي باب الأسماء والصفات. يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة: يخرج بذلك الإجماع فلا تثبت صفة إلا بنص. المتأخرون: هم أهل التعطيل وأهل التمثيل. عناصر الموضوع: 1 ـ موضوع القاعدة الثانية: موضوع القاعدة الثانية هي حكم ما يضاف إلى الله من الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة، وكذا ما أطلقه المتأخرون في الألفاظ وتنازعوا فيها. 2 ـ على من يرد شيخ الإسلام بالقاعدة الثانية؟ يرد شيخ الإسلام بالقاعدة الثانية على طائفتين: 1 ـ الممثلة: حيث أطلقوا على الله ألفاظاً لم ترد في الكتاب والسنة كلفظ الجسم حيث يطلقه الكرامية على الله سبحانه وتعالى. 2 ـ المعطلة: حيث أطلقوا على الله ألفاظاً لم ترد في الكتاب والسنة كلفظ الجهة والمتحيز وغير ذلك. 3 ـ الصلة بين القاعدتين الأولى والثانية: الصلة بينهما: أن المؤلف ذكر عن المعطلة أنهم يقتصرون على صفات النفي فلا يصفونه إلا بالصفات السلبية، بدون كمال الضد، لذا توسعوا في إطلاق الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة أو التي هي نفي محض كما سبق بيان طريقتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 4ـ شرح القاعد الثانية: تقدم أن القواعد المقررة في أصول أهل السنة والجماعة في الصفات التوقف على ما ورد، فما أخبر الله به في كتابه وأخبر به رسوله وجب علينا الإيمان به، سواء عرفنا معناه أم لم نعرفه، لأن خبر الله تعالى صادر عن علم تام، فهو أعلم بنفسه وبغيره، ولأن خبر الله أصدق الأخبار، ولأن الله تعالى يريد بما أنزل على عباده من الوحي أن يهتدوا ولا يضلوا، وهكذا خبر النبي صلى الله عليه وسلم صادر عن علم، فهو عليه السلام أعلم الناس بربه وأسمائه وصفاته وأحكامه. فقد اجتمع في خبر الله وخبر رسوله كمال العلم وكمال الصدق وكمال البيان وكمال القصد والإرادة، وهذه هي مقومات قبول الخبر. وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها وجب قبوله، وعامة هذا الباب "باب الأسماء والصفات" منصوص عليه بالكتاب والسنة متفق عليه بين سلف الأمة. 5 ـ ما تدور عليه هذه القاعدة: مدار القاعدة على أن ما يذكر من الألفاظ في باب الأسماء والصفات نوعان: 1 ـ ما ورد في الكتاب والسنة وهذه يؤمن بها، ويعمل بمقتضاها. 2 ـ ما لم يرد في الكتاب والسنة وهذه ألفاظ مجملة فيها حق وباطل، والواجب فيها الاستفصال، فيقبل الحق، ويرد الباطل، مع الإنكار على من يستعمل مثل هذه الألفاظ المجملة كما سيأتي قريباً. 6 ـ ليس في كلام الله وكلام رسوله شيء لا يعرف له معنى: ليس في كلام الله وكلام رسوله شيء لا يعرف له معناه جميع الأمة، بل لا بد أن يكون معروفاً لجميع الأمة أو بعضها لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] ، ولأنه لو كان فيه ما لا يعلم معناه أحد لكان بعض الشريعة مجهولاً للأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 7 ـ حكم ما أخبر الرسول عليه السلام عن ربه في باب الصفات: يجب الإيمان بما أخبر الرسول عن ربه في باب الصفات سواء عرفنا معناه أو لم نعرفه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النساء: 17.] وغيرها من الآيات 8 ـ حكم الألفاظ التي لم ترد في الشرع وتنازع فيها المتأخرون: ما تنازع فيه المتأخرون مما ليس في الكتاب ولا في السنة ولا عند سلف الأمة فليس لأحد أن يثبته أو ينفيه، لعدم ورود السمع به، وليس له أن يقبل معناه أو يرده حتى يعلم المراد منه، فإن كان حقاً واجباً وجب قبوله، وإن كان باطلاً وجب رده. ولذلك أمثلة منها: أـ الجهة: أي لو قال قائل: إن الله في جهة، أو هل لله جهة؟ فإذا أجريناه على القاعدة قلنا: أما اللفظ فلا نثبته ولا ننفيه لعدم ورود ذلك، وأما المعنى فينظر ماذا يراد بالجهة: أيراد بالجهة شيء مخلوق محيط بالله عز وجل؟ فهذا معنى باطل؛ لأن الله لا يحيط به شيء من مخلوقاته، أم يراد بالجهة ما فوق العالم؟ فهذا حق ثابت فإن الله فوق خلقه عالٍ عليهم. ب ـ الحيز أو المتحيز: فإذا قال قائل: هل نصف الله بأنه متحيز أو في حيز؟ فإذا أجريناه على القاعدة قلنا: أما اللفظ فلا نثبته ولا ننفيه لعدم ورود ذلك، وأما المعنى فينظر ماذا يراد بالحيز أو المتحيز: أيراد بالحيز أن الله تعالى منحاز عن المخلوقات؟ أي مباين لها منفصل عنها ليس حالاًّ ولا هي حالة فيه؟ فهذا ثابت؛ لأن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه. أم يُراد بالحيز أن الله تحوزه المخلوقات وتحيط به؟ فهذا معنى باطل؛ لأن الله أعظم وأكبر من أن تحيط به المخلوقات. 9 ـ الأسئلة والأجوبة الواردة على القاعدة الثانية: س1 ـ ما الموقف من هذه الألفاظ التي أحدثها المحدثون؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ج ـ معلوم أن ما لم يرد به دليل شرعي فلا يثبت ولا ينفى حتى يعرف المراد، فإن كان المراد حقاً قُبل المعنى مع التوقف في إثبات اللفظ لعدم ورود الدليل فيه، وإن كان المعنى باطلاً رُدَّ كما رد اللفظ. س2 ـ ما الواجب في الألفاظ المضافة إلى الله وورد بها الدليل الشرعي؟ ج ـ الواجب فيها الإيمان والتصديق سواء عرفنا معنى اللفظ أم لم نعرفه وذلك لأمور منها: 1 ـ لأن خبر الله تعالى أصدق الأخبار. 2 ـ ولأن الله تعالى أخبر بهذه الألفاظ، وأنزل إلى عباده هذا الوحي وقد أراد بذلك الاهتداء لهم حتى لا يضلوا. 3 ـ كمال البيان فقد أنزل القرآن بيناً واضحاً. 4 ـ كمال القصد والإرادة. وهكذا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم صادر عن علم، فهو أعلم الناس بربه فقد اجتمع في خبر الله وخبر رسوله الأمور المذكورة آنفاً. س3 ـ هل في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم شيء لا يعرف معناه؟ ج ـ ليس فيهما شيء لا يعرف معناه بل لا بد أن يكون معروفاً لجميع الأمة، أو لبعضها وهم العلماء وقد دلت على ذلك الأدلة الكثيرة، فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] . ثم لو كان فيهما شيء لا يعرف معناه لكان بعض الشريعة المتعبد بها مجهولة ولما قامت الحجة على الناس بإنزال الشرع. س4 ـ ما الحكم في الألفاظ التي أحدثها المحدثون ولم يرد بها الدليل الشرعي؟ ج ـ الحكم فيها أنه ليس لأحد أن يثبت لفظاً أو ينفيه وذلك لعدم ورود الدليل به، وليس له أن يقبل معنى اللفظ أو يرده حتى يعلم المراد منه، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 كان المراد منه حقاً قُبل المعنى ويقال له عبّر عن هذا المعنى باللفظ الشرعي الوارد، وإن كان المعنى باطلاً وجب رده. * مثال ذلك لفظ: "الجهة والحيز والجسم" ـ فإن أرادوا بالجهة أن الله تعالى تحيط به الجهات فهذا منتف عن الله عز وجل، وإن أرادوا أن الله عالٍ على خلقه مستوٍ على عرشه فهذا المعنى صحيح. ـ والحيز: إن أرادوا به أن الله تحيط به المخلوقات فهذا منتفٍ عن الله عز وجل، وإن أرادوا أن الله عز وجل مستوٍ على عرشه فهذا المعنى الصحيح. ـ والجسم إن أرادوا به الصفات التي وردت في الكتاب والسنة فهذا المعنى الصحيح، وإن أرادوا به البدن الكثيف فهذا منتف عن الله عز وجل. س5 ـ مما تنازع فيه المتأخرون لفظة "الجهة" بيّن ذلك، وما المقصود من هذا اللفظ؟ وهل جاء في الشرع إثبات الجهة أو نفيها؟ ناقش من قال بنفيها أو إثباتها مبيناً الصحيح مما تقول مع التعليل؟ ج ـ لفظ الجهة قد يراد به شيئان: موجود غير الله فيكون مخلوقاً كما إذا أريد بالجهة العرش أو السموات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى كما أريد بالجهة ما فوق العالم، فالأول وجودي والثاني عدمي. * ولفظ الجهة لم يرد في الكتاب ولا في السنة نفياً ولا إثباتاً. * المناقشة: يقال لمن نفي الجهة إن أردت بالجهة أنها شيء موجود مخلوق كالسموات فنفيك صحيح، لأن الله ليس داخلاً بالمخلوقات، وإن أردت بالجهة ما وراء العالم فنفيك باطل لأن الله فوق العالم مباين للمخلوقات، فكأنك قلت: إن الباري ليس بموجود وهذا باطل؛ لأنه لا موجود فوق العرش إلا الله تعالى. * وأما المثبت: فيقال له إن أردت بذلك أن الله فوق العالم عال على عرشه فهذا صحيح لأنك مثبت لوجود الله ومؤمن به. وإن أردت أن الله داخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 المخلوقات فهذا باطل لأنه ليس داخلاً في شيء من مخلوقاته. س6 ـ هل هناك صفات وأسماء لله عز وجل غير مذكورة في الكتاب والسنة؟ ج ـ نعم هناك صفات وأسماء لله سبحانه وتعالى استأثر بها في علم الغيب عنده.. كما دلت على ذلك النصوص في الكتاب والسنة ومنها حديث: "اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك" رواه أحمد وهو حديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 القاعدة الثالثة معنى ظاهر النصوص وحكم القول بأن ظاهرها مراد أم غير مراد قال شيخ الإسلام: "القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد. فإنه يقال لفظ "الظاهر" فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد: أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد. ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهراً ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال. والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك. وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل. فالأول: كما قالوا في قوله: "عبدي جُعتُ فلم تطعمني.." الحديث، وفي الأثر الآخر: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه"1، وقوله: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن"2.   1 سيأتي الكلام عليه في الأسئلة الواردة على القاعدة، السؤال الثالث. 2 رواه مسلم في صحيحه 4/2.45 برقم (2654) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فقالوا: قد عُلم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق. فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق. أما الحديث الواحد فقوله: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبّل"، صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال: "يمين الله في الأرض"، وقال: "فمن قبَله وصافحه فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه" ومعلوم أن المشبه غير المشبه به، ففي نص الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً، وأنه محتاج إلى التأويل، مع أن هذا الحديث إنما يُعرف عن ابن عباس. وأما الحديث الآخر فهو في الصحيح مفسَّراً: "يقول الله عبدي جعتُ فلم تطعمني. فيقول: ربِّ كيف أطعمك وأنت رب العلمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي مرضتُ فلم تعدني. فيقول: ربِّ كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض، فلو عُدتَه لوجدتني عنده"1. وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يمرض ولم يجعْ، ولكن مرض عبده وجاع عبده، فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسَّراً ذلك بأنك "لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده". فلم يبقَ في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل. وأما قوله: "قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن" فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه. ولا في قول القائل: هذا بين يديّ. ما يقتضي مباشرته ليديه، وإذا قيل: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] لم يقتض أن يكون مماساً للسماء والأرض، ونظائر هذه كثيرة.   1 رواه مسلم في صحيحه 4/199. برقم (2569) بنحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ومما يشبه هذا القول أن يُجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: 75] ، فقيل هو مثل قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماًْ} [يّس: 71] . فهذا ليس مثل هذا؛ لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي فصار شبيهاً بقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 3.] ، وهناك أضاف الفعل إليه، فقال: {لِمَا خَلَقْتُ} ثم قال: {بِيَدَي} . وأيضاً فإنه هناك ذكر نفسه المقدّسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ، وهنا أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] . وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْك} [الملك: 1] ، و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26] في المفرد. فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع، كقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح: 1] وأمثال ذلك، ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط؛ لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدّس عن ذلك. فلو قال: ما منعك أن تسجد لما خلقتْ بيدي، كان كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وهو نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْك} و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ، ولو قال: خلقتُ بيِِدِي بصيغة الإفراد لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال: {خَلَقْتُ بِيَدَي} بصيغة التثنية. هذا، مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة وإجماع سلف الأمة على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه، مثل قوله: "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذي يعدلون في حكم وأهليهم وما وَلُوا"1. وأمثال ذلك.   1 رواه مسلم في صحيحه 3/1458 برقم (1827) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع، فإن الله تعالى لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا. وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير. فكذلك إذا قالوا في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] ، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [لأعراف: 54] : إنه على ظاهره، ولم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حباً كحبه، ولا رضاً كرضاه. فإن كان المستمع يظن أن ظاهره الصفات تماثل صفات المخلوقين، لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراداً، وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به، لم يكن له نفي هذا الظاهر ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحداً. وبيان هذا: أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا، كالوجه واليد، ومنها ما هي معان وأعراض، وهي قائمة بنا، كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة. ثم إن من المعلوم أن الربّ لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير، لم يقل المسلمون: أن ظاهر هذا غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف تناسبه. فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ليست مثل صفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه، كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر"، فشبَّه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي". معاني الكلمات: إذا قال قائل: القائل هو المعطل أشعرياً كان أو معتزلياً. الظاهر: المراد بظاهر الكلام هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن ويسبق إلى الأفهام أو هو المعنى الراجح من الكلام، ويراعى في معرفة الظاهر أمور منها: 1ـ دلالة اللفظ، 2 ـ دلالة السياق، 3 ـ حال المتكلم، 4 ـ سائر القرائن المحتفة. عناصر الموضوع: 1 ـ المراد بالظاهر عند أهل السنة والجماعة: المراد بالظاهر عند أهل السنة والجماعة إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة إثباتاً بلا كيف، وتنزيه الخالق عن مشابهة الخلق، مع قطع الطمع في إدراك الكيفية. 2 ـ حمل نصوص الصفات على ظاهرها اللائق بالله أمرٌ متعين حمل نصوص الصفات على ظاهرها اللائق بالله أمرٌ متعين دلّ على ذلك ما يلي: أـ وصف الله القرآن بالبيان والهدى كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، فالآية تفيد أن القرآن بيَّن، ومن جملة ما بيّنه الله تعالى في القرآن نصوص الصفات. ب ـ لو كان ظاهر نصوص الصفات غير مراد لجاء البيان بذلك، ومعلوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أنه لم يأت نصٌ شرعي واحد يصرف نصوص الصفات عن ظاهرها. 3 ـ الصحابة رضي الله عنهم فهموا أن ظاهر نصوص الصفات مراد: الصحابة رضي الله عنهم فهموا أن ظاهر نصوص الصفات مراد وهو اللائق بالله سبحانه وتعالى، وهذا واضحٌ من أقوالهم، فمن جملة ما قالوه في هذا الباب: قول زينب رضي الله عنها عن صفة علو الله تعالى: " زوجكنَّ أهاليكُن وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سموات"1. وقول عائشة رضي الله عنها في كلام الله: "ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله ـ عز وجل ـ فيَّ بأمر يُتلى"2، وكقولها رضي الله عنها في السمع: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات"3، إلى غير ذلك من نصوص الصحابة في هذا الباب. 4 ـ موضوع القاعدة الثالثة: معنى ظاهر النصوص وحكم القول بأن الظاهر مراد أو غير مراد. 5 ـ أول من قال: ظاهر النص غير مراد: أول من قال: إن ظاهر نصوص الصفات غير مرادهم الجهمية ثم تبعهم المعتزلة وسائر فرق المعطلة، أما الباطنية فزعمت أن نصوص الأحكام غير مراد، والفلاسفة ادعت أن نصوص المعاد على غير ظاهرها، قال التلمساني: "القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا" انظر مجموع الفتاوى (2\127) . 6 ـ على من يرد شيخ الإسلام بالقاعدة الثالثة؟ يرد شيخ الإسلام بالقاعدة الثالثة على عامة المتكلمين في دعواهم أن ظاهر نصوص الصفات هو التمثيل بصفات المخلوقين، فظاهرها الكفر   1 أخرجه البخاري برقم (742.) . 2 أخرجه مسلم برقم (277.) . 3 أخرجه البخاري معلقاً (3/384) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 عندهم1كما قال الصاوي2 في حاشيته على الجلالين: "لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر"3؛ لذا قال الشنقيطي في ردِّه عليه: "أما قوله: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر فهذا أيضاً من أشنع الباطل وأعظمه، وقائله من أعظم الناس انتهاكاً لحرمة الكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يصدر ألبتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلاً"4 7 ـ الصلة بين القاعدتين الثالثة والثانية: تقدم في القاعدة الثانية أن بين الشيخ حكم الألفاظ المجملة، وما تنازع فيه المتأخرون من ألفاظ، هذا ومما تنازع فيه المتأخرون من ألفاظ: ظاهر نصوص الصفات هل هي مرادة أم ليست بمرادة؟ وبهذا نستطيع أن نحكم على من أطلق بأن ظاهر النصوص مراد أم غير مراد بأن لفظ الظاهر لم يرد فيتوقف فيه وأما المعنى فيستفصل عنه. 8 ـ شرح القاعدة الثالثة: الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف ولا سيما نصوص الصفات، حيث لا مجال للرأي فيها، ودليل ذلك السمع والعقل. • أما السمع: فقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193ـ195] ، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] ، وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.   1 أقوالهم في أساس التقديس (ص1.9) ؛ شرح العقائد النسفية (1/24.) . 2 هو أحمد بن محمد الصاوي المصري المالكي، له مصنفات كثيرة، توفي سنة 1241هـ الأعلام (1/233) . 3 حاشية الصاوي على الجلالين (3/9) ؛ وانظر شرح أم البراهين (217) . 4 أضواء البيان (7/438) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] . • وأما العقل: لأن المتكلم بهذه أعلم من غيره وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة. قال ابن قتيبة رحمه الله: "الواجب علينا أن ننتهي في صفات الله إلى حيث انتهى في صفته أو حيث انتهى رسوله، ولا نزيل اللفظ عما تعرفه العرب ونضعه عليه ونمسك عما سوى ذلك"1 9 ـ ما تدور عليه هذه القاعدة: مدار هذه القاعدة في الإجابة على مسألتين: 1 ـ بيان معنى ظاهر النصوص. 2 ـ حكم من أطلق أن ظاهر النصوص مراد أم غير مراد. 10 ـ حكم من قال: إن نصوص الصفحات لايجوز إجرا ؤها على ظاهرها لأن ظاهرها غير مراد: من قال: إن نصوص الصفات لا يجوز إجراؤها بظاهرها يقال له: ماذا تريد بالظاهر؟ أتريد بالظاهر: ما يظهر من النصوص من المعاني اللائقة بالله من غير تمثيل؟ فهذا الظاهر مراد الله ورسوله قطعاً ويجب الإيمان به شرعاً، لأنه حق. أم تريد بالظاهر ما فهمته من التمثيل؟ فهذا غير مراد؛ لأن هذا الظاهر الذي فهمته كفر وباطل بالنص والإجماع، والصواب الذي لا خطأ فيه أن ظاهرها: أي نصوص الصفات مراد وأنه لائق بالله وعظمته. المقصود أن نستفصل من قائل هذه المقالة، ما مرادك بالظاهر؟ 11 ـ غلط من يجعل ظاهر نصوص الصفات تمثيلاً: من يجعل ظاهر نصوص الصفات هو التمثيل يغلطون من وجهين:   1 عقيدة الإمام ابن قتيبة (ص139) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 1 ـ يجعلون المعنى الفاسد الكفري هو الظاهر ثم يجعلونه محتاجاً إلى التأويل. 2 ـ قد يفسرون الظاهر بمعنى صحيح لكنهم يردونه لاعتقادهم أنه باطل. 12 ـ أمثلة لمن يجعل المعنى الفاسد هو ظاهر نصوص الصفات: من يجعل ظاهر نصوص الصفات هو التمثيل يكون خطؤه على وجهين: 1 ـ أن يفسروا النص بمعنى فاسد لا يدل عليه اللفظ فينكرونه لذلك ويقولون: إن ظاهره غير مراد. مثال ذلك: قوله تعالى في الحديث القدسي: "يا ابن آدم مرضت فلم تعدني.." الحديث رواه مسلم. قالوا: فظاهر الحديث أن الله يمرض وهذا معنى فاسد، فيكون غير مراد. فنقول هذا المعنى الفاسد ليس ظاهر اللفظ؛ لأن سياق الحديث يمنع ذلك فقد جاء مفسراً بقوله: "أما علمت أن عبدي فلاناً فلم تعده"، وهذا صريح في أن الله لم يمرض وإنما حصل المرض لعبدٍ من عباده. مثال آخر: في الأثر: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه". من حديث ابن عباس مرفوعاً. قالوا: فظاهر الأثر أن الحجر الأسود نفسه يمين الله في الأرض، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد فنقول: الحجر الأسود ليس يمين الله؛ لأنه قال يمين الله في الأرض، فقيده بأنه في الأرض، ومعلوم أن الله في السماء، وقال: "فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه" ومعلوم أن المشبه غير المشبه به. 2 ـ أن يفسروا اللفظ بمعنى موافق لظاهره لكن يريدونه لاعتقادهم أنه باطل عندهم وليس بباطل عندنا مثال ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قالوا: ظاهر الآية أن الله علا على العرش والعرش محدود، فلزم أن يكون الله محدوداً، وهذا معنى فاسد غير مراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فنقول: إن الله علا على عرشه علواً يليق بجلاله وعظمته، ولا يماثل علو المخلوق على المخلوق ولا يلزم منه أن يكون الله محدوداً وهو علو يختص بالعرش، والعرش أعلى المخلوقات فيكون الله تعالى عالياً على كل شيء، وهذا من كماله فكيف يكون المعنى فاسداً غير مراد؟ مثال آخر: قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] . قالوا: فظاهر الآية أن لله تعالى يدين حقيقيتين وهما جارحتان، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد. فنقول: إن ثبوت اليدين الحقيقيتين لله عز وجل لا يستلزم معنى فاسداً، فإن لله تعالى يدين حقيقيتين تليقان بجلاله وعظمته بهما يأخذ وبهما يقبض ولا تماثلان أيدي المخلوقين، وهذا من كماله وكمال صفاته. مثال آخر اجتمع فيه الخطأ من الوجهين: مثال: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء". رواه مسلم. فقالوا على الوجه الأول: ظاهر الحديث أن قلوب بني آدم بين أصابع الرحمن فيلزم منه المباشرة والمماسة، وأن تكون أصابع الله سبحانه داخل أجوافنا، وهذا فاسد فيكون غير مراد. وقالوا على الوجه الثاني: ظاهر الحديث أن لله أصابع حقيقية والأصابع جوارح، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد. فالجواب: • أولاً: نقول على الوجه الأول: قد دلّ السمع والعقل على أن الله بائن من خلقه ولا يحل في شيء من خلقه ولا يحل فيه شيء من خلقه، وأجمع السلف على ذلك. • ثانياً: أن البينية لا تستلزم المباشرة والمماسة فيما بين المخلوقات كقوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض} [البقرة: 164] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فإن السحاب لا يباشر السماء ولا الأرض فكيف البينية فيما بين المخلوق والخالق الذي وسع كرسيه السموات والأرض. ونقول على الوجه الثاني: إن ثبوت الأصابع الحقيقية لله تعالى لا يستلزم معنى فاسداً فإن لله تعالى أصابعاً تليق به عز وجل، ولا تماثل أصابع المخلوقين. 13 ـ الفرق بين قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} : الفرق بينهما ثابت من وجوه: • الأول: من حيث الصيغة، فلو كانت الآية الثانية نظيرة للأولى لكان لفظها: لما خلقت يداي فيضاف الخلق إليهما، كما أضيف العمل إليها. • الثاني: أن الله تعالى أضاف في الآية الأولى الفعل إلى نفسه معدى بالباء إلى اليدين فكان سبحانه هو الخالق وكان خلقه بيده. وأما الآية الثانية: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فأضاف الفعل فيها إلى الأيدي المضافة إليه وإضافة الفعل إلى الأيدي كإضافته إلى النفس. • الثالث: أن الله تعالى أضاف الفعل في الآية الأولى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} معدى بالباء إلى يدين اثنتين، ولا يمكن أن يراد بهما نفسه لدلالة التثنية على عدد محصور باثنين، والرب جلَّ وعلا إله واحد. وأما الآية الثانية فأضاف الفعل إلى الأيدي المضافة إليه مجموعة للتعظيم فصار المراد بها نفسه المقدسة. 14 ـ ظواهر نصوص الصفات ليست تشبيهاً: زعم كثير من المعطلة أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله، لأن ظواهرها المتبادرة منها ما هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه، وعقد ذلك المقري في إضاءته في قوله: والنص إن أوهم غير اللائقف بالله كالتشبيه بالخلائق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 اصرفه عن ظاهره إجماعاً واقطع عن الممتنع الأطماعا1.2وكذا قال صاحب الجوهرة: وكلَّ نصٍّ أوهم التشبيها أوِّله أو فوِّض ورُمْ تنزيها3ومعنى هذا أن كل نص في القرآن الكريم والسنة النبوية فيه صفة الله سبحانه وتعالى، ويوهم المشابهة بصفات المخلوقين بزعمهم يصرف عن ظاهره. وهذه الدعوى باطلة بل هي من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها لكل مسلم راجع عقله هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه، ولا بد أن نتساءل هنا فنقول: أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال؟ والجواب الذي لا جواب غيره: بلى، وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال: إن اللفظ الدال على صفته تعالى ظاهرهُ المتبادر منه تشبيهه بصفة الخلق؟ فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظاً أنزله الله في كتابه مثلاً دالاً على صفة من صفات الله أثنى بها الله تعالى على نفسه يكون ظاهرها المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق؟ سبحانك.. هذا بهتان عظيم، فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف، وصفاتهما متخالفة كل التخالف، فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق؟ فكل لفظ دلّ على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقاً بالخالق   1 إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة مع شرحها (ص148) ، ط الأولى عام 1377 هـ. 2 أضواء البيان (ص7/443) . 3 شرح الصاوي على جوهرة التوحيد (ص128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 منزهاً عن مشابهة صفات المخلوق، كذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق1. 15 ـ اللوازم التي تلزم المعطلة في دعواهم: أن ظواهر نصوص الصفات تشبيه: من زعم أن ظاهر نصوص الصفات تشبيهٌ، فحقيقة هذا القول: أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] لم يبين حرفاً واحداً من ذلك، مع إجماع من يعتد به من العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين، حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين، فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، والنبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم. 16 ـ السبب الذي جعل المعطلة يقولون إن ظواهر نصوص الصفات هو التشبيه: السبب الذي جعل هؤلاء المعطلة يقولون: إن ظاهر نصوص الصفات هو التشبيه وهو لا يليق بالله، لأنه كفر بزعمهم، وإنما جرهم إلى ذلك تنجس قلوبهم في قذر التشبيه بين الخالق والمخلوق فأدّاهم شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله عز وجل، وعدم الإيمان بها وهم مشبهة أولاً ومعطلة   1 أضواء البيان (7/444) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ثانياً، فارتكبوا ما لا يليق بالله ايتداء وانتهاء ولو كانت قلوبهم عارفة بالله كما ينبغي معظمين الله كما ينبغي، طاهرة من أقذار التشبيه، لكان المتبادر عندهم السابق إلى فهمهم: أن وصف الله جل وعلا بالغ من الكمال والجلال مما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فتكون قلوبهم مستعدة للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة النبوية الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الله الخالق على نحو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] 1. لذا قال الإمام الذهبي في حق أمثال هؤلاء: "صار الظاهر اليوم ظاهرَين أحدهما: حقٌّ، والثاني: باطلٌ. فالحق أن يقول: إنه سميع بصير، مريد متكلم حي عليم، كل شيء هالك إلا وجهه، خلق آدم بيديه وكلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، وأمثال ذلك؛ فنمرّه على ما جاء، ونفهم منع دلالة الخطاب كما يليق به تعالى ولا نقول: تأويل يخالف ذلك. والظاهر الآخر وهو الباطل والضلال: أن تعتقد قياس الغائب على الشاهد وتمثل البارئ بخلقه، تعالى عن ذلك، بل صفاته كذاته فلا عدل له ولا ضد له ولا نظير له ولا مثل له، ولا شبيه له وليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته"2. 17 ـ التفويض عند المتكلمين: هو ما جمع الأمور الآتية: 1 ـ أن ظاهر النصوص الواردة في الصفات غير مراد لأن ظاهرها التشبيه.   1 أضواء البيان (2/32.) ؛ وانظر: منهج دراسات لآيات الأسماء والصفات (ص4.) . 2 سير أعلام النبلاء (9/449) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 2 ـ أن النصوص مجهولة المعاني بالنسبة للخلق. 3 ـ تفويض علم معاني الصفات لله تعالى. 4 ـ الإيمان عندهم بالصفات وهو مجرد الإيمان بألفاظ الصفات الواردة دون ما تضمنه من معاني مجهولة غير معلومة. 18 ـ الأسئلة والأجوبة الواردة على القاعدة الثالثة: س1 ـ ما مذهب عامة السلف في ظاهر النصوص وما قول المخالفين؟ ج ـ مذهب عامة السلف رضوان الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها. أما قول المخالفين وهم عامة المتكلمين فهو إن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين فظاهرها الكفر عندهم. س2 ـ ما حكم القول بأن ظاهر النصوص مراد أو غير مراد؟ ج ـ الحكم في ذلك على وجهين: • الوجه الأول: إن كان يعتقد أن الظاهر هو التمثيل فلا ريب أنه غير مراد لكنه ليس هو الظاهر. • الوجه الثاني: وإن كان يعتقد باعتقاد السلف وهو أن الظاهر على ما يليق بالله فهو مراد. س3 ـ أجب عما استدل به المتكلمون على أن ظاهر النصوص محال وأدلتهم هي ما يلي: ج ـ 1 ـ "الحجر الأسود يمين الله في أرضه فمن صافحه وقبّله فكأنما صافح الله وقبّل يمينه". 2 ـ "عبدي مرضت فلم تعدني ... وجعت فلم تطعمني ... ". 3 ـ "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن". * الجواب على الدليل الأول: أولاً: أن الحديث ضعيف كما قاله المحققون قال شيخ الإسلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 لا يثبت. وقال ابن الجوزيّ: لا يصح، وقال ابن العربي المالكي: هذا حديث باطل فلا يلتفت إليه، وإنما المشهور عن ابن عباس، مع أن في إسناده ضعفاً كذلك. وضعّفه الألباني في السلسة وقال: منكر (1/39.) . ثانياً: على فرض صحته، فليس ظاهره أن الحجر الأسود يد الله اليمنى لوجهيتن: أـ أنه قال: "يمين الله في أرضه ... " فقيده بالأرض وحكم المقيد يخالف حكم المطلق، فإن الله تعالى في السماء، فهذا كما يقول الأمير: فلان يميني في الشام وهكذا. ب ـ أنه قال: "فمن صافحه وقبّله فكأنما ... " فهنا تشبيه، ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به، فظاهر الحديث أن مصافح الحجر ومقبِّله ليس مصافحاً لله وليس الحجر يمين الله، فكيف يقال: إن الظاهر كفر غير مراد فيحتاج إلى تأويل. * الجواب على الدليل الثاني: أن ظاهر الحديث هو أن الله يمرض ويجوع. ودليل بطلانه ما يلي: أن الحديث صريح في أن الله لم يمرض ولم يجع وإنما مرض عبده وجاع عبده، كما في قوله: "أما علمت أن عبدي فلاناً جاع ... " فالظاهر هو مجموع الحديث لا آحاد ألفاظه، ولا يجوز الحكم على أول الكلام دون بقيته كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ ... } [الماعون: 4ـ5] فيجب تفسيرها بما بعدها. وقوله: "فلو عدته لوجدتني عنده" هذه العندية تتضمن القرب والمعية الخاصة والرعاية ولا تتحقق إلا في العبد المؤمن دون الكفار والفاجر، ولم يقل في الإطعام: "لوجدتني عنده"، وإنما قال: "لوجدت ذلك عندي"، أي الأجر والثواب مما يدل على أن الإطعام عام للمؤمن والكافر، أما المعية فخاصة للمؤمن المريض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 * الجواب على الدليل الثالث: هو أن الشبهة التي استدلوا بها وهي أن ظاهر الحديث أن الأصابع في جوف القلب، والقلب متصل بها مماس لها وهو محال محتاج إلى تأويل. نقول: ليس هذا هو الظاهر، وإذا قال قائل: "هذا بين يدي" لم يدل على المباشرة والمماسة، ومنه قوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] فإنه لا يقتضي مماسة السحاب للسماء ولا للأرض فهو بين السماء والأرض، فإذا ثبتت هذه البينية بين المخلوق والمخلوق فالبينية بين المخلوق والخالق الذي وسع كرسيه السموات والأرض أولى بذلك. س4 ـ ما أوجه الفرق بين قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: 75] وقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يّس: 71] ؟ ج ـ الفرق بينهما من وجهين: • الوجه الأول ـ في قوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أضاف الفعل إلى الأيدي فهي مثل قوله: {َفبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 3.] . وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أضاف الفعل إلى نفسه.. • الوجه الثاني ـ في قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عدى الفعل بالباء إلى اليدين فكان سبحانه هو الخالق وكان خلقه بيده، كقولنا كتبت بالقلم، فالكاتب هو الفاعل والقلم هو الذي حصلت به الكتابة، ولم يقل: "لما خَلَقَتْ يداي"، فلو قال ذلك لكان كقوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} . * فهذه الفروق اللفظية أدّت إلى الاختلاف في المعنى فكانت الأولى لإثبات خلق آدم عليه السلام باليدين، والثانية لإثبات مطلق الخلق. س5 ـ يقول المتكلمون النافون للصفات: إن قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [صّ: 75] هو مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يّس: 71] . فما الغرض في التسوية عندهم؟ وما الجواب عليهم؟ ج ـ الغرض من التسوية عندهم هو أنهم يريدون بذلك نفي اليدين لأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 يقولون إن آدم لم يخلق باليدين كما أن الأنعام لم تخلق باليدين، وإنما الإضافة في الآيتين مجاز، وهذه الشبهة من تأسيسات المريسي وتابعه عليها شيوخ المعتزلة والأشاعرة وغيرهم. والجواب أن بين الآيتين فروقاً، وليست هذه الآية مثل تلك. وقد ذكرنا أوجه الفروق بين الآيتين في السؤال السابق. فراجعه إن شئت. س6 ـ اذكر أدلة إثبات اليدين لله من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة؟ ج ـ الأدلة على إثبات اليدين لله تعالى كثيرة جداً من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة: أولاً: من الكتاب قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [صّ: 75] ، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] . ثانياً: من السنة: 1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين" أخرجه مسلم (ح1827) . 2 ـ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: "يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده" رواه البخاري (334.) ومسلم (194) . ثالثاً: إجماع السلف: 1 ـ قال الإمام أبو الحسن الأشعري: "أجمعوا على أنه عز وجل يسمع ويرى وأن له تعالى يدين مبسوطتين، وأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه من غير أن يكون جوازاً ... " أي مجازاً. 2 ـ وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: "باب ذكر إثبات اليدين للخالق الباري جل وعلا والبيان أن الله تعالى له يدان كما أعلمنا في محكم تنزيله ... " ثم ذكر الأدلة على ذلك. 3 ـ وقال الإمام الإسماعيلي: "وخلق آدم بيده ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء بلا اعتقاد كيف يداه إذا لم ينطق كتاب الله تعالى فيه بكيف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 س7 ـ كيف تناقش الأشاعرة في دعواهم أن ظواهر النصوص التمثيل؟ ج ـ إذا قال الأشعري: إن الظاهر مراد أو غير مراد يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها بين أهل السنة والأشاعرة كنصوص (المحبة والغضب والاستواء وغيرها) . مثل النصوص المتفق على معناها كالصفات السبع فله أحد احتمالين: • الأول: إن كان يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين لزمه ألا يكون شيء من ظاهر النصوص مراد سواء المتنازع فيها أو المتفق عليها فيلزمه نفي الجميع. • الثاني: وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما هو ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر ونفي أن يكون مراده، إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا في السمع ما ينافي هذا إلا من جنس ما ينافي سائر الصفات فالكلام فيها واحد، أما أن يفرق بين الصفات السبع وغيرها فتناقض كما سبق. س8 ـ هل ثبت أن الإمام أحمد بن حنبل أوَّل هذه النصوص وهي: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض"، و"قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن"، و"إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن" وكيف ترد على من زعم ذلك؟ ج ـ الرد عليهم ما يلي: 1 ـ أن هذه النصوص المذكورة نقلها أبو حامد الغزالي عن أحد الحنابلة عن الإمام أحمد، وهذا الكلام الذي ذكره الغزالي كذب على الإمام أحمد، فإن الإمام الغزالي قليل التمييز بين ما ينقله باعترافه حيث قال: "وبضاعتي في الحديث مزجاة". 2 ـ قال شيخ الإسلام: "فهذه الحكاية كذب على الإمام أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول، لا يعرف علمه بما قال، ولا صدقه فيما قال" 3 ـ ثم إن مذهب الإمام أحمد من الصفات معلوم مشهور. 4 ـ وهذه الأحاديث سبق بيان المراد منها فهي غير محتاجة إلى تأويل أما حديث: "إني لأجد نفس الرحمن" فعلى فرض صحته فمعناه تنفيس الرحمن أي تفريجه على المؤمنين، فالنفي هون الفرج كما في لسان العرب (2/226) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 القاعدة الرابعة توهم المعطلة في نصوص الصفات التمثيل والمحاذير المترتبة على ذلك قال شيخ الإسلام: "وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة: وهي: أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات أو في كثيرا منها أو أكثرها أو كلها ـ أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير: أحدهما: كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل. الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله: بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله، حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل، قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله سبحانه. الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم، فيكون معطلاً لما يستحقه الرب تعالى. الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات والجمادات، أو صفات المعدومات، فيكون قد عطّل صفات الكمال التي يستحقها الرب تعالى، ومثله بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحداً في أسمائه وآياته. مثال ذلك: أن النصوص كلها دلّت على وصف الإله بالعلو والفوقية على المخلوقات، واستوائه على العرش، فأما علوّه ومباينته للمخلوقات فيُعلم بالعقل الموافق للسمع، وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع، وليس في الكتاب والسنة وصفٌ له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله. فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ*لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِه} [الزخرف: 12ـ13] ، فيتخيل أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو انخرقت السفينة لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدابة لخرّ المستوي عليها، فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب تبارك وتعالى، ثم يريد ـ بزعمه ـ أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار. ولا يعلم أن مسمى (القعود) و (الاستقرار) يقال فيه ما يقال في مسمى (الاستواء) !، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى (الاستواء) فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكّم وقد عُلم أن بين مسمى (الاستواء) و (الاستقرار) و (القعود) فروقاً معروفة، ولكن المقصود هنا أن يُعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره. وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك. وليس في اللفظ ما يدل على ذلك؛ لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليها سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق ثم استوى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 كما ذكر أنه قدَّر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك. فلم يذكر استواءً مطلقاً يصلح للمخلوق ولا عاماً يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواءً أضافه إلى نفسه الكريمة. فلو قُدِّر ـ على وجه الفرض الممتنع ـ أنه هو مثل خلقه ـ تعالى الله عن ذلك ـ لكان استواؤه مثل استواء خلقه. أما إذا كان هو ليس مماثلاً لخلقه، بل قد عُلم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لم يذكر إلا استواءً يخصه، لم يذكر استواءً يتناول غيره ولا يصلح له، كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به، فكيف يجوز أن يُتوهم أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه، وأنه لو سقط العرش لخرَّ من عليه؟! سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. هل هذا إلا جهل محضٌ وضلالٌ ممن فهم ذلك، أو توهمه، أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوّز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق، بل لو قُدِّر أن جاهلاً فهم مثل هذا، أو توهمه لبُيِّن له أن هذا لا يجوز، وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلاً، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه. فلما قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زُبُل ومجارف وأعوان وضرب لَبِن وجَبْل طين. ثم قد عُلم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله، والسموات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها، فالعليُّ الأعلى رب كل شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 خلقه أو عرشه؟! أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار وهو ليس بمستلزم في المخلوقات؟!. وقد عُلم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحقُّ به وأوْلَى. وكذلك قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات، فهو جاهلٌ ضالٌ بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء، يقتضي ذلك، فإن حرف (في) متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه. ولهذا يُفرَّق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيِّز، وكون العَرَض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف (في) مستعملاً في ذلك كله. فلو قال قائل: العرش في السماء أم في الأرض؟ لقيل: في السماء. ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل الجنة في السماء. ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السموات، بل ولا الجنة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن"1. فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك، مع أن الجنة في السماء، والسماء يُراد بها العلو، سواءً كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] ، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] . ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} أنه في السماء، أنه في العلو وأنه فوق كل شيء.   1 أخرجه البخاري في صحيحه (6/11 برقم 279.) وفي (13/4.4 برقم 7423) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وكذلك الجارية لما قال لها: "أين الله؟ " قالت: في السماء1، إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها. وإذا قيل: "العلو" فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجوديٌّ يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل: إن العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق. وإذا قُدِّر أن "السماء" المراد بها الأفلاك كان المراد أنه عليها، كما قال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل} [طه: 71] ، وكما قال: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْض} [آل عمران: 137] ، وكما قال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْض} [التوبة: 2] ، ويُقال: فلان في الجبل، وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء فيه". معاني الكلمات: يتوهم: التوهم هو ظن الشيء على خلاف ما هو عليه. في بعض الصفات أو أكثر منها: الأشعري والماتريدي يتوهم أن جميع الصفات إثباتها تمثيل ما عدا سبع أو ثمان من الصفات. أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين: الجهمي والباطني والمعتزلي يزعمون أن إثبات الصفات جميعاً فيه تمثيل. ثم يريد: أي ذلك المتوهم وهو المعطل. أن ينفي ذلك الذي فهمه: حيث توهم التشبيه في إثبات صفات الله، فيجعل ظاهر النصوص غير مراد، فيرد المعنى الصحيح الذي هو الحق لاعتقاده أنه معنى فاسد. عناصر الموضوع: 1 ـ موضوع القاعدة الرابعة: موضوع القاعدة الرابعة هي في بيان ما يترتب من ظن المعتزلة أن ظاهر نصوص الصفات هو التشبيه والتمثيل.   1 حديث الجارية أخرجه مسلم في صحيحه (1/381ـ382 برقم 537) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ر2 ـ على من يرد شيخ الإسلام بالقاعدة الرابعة؟: يرد شيخ الإسلام بهذه القاعدة على عامة المعطلة والممثلة في ظنهم السيئ بالله تعالى، حيث اعتقدوا أن صفاته إثباتها يستلزم التشبيه وجنايتهم على النصوص بالتحريف. 3 ـ الصلة بين القاعدتين الثالثة والرابعة: بعد أن تكلم شيخ الإسلام في القاعدة الثالثة عن الظاهر وحكمه ناسب أن يتكلم عن ما يترتب على القول بأن ظاهر نصوص الصفات هو التمثيل. 4 ـ شرح القاعدة الرابعة: اعلم أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات التي دلت عليها النصوص أو كثير منها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الوهم الذي يتوهمه فيقع في أربعة محاذير: 1 ـ أنه فهم من النصوص صفات تماثل المخلوقين وظن أن ذلك هو مدلول النص وهذا فهم خاطئ، فتمثيل الخالق بالمخلوق كفر وضلال لأنه تكذيب لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . 2 ـ أنه جنى على النصوص حيث نفى ما تدل عليه من المعاني الإلهية ثم أثبت لها معاني من عنده لا يدل عليه ظاهر اللفظ. 3 ـ أنه نفى ما دلت عليه ظاهر النصوص من الصفات بغير علم فيكون بذلك قائلاً على الله ما لا يعلم فهذا حرام بالنص والإجماع. 4 ـ إنه إذا نفى عن الله ما تقتضيه النصوص من صفات الكمال لزم أن يكون الله سبحانه متصفاً بنقيضها من صفات النقص، وهذا لا يجوز في حق الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 5 ـ ما تدور عليه القاعدة: محور هذه القاعدة ومدارها على بيان ما يترتب من التوهم في صفات الله كلها أو بعضها أنها تماثل صفات المخلوقين. 6 ـ ظن المعطل: الظن السيئ بالله تعالى: نهى الله تعالى عن الظن السيئ في الأمور كلها فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] ، فنهى الله عز وجل عن كثير من الظن السيئ بالمؤمنين حيث قال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء الذي يقترن به كثير من الأقوال والأفعال المحرمة، فإن بقاء الظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي وفي ذلك أيضاً إساءة الظن بالمسلم وبغضه وعداوته المأمور بخلافها فكيف بالظن السيئ بالله تعالى. فمن أكبر الظن وأبشعه أن يتوهم مماثلة الله تعالى بالمخلوقين، وهذا خلاف ما فطر عليه العباد من أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما ذاته لا تشبه سائر الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه سائر الصفات. 7 ـ معنى قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] وبيان ما وقع فيه المعطل من الظن السيئ بالله: يقول تعالى مبيناً لقدرته العظيمة: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} أي: خلقناها وأتقناها وجعلناها سقفاً للأرض وما عليها. {بِأَيْدٍ} أي: بقوة وقدرة عظيمة: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} لأرجائها وأنحائها. وإنا لموسعون أيضاً على عبادنا بالرزق الذي ما ترك دابة في مهامه القفار، ولجج وأقطار العالم السفلي والعلوي، إلا أوصل إليها من الرزق، ما يكفيها، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها فسبحان الله عمَّ بجوده جميع المخلوقات، وتبارك الذي وسعت رحمته جميع البريات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ومع هذا يتوهم المعطل والممثل أن بناء الله للسماء كبناء المخلوق لسقف البيت، بحيث يحتاج إلى زنبيل ومجارف وطوب وأسمنت وغير ذلك، وهذا ظن فاسد بالله تعالى. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. 8 ـ معنى قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] : وبيان ما وقع فيه المعطل من الظن السيئ بالله من خلال هذه الآية: أأمنتم من في السماء وهو الله تعالى العالي على خلقه أن يخسف بكم الأرض فتهلكوا أو تتلفوا، وهذا تهديد ووعيد لمن استمر في طغيانه وعصيانه الموجب للنكال وحلول العقوبة، فيتوهم المعطل والممثل هذه الآية أن السماء تحيط به تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومنشأ هذا الوهم ظنه أن (في) التي للظرفية تكون بمعنى واحد في جميع الموارد، وهذا ظن فاسد فإن (في) تختلف معناها بحسب متعلقها وعلى هذا فيخرج قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} على أحد وجهين: 1 ـ إما أن تكون السماء بمعنى العلو، فمعنى كونه في السماء أنه في العلو المطلق فوق جميع المخلوقات. 2 ـ وإما أن تكون في: بمعنى على، وعلى هذا فيكون معنى الآية {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي على السماء، أي فوقه، والله تعالى فوق السموات وفوق كل شيء. 9 ـ جناية المعطل على النصوص: جنى المعطل على النصوص بتأويل النصوص على خلاف ظاهرها، والقول بالتأويل يعتبر محاولة لتكييف الصفة على نحو (ما) على غير الظاهر، بينما كان منهج القرآن والسنة هو إثبات الصفة كما وردت لا إثبات كيفية للصفات، لأن الكيف هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، فترك الوحي، واتباع الرأي، والتأويلات الفاسدة، عزل للكتاب والسنة كمصدرين للهداية في واقع الحياة، وليس بعد الهداية إلا الغواية، قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلال} [يونس: 32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 10. ـ من ظن أن نصوص الصفات تماثل صفات المخلوقين قد جمع بين التمثيل والتعطيل: من ظن أن نصوص الصفات تماثل صفات المخلوقين وأن إثبات الصفات يستلزم التشبيه، وأن ظاهر النصوص تشبيه فقد جمع بين تشبيهين وتعطيلين. فالتمثيلان: حيث اعتقد تشبيه الله بالمخلوقات أولاً، ثم فرَّ منه فشبهه بالجمادات أو المعدومات. والتعطيلان: حيث عطل الآيات الدالة على الصفة والنافية للماثلة، ثم عطَّل الله عن صفاته. 11 ـ الأسئلة والأجوبة الواردة على القاعدة الرابعة: س1 ـ اذكر المحاذير الأربعة التي يقع فيها من يتوهم التمثيل ثم ينفي الصفات؟ ج ـ أولاً: المحاذير المتعلقة بالنصوص: 1 ـ تمثيل ما فهمه من صفات الله بصفات المخلوقين فجعل ظاهر النصوص هو التمثيل. 2 ـ تعطيل النصوص عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله تعالى. ثانياً: المحاذير المتعلقة بالله تعالى: 1 ـ تعطيل الله تعالى عن صفات الكمال بغير علم. 2 ـ تمثيل الله بالمنقوصات من الجمادات أو الأموات أو المعدومات. فيكون قد جمع بين تمثيلين وتعطيلين. فالتمثيلان: حيث اعتقد تشبيه الله بالمخلوقات أولاً، ثم فرَّ منه فشبهه بالجمادات أو المعدومات. والتعطيلان: حيث عطل الآيات الدالة على الصفة والنافية للماثلة، ثم عطَّل الله عن صفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فجمع هذا التمثيل بين الإلحاد في أسماء الله، بتعطيله عن الكمال وتشبيهه بالمنقوصات، والإلحاد في آياته، بجعلها دالة على التمثيل ثم تعطيلها عما دلت عليه من الصفات. س2 ـ كيف تجيب على من ينفي الاستواء بحجة أن إثباته يستلزم الافتقار؟ ج ـ نجيب عليه بما يلي: 1 ـ أن الاستواء مضاف إلى الله تعالى مختص به فلا يلزم مماثلته لاستواء خلقه. 2 ـ أن الله تعالى ليس مثل خلقه فكذلك استواؤه ليس مثل استوائهم. 3 ـ ثبت بالضرورة غنى رب العالمين عن العالمين، فلا يلزم من استوائه افتقاره إلى العرش. 4 ـ أن جميع الصفات لا يتوهم فيها النقص فكذلك الاستواء. 5 ـ ثبت أن بعض المخلوقات بعضها فوق بعض ومع ذلك فليس الأعلى مفتقراً إلى الأدنى كالسماء والأرض، والخالق الأعلى أولى بعدم الافتقار. س3 ـ كيف تجيب على من فسّر قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي داخل السماء؟ ج ـ نجيب عليه بما يلي: 1 ـ أن السماء يراد بها العلو فيكون المعنى في العلو. 2 ـ أن (في) تأتي بمعنى (على) فيكون المعنى على السماء. * والخلاصة في هذه الآية: (في السماء) أن لها ثلاث معاني وهي: 1 ـ أن معناها (داخل السماء) وهذا قول الغالطين من المبتدعة. 2 ـ أن معناها (في العلو) فتكون السماء بمعنى العلو مطلقاً. 3 ـ أن معناها (على السماء) فتكون في بمعنى على، كما هو مشهور في اللغة، والمعنيان الأخيران قال بهما أهل السنة والجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 س4 ـ ما الفرق بين العلو والاستواء؟ ج ـ الفرق بينهما ما يلي: 1 ـ أن العلو صفة ذاتية ملازمة لله تعالى، وأما الاستواء فهو صفة فعلية اختيارية فعلها بعد أن لم يكن فاعلاً لها. 2 ـ أن العلو ثابت بالنقل والعقل والفطرة، وأما الاستواء فهو ثابت بالنقل فقط. 3 ـ أن العلو على جميع المخلوقات، وأما الاستواء فهو لا يضاف إلا إلى العرش. * وهاتان الصفتان هما الفيصل بين أهل السنة وأهل البدعة، فقد نفاهما جميع الفرق الكلامية من الفلاسفة والباطنية، والمعتزلة والجهمية، والأشاعرة والماتريدية، وآمن بهما أهل السنة والجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 القاعدة الخامسة صفات الله معلومة المعنى مجهولة الكيفية قال شيخ الإسلام: " القاعدة الخامسة: أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه، فإن الله تعالى قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] ، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] . وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [صّ: 29] ، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، فأمر بتدبر الكتاب كله. وقد قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] . وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، وهذا هو المأثور عن أبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم، ورُوي عن ابن عباس أنه قال: "التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحدٌ بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادّعى علمه فهو كاذب"1. وقد رُوي عن مجاهد وطائفة أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقد رُوي عن مجاهد وطائفة أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقدض   1 ذكره الطبري في مقدمة تفسيره (1/75) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 قال مجاهد: "عرضتُ المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقف عند كل آية وأسأله عن تفسيرها"1. ولا منافاة بين القولين عند التحقيق؛ فإن لفظ "التأويل" قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان: • أحدها: ـ وهو اصطلاح كثير من المتأخرين المتكلمين في الفقه وأصوله ـ أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به؛ وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل هذا محمودٌ أو مذموم؟ وحقٌ أو باطل؟. • والثاني: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله المصنِّفين في التفسير: "واختلف علماء التأويل". ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به2. وعلى تفسيره يعتمد الشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهم، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به معرفة تفسيره. • الثالث: من معاني التأويل هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَق} [الأعراف: 53] . فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله تعالى به فيه، مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك، كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْل} [يوسف: 1..] ، فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا. فالتأويل الثاني هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسَّر به اللفظ حتى   1 ذكره أيضاً الطبري في مقدمة تفسيره (1/9.) . 2 المرجع السابق (1/91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 يُفهم معناه أو تُعرَف علته أو دليله، وهذا التأويل الثالث هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن1. تعني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه} [النصر: 3] ، وقول سفيان بن عيينة: السنة هي تأويل الأمر والنهي. فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر، ونفس الموجود المخبَر عنه هو تأويل الخبر، والكلام خبر وأمر، ولهذا يقول أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة، كما ذكروا ذلك في تفسر اشتمال الصَّمَّاء؛ لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أُمر به ونفس ما نُهي عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع أبقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهم ما لا يُعلم بمجرد اللغة، ولكن تأويل الأمر والنهي لابد من معرفته بخلاف تأويل الخبر. إذا عُرف ذلك؛ فتأويل ما أخبر به عن نفسه المقدَّسة الغنية بما لها من حقائق الأسماء والصفات هو حقيقة نفسه المقدّسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد. ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه؛ لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة؛ تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحماََ ًولبناً وعسلاً وماء وخمراً ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله، ولا حقيقته كحقيقته. فأسماء الله تعالى وصفاته أَوْلَى ـ وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه ـ أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته. والإخبار عن الغائب لا يُفهَم إن لم يُعبَّر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في   1 متفق عليه: صحيح البخاري (2/299 برقم 817) وصحيح مسلم (3/13ـ131) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الشاهد، ويُعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميِّز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يُعلَم في الشاهد. وفي الغائب ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر1، فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار، علمنا معنى ذلك، وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب، وفسّرنا ذلك، وأما نفس الحقيقة المخبَر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة، فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. ولهذا لما سُئل مالكٌ وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا الإيمان. فبيَّن أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة. ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" وهذا في صحيح مسلم2. وغيره. وقال في الحديث الآخر: "اللهم إني أسالك بكل اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، وهذا الحديث في المسند وصحيح ابن حبان3. وقد   1 متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحيح البخاري 8\515ـ516برقم 4779ـ478.، صحيح مسلم (4\2174ـ2175 برقم 2824) . 2 صحيح مسلم (1/352 برقم 486) من حديث عائشة رضي الله عنها، وعلي رضي الله عنه. 3 المسند (5/266 ـ 268 برقم 3712) و (6/153ـ 154 برقم 4318) وصحيح ابن حبان (موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان) ص589 برقم 2372 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره. والله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه عليم، قدير، سميع، بصير، غفور، رحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته؛ فنحن نفهم معنى ذلك، ونميّز بين العلم والقدرة، وبين الرحمة والسمع والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله، مع تنوع معانيها، فهي متفقة متواطئة من حيث الذات، متباينة من جهة الصفات. وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مثل: محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب. وكذلك أسماء القرآن، والفرقان، والهدى، والنور، والتنزيل، والشفاء، وغير ذلك. ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها؛ هل هي من قبيل المترادفة لاتحاد الذات، أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات، كما إذا قيل: السيف، والصَّارِم، والمُهَنَّد؛ وقصد بالصّارم معنى الصرم، وفي المهند النسبة إلى الهند؟. والتحقيق أنها مترادفة في الذات متباينة في الصفات. ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه، وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يُعرف الإِحكام والتشابه الذي يعمه، والإِحكام والتشابه الذي يخص بعضه. قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] فأخبر أنه أحكم آياته كلها، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} [الزمر: 23] ، فأخبر أنه متشابه. والحكم هو الفصل بين الشيئين، والحاكم يفصل بين الخصمين، والحكمة فصل بين المشتبهات علماً وعملاً، إذا مُيِّز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار، وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال: حَكَمْتُ السَّفيه وأحْكَمْته إذا أخذتُ على يده، وحَكَمْتُ الدَّابَّة وأحْكَمْتها إذا جعلتُ لها حَكَمَة وهو ما أحاط بالحنك من اللجام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وإحكام الشيء إتقانه، فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره. والقرآن كله محكم بمعنى الإِتقان، فقد سماه الله حكيماً بقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] فالحكيم بمعنى الحاكم، كما جعله يقص بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76] ، وجعله مفتياً في قوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 127] أي ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن، وجعله هادياً ومبشراً في قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الإسراء: 9] . وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] ، وهو الاختلاف المذكور في قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ*يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذريات:8 ـ9] . فالتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدّق بعضه بعضاً، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به، أو بنظيره، أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه، أو عن نظيره، أو عن لوازمه، إذا لم يكن هناك نسخ. وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك، بل يخبر بثبوته، أو بثبوت ملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته، بل ينفيه، أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضاً، فيُثبت الشيء تارة وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، أو يفرق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر، فالأقوال المختلفة هنا هي المتضادة، والمتشابهة هي المتوافقة. وهذا التشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضاً، ويعضد بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، ويقتضي بعضها بعضاً، كان الكلام متشابهاً، بخلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضاً. وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدق له، فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضاً، لا يناقض بعضه بعضاً. بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص، فالتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو مثله، وليس كذلك، والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. وهذا التشابه إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما. ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس هو مثله وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه. ومن هذا الباب الشُّبَه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق بالباطل، حتى يشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل. والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات؛ لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه، فمن عرف الفصل بين الشيئين اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد. وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء، ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه، ولهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه ـ والقياس الفاسد لا ينضبط ـ كما قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، فالتأويل في الأدلة السمعية، والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال: التأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، أو أن يكون إياه، أو متحداً به، أو حالاًّ فيه من الخالق مع المخلوق. فمن اشتبه عليهم وجود الخالق بوجود المخلوقات ـ حتى ظنوا وجودها وجوده ـ فهم أعظم الناس ضلالاً من جهة الاشتباه، وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى "الوجود" فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع. وآخرون توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى "الوجود" لزم التشبيه والتركيب، فقالوا: لفظ "الوجود" مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ونحو ذلك من أقسام الموجودات. وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى "الوجود" لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة: مثل وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك؛ فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وهذا كله من أنواع الاشتباه. ومن هداه الله سبحانه فرّق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينها من الجمع والفرق، والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبيّن ما بينهما من الفصل والافتراق. وهذا كما أن لفظ "إنّا" و"نحن" وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم، الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له. فإذا تمسك النصراني بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ونحوه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 تعدد الآلهة، كان المحكم كقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحداً يزيل ما هناك من الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغ الجمع مبيناً لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم. وأما حقيقة ما دلّ عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله، فلا يعلمه إلا هو: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] ، وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. بخلاف الملك من البشر إذا قال: قد أمرنا لك بعطاء. فقد عُلم أنه هو وأعوانه ـ مثل: كاتبه، وخادمه، ونحو ذلك أمروا به، وقد يُعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإرادته ونحو ذلك. والله سبحانه وتعالى لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة. وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة، كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة، وإن زال الاشتباه بما يتميّز أحد المعنيين من إضافة أو تعريف، كما إذا قيل: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ} [محمد: 15] فهنا قد خصّ هذا الماء بالجنة، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا، لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو ـ ما أعد الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ـ من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.. وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته، لا يعلمها إلا هو. ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال الإمام أحمد في كتابه الذي صنّفه في "الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأويله على غير تأويله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وإنما ذمّهم لكونهم تأوّلوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم، وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينفِ مطلق التأويل، كما تقدم من أن لفظ "التأويل" يراد به التفسير المبيِّن لمراد الله تعالى به، فذلك لا يُعاب بل يُحمد، ويُراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذال لا يعلمه إلا هو، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. ومن لم يعرف هذا اضطربت أقواله، مثل طائفة يقولون: إن التأويل باطل، وإنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره؛ ويحتجون بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل. وهذا تناقضٌ منهم؛ لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهم ينفون التأويل مطلقاً. وجهة الغلط أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو، وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك، ويدّعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل؟ ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه! فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإن كان الثابت حقاً ممكناً كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلاً ممتنعاً كان الثابت مثله. وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقاً، ويحتجون بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] قد يظنون أنَّا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يُفهم منه شيء. وهذا مع أنه باطل فهو متناقض؛ لأنّا إذا لم نفهم منه شيئاً لم يجز أن نقول: له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه لإمكان أن يكون له معنى صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا، فإنه لا ظاهر له على قولهم، فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلاً، ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير، فإنَّ تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 المعاني التي دلّت عليها قد لا نكون عارفين بها، ولأنّا إذا لم نفهم اللفظ ومدلوله المراد فلأن لا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أولى. لأن إشعار اللفظ بما يُراد به أقوى من إشعاره بما لا يُراد به، فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى من المعاني، ولا يُفهم منه معنى أصلاً، لم يكن مشعراً بما أُريد به؛ فلأن لا يكون مشعراً بما لم يرد به أولى. فلا يجوز أن يقال: إن هذا اللفظ متأوّل، بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فضلاً عن أن يقال: إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله، اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما يخالف الظاهر المختص بالمخلوقين، فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا فلا بد أن يكون له تأويل يخالف ظاهره. لكن إذا قال هؤلاء: إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر، أو إنها تجري على المعاني الظاهرة منها، كانوا متناقضين، وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى وهنا معنى في سياق واحد من غير بيان كان تلبيساً، وإن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ أي تجري على مجرّد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضاً؛ لأن من أثبت تأويلاً أو نفاه فقد فهم منه معنى من المعاني، وبهذا التقسيم يتبيّن تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب". معاني الكلمات: نعلم ما أخبرنا به: أي ما أخبرنا الله ورسوله به من الغيبيات. من وجه: وهو المعنى. دون وجه: أي بجهل الوجه الآخر وهو الحقيقة والكيفية، كما سبق أن وضح أكثر في المثلين الجنة والروح. عناصر الموضوع: 1 ـ موضوع هذه القاعدة: أن نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار المعنى مجهولة لنا باعتبار الكيفية والحقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 2 ـ على من يرد شيخ الإسلام بالقاعدة الخامسة: يرد شيخ الإسلام بالقاعدة الخامسة على المفوضة القائلين بعدم العلم بالمعاني مطلقاً في الصفات، وتتضمن رداً على المشبهة في دعواهم العلم بالكيفية، ويدخل كذلك فيهم المعطلة، لأنهم عطلوا فراراً من التشبيه، فبيّن لهم أننا نثبت الصفة دون تكييف، فهذه القاعدة من القواعد الجامعة في الرد على أصناف المبتدعة. 3 ـ الصلة بين القاعدتين الخامسة والرابعة: القاعدة الرابعة يبيّن فيها شيخ الإسلام ما يترتّب على القول بأن ظاهر نصوص الصفات هو التمثيل، ومنشأ الشبهة: اعتقاد المعطلة أن نصوص الصفات هي من المتشابه في المعنى والكيف، والصواب أن نصوص الصفات محكمة في معناها، متشابه في الحقيقة والكيف لأنه مما استأثر الله بعلمها. قال البزدوي الحنفي: "إثبات اليد والوجه حقٌّ عندنا معلوم بأصله، متشابه بوصفه، ولا يجوز إبطال الأصل بالعجز عن إدراك الوصف بالكيف، وإنما ضلّت المعتزلة من هذا الوجه"1. 4 ـ شرح القاعدة الخامسة: ظواهر نصوص الصفات معلومةٌ لنا باعتبار، مجهولة لنا باعتبار آخر، باعتبار المعنى: هي معلومة المعنى، وباعتبار الكيفية: التي هي عليها مجهولة2. فالواجب في نصوص القرآن إجراؤها على ظاهرها وما تدل عليه تلك الظواهر من المعاني اللائقة بالله، ولا سيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها.   1 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار: (1/6.) . 2 القواعد المثلى (ص24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ولأن الله تعالى أخبرنا بهذه الصفات وهو أعلم بمراده من غيره وقد خاطبنا باللسان العربي المبين، فوجب قبول المعنى على ظاهره اللائق بالله، وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة. قال ابن قتيبة: "الواجب علينا أن ننتهي في صفات الله إلى حيث انتهى في صفته، أو حيث انتهى رسوله عليه السلام ولا نزيل اللفظ عما تعرفه العرب ونضعه عليه ونمسك عما سوى ذلك"1. المقصود: أن الأمر في الصفات كلها كما قال الإمام مالك لمن سأله عن كيفية الاستواء على العرش: "الاستواء على العرش معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". فمن سأل عن كيفية علم الله أو كيفية خلقه وتدبيره قيل له: كما أن ذات الله تعالى لا تشبهها الذوات، فصفاته لا تشبهها الصفات، فالخلق يعرفون الله ويعرفون ما تعرف لهم من صفاته وأفعاله، وأما كيفية ذلك فلا يعلم تأويله إلا الله"2. 5 ـ ما تدور عليه هذه القاعدة: تدور هذه القاعدة على مسألتين: 1 ـ أن نصوص الصفات معلومة المعنى بمقتضى اللسان العربي المبين ومعانيها محكمة. 2 ـ أن كيفية الصفات مجهولة فهي من المشابه. 6 ـ الفائدة من تقرير القاعدة الخامسة: بهذا التقرير الذي تبيّن به أن لا يمكن أن يكون في القرآن شيء لا يعلم معناه إلا الله يتبين بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم آيات الصفات،   1 عقيدة الإمام ابن قتيبة (139) . 2 انظر: طريق الوصول للسعدي (ص8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ويدّعون أن هذا هو مذهب السلف وقد ضلوا فيما ذهبوا إليه، وكذبوا فيما نسبوه إلى السلف، والسلف إنما يفوضون علم الكيفية دون علم المعنى. 7 ـ الأدلة التي ذكرها المؤلف في الدلالة على أن نصوص الصفات معلومة: 1 ـ النصوص الآمرة بتدبير الكتاب كله، لا يمكن التدبر إلا لما يفهم معناه، ومن الآيات الدالة على التدبر ما يلي: أـ قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] . ب ـ قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] . ج ـ قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [صّ: 29] . د ـ وقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] . 2 ـ النصوص الدالة على أن القرآن عربي مما يدل على أن معانيه مفهومة بلغة العرب ومنها: أـ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] . ب ـ {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] . ج ـ {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الشورى: 7] . د ـ {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] . 3 ـ النصوص الدالة على حسن البيان والإيضاح منها: أـ {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاس} [آل عمران: 138] . ب ـ {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] . ج ـ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] . د ـ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 4 ـ النصوص الدالة على ذم من لا يفهم الكتاب مما يدل على أن معانيه مفهومة ومنها: أـ {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] . ب ـ {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] . ج ـ {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78] . د ـ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً} [محمد: 16] . وغير ذلك من الأدلة الدالة على فهم المعنى حتى أوصلها شيخ الإسلام إلى مائة دليل1. 9 ـ آيات الصفات ليست من المتشابه في المعنى: آيات الصفات ليست من المتشابه في المعنى، وإنما كيفية الصفات من المتشابه الذي لا نعلمه، والذي نكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى. فآيات الصفات غير مجهولة معناها كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم والكيف غير معقول" وكذلك يقال في النزول غير مجهول والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، واطرده في جميع الصفات لأن هذه الصفات معروفة عند العرب إلا أن ما وصف به خالق السموات والأرض أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئاً من صفات المخلوقين، كما أن ذات الخالق جل وعلا حق، والمخلوقون لهم ذوات، وذات الخالق جل وعلا أكمل وأنزه وأجل من أن تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين2.   1 نقض التأسيس (2/11) . 2 منهج ودراسات الآيات الأسماء والصفات (ص 38ـ 39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 10. ـ الدليل الذي ذكره المؤلف على أن كيفية نصوص الصفات مجهولة: ذكر المؤلف دليلاً واحداً على أن الصفات مجهولة الكيفية لأن الله استأثر بعلمها وهو قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] ، فالآية تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم حقيقته وكنهه إلا الله ألا وهو كيفية الصفات والأمور الغيبية، وتدل الآية على أن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه الذي يخفى على كثير من الناس على قراءة الوصل. 11 ـ معنى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ... } الآية1: يخبر تعالى عن عظمته، وكمال قيوميته، وأنه هو الذي تفرد بإنزال هذا الكتاب العظيم، الذي لم يوجد ولن يوجد له نظير أو مقارب في هدايته وبلاغته وإعجازه وإصلاحه للخلق، وأن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين، الذي لا يشبه بغيره، ومنه آيات متشابهات، تحتمل بعض المعاني، ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها حتى تضم إلى المحكم فالذين في قلوبهم مرض وزيغ وانحراف لسوء قصدهم، يتبعون المتشابه منه، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة وآرائهم الزائفة، طلباً للفتنة وتحريفاً لكتابه، وتأويلاً له على مشاربهم ومذاهبهم ليَضلوا ويُضلوا، أما أهل العلم الراسخون فيه، الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم، فأثمر لهم العمل والمعارف، فيعلمون أن القرآن كله من عند الله وأنه كله حق، محكمه ومتشابهه، وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف، فلعلمهم أن المحكمات معناها في غاية الصراحة والبيان، يردون إليها المشتبه الذي تحصل فيه الحيرة لنا وناقص العلم وناقص المعرفة.   1 انظر تفسير السعدي (ص1.2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فيردون المتشابه إلى المحكم، فيعود كله محكماً ويقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ} للأمور النافعة والعلوم الصائبة {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} أي أهل العقول الرزينة. ففي هذا دليل على أن هذا من علامة أولي الألباب، وأن اتباع المتشابه من أوصاف أهل الآراء السقيمة، والعقول الواهية والقصود السيئة. وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} إن أريد بالتأويل معرفة عاقبة الأمور، وما تنتهي إليه وتؤول، تعيّن الوقوف على {إِلَّا اللَّهُ} حيث هو تعالى المتفرد بالتأويل بهذا المعنى، وإن أريد بالتأويل: معنى التفسير، ومعرفة معنى الكلام، كان العطف أولى فيكون هذا مدحاً للراسخين في العلم، وأنهم يعلمون كيف ينزلون نصوص الكتاب والسنة محكمها ومتشابهها المقصود أن الآية لا تدل على أن الآية لا تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم معناه إلا الله تعالى إنما تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم حقيقته وكنهه إلا الله على قراءة الوقف، وتدل على أن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه الذي يخفى على كثير من الناس على قراءة الوصل. 12 ـ التأويل عند أهل السنة وأهل اللغة: التأويل لغة: ترجيع الشيء إلى غاية المراد منه من الأول وهو الرجوع. وفي الاصطلاح: رد الكلام إلى الغاية المراد منه، بشرح معناه أو حصول مقتضاه ويطلق التأويل عند أئمة أهل السنة على معنيين: • الأول ـ التفسير: وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به والتأويل بهذا المعنى معلوم لأهل العلم. • الثاني ـ مآل الكلام إلى حقيقته: فإن كان خبراً فتأويله نفس حقيقة المخبر عنه، وذلك في حق الله كنه ذاته وصفاته التي يعلمها غيره، وإن كان طلباً فتأويله امتثال المطلوب، والتأويل بهذا المعنى مجهول حتى يقع فيدرك واقعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 13 ـ التأويل البدعي: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجع إلى المعنى المرجوع لدليل يقتضيه. وهو اصطلاح كثير من المتأخرين، فهل هو حق أم باطل؟ التحقيق: أنه إذا دل عليه دليل صحيح فهو حق محمود يعمل به ويكون من المعنى الأول للتأويل وهو التفسير، وإن لم يدل عليه دليل صحيح كان باطلاً مذموماً وجديراً أن يسمى تحريفاً لا كتأويل استوى باستولى أو ملك فهذا تحريف للكلم عن مواضعه. 14 ـ أول من قال بالتأويل البدعي: أول من قال بالتأويل البدعي هم الجهمية، ثم تسرب إلى كتب الفقه والأصول والقواميس اللغوية المتأخرة، فنجد (ابن منظور) المتوفي سنة (711هـ) يحكي هذا المعنى عن ابن الأثير و (الزبيدي) في (تاج العروس) ، يحكي هذا المعنى عن ابن الكمال وعن ابن الجوزي. وفي كتب علم الكلام المتأخرة نجد أن هذا المعنى مستعمل في معظمها فهو عند الغزالي في (إلجام العوام) وابن رشد في (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال) ولم يذكره أحد من أئمة التفسير وقدماء المفسرين في تفسير لفظ التأويل في القرآن. 15 ـ إجماع علماء السلف على عدم التأويل: أطبق علماء السلف على عدم التأويل البدعي ولم يعرف خلاف بينهم في تركه، قال ابن قدامة: "وأما الإجماع فإن الصحابة أجمعوا على ترك التأويل بما ذكرنا عنهم، وكذلك أهل كل عصر بعدهم ولم ينقل التأويل إلا عن مبتدع أو منسوب إلى بدعة"، ولهذا لم يستطع بشر المريسي حامل لواء التجهم في وقته أن ينسب شيئاً من ذلك إلى السلف حين قال الشافعي: "أخبرني عما تدعوا إليه.. أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمة ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال عنه؟ " فقال بشر: لا إلا أنه لا يسعنا خلافه. فقال الشافعي: أقررت بنفسك على الخطأ، فأين أنت من الفقه والأخبار؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فلما خرج قال الشافعي: لا يفلح"1. المقصود أن صرف الآية أو الحديث عن ظاهر مدلوله بلا برهان من الله هو التعطيل بعينه، وهو مبني على إلغاء النص والبعد به عن فهم السلف الصالح. 16ـ التأويل الكلامي أصل كل بدعة ظهرت في المسلمين: إن الفرقة الواقعة في الأمة قديماً وحديثاً كلها إذا أمعنت النظر وجدت أنها راجعة إلى التأويل الفاسد، إذ اتخذت الفرق التأويل البدعي متكأ لتبرير الأصول التي أصلوها واعتقدوها، واخترعوا لأجل ذلك قوانين عقلية وأصولاً كلامية جعلوها الحكم في فهم الدين والفيصل في معرفة الحق من الباطل، فمتى ظهرت مسألة رجعوا إلى معقولاتهم وخواطرهم وآرائهم فطلبوا الدين من قبلها، فإذا سمعوا شيئاً من الكتاب والسنة عرضوه على معيارهم، فإن استقام قبلوه وإلا حرفوه بالتأويلات البعيدة والمعاني المستكرهة فحادوا عن الحق وزاغوا عنه2. 17- التأويل الكلامي يناقض الإيمان بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم: إن حقيقة الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر، وأهل التأويل البدعي لم يسلموا له في شيء من ذلك بل تدخلوا بعقولهم وآرائهم فحرفوا النصوص عن مدلولاتها الحقيقية يقول ابن القيم: "ومن أعظم آفات التأويل وجناياته أنه إذا سلط على أصول الإيمان والإسلام اجتثها وقلعها..وذلك أن معقد هذه الأصول تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر وطاعته فيما أمر فعمدوا إلى أجل الأخبار وهو ما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته ونعوت كماله فأخرجوه عن حقيقته وما وضع له"3.   1 صون المنطق، (ص3.) . 2 الحجة في بيان المحجة للتيمي (2/224) . 3 الصواعق المرسلة (1/365) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 18- الأدلة على بطلان مذهب التأويل البدعي: الأدلة على بطلان مذهب التأويل البدعي كثيرة نورد بعضاً منها: 1 ـ إن ما أثبته السلف رضوان الله عليهم من مسائل العقيدة هو من عند الله والكتاب والسنة قد دلا عليه. أما المتأوّلة فلا يملك أحدهم أن يدعي ما نفاه من دلالة النصوص، أو ما أوَّله عليها من المعاني البعيدة، لا يستطيع أن يقول هذا من عند الله جازماً ذللك. 2 ـ القول بمذهب التأويل يلزم منه أن يكون الصحابة والسلف بين أمرين، كليهما باطل: إما أن الصحابة لم يفهموا الحق في ذلك وأن ظواهر هذه النصوص باطلة، أو أنهم علموا الحق وفهموه ولكنهم كتموه ولم يقوموا بواجب النصح للمسلمين وكلا الأمرين باطل، لا يصح ولا يستقيم في حق الصحابة وسلف الأئمة. 3 ـ حالة المتأولة هذه تجعلهم يخضعون النصوص إلى معطيات العقل والحس، فخرجوا عن حد الاتصاف بالإيمان بالغيب. 4 ـ المتأولة يردون النصوص إلى اعتقاداتهم وأصولهم الباطلة وإن كانت واضحة في الحجة والإثبات 5 ـ التأويل من أسباب تفرق الأمة وتمزقها والاختلاف في أصول الدين وجعل بعضهم يلعن بعضاً، وبعضهم يكفر، وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين، وتستحل منهم الأنفس والأموال والأعراض. 19- المراد بالمحكم والمتشابه في القرآن: 1- الإحكام الذي وصف به جميع القرآن هو الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى. 2- الإحكام الذي وصف به بعض القرآن هو الوضوح والظهور وهو كثير في الأخبار والتشابه الذي وصف به بعض القرآن فهو الاشتباه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 أي خفاء المعنى بحيث يشتبه على بعض الناس دون غيرهم فيعلمه الراسخون دون غيرهم. 2 ـ موقف المسلم من وصف القرآن جميعه بالإحكام ووصفه بالتشابه، مع بيان ذلك بمثال: إن وصف القرآن جميعه بالإحكام ووصفه جميعه بالتشابه لا يتعارضان، والجمع بينهما أن الكلام المحكم المتقن يشبه بعضه بعضاً في الكمال والصدق فلا يتناقض في أحكامه ولا يتكاذب في أخباره. 21- نصوص الصفات على الحقيقة لا تأويل فيها ولا مجاز: صفات الله الواردة في الكتاب والسنة هي على الحقيقة كما يليق بالله، فإثبات الحقيقة ونفي المجاز في صفات الله هو اعتقاد كل مسلم طاهر القلب من أقذار التشبيه، لأنه لا يسبق إلى ذهنه من اللفظ الدال على الصفة كصفة اليد والوجه إلا أنها صفة الكمال، منزهة عن مشابهة صفات الخلق، فلا يخطر في ذهنه التشبيه الذي هو سبب نفي الصفة وتأويلها بمعنى لا أصل له1. لذا قال الحافظ ابن عبد البر: "وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك لا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة"2. 22- نقض دعوى المعطلة من أن تأويل الصفات مجمع عليه: يدعي المعطلة أن التأويل مجمع عليه، قال المقري في إضاءته: فاصرفه عن ظاهره إجماعاً واقطع عن الممتنع الأطماعا3 قلت: هذا كذب.   1 أضواء البيان (7/463) . 2 التمهيد (7/145) . 3 إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة (ص148) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وقد كذَّب حكاية الإجماع على التأويل بعض أهل العلم، قال الشنقيطي معقباً على دعواهم الإجماع: "مفقود أصلاً، ولا وجود له البتة، لأنه مبني على شرط مفقود لا وجود له البتة، فالإجماع المعدوم المزعوم لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله، ولم يقله أحد من أصحاب رسول الله ولا من تابعيهم، ولا أحد من الأئمة الأربعة، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين، وإنما لم يقولوا بذلك، لأنهم يعلمون أن ظواهر نصوص الوحي لا تدل إلا على تنزيه الله عن مشابهة خلقه، وهذا الظاهر الذي هو تنزيه الله لا داعي لصرفها عنه كما ترى"1. أما وصف القرآن بأن بعضه محكم وبعضه متشابه فلا تعارض بينهما أصلاً؛ لأن كل وصفه وارد على محل لم يرد عليه الآخر، فبعض القرآن محكم ظاهر المعنى، وبعضه متشابه في المعنى، وقد انقسم الناس في ذلك إلى قسمين:. • فالراسخون: في العلم يقولون آمنا به كل من عندنا ربنا، ويردون المتشابه إلى المحكم. • وأما أهل الضلال: فاتبعوا المتشابه وجعلوه مثاراً للشك فضلوا وأضلوا. مثال ذلك: قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} [يس: 12] ، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ونحوها مما أضاف الله الشيء إلى نفسه بصفة الجمع، فاتبع النصراني هذا المتشابه وادعى تعدد الآلهة، وقال: إن الله ثالث ثلاثة، وترك المحكم الدال على أن الله واحد. أما الراسخون في العلم فيحملون الجمع على التعظيم لتعدد صفات الله وعظمها، يردون هذا المتشابه إلى المحكم في قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 163] ويقولون للنصراني: إن الدعوى التي ادعيت بها وقعت لك من الاشتباه قد كفرك الله بها وكذلك فيها فاستمع إلى   1 أضواء البيان (7/451،452) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73] . 23- الحكمة من كون بعض القرآن متشابهاً: الحكمة من ذلك ابتلاء العباد واختبارهم ليتبين الصادق في إيمانه الراسخ في عمله من الشاك الجاهل الزائغ الذي يتبع ما تشابه منه، ليضرب كتاب الله بعضه ببعض فيضل ويضل. 24- أقسام التشابه الواقع في القرآن: ينقسم التشابه الواقع في القرآن إلى قسمين: 1ـ حقيقي، 2ـ نسبي. • أما الحقيقي فهو: وهو لا يعلمه إلا الله مثل ما أخبر عن نفسه وعن اليوم الأخر، وهذا النوع الذي لا يعلمه إلا الله لا يسأل عنه لتعذر الوصول إليه. • أما التشابه النسبي فهو: وهو ما يكون متشابهاً على بعض الناس دون بعض، فيعلم منه الراسخون في العلم ما يخفى على غيرهم، إما لنقصٍ في علمهم أو قصور في فهمهم أو سوء في قصدهم. 25- حقيقة أهل التفويض ووجه الغلط عندهم: حقيقة مذهب المفوضة: يزعمون أن نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله وهم في الظاهر طائفتان: • الطائفة الأولى: تقول إن هذا الظاهر غير مراد ولا يعلمه أحد من الخلق. • الطائفة الثانية: تقول إنها تجرى على ظاهرها وتأويلها باطل، ومع ذلك لا يعلمه إلا الله1. والتفويض متفق مع التأويل في كونه يفضي إلى التعطيل، ومع ذلك فالمفوضة ينسبون مذهبهم إلى السلف، ومن هنا اشتهرت عبارتهم. مذهب   1 انظر درء التعارض (1/15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 السلف التفويض ومذهب الخلف التأويل1، ومذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم، وهذه المقالة باطلة في نفسها فإن الأسلم هو الأحكم والحكمة تبتغي السلامة. جهة الغلط عندهم من وجهين: 1 ـ أنهم جعلوا نصوص الصفات من قبيل المتشابه دون تفصيل لمعنى التشابه المقصود فيها. 2 ـ عدم معرفتهم لإطلاقات التأويل، فإنهم قالوا: إنها متشابه والمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، والتأويل الذي استأثر الله بعلمه إنما هو الحقيقة والكيفية، والتأويل الباطل إنما هو تأويل أهل التحريف، وهو صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل بل مجرد التوهمات الباطلة التي تمجُّها العقول الصحيحة، وهم في تأويلاتهم تلك يفرون من محاذير بزعمهم فيقعون في نظيرها كما سبق. 26 ـ تفويض معنى الصفات ليس مذهباً للسلف: السلف يثبتون المعنى اللائق بجلال الله، أما ما يظهر من نصوص الكتاب والسنة المعلومة بلغة العرب التي نزل بها القرآن وخاطبهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي معلومة عندهم، وأما الكيف فيفوضونه، والدليل على ذلك ما يأتي: أـ أن الآيات القرآنية: التي تضمنت هذه الصفات الكريمة لله تعالى من الاستواء والمجيء، والرضا والغضب والمحبة، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة عن هذه الصفات لله عز وجل تدل على أن المقصود منها الإثبات لا غير. ب ـ أن الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين: ومن جاء بعدهم من علماء السلف، تدل على أن مذهبهم إنما هو إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى.   1 انظر مناهل العرفان (2/197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ج ـ كثير ممن صنف في العقائد ومن المتقدمين بين أن مذهب السلف هو إثبات المعنى وإنما التفويض في الكيف. د ـ إن الذين صنفوا في العقيدة من المتقدمين قد ذكروا الأحاديث التي تتعلق بالصفات ضمن أبواب رسائلهم، حتى إن ابن خزيمة أطلق على كتابه في ذلك اسم "كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب"، باب إثبات وجه الله، وباب في إثبات العين لله، وباب في ذكر استواء خالقنا الأعلى، باب في صفة تكلم الله بالوحي، وهكذا فعل كثير ممن صنف في العقيدة السلفية، مثل الدارمي والإمام أحمد وابن أبي عاصم، واللالكائي والآجري والبيهقي وأبي الحسن الأشعري وابن بطة وغيرهم. هـ ـ تبويب المحدثين لأحاديث الصفات في كتبهم دليل قاطع أيضاً على أن مذهب السلف هو إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، أو وصفه رسوله مثل تبويب البخاري في باب قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ] القصص: 88 [، وباب قول الله عز وجل: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] . 27 ـ لوازم مذهب التفويض: يلزم على القول بمذهب التفويض لوازم باطلة هي: 1 ـ القدح في حكمة الرب عز وجل حيث أنزل كلاماً لا يتمكن الناس من فهمه ومعرفة معناه. 2 ـ الوقوع في التعطيل. 3 ـ غلق باب التدبر لكتاب الله تعالى وهو مخالف لقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} ] الؤمنين: 68 [. 4 ـ مصادمة النصوص الدالة على الإثبات وقد تقدم ذكرها. 5 ـ تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين. قال ابن مسعود: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 يعرف معانيهن والعمل بهن"1. فهذا سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين. 28 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (فهي متفقة متواطئة من حيث الذات متباينة من جهة الصفات) . أقول: معناه: أن أسماء الله تعالى: نحو الرحمن الرب الغفور القهار العليم السميع البصير. أسماء لها جهتان: • الجهة الأولى: أنها متفقة في الدلالة على ذات الله تعالى، فهي بهذا الاعتبار متواطئة أي مترادفة ومتفقة في الدلالة. فكلها أسماء لمسمى واحد وهو الله تعالى وكلها تطلق على الله تعالى على حد سواء، فهي متواطئة في الدلالة على الله سبحانه. • الجهة الثانية: وهي جهة دلالتها على معانيها الدالة على صفات الله تعالى، فهي بهذا الاعتبار متباينة. فإن الرحمن يدل على صفة الرحمة، والعليم يدل على صفة العلم، ولا شك أن صفة الرحمة غير صفة العلم. فأسماء الله تعالى باعتبار دلالتها على ذات الله تعالى متفقة ومتواطئة، وباعتبار دلالتها على الصفات متباينة ومختلفة. 29 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها ... ) إلى قوله: (وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان وهذا كله نوع من الاشتباه) . أقول: يقصد شيخ الإسلام: أن كثيراً ممن يدعي التوحيد والتحقيق والعرفان والعلم قد وصلوا بضلالهم إلى حد اشتبه عليهم وجود الخالق تعالى بوجود المخلوق، فظنوا أن وجود الخلق بعينه وجود الخالق، ومنشأ   1 جامع البيان (1/35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 هذا الظن الفاسد: أن الموجودات كلها تشترك في مسمى الوجود بالمعنى العام. فالله أيضاً موجود والكون أيضاً موجود واسم الموجود يشمل الخالق والمخلوق، فظنوا أن وجود الخالق بعينه هو وجود المخلوق، ولم يفرقوا بين وجود الواحد بالعين وبين وجود المخلوق، ولم يفرقوا بين وجود الواحد بالعين وبين وجود الواحد بالنوع. أي هؤلاء لم يعرفوا الفرق بين حكم النوع وبين حكم أفراده، مع أن حكم النوع يختلف عن حكم أفراده فحكم النوع عموم من حيث العموم، وحكم الفرد خصوص من حيث الخصوص، إذ من المعلوم أن حكم الإنسان العام الكلي غير حكم زيد وعمرو وبكر وخالد. إذ لا شك أن الموجودات تشترك في الوجود عاماً، ولكن إذا نظرت إلى أفراد تلك الموجودات يختلف وجود كل فرد. وبهذا الاعتبار يختلف وجود الله تعالى عن وجود المخلوقات. فالمراد بالواحد بالعين ـ هو الفرد من أفراد الكلي نحو زيد، والمراد بالواحد بالنوع هو الأمر الكلي العام نحو الإنسان، والحيوان والموجودات. ثم بين شيخ الإسلام ضلال أشخاص آخرين1وهم الذين ظنوا: أن لفظ "الوجود" من قبيل المشترك اللفظي يشترك فيه وجود الخالق ووجود المخلوق على حد سواء. فزعموا أن الموجودات كلها تشترك في مسمى الوجود بالاشتراك اللفظي، وزعموا أن هذا يستلزم التشبيه والتركيب فخالف هؤلاء إجماع العقلاء في قولهم: إن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث مع أن القديم والمحدث ليسا سواء في الوجود البتة وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم أن يكون في الخارج موجود مشترك فيه،   1 وهم بعض المتكلمين، ومنهم الآمدي انظر: "الإحكام في أصول الأحكام" له 1/20 ـ 21 وقد رد عليه شيخ الإسلام في رسالة (الحقيقة والمجاز) (ص/49 ـ 56) وضمن مجموع الفتاوى (20/441 ـ 449) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 فزعموا أنه توجد في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة عامة نحو وجود مطلق وحيوان مطلق وإنسان مطلق، فخالف هؤلاء الحس والعقل والشرع جميعاً لأن العقلاء متفقون على أن الأمور العامة والكليات المطلقة أمور ذهنية وجودها ذهني ولا يوجد في الخارج البتة، وإنما توجد في الخارج أفراد تلك الأمور العامة، فالأمور العامة لا توجد إلا في الذهن ولكن الأفراد بالخصوص توجد في الخارج. 30 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (ولهذا تبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة) . أقول: هذا المبحث المتعلق بالمبحث السابق الذي كان سبباً لضلال كثير من الناس فالحاصل: أن شيخ الإسلام يقول: إن الألفاظ نوعان: نوع: ألفاظ متواطئة وهي كليات عامة تصدق وتطلق على أفراد على سبيل الموافقة والمواطأة على حد سواء. كالإنسان الكلي العام، فإن الإنسان يطلق على زيد وعمر وبكر على سبيل المواطأة والموافقة على حد سواء. ونوع ألفاظ مشتركة نحو لفظ "العين"، فلفظ "العين" يطلق على عين الشمس وعلى عين الركبة وعلى الذهب وعلى عين الرأس وعلى الماء النابع من الأرض وعلى ذات الشيء. ولكن لا على سبيل المواطأة والموافقة، بل على سبيل الاشتراك والمبادلة. لأن عين الشمس وعين الرأس وعين الركبة والذهب وذات الشيء والماء النابع من الأرض ليست من أفراد لفظ "العين". وإنما العرب قد وضعوا لفظ "العين" لكل هذه المعاني على سبيل الاستقلال والبدلية والاشتراك. 31 ـ الأسئلة والأجوبة الواردة على القاعدة الخامسة: س1 ـ اشرح مضمون القاعدة الخامسة؟ وما المقصود بها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ج ـ القاعدة هي: أنا نعلم ما أخبر الله به من وجه دون وجه. ومضمونها هو أننا: نعلم ما أخبرنا الله ورسوله به من الغيبيات من وجه وهو المعنى ونجهلها من وجه آخر وهو الحقيقة والكيفية. * والمقصود بها إثبات صفات الله تعالى من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل. س2 ـ على من يرد بهذه القاعدة؟ ج ـ يرد بها على المفوضة القائلين بعدم العلم بالمعاني مطلقاً، وتتضمن أيضاً الرد على المشبهة في دعواهم العلم بالكيفية وكذلك المعطلة لأنهم عطلوا الصفات فراراً من التشبيه، فيبين لهم أننا نثبت الصفات دون تكييف. س3 ـ اذكر الأدلة المؤيدة لهذه القاعدة؟ ج ـ من الأدلة المؤيدة لهذه القاعدة باختصار ما يلي: • أولاً ـ أدلة علمنا بمعاني الآيات: 1 ـ النصوص الآمرة بتدبر الكتاب كله، ولا يمكن التدبر إلا لما يفهم معناه، ومن الآيات الدالة على التدبر ما يلي: أـ قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل} ] المؤمنون: 68 [. ب ـ وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ] محمد: 24 [. 2 ـ النصوص الدالة على أن القرآن عربي مما يدل على أن معانيه مفهومة بلغة العرب ومنها ما يلي: أـ قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2 [، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} ] الشورى: 7 [. 3 ـ النصوص الدالة على حسن البيان أو الإيضاح ومنها ما يلي: أـ قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138 [، وقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} ] المائدة: 15 [. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 4 ـ النصوص الدالة على ذم من لا يفهم الكتاب مما يدل على أن معانيه مفهومة ومنها ما يلي: أـ قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ] البقرة: 78 [، أي لا يعلمون إلا التلاوة واللفظ. ب ـ وقوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ] النساء: 78 [. • ثانياً ـ الدلالة على جهلنا بالوجه الآخر وهو الحقيقة الكيفية بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ] آل عمران: 7 [. س4 ـ اذكر الخلاف في المتشابه والمحكم؟ ج ـ اختلف في ذلك على خمسة أقوال وهي كما يلي: 1 ـ قيل: المحكم من استقل بنفسه وظهر معناه، والمتشابه ما احتاج إلى بيان فيدخل فيه المجمل وغيره. وهو قول مجاهد واختيار الإمام أحمد والشافعي. 2 ـ وقيل: المحكم هو المعمول به، والمتشابه هو المنسوخ. وهو قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. 3 ـ وقيل: المحكم هو ما فهمه العلماء، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كالغيبيات والحروف المقطعة. وهو قول جابر والثوري ورجحه ابن جرير والقرطبي. 4 ـ وقيل: المحكم ما أحكمه الله وفصله كالمواريث والقصص وغيرها، والمتشابه ما اشتبهت الألفاظ فيه. 5 ـ وقيل: الإحكام والتشابه أمران نسبيان من حيث المعنى يفهم بحسب تفاوت أفهام الناس. وهو اختيار شيخ الإسلام. * ومن الأدلة على هذا القول ـ الأخير ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الحلال بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس". رواه البخاري ومسلم (ح رقم 2051) . * مناقشة هذه الأقوال يطول، والذي تجتمع عليه الأدلة والأقوال هو القول الأخير والله أعلم. س5 ـ اذكر معاني التأويل، مع التمثيل لكل نوع؟ • الأول: التفسير والبيان والإيضاح: وهو الذي عناه المفسرون ومثاله قول ابن جرير حيث يقول: "واختلف علماء التأويل" يقصد علماء التفسير. • الثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام. ومثاله قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف: 1..] . فجعل تأويل الرؤيا هو تحققها في الخارج. • الثالث: "هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. مثاله قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} [التوبة: 67] ، وقوله: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34] ، وغيرها من الآيات التي ورد فيها نسبة النسيان إلى الله تعالى، فقد ثبت عن ابن عباس وغيره أن النسيان: هو الترك، وقد دل الدليل على هذا التأويل تصريحاً كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] . وقوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52] ، فلذلك جاز حمل الآية على ذلك المعنى. س6 ـ ما هي شروط التأويل الصحيح؟ ومثِّل له بمثال قد توفرت فيه الشروط؟ ج ـ شروط التأويل الصحيح هي أربعة: 1 ـ أن يكون اللفظ المراد تأويله يحتمل المعنى المؤول لغة وشرعاً. 2 ـ أن يكون السياق محتملاً للتأويل، فمثلاً لفظ النظر قد يحتمل معان في اللغة، ولكنه إذا جاء معدّى بإلى فلا يحتمل إلا الرؤية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 3 ـ أن يقوم الدليل على أن المراد هو المعنى المؤول. 4 ـ أن يسلم دليل التأويل من معرض أقوى منه، وكل ما اختل فيه شرط من هذه الشروط فهو تأويل فاسد. * ومثال التأويل الصحيح الذي توفرت فيه الشروط قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ، فقد ثبت عن ابن عباس وغيره أن النسيان هنا هو الترك بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] . س7 ـ ما فائدة الاتفاق بين معاني الغائب مع معاني الشاهد؟ ج ـ فائدة هذا الاتفاق هي: فهم الخطاب، ثم بعد فهم للخطاب، يدل الخطاب على الفارق المميز بين المعنيين، فمثلاً أخبرنا الله تعالى عما في الجنة من أنواع النعيم ثم بيّن الفارق بينهما كما في قوله {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، وقال في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين في الجنة: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" رواه البخاري برقم (4779، 478.) ومسلم رقم (2824) . فهذا المعنى المشترك مفهوم لدينا في الدنيا وأما حقيقة ما أخبر به في الآخرة فهو من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. س8 ـ هل أسماء الله محصورة بعدد معين أم لا؟ ج ـ أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين وهو قول الجمهور، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسالك بكل اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك.." رواه أحمد وغيره وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (1/383/رقم 199) . * فجعل أسماء الله تعالى ثلاثة أقسام: 1 ـ قسم استأثر به في علم الغيب عنده. 2 ـ قسم أنزله الله في كتابه. 3 ـ قسم علمه أحداً من خلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 س9 ـ هل أسماء الله مترادفة أم متباينة؟ ج ـ مذهب أهل السنة والجماعة التفصيل فيقولون: هي مترادفة أو متفقة أو متواطئة. في دلالتها على الذات، متباينة من جهة دلالتها على الصفات. * ومذهب المعتزلة أنها مترادفة مطلقاً فهي لا تتنوع معانيها بناء على نفيهم للصفات. وهذا مثل أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: "محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب" الثابتة في الصحيحين. فإنها تتنوع في الصفات: فالماحي: الذي يمحو الشرك. والحاشر الذي يحشر الناس على قدمه. والعاقب: هو الذي لا نبي بعده. ولكنها متفقة في دلالتها على النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا. س1. ـ عرف كلاًّ من المحكم العام والخاص، والمشابه الخاص والعام؟ ج ـ المحكم العام في القرآن: بمعنى الإتقان. أي متقن جيد في لفظه ومعناه. والمحكم الخاص: هو ضد التشابه الخاص. لذلك ذكر الله تعالى أن بعض القرآن متشابه وبعضه محكم قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] . والإحكام العام: لا ينافي التشابه العام، فإنه كلما كان الكلام متقناً كان مصدقاً بعضه لبعض ومتناسباً فلذلك وصف القرآن بأنه محكم كله، وكله متشابه لأن المعنيين متوافقان بل ومتلازمان. والتشابه العام: هو بمعنى التناسب والتماثل في الصحة والفصاحة. والتشابه الخاص: هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر بحيث يشتبه على بعض الناس. س11 ـ اذكر أمثلة لطوائف ضلت من جهة المتشابه؟ ج ـ الطائفة الأولى: أهل وحدة الوجود: وهي طائفة ادعت التحقيق والتوحيد والمعرفة لله تعالى، وهم أهل الإلحاد القائلون بوحدة الوجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الطائفة الثانية: الجهمية والمعتزلة وبعض الفلاسفة توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم التشبيه والتركيب. الطائفة الثالثة: طائفة من الفلاسفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك كلي أي مطلق عن التقييد فقالوا: بالوجود المطلق. س12 ـ اذكر مذهب أهل وحدة الوجود وأمثلة لأقوالهم؟ ج ـ مذهبهم: اعتقاد اتحاد وجود الخالق بالمخلوق حيث زعموا كون الشيئين شيئاً واحداً، أي أن يكون وجود الكائنات هو عين وجود الله. * وسبب ضلال هذه الطائفة أمران: 1 ـ أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود فرأوا الوجود واحداً. 2 ـ أنهم لم يفرقوا بين الواحد بالعين. وهو الواحد المعين في الخارج الذي يمنع وجوده الشركة فيه فهو غير قابل للتنوع. والواحد بالنوع وهو الكلي الذهني الذي تشترك فيه الأفراد ويقبل التنوع، فإذا وجد في الخارج كان مختصاً به. * ومذهبهم هذا مذهب باطل متناقض مخالف لمذهب السلف. ومن أمثلة أقوالهم ما يلي: 1 ـ قال ابن عربي الصوفي الملحد: فالإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا يسعها فافهم. وقال: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف 2 ـ ابن سبعين ومن أقواله الشنيعة: "من سمى نفسه الله قال لك: إن كل شيء وجميع من تنادي أنا". 3 ـ ابن الفارض ومن أقواله عند ما يخاطب إلهه: كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل مسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 س13 ـ عرف ما يلي: الحلول، والاتحاد، وحدة الوجود، مع بيان أنواعها؟ ج ـ الحلول: قسمان عام وخاص: أـ فالحلول العام: هو اعتقاد أن الله تعالى في كل شيء، وهو اعتقاد الجهمية الأولى القائلين بأن الله في كل مكان. تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. ب ـ والحلول الخاص: هو اعتقاد أن الله تعالى حلّ في بعض مخلوقاته مع إثبات خالق ومخلوق كاعتقاد النصارى بأن اللاهوت حل في الناسوت، وكاعتقاد طوائف من الصوفية أن الله يحل في بعض مشايخهم. الاتحاد: قسمان عام وخاص: أـ الاتحاد العام: هو اعتقاد اتحاد وجود الخالق بالمخلوق. ب ـ الاتحاد الخاص: هو اعتقاد أن الله تعالى اتحد ببعض مخلوقاته كاعتقاد بعض طوائف النصارى أن اللاهوت اتحد في الناسوت فصار شيئاً واحداً. وحدة الوجود: هو كون الشيئين شيئاً واحد، أي أن يكون وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى. وهو اعتقاد اتحاد وجود الخالق بالمخلوق. س14 ـ ما الفرق بين المشترك الكلي، والمشترك اللفظي؟ ج ـ هناك فرق بين المشترك اللفظي والمشترك الكلي: فالمشترك اللفظي: هو اتحاد اللفظ وتعدد المعنى كلفظ (العين) يدل على الجارية والباصرة والذهب، ولفظ (القرء) يدل على الحيض والطهر. والمشترك الكلي: هو الذي يشترك فيه أفراد كثيرون كجميع الألفاظ العامة في الذهن. س15 ـ ما أسباب ذم السلف لتأويلات الجهمية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ج ـ سبب ذمهم للجهمية لأنهم تأولوا النصوص على غير تأويلها الصحيح أي حرفوا الكلم عن مواضعه، فالسلف لم يذموهم أو يردوا عليهم لمطلق التأويل فإن التأويل قد يكون من باب التفسير والبيان. ولكن حقيقة ما يفعله هؤلاء المبتدعة هو عين التحريف وإنما سموه تأويلاً ليقبل. س16 ـ اذكر أسماء لبعض كتب السلف في الرد على الجهمية؟ ج ـ من كتب السلف في الرد على الجهمية ما يلي: 1 ـ كتاب: (الرد على الجهمية) للإمام الدارمي. 2 ـ كتاب: (الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة) للإمام ابن قتيبة. 3 ـ كتاب: (خلق أفعال العباد) للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. 4 ـ كتاب: (الرد على الجهمية) للإمام ابن منده. 5 ـ كتاب: (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع) للإمام الملطي. 6 ـ كتاب: (التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل) للإمام ابن خزيمة. 7 ـ كتاب: (الرد على من أنكر الحرف والصوت) للإمام السجزي وغيرهم كثير. س17 ـ اذكر حقيقة مذهب أهل التفويض، وجهة الغلط عندهم، وشيئاً من تناقضهم وخلاصة إلزامهم؟ ج ـ حقيقة مذهبهم: أن نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله وهم في الظاهر طائفتان: • الطائفة الأولى: تقول: إن هذا الظاهر غير مراد ولا يعلمه أحد من الخلق. • الطائفة الثانية: تقول إنها تجرى على ظاهرها وتأويلها باطل، ومع ذلك لا يعلمه إلا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 * وجهة الغلط عندهم من وجهين: 1 ـ أنهم جعلوا نصوص الصفات من قبيل المتشابه دون تفصيل لمعنى التشابه المقصود فيها. 2 ـ عدم معرفتهم لإطلاقات التأويل، فإنهم قالوا: إنها متشابه لا يعلم تأويله إلا الله، والتأويل الذي استأثر الله بعلمه إنما هو الحقيقة والكيفية، والتأويل الباطل إنما هو تأويل أهل التحريف وهو صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، بل بمجرد التوهمات الباطلة التي تمجها العقول الفاضلة وهم في تأويلاتهم تلك يفرون من محاذير بزعمهم فيقعون في نظيرها أو أقبح منها. * ويظهر تناقضهم من وجوه: 1 ـ أنهم ينسبون مذهبهم إلى السلف فلذلك قالوا: "مذهب السلف التفويض، ومذهب الخلف التأويل"، وقالوا: "ومذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم". وهذه المقولة باطلة في نفسها وناقضة لما قبلها فإن الأسلم هو الأحكم والحكمة تقتضي السلامة. 2 ـ أن الآية في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] أثبتت تأويلاً يعلمه الله وهم يقولون التأويل باطل فيحتجون بالآية التي أثبتت التأويل على بطلان التأويل مطلقاً. 3 ـ قولهم: تجرى على ظاهرها، يعني أن الظاهر مراد. وقولهم: إن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله، يعني أن الظاهر غير مراد. وهذا تناقض. 4 ـ إن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ غير المعنى كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضاً، لأن إثبات التأويل أو نفيه فرع عن فهم المعنى. * وخلاصة إلزامهم: أنه لا يجوز له أن يقول: إن هذا اللفظ بعينه ظاهرُه غير مراد أو لا يعلم تأويله إلا الله لعدم الدليل المعين عليه ولعدم دلالة اللفظ على قوله هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 س18ـ هل يعلم ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر مجاملا أم فيه تفصيل؟ أوضح ذلك مع الدليل والتوجيه؟ ج ـ نعلم ما أخبر الله به من وجه فنعلمه من جهة المعنى ونجعله من جهة الكيفية قال تعالى: {أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أمْ عَلَى قُلُوبٍ أقْفَالُهَا} [محمد: 24 [، ووجه الدلالة أنه حث على تدبر القرآن وتعقل معناه لأن ذلك ممكن. س19ـ قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ] آل عمران: 7 [. اختلف العلماء حول موضوع الوقوف في هذه الآية وضح ذلك؟ وما الذي يترتب عليه وهل يوجد تعارض بين هذه الأقوال وبين أقسام التأويل؟ ج ـ القول الأول: أن الوقوف يكون على لفظ الجلالة يعني على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} . فتكون الواو حينئذ للاستئناف في قوله {وَالرَّاسِخُونَ} ويكون الخبر جملة {يَقُولُونَ} وهذا مذهب الجمهور مستدلين بقراءة ابن عباس رضي الله عنه {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ، ولأن الآية ذمت مبتغي المتشابه. ووصفتهم بالزيغ وابتغاء الفتنة وتكون دليلاً على مالا نعلم والمتشابه غير المحكم. القول الثاني: أن الوقف على قوله {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فتكون الواو عاطفة. قال به طائفة على رأسهم مجاهد مستدلين بأن الله مدح العلماء بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون بذلك وهذا دليل على علمه بالمتشابه. ولا تعارض بين القولين لأن التأويل له ثلاثة معان: • أولاً: إن التأويل هو حقيقة الشيء وما يؤول إليه الكلام وهذا جائز فإن أريد بالتأويل في الآية هذا المعنى فالوقف على لفظ الجلالة، لأن حقائق الأمور وما تؤول إليه لا يعلمها إلا الله. • ثانياً: أن التأويل بمعنى التفسير والبيان، وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه، وهذا من اصطلاح المفسرين، فمعنى قول مجاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أن العالم يعلم تأويل المتشابه فالمراد معرفة تفسيره. • ثالثاً: أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا الاصطلاح كثير عند المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله وقد تسرب إلى القواميس اللغوية المتأخرة وهذا باطل. س20 ـ لماذا يُعَدُّ الفقهاءُ أعلم بالتأويل من أهل اللغة؟ وما معنى تأويل الأمر والنهي؟ وما الفرق بين التأويلين؟ ج ـ الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة لأنهم يعلمون ماأمر به ونهى عنه لعلمهم بمقاصد الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأويل الخبر نفس وقوع المخبر به وتأويل الفعل نفس المأمور به، وهما من النوع الأول من أنواع التأويل. * والفرق بين تأويل الأمر والنهي وتأويل الخبر: أن تأويل الأمر والنهي لابد من معرفته لامتثال المأمور به وترك المحذور، أما تأويل الخبر فيكفي مجرد الإيمان به، فإن ظهر معناه فهو من تعلم الله به وإن لم يظهر ذلك أو كل علمه إلى عالمه. س21 ـ بين معاني المفردات الآتية مع التمثيل: الترادف ـ الاشتراك اللفظي ـ التواطؤ ـ التباين؟ وهل دلالة أسماء الله على ذاته من قبيل المترادف أم من قبيل المتواطئ؟ ج ـ الترادف: اختلاف اللفظ واتحاد المعنى. كالأسد والليث والهزبر كلها دالة على مسمى واحد. الاشتراك اللفظي: اتحاد اللفظ واختلاف المعنى كالعين تستعمل للعين الجارية وللجاسوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 التواطؤ: اتفاق اللفظ والمعنى ـ نور الشمس ونور القمر. التباين: اختلاف اللفظ والمعنى مثل السماء والأرض. س22 ـ وصف الله القرآن كله بأنه محكم ووصفه بأنه متشابه. اذكر دليلاً لذلك ووضح التشابه والإحكام وبين هل هناك تعارض؟ ج ـ وصف القرآن بأنه متشابه فقال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ آحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] ، ووصفه بأنه محكم حين قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] وقال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 11] ، ومعنى أنه محكم أي أنه كلام متقن فصيح يميز بين الحق والباطل من أوامره، وبين الصدق والكذب من أخباره وهذا هو الإحكام العام. ومعنى كونه متشابهاً، أي يشبه بعضه بعضاً في الكمال والجودة ويصدق بعضه بعضاً، وهذا هو التشابه العام وليس في ذلك تعارض بل المراد بإحكامه أنه متقن يصدق بعضه بعضاً ولا ينافي بعضه بعضاً فيكون متشابهاً أي يشبه بعضه بعضاً في الصدق والإعجاز. س23ـ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي آنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] ، ما المراد بالإحكام والتشابه هنا؟ مع تعريف التشابه والإحكام الخاص، وما منشأ التشابه وهل هو متشابه على كل الناس أم ماذا؟ ج ـ المراد بالإحكام والتشابه في هذه الآية هو الإحكام والتشابه الخاصان، والمتشابه الخاص هو خفاء المعنى وغموضه وهو مشابهته لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو وليس كذلك، ومنشؤه وجود قدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما الذي قد يهتدى إليه وقد لا يهتدى إليه. والإحكام الخاص: ظهور المعنى ووضوحه وهو الفاصل بين الشيئين مع وجود الفاصل بين الشيئين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. ويعتبر التشابه تشابهاً على بعض الناس وهم الذين لا يهتدون إلى التمييز بين الأمور المتشابهة مع أنه في حد ذاته ليس متشابهاً ومثله اشتباه موجودات الآخرة في الجنة بموجودات الدنيا. س24 ـ بين المراد بالاختلاف المنفي في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا} [النساء: 82] . ج ـ المراد هو التناقض والاضطراب والمعنى أن القرآن ليس فيه تناقض واضطراب بحيث يكذب بعضه بعضاً، بل القرآن يصدق بعضه بعضاً. س25 ـ ما الذي يترتب على وجود المتشابه؟ وما أعظم الضلال الذي وقع فيه الناس، وضح ذلك؟ ترتب على وجود المتشابه ضلال كثير من بني آدم وأعظم ما وقعوا فيه أنه اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أن المخلوق هو الخالق، وسبب ذلك أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود فرأوا الوجود واحداً ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع. س26 ـ ذكر المؤلف أن الإحكام يزيل التشابه الخاص هات مثالاً يوضح ذلك مع بيان، وجه التشابه فيه؟ ج ـ مثال ذلك كلمتا "إنا"، و "نحن" في قوله {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] ، وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] ، فمثل هذه النصوص تمسك بها النصارى في قولهم بتعدد الآلهة وأنه ثالث ثلاثة فالمحكم كقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] مما لا يحتمل إلا معنى واحداً يزيل الاشتباه، ومنشأ التشابه هنا أن لفظتي "إنا" و "نحن" يتكلم بهما الواحد والمعظم نفسه كما يتكلم بها شخص معه غيره، والرب سبحانه يتكلم بها لما له من العظمة والجلال، ولما له من العبيد والجنود الذين هم تحت قهره وأمره. س27ـ بين الألفاظ التي يقع فيها التشابه؟ وما الذي يمنع ذلك؟ وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك أم بالتواطؤ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 يقع التشابه في الألفاظ المتواطئة والألفاظ المشتركة لفظياً وقد تقدم تعريفها. والذي يزيل ذلك التشابه واحد من ثلاثة أمور: 1ـ عارض قاطع نافي للمماثلة كما تقدم. 2ـ أو بالتعريف بأل. 3ـ أو بالإضافة فالمضاف إليه هو الجنة نحو نعيم الجنة، فيعرف الفرق بينه وبين ما أضيف إلى الدنيا، وكذا التعريف بأل ولفظ الوجود مقول بالتواطؤ. س28ـ ما وجه إنكار الإمام أحمد وغيره على الجهمية ونحوهم لتأويلهم المشابه من القرآن على غير تأويله ـ وما المراد بالتأويل الذي أنكره عليهم؟ ج ـ وجه إنكاره رحمه الله عليهم ما يأتي: 1ـ أنهم تأولوه على غيرتأويله. 2ـ أن معاني صفات الله معلومة ومراده بكلامه مفهوم. والمراد بالتأويل الذي أنكره عليهم هو تحريفهم النص عن معناه إلى غير معناه لغير دليل يوجب ذلك ـ وأما التأويل المراد به التفسير فهذا لا يعاب بل هو محمود وأما المراد به الكيفية فهذا لا يعلمه إلا الله ـ وقد صنف رحمه الله كتاباً للرد على الزنادقة والجهمية. س29 ـ ما الذي يترتب على عدم معرفة أقسام التأويل أن يتناقض الإنسان ويضطرب في أقواله والذين يعطلون مع نفي التأويل هم المفوضة حيث يقولون إنه باطل وأن الحق إجراء اللفظ على ظاهره بدون فهم معناه ويستدلون بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ، ويلزم على هذه المقالة ما يلي: 1ـ أننا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه البشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 2ـ أننا خوطبنا في القرآن بما لا معنى له بل هو ألفاظ جوفاء. 3ـ أننا خوطبنا في القرآن بما لا نفهم منه شيئاً بل هو بمنزلة الألفاظ الرموز. 4ـ قال تعالى: {أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمَّد: 24] وجه الدلالة أنه لو كانت معرفة النصوص مستحيلة لم يأمرنا الله سبحانه وتعالى بالتدبر. 5ـ أنه لو كانت معرفة النصوص مستحيلة لكان إنزال القرآن والأمر بتدبره عبثاً والله منزه عن ذلك جلت قدرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 القاعدة السادسة الضابط الذي يُعرف به ما يجوز وما لا يجوز على الله نفياً وإثباتاً قال شيخ الإسلام: "القاعدة السادسة: أنّ لقائل أن يقول: لابد في هذا الباب من ضابطٍ يعرف يه ما يجوز على الله سبحانه وتعالى مما لا يجوز في النفي والإثبات. إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد، وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميّز. فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته، وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقول عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة. ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسراً بمعنى من المعاني، ثم إن كان كل من أثبت ذلك المعنى قالوا إنه مشبه، ومنازعهم يقول: المعنى ليس من التشبيه. وقد يفرق بين لفظ "التشبيه" و "التمثيل"، وذلك أن المعتزلة ونحوهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 نفاة الصفاة يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبِّه ممثَّل، فمن قال: إنّ لله علماً قديماً، أو قدرة قديمة، كان عندهم مشبهاً ممثلاً؛ لأن "القدم" عند جمهورهم هو أخصّ وصف الإله، فمن أثبت لله صفة قديمة فقد أثبت له مِثلاً قديماً، فيسمونه بهذا الاعتبار. ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخصّ وصفه حقيقة ما لا يتصف به غيره، مثل كونه رب العالين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إلهٌ واحد، ونحو ذلك، والصفة لا تُوصف بشيء من ذلك. ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات: إنها قديمة، بل يقول: الرب بصفاته قديم؛ ومنهم من يقول: هو قديم وصفته قديمة، ولا يقول: هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة، بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلاً عن أن تختص بالقدم، وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم وليس الصفات إلهاً ولا ربّاً، كما أن النبي محدَث وصفاته محدَثة، وليست صفاته نبياً. فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم "التشبيه" و"التمثيل" كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، ثم يقول لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية. والقرآن قد نفى مسمَّى "المثل" و "الند" ونحو ذلك، ولكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفأه ولا نده فلا تدخل في النص، وأما العقل فلم ينف مسمَّى "التشبيه" في اصطلاح المعتزلة. وكذلك أيضاً يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، والأجسام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 متماثلة، فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلاً لسائر الأجسام، وهذا هو التشبيه. وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذي يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش وقيام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك، ويقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسماً، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسماً، وحينئذٍ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه. فلهذا تجد هؤلاء يسمُّون من أثبت العلو ونحوه مشبِّهاً، ولا يسمُّون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبِّهاً، كما يقوله صاحب "الإرشاد" وأمثاله. وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو، ولكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفة خبرية، كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه، وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي في الجسم، كما يقولونه في سائر الصفات، والعاقل إذا تأمّل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق. وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، والأجسام متماثلة، والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى، وتارة بمنع المقدمة الثانية، وتارة بمنع كلتا المقدمتين، وتارة باستفصال. ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل، سواء فسّروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، أو بالمركب من الهيولي والصورة، ونحو ذلك. فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة على أنها متماثلة، فهذا يُبنى على صحة ذلك، وعلى إثبات الجواهر المفردة وعلى أنها متماثلة، وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك. والمقصود أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيماً بناء على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعهم في اعتقادهم، كإطلاق الرافضة لـ "النَّصب" على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، بناءً على من أحبهما فقد أبغض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 علياً رضي الله عنه، ومن أبغضه فهو ناصبي؛ وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى. ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه، وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبيّنّا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفى ذلك، وبيّنا فساد قول من يقول بتماثلها. وأيضاً فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتمادٌ باطل، وذلك أنه إذا ثبت تماثل الأجسام فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم، وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم، وثبت امتناع الجسم، كان هذا وحده كافياً في نفي ذلك، لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى "التشبيه" لكن نفي الجسم يكون مبنياً على نفي هذا التشبيه، بأن يُقال: لو ثبت له كذا وكذا لكان جسماً، ثم يقال: والأجسام متماثلة، فيجب اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع، وهذا ممتنع عليه، لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمداً في نفي التشبيه على نفي التجسيم، فيكون أصل نفيه نفي الجسم، وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى. وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما يُنفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد، إذ ما من شيئين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه، بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب، ونحو ذلك مما هو سبحانه وتعالى مقدّس عنه، فإن هذه طريقة صحيحة. وكذلك إذا أُثبت له صفات الكمال، ونُفي مماثلة غيره له فيها، فإن هذا نفي المماثلة فيما هو مستحق له، وهذا حقيقة التوحيد، وهو أن لا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه، وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحدٌ، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته لشيء من المخلوقات. فإن قيل: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه. قيل: لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعاً على الرب تعالى؛ فإن ذلك لا يقتضي حدوثاً، ولا إمكاناً، ولا نقصاً، ولا شيئاً مما ينافي صفات الربوبية. وذلك أن القدر المشترك هو مسمى "الوجود" أو "الموجود" أو "الحياة" أو "الحي"، أو "العلم" أو "العليم"، أو "السمع" و"البصر" أو "السميع" و"البصير"، أو "القدرة" أو "القدير"، والقدر المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك فيما يختص بالممكن المحدَث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به احدهما يمتنع اشتراكهما فيه. فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال: كالوجود والحياة والعلم والقدرة، ولم يكن في ذلك ما يدل على شيء من خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق ـ لم يكن في إثبات هذا محذور أصلاً، بل إثبات هذا من لوازم هذا من لوازم الوجود، فكل موجودَين لا بد بينهم من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود. ولهذا لما اطّلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطِّلة، وكان جهم ينكر أن يُسمَّى الله شيئاً، وربما قالت الجهمية: هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفى القدر المشترك مطلقاً لزم التعطيل التام. والمعاني التي يوصف بها الرب سبحانه وتعالى، كالحياة والعلم والقدرة، بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك، وتجب له لوازمها؛ فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، وخصائص المخلوق التي يجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 تنزيه الرب عنها ليس من لوازم ذلك أصلاً، بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى منزّه عن خصائص المخلوق وملزومات خصائصه. وهذا الموضع من فهمه فهماً جيداً، وتدبره، زالت عنه عامة الشبهات، وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام، وقد بسط هذا في مواضع كثيرة، وبُيِّن فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معيّناً مقيداً، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا، لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميّز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله. ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس يتناقض في هذا المقام، فتارة يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل، فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات لمن احتج به من النفاة. ولكثرة الاشتباه في هذه المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد على ماهيته؛ وهل لفظ "الوجود" مقول بالاشتراك اللفظي، أو بالتواطؤ، أو التشكيك، كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها، وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا؟ وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟ وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات، فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين، ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها، وتارة يبقى في الشك والتحيُّز، وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات، وما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة. وبيَّنا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 في الخارج، بخلاف الماهية التي في الذهن فإنها مغايرة للموجود في الخارج، وأن اللفظ "الوجود" كلفظ: "الذات"، و"الشيء" و"الحقيقة" ونحو ذلك، وهذه الألفاظ كلها متواطئة، وإذا قيل: إنها مشكِّكة، لتفاضل معانيها، فالمشكك نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك، سواء كان المعنى متفاضلاً في موارده، أو متماثلاً. وبيَّنا أن المعدوم شيء أيضاً في العلم والذهن، لا في الخارج، فلا فرق بين الثبوت والوجود، لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للمعالم القائم به. وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف، لها وجود في الأذهان، وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة، وصفاتها القائمة بها المعيَّنة، فتتشابه بذلك وتختلف به. وأما هذه الجمل المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة، من فهمها عَلِمَ قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى، وإمكان إغلاق باب الضلال، ثم بسطها وشرحها له مقام آخر، إذ لكل مقام مقال. والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما ينفى عن الرب، وينزَّه عنه ـ كما يفعله كثير من المصنفين ـ خطأٌ لمن تدبَّر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة. فصل وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفاة أو بعضها، إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر، مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك، ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون: إنه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، والذين يقولون بإلهية بعض البشر، وأنه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فإن كثيراً من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم أو التحيّز ونحو ذلك، ويقولون: لو اتصف بهذه النقائص والآفات لكان جسماً أو متحيزاً، وذلك ممتنع. وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم الملاحدة، نفاة الأسماء والصفات، فإن هذه الطريق لا يحصل لها المقصود لوجوه: • أحدهما: أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهر فساداً في العقل والدين من نفي التحيّز والتجسيم، فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك، وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام، والدليل معرفِّ للمدلول، ومبين له، فلا يجوز أن يُستدل على الأظهر الأبين بالأخفى، كما لا يُفعل مثل ذلك في الحدود. • الو جه الثاني: أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الآفات يمكنهم أن يقولوا: نحن لا نقول بالتجسيم والتحيّز، كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم، فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة صفات الكمال، فيصير كلام من وصف الله بصفات الكمال وصفات النقص واحداً، ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد، وهذا في غاية الفساد. • الوجه الثالث: أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة، واتصافه بصفات الكمال واجب، ثابت بالعقل والسمع، فيكون ذلك دليلاً على فساد هذه الطريقة. • الوجه الرابع: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، كما أن كل من نفى شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي، فمثبتة الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، إذا قالت لهم النفاة كالمعتزلة: هذا تجسيم؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بالجسم، فإنا لا نعرف موصوفاً بالصفات إلا جسماً. قالت لهم المثبتة: وأنتم قد قلتم: أنه حي عليم قدير، وقلتم: ليس بجسم، وأنتم لا تعلمون موجوداً: حياً عالماً قادراً إلا جسماً، فقد أثبتموه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن، وقالوا لهم: أنتم أثبتم حيّاً عالماً قادراً، بلا حياة ولا علم ولا قدرة، وهذا تناقض يُعلم بضرورة العقل. ثم هؤلاء المثبتة إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول والإتيان والمجيء، أو بالوجه واليد ونحو ذلك، إذا قالوا: هذا يقتضي التجسيم؛ لأنا لا نعرف ما يوصف بذلك، إلا ما هو جسم، قالت لهم المثبتة: فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، وهذا هكذا، فإن كان هذا لا يوصف به إلا الجسم فالآخر كذلك، وإن أمكن أن يُوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك، فالتفريق بينهم بين المتماثلين. ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقاً فاسداً لم يسلكه أحد من السلف والأئمة، فلم ينطق أحد منهم في حق الله تعالى بالجسم لا نفياً ولا إثباتاً، ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقاً، ولا تُبطل باطلاً، ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتَدَع الذي أنكره السلف والأئمة. فصل وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه، إذ لو كفى في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف الله سبحانه وتعالى من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه، وكما لو قال المفتري: يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم، كما يقال: يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل: له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم، حتى يذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 المعدة والأمعاء والذكر، وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً. فإنه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفة الخبرية وغيرها من الصفات: ما الفرق بين هذا وبين ما أثبته إذا نفيت التشبيه، وجعلت مجرد نفي التشبيه كافياً في الإثبات، فلا بد من إثبات فرق في نفس الأمر. فإن قال: العمدة في الفرض هو السمع، فما جاء السمع به أثبته، دون ما لم يجئ به السمع. قيل له: أولاً: السمع هو خبر الصادق عما هو الأمر عليه في نفسه، فما أخبره به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات، والخبر دليل على المخبَر عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع، إذا لم يكن قد نفاه، ومعلوم أن السمع لم ينف كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة، فلابد من ذكر ما ينفيها من السمع، وإلا فلا يجوز حينئذٍ نفيها، كما لا يجوز إثباتها. وأيضاً فلا بد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفى عنه، فإن الأمور المتمثلة في الجواز والوجوب والامتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض بالجواز والوجوب والامتناع، فلا بد من اختصاص المنفي عن المثبَت بما يخصه بالنفي، ولابد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت. وقد يعبر عن ذلك بأن يقال: لابد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله تعالى، كما أنه لابد من أمر يُثبت له ما هو ثابت، وغن كان السمع كافياً كان مخبراً عما هو الأمر عليه في نفسه، فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا؟ فيقال: كل ما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر، فإذا عُلم أنه موجود واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم واجب القدم، عُلم امتناع العدم والحدوث عليه، وعُلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 أنه غني عما سواء، فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه نفسه ليس هو موجوداً بنفسه، بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسُه، فلا يوجد إلا به، وهو سبحانه وتعالى قدير قوي، فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه، وهو سبحانه حيّ قيوم، فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه. وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفؤ، فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده، والعقل يعرف نفي ذلك، كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولِمَا يستلزمه. وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي، فقالوا: لا يقال موجود ولا ليس بموجود، ولا حيّ ولا ليس بحي؛ لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم، فلزمهم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعاً. ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيه بالمعدومات والممتنعات والجمادات أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين، فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا. وقد تقدم أن ما ينفى عنه سبحانه وتعالى ينفى لتضمن النفي الإثبات، إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يشبه الموجود، وليس هذا مدحاً له؛ لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلق، كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه، ينزّه عنه الرب تبارك وتعالى. والنقص ضد الكمال، وذلك مثل أنه قد عُلم أنه حيّ والموت ضد ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فهو منزّه عنه، وكذلك النوم والسِّنة ضد كمال الحياة، فإن النوم أخو الموت، وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة، والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار على موجود غيره، كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به ونحو ذلك يتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه، وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته، أو أفعاله، فهو مفتقر إليه ليس مستغنياً بنفسه، فكيف من يأكل ويشرب، والآكل والشارب أجوف والمُصْمَت الصمد أكمل من الآكل الشارب، ولهذا كانت الملائكة صمداً لا تأكل ولا تشرب. وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزّه عنه مخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك، والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] ، والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب، وهذه السورة هي نسب الرحمن1، وهي الأصل في هذه الباب. وقال في حق المسيح وأمه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلآ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] ، فجعل ذلك دليلاً على نفي الألوهية، فدل ذلك على تنزيهه بطريق الأوْلى والأحرى. والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك، بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل، وهو سبحانه وتعالى موصوف بالعمل والفعل، إذ ذلك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل. وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه، وكذلك البكاء والحزن هو مستلزم للضعف والعجز الذي ينزه الله عنه، بخلاف   1 انظر الحديث الوارد في ذلك في مسند الإمام أحمد (5/133 ـ 134) وسنن الترمذي (9/299 ـ230) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الفرح والغضب فإنه من صفات الكمال، فكما يوصف بالقدرة دون العجز، وبالعمل دون الجهل، وبالحياة دون الموت، وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم، فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن، وبالضحك دون البكاء، ونحو ذلك. وأيضاً فقد ثبت بالعقل ما أثبته من أنه سبحانه وتعالى لا كفؤ له، ولا سمي له، وليس كمثله شيء فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات، فنعلم قطعاً أنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة ولا السموات ولا الكواكب، ولا الهواء ولا الماء ولا الأرض، ولا الآدميين ولا أبدانهم ولا أنفسهم، ولا غير ذلك، بل يُعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر. فإن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما وجب لها، وامتنع عليها، فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدَث المخلوق من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لهذا ما يثبت لذاك من الوجوب والغنى، فيكون الشيء الواحد واجباً بنفسه غير واجب بنفسه، موجوداً معدوماً، وذلك جمع بين النقيضين. وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي، ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له، وما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك؛ لن هذا مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه، وما سكت عنه السمع نفياً وإثباتاً، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه، سكتنا عنه فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته، والله سبحانه وتعالى أعلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 معاني الكلمات: ضابط: ضبط الشيء أي حفظه بالجزم. في هذا الباب: أي باب الصفات. نفي التشبيه: أي نفي التشبيه بدون إثبات كمال الضد وإثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة. الأسماء المتواطئة: التواطؤ: اتفاق اللفظ والمعنى. قدر الاشتراك: هو المعنى العام. عناصر الموضوع: 1 ـ موضوع القاعدة السادسة: أـ هو الضابط الذي يعرف به ما يجوز على الله سبحانه وتعالى وما لا يجوز. ب ـ بيان خطأ طريقة في النفي والتنزيه. 2 ـ على من يرد شيخ الإسلام بالقاعدة السادسة: يرد شيخ الإسلام بالقاعدة بين شيخ الإسلام أن الصفات معلومة لنا باعتبار المعنى مجهولة لنا باعتبار الكيفية والحقيقة، فناسب بعد ذلك أن يضع ضابطاً إثبات الصفات اللائقة بالله والضابط في نفي الصفات، وبيان خطأ من خالف هاتين الطريقتين من المعطلة. 3 ـ الصلة بين القاعدتين الخامسة والسادسة: في القاعدة الخامسة بين شيخ الإسلام أن الصفات معلومة لنا باعتبار المعنى مجهولة لنا باعتبار الكيفية والحقيقة، فناسب بعد ذلك أن يضع ضابطاً لإثبات الصفات اللائقة بالله والضابط في نفي الصفات، وبيان خطأ من خالف هاتين الطريقتين من المعطلة. 4 ـ شرح القاعدة السادسة: صفات الله تعالى دائرة بين النفي والإثبات، فتثبت لله جميع ما وصف به نفسه، أو وصف به رسوله عليه السلام، وينفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله عليه السلام كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، وإنما جمع الله في نفسه بين النفي والإثبات، لأنه لا يتم كمال الموصوف إلا بنفي صفات النقص وإثبات صفات الكمال، فكل الصفات التي نفاها عن نفسه صفات نقص، وكل ما أثبته الله لنفسه فهي صفات كمال على وجه لا نقص فيها بحال من الأحوال، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى} [النحل: 60] ، والمثل الأعلى هو الوصف الأكمل الذي لا يماثله شيء. وأما الضابط في النفي أن ينفي عن الله: أولاً: كل صفة عيب كالعمى والصم والخرس والنوم والموت ونحو ذلك. ثانياً: كل نقص في كماله كنقص في حياته أو علمه أو قدرته أو عزته أو حكمته، أو نحو ذلك. ثالثاً: مماثلته للمخلوقين كأن يجعل علمه كعلم المخلوق، أو وجهه كوجه المخلوق أو استواءه على عرشه كاستواء المخلوق، ونحو ذلك. فمن أدلة انتفاء الأول عنه: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى} [النحل: 60] ، فإن ثبوت المثل الأعلى وهو الوصف الأعلى يستلزم انتفاء كل صفة عيب. ومن أدلة انتفاء الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالآرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ آيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] . ومن أدلة انتفاء الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . 5 ـ ما تدور عليه هذه القاعدة: تدور هذه القاعدة على مسألتين: 1ـ الضابط الصحيح في النفي والإثبات. 2ـ بيان خطأ طريقة المتكلمين، وضابطهم في النفي أو الإثبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 6 ـ طريقة المتكلمين في التنزيه: للمتكلمين طريقتان للتنزيه: الأولى: التنزيه بنفي التشبيه. الثانية: التنزيه بنفي التجسيم. 7 ـ الفرق بين التشبيه والتمثيل: الفرق بينهما من وجهين: 1ـ أن التمثيل ورد نفيه بالنص، وأما التشبيه فمن غير نصَّ. 2ـ أن التمثيل فيه مشابهة من جميع الوجوه، وأما التشبيه فمن بعض الوجوه. 8 ـ وجه بطلان طريقة المتكلمين في التنزيه وذلك بنفي التشبيه: لا يصح الاعتماد على طريقة المتكلمين في التنزيه على مجرد نفي التشبيه وذلك لوجهين: 1ـ أنه إذا أريد بالنفي التشابه المطلق، فإن هذا لغو من القول، ولم يقل أحد بتساوي الخالق والمخلوق من كل وجه بحيث يثبت لأحدهما من (الجائر والممتنع) ما يثبت للآخر. 2ـ إذا أريد بالنفي نفي التشابه من بعض الوجوه فهذا النفي لا يصح؛ إذ ما من شيء إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مختص يتميز به كل واحد عن الآخر. فالحياة مثلاً وصف مشترك بين الخالق والمخلوق، لكن حياة الخالق كاملة من جميع الوجوه لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء بخلاف المخلوق، فإنها حياة ناقصة مسبوقة بعدم متلوة بفناء. 9 ـ وجه بطلان طريقة المتكلمين في التنزيه وذلك بنفي التجسيم: لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التجسيم وذلك للوجوه الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 1ـ أن طريقة التنزيه بنفي التجسيم لم ترد في الكتاب ولا في السنة، ولم يذكرها الله في كتابه في إنكاره على اليهود والكفار. 2ـ أن هذه الطريقة في النفي لم يسلكها أحد من السلف ولم ينطقوا بها نفياً ولا إثباتاً فهي عبارة مجملة لا تحق حقاً، ولا تبطل باطلاً. 3ـ أن من ينزه الله بنفي التجسيم يدخل فيه نفي صفاته الواردة في الكتاب والسنة؛ لأن إثباتها في نظرة تجسيم. 4ـ أن من يسلكون هذه الطريقة في النفي متناقضون، فمثلاً: إذا قالت الأشاعرة بإثبات صفة الحياة والعلم والقدرة، ترد عليهم المعتزلة: بأن هذا يستلزم التجسيد، فتقول الأشاعرة وأنتم تثبتون الأسماء الحسنى مع عدم التجسيم، فكذلك نثبت صفات العلم والقدرة بلا تجسيم. 5ـ أن هذه الطريقة ابتدعها المتكلمون لذا أنكرها السلف. 10 ـ إثبات القدر المشترك: ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، فمن نفى القدر الفارق فقد مثل، ومن نفى القدر المشترك فقد عطل، فالنافي للصفات إن اعتمد فيما ينفيه على نفي التشبيه قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل. وإن أردت أنه متشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم فإن هذا هو الحق الذي يلزم في سائر الصفات، فالله سبحانه موجود والمخلوق موجود، ولكن وجود الله ليس كوجود المخلوق واتفاقهما في الاسم العام لا يقتضي مماثلتهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره. 11 ـ المخالفون لأهل السنة في ضابط الإثبات: خالف المتكلمون أهل السنة في ضابط الإثبات عند أهل السنة واتخذوا ضابطاً خاصاً بهم ألا وهو مجرد الإثبات، وهذا الضابط لا يصح؛ لأنه لو صح لجاز أن يثبت المفتري لله كل صفة نقص مع نفي التشبيه، فيصفه بالحزن والبكاء ويقول: إن الله يحزن لا كحزن العباد ويبكي لا كبكائهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ولجاز أيضاً أن يثبت المفتري لله أعضاء كثيرة مع نفي التشبيه، فيقول: إن لله كبداً لا كأكباد العباد، وأمعاء لا كأمعائهم ونحو ذلك. 12 ـ الأدلة على نفي مماثلة الله لخلقه: الأدلة على نفي مماثلة الله لخلقه كثيرة منها: 1 ـ الأدلة النقلية: كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ} [النحل: 74] ، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ} [الإخلاص: 4] {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدَادًا} [البقرة:22] . 2 ـ الأدلة العقلية: لو قلنا بالتماثل لزم أن يجب له ما يجب للمخلوقين وأن يجوز عليه ما يجوز على المخلوقين، وهذا باطل، لأنه يلزم منه أن يكون الخالق القديم الواجب بنفسه جائزاً عليه العدم والحاجة، ويكون للمخلوق صفة الوجوب والقدم فيكون الشيء الواحد واجباً بنفسه وغير واجب بنفسه قديماً ومحدثاً، وذلك جمع بين النقيضين وهو ممتنع ومن هنا يعلم بطلان قول المشبهة اللذين يقولون: له بصر كبصري وله يد كيدي كما سبق النقل عن إسحاق بن راهوية: "إنما يكون التشبيه إذا قال: يد مثل يدي، أو سمع مثل سمعي؛ فهذا التشبيه"1. الأسئلة والأجوبة الواردة على القاعدة السادسة: س1 ـ ما الفرق بين التشبيه والتمثيل؟ ج ـ الفرق بينهما من وجهين: • الوجه الأول: أن التمثيل ورد نفيه بالنص، وأما التشبيه فمن غير نص. • الوجه الثاني: أن التمثيل فيه مشابهة من جميع الوجوه، وأما التشبيه فمن بعض الوجوه.   1 رواه الترمذي 1/128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 س2 ـ ما هي طرق التنزيه عتد المتكلمين؟ ج ـ طرق التنزيه بنفي التشبيه. الأولى: التنزيه بنفي التشبيه. الثانية: التنزيه بنفي التجسيم. س3 ـ اذكر شبهة تعدد القدماء، ومن القائلون بها، وما الرد عليهم؟ ج ـ شبهتهم: أن كل من أثبت لله صفة قديمة فقد جعل له شريكاً يماثله في القدم، وبناء عليه لا يجوز القول بتعدد الصفات لأنه قول بتعدد القدماء عندهم، وهو تشبيه وكفر بإجماعهم. * والقائلون بها هم المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات. * والرد عليهم من أربعة أوجه: • أولاً: منع أن يكون أخص وصف للإله هو القدم بل أخص وصف هو ما لا يتصف به غيره مثل رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد، والصفات لا توصف بهذه الأوصاف. • ثانياً: إذا سلمنا ذلك فإن وصف الصفات بالقدم لا يلزم منه تعدد القدماء وإثبات شريك لله وذلك لأمرين: 1ـ أن القدم إنما هو وصف لذات متصفة بصفات وليس وصفاً للذات المجردة عن الصفات. 2ـ إذا قيل: إن الصفات متصفة بالقدم فلا تكون إلهاً؛ لأنها قائمة بذات الله كما أننا لو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم محدث وصفاته محدثة فلا تكون صفاته نبياً. • ثالثاً: أن الشرع لم ينف هذا التشبيه وإنما نفى (المثل) كما في قول تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . والصفة ليست مثلاً للموصوف وكذلك نفي (الكفء) كما في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، والصفة ليست كفؤاً للموصوف. فلا تدخل هذه الصفات فيما نفاه الشرع لغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 • رابعاً: وكذلك فإن العقل لم ينف هذا المعنى، فإن الصفات قائمة بالذات فوصفها بالقدم لا يدل على التمثيل بل قدم الصفات تابع لقدم الذات ويستحيل في الخارج وجود ذات مجردة عن أي صفة. س4 ـ اذكر الطرق الصحيحة في النفي أي التنزيه؟ ج ـ الطرق الصحيحة في النفي هي ثلاثة: • الأولى: هي نفي ما نفاه الله عن نفسه تصريحاً، وهي طريقة نقلية نصية كقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا آحَدٌ} . • الثانية: نفي النقص والعيب عن الله تعالى كالعمى والصمم والجوع وغيرها وضابط النقص والعيب أحد أمرين: 1ـ كل ما يضاد الكمال الذي وصف الله به نفسه فإذا قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] كان ضده نقصاً ـ كالصمم والعمى. 2ـ إذا نفى عن نفسه نقصاً دل على اتصافه بما هو من لوازم ذلك النقص فمثلاً: نفى الصاحبة والولد دليل على عدم اتصافه بالشهوة ونحوها من اللوازم. • الثالثة: نفي مماثلته للمخلوقين فكل صفة كمال فهو متصف بها لا يماثله فيها شيء، وهذا مذهب سلف الأئمة وأئمتها، إثبات ما وصف الله به نفسه بلا تمثيل. س5 ـ اذكر وجوه بطلان طريقة التنزيه بنفي التشبيه؟ ج ـ وجوه بطلانها ما يلي: 1ـ إن أردت أنه مماثل من كل وجه باطل لأن بين الخالق والمخلوق فروقاً تعلم ضرورة، ويكفي فرقاً أن هذا خالق وذاك مخلوق فضلاً عن البون العظيم بينهما. 2ـ وإن أردت أنه مشابه من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم لزمك النفي في سائر ما تثبته الوجود لأنه يشترك مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وجود المخلوقات في مسمى الوجود، وإن قلت بأن وجوده يختص به، قلنا وكذلك ذاته وصفاته تختص به. 3ـ وإن أردت ما فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع على الآخر، ويجب له ما يجب على الآخر، فإثبات مثل هذا التشبيه لا يقول به عاقل فهو ممتنع بضرورة العقل ومستلزم للجمع بين النقيضين، ولأن الله تعالى واجب الوجود والمخلوق ممكن، فلو جاز للواجب أن يكون ممكناً أصبح هذا جمعاً بين النقيضين. س6ـ اذكر وجوه بطلان طريقة التنزيه بنفي التجسيم؟ ج ـ هذه الطريقة باطلة من وجوه خمسة: • أولالاً: إن وصف الله بهذه النقائص أظهر فساداً من نفي التجسيم فإن فيها اشتباهاً ونزاعاً بينما كفر القائل بهذه النقائض أظهر، ولا يجوز أن يكون الدليل وهو نفي التجسيم أخفى من المدلول وهو نفي النقائص عن الله، مثل الحدود (التعريفات) فلا يصح أن يكون التعريف أخفى من المعَرَّف، كمن يعرِّف الخمر بأنها العقار، فإنه أخفى من الخمر. • ثانياً: إن هذا الذي يصفه بالبكاء والرمد وغيره من النقائص يمكنه أن يقول نحن لا نقول بالتجسيم، مثل من يثبت الصفات دون تجسيم، فيصبح نزاع هؤلاء الكفار مثل نزاع مثبتة الكمال، ويبقى رد نفاة التجسيم على من وصف الله بالنقص ومن وصفه بالكمال بطريق واحد، وهذا في غاية الفساد فإن الطريق الذي يسوي بين الحق والباطل من أفسد طرق الرد. • ثالثاً: إن من ينفي التجسيم ينفي صفات الكمال بهذه الطريقة فراراً من التجسيم بزعمه، فيقول: لا أثبت الصفات فراراً من التجسيم واتصافه بصفات الكمال واجب عقلاً ونقلاً وقد عارضها بنفي التجسيم، فيكون ذلك دليلاً على فساد طريقته هذه. • رابعاً: إن من يسلكون هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت أو نفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 شيئاً من الصفات ألزمه الآخر بما يتفقون عليه من النفي أو الإثبات كما سبق مع الأشاعرة. • خامساً: ومما يبين بطلان هذه الطريقة في النفي أنها لم يسلكها السلف ولم ينطق أحد منهم بالجسم نفياً ولا إثباتاً ولا الجوهر والتحيز؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقاً ولا تبطل باطلاً، ولم يذكرها الله في كتابه في إنكاره على اليهود والكفار بل هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف. س7 ـ كيف نجيب على من زعم أن إثبات القدر المشترك يستلزم أن يجوز على الله ما يجوز على المخلوقات، وأن يجب له ما يجب لهم، وأن يمتنع عليه ما يمتنع عليهم؟ ج ـ نجيب على هذا السؤال بما يلي: 1ـ أنه لو فرضنا أن قول المعترض صحيح فإذا كان القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الله أو نفي ما يجب عليه، فعندها لا يكون ها الاشتراك ممتنعاً. 2ـ وأيضاً فإننا إذا قلنا: إن الله تعالى موجود حي عليم سميع بصير، وسمى بعض عباده حياً سميعاً عليماً بصيراً، فهو مطلق لا فيما يختص بالخالق أو المخلوق من خصائص. 3ـ بل إثبات هذا القدر المشترك الكلي من لوازم الوجود فكل موجودين لا بد أن يشتركا في هذا المعنى العام الذي هو ضد العدم، ومن نفى هذا المعنى العام لزمه تعطيل الوجود، لذلك لما تفطن الأئمة لحقيقة قول الجهمي وأنه يفضي إلى نفي وجود الله سموهم معطلة، وكان جهم ينكر أن يسمى اله شيئاً مع أن كل موجود شيء، وقد ورد إطلاق الشيء على الله تعالى كما في قوله تعالى: {قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] ، ولكن أتباعه الجهمية قالوا شيء لا كالأشياء، ومرادهم بذلك نفي الصفات. 4ـ وجميع المعاني التي يوصف الله تعالى بها كالحياة والعلم والقدرة تثبت لله تعالى مع لوازمها، فحياة الله تعالى يلزم منها عدم الموت والأزلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ونحوها من خصائص الخالق وعلمه يلزم منه الكمال المطلق.. وهكذا، فخصائص المخلوق ليست من لوازم تلك الصفات لأن الله تعالى منزه عن خصائص المخلوقات وملزوماته كالحدوث والافتقار، فبذلك لا يكون في إثبات القدر المشترك تشبيه. س8 ـ اذكر أمثلة لبعض المتكلمين الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والاضطراب؟ ج ـ من المتكلمين الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والاضطراب ما يلي: 1ـ محمد بن نامار الخُونَجِي وكان عالماً بالفلسفة والمنطق، روي أنه قال عند موته: (أموت وما علمت شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف عدمي، أموت وما علمت شيئاً) . 2ـ محمد بن واصل الحموي وكان مؤرخاً وعالماً بالمنطق، روي أنه قال: (أبيت بالليل واستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي، وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس، وأصبح وما ترجح عندي شيء) . 3ـ الشهرستاني: وكان مما قال في إنشاده ما يلي: لعمري قد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم 4ـ فخر الدين الرازي وكان مفسراً أصولياً متكلماً ومن قوله ما يلي: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسوم وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثاً طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وقال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما وجدتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وفي النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 شَيْءٌ} [الشورى: 11] وهذه طريقة أهل السنة المنزهة عن التناقض والاضطرب. 5ـ الوليد بن أبان الكرابيس أحد أئمة الكلام، قال لبنيه عند وفاته: (تعلمون أحداً أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا قال: فتتهموني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم أتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم) . وشهادات المتكلمين على أنفسهم بالشك والاضطراب أكثر من أن تحصى. س9 ـ ما القول الحق في المسائل التالية: أـ وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد عنها؟ ب ـ لفظ الوجود هل هو من قبيل المشترك اللفظي، أم المتواطئ، أم المشكك؟ ج ـ إثبات الأحوال؟ د ـ هل المعدوم شيء أم لا؟ هـ ـ هل وجود الموجودات عين ماهيتها أم لا؟ ج ـ هذه المسائل من المسائل التي وقع فيها اضطراب المتكلمين بسبب الاضطراب في الاشتراك والقول الحق فيها ما يلي: أـ أن وجود الموجودات هو عين ماهيتها ـ خصائصها الذاتية ـ أو حقيقتها في الخارج، لكنه زائد عن ماهيتها في الذهن، فإنه في الذهن يكون عاماً كلياً وفي الخارج يزيد بتقييدات وتخصيصات هي عين حقيقته الخارجية الزائد عما في الذهن. ب ـ القول الصحيح فيها هو أن الوجود متواطئ؛ أي متحد لفظاً ومعنى والفرق بين التواطؤ اتفاق في اللفظ والمعنى مع الاتحاد في المعنى الكلي، كلفظ (الإنسان) فإن زيداً وعمراً متفقان في الإنسانية ولا يتفاوتان فيها. أما التشكيك: فهو اتفاق في اللفظ والمعنى أيضاً، ولكن مع التفاوت في المعنى الكلي مثل البياض فإن الثلج والإنسان متفقان في البياض مع التفاوت بين بياض كل منهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ج ـ الحق في إثبات الأحوال أنها لا وجود لها إلا في الأذهان، وأما في الأعيان فلا توجد إلا الذوات وصفاتها القائمة بها. د ـ الصواب أن المعدوم شيء في العلم والذهن، وليس بشيء في الخارج، وهذا التفصيل هو الذي تجتمع عليه الأدلة خلافاً للمعتزلة القائلين بأنه شيء مطلقاً. * ومن أدلة كونه شيئاً في العلم: • قوله تعالى: {إِنَّمَا أمْرُهُ إِذَا أرَادَ شَيْئًا} [يس: 82] ، فالشيء هنا غير موجود لكنه معلوم مراد. ومثل قوله سبحانه: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] ، فهي لم تقع لكنها معلومة. * وأدلة كونه ليس بشيء في الخارج: • قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:67] ، أي في الخارج. فالمعدوم شيء علمي لا عيني. هـ ـ الصواب أن الموجودات هي عين ماهيتها في الخارج، وزائدة على ماهيتها في الذهن. س10 ـ هل يكفي الاعتماد في النفي على مجرد عدم ورود السمع، ولماذا؟ ج ـ لا يكفي الاعتماد في النفي على مجرد عدم ورود السمع؛ لأن هناك لوازماً عقلية تتوافق مع الأدلة النقلية، فتثبت بمجموعها كمال الصفات لله، وخلاصة الأمر: أن كل ما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه؛ لأن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر؛ كالنقص والعيب والمماثلة للخلق. وهذه هي القاعدة العامة في التنزيه، لا طريقة نفي التشبيه، أو التجسيم التي تناقض فيها المتكلمون. س11ـ كيف ترد على من سوى بين وصف الله بالنقائص، كالمعدة والأمعاء والبكاء، ووصفه بالكمال؛ كالوجه والضحك والفرح؟ ج ـ يرد عليه ببيان الفرق بين صفات الكمال الثابتة لله تعالى، وصفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 النقص، ويجاب عليه بالقاعدة العامة في التنزيه؛ وهي: 1ـ أن الله حي والموت ضد الحياة فينزه الله عنه، وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة. 2ـ أن اللغو نقص في كمال القدرة والقوة فينزه عنه من وجوه: 3ـ الأكل والشرب يستدل على نفيهما عنه من وجوه: أـ أن فيهما افتقاراً إلى موجود غيره، وهو الطعام والشراب. ب ـ أن الملائكة صمد لا تأكل ولا تشرب، وهذا كمالها لها، وهو دليل على تنزيهه ـ سبحانه ـ عن ذلك بطريق الأولى؛ فكل كمال اتصف به المخلوق فالخالق أولى به. ج ـ في قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] عن عيسى وأمه ـ عليهما السلام ـ جعل الأكل دليلاً على نفي الألوهية؛ فالله أولى بالتنزه عنه. 4ـ أما المعدة والأمعاء وأعضاء الأكل والشرب؛ فالغني المنزه عن الأكل والشرب، منزه عن آلات ذلك ولوازمه بخلاف اليد فإنها للفعل والله موصوف بالفعل، فهو كمال فالفاعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل بالإضافة إلى ثبوتها في النصوص. 5ـ وأما البكاء والحزن فمستلزم للضعف والعجز، بخلاف الفرح والغضب والضحك فإنها من صفات الكمال الثابتة شرعاً؛ فكان يوصف بالبكاء والقدرة دون العجز، فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن، وبالضحك دون البكاء؛ لعدم منافاتها لصفات الكمال. ودليل ثبوت الفرح قوله: صلي الله عليه وسلم: " الله أفرح بتوبة عبده من من أحدكم.. الحديث " رواه البخاري ومسلم (2747) . ودليل ثبوت الضحك قوله: صلي الله عليه وسلم "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة ".. رواه البخاري ومسلم (1890) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 س12 ـ اذكر أدلة نفي التمثيل نقلاً وعقلاً؟ ج ـ ثبت نفي التمثيل نقلاً وعقلاً: * فمن النقل: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ} [النحل: 74] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدَادًا} [البقرة: 22] . * ومن العقل: لو قلنا بالتماثل؛ لزم أن يجب له ما يجب للمخلوقين، وأن يجوز عليه ما يجوز على المخلوقين، وهذا باطل، لأنه يلزم أن يكون الخالق القديم الواجب بنفسه جائزاً عليه العدم والحاجة، ويكون للمخلوقين صفة الوجوب والقدم؛ فيكون الشيء الواحد واجباً غير واجب بنفسه قديماً ومحدثاً؛ وذلك جمع بين النقيضين، وهو ممتنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 القاعدة السابعة دلالة العقل على الصفات التي دل عليها السمع قال شيخ الإسلام: "القاعدة السابعة: أن يُقال: إنّ كثيراً مما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضاً، والقرآن يبين ما يستدل به العقل، ويرشد إليه وينبه عليه، كما ذكر الله ذلك في غير موضع، فإنه سبحانه وتعالى بيَّن الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك، ما أرشد العباد إليه ودلهّم عليه كما بيَّن أيضاً ما دل على نبوة أنبيائه، وما دل على المعاد وإمكانه. فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع أخبر بها. ومن جهة أنه بَيَّن الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها. والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وهي أيضاً عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضاً. وكثير من أهل الكلام يسمى هذه "الأصول العقلية" لاعتقاده أنها لا تعلم إلا بالعقل فقط، فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق، وخبر الصادق ـ الذي هو النبي ـ لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل. ثم أتهم قد يتنازعون في الأصول التي يتوقف إثبات النبوة عليها: فطائفةٌ تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك، ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وطائفةٌ تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول، وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه، وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام، وحدوثها يُعلم إما بحدوث الصفات، وإما بحدوث الأفعال القائمة بها، فيجعلون نفي أفعال الرب، ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها. ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم، والسمع إما أن يؤوّل، وإما أن يفوّض. وهم أيضاً عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم، لما تقدم. وهؤلاء يضلون من وجوه: منها: ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة1، وليس الأمر كذلك بل القرآن بيَّن من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر، فتكون هذه المطالب شرعية عقلية. ومنها: ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التي سلكوها، وهم مخطئون قطعاً في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه، فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة، كما قد بسط في غير هذا الموضع. ومنها: ظنهم أن تلك الطريق التي سلكوها صحيحة، وقد تكون باطلة. ومنها: ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل، ويكونون غالطين في ذلك فإنه إذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من   1 كذا في المطبوع، وقد استظهر المحقق أن يكون الصواب: "المجرد"، وهو أقرب إلى الصواب، لأن كلمة "تارة"، توحي أن أحد قولي ـ أو أقوال ـ المتكلمين، والأمر ليس كذلك، فليس لهم إلا هذا القول، وقد ناقشهم شيخ الإسلام في غير هذا الموضوع، من ذلك: "درء التعارض" 1/198ـ199، مجموع الفتاوى 19/228ـ234، 13/136ـ141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 المجهولات لا من المعقولات، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن من صفات الله تعالى ما قد يعلم بالعقل، كما يعلم أنه عالم، وأنه قادر، وأنه حيّ كما أرشد إلى ذلك قوله: {ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] . وقد اتفق النظّار من مثبتة الصفات على أنه يعلم بالعقل ـ عند المحققين ـ أنه حي عليم قدير مريد، وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل عند المحققين منهم. بل وكذلك الحب والرضا والغضب يمكن إثباته بالعقل. وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يُعلم بالعقل، كما أثبته بذلك الأئمة مثل أحمد بن حنبل وغيره، ومثل عبد العزيز المكي، وعبد الله بن سعيد بن كلاّب. بل وكذلك إمكان الرؤية يثبت بالعقل، لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته، ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه تمكن رؤيته، وهذه الطريق أصحّ من تلك. وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين، بتقسيم دائر بين النفي والإثبات، كما يقال إن الرؤية لا تتوقف إلاّ على أمور وجودية، فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم أحق به من الممكن المحدَث، والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظّار السنة في هذا الباب أنه لو لم يكن موصوفاً بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى، فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكَم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلاً فيه، فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى، وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات فتنزيه الخالق عنها أولى. وهذه الطريق غير قولنا: إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق فالخالق أولى، فإن طريق إثبات صفات كمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها. وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعتراض مشهور لبسوا به على الناس، حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته ويُضعف الإثبات به، مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الآمدي وأمثاله، مع أنه أصل قول القرامطة الباطنية وأمثالهم من الجهمية. فقالوا1: القول بأنه لو لم يكن متصفاص بهذه الصفات، كالسمع والبصر والكلام، مع كونه حيّاً لكان متصفاً بما يقابلها، فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة المتقابلَيْن وبيان أقسامهما. فنقول: أما المتقابلان فما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة، وهو إما أن لا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، أو يصح ذلك في أحد الطرفين: • فلأول: هما المتقابلان بالسلب والإيجاب، وهو تقابل التناقض، والتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما كقولنا: زيد حيوان، زيد ليس بحيوان، ومن خاصيته استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب، وأنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين [إلى الآخر] 2.   1 من هنا يبدأ النقل من الآمدي من كتابه "أبكار الأفكار"، انظر تعليق محقق "التدمرية" ص 152 هامش (1) . 2 إلى هنا انتهى النقل عن الآمدي حسب الموجود في المطبوع، وقد جزم محقق "التدمرية" بوقوع سقط كبير من الأصل، ومن ثم حاول تلاقيه بالنقل عن" أبكار الأفكار" للآمدي بقية نصه الذي تناوله شيخ الإسلام بالرد فيما يأتي من كلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337   وكذلك اجتهد المحقق في وضع بدايةٍ لرد شيخ الإسلام عليه، ولتكميل الفائدة ننقل هنا بقية كلام الآمدي، وبداية الوجه الأول من رد شيخ الإسلام، والذي اجتهد المحقق في صياغته. أولاً: بقية نص الآمدي: "والثاني ثلاثة أقسام: الأول: المتقابلان بالتضايف وهما اللذان لا تعقّل لكل واحد منهما إلا مع تعقُّل الآخر، كقولنا: زيد أب، زيد ابن، وخاصيتُه: توقف كل واحد من طرفيه على الآخر في الفهم. الثاني: المتقابلان بالتضاد: والمتضادان: كل أمرين يتصور اجتماعهما في الكذب دون الصدق، كالسواد والبياض. ومن خواصه: جواز استحالة كل واحد من طرفيه إلى الآخر في بعض صوره، وجواز وجود واسطة بين الطرفين، تمرّ عليه الاستحالة من أحد الطرفين على الآخر، كالصفرة والحمرة بين السواد والبياض. الثالث: تقابل العدم والمَلكَة، والمراد بالملكة هنا: كل معنى وجودي أمكن أن يكون ثابتاً للشيء، إما بحق جنسه، كالبصر للإنسان، أو بحق نوعه، ككتابة زيد، أو بحق شخصه، كاللحية للرجل. وأما العدم المقابل لها فهو ارتفاع هذه الملكة. ولما لم تكن ملكة البصر بالتفسير المذكور ثابتة للحجر؛ لا يقال له: أعمى ولا بصير، ومن خواص هذا التقابل، جواز اقتراب الملكة إلى العدم ولا عكس. فإن أريد بالتقابل ههنا تقابل التناقض بالسلب والإيجاب، وهو أنه لا يخلو من كونه سميعاً وبصيراً ومتكلماً أو ليس: فهو ما يقوله الخصم، ولا يقبل نفيه من غير دليل. وإن أريد بالتقابل تقابل المتضايفين: فهو غير متحقق ههنا، ومع كونه غير متحقق فلا يلزم من نفي أحد المتضايفين ثبوت الآخر، بل ربما انتفيا معاً، ولهذا يقال: زيد ليس بأب لعمرو ولا بابن له أيضاً. وإن أريد بالتقابل تقابل الضدين: فإنما يلزم أن لو كان واجب الوجود قابلاً لتوارد الأضداد عليه، وهو غير مسلَّم، وإن كان قابلاً فلا يلزم من نفي أحد الضدين وجودُ الآخر؛ لجواز اجتماعهما في العدم، ووجود واسطة بينهما، ولهذا يصح أن يُقال: الباري تعالى ليس بأسود ولا أبيض. وإن أريد بالتقابل تقابل العدم والملكة: فلا يلزم أيضاً من نفي الملكة تحقُقُ العدم ولا بالعكس إلا في محل يكون قابلاً لهما، ولهذا يصح أن يقال: الحجر لا أعمى ولا بصير. والقول بكون الباري تعالى قابلاً للبصر والعمى دعوى محل النزاع والمصادرة على المطلوب، وعلى هذا فقد امتنع لزوم العمى والخرس والطرش في حق الله تعالى من ضرورة نفي البصر والسمع والكلام عنه. ثانياً: بداية رد شيخ الإسلام على الأمدي حسب صياغة المحقق: والرد عليهم من وجوه: الوجه الأول: أن هذا التقسيم غير حاصر؛ فإنه يقال للموجود: إما أن يكون واجباً بنفسه، وإما أن يكون ممكناً بنفسه، وهذان ـ الوجوب والإمكان ـ لا يجتمعان في شيٍ واحد ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 من جهة واحدة، ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، إذ كون الموجود واجباً بنفسه لا يجتمعان ولا يرتفعان. فإذا جعلتم هذا التقسيم، وهما النقيضان مالا يجتمعان ولا يرتفعان، فهذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وليس هما السلب والإِيجاب. وحينئذٍ، فقد ثبت وصفان: شيئان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وهو خارج عن الأقسام الأربعة. وعلى هذا فمن جعل الموت معنى وجودياً فقد يقول: إن كون الشيء لا يخلو من الحياة والموت هو من هذا الباب. وكذلك العلم والجهل، والصمم، والبكم، ونحو ذلك. • الوجه الثاني: أن يقال: هذا التقسيم يتداخل، فإن العدم والملكة يدخل في السلب والإيجاب، وغايته أنه نوع منه، والمتضادين، وإنما هو نوع منه. فإن قال: أعني بالسلب والإيجاب [ما لا] يدخل [فيه] العدم والملكة، وهو أن يسلب عن الشيء ما ليس بقابل له. ولهذا جعل من خواصه أنه لا استحالة لأحد طرفيه إلى الآخر. المتضادين، وإنما هو نوع منه. قيل له: عن هذا جوابان: • أحدهما: أن غاية هذا أن السلب ينقسم إلى نوعين، أحدهما: سلب ما يمكن اتصاف الشيء به، والثاني: سلب ما لا يمكن اتصافه به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فيكون المراد به فيكون المراد به سلب الممتنع وإثبات الواجب، كقولنا: زيد حيوان، فإن هذا إثبات واجب، وزيد ليس بحجر، فإن هذا سلب ممتنع. وعلى هذا التقدير، فالممكنات التي تقبل الوجود والعدم، كقولنا: المثلث إما موجود وإما معدوم، يكون من قسم العدم والملكة، وليس كذلك، فإن ذلك القسم يخلو فيه الموصوف الواحد عن المتقابلين جميعاً، ولا يخلو شيء من الممكنات عن الوجود والعدم. وأيضاً فإنه على هذا التقدير، فصفات الرب كلها واجبة له، فإذا قيل: إما أن يكون حياً أو عليماً أو سميعاً أو بصيراً أو متكلماً، أو لا يكون كان مثل قولنا: إما أن يكون موجوداً وإما أن لا يكون، وهذا متقابل تقابل السلب والإيجاب، فيكون الآخر مثله، وبهذا يحصل المقصود. فإن قيل: هذا لا يصح حتى يُعلم إمكان قبوله لهذه الصفات. قيل له: هذا إنما [اشتُرِط] فيما أمكن أن يثبت له ويزول كالحيوان، فأما الرب تعالى فإنه بتقدير ثبوتها له فهي واجبة، ضرورة أنه لا يمكن أن يكون تارة حياً وتارة ميتاً، وتارة سميعاً، وهذا يوجب اتصافه بالنقائص، وذلك منتف قطعاً. بخلاف من نفاها، وقال: إن نفيها ليس بنقص، لظنه أنه لا يقبل الاتصاف بها، فإن من قال هذا لا يمكنه أن يقولك إنه مع إمكان الاتصاف بها لا يكون نفيها نقصاً. فإن فساد هذا معلوم بالضرورة. وقيل له أيضاً: أنت في تقابل السلب والإيجاب، إن اشترطت العلم بإمكان الطرفين لم يصح أن تقول: واجب الوجود غما موجود وإما معدوم، والممتنع الوجود إما موجود وإما معدوم، لأن أحد الطرفين هنا معلوم الوجوب، والآخر معلوم الامتناع. وإن اشترطت العلم بإمكان أحدهما صح أن تقول: إما أن يكون حياًُ وغما أن لا يكون، وإما أن يكون سميعاً بصيراً وإما أن لا يكون، لأن النفي إن كان ممكناً صح التقسيم، وغن كان ممتنعاً كان الإثبات واجباً، وحصل المقصود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فإن قيل: هذا يفيد أن هذا التأويل يقابل السلب والإيجاب ونحن نسلم ذلك، كما ذكر في الاعتراض، لكن غايته أنه إما سميع وإما ليس بسميع، وإما بصير وإما ليس ببصير، والمنازع يختار النفي. فيقال له: على هذا التقدير فالمثبَت واجب، والمسلوب ممتنع، فإما أن تكون هذه الصفات واجبة له، وإما أن تكون ممتنعة عليه، والقول بالامتناع لا وجه له إذ لا دليل عليه بوجه. بل قد يقال: نحن نعلم بالاضطرار بطلان الامتناع، فإنه لا يمكن أن يستدل على امتناع ذلك إلا بما يستدل به على إبطال أصل الصفات، وقد علم فساد ذلك، وحينئذٍ فيجب القول بوجوب هذه الصفات له. واعلم أن هذا يمكن أن يُجعل طريقة مستقلة في إثبات صفات الكمال له، فإنها إما واجبة له، وإما ممتنعة عليه، والثاني باطل فتعيَّن الأول، لأنه كونه قابلاً لها خالياً عنها يقتضي أن يكون ممكناً، وذلك ممتنع في حقه، وهذه طريقة معروفة لمن سلكها من النظار. • الجواب الثاني: أن يقال فعلى هذا إذا قلنا: زيد إما عاقل وإما غير عاقل، وإما عالم وإما ليس بعالم، وإما حي وإما غير حي، وإما ناطق وإما غير ناطق، وأمثال ذلك مما فيه سلب الصفة عن محل قابل لها، لم يكن هذا داخلاً في قسم تقابل السلب والإيجاب. ومعلوم أن هذا خلاف المعلوم بالضرورة، وخلاف اتفاق العقلاء، وخلاف ما ذكروه في المنطق وغيره. ومعلوم أن مثل هذه القضايا تتناقض بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى، فلا يجتمعان في الصدق والكذب، فهذه شروط التناقض موجودة فيها. وغاية فرقهم أن يقولوا: إذا قلنا: هو إما بصير وإما ليس ببصير، كان إيجاباً وسلباً، وإذا قلنا: هو إما بصير وإما أعمى، كان ملكة وعدماً. وهذا منازعة لفظية، وإلا فالمعنى في الموضعين سواء، فعلم أن ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 نوع من تقابل السلب والإيجاب، وهذا يبطل قولهم في حد ذلك التقابل: إنه لا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر، فإن الاستحالة هنا ممكنة كإمكانها إذا عبر بلفظ "العمى". • الوجه الثالث: أن يقال: التقسيم الحاصر أن يقال: المتقابلان إما أن يختلفا بالسلب والإيجاب، وإما أن لا يختلفا بذلك، بل يكونان إيجابيين أو سلبيين، فالأول هو النقيضان، والثاني: إما أن يمكن خلو المحل عنهما، وإما أم لا يمكن، والأول هما الضدان كالسواد والبياض، والثاني هما في معنى النقيضين وإن كانا ثبوتَين كالوجوب والإمكان، والحدوث والقدم، والقيام بالنفس والقيام بالغير، والمباينة والمجانبة، ونحو ذلك. ومعلوم أن الحياة والموت، والصمم والبكم والسمع، ليس مما إذا خلا الموصوف عنهما وصف بوصف ثالث بينهما كالحمرة بين السواد والبياض، فعُلم أن الموصوف لا يخلو عن أحدهما فإذا انتفى تعين الآخر. • الوجه الرابع: المحل الذي لا يقبل الاتصاف بالحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوها، أنقص من المحل الذي يقبل ذلك ويخلو عنها، ولهذا كان الحجر ونحوه أنقص من الحي الأعمى. وحينئذٍ، فإذا كان الباري منزها عن نفي هذه الصفات ـ مع قبوله لها ـ فتنزيهه عن امتناع قبوله لها أوْلى وأحرى، إذ بتقدير قبوله لها يمتنع منع المتقابلين، واتصافه بالنقائص ممتنع، فيجب اتصافه بصفات الكمال، وبتقدير عدم قبوله لا يمكن اتصافه لا بصفات الكمال ولا بصفات النقص، وهذا أشد امتناعاً، فثبت أن اتصافه لا بصفات الكمال ولا بصفات النقص، وهذا أشد امتناعاً، فثبت أن اتصافه بذلك ممكن، وأنه واجب له، وهو المطلوب، وهذا في غاية الحسن. • الوجه الخامس: أن يقال: أنتم جعلتم تقابل العدم والملكة فيما يمكن اتصافه بثبوت، فإن عنيتم بالإمكان الإمكان الخارجي، وهو أن يعلم ثبوت ذلك في الخارج، كان هذا باطلاً من وجهين: * أحدهما: أنه يلزمكم أن تكون الجامدات لا توصف بأنها لا حيّة ولا ميتة، ولا ناطقة ولا صامتة، وهو قولكم، لكن هذا اصطلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 محض، وإلا [فالعرب] يصفون هذه الجمادات بالموت والصمت. وقد جاء القرآن بذلك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * آمْوَاتٌ غَيْرُ أحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20ـ21] ، فهذا في الأصنام وهي من الجمادات، وقد وصفت بالموت. والعرب تقسم الأرض إلى الحيوان والمَوَتان ولا تَشْتَر الحيوان، أي: اشتر الأرضين والدّور، ولا تشتر الرقيق والدّواب. وقالوا أيضاً: المَوَات: ما لا روح فيه. فإن قيل: فهذا إنما سمي مواتاً باعتبار قبوله للحياة، التي هي إحياء الأرض. قيل: وهذا يقتضي أن الحياة أعم من حياة الحيوان، وأن الجماد يوصف بالحياة إذا كان قابلاً للزرع والعمارة. واخرس ضد النطق، والعرب تقول: لبن أخرس، أي خائر لا صوت له في الإناء، وسحابة خرساء، ليس فيها رعد ولا برق، وعَلَم أخرس، إذا لم يُسمع له في الجبل صوت صدى، ويقال كتيبة خرساء، قال أبو عبيد: هي التي صمتت من كثرة الدروع ليس لها قعاقع. وأبلغ من ذلك الصمت والسكوت، فإنه يوصف به القادر على النطق إذا تركه، بخلاف الخرس، فإنه عجز عن النطق، ومع هذا فالعرب تقول: ماله صامت ولا ناطق، فالصامت الذهب والفضة، والناطق الإِبل والغنم، والصامت من اللبن: الخاثر، والصَّمُوت: الدرع التي إذا صُبَّت لم يسمع لها صوت. ويقولون: دابة عجماء، وخرساء، لما لا ينطق ولا يمكن منه النطق في العادة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العجماء جبار"1.   1 متفق عليه: صحيح البخاري (3/364 برقم 1499) وصحيح مسلم (3/1334ـ 1335 برقم1710) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وكذلك في العمى، تقول العرب: عَمَى الموجُ يَعْمِي عَمْياً إذا رمى القذى والزَّبَدَ، والأعميان: السيل والجمهل الهائج، وعَمِيَ عليه الأمر إذا التبس، ومنه قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الآنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} [القصص: 66] . وهذه الأمثلة قد يقال في بعضها: إنه عدم ما يقبل المحل الاتصاف به كالصوت ولكن فيها ما لا يقبل كموت الأصنام. * الثاني: أن الجامدات يمكن اتصافها بذلك، فإن الله سبحانه قادر أن يخلق في الجمادات حياة، كما جعل عصا موسى حيّة تبلع الحبال والعصي. وإذا في إمكان العادات كان ذلك مما قد علم بالتواتر، وأنتم أيضاً قائلون به في مواضع كثيرة. وإذا كان الجمادات يمكن اتصافها بالحياة وتوابع الحياة ثبت أن جميع الموجودات يمكن اتصافها بذلك، فيكون الخالق أوْلى بهذا الإمكان. وإن عنيتم الإمكان الذهني، وهو عدم العلم بالامتناع فهذا حاصل قي حق الله، فإنه لا يعلم امتناع اتصافه بالسمع والبصر والكلام. • الوجه السادس: أن يقال: هب أنه لابد من العلم بالإمكان الخارجي، فإمكان الوصف للشيء يُعلم تارة بوجوده له، أو بوجوده لنظيره، أو بوجوده لما هو الشيء أوْلَى بذلك منه. ومعلوم أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام ثابتة للموجودات المخلوقة، وممكنة لها، فإمكانها للخالق تعالى أوْلَى وأحرى، فإنها صفات كمال، وهو قابل للاتصاف بالصفات، وإذا كانت ممكنة في حقه فلو لم يتصف بها لا تصف بأضدادها. • الوجه السابع: أن يقال: مجرد سلب هذه الصفات نقص لذاته، سواء سميت عمى وصمماً وبكماً، أو لم تسم، والعلم بذلك ضروري، فإنا إذا قدرنا موجودَين، أحدهما يسمع ويبصر ويتكلم، والآخر ليس كذلك كان الأول أكمل من الثاني. ولهذا عاب الله سبحانه من عبد ما تنتفي فيه هذه الصفات، فقال تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 عن إبراهيم الخليل: {يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [الأنبياء: 63] ، وقال أيضاً في قصته: {فَاسْألُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] ، وقال تعالى عنه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أوْ يَنْفَعُونَكُمْ أوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أفَرَآيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 72ـ77] . وكذلك في قصة موسى في العجل: {ألَمْ يَرَوْا آنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148] ، وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُمَا أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] ، فقابل بين الأبكم العاجز وبين الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم". معاني الكلمات: مما دل عليه السمع: أي الكتاب والسنة. يعلم بالعقل: أي يعرف بالأدلة العقلية. الأمثال: المثل: ما يضرب به من الأمثال. عناصر الموضوع: 1ـ موضوع القاعدة السابعة: موضوع القاعدة السابعة مسألتان هما: أـ دلالة العقل على ما يدل عليه النقل. ب ـ مناقشة المعطلة في شبهة التقابل إذ على أثرها أنكروا الصفات. 2ـ على من يرد شيخ الإسلام بهذه القاعدة: يرد شيخ الإسلام بهذه القاعدة على عامة المعطلة في دعواهم أن الصفات لا يدل عليها العقل، فالأشعرية نفت جميع الصفات ما عدا سبع زعموا أنها دل عليها العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 3ـ الصلة بين القاعدتين السادسة والسابعة: بعد أن تكلم شيخ الإسلام في القاعدة السادسة عن الضابط الصحيح في النفي والإثبات ونقد المخالفين الذين خالفوا هذا الضابط سواء في التنزيه بنفي التجسيم ناسب أن يبين أن الضابط الصحيح في النفي والإثبات هو متلقى عن السمع وأنه قد دل عليه العقل، فكثير من العقائد التي أثبتت بالسمع تعرف بالعقل. 4ـ شرح القاعدة السابعة: يبين شيخ الإسلام أن العقل يثبت ما أثبته السمع، فكثير مما أثبته السمع يعرف بالعقل أيضاً، فمثلاً دل السمع على وحدانية الله وعلمه وقدرته وصدق النبوة والمعاد، وأرشد السمع العقل إلى معرفة وحدانية الله وقدرته بدلالات كثيرة منها: أـ دلالة الآيات العيانية كالسموات والأرض والجبال والأنهار والشمس والقمر، كما قال تعالى: {أمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ آنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] . ب ـ وكذلك دلالة الأنفس كما قال تعالى: {وَفِي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] . ج ـ وأرشد العقل إلى معرفة علمه وبأحكامه للمخلوقات قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38] . د ـ ودل ـ سبحانه ـ على صدق نبوة أنبيائه ببيان معجزاتهم، ونصر الله لهم، وتمكينه للدين الذي جاؤوا به. هـ ـ ودل على المعاد والبعث وإمكانه بثلاثة طرق عقلية: أولها: الوقوع كما في حق الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال تعالى: {فَأمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ثانيهما: وقوع النظير، فالنشأة الأولى، تشبه البعث وإن لم تكن مطابقة له من كل وجه كما في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] . ثالثها: وقوع ما هو أبلغ منه، فخلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] ، فلذلك فإن هذه المطالب شرعية وعقلية وذلك من جهتين: أـ لأن الشارع أخبر بها. ب ـ أنها تعلم وتدرك بالعقل. وجميع الأمثال المضروبة في القرآن عقلية مع كونها شرعية1. 5ـ ما تدور عليه هذه القاعدة: مدار هذه القاعدة ومحورها على موضوعين أساسيين: أـ أن كثيراً مما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضاً، والقرآن يبين ما يستدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه. ب ـ مناقشة المعطلة في نفيهم الصفات بشبهة التقابل، سيأتي الحديث عنها مفصلاً. 6ـ الصفات لا تُثبت بالعقل وحده: صفات الله توقيفية أي يتوقف على ما ورد في الكتاب والسنة ولا مجال للعقل فيها غلا تأييد ما دل عليه السمع من الصفات، فلا نثبت لله من الصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته، ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه: أـ التصريح بالصفة كالعزة والقوة والرحمة والبطش والوجه واليدين ونحوها.   1 التوضيحات الأثرية لأبي العالية ص 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ب ـ تضمن الاسم لها مثل الغفور متضمن للمغفرة، والسميع متضمن للسمع ... وهكذا. ج ـ التصريح بفعل أو وصف دال عليها كالاستواء على العرش وانزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة والانتقام من المجرمين الدال عليها الترتيب التالي1: 1ـ قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . 2ـ قوله عليه السلام: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" [رواه مسلم 2/176،175] . 3ـ قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] . 4ـ قوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة:22] . 7 ـ السلف يعملون العقل ولا يهملونه بل يعملونه في عالم الشهادة، لا في عالم الغيب إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل، ولا يثبتون بالعقل حكماً شرعياً فعندهم للعقل مع الشرع حالتان لا ثالث لهما: • الأولى: أن يدل على ما دل عليه الشرع فيكون شاهداً أو مؤيداً ومصدقاً، فيحتجون حينئذٍ بدلالة العقل على من خالف الشرع، وفي القرآن من هذا النوع شيء كثير كأدلة التوحيد والنبوة والمعاد، فتلك الأدلة هي عقلية شرعية. قال ابن تيمية: (إن كثيراً مما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضاً، والقرآن يبين ما يستدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه كما ذكر الله ذلك في غير موضع. فإن الله سبحانه بين من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه   1 القواعد المثلى، ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وغير ذلك مما أرشد العباد إليه ودلهم عليه، كما بين أيضاً ما دل على نبوة أنبيائه، وما دل على المعاد وإمكانه فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع اخبر بها. ومن جهة أنه بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها، والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وقد بسطت في غير موضع، وهي أيضاً عقلية من جهة أن تعلم بالعقل أيضاً. • الثانية: أن لا يدل على ما دل عليه الشرع لا نفياً ولا إثباتاً، فحكم العقل إذاً جواز ما جاء به الشرع. أما أن يدل العقل على خلاف ما جاء به الشرع فيكون معارضاً له، فهذا ما لا يكون مع صحة النقل، ولهذا قال أهل السنة: إن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، وقالوا إن الرسل جاؤوا بمحارات العقول لا بمحالات العقول. أي أن الرسل لا يخبرون بما يحيله العقل، ولكن يخبرون بما يجيزه العقل ويحار فيه وهذا تحديد موقف أهل السنة من العقل مع الشرع. 8 ـ ذكر شيء من ضلال المتكلمين في تقديم العقل على النقل: أـ ظنهم أن وجود الرب لا يثبت إلا بسلوك طرقهم العقلية. ب ـ ظنهم أن الرسول عليه السلام لا يعلم صدقه إلا بالأدلة العقلية التي سلكوها. ج ـ ظنهم أن ما عارضوا به الأدلة السمعية معلوم بالعقل. 9 ـ الغرض من عقد الشيخ القاعدة السابعة: الغرض من ذلك أن من صفات الله ما قد يُعلم بالعقل ويذكر من الطرق العقلية التي يسلكها نُظار السنة في إثبات الصفات أنه سبحانه لو لم يكن موصوفاً بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالقدرة لوصف بالعجز … إلخ وأنه اعترض على هذه الطريقة باعتراض مشهور. مفاده قالوا: "القول بأنه لو لم يكن متصفاً بهذه الصفات السمع والبصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 والكلام مع كونه حياً؛ لكان متصفاً بما يقابلها فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة المتقابلين وبيان أقسامه" وقد رد عليه الشيخ رداً موسعاً من سبعة أوجهٍ وإليك مختصرة: أـ المتقابلان ما لا يجتمعان في شيء واحدٍ من جهة واحدة، ثم فصَّل الكلام في ذلك. ب ـ أن هذا التقسيم يتداخل، فإن العدم والملكة يدخل في السلب والإيجاب، وهو نوع منه، والمتضايفان يدخلان في المتضادين وإنما هو نوع منه. ج ـ أن يقال التقسيم الحاصر أن يقال: المتقابلان إما أن يختلفا بالسلب والإيجاب وغما أن لا يختلفا بذلك، بل يكونان إيجابيين أو سلبيين فالأول هو النقيضان، والثاني: إما أن يمكن خلو المحل عنهما وإما أن لا يمكن ثم وضَّحه بالأمثلة. د ـ المحل الذي لا يقبل الاتصاف بالحياة والقدرة ونحوها أنقص من المحل الذي يقبل ويخلو عنها وحينئذٍ، فإذا كان الباري منزهاً عن نفي هذه الصفات مع قبوله لها، فتنزيهه عن امتناع قبوله لها أولى وأحرى إذ يجب اتصافه بصفات الكمال. هـ ـ أن يقال أنتم جعلتم تقابل العدم والملكة فيما يمكن اتصافه بثبوت، فإن عنيتم بالإمكان الإمكان الخارجي كان هذا باطلاً لوجهين: • الأول: أنه يلزمكم أن يكون الجامدات لا توصف بأنها حية ولا ميتة وهو قولكم. • الثاني: أن الجمادات يمكن اتصافها بذلك فإن الله سبحانه قادر أن يخلق في الجمادات حياة كما جعل عصا موسى حية، وإن عنيتم الإمكان الذهني فهذا حاصل في حق الله. وـ أن الحياة والعلم ثابتة للموجودات المخلوقة وممكنة فإمكانها للخالق أولى وأحرى وهو قابل للاتصاف بالصفات، وإذا كانت ممكنة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 حقه فلولم يتصف بها لا تصف بأضدادها. زـ مجرد سلب هذه الصفات نقص لذاته سواء سميت عمى وصمماً وبكماً أو لم تسم والعلم بذلك ضروري، ولهذا عاب الله من عبد ما تنتفي فيه هذه الصفات. 10ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (وقيل له أيضاً: أنت في تقابل السلب والإيجاب ... ) أقول: لقد سبق أن شرحنا: أنواع التقابل كما هي في كتب المنطق: وأعيدها هنا للإيضاح: فأقول: التقابل أنواع: أـ نوع يسمى تقابل الإيجاب والسلب: أو تقابل النقيضين وهذا التقابل لا يتحقق إلا بين الشيئين اللذين لا يجوز رفعهما ولا يجوز جمعها ويكون أحدهما وجودياً والآخر عدمياً، أي يكون أحدهما إيجابياً والآخر سلبياً نحو الإنسان واللا إنسان. والداخل واللا داخل والخارج واللا خارج. ب ـ ونوع يسمى تقابل التضاد: وهذا التقابل يكون في شيئين وجوديين بحيث لا يجوز الجمع بينهما ولكن يجوز رفعهما نحو الحجر والشجر، والإنسان والحمار والسماء والأرض ويسمى المتضادين أيضاً. ج ـ تقابل التضايف: وهو لا يحقق إلا في شيئين وجوديين، ولكن أحدهما لا يتصور بدون الآخر. نحو الأب والابن، فالأب لا يكون أبا إلا إذا كان له ابن، وكذا الابن لا يكون ابناً إلا إذا كان له أب. د ـ تقابل العدم والملكة: وهذا التقابل لا يتحقق إلا في شيئين أحدهما وجودي وهو الملكة أي أمر محبوب وصفة كمال، والثاني عدمي أي أمر غير محبوب وصفة نقص نحو البصر والعمى. ويكون محل الوجودي صالحاً للعدمي وبالعكس أيضاً. فالبصر ملكة وصفة كمال وهو شيء وجودي والعمى صفة نقص وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 شيء عدمي، ومحل الوجودي ـ وهو الرجل البصير ـ صالح للعمى لأنه يمكن أن يصير الرجل البصير أعمى، وكذلك بالعكس، لأنه يمكن أن يصير الرجل البصير أعمى، وكذلك بالعكس، لأنه يمكن أن يصير الرجل الأعمى بصيراً. 11 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ (الوجه الثالث أن يقال: التقسيم الحاصر، وأن يقال: المتقابلان إما أن يختلف بالسلب والإيجاب ... ) . أقول: حاصل هذا الكلام: أن المتقابلين إن كانا وجوديين أو كانا سلبيين (عدميين) أو كان أحدهما وجودياً والآخر سلبياً (عدمياً) . فإن كانا وجوديين: فإن أمكن خلو المحل منهما. فهما ضدان: نحو البياض والسواد، والحجر والشجر؛ لأنه يجوز أن يكون هذا اللون لا أبيض ولا أسود بل يكون أحمر ويكون هذا الشيء لا حجراً ولا شجراً بل يكون إنساناً. وإن لم يمكن خلو المحل منهما، بل كانا بحيث لا يجوز اجتماعهما معاً، ولا نفيهما معاً فهما نقيضان عند أهل اللغة وأهل السنة وإن كانا وجوديين: كالوجود والإمكان والحدوث والقدم والدخول والخروج والاتصال والانفصال والمباينة والمماسة فهذه الأمور وإن كانت وجودية إيجابية ثبوتية، ولكن لا يمكن رفعهما معاً ولا إثباتهما معاً كالنقيضين عند المناطقة والمتكلمين والجهمية. وإن كانا وجوديين أيضاً ولكن كان تصور أحدهما موقوفاً بتصور الآخر: فهما متضائفان، نحو الابن والأب. وإن كانا سلبيين: نحو اللا إنسان واللا حجر: فهذا النوع لا تسمية له عندهم، ولكن قد يكون بينهما تصادقاً. نحو الكتاب فالكتاب لا إنسان ولا حجر. وقد لا يكون ذلك، نحو الإنسان، فإنه لا يقال له: هذا لا إنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ولا حجر. بل يقال: إنسان ولا حجر، والحجر لا يقال له: هذا لا إنسان ولا حجر. بل يقال: حجر ولا إنسان. وإما أن يكون أحدهما وجودياً والآخر سلبياً، بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان، فهما نقيضان أيضاً: نحو الإنسان واللا إنسان. 12 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ (الوجه السادس: أن يقال: هب أنه لا بد من العلم بالإمكان الخارجي ... ) قصد شيخ الإسلام: أنه لابد في باب اتصاف الله تعالى أن نعلم أن ثبوت الصفات له تعالى ممكن بالإمكان الخارجي أي ليس ذلك مجرد الإمكان الذهني فقط، بل يكون من الأمور الممكنة الواقعة في الخارج. لأن إمكان الوصف لأي شيء لا يعلم إلا بثلاثة طرق: 1ـ إما أن يوجد ذلك الوصف لهذا الشيء في الخارج الواقع. 2ـ أو أن يوجد ذلك الوصف لنظير ذلك الشيء في الخارج الواقع. 3ـ أو أن يجيء ذلك الوصف لما هو أولى. مثال ذلك صفة الكلام في الإنسان صفة كمال فإذا ثبت ذلك الوصف لمن هو أدنى، فإثباتهما لمن هو فوق أولى وذلك بالأدلة العقلية. الحاصل: أن شيخ الإسلام يقول: إن صفة الكلام صفة خارجية توجد في الخارج عند الموصوفين بها. وذلك أن زيداً موصوف بهذه الصفة فعلمنا اتصافه بها لأجل المشاهدة، وكذا نرى أن عمراً أو بكراً أو خالداً موصوفون بذلك، فزيد أيضاً يتصف بذلك لأنه ممكن لأن زيداً من جنس عمر وكذا إذا نظرنا أن الطفل يتصف بهذا الوصف ويتكلم فالكبير يتصف بهذه الصفة بالطريق الأولى، فالإنسان إذا اتصف بصفة كمال فالله أولى أن يتصف بها؛ وهذا البرهان يسمى بقياس الأَوْلَى عند شيخ الإسلام؛ كما يسمى بدلالة النص عند الأصوليين. ومثال ذلك: أن الله تعالى نهى عن "الأف" للوالدين؛ فالنهي عن شتمهما وضربهما بالطريق الأوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 13 ـ الأسئلة والأجوبة الواردة على القاعدة السابعة: س1 ـ دلل على أن كثيراً مما أثبته السمع يعرف بالعقل؟ ج ـ الدليل على ذلك: أولاً: دا السمع على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلمه، وقدرته، وصدق النبوة، والمعاد، ثم بين للعقل طرق الاستدلال عليه؛ فمثلاً: أرشد السمع العقل إلى معرفة الله ـ تعالى ـ ووحدانيته بدلالات كثيرة؛ منها: 1 ـ دلالة الآيات العيانية؛ كالسموات والأرض والجبال والأنهار والشمس والقمر؛ كما قال تعالى: {أمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] . 2 ـ وكذلك دلالة الأنفس؛ كما في قوله سبحانه: {وَفِي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 51] . 3 ـ وأرشد العقل إلى معرفة علمه بإحكامه للمخلوقات: ما في قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38] . 4 ـ ودلل على المعاد والبعث وإمكانه بثلاث طرق عقلية: أواها الوقوع كما في حق الرجل الذي مر على القرية وهي خاوية فقال تعالى: {فَأمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 258] . وثانياً: وقوع النظير كالنشأة الأولى فإنها تشبه البعث وإن لم تكن مطابقة له من كل وجه كما في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] . وثالثاً: وقوع ماهو أبلغ منه فخلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] . س2 ـ اذكر بعض الأصول العقلية عند المتكلمين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ج ـ من الأصول العقلية عند المتكلمين: 1ـ التحسين والتقبيح؛ أي أن العقل يحسن الأشياء ويقبحها، وما حكم العقل بحسنه وجب فعله، وما حكم بقبحه حرم فعله. 2ـ لا يمكن إثبات النبوة إلا بالتحسين والتقبيح. 3ـ التكذيب بالقدر مما يقتضيه العقل. 4ـ حدوث العالم. 5ـ لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة؛ لظنهم أن العقل عارض السمع ـ وهو أصله ـ فيجب تقديمه عليه، والسمع إما أن يؤول، وإما أن يفوض. س3ـ بين وجوه ضلال المتكلمين في تلك الأصول؟ ج ـ أن هذه الطوائف تضل من وجوه: 1ـ ظنهم أن الشرع خبر مجرد، وليس الأمر كذلك، بل بيَّن القرآن كثيراً من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية. 2ـ ظنهم أن الرسول لا يعرف صدقه إلا بطريقتهم تلك؛ وهذا خطأ، بل طرق العلم بصدق الرسول كثيرة جداً فإذا ثبت بالقرآن صدقه، فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعى إليه من الأمور الغائبة عن حواسنا. 3ـ ظنهم أن تلك الطرق صحيحة مع أنها قد تكون باطلة. 4ـ ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل؛ وهو غلط: فإن العقل لا يعارض السمع، وإنما يعارض الكتاب والسنة المجهولات لا المعقولات. س4ـ اذكر أمثلة لصفات الله التي تعرف بالعقل؟ ج ـ1ـ من الصفات التي تعرف بالعقل: قوله تعالى: {ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] أثبت الله خلقه للخلق، وهذا يرشدنا إلى اتصافه بالعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 والقدرة والحياة، فإنه لا يخلق إلا قادر على الخلق عالم بما سيخلقه ولا يكون ذلك إلا من حي. 2ـ اتفاق النظار أي المتكلمين من الأشاعرة على ان الصفات السبع تعلم بالعقل أي أنه ـ سبحانه ـ عالم، وقادر، وحي، وسميع، وبصير. 3ـ ويثبت بالعقل كذلك: الحب، والرضى، واغضب، وعلوه ـ تعالى ـ على المخلوقات، وإمكان الرؤية. س5ـ اذكر الطرق العقلية العامة في إثبات صفات الكمال لله؟ ج ـ هناك طريقتان لإثبات الكمال: 1ـ إثبات صفات الكمال بنفي ما يناقضها. وذلك بأن يقال: لولم يكن متصفاً بصفات الكمال لكان موصوفاً بضدها، فلو لم يوصف بالحياة والسمع مثلاً لكان موصوفاً بالموت والصمم. 2ـ إثبات صفات الكمال بأنفسها. بأن يقال: كل كمال اتصف به المخلوق فالخالق أولى به، وهذا ما سبق تسميته بقياس الأولى. س6ـ في شبهة التقابل المشهورة، اذكر الأجوبة باختصار؟ ج ـ الأجوبة السبعة باختصار: 1ـ التقسيم إلى أربعة أقسام منقوض بالوجوب والإمكان، فهما وجوديان ومع ذلك لا يجتمعان ولا يرتفعان، فلم ينطبق عليهم حد النقيضين ولا الضدين. 2ـ الأقسام الأربعة تتداخل، فالملكة والعدم تدخل في النقيضين، والمتضايفان يدخلان في الضدين. 3ـ التقسيم الصحيح أن يقال: المتقابلان: إما نقيضان، وهما السلب والإيجاب، أو ضدان، أو في معنى النقيضين، وهما ما لا يمكن خلو الشيء عنهما مع كونهما وجوديين كالإمكان والوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 4ـ المحل الذي لا يقبل الصفات أنقص من المحل الذي يقبلها مع عدمها. 5ـ لا يسلم أن تكون الجمادات مثلاً لا يمكن قبولها للصفات؛ فالإمكان قسمان: ذهني وهذا لا يمتنع، وخارجي: وهذا منقوض بأمرين: أـ ورود وصفها بالموت والعجمة والخرس لغة وشرعاً. ب ـ إمكان ذلك بقدرة الله كعصا موسى. 6ـ هذه الصفات كمال في حق المخلوق؛ فالخالق أولى بها فتكون واجبة في حقه. 7ـ مجرد نفي هذه الصفات نقص لذاته؛ لذلك ذم الله المشركين لعبادتهم آلهة لا تسمع، ولا تبصر ولا تتكلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الفصل الثاني: الأصل الثاني " الشرع والقدر " الأصل الثاني: الشرع والقدر ... الأصل الثاني الشرع والقدر قال شيخ الإسلام: "وأما الأصل الثاني، وهو التوحيد في العبادات المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعاً؛ فنقول: إنه لابد من الإيمان بخلق الله وأمره، فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وقد علم ما سيكون قبل أن يكون وقدر المقادير وكتبها حيث شاء، كما قال تعالى: {ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء"1. ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده لا شريك له، كما خلق الجن والإنس لعبادته، وبذلك أرسل رسله وأنزل كتبه. وعبادته تتضمن كمال الذل له والحب له، وذلك يتضمن كمال طاعته ومن يُطع الرسول فقد أطاع الله؛ وقد قال تعالى: {وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا   1 أخرجه مسلم في صحيحه (4/2044 برقم 2653) في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] . وقد قال تعالى: {وَاسْألْ مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ..} [الشورى: 13] ، وقال تعالى: {يا أيها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51ـ52] ، فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إنَّا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء إخوةٌ لعَلاّت، وأنا أوْلى الناس بابن مريم؛ لأنه ليس بيني وبينه نبي"1. وهذا الدين هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله ديناً غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، قال تعالى عن نوح: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَآ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأجْمِعُوا أمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ آمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَألْتُكُمْ مِنْ أجْرٍ إِنْ أجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71ـ72] . وقال عن إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أسْلِمْ قَالَ أسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130ـ132] . وقال عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى يقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] .   1 انظر الحديث في صحيح البخاري (6/478 برقم 3443) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وقال في خبر المسيح: {وَإِذْ أوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] . وقال فيمن تقدم من الأنبياء: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] . وقال عن بلقيس أنها قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] . فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده. وهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون بأن يُطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخرة، ثم أمر ثانياً باستقبال الكعبة، كان كل من الفعلين حين أمر به داخلاً في دين االلإسلام، فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين، وإنما تنوّع بعض صور الفعل وهو وجهة المصلّي، فكذلك الرسل دينهم واحد، وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجهة والمنسك، فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدِّين واحداً، كما لم يمنع ذلك في شرعة الرسول الواحد. والله تعالى جعل من دين رسل أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، قال تعالى: {وَإِذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أأقْرَرْتُمْ وَأخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يبعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بُعث محمَّد وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمَّد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه1. وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] . وجعل الإيمان بهم متلازماً، وكفَّر من قال: إنه آمن ببعض وكفر ببعض، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ آنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150ـ151] . وقال تعالى: {أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى آشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] ، وقد قال لنا: {قُولُوا أمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 136ـ137] ، فأمرنا أن نقول: آمنا بهذا كله ونحن له مسلمون، فمن بلغته رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلماً ولا مؤمناً بل يكون كافراً، وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن. كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ، فقالوا: لا نحج، فقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] .   1 أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره (6/555، 556) نحواً من هذا الأثر وانظر تفسير ابن كثير 2/17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فإن الاستسلام لله لا يتم إلا بإقرار بما له على عباده من حج البيت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمَّداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت"1، ولهذا لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة أنزل الله تعالى: {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} 2 [المائدة: 3] . وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا؟ وهو نزاع لفظي، فإن الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمَّداً صلى الله عليه وسلم، المتضمن لشريعة القرآن ـ ليس عليه إلا أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم، والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا، وأما الإسلام العام، المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبياً من الأنبياء ـ فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء. ورأس الإسلام مطلقاً شهادة أن لا إله إلا الله، وبها بعث الله جميع الرسل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً آنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ، وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26ـ 28] ، وقال تعالى عنه: {قَالَ أفَرَأيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75ـ 77] وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] ، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] . وذكر عن رسله: كنوح وهود وصالح وغيرهم انهم قالوا لقومهم:   1 متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: صحيح البخاري (1/9 برقم8) 2 أخرجه البخاري في صحيحه (1/105 برقم45) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59، 65، 73] ، وقال عنهم أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 13ـ15] ، وقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48،116] ذكر ذلك في موضعين من كتابه. وقد بين في كتابه الشرك بالملائكة، والشرك بالأنبياء، والشرك بالكواكب، والشرك بالأصنام ـ وأصل الشرك، الشرك بالشيطان ـ فقال عن النصارى: {اتَّخَذُوا أحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلآ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:21] ، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أنْتَ عَلآمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 116ـ117] ، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أرْبَابًا أيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79ـ80] ، فبيّن أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كُفْرٌ. ومعلوم أن أحداً من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان أو المسيح ابن مريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض، بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلهاً مساوياً لله في جميع صفاته، بل عامة المشركين بالله مقرّون بأنه ليس شريكه مثله، بل عامتهم مقرّون أن الشريك مملوك له سواء كان ملكاً أو نبياً أو كوكباً أو صنماً، كما كان مشركو العرب يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فأهلّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، فقال: "لبيك اللهم لبيك، [لبيك] لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" 1. وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات، فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل له في جميع الصفات، بل من أعظم ما نقلوا في ذلك قول الثنوية، الذين يقولون بالأصلين: النور والظلمة، وأن النور خلق الخبر، والظلمة خلقت الشر، ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين: أحدهما أنها محدثة، فتكون من جملة المخلوقات له، والثاني أنها قديمة، لكنها لم تفعل إلا الشر، فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بيّنه في كتابه، فقال تعالى: {وَلَئِنْ سَألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أفَرَأيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أوْ أرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] ، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 ـ 89] إلى قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91] ، وقد قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] . وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى (التوحيد) ، فإن عامة المتكلمين الذين يقرّرون التوحيد في كتب الكلام والنظر ـ غايتهم أن يجعلوا   1 أخرجه مسلم في صحيحه (2/843 برقم 1185) و (2/886ـ892) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث: وهو توحيد الأفعال وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى قد يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع. ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمَّد صلى الله عليه وسلم أولاً ـ لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرّون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا مقرين بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون". معاني الكلمات: التوحيد: هو إفراد الله ذاتاً وصفة وفعلاً، وأنه مستحق وحده للعبادة والمقصود به هنا إفراد الله بالعبادة. العبادات: هي الذل والخضوع لله سبحانه، وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهي متضمنة كمال الذل والمحبة لله، ويترتب على ذلك كمال الطاعة لله وطاعة رسوله. الشرع: هو الإيمان بأنه تعالى شرع الشرائع وخلق الخلق لعبادته. القدر: تقدير الله لما كان وما يكون أزلاً وأبداً وأنه كتبه في اللوح المحفوظ وأوجده على حسب علمه السابق. عناصر الموضوع: 1ـ موضوع الأصل الثاني: موضوع الأصل الثاني هما أصلان عظيمان يجب الإيمان بهما: • الأصل الأول: الإيمان بشرع الله، وأنه تعالى شرع الشرائع وأرسل الرسل وخلق الخلق لعبادته. (ويسمى توحيد الألوهية وهذا توحيد العبادة) . • الأصل الثاني: الإيمان بأن الله خالق كل شيء، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذا هو القدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 2ـ الصلة بين الأصلين: (الأول والثاني) تقدم أن موضوع الرسالة التدمرية هو الكلام في أصلين عظيمين: الأول: التوحيد والصفات. والثاني: الشرع والقدر. فبيَّن المؤلف في الأصل الأول ما يجب على العباد أن يعتقدوه في الله نفياً وإثباتاً، ورد على المخالفين في ذلك من المعطلة والممثلة، فناسب أن يبين في الأصل الثاني ما يجب على العباد من حق الله الذي من أجله خلق الثقلين الإنس والجن وأرسل الرسل وأنزل الكتب. 3ـ عَلاَمَ يدور عليه الأصل الثاني؟: مدار الأصل الثاني على مسألتلا: 1ـ الإيمان بربوبية الله تعالى الشاملة، وأنه خالق كل شيء، وأن ما شاء كان وما لم يشأ يكن. 2ـ الإيمان بأنه خلق الخلق لعبادته. 4ـ على من يرد شيخ الإسلام بالأصل الثاني؟: يرد شيخ الإسلام بهذا الأصل على طائفتين: أـ المنحرفون في الشرع وهم المتكلمون والمتصوفة. ب ـ المنحرفون في القدر من القدرية والجبرية والصوفية. 5ـ الإيمان بالقدر والشرع من تمام الإيمان بالله: إن من تمام الإيمان بربوبية الله الإيمان بأن الله خالق كل شيء وأنه ربه ومليكه وأنه ما شاء كان ومالم يشأ يكن، وأنه المتصرف في خلقه، وكذا الإيمان بأنه المستحق وحده للعبادة وهذا هو دين الأنبياء جميعهم، وهو الإسلام: وهو الاستسلام لله بالطاعة وإفراده بالعبادة والخلوص من الشرك، قال تعالى عن نوح: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] ، وقال عن يعقوب: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 6ـ ضرورة الإيمان بالقدر والشرع: الإيمان بالقدر والشرع أحد أركان الإيمان بالستة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل حين سأله عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" (أخرجه مسلم 8/1) . فلا بد للإنسان من الإيمان بالقدر لأنه أحد أركان الإيمان الستة، ولأنه من تمام توحيد الربوبية، ولأنه به تحقيق التوكل على الله وتفويض الأمر إليه مع القيام بالأسباب الصحيحة النافعة، ولأن به اطمئنان الإنسان في حياته حيث يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولأنه ينتفي الإعجاب بالنفس عند حصوله المراد؛ لأنه يعلم أن حصوله بقدر الله وإنَّ عمله الذي حصل به مراده ليس إلا مجرد سبب يسره الله له، ولأن به يزول القلق والضجر عند فوات المراد، أو حصول المكروه، لأنه يعلم أن الأمر كله لله فيرضى ويسلم، وإلى هذين الأمرين يشير قوله تعالى: {مَا أصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أنْفُسِكُمْ إِلآ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22ـ23] . ولابد للإنسان أيضاً من الإيمان بالشرع وهو ما جاءت به الرسل من أمر الله ونهيه، وما يترتب عليهما من الجزاء ثواباً أو عقاباً، فيقوم بما يلزمه نحو الأمر والنهي، ويؤمن بما يترتب عليهما من الجزاء. وذلك لأن الإنسان مريد فلا بد له من فعل يدرك به ما يريد، ويدفع به ما لا يريد، ولا بد له من ضابط يضبط تصرفه لئلا يقع فيما يضره، أو يفوته من حيث لا يشعر، والشرع الإلهي الذي جاءت به الرسل هو الذي يضبط ذلك، ويصدر الحكم الذي به التمييز بين النافع والضار، والصالح والفاسد، لأنه من عند الله العليم الرحيم الحكيم. والعقول وإن كانت تدرك النافع والضار في الجملة لكن تفصيل ذلك والإحاطة به إحاطة تامة إنما يكون من جهة الشرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ولهذا نقول: النفع أو الضرر قد يكون معلوماً بالفطرة، وقد يكون معلوماً بالعقل، وقد يكون معلوماً بالتجارب، وقد يكون معلوماً بالشرع، فالشرع يأتي مؤيداً لما شهدت به الفطرة والعقل والتجارب، وهذه تأتي شاهدة لما جاء به الشرع. وفي هذا المقام اختلف الناس في الأعمال هل يُعرف حسنها وقبحها بالشرع أو العقل؟ والتحقيق أن ذلك: يعرف تارة بالشرعو وتارة بالعقل، وتارة بهما، لكن علم ذلك على وجه الشمول والتفصيل، وعلم غايات الأعمال في الآخرة من سعادة وشقاء ونحو ذلك لا يعلم إلا بالشرع. 7ـ الواجب في الشرع اعتقاداً وعملاً: سبق أن بين شيخ الإسلام الواجب في هذا الأصل في مقدمته؛ فالواجب فيه إثبات أمره المتضمن لبيان ما يحبه الله ويرضاه من العمل، ويؤمن بشرعه وقدره إيماناً خالياً من الزلل.. وإليك تفصيل ذلك: الواجب في الشرع اعتقاداً وعملاً يتضمن ما يلي: • أولاً ـ الواجب في الشرع اعتقاداً؛ وهو يتضمن ما يلي: 1ـ الإيمان بأن الله أمر بعبادته وحده لا شريك له، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ إلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . 2) وأنه خلق الجن والإنس ليعبدوه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] 3) وأنه أرسل رسله وأنزل كتبه لتحقيق عبوديته، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] 4) وأن من يطع الرسول فقد أطاع الله: {وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 • ثانياً ـ الواجب في الشرع عملاً؛ ما يأتي: 1) عبادة الله سبحانه وتعالى مع الإخلاص في الدين والموافقة للسنة. 2) الاستغفار؛ كما قال تعالى: {فاصب .... لذنبك} [غافر: 55] ، أي: اصبر أيها الرسول فإن وعد الله حق ليس مشكوكاً فيه حتى يصعب عليك الصبر، واستغفر لذنبك المانع لك من تحصيل فوزك وسعادتك فأمر الله نبيه بالصبر الذي يحصل فيه المحبوب، وبالاستغفار الذي فيه دفع المحظور. 8 ـ الواجب في القدر اعتقاداً وعملاً: تقدم أن شيخ الإسلام بيَّن الواجب في هذا الأصل في مقدمته؛ فنؤمن بخلق الله المتضمن لكمال قدرته وعموم مشيئته، وما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن، وإليك تفصيل ذلك: • أولاً ـ الواجب في القدر اعتقاداً: الواجب في القدر اعتقاداً الإيمان بمراتبه الأربعة: وهي كما يلي على ترتيب شيخ الإسلام في هذه الرسالة: المرتبة الأولى: الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، كما قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102] . المرتبة الثانية: الإيمان بأن لله المشيئة العامة، فما شاء كان ومالم يشأ لم يكن، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] . المرتبة الثالثة: الإيمان بعلمه الأبدي بما سيكون قبل أن يكون. المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله كتب مقادير كل شيء. ودليل هاتين المرتبتين ما يلي: 1ـ من القرآن قوله تعالى: {ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] . 2ـ من السنة قوله عليه السلام: "إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء". أخرجه مسلم (4/2044) . فكتابته تستلزم العلم. وقد جمع بعضهم هذه المراتب بقوله: علم كتابة مولانا مشيئته وخلقه هو إيجاد وتكوي • ثانياً ـ الواجب في القدر عملاً: الواجب في القدر عملاً يتضمن ما يلي: 1) الاستعانة بالله، والتوكل عليه والاعتماد عليه. 2) الصبر على المقدور، فلا يكثر الأسى على المقدور، ولا يجزع مما يصيبه، ولا يحزن على ما يفوته، بل هو يصبر على أقدار الله الموجعة. 9ـ مراتب الناس في تحقيق مقامي الشرع والقدر: الناس في تحقيق مقامي الشرع والقدر على أربعة أقسام: أـ من حقق مقامي الشرع والقدر هم المؤمنون المتقون الذين كان عندهم من عبادة الله تعالى والاستعانة به ما يصلح به أحوالهم، فكانوا لله وبالله وفي الله، وهؤلاء أهل القسط والعدل الذين شهدوا مقام الربوبية والألوهية وهم أعلى الأقسام، فإم هذا مقام الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ب ـ من فاتهم التحقق في أصل القدر، فكان عندهم من عبادة الله والاستقامة في شرعه ما عندهم، لكن ليس عندهم قوة في الاستعانة بالله والصبر على أحكامه الكونية والشرعية، فيصيبهم عند العمل من العجز والكسل ما يمنعهم من العمل أو إكماله ويلحقهم بعد العمل من العجب والفخر ما قد يكون سبباً لحبوط عملهم وخذلانهم، وهؤلاء أضعف مما سبقهم، وأدنى مقاماً، وأقل عدلاً؛ لأن شهودهم مقام الألوهية غالب على شهود مقام الربوبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ج ـ من فاتهم التحقيق في أصل الشرع فكانوا ضعفاء في الاستقامة على أمر الله ومتابعة شرعه، لكن عندهم قوة في الاستعانة بالله والتوكل عليه، ولكن قد يكون ذلك في أمور لا يحبها الله تعالى ولا يرضاها، فَيُعَانُ ويُمَكَّنُ له بقدر حاله، ويحصل له من المكاشفات والتأثيرات ما لا يحصل للقسم الذي قببه، لكن ما يحصل من هذه الأمور يكون من نصيب العاجلة في الدنيا، أما عاقبته في الدنيا، أما عاقبته فعاقبته سيئة، لأنه ليس من المتقين، وإنما العاقبة للمتقين، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} . فالله سبحانه يعلم أن هؤلاء سيشركون بعد أن ينجيهم، لكن لما كانوا في البحر كانوا مخلصين في دعائهم الله تعالى أن ينجيهم صادقين في تفويض الأمر إليه حتى يحصل مرادهم، ولما لم يكن لهم عبادة لم يستقم أمرهم وكان عاقبة أمرهم خسراً. فالفرق بين هؤلاء وبين القسم الذين فبلهم: أن الذين قبلهم كان لهم دين ضعيف لضعف استعانتهم بالله وتوكلهم عليه، لكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه بالعجز والجزع، وهؤلاء لهم حال وقوة لكن لا يبقى لهم إلا ما وافقوا فيه الأمر واتبعوا السنة. د ـ من فاتهم تحقيق أصلي الشرع والقدر، فليس عندهم عبادة الله، ولا استعانة ولا لجوء إليه عند الشدة، فهم مستكبرون من عبادة الله، مستغنون بأنفسهم عن خالقهم، وربما لجؤوا في الشدائد وإدراك مطالبهم إلى الشياطين فأطاعوها فيما تريد وأعانتهم فيما يريدون، فيظن الظاّن أن هذا من باب الكرامات! وهو من باب الإهانات لأن عاقبتهم الذل والهوان وهذا قسم شر الأقسام. 10ـ المنحرفون في باب القدر: سأتناول هذا الموضوع فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أـ الفرق التي ضلّت في باب القدر: وقد ضل في هذا الباب فرق ثلاث: المجوسية والمشركية والإبليسية، وتفصيل هذه الفرق كما يلي: • الأولى ـ المجوسية: وهم الذين أنكروا القدر وأقروا بالشرع وهم: غلاة أنكروا مرتبتي العلم والكتابة كمعبد الجهني، ومقتصدون أنكروا عموم مرتبتي الخلق والمشيئة، وهم المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة، وسُموا بذلك لأنهم أثبتوا خالقاً غير الله وهو العبد؛ حيث زعموا أنه خالق لفعله. • الثانية ـ المشركية: الذين أقروا بالقدر ولكنهم غلوا فيه حتى أنكروا الأمر والنهي فصادموا الشرع بالقدر، وسُموا بذلك لأنهم احتجوا على تعطيل الشرع بالقدر، كما قال المشركون فيما حكى الله عنهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] ، وهذا حال كثير ممن يدعى الحقيقة الكونية ويفنى في الربوبية حتى الصوفية. • الثالثة ـ الإبليسية: وهم الذين أقروا بالأمرين ـ الشرع والقدر ـ ولكنهم جعلوا هذا تناقضاً وطعنوا في حكمة الله تعالى وعدله، قال تعالى عن إبليس: {أنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] ، وكذلك قوله: {أأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] ، فهنا أقر إبليس بخلق الله تعالى وقدرته، وكذلك أقر بشرعه، ولكنه طعن في حكمة الله وعدله؛ لأنه أمره بالسجود لمن هو دونه بزعمه. ب ـ مخالفة من ينظر إلى القدر دون الشرع للحس والعقل: من ينظر إلى تقدير الله وخلقه الأشياء وتدبيره، دون أن ينظر على أوامر الله ونواهيه: يسقط تمييزهم؛ لوقوفهم عند الحقيقة الكونية، فهم مخالفون للحس والعقل. أمال مخالفتهم للحس فإنه لابد لكل إنسان من أن يشعر بما يسعده أو يؤذيه ولابد أن يميز بين ما يأكله وما لا يأكله، وبين الحر والبرد، فكيف لا يُميَّز الأوامر والنواهي؟! فلا يمكن تصور زوال الإحساس، ولا يستوي الأمران مع وجود الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أما مخالفة من ينظر إلى القدر ويعرض عن الشرع للعقل والقياس: أنه إذا عومل أحدهم بموجب مذهبهم؛ مثل أن يضرب أو يجاع، فإن لام من فعل به ذلك فقد نقض قوله وخرج عن أصل مذهبه، فيقال له: هذا الذي فعل مقضي مقدور، فخلق الله ومشيئته وقدره متناول لك وله، فإن كان القدر حجة لهذا أيضاً، وإلا فليس بحجة لك ولا له1. ج ـ الإيمان بالقدر لا ينافي الأسباب: الإيمان بالقدر لا ينافي إثبات الأسباب، فللأسباب تأثير لذاتها بل بما أودعه الله فيها من القوى والأسباب، وهي قد تكون كونية، مثل جعل الله أودعه الله فيها من القوى والأسباب، وهي قد تكون كونية، مثل جعل الله السحاب سبباً لنزول المطر، ونزول المطر سبباً لإخراج الثمرات. وقد تكون شرعية؛ مثل جعل إتباع الكتاب والسنة سبباً للهداية، والإعراض عنهما سبباً للضلال والغواية. فإذا كان القدر لا ينافي الأسباب فكذلك لا ينافي في أن يكون للعبد قدرة وإرادة مع خلق الله الأسباب، والمنحرفون في هذا الباب طائفتان: 1ـ الغلاة في إثبات الأسباب حتى جعلوها هي المؤثرة بذاتها، فوقعوا في الشرك، وهؤلاء خالفوا المحسوس من عدة وجوه: أـ أن الحس دل على أن ما من سبب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه. ب ـ ولابد من عدم مانع يمنع أثره إذا لم يدفعه الله عنه، فلا يستقل شيء بفعل شيء إلا الله. ج ـ أننا نشاهد تخلف بعض المسببات عن أسبابها كتخلف الإحراق عن النار في قصة إبراهيم، حيث قال: {قُلْنَا ينَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] . والغلاة في الأسباب هم القدرية. 2ـ نفاة الأسباب وهم الأشاعرة؛ فينكرون تأثير الأسباب ويجعلونها   1 القاموس المحيط: ص 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 مجرد علامات يحصل الشيء عندها لا بها، وهؤلاء خالفوا السمع وأنكروا ما خلق الله من القوى والطباع. د ـ الأسباب لا تستقل بنفسها: تقدم أن الأسباب لا تستقل شيء منها في تحصيل مسبباتها فيعلم بطلان مقولة الفلاسفة الملاحدة ومن وافقهم من المتفلسفة ممن ينتسبون إلى الإسلام كابن سينا، وهي أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد1. ويمكن تلخيص الرد عليهم بما يلي: 1ـ أنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء لا واحد ولا إثنان إلا الله تعالى، بل كل شيء محتاج إلى غيره في التسبب. 2ـ فالنار مثلاً لا يحصل الإحراق بها إلا بمحل يقبل الاحتراق، فإذا وقعت على السمندل والياقوت ونحوهما لم تحرقهما، وكذلك إذا طلي الجسم بما يمنع إحراقه فلا يحترق. السمندل: حيوان في الهند لا يحترق بالنار، قيل هو: هو دابة دون الثعلب يتلذذ بالنار، وقيل طائر لا يحترق ريشه2. الياقوت: حجر شفاف شديد الصلابة لا تذوبه النار. ب ـ وكذلك شعاع الشمس لا بد له من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل وصول الشعاع3. فهذا يدل على أنه لا يوجد واحد يصدر عنه شيء بنفسه مفتقر إلى غيره وله مانع يمنع أثره. 2ـ هذا القول من أعظم الجهل وليس عليه دليل عقلي ولا نقلي، بل الله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات كلها وقال: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ   1 الإشارات والتنبيهات لابن سينا (3/147) ، الملل والنحل (3/576) . 2 الحيوان للجاحظ (2/111) . 3 المعجم الوسيط (2/1079) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] ، فخالق الأزواج واحد، بل وخالق جميع المخلوقات واحد1. 11ـ الأسئلة والأجوبة الواردة على ما في الأصل الثاني وهو (الشرع والقدر) : س1ـ اذكر مراتب القدر مع الأدلة. ج ـ للقدر أربع مراتب وهي كما يلي: ـ المرتبة الأولى: الإيمان بأن الله خالق كل شي وربه وملكيه، وأنه على كل شي قدير، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102] . ـ المرتبة الثانية: الإيمان بأن لله المشيئة العامة؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. والدليل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] . ـ المرتبة الثالثة: الإيمان بعلمه الأزلي الأبدي بما سيكون قبل أن يكون. ـ المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله تعالى كتب مقادير كل شي. * ودليل هاتين المرتبتين ما يلي: 1ـ من القرآن: قوله تعالى: {ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] 2ـ ومن السنة: قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء فكتابته تستلزم العلم، "هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه (4/2044) . س2ـ ما الذي يتضمنه الإيمان بالشرع؟ ج ـ يتصمن ما يلي:   1 منهاج السنة (1/402) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 1ـ الإيمان بأن الله أمر بعبادته وحده لا شريك له. قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . 2ـ وأنه خلق الجن والأنس ليعبدوه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 53] . 3ـ وأنه أرسل رسله وأنزل كتبه لتحقيق عبودبته، قال الله تعالى: {وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . 4ـ وأن من يطع الرسول فقد أطاع الله. قال الله تعالى: {وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] . * تعريف العبادة: العبادة لغة: التذلل، مأخوذ من قولهم "عبّد" إذا ذلل. واصطلاحاً: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. س3: ما هو دين الأنبياء جميعاً؟ ج: دين الأنبياء جميعاً واحد وهو الإسلام، وإن اختلفت شرائعهم، والدليل على ذلك ما يلي: 1ـ فمن القرآن قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] ، فأمر بإقامة الدين وألا يتفرقوا فيه، وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] . 2ـ ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء إخوة لعلاّت، وأنا أولى الناس بابن مريم، لأنه ليس بيني وبينه نبي" رواه البخاري ومسلم (4/1837) . * والمراد: أن أمهاتهم شتى وأباءهم واحد؛ أي: شرائعهم شتى ودينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 واحد، كما في رواية البخاري: "أمهاتهم شتى ودينهم واحد". وقيل: المراد أزمنتهم مختلفة ودينهم واحد. س4: عرِّف الإسلام وبين أنواعه؟ ج: الإسلام هو الاستسلام والطاعة والعبادة لله، ثم إفراده بهذه العبادة؛ فمن لم يفرده بالعبادة كان مشركاً، ومن استكبر عن عبادته كان كافراً متكبراً، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] . والإسلام نوعان: عام وخاص: فالعام: هو الاستسلام لله وحده؛ فهذا يصدق على كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء. والإسلام الخاص: هو ما بعث الله به نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا الدين الذي جاء به. س5: ما الأدلة على أن أول الأنبياء يبشر بآخرهم، وآخرهم يصّدق أولهم؟ ج: الأدلة على ذلك ما يلي: 1ـ قوله تعالى: {وَإِذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أأَقْرَرْتُمْ وَآخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، قال القرطبي: "أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر، والإصر: هو العهد. تفسير القرطبي (4/123) . 2ـ وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] . 3ـ وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] . 4ـ وقد اجتمع التصديق بالأول والتبشير بالآخر في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ} . س6: هل من سبق من الأمم المتبعة لرسلهم مسلمون أم لا؟ وما ثمرة الخلاف؟ ج: إنهم مسلمون بالإطلاق العام لمعنى الإسلام؛ فالخلاف لفظي، وثمرة الخلاف: أن من قال: إن تلك الأمم مسلمون أراد الإسلام العام، ومن قال: إنهم غير مسلمين أراد الإسلام الخاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 التوحيد عند المتكلمين قال شيخ الإسلام: "وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد؛ فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتاب الكلام والنظر، غايتهم: أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا معنى قولنا: "لا إله إلا الله"، حتى قد يجعلون معنى الإلهية: القدرة على الاختراع. ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بُعث إليهم محمَّد صلى الله عليه وسلم أولاً لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرُّون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا مقرين بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون. وقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، ولكن غاية ما يقال: إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله؛ كالقدرية وغيرهم، لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا: إنهم خالقوا أفعالهم. وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور، فهم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة، لا يقولون إنها غنية عن الخالق، مشاركة له في الخلق. فأما من أنكر الصانع فذلك جاحد معطِّل للصانع، كالقول الذي أظهره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فرعون، والكلام الآن مع المشركين بالله المقرَّين بوجوده، فإذا هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون، بل يقرون به مع أنهم مشركون، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وكما علم بالاضطرار من دين الإسلام. وكذلك النوع الثاني، وهو قولهم: لا شبيه له في صفاته، فإنه ليس في الأمم من أثبت قديماً مماثلاً له في ذاته، سواء قال: إنه مشاركه، أو قال: إنه لا فعل له، بل من شبَّه شيئاً من مخلوقاته فإنما يشبّهه به في بعض الأمور. وقد عُلم بالعقل امتناع أن يكون له مِثْلٌ في المخلوقات، يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع، فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم، وعلم أيضاً بالعقل أن كل موجودَيْن قائمين بأنفسهما فلابدّ بينها من قدر مشترك؛ كاتفاقهما في مسمى (الوجود) و (القيام بالنفس) و (الذات) ونحو ذلك، وأن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لابد من إثبات خصائص الربوبية، وقد تقدم الكلام على ذلك. ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى (التوحيد) ، فصار من قال: إن لله علماً أو قدرة، أو إنه يُرى في الآخرة، أو إن القرآن كلام الله منزَّل غير مخلوق يقولون: إنه مشبَّه ليس بموحِّد. وزاد عليهم غلاة الجهمية والفلاسفة والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى، وقالوا: من قال: إن الله عليم قدير عزيز حكيم فهو مشبِّه، ليس بموحد. وزاد عليهم غلاة الغلاة، وقالوا: لا يوصف بالنفي ولا الإثبات، لأن في كل منهما تشبيهاً له. وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه، فإنهم شبَّهوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات فراراً من تشبيههم ـ بزعمهم ـ له بالأحياء. ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت له على حد ما يثبت لمخلوق أصلاً، وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات، فإذا لم يكن في إثبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الذات مماثلة للذوات لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك، فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيداً، ويجعلون مقابل ذلك التشبيه، ويسمون نفوسهم (الموحدين) . وكذلك النوع الثالث، وهو قولهم هو واحد لا قسيم له في ذاته، أو لا جزء له، أو لا بعض له لفظ مجمل، فإن الله سبحانه وتعالى أحد صمد لم يلد ولم يُولد، ولم يكن له كفواً أحد، فيمتنع أن يتفرق، أو يتجزأ، أو يكون قد رُكِّب من أجزاء، لكنهم يدرجون في هذا الفظ نفي علوه على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم، ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد. فقد تبيّن أن ما يسمونه (توحيداً) فيه ما هو حق وفيه ما هو باطل، ولو كان جميعه حقاً، فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا فيه من الشرك الذي وصفهم الله به في القرآن، وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لابد أن يعترفوا بأنه لا إله إلا الله. وليس المراد بـ (الإله) هو القادر على الاختراع، كما ظنّه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الإلهية هي القدرو على الاختراع، وأن من أقرّ بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شَهِدَ أنه لا إله إلا هو، فإن المشركين كانوا يقرُّون بهذا وهم مشركون، كما تقدم بيانه، بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يُعبد فهو إله بمعنى مألوه، لا إله إلا هو، فإن المشركين كانوا يقرُّون بهذا وهم مشركون، كما تقدم بيانه، لا إله بمعنى آله، والتوحيد أن يُعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلهاً آخر". معاني الكلمات: المتكلمون: هم الذين يتعاطون علم الكلام المذموم كالجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم. أهل النظر: هم الذين يوجبون النظر العقلي لإثبات الربوبية، فقالوا: أول واجب على العبد النظر أو القصد إلى النظر، وهم طوائف من الأشعرية والماتريدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 دلالة التمانع: سُمي التمانع لأنه مبني على فرض تمانع الآلهة بعضها بعضاً عن الصنع ومغالبة بعضهم بعضاً. عناصر الموضوع: 1 ـ حقيقة التوحيد عند أهل الكلام: حقيقة التوحيد عند أهل الكلام هي اعتقاد الوحدانية لله ذاتاً وصفة وفعلاً، فنلحظ أنهم غلوا في توحيد الربوبية، وأهملوا توحيد الألوهية والعبادة تماماً، مع نفيهم لكثير من الصفات كالعلو والاستواء، ويدَّعون أن هذا هو التحقيق والغاية من خلق الثقلين الإنس والجن، والغاية من إرسال الرسل وهذا خلاف الأدلة من الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، الحاصل أنهم لا يتعرضون لتوحيد الألوهية ويفسرونه بالربوبية. 2 ـ أقسام التوحيد عند أهل الكلام: ينقسم التوحيد عند أهل الكلام إلى ثلاثة أقسام: 1ـ توحيد الله في أفعاله لا شريك له. 2ـ أنه واحد بصفاته ولا شبيه له. 3ـ أنه واحد في ذاته لا قسيم له. ولا يَخْفى أن من تدبر في توحيد المتكلمين يتبين له ما يلي: 1ـ أنه لا يوجد عندهم توحيد الألوهية ولا اهتمُّوا به، مع أن توحيد الألوهية هو المقصد الأعلى والهدف الأسمى من خلق الكون وما فيه، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل كما تقدم بيانه. غاية من خلق الثقلين الإنس والجن إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك، فصار هؤلاء المعطلة يجعلون هذا توحيداً، ويجعلون مقابل ذلك التشبيه، ويسمون نفوسهم (الموحدين) . 2ـ اهتمامهم الكبير بتوحيد الربوبية فقد جعلوه هو المقصد الأعلى والغاية العظمى، مع أنه أمر فطري لا يختلف فيه أهل الملل والنحل. 3ـ قصدهم بتوحيد الذات أن الله لا يتجزأ ولا يتبعض، بل هو سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وهذا حق، لكنهم أدخلوا فيه نفي كثير من الصفات كالوجه واليدين، وأدخلوا فيه نفي علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، فهم يظنون أنه لو ثبت هذه الصفات لله تعالى لكان مركباً مبعَّضاً، فكلامهم هذا من قبيل كلمة حق أريد بها الباطل. والنوع الثاني: أنه واحد في صفاته لا شبيه له، يراد به معنيان: 1ـ يعني حق وهو: أن يراد أن الله مسمى بالأسماء الحسنى، ومتصف بالصفات الكاملة التي لا يماثله فيها أحد. 2ـ معنى باطل، وهو: أن يراد به نفي المماثلة من كل وجه، ووجه بطلانه: أنه ليس في الملل من يثبت قديماً مماثلاً لله تعالى على السواء، وما ورد من التشبيه فهو تشبيه لبعض الخلق بالله تعالى من بعض الوجوه لا من جميعها. ومقصودهم بتوحيد الأفعال: هو أنه واحد في أفعاله لا شريك له، أي أنه خلق العالم وهذا حق، لكنهم اخطئوا في جعله هو معنى لا إله إلا الله، نتيجة خلطهم بين الربوبية والألوهية. الحاصل أنهم لا يتعرضون لتوحيد الألوهية ويفسرونه بتوحيد الربوبية، فظنوا أنه هو المطلوب من العباد، وأن معنى لا إله إلا الله: لا خالق إلا الله، أو لا قادر على الاختراع إلا الله. 3 ـ أشهر أنواع التوحيد عند أهل الكلام: أشهر أنواع التوحيد عند أهل الكلام هو أنه واحد في أفعاله لا شريك له، ومقصودهم به أن خالق العالم واحد، ويستدلون على ذلك بدليل التمانع؛ وهو دليل عقلي معناه: أنه لو كان للعالم صانعان وحصل اختلافهما؛ كأن يريد أحدهما إحياء جسم والآخر مماته، فلا يخلو إما أن يحصل مرادهما معاً أو لا يحصل مراد واحد منهما، أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر، فالأول: ممتنع لأنه جمع بين النقيضين، والثاني: كذلك لأنه يستلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون وهذا ممتنع لأنه يستلزم ارتفاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 النقيضين وهذا باطل، والثالث: ممكن فيكون القادر إلهاً والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، وهذا الاستدلال صحيح ولكن ليس هذا معنى لا إله إلا الله، لأن معناها: لا معبود إلا الله، وهؤلاء غلطوا في جعل الإله بمعنى الرب من وجهين: أـ أنهم ظنوا أن الربوبية هي التوحيد المطلوب. ب ـ أنهم ظنوا أن هذا هو معنى لا إله إلا الله؛ لأن معنى الألوهية عندهم القدرة على الاختراع. ويرد عليهم: بأن المشركين الذين بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، ولو كان هذا هو التوحيد المطلوب لم يمتنع المشركون من قول لا إله إلا الله، فلم ينازع أحد في أصل الربوبية، وغاية ما وجد من ذلك أنَّ من الناس من جعل لبعض الموجودات خالقاً غير الله، من القدرية ونحوهم، مع أنهم يقرون بأن الله خالق العباد وقدرتهم، أو قالوا إنهم خالقوا أفعالهم، وأهل الكلام يسمونه توحيد الربوبية، وقد غلطوا في الاستدلال على هذا القول بقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] ؛ لأن المقصود من هذه الآية، بيان توحيد الربوبية كان معلوماً عند المشركين، فأفنوا أعمارهم بما لم ينازع فيه المشركون، لكن لم ينفعهم ذلك ولم يدخلهم في الإسلام، ومعلوم أن المقصد الأعظم الذي أرسل لأجله الرسل وأنزلت الكتاب وخلق له الجن والإنس هو عبادة الله وحده لا شريك له، فمعنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله. 4ـ المشركون يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد الألوهية: أخبر الله أن المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا معترفين بالربوبية ولا ينكرونها، دلَّ على ذلك قوله تعالى: 1ـ {وَلَئِنْ سَألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] . 2ـ {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالآبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 3ـ {قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 ـ 89] . فتبيَّن مما تقدم أن المشركين لا يجعلون أحداً من آلهتهم شريكاً لله تعالى في ربوبيته من الخلق والرزق والملك والتدبير والتصريف، فهذه حقيقة لا ينكرها المشركون، وأخبر الله تعالى أن المشركين أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة أخرى لما نهاهم عن اتخاذ الشركاء وأمرهم بإخلاص العباد لله وحده، فهذا باطل عندهم وفاسد، وقالوا ما حكى الله عنهم في كتابه: {أجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] ، لذا نعجبوا كيف ينهى عن اتخاذ الشركاء والأنداد ويأمر بإخلاص العبادة لله وحده. • وأما الأدلة من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّم أصحابه والداخلين في الإسلام من جديد، بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً، حين كانوا مُقرِّين بأن الله الخالق، فقد روى البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" [أخرجه البخاري: 3/357] . وفي رواية: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى" [أخرجه البخاري، كتاب التوحيد: 13/347 ح7372] . وفي رواية أخرى: قال: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل" [أخرجه مسلم، كتاب الإيمان 1/15ح 31] . وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 على الله" [أخرجه البخاري، كتاب الإيمان: 1/75 ح25] . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن حق الله على العباد أن يوحدوا الله بالعبادة ويفردوه في ذلك، ويتجردوا من الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره، حيث قال لمعاذ: "أتدري ما حق الله على العباد قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: ألا يعذبهم" [أخرجه البخاري، كتاب التوحيد: 13/437 ح73] . • وأما في لغة العرب فإن معنى الرب غير معنى الإله، فالأول يدل على الإحاطة والخلق والإيجاد والتربية، والثاني يدل على المعبود بحق أو باطل. فالمقصود أن الكتاب والسنة واللغة دلت جميعها على أن هنالك فرقاً بين الربوبية والألوهية، وهذا خلاف ما عليه المتكلمون؛ فهم خلطوا معنى الألوهية بالربوبية، وظنوا أن الألوهية هي القدرة على الاختراع دون غيره فقد صار عندهم موحداً، وليس الأمر كما ذهبوا إليه، بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد دون غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 حقيقة التوحيد عند الصوفية قال شيخ الإسلام: "وإذا تبيّن أن غاية ما يقرره هؤلاء النظّار أهل الإثبات ـ للقدر، المنتسبون إلى السنة إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون، وكذلك طوائف من أهل التصوف والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وهو أن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، لاسيما إذا غاب العارف عندهم بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها، ومعلوم أنّ هذا هو تحقيق ما أقرّ به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله أو من سادات الأولياء. وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقرُّون هذا التوحيد مع إثبات الصفات؛ فيفنون في توحيد الربوبية مع إثبات الخالق للعالم المبائن لمخلوقاته. وآخرون يضمّون هذا إلى نفي الصفات فيدخلون في التعطيل مع هذا، وهذا شر من حال كثير من المشركين. وكان جهم ينفي الصفات، ويقول بالجبر، فهذا تحقيق قول جهم، لكنه إذا أثبت الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فارق المشركين من هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الوجه، لكنّ جهماً ومن اتبعه يقول بالأرجاء، فيضعف الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنده. والنجارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان، مع مقاربتهم له أيضاً في نفي الصفات. والكُلاّبية والأشعرية خير من هؤلاء في باب الصفات، فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، كما فصّلتُ أقوالهم في غير هذا الموضع، وأما في باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة. والكُلاّبية هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلاَّب، الذي سلك الأشعري خلفه، وأصحاب ابن كُلاَّب كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي ونحوهما خير من الأشعرية في هذا وهذا، فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل. والكرّامية قولهم في الإيمان قول منكر لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمناً، لكنه يخلد في النار، فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم، وأما في الصفات والقدر، والوعد والوعيد، فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة. وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات ويقاربون قول جهم، لكنهم ينفون القدر، فهم وإن عظموا الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وغلوا فيه، فهم يكذِّبون بالقدر، ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب. والإقرار بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، مع إنكار القدر، خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وكان قد نبغ فيهم القدرية كما نبغ فيهم الخوارج الحرورية، وإنما يظهر من البدع أولاً ما كان أخف، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة. فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية، مع إعراضهم عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم، أولئك يشبَّهون بالمجوس، وهؤلاء يشبَّهون بالمشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] ، والمشركون شر من المجوس". معاني الكلمات: غاية: أي نهاية. ما يقرره: أي يعتقدونه ويؤمنون به. المنتسبون: أي المنتسبون إلى أهل السنة من المتصوفة وأرباب الكلام. المشركون كانوا مقرين: أي المشركون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا معترفين بالربوبية. أهل التصوف: يعرِّفونه: بأنه الأخذ بعقائد الصوفية، واليأس مما في أيدي الخلائق، وهو الزهد والصفي المؤدي إلى إهدار الأسباب وتركها. المعرفة: أي المعرفة بالله رب كل شيء. شهود هذا التوحيد: أي توحيد الربوبية. العارف: أي الصوفي الذي عرف الله وأُفني فيه حباً. بموجوده: وهو الله سبحانه وتعالى، فغاية هؤلاء الصوفية أن يصلوا إلى حدِّ أنهم يزعمون أنه لا موجود إلا الله. مشهوده: أي الله. عن شهوده: أي شهود نفسه، لسقوط تمييزه. بمعروفه: أي عن الله سبحانه وتعالى. عن معرفته: أي عن معرفة نفسه، فيسقط تمييزه لاستغراقه في محبة الرب. المقصود (أن الموجود) و (المشهود) و (المعروف) هنا هو الله تعالى عند هؤلاء الصوفية، فغايتهم أن يصلوا إلى أنه لا موجود إلا الله ولا مشهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 إلا الله ولا معروف إلا الله، فغايتهم الفناء في توحيد الربوبية، بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ومعلوم أن هذه الغاية هي ما أقر به المشركون من التوحيد، وهي الغاية لا يكون بها الرجل مسلماً فضلاً أن يكون من أولياء الله. الفناء: لغة: مصدر فنَِيَ، ومعناه: الاضمحلال والتلاشي. والزوال كقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} . عناصر الموضوع: 1ـ حقيقة التوحيد عند الصوفية: حقيقة التوحيد عند الصوفية أنهم انقسموا في ذلك إلى ثلاث طوائف: • الطائفة الأولى: المتصوفة الذين وافقوا أهل الكلام في التوحيد؛ فحقيقة التوحيد عندهم هو ما عند أهل الكلام، ومعناه: هو اعتقاد الوحدانية لله ذاتاً وصفة وفعلاً، فيدّعون أن توحيد الربوبية هو غاية التوحيد وهو أن يشهد المرء أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، ولا سيما إذا غاب العرف بموجوده عن نفسه، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ومعلوم أن هذه الغاية هي ما أقر به المشركون من التوحيد، وهي الغاية لا يكون بها الرجل مسلماً فضلاً أن يكون من أولياء الله. • الطائفة الثانية: المتصوفة الاتحادية؛ فتوحيدهم: أن الله موجود أزلاً في كل شيء حتى الكلب والخنزير والقرد، ويعتقدون أن كل المخلوقات ما هي إلا صور تتجلى فيها الذات الإلهية، أي أن الموجود الحقيق هو الله وحده وكل المخلوقات صورة له منذ الأزل. • الطائفة الثالثة: المتصوفة الحلولية؛ فتوحيدهم: أن الله يحلُّ في عباده الصالحين بكثرة العبادة وإخلاص الحب لله. 2 ـ أقسام التوحيد عند الصوفية: ينقسم التوحيد عند الصوفية إلى ثلاثة أقسام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 1ـ توحيد العامة: ويعنون به توحيد الألوهية، وهو الذي يصح بالشواهد أي الرسل. 2ـ توحيد الخاصة: وهو الذي يثبت بالحقائق، ويقصدون به الفناء في الربوبية، وهو حقيقة التوحيد عندهم، والمحقق له يسمى عارفاً عندهم1، وأعلى مراتبه أن يغيب العارف بمشاهدة موجوده وهو الله تعالى عن وجود نفسه هو، أي يغيب عن الخلق باستحضاره للحق، وبمشهوده أي ربه عن شهوده لنفسه، وبمعروفه أي ربه عن معرفته لنفسه، وهذه الغيبة الصوفية2 التي تسمى بوحدة الشهود؛ وهي تختلف عن وحدة الوجود؛ لأنهم يعتقدون وجود المخلوقات وأنها غير الله، ولكن لا يشاهدها لقوة تعلقه بالله، ويمثلون لذلك بشعاع الشمس، فإنه يطغى على جميع النجوم فلا تشاهد مع أنها موجودة. وقولهم هذا باطل من وجهين: • الأول: أنه حال ناقص؛ فإن غياب العقول عن المشاهدة والمعرفة لم يأتِ به الشرع، ولم يكن عليه الرسل ولا السلف الكرام من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. • الثاني: أنه لو أقر به المشركون وفنوا فيه لم يصيروا بذلك مسلمين، فضلاً عن أن يكونوا أولياء عارفين. 3ـ توحيد خاصة الخاصة: وهو القائم بالقدم عندهم، وهو وحدة الوجود التي ينتهي إليها أئمتهم. 3 ـ حقيقة الفناء: لقد تقدّم تعريف الفناء في اللغة، أما عند المتصوفة فهو عدم الإحساس بعالم الملكوت في الاستغراق في عظمة البارئ ومشاهدة الحق.   1 انظر الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود قاسم، ص295، والفتاوى (10/219) (13/199) . 2 مدارج السالكين (1/169) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 والفناء على ثلاثة أقسام: 1ـ ديني شرعي وهوالفناء عن إرادة السوى: أي عن إرادة ما سوى الله عز وجل بحيث يفنى بالإخلاص لله عن الشرك، وبشرعيته عن البدعة، وبطاعته عن معصيته، وبالتوكل عليه عن التعلق بغيره، وبمراد ربه عن مراد نفسه، إلى غير ذلك مما يشتغل به عن مرضاة الله عما سواه. وحقيقة: انشغال العبد بما يقربه إلى الله عز وجل عما لا يقربه إليه وإن سُمَّي فناء في اصطلاحهم. 2ـ فناء صوفي بدعي وهو ما يذكره بعض الصوفية؛ أن يفنى عن شهود ما سوى الله، فيفنى بمعبوده وهو الله عن عبادته، أي ينشغل بالله إلى حدِّ يترك فيه عبادته، ويفنى بمذكوره أي الله عن ذكره، وبمعروفه أي الله عن معرفته لنفسه؛ بحيث يغيب عن شعوره بنفسه وبما سوى الله، وهذا حال ناقص كما مر، وقد يعرض لبعض السالكين لكنه ليس من لوازم طريق الله، لذلك لم يعرض للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للسابقين الأولين، ومن جعله نهاية السالكين فهو ضالٌّ ضلالاً مبيناً، ومن جعله من لوازم الطريق فهو مخطئ كما ذكره أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه منازل السائرين. وهذا النوع هو: الفناء عن شهود السوى: أي لا يشهد ولا يعرف إلا الله. وخلاصة وجوه النقص في هذا النوع من الفناء ما يلي: أـ أنه لم يقع للنبي صلى الله عليه وسلم حتى في أعظم المواقف وهو موقف الإسراء والمعراج، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم من آيات ربه الكبرى، فكان غاية في الثبات ظاهراً وباطناً، أما ظاهراً فكما قال تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] ، وأما باطناً فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأى} [النجم:11] . وكذلك لم يقع هذا الفناء لخيرة خلقه بعد الرسل وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم1.   1 التحفة المهدية، ص 245 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ب ـ أن غياب العقل والوصول بصاحبه إلى حال كالمجانين والسكارى ليس فيه مدح لا عقلاً ولا شرعاً ولا عادة، بل يذم من يعتمد ذلك شرعاً وعقلاً وعادة. ج ـ أن هذا الفناء دليل على ضعف قلب من يحصل له، وأنه لم يستطع الجمع بين الإيمان بالله وعبادته، فيظن أنه إن عبد الله انشغل عن معبوده1. د ـ أن هذا الفناء فيه تعطيل للشرائع وفتح باب التهاون في الأعمال وتضييع الفرائض، ومعلوم ما في ذلك من مناقضة صريحة لدين الله. 3ـ فناء شركي إلحادي وهو الفناء فيه تعطيل عن وجود السّوى بحيث يرى أن وجود الخالق هو عين وجود المخلوق، وأنه واحد بالعين، وهذا قول أصحاب وحدة الوجود والاتحاد، وقد سبق مذهبهم وأنهم أضل عباد الله كما هو مذهب ابن عربي وابن سبعين وابن فارض والتلمساني وغيرهم. وهؤلاء الملحدون أكفر من النصارى، حيث إنهم جعلوا اتحاد الله عاماً في جميع المخلوقات، وانصارى خصوه بعبده الذي اصطفاه وهو عيسى عليه السلام2. ولأن النصارى قالوا بالاتحاد بعد أن لم يكن الله متحداً بعبده فلما خلقه اتحد به واما هؤلاء فجعلوا الاتحاد أزلياً أبدياً. 4ـ العبارات المجملة عند مشائخ الصوفية: ورد عن بعض مشائخ الصوفية عبارات مجملة محتملة هي: 1ـ أريد أن لا أكون. 2ـ أن العارف لا حظَّ له. 3ـ إنه يصير كالميت بين يدي الغاسل، ونحوها؛ فإن لها أحد احتمالين: أـ إذا كان القائل من فضلاء الصوفية كعبد القادر الجيلاني وغيره فيحمل كلامه الأول على أنه لا يريد شيئاً إلا أن يكون مأموراً بإرادته3، وهذا معنى   1 تقريب التدمرية، ص 143. 2 تقريب التدمرية، ص145. 3 التحفة المهدية ص 420. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 قول شيخ الإسلام: "فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يُؤمر بها". ويُحمل كلامه الثاني على أن العارف لاحظ له فيما يُؤمر بطلبه، وهذا معنى قول شيخ الإسلام: "وعدم حظه لم يؤمر بطلبه". والثالث على أنه كالميت في طلب ما لم يُؤمر بطلبه، أو ترك رفع ما لم يُؤمر بدفعه، أي إنه مسلم لأوامره وأقداره. ب ـ إن كان مقصوده أن إرادته تبطل بالكلية فلا يحس بالضار والنافع، ولا يميّز بين الأشياء؛ فقوله باطل، وقد سبق أنه مخاف للحس والعقل والدين. 5ـ منهج الصوفية في الدين والعبادة: للصوفية منهج في الدين والعبادة يخالف منهج السلف، ويبتعد كثيراً عن الكتاب والسنة، فهم قد بنوا دينهم وعباداتهم على رسوم ورموز واصطلاحات اخترعوها وهي تتلخص فيما يلي: 1ـ قصرهم العبادة على المحبة فقط، فهم يبنون عبادتهم لله على المحبة ويهملون الجوانب الأخرى كالخوف والرجاء، كما قال بعضهم: أنا لا أعبد الله طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره! وبهذا قد خالفوا سبيل الأنبياء الذين قال عنهم الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] ، ولهذا يقول بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهوزنديق،ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجىء، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن. 2ـ الصوفية في الغالب لا يرجعون في دينهم وعبادتهم إلى الكتاب والسنة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يرجعون إلى أذواقهم وما يرسمه لهم شيوخهم من الطرق المبتدعة، وربما يستدلون بالحكايات والمنامات والأحاديث الموضوعة لتصحيح ما هم عليه. 3ـ من دين الصوفية التزام أذكار وأوراد يضعها لهم شيوخهم، فيتقيدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 بها ويتعبدون بتلاوتها، وربما فضلوا تلاوتها على تلاوة القرآن الكريم، ويسمونها ذكر الخاصة. 4ـ غلو المتصوفة في الأولياء والشيوخ بخلاف عقيدة أهل السنة الجماعة؛ حيث جعلوا فيهم شيئاً من صفات الربوبية. وأنهم يتصرفون في الكون ويعلمون الغيب ويجيبون من استعان بهم، وأضافوا عليهم هالة من التقديس في حياتهم، وعبدوهم من دون الله بعد وفاتهم. 5ـ من دين الصوفية الباطل تقربهم إلى الله بالغناء والرقص وضرب الدفوف والتصفيق، ويعتبرون هذا عبادة لله. 6ـ ومن دينهم الباطل ما يسمونه بالأحوال التي تنتهي بصاحبها إلى الخروج عن التكاليف الشرعية نتيجة لتطور التصوف، فقد تطور بهم الحال من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى الرقص والغناء والهيمان والخيالات والعشق، ثم إلى القول بالاتحاد والحلول، ثم على ترك الفرائض واستحلال المحارم وسقوط التكاليف. فهذا دين الصوفية قديماً وحديثاً، وهذه مواقفهم من العبادة والدين، ولم ننقل عنهم إلا القليل مما تضمنته كتبهم في هذا الموضوع. 6 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله: "من التوحيد هو شهود هذا التوحيد.. إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده ... "1. أقول: من مصطلحات الصوفية: القول بوحدة الشهود: وفهم ذلك يتوقف على فهم وحدة الوجود. فأقول: كثير من الصوفية يعتقدون عقيدة وحدة الوجود؛ ووحدة الوجود أن يعتقد أنه لا موجود إلا الله تعالى، فليس هناك موجود غير الله، فكل شيء هو الله! فالله عين الكون وعين الشمس والقمر والجبال ونحوها. أما وحدة الشهود: فهي أن يعتقد الإنسان أن هناك أشياء موجودة غير الله تعالى.   1 التدمرية، ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ولكنه لقوة فنائه في الله تعالى، وشدة عقيدته في ربوبية الله تعالى، وعدم التفاته إلى غير الله تعالى؛ لا يشاهد إلا الله تعالى مع اعتقاده أنه توجد أشياء غير الله تعالى ولكنه لشدة تعلقه بالله لا يشاهد إلا الله تعالى، وذلك كقوة شعاع الشمس فإن النجوم لا تشاهد عند شعاع الشمس بالنهار مع أنها موجود. فلقوة شعاع وجود الرب تعالى لا يرى هذا الرجل، ولا يشاهد إلا الله تعالى، مع اعتقاده أن هناك أشياء موجودة غير الله تعالى، فلقوة تعلقه بالله في زعمه لا يلتفت ولا يرى لا زوجاً ولا أكلاً ولا شرباً ولا مالاص، فالعارف ـ يعني الصوفي العارف بالله (في زعمهم) ـ إذا غاب بموجوده أي بجسمه هو عن وجوده هو؛ فهو لا يشاهد إلا الله تعالى ولا يرى جسمه، وإذا غاب بمشهوده أي ربه [لأنه بشهود له فقط] غاب عن شهوده لغيره. فهو لا يشاهد غير مشهوده وهو اللهو وإذا غاب بمعروفه [أي ربه الذي هو معروف لديه] عن معرفته لأشياء أخرى غير الله، فهو لا يعرف شيئاً غير الله تعالى، فإنه حينئذٍ يدخل في فناء التوحيد الكامل، وهو توحيد الربوبية عندهم، وهو توحيد كوني. بحيث يعتقد أن من لم يكن في الأزل فهو فانٍ غير موجود، ونحو الأكل والشرب والزوجة والكون لم يكن موجوداً فهو الآن كأنه غير موجود، وأن من كان في الأزل وهو الله فهو باق، لم يزل ولا يزال، أما الأشياء الأخرى والموجودات الأخرى كأنها لا وجود لها أصلاً. أقول: هذه الفلسفة الصوفية متضمنة للحق والباطل، فأما الحق فهو أن الكون لم يكن موجوداً وسيفنى أيضاً، والله كان وسيكون لم يزل ولا يزال موجوداً، وأما الباطل فهو اعتقاد أن هذا الكون غير موجود، وأنه غير مشهود، وأنه غير معروف، وأنه لا تعلق لنا بالدنيا والأكل والشرب والزوج والزوجة أصلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 7ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "أولئك يشبهون المجوس، وهؤلاء يشبهون المشركين". أقول: يقصد شيخ الإسلام أن الصوفية الملاحدة الحلولية والوجودية الذين جلّ همهم التوحيد الكوني، يزعمون (أن الله حل في الكون، أو الكون هو الله) ويعرضون عن توحيد الألوهية، فلا يتقيدون بالشرع، ولا يأتمرون بأوامر الله، ولا ينتهون عن نواهي الله تعالى، فهؤلاء الصوفية شر من القدرية المعتزلة، بأن العبد خالق لأفعاله؛ فقالوا بخالقين! وتقول المجوس: إن خالق الشر غير الله. فهم أيضاً قالوا بخالقين، ولكن هؤلاء الصوفية يشبهون المشركين الذين يعبدون الأوثان والأصنام ولا كتاب لهم. ولا شك أن المشركين الوثنيين شر من المجوس؛ لأن المجوس يعدون من أهل الكتاب، ولذا قرر الفقهاء الفقهاء أن المشركين لا جزية عليهم ولكن المجوس عليهم الجزية، فأنزلوهم منزلة أهل الكتاب وهم لاشك أنهم مشركون، ولكن أخف شركاً من شرك المشركين الوثيين الذين يعبدون الأصنام. 8 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "ومن قال: إنه يفعل عندها لا بها؛ فقد خالف ما جاء به القرآن". قصد شيخ الإسلام: أن الله تعالى ـ ولا شك ـ قد قدر الأشياء وعلمها في الأزل، وكل ما يحدث في الكون لا يحدث إلا تحت مشيئته وإرادته وتحت علمه وقدرته، ولكن الله تعالى ربط المسببات بالأسباب، فتلك المسببات لا تحدث إلا بتلك الأسباب كما قال: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ} [الأعراف: 57] . أي علق إنزال الماء بسبب السحاب، وقال تعالى: {فَأخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] ، فعلق الله تعالى إخراج الثمرات بسبب الماء من المطر والعيون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ولكن زعم قوم أن الله تعالى يحدث الأشياء ويخلق عند هذه الأسباب ولا يخلقها بها. وهذا الزعم فاسد باطل مخالف لنصوص الكتاب والسنة، وصاحب هذا الزعم منكر للقوى التي أودعها الله تعالى في السباب، فهذا المنكر في الحقيقة منكر للمحسوسات فهو مكابر وليس بمناظر. 9 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ " وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه". أقول: (السبب) في اللغة عبارة عن الحبل، ويقال لكل شيء يكون الوصول به إلى شيء آخر: إنه سبب؛ فالسبب ما يتوصل به إلى المقصود، وهذا المقصود يسمى مسبباً، سواء كان ذلك السبب حبلاً، أو دلواً، أو سلاحاً، أو شيئاً آخر. والسبب في الاصطلاح العام (شرعاً وعرفاً) : هو ما يتوقف عليه المقصود. أي: السبب هو الذي لا يحصل المسبب إلا بوجوده؛ كالنصاب: فهو سبب لوجود الزكاة. ثم السبب قد يكون تاماً، وهو الذي يكون سبباً وحيداً لوجود المسبب، وقد يكون ناقصاً: وهو الذي يكون سبباً للمسبب، وقد يكون ناقصاً: وهو الذي يكون سبباً للمسبب، ولكن هو وحده لا يكون سبباً لهذا المسبب؛ بل يكون معه سبب آخر لذلك المسبب، وذلك إذا كان للمسبب سببان لا يستقل احدهما دون الآخر، وإذا اجتمعا يكونان سبباً كاملاً كالنصاب وحوَلان الحول كلاهما سبب لوجوب الزكاة. الحاصل: أن قصد شيخ الإسلام هو الرد على من جعل الأسباب مستقلة مستغنية في إيجاب المسببات. فأراد شيخ الإسلام أن يرد على هؤلاء من وجهين: • الأول: أن الأسباب مفتقر بعضها إلى بعض، فما من سبب مستغنٍ عن الآخر؛ وما من سبب إلا وهو مفتقر بعضها إلى بعض، فما من سبب مستغن عن الآخر؛ وما من سبب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 • الثاني: أنه لابد في كون الأسباب أسباباً من عدم المانع، فإذا جاء المانع لا ينفع السبب فلا يوجد المسبب؛ فالنار سبب للاحتراق إن لم يكن هناك مانع؛ وإلا فلا. فإن إبراهيم عليه السلام ألقي في النار ولم يحترق، فالنار خلق الله فيها الحرارة لا يحصل الإحراق إلا بها، ولابد من المحل الذي يقبل الاحتراق، وإلا لا يوجد الاحتراق أصلاً، فإن وقع السمندل والياقوت ونحوهما في النار لا يحصل الاحتراق، وقد يطلى الجسم بما يمنع الإحراق فلا يحصل الاحتراق لوجود المانع. والشمس سبب لوصول شعاعها إلى الأرض بشرط وجود الجسم الذي يقبل انعكاس الشعاع عليه، فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل وصول الشعاع إلى التحت. الحاصل: أنه لا شيء يستقل ويستغني إلا الله تعالى؛ فكل شيء يفتقر إلى الله تعالى، والله وحده هو الغني الحميد. 10 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "ولهذا من قال: إن الله لا يصدر عنه إلا واحد ... " أقول: قصد شيخ الإسلام الرد على الفلاسفة اليونانيين الكفرة ومن سايرهم من المنتسبين إلى للإسلام كابن سينا وغيره من الملاحدة، حيث قالوا: إن الله واحد فلا يصدر عنه إلا واحد. وفي هذا القول فسادان: • الفساد الأول: أنه يدل على أن الله تعالى غير مريد ولا مختار في خلق المخلوقات؛ بل هو مضطر مجبور، حيث صدر منه واحد بالاضطرار بدون الاختيار. • الفساد الثاني: أن هذه القضية كاذبة في نفسها؛ فإنه لا يوجد دليل على أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، بل الحق والصدق أن الواحد يصدر عنه أشياء كثيرة. كما قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فعلم أن الله خالق الأزواج، وأن خالق الأزواج واحد، والأزواج كثيرة. فدل ذلك على أن الواحد يخلق أشياء كثيرة. فبطل قولهم: "إن الواحد لا يصدر منه إلا واحد" 11ـ معنى كلام شيخ الإسلام: "عارض السكر ... " أقول: (السكر) : من خرافات الصوفية، وهو "غيبة بواردٍ قوي، وهو يعطي الطرب والالتذاذ، وهو أقوى من الغيبة، وأتم منها"1. أقول: حاصل هذا التعريف: أن (السكر) حالة من أحوال الصوفية تحصل بسس وارد قوي يرد على قلب صوفي، إما من مشاهدته لله تعالى ـ حسب زعمه في كلب أو خنزير أو قرد ـ وإما لأجل عقيدته أن هذا الكون كله هو الله تعالى، أو لأجل دعواه الكاذبة أنه وصل في العشق والمحبة إلى حد فقد حواسه وقواه من شدة الوجد والعشق والمحبة، حتى سكر لا يعي ما يقول ولا يفهم، ولا يحس باكون ولا بالتكليف كأنه مجنون، أو نائم، أو ميت لا حراك له، أو يهذي هذيان المحمومين فيتكلم بكلمات الكفر والارتداد، وهذا كله انحلال وكفر وإلحاد وزندقة أيما زندقة. ولذلك ترى شيخ الإسلام يرد على هؤلاء الزنادقة بقوله: "فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ـ ونحو ذلك ـ إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض فهي مع ضعف صاحبها وتوقف تمييزه ـ لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقاً؛ ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقاً وعظم هذا المقام ـ فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية قدراً أو شرعاً، وغلط في خلق الله تعالى وفي أمره، (وأسقط التكليف) ؛ حيث ظن أن وجود هذا (الكون) لا وجود له، (بل كل هذا الكون هو الله، لا موجود إلا الله) إلى آخر كلامه المهم.   1 التعريفات، 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 12 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "ولكن توهمت طائفة أن للحسن والقبح معنى غير هذا ... ، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح يخرج عن هذا ... " أقول: للناس نزاع في أن حسن الأشياء وقبحها عقليان؟ أم شرعيان؟ فطائفة ظنت أن القبح والحسن لا يعلمان إلا بالعقل، وطائفة ظنت أن القبح والحسن لا يعلمان إلا بالشرع. وكلتا هاتين الطائفتين على غلط. فأراد شيخ الإسلام أن يبين غلطهما ويبين الحق وهو القول الوسط. وهو أن حسن الأشياء بمعنى كونها ملائمة للفاعل، وقبحها بمعنى كونها غير ملائمة للفاعل بل منفردة. أو كون الأشياء مما يحبه الفاعل أو يكرهه، أو يتلذذ بها أو يتأذى بها. فهذا لا شك يعلم تارة بالعقل، كعلمه بأن الطعام يشبع والماء يروي، وتارة يعلم بالشرع، وتارة يعلم بهما جميعاً. ولكن تفاصيل الحسن وتفاصيل القبح، وأن هذا يحبه الله وذاك يبغضه الله ونحو ذلك؛ لا يعلم إلا بالشرع فقط. كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] . وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50] . فدل ذلك على أن تفاصيل حسن الأمور وقبحها لا يعلم إلا بالوحي الذي هو مبنى الشرع، والعقل لا يدرك تفاصيل هذه الأمور، فحسن الأشياء وقبحها مركوز في الفطرة، والعقل مدرك إجمالاً، والشرع مزكٍّ ومرشد بالتفصيل ومبصر ومكمل1.   1 انظر الصواعق المرسلة: 4/1277ـ1278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 13 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "فمن نظر إلى القدر فقط، وعظم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية ـ لم يميز بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشاد والغيّ، وأولياء الله وأعدائه". أقول: مقصود شيخ الإسلام: أن هناك حقيقتين: • الأولى ـ حقيقة كونية: وهي ما خلقه الله تعالى ودبره وأراده وقدّره من الخير والشر، والتوحيد والشرك، والإسلام والكفر، والظلمة والنور، والعلم والجهل، والظلم والعدل، والبر والفجور، والهدى والضلال، وخلق له أولياء أمثال الأنبياء والمرسلين، وخلق أولياء للشيطان أمثال فرعون وقارون وأبي جهل، وغير ذلك من الأمور الكونية والموجودات الخارجية بقطع النظر عما يحبه الله وشرعه، أو يكرهه ولم يشرعه. • والثانية ـ حقيقة شرعية: وهي كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه وشرعه لعباده وأمرهم به؛ كالتوحيد والإسلام والإيمان والبر والعلم والعدل وجميع أبواب الخير ونحوها. وكل ما يكرهه الله تعالى ويمقته ويغضب عليه ولم يشرعه لعباده بل نهاهم عنه، كالكفر والشرك والسحر والكذب والزور والبهتان والظلم والغي والبغي وغيرها من الأمور التي يكرهها الله تعالى، فهذه كلها حقائق شرعية. ولكن الذين نظروا إلى الكون من حيث إنه مخلوق موجود في الخارج؛ يرى في هذا الكون أولياء الله أمثال الأنبياء والمرسلين. ويرى في هذا الكون أولياء الشيطان أمثال فرعون وقارون وهامان وأبي جهل وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 كما يرى في هذا الكون الإسلام والإيمان والتوحيد والصدق والخير والعلم والهدى والرشاد ومحبة الصالحين. كذلك يرى في هذا الكون الكفر والشرك والكذب والشرور والجهل والغواية ومحبة الظالمين. فمن نظر إلى هذا الكون نظرة واحدة نظرة كونية خلقية بدون التفريق بين الحلال والحرام، وبين الخير والشر، وبين الظلم والعدل، وبين الإسلام الكفر؛ وبين التوحيد والشرك، وجعل هذا الأمور كلها بمنزلة واحدة، فقد ألحد وتزندق وخلط الحق بالباطل، والكفر بالإسلام، وناقض توحيد الألوهية، وإن كان آمن بتوحيد الربوبية بعض الشيء. فكثير من الصوفية الحلولية والاتحادية، وكثير من الفلاسفة والمتكلمين قد نظروا إلى الكون من حيث إنه كون، ولم يفرقوا بين الشرع وبين الكون؛ فوقعوا في أنواع من الكفر والإلحاد والزندقة، حيث أحلوا كثيراً من المحرمات بحجة أنها أمور كونية، ولهذا ترى هؤلاء الحلولية والاتحادية يعتقدون أن جميع الأديان كلها حق وصواب، وأنه لا يوجد باطل في هذا الكون، ولا يوجد محرم في هذا الكون، فكل ما في هذا الكون حلال وصواب وحق. فأحلوا جميع الفروج، وأن جميع ملل الكفار والوثنية كلها حق وصواب، لأنهم لم ينظروا إلى الكون بنظر الشرع1.   1 وفي ذلك يقول إمامهم الملحد الزنديق ابن عربي الصوفي الاتحادي الإلحادي (638) هـ: ألا كل قول في الوجود كلامه سواء علينا نثره أو نظامه عقد الخلائق في الإله عقائد وأنا شهدت جميع ما اعتقدوه انظر فتوحاته المكية: 4/141، 3/132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 14 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك"1. أقول: الأحوال: جمع (الحال) . والحال لغة غير الحال في اصطلاح أهل الكلام، وهو غير الحال في اصطلاح الصوفية، وهو غير الحال في اصطلاح النحاة؛ فالحال في اصطلاح الصوفية: "ما يرد على القلب بمحض الموهبة من غير تعمد ولا اجتلاب ولا اكتساب؛ من طرب أو حزن أو فيض أو بسط. قلت الأحوال من خرافات الصوفية وترهاتهم. ولكن المؤمن إذا سمع آيات الجهاد والإنفاق والتوحيد والرد على المشركين وأهل البدع، وفرح بذلك وسر وزاد إيمانه مع إيمانه السابق؛ فهذا من الأحوال الطيبة. وإذا عمل عملاً صالحاً وفرح بذلك، فهذا من الأحوال الطيبة، وإذا عمل سيئة وحزن عليها وندم وتاب إلى الله تعالى فهذا من الأحوال الطيبة، وأما إذا خالف الكتاب والسنة وعمل السيئة ولم يحزن بل بعكس ذلك فرح بالفسق والفجور فهذا من الأحوال السيئة الفسقية. وإذا سمع آيات الجنة واشتاق إليها فهذا من الأحوال الحسنة الطيبة، وإذا سمع آيات الترهيب والنار، خاف وَرَقَّ قلبه وخشع وبكى فهذا من الأحوال الحسنة، ولكن إذا سمع آيات الجنة والنار، ولم يترقق قلبه بل زاد قسوة على قسوة، فهذا من الأحوال السيئة. أما (الاصطلام) فهو في اصطلاح الصوفية: "وجد غامر يرد على العقول فيسلبها، ويسلبها بقوة سلطانه وقهره"2.   1 انظر: تعريفات الجرجاني، 81. واصطلاحات القاشاني، 57. 2 انظر: اللمع للسراج الطوسي، ص450؛ كما في معجم ألفاظ الصوفية، ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وأما (الفناء) في اصطلاح الصوفية فكما قاله الجرجاني الحنفي (816هـ) : "الفناء: سقوط الأوصاف المذمومة، كما أن البقاء وجود الأوصاف المحمودة، والفناء فناءان: أحدهما: ما ذكرنا، وهو بكثرة الرياضة. والثاني: عدم الإحساس بعالم الملكوت، وهو بالاستغراق في عظمة الباري، ومشاهدة الحق"1. أقول: فناء الصوفية هذيان وإلحاد وزندقة وانحلال؛ لأن سقوط الأوصاف المذمومة ووجود الأوصاف المحمودة، لا يمكن إلا بتقوى الله تعالى واجتناب نواهيه، وإيثار أوامره، وعبادته سبحانه وتعالى، وإتباع سنة نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم مع الإخلاص التام؛ فمثل هذا يسمى تقوى وإسلاماً، وإيماناً وصلاحاً، ورشداً، وتوحيداً، ولا يسمى فناءً. وأما قولهم في معنى (الفناء) : "إنه عدم الإحساس بالكون، ومشاهدة الحق" فهذا انحلال وكفر صريح وارتداد قبيح؛ لأن هذه عقيدة وحدة الوجود، فأصحاب وحدة الوجود، لا يرون شيئاً من هذا الكون؛ بل يعتقدون: أن الكون والجبال والسماء والأرض والجبال والشجر والمداد والبحر والناكح والمنكوح كل هذا هو الله بعينه، وأنهم يشاهدون الحق ويرون الله تعالى ولا يرون شيئاً آخر من الكون؛ فكل مايرونه من الكلب والخنزير والقرد وغيرها، فهو الله عندهم، فهم لا يرون ـ حسب زعمهم إلا الله2.   1 التعريفات: 169. 2 كما هذى بذلك ابن عربي الملحد الاتحادي (638) هـ. فكان الحق أكواناً وكنا نحن أعياناً انظر: فتوحاته: 2/45، 70. ولذا قال الأمير اليماني في بيان زندقتهم وخبث عقيدتهم الوجودية: مسماه كل الكائنات جميعها من الكلب والخنزير والقرد والفهد ديوان الصنعاني، 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 سيرد شيخ الإسلام على هذه العقيدة بعد قليل، ويبين المفهوم الصحيح الشرعي للفناء. وأما (السكر) : فقد فسره الجرجاني (816) فقال: "وعند أهل الحق [أي الصوفية] : (السكر9: هو غيبة بوارد قوي، وهو يعطي الطرب والالتذاذ، وهو أقوى من الغيبة، وأتم منها"1. قلت: هذه كلها من شطحات الصوفية نعوذ بالله منها. 15 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ (فصل في أقسام الفناء .... ) . أقول: قصد شيخ اإسلام ههنا هو الرد على الصوفية الحلولية والاتحادية بذكر معاني الفناء. حيث ذكر للفناء معنى صحيحاً يوافق شرع الله تعالى، وذكر للفناء معنيين باطلين يصادمانشرع الله تعالى: فقال رحمه الله تعالى ما حاصله: (الفناء) على ثلاثة أقسام حسب اصطلاح الشرع واصطلاح الصوفية: • الأول: هو الفناء الديني الشرعي المطلوب الواجب الذي جاءت به الرسل والشرائع وأنزلت به الكتب السماوية. وهو أن يفنى المرء عما نهى الله عنه بفعل ماأمره الله به؛ فيفنى عن عبادة غير الله بعبادة الله تعالى، وعن طاعة غير الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وبحلاله عن حرامه.   1 التعريفات: (120) . انظر: تعريفات الجرجاني، 81 واصطلاحات القاشاني، 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وهذا الفناء يسمى في الشرع: التقوى والبر والإحسان والإسلام والإيمان، والتوحيد، والسنة، وهو الطريقة السلفية. وهو فناء مطلوب شرعاً مأمور به في الإسلام. • الثاني: الفناء عن رؤية ما سوى الله وشهود غير الله. فيفنى المرء بمعبوده عن عبادته، أي يشتغل بالله إلى حدٍّ يترك عبادته، ويترك التكاليف الشرعية بحيث يغيب عن الكون حتى يغيب عن نفسه إلى أن لا يشاهد إلا الله. وهذا النوع من الفناء قد يقع فيه كثير من الصوفية الحلولية وأصحاب وحدة الشهود [أي الذين لا يشاهدون إلا الله الواحد، ولا يشلهدون الكون مع اعتقادهم أن الكون موجود] . وهذا النوع من الفناء إلحاد وزندقة؛ لأن هذا الفناء لم يعرف للأنبياء والمرسلين ولا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. • الثالث: الفناء عن وجود سوى الله تعالى: بحيث يعتقد أن الوجود واحد، وأن الموجود واحد، وأن الكون هو الله بعينه، وأن الله هو الكلب والخنزير والفهد والقرد والحرباء والناكح والمنكوح والعاشق والمعشوق والواطئ والموطوء، وهذا الفناء قد يقع فيه الصوفية الوجودية من الملاحدة والزنادقة؛ أمثال الحلاج وابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وعبد الكريم الجيلي، وهذا الفناء أعظم كفر على الإطلاق، وأكبر زندقة وأقبح إلحاد، وهؤلاء أشد كفراً من اليهود والنصارى (1) .   1 وفي ذلك يقول الإمام الصنعاني الأمير اليماني (1142) هـ: وأكفر أهل الأرض من قال: إنه إله، وأن الله [جلّ عن الند] مسماه كل الكائنات جميعها من الكلب والخنزير والقرد والفهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 16 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "وهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله". أي هذا النوع من الفناء: هو أن يفنى المرء عن رؤية ما سوى الله؛ فلا يشاهد غير الله؛ بل لا يشاهد إلا الله؛ مع اعتقاد أن غير الله موجود، ولكنه لا يشاهد إلا الله، وذلك كاعتقاد الناس أن النجوم موجودة في النهار، ولكنهم لا يشاهدون النجوم لأجل شعاع الشمس؛ فهؤلاء أيضاً لا يشاهدون الكون لأجل قوة شعاع نور الله تعالى (حسب زعمهم الفاسد) ؛ وهو فناء أصحاب وحدة الشهود من الصوفية الحلولية. 17 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "فهو الفناء عن وجود السوى". أي النوع الثالث من الفناء هو فناء المرء عن وجود ما سوى الله، بحيث يعتقد أنه لا موجود إلا الله وأن الكون هو الله. فهذا الفناء فناء أصحاب وحدة الوجود؛ وهم الوجودية الاتحادية الذين هم أشد كفراً من الحلولية، وهو مذهب الغلاة من الصوفية كابن عربي وغيره. 18 ـ الأسئلة والأجوبة على ما تقدم: س1: هل زعم أحد من الناس أن للعالم صانعين متكافئين؟ وهل وقع الشرك في الربوبية أم لا؟ فصّل القول. ج: لم يزعم أحد من الناس أن للعالم صانعين متكافئين في الصفات والأفعال، بل عامتهم مقرُّون بأنه ليس له شريك مثله مساوٍ له في جميع الصفات، ولم يقع الشرك في الربوبية؛ وعامة المشركين بالله مقرّون بأنه ليس له شريك مثله، بل عامتهم يقرون أن الشريك مملوك له كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ، وقوله: {قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 85،84] ، وليس المقصود عدم الشرك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الربوبية مطلقاً، فإن طوائف من الناس ادعت أن هناك بعض المخلوقات خالقة ومبدعة، ولكن لم يقل أحد أنها مماثلة لله في جميع الأفعال والصفات. وأعظم الناس انحرافاً في الربوبية هم (الثنوية) ؛ وهي فرقة من المجوس تقول بالأصلين: النور والظلمة، وأن النور خلق الخير والظلمة خلقت الشر، فهم يثبتون خالقين ومع ذلك لم يثبتوا التماثل في جميع الأفعال والصفات؛ لأنهم ذكروا في الظلمة قولين: 1ـ أنها محدثة مخلوقة من جملة المخلوقات. 2ـ أنها قديمة لكنها لم تخلق إلا الشر؛ فتكون أنقص في صفاتها وأفعالها من النور، فبذلك لم يثبتوا صانعينمتكافئين. س2: اذكر أنواع التوحيد عند كل مما يلي مع التوضيح: 1ـ عند أهل السنة. 2ـ عند الصوفية. ج: التوحيد عند أهل السنة: قسّم علماء السنة إلى ثلاثة أقسام بالتتبع والاستقراء، وهي توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وقد اجتمعت هذه الأقسام الثلاثة في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] فالربوبية في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، والألوهية في قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ، والأسماء والصفات في قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . أما التوحيد عند الصوفية: فهو ثلاثة أنواع: 1ـ توحيد العامة: ويعنون به: توحيد الألوهية؛ وهو الذي يصح بالشواهد؛ أي الرسل. 2ـ توحيد الخاصة: وهو الذي يثبت بالحقائق، ويقصدون به الفناء في الربوبية، وهو حقيقة التوحيد عندهم، والمحقق له يسمى عارفاً عندهم، وأعلى مراتبه أن يغيب العارف عن الخلق باستحضاره للحق (الله) . 3ـ توحيد خاصة الخاصة: وهو القائم بالقدم عندهم؛ وهو وحدة الوجود التي ينتهي إليها أئمتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 * فائدة: التعريف بالصوفية من حيث أصل النسبة، ثم التعريف الاصطلاحي، ثم النشأة باختصار. • أولاً ـ من حيث النسبة: اختلف في نسبة الصوفية على أقوال كثيرة؛ والراجح منها ما يلي: * رجح شيخ الإسلام وغيره أنها نسبة إلى الصوف لزهدهم ولبسهم الصوف. • ثانياً ـ التعريف الاصطلاحي للتصوف: فقد اختلف فيه كثيراً وأشهرها ما يلي: * التصوف: هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق، وهو تعريف الكرخي له، فالأخذ بالحقائق: فالحقائق تشمل الاعتقادات الصوفية. واليأس مما في أيدي الخلائق: يشمل الزهد الصوفي المؤدي إلى إهدار الأسباب. • ثالثاً ـ نشأة التصوف: إن نشأة التصوف كانت في القرن الثاني عندما أقبل الناس على الدنيا، وانصرف أناس للزهد والعبادة فسموا بالصوفية، وهم الذين دعوا إلى الحب المجرد من الخوف والرغبة، فخالفوا بذلك سبيل الأنبياء الذين قال الله فيهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] . س3: بيِّن موقف الصوفية من العبادة والدين؟ ج: للصوفية ـ خصوصاً المتأخرين منهم ـ منهج في الدين والعبادة يخالف منهج السلف، ويبتعد عن الكتاب والسنة، فهم قد بنوا دينهم وعبادتهم على رسوم ورموز واصطلاحات اخترعوها، وهي تتلخص فيما يلي: 1ـ قصرهم العبادة على المحبة فقط، فهم يبنون عبادتهم لله على المحبة، ويهملون الجوانب الأخرى كالخوف والرجاء، كما قال بعضهم: أنا لاأعبد الله طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، وبهذا قد خالفوا سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الأنبياء الذين قال الله تعالى عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] ، ولهذا يقول بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن. 2ـ الصوفية في الغالب لا يرجعون في دينهم وعبادتهم إلى الكتاب والسنة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يرجعون إلى أذواقهم وما يرسمه لهم شيوخهم من الطرق المبتدعة، وربما يستدلون بالحكايات والمنامات والأحاديث الموضوعة لتصحيح ما هم عليه. 3ـ من دين الصوفية التزام أذكار وأوراد يضعها لهم شيوخهم، فيتقيدون بها ويتعبدون تلاوتها على تلاوة القرآن الكريم، ويسمونها ذكر الخاصة. 4ـ غلو المتصوفة في الأولياء والشيوخ خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة، حيث جعلوا فيهم شيئاً من صفات الربوبية، وأنهم يتصرفون في الكون، ويعلمون الغيب، ويجيبون من استعان بهم، وأضافوا عليهم هالة من التقديس في حياتهم، وعبدوهم من دون الله بعد وفاتهم. 5ـ من دين الصوفية الباطل تقربهم إلى الله بالغناء والرقص وضرب الدفوف والتصفيق، ويعتبرون هذا عبادة لله. 6ـ ومن دين الصوفية الباطل ما يسمونه بالأحوال التي تنتهي بصاحبها إلى الخروج عن التكاليف الشرعية نتيجة لتطور التصوف، فقد تطور بهم الحال من الزهد والحلم والصبر، والإخلاص والصدق، إلى الرقص والغناء والهيمان والخيالات والعشق، ثم إلى القول بالاتحاد والحلول، ثم إلى ترك الفرائض واستحلال المحارم وسقوط التكاليف. فهذا هو دين الصوفية قديماً وحديثاً، وهذا هو موقفهم من العبادة والدين، ولم ننقل عنهم إلا القليل مما تضمنته كتبهم في هذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 س4: اذكر أنواع التوحيد عند المتكلمين مبيناً مقصودهم في كل نوع مع ذكر حجتهم على النوع الأخير؟ ج: أنواع التوحيد عندهم ثلاثة: 1 ـ (توحيد الذات) وهو أنه واحد في ذاته لا قسيم له، وهذا النوع يراد منه معنيان: • الأول: يراد به أن الله سبحانه لا يجوز عليه التعدد، بل هو واحد فرد صمد. وهذا المعنى حق. • الثاني: أن يراد به نفي الصفات كصفة العلو ونحو ذلك، وهذا هو مرادهم زاعمين أن ذلك هو التوحيد. وهذا المعنى باطل. 2ـ (توحيد الصفات) وهو أنه واحد في صفاته لا شبيه له، وهذا النوع يراد به معنيان أيضاً: • الأول: يراد به أن الله مسمى بالأسماء الحسنى، ومتصف بالصفات الكاملة التي لا يماثله فيها أحد، وهذا المعنى حق. • الثاني: يراد به نفي الصفات من كل وجه وهو الذي أرادوه، ووجه بطلانه: أنه ليس من الأمم من يثبت قديماُ مماثلاً لله في أسمائه وصفاته وأفعاله على السواء، وأقصى ما ورد من التشبيه: هو تشبيه لبعض الخلق بالله من بعض الوجوه لا من جميعها. 3ـ (توحيد الأفعال) وهو أنه واحد في أفعاله لا شريك له، أي أن خالق العالم واحد، وهذا هو المراد عندهم. وأشهر الأنواع عندهم هو هذا النوع، ويظنون أنه هو المطلوب، وأنه معنى (لا إله إلا الله) ، ويجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع. وحجتهم على هذا النوع من التوحيد هو دليل التمانع، ودليل التمانع عندهم هو استحالة وجود خالقين متكافئين، وذلك لو فرضنا أن هناك جسماً وأراد أحدهما تسكينه والآخر تحريكه في وقت واحد، فلا يخلو الحال من أحد ثلاثة أمور: 1ـ أن يحصل مرادهما معاً: وهذا محال لأنه جمع بين النقيضين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 2ـ أن لا يحصل مرادهما: وهذا محال لأنه خلو عن النقيضين؛ ولأنه يؤدي إلى عجزهما وعدم كونهما إلهاً. 3ـ أن يحصل مراد أحدهما فيصير الثاني عاجزاً فلا يكون إلهاً، فثبت أن الإله واحد، ويستدلون عليه بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فهم يغلطون من وجهين: أـ أنهم يظنون أن هذا غاية التوحيد مع إهمالهم لتوحيد الألوهية الذي جاءت به الرسل. ب ـ وأنهم يستدلون بالآية السابقة (على الربوبية) ؛ مع أنها في تقرير الألوهية، فإنها ذكرت السموات والأرض فكانت موجودة مخلوقة، وقد قال: {لَفَسَدَتَا} وهذا الفساد بعد الوجود، والتمانع يمنع وجود المفعول ولا يوجب فساده بعد وجوده، وقال أيضاً: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} ولم يقل أرباب؛ فدل على أن المراد بالآية الإله المعبود لا الرب الخالق، والمعنى: لو كان في السموات والأرض إله معبود إلا الله لفسد نظام العالم لأنه قام بالعدل، والشرك أظلم الظلم. س5: وازن بين الفرق التي ضلت في الشرع والقدر. ج: يمكن أن نبين هذه الموازنة بالشكلين الآتيين1: القدر غلاة (جبرية) نفاة (قدرية) خالصة متوسطة غلاة النفاة مقتصدون الجهمية الأشاعرة إنكار العلم إنكار المعيشة وخلق الفعل المعتزلة 1 التوضيحات الأثرية لأبي العالية ص 327. ?? ?? ?? ?? الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الإيمان مرجئة وعيدية الجهمية الأشاعرة الكرامية الحنفية خوارج حرورية معتزلة المعرفة والماتريدية اللسان القلب القلبية التصديق فقط واللسان القلبي فائدة1: * تعريف الخوارج الحرورية: الحرورية نسبة إلى حروراء؛ وهي قرية بالكوفة نزل بها الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد رجوعه من صفين بعد التحكيم، فنسبوا إليها. * تعريف المرجئة: المرجئة هم من أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، وسموا بذلك لأحد سببين: 1ـ إما من الإرجاء وهو التأخير؛ لأنهم أخروا العمل عن الإيمان. 2ـ أو من إعطاء الرجاء، لأنهم غلوا في الرجاء وأهملوا الوعيد. * وهم أربع مراتب في تعريفهم للإيمان وهي كما يلي: 1ـ من يقول: إن الإيمان هو المعرفة فقط، وهؤلاء الغلاة وهم الجهمية.   1 المرجع السابق ص 325. ?? ?? ?? ?? الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 2ـ ومن يقول: إن الإيمان هو التصديق فقط، وهذا مذهب الأشعري والماتريدي. 3ـ ومن يقول: إن الإيمان هو قول اللسان فقط، وهذ قول الكرامية وهو أغربها. 4ـ ومن يقول: إن الإيمان هو اعتقاد القلب وقول السان فقط، وهذا قول عامة الحنفية، وهم من يسمى بمرجئة الفقهاء، وخلافهم مع أهل السنة لفظي والله أعلم. * أما تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة فهو: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، وهو يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. س6: اذكر الفرق الثلاث التي انحرفت في القدر، مع بيان سبب التسمية. ج: الفرق الثلاث هم: 1ـ المجوسية: وهم الذين أنكروا القدر وأقروا بالشرع، وسُمّوا بذلك لأنهم أثبتوا خالقاً غير الله وهو العبد؛ حيث زعموا أنه خالق لفعله. 2ـ المشركية: وهم الذين أقروا بالقدر ولكنهم غلوا فيه حتى أنكروا الأمر والنهي، فصادموا الشرع بالقدر وسموا بذلك لأنهم احتجوا على تعطيل الشرع بالقدر، كما قال المشركون فيما حكى الله عنهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] . 3ـ الإبليسية: وهم الذين أقروا بالأمرين ـ الشرع والقدر ـ ولكنهم طعنوا في حكمة الله تعالى وعدله، وسموا بذلك لمشابهتهم لإبليس في طعنه في حكمة الله تعالى وعدله، حيث قال الله تعالى حكاية عن إبليس: {أنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] ، وكذلك: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] ، فهنا أقر إبليس بخلق الله تعالى وقدرته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وكذلك أقر بشرعه، ولكنه طعن في حكمة الله وعدله؛ لأنه أمره بالسجود لمن هو دونه بزعمه. س7: بين مواقف الناس من الأسباب، مع التوضيح والمناقشة. ج: مواقف الناس من الأسباب هما طرفان ووسط: 1ـ نفاة الأسباب: الذين ينكرون تأثير الأسباب ويجعلونها مجرد علامات يحصل الشيء عندها لا بها، حتى قالوا: انكسار الزجاجة بالحجر حصل عند الإصابة لا أن الإصابة هي التي كسرتها، وهؤلاء خالفوا السمع وأنكروا ما خلقه الله من القوى والطباع. 2ـ غلاة: وهم الذين أثبتوا تأثيرها حتى جعلوها هي المؤثرة بذاتها، فوقعوا في الشرك؛ فأضافوا خلقاً إلى غير الله كما فعل القدرية، وهؤلاء خالفوا المحسوس من عدة وجوه: • الوجه الأول: أن الحس دل على أنه ما من سبب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصوله سببه. • الوجه الثاني: ولا بد من عدم تمانعه يمنعه أثره إذا لم يدفعه الله عنه، فلا يستقل شيء بفعل شيء إلا الله. • الوجه الثالث: أننا نشاهد تخلف بعض المسببات عن أسبابها؛ كتخلف الإحراق عن النار في قصة إبراهيم عليه السلام، حيث قال الله تعالى: {ينَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] . 3ـ ووسط: وهم أهل السنة الذين يثبتون تأثير الأسباب لا لذاتها بل بما أودعه الله فيها من القوة؛ وهي قسمان: 1ـ كونية 2ـ شرعية، وأمثلتها كما يلي: أولاً: الكونية: قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا آقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] ثانياً: الشرعية: قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 [المائدة: 16] وقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] . س8: ما وجه احتياج الناس إلى الشرع؟ ج: وجه ذلك أن الله ـ تعالى ـ قد فطر الإنسان على الفعل لجلب المنافع، أو دفع المضار، ولا بد من التفكير والقدرة؛ فالتفكير لتقدير المنفعة والتمييز بينها وبين المفسدة، والقدرة للتمكن من الفعل، وهذا التفكير لا بد له من توجيه؛ فبعض الأمور قد يعلم نفعها بالفطرة، وبعضها بالتجربة، ولكن بعضها لا يعلمه إلا بالشرع، والله يرسل رسله لهداية خلقه إلى أقوم الطرق. س9: تكلم عن مسألة التحسين والتقبيح من خلال ما يلي: 1ـ المراد بالمسألة 2ـ محل النزاع. 3ـ الأقوال فيها. 4ـ مناقشة الأقوال. 5ـ ما يبنى عليها. ج: أولاً: المراد بالمسألة: المراد بها هو معرفة حسن الشيء وقبحه؛ هل هو ذاتي يدركه العقل، أم أنه اعتباري ونسبي وليست الأشياء في ذاتها حسنة ولا قبيحة؟ ثانياً: تحرير محل النزاع: 1ـ اتفق الجميع على أن ما يوافق غرض الفاعل يسمى حسناً ويدرك بالعقل؛ كحسن قتل العدو وغيره، وما خالف غرض الفاعل يسمى قبيحاً كالإيذاء ونحوه. 2ـ اختلفوا في الأفعال هل توصف بالحسن والقبح لذاته أم هي أمور اعتبارية فقط بحسب موافقة أو مخالفة غرض الإنسان؟ وهل يترتب عليها الثواب والعقاب بمجرد تحسينها وتقبيحها أم ذلك متوقف على الرسل؟ ثالثاً: الأقوال في المسألة: وهي على ثلاثة أقوال: • الأول: قول أهل السنة والجماعة: وخلاصته أن العقل قد يدرك قبح الأفعال وحسنها كقبح الكذب والظلم، وحسن الصدق والعدل، ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 لا يدرك تفاصيل ذلك، ولا يدرك الثواب والعقاب، بل ذلك لا يعرف إلا بالشرع. • الثاني: قول المعتزلة: وخلاصته أن قبح الأفعال وحسنها يعرف بالعقل، ففيها صفات ذاتية لازمة ليس الشرع إلا كاشفاً لها، فيثبت الثواب والعقاب عليها وإن لم يأت الشرع. • الثالث: قول الأشاعرة: وحاصله أنه ليس للأفعال حسن ولا قبح لذاتها؛ وإنما هي معانٍ إضافية غير حقيقية، وما جاء به الشرع من الثواب والعقاب إنما هو لمحض الإرادة لا لحكمة ولا لعلة في الفعل، فالحسن والقبح شرعي محض. رابعاً: مناقشة الأقوال: • القول الأول: وهو قول الأشاعرة: إن القبيح في حق الله ممتنع لذاته، فكل ما كان داخلاً في قدرة الله فهو حسن وله فعله؛ كتعذيب الطائعين وإكرام الكافرين ونحوهما. • القول الثاني: وهو قول المعتزلة إن الله منزه عن القبيح لمجرد كونه قبيحاً عقلاً، وكل ما قبحه العقل فالله منزه عنه مع قدرته عليه. خامساً: كلا القولين ـ قول المعتزلة والأشاعرة ـ غاية في الانحراف؛ فقول الأشاعرة ليس في مدح لله ـ تعالى ـ على عدله وتركه للظلم، بل ليس فيه مدح له مطلقاً؛ لأنه لم يترك القبيح اختياراً وإنما لامتناعه عليه لذاته ـ سبحانه، وقول المعتزلة فيه تسوية لله بخلقه، فكل ما قبحته عقولهم في حق المخلوقين نزهوا الله عنه، فلم يقدروا الله حق قدره. س1 0: ناقش قول من قال: إن الله لا يصدر عنه إلا واحد. مع بيان القائلين به، والمقصود من قولهم. ج: قولهم: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد"ة قول باطل، ويمكن تلخيص الرد عليه بما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 1ـ أنه ليس في الوجود واحد صدر عنه شيء لا واحد ولا اثنان إلا الله تعال، بل كل شيء محتاج إلى غيره في التسبب. أـ فالنار مثلاً لا يحصل الإحراق بها إلا بمحلٍّ يقبل الإحراق. ب ـ وكذلك شعاع الشمس لا بد له من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل وصول الشعاع. 2ـ أن هذا القول من أعظم الجهل، وليس عليه دليل عقلي ولا نقلي، بل الله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات كلها حيث قال: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} فخالق الأزواج واحد، بل وخالق جميع المخلوقات واحد. 3ـ أنه يلزم من قولهم هذا نفي إرادة الله؛ بل هو مجبور حيث صدر منه واحد بالاضطرار! تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. * والقائلين بهذا القول هم الفلاسفة الملاحدة ومن وافقهم من المتفلسفة ممن ينتسب إلى الإسلام كابن سينا. * والمقصود من قولهم: هو أن قولهم هذا مبني على قولهم في شبهة التركيب: إن الله واحد لا قسيم له. فيمكن أن يجاب عنه هنا بما سبق في شبهة التركيب فليراجع هناك. س11: اذكر بعض الألفاظ المجملة للصوفية، وبين ما تحتمله من معان. 1ـ (أريد أن أكون) . 2ـ (إن العارف لا حظَّ له) . 3ـ (إنه يصير كالميت بين يدي الغاسل) . • الاحتمال الأول: إذا كان القائل من فضلاء الصوفية كعبد القادر الجيلاني فيحمل كلامه الأول على أنه لا يريد شيئاً إلا أن يكون مأموراً بإرادته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ويحمل كلامه الثاني على أن العرف لا حظ له فيما لم يؤمر بطلبه، والثالث على أنه مسلم لأوامر الله وأقداره. • الاحتمال الثاني: إن كان مقصوده أن إرادته تبطل بالكلية فلا يحس بالضار والنافع ولا يميز بين الأشياء؛ وهو مخالف للحس والعقل والدين. س12: اذكر أقسام الفناء عند الصوفية مع التوضيح. ج: الفناء عند الصوفية ثلاثة أقسام: 1ـ الفناء عن إرادة السوى. 2ـ الفناء عن شهود السوى. 3ـ الفناء عن وجود السوى. • الأول ـ الفناء عن إرادة السوى: (الفناء الديني الشرعي) فيفنى عن عبادة غير الله بعبادته وحده، وعن طاعة غيره بطاعته وطاعة رسوله، وهذا مطلوب شرعاً لكنه يسمى في الشرع بالإخلاص والإحسان والتقوى والبر والإيمان وغيرها، وينبغي ألا يعدل عن الألفاظ الشرعية؛ فإن تلك الألفاظ مجملة مشتملة على الحق والباطل، ولكن إثمها أكبر من نفعها. • الثاني ـ الفناء عن شهود السوى: أي يفنى بمعبوده وهو الله عن عبادته، أي ينشغل بالله إلى حد يترك فيه عبادته، ويفنى بمذكوره ـ أي: الله ـ عن ذكره وبمعروفه ـ أي الله ـ عن معرفته لنفسه، بحيث يغيب عن شعوره بنفسه وبما سوى الله، وهذا حال ناقص، فمن جعله نهاية السالكين فهو ضال ضلالاً مبيناً، ومن جعله من لوازم الطريق فهو مخطئ. * ووجوه النقص في هذا النوع ما يلي: 1ـ أنه لم يقع للنبي صلى الله عليه وسلم حتى في أعظم المواقف وهو موقف الإسراء والمعراج. 2ـ أن غياب العقل والوصول بصاحبه إلى حال كالمجانين ليس فيه مدح لا عقلاً ولا شرعاً ولا عادة؛ بل يذم من يعتمد ذلك شرعاً وعقلاً وعادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 3ـ أن هذا الفناء دليل على ضعف قلب من يحصل له أنه لم يستطع الجمع بين الإيمان بالله وعبادته. 4ـ أن هذا الفناء فيه تعطيل للشرائع وفتح لباب التهاون في الأعمال وتضييع الفرائض، ومعلوم ما في ذلك من مناقضة صريحة لدين الله. • الثالث ـ الفناء عن وجود السوى: بحيث يرى أن وجود الخالق هو عين وجود المخلوق وأنه واحد بالعين، وهذا قول وحدة الوجود والاتحاد، وهم أضل عباد الله، وهو مذهب ابن عربي الصوفي وابن سبعين وابن الفارض وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 أصل الإسلام الشهادتان قال شيخ الإسلام: "فهذا أصل عظيم، على المسلم أن يعرفه، فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر، وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمَّداً رسول الله. وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين أو أحدهما، مع ظنه انه في غاية التحقيق والتوحيد والعلم والمعرفة، فإقرار المرء بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله، فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمَّداً رسول الله، فيجب تصديقه فيما أخبر. وطاعته فيما أمر، فلا بد من الكلام في هذين الأصلين. • الأصل الأول: توحيد الإلهية، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عن المشركين ـ كما تقدم ـ بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذونهم شفعاء من دون الله تعالى، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الآرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] ، فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذو هؤلاء الشفعاء مشركون، وقال تعالى عن مؤمن يس: {وَمَا لِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أأتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 22ـ25] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] ، فأخبر سبحانه عن شفعائهم أنهم زعموا أنهم فيهم شركاء. وقال تعالى: {أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43ـ44] ، وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [الأنعام: 51] . وقد قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ آيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26ـ28] . وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الآرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ آذِنَ لَهُ} [سبأ: 22ـ23] . وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56ـ57] . قالت طائفة من السلف: كان أقوام يَدْعُون عزيرا والمسيح والملائكة، فأنزل الله هذه للآية بيَّن فيها أن الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه. ومن تحقيق التوحيد أن يُعلم أن الله تعالى أثبت له حقاً لا يشركه فيه مخلوق، كالعبادة والخوف والخشية والتقوى، قال تعالى: {لا تَجْعَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً} [الإسراء: 22] ، وقال تعالى: {إِنَّا آنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * ألا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2ـ3] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر 11] ، وقال تعالى: {قُلْ أفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أعْبُدُ أيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر 64ـ66] ، وكل من أرسل من الرسل يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] . وقد قال تعالى في التوكل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] .، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12] ، وقال تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] ، وقال تعالى: {وَلَوْ آنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] ، فقال في الإيتاء: {مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59] ، وقال في التوكل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ولم يقل: ورسوله؛ لأن الإيتاء هو الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن الإباحة والإحلال الذي بلغه الرسول، فإن الحلال ما حلله، والحرام ما حرّمه، والدين ما شرعه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وأما الحسب فهو الكافي، والله وحده كافٍ عبده، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] ، فهو وحده حسبهم كلهم. وقال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم، وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك، كما يظنه بعض الغالطين، إذ هو وحده كاف نبيه وهو حسبه، ليس معه من يكون هو وإياه حسباً للرسول، وهذا في اللغة كقول الشاعر: * فحسبك والضحّاك سيف مهند * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وتقول العرب: حسبك وزيداً درهم، أي يكفيك وزيداً جميعاً درهم. وقال في الخوف والخشية والتقوى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] فأثبت الطاعة لله وللرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، كما قال نوح عليه السلام: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأطِيعُونِ} [نوح: 2ـ3] ، فجعل العبادة والتقوى لله وحده، وجعل الطاعة للرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله. وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} [المائدة: 44] ، وقال تعالى: {فلا تخا ... مؤمنين} [آل عمران: 175] ، وقال الخليل عليه السلام: {وَكَيْفَ أخَافُ مَا آشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أنَّكُمْ أشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأيُّ الْفَرِيقَيْنِ أحَقُّ بِالآمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81] ، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] . وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم} 1 [لقمان: 13] ، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] ، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} البقرة: 41] . ومن هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "أمن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئاً" 2، وقال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمَّد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمّد"3.   1 متفق عليه: صحيح البخاري (1/87 برقم 32) وهو عنده في مواضع أخرى وصحيح مسلم (1/ 114ـ 115 برقم124) . 2 أخرجه أبو داود في سننه (3/446 ـ 447) وصحح النووي إسناده في شرح مسلم (6/160) . 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/393، وابن ماجة في سننه (1/685 برقم 2118) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ففي الطاعة قرن اسم الرسول باسمه بحرف (الواو) ، وفي المشيئة أمر أن يجعل ذلك بحرف (ثم) وذلك لأن طاعة الرسول طاعةٌ لله، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، وطاعة الله طاعة للرسول بخلاف المشيئة، فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله، ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد، بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إلا أن يشاء الله. • الأصل الثاني: حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نؤمن به، ونطيعه، ونتبعه، ونرضيه، ونحبه، ونسلم لحكمه، وأمثال ذلك، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ} [التوبة: 24] ، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي آنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] وأمثال ذلك. فصل إذا ثبت هذا فمن المعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره: بقضائه وشرعه. وأهل الضلال الخائصون في القدر انقسموا على ثلاث فرق: مجوسية ومشركية، وإبليسية. • فالمجوسية الذين كذَّبُوا بقدر الله، وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدتهم أنكروا عموم مشيئة الله وخلقه وقدرته، وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم. • والفرقة الثانية ـ المشركية: الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 الأمر والنهي، قال الله تعالى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] ، فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدّعي الحقيقة من المتصوفة. • والفرقة الثالثة ـ الإبليسية: وهم الذين أقروا بالأمرين، لكن جعلوا هذا تناقضاً من الرب سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله، كما يُذكر مثل ذلك عن إبليس مقدمهم كما نقله أهل المقالات، ونقل عن أهل الكتاب. والمقصود أن هذا مما يقوله أهل الضلال، وأما أهل الهدى والفلاح فيؤمنون بهذا وهذا، فيؤمنون بأن الله خالق كل شيء قدير، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء أحصاه في كتاب مبين. ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله، وقدرته، ومشيئته ووحدانيته، وربوبيته، وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه ما هو من أصول الإيمان. ومع هذا لا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب، التي يخلق بها المسببات، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] ، وقال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16] ، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] فأخبر أنه يفعل بالأسباب. ومن قال: يفعل عندها لا بها، فقد خالف ما جاء به القرآن وأنكر ما خلقه الله من القُوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان التي يفعل الحيوان بها مثل قدرة العبد. كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله، وأضاف فعله على غيره، وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه، ولا بدّ له من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه، فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إلا الله وحده، قال تعالى: {وَمِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] ، أي فتعلمون أن خالق الأزواج واحد. ولهذا من قال: إن الله لا يصدر عنه إلا واحد؛ لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحدا؛ كان جاهلاً، فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء، لا واحد ولا اثنا، إلا الله خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، فالنار التي جعل الله فيها حرارة، لا يحصل الإحراق إلا بها وبمحل الاحتراق، فإذا وقعت على السمندل والياقوت ونحوهما لم تحرقهما، وقد يُطلى الجسم بما يمنع إحراقه، والشمس التي يكون عنها الشعاع لابد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل الشعاع تحته، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنه لابدّ من الإيمان بالقدر، فإن الأيمان بالقدر من تمام التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو نظام التوحيد، فمن وحَّد الله وآمن بالقدر تَمَّ توحيده، ومن وحَّد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. ولا بدّ من الإيمان بالشرع، وهو الإيمان بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه. والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لا بد له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يمييز بين الأفعال التي تنفعه، والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يُمَكِّن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميّزون به بين ما يفعلونه ويتركون. وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لابد له من فعل وترك، فإن الإنسان همّام حارث، كما قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق الأسماء حارث وهمّام" 1، وهو معنى قولهم: متحرك بالإرادة، فإذا كان له إرادة هو متحرك بها، فلابد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار؟ وهل يصلحه أو يفسده؟ وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضه يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضهم لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم له، وهدايتهم إياهم. وفي هذا المقام تكّم الناس في الأفعال هل يعرف حسنها وقبحه بالعقل، أم ليس لها حسن وقبح يعرف بالعقل؟ كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينَّا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه، فإنهم اتفقوا على أن يكون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سبباً لما يحبه الفاعل ويلتذ به، وسبباً لما يبغضه ويؤذيه. وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما جميعاً أخرى، لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعلم إلا بالشرع، فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وأمرت به من تفاصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم جمل ذلك. وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان، وجاء به الكتاب هو مما دلّ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] ، وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50] ، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: 45] .   1 أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص 120، وأبو داود في سننه (3/393) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ولكن طائفة توهمت أن للحسن والقبح معنى غير هذا، وأنه يعلم بالعقل، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح يخرج عن هذا، فكلتا الطائفتين اللتين أثبتتا الحسن والقبح العقليين أو الشرعيين وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت. ثم إن كلتا الطائفتين لما كانت تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا والسخط والفرح ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية، ودلَّت عليه الشواهد العقلية تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ماهو منه قبيح، هل ذلم ممتنع لذاته وأنه لا تتصور قدرته على ما هو قبيحو أو أنه سبحانه وتعالى منزه عن ذلك لا يفعل لمجرد القبح العقلي الذي أثبتوه؟ على قولين: والقولان في الانحراف من جني القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة المعصية، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محموداً على ما فعله من العدل أو تركه من الظلم، ولا ما فعله من الإحسان والنعمة أو تركه من العذاب والنقمة، والآخرون نزّهوه بناءً على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يُؤمر به ويُنهى عنه. فمن نظر إلى القدر فقط، وعظَّم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية، لم يميّز بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشد والعي، وأولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار، وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله ودينه وشرائعه، فهم مخالفون أيضاً لضرورة الحس والذوق، وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لا بد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء، فيميّز بين ما يُؤكل ويشرب، وما لا يُؤكل ولا يشرب، وبين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، وهذا التمييز ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية. ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي إلى حد يستوي عنده الأمران دائماً فقد افترى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وخالف ضرورة الحس، ولكن قد يعرض للإنسان بعض الأوقات عارض كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغله عن الإحساس ببعض الأمور، فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه فهذا ممتنع، فإن النائم لم يسقط إحساسه نفسه، بل يرى في منامه ما يسره تارة وما يسوؤه أخرى، فالأحوال التي يُعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها لضعف تمييزه لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقاً. ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقاً، وعظَّم هذا المقام فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية قدراً وشرعاً: غلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن وجود هذا، ولا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز والعقل والمعرفة. وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول: أريد أن لا أريد، أو إن العارف لا حظّ له، أو إنه يصير كالميت بين يدي الغاسل، ونحو ذلك، فهذا إنما يمدح منه سقوط إراداته التي لم يؤمر بها، وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يُؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يُؤمر بدفعه. ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذة والألم، والنافع والضار، فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل، ومن مدح هذا فهو مخالف ضرورة الدين والعقل. والفناء يُراد به ثلاثة أمور: • أحدها: وهو الفناء الديني الشرعي الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، هو أن يفنى عما لم يأمر الله به بفعل ماأمر الله به، فيفنى عن عبادة غيره بعبادته، وعن طاعة غيره بطاعته وطاعة رسوله، وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه، وعن محبة ما سواه بمحبته ومحبة رسوله، وعن خوف غيره بخوفه، بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله، وبحيث يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ} [التوبة: 24] ، فهذا كله مما أمر الله به ورسوله. • وأما الفناء الثاني: وهو الذي يذكره بعض الصوفية، وهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى، فيفنى بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، بحيث قد يغيب عن شعوره بنفسه وبما سوى الله؛ فهذا حالٌ ناقص، قد يعرض لبعض السالكين، وليس هو من لوازم طريق الله، ولهذا لم يعرض مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين. ومن جعل هذا نهاية السالكين فهو ضالٌّ ضلالاً مبيناً، وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ، بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض، ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك. • وأما الثالث: فهو الفناء عن وجود السوى، بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، وأن الوجود واحد بالعين، فهذا قول أهل الإلحاد والاتحاد، الذي هم من أضلّ العباد. وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس، فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله، فإنه إذا كان مشاهداً للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور، فعومل بموجب ذلك؛ مثل أن يُضرب ويُجاع حتى يبتلى بعظيم الأوصاب والأوجاع فإن لام من فعل ذلك به وعابه فقد نقض قوله، وخرج عن أصل مذهب، وقيل له: هذا الذي فعله مقضي مقدور، فخلق الله وقدره ومشيئته متناول لك وله، وهو يعمّكما، فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لهذا، وإلا فليس بحجة لا لك ولا له، فقد تبين بضرورة العقل فساد قول من ينظر إلى القدر، ويعرض عن الأمر والنهي. والمؤمن مأمور بأن يفعل المأمور، وبترك المحظور، ويصبر على المقدور، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عنران: 120] ، وقال تعالى في قصة يوسف: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] فالتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى [الله] عنه، ولهذا قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر: 55] ، فأمره مع الاستغفار بالصبر، فإن العباد لا بد لهم من الاستغفار أولهم وآخرهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" 1.وقال: (إن ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة) • وكان يقول "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت"2. وقد ذكر عن آدم أبي البشر أنه استغفر ربه وتاب إليه، فاجتباه ربه وتاب عليه وهداه، وعن إبليس أبي الجن أنه أصرّ متعلقاً بالقدر فلعنه وأقصاه، فمن أذنب فتاب وندم فقد أشبه اباه، ومن أشبه اباه فما ظلم، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الآمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ آنْ يَحْمِلْنَهَا وَأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72ـ73] . ولهذا قرن سبحانه وتعالى بين التوحيد والاستغفار في غير آية، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمَّد: 19] ، وقال تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] ،   1 أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (1/101 برقم 6307) والإمام مسلم في صحيحه (4/2076 برقم 2702) نحوه. 2 أخرجه مسلم في صحيحه (4/2075 برقم 2702) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وقال تعالى: {ا?لر لكِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * ألا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أجَلٍ مُسَمًّى} [هود: 1ـ3] . وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره: "يقول الشيطان أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً1. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن ذي النون أنه نادى في الظلمات: {أنْ لا إِلَهَ إِلا أنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 88] ، قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرَّج الله بها كربه"2. وجماع ذلك أنه لابد له في الأمر من أصلين، ولا بد له في القدر من أصلين، ففي الأمر عليه الاجتهاد في الامتثال علماً وعملاً، فلا يزال يجتهد في العلم بما أمر الله به، والعمل بذلك، ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور وتعديه للحدود. ولهذا كان من المشروع أن تختتم جميع الأعمال بالاستغفار؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً3، وقد قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ} [آل عمران: 17] ، فقاموا الليل ثم ختموا بالاستغفار، وآخر سورة نزلت في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ   1 أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/207) وقال عنه: " رواه أبو يعلى، وفيه عثمان بن مطر، وهو ضعيف". 2 أخرجه الترمذي في سننه (9/479 ـ 480 برقم 85) والحاكم في المستدرك (1/505) و (2/383) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 3 أخرجه مسلم في صحيحه (1/414 برقم 591) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 كَانَ تَوَّابًا} 1 [النصر: 1ـ3] ، وفي الحديث الصحيح أنه كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن2. وأما في القدر فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به، ويتوكل عليه، ويدعوه، ويرغب إليه، ويستعيذ به، فيكون مفتقراً إليه في طلب الخير وترك الشر، وعليه أن يصبر على المقدور، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا آذاه الناس علم أن ذلك مقدَّر عليه. ومن هذا الباب احتجاج آدم وموسى، لما قال: يا آدم، أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، فبكم وجدت مكتوباً عليَّ قبل أن أُخلق {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] ، قال: بكذا وكذا سنة، قال: فحج آدم موسى3. وذلك أن موسى لم يكن عتبه للآدم لأجل الذنب، فإن آدم كان قد تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولكن لأجل المصيبة التي لحقتهم من ذلك، وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب، وأن يستغفروا من المعائب، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] . فمن راعى الأمر والقدر ـ كما ذكر ـ كان عابداً لله، مطيعاً له، مستعيناً به، متوكلاً عليه، من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في غير موضع، كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ   1 أخرجه مسلم في صحيحه (1/2318 برقم 591) . 2 تقدم تخريجه. 3 متفق عليه: صحيح البخاري (6/441 برقم 3409) صحيح مسلم (4/2042ـ 2044برقم 2652) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] ، وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2ـ3] ، فالعبادة له والاستعانة به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الأضحية: "اللهم منك ولك"1، فما لم يكن بالله لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله لا ينفع ولا يدوم. ولابد في عبادته من أصليين: أحدهما: إخلاص الدين له. والثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله. ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة2. ولهذا ذمَّ الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدِّين الذي لم يأذن به الله من عبادة غيره، وفعل ما لم يشرعه من الدين، قال الله تعالى: {أمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] ، كما ذمَّهم على أنهم حرّموا مالم يحرمه الله، والدين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله. ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام:   1 أخرجه أبو داود في سننه (7/496ـ497) وابن ماجه في سننه (2/1043 برقم 3121) . 2 انظر قوله في: تفسير البغوي بهامش تفسير ابن كثير (8/424) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 فالمؤمنون المتقون هم له وبه، يعبدونه ويستعينونه. وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم تحرِّيا للطاعة والورع، ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر، بل فيهم عجز وجزع. وطائفة فيهم استعانة وتوكّل وصبر من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة، فقد يمكن أحدهم ويكون له نوع من الحال باطناً وظاهراً، ويُعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول، ولكن لا عاقبة له، فإنه ليس من المتقين، والعاقبة للتقوى، فالأولون لهم دين ضعيف، ولكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز، وهؤلاء لأحدهم حال وقوة ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر، واتبع فيه السنة. وشر الأقسام من لايعبده ولا يستعينه، فهو لا يشهد أن عمله لله، ولا أنه بالله. فالمعتزلة ونحوهم من القدرية الذين أنكروا القدر هم في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من هؤلاء الجبرية القدرية الذين يعرضون عن الشرع والأمر والنهي، والصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية خير من المعتزلة، ولكن فيهم من فيه نوع بدع مع إعراض عن بعض الأمر والنهي، والوعد والوعيد، حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك، فيصيرون أيضاً معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم، فهم معتزلة من الوجه، وقد يكون ما وقعوا فيه من البدع شراً من بدعة أولئك المعتزلة، وكلتا الطائفتين نشأت من البصرة". معاني الكلمات: أصل: الأصل هو ما يُبنى عليه غيره. أصل الإيمان: هم أهل التصديق بالله والانقياد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين: هم أهل البدع من أهل الكلام والتصوف. غاية التحقيق: هو نهاية التحقيق. الوحدانية: اعتقاد الوحدانية لله ذاتاً وصفة وفعلاً. توحيد الألوهية: هو إفراد الله بالعبادة. عناصر الموضوع: 1ـ حقيقة الشرع وأصله: حقيقة الشرع وأصله مبني على الإقرار بالوحدانية والرسالة هما حقيقة الشرع، وهما اللذان يفرق بهما بين المسلمين وغيرهم، لا مجرد الإقرار بالربوبية كما يزعم طوائف من أهل الكلام والتصوف. 2ـ أركان لا إله إلا الله: كلمة التوحيد والتقوى لها ركنان: • الركن الأول: هو "لاإله" نفي الألوهية الحقة عن كل ما سوى الله من المخلوقات. • الركن الثاني: هو "إلا الله" إثبات الألوهية لله وحده لا شريك له. 3ـ معنى لا إله إلا الله عند أهل السنة ومخالفيهم: المقرون بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله" افترقوا في معناها على أربع فرق1:   1 الرسالة السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 • الفرقة الأولى قالت: معناها لا معبود إلا الله، وبناءً على ذلك فإنهم ألَّهوا كل معبود من دون الله، قالوا: لأن الله أخبر في كتابه بأنه قضى وقدَّر أن لا يعبد إلا هو فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] ؛ فمن أمحل المحال أن يُعبد إلا الله، معبود عندهم هو الله حقاً، فالعجل هو الله، وفرعون هو الله حقاً، والبقر هو الله، والكواكب هي آلهة حقاً، والأصنام آلهة حقاً، وهذا هو مذهب أهل الحلول والاتحاد. • والفرقة الثانية قالت: معناها لا موجود إلا الله، فليس لله تعالى وجود سوى هذا العالم المرئي، وهؤلاء هم أصحاب وحدة الوجود. • والفرقة الثالثة قالت: إن معنى لا إله إلا الله هو القدرة على الاختراع، وأن من اعتقد أن الله هو وحده القادر على الاختراع؛ فقد حقق معنى لا إله إلا الله، وهذا هو مذهب أهل الكلام. • والفرقة الرابعة: هم أهل السنة والجماعة؛ فإنهم هم الذين يوحّدون الله تعالى حقاً بأقوالهم وأفعالهم امتثالاً لأمره تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الوارد في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأنَا أوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162ـ163] ، وهم الذين يفسرون لا إله إلا الله بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وبقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] ، وبقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] ، وبقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * ألا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2ـ3] إلى غير ذلك من الآيات التي تمنع التوكل أو الاعتماد على غيره تعالى، فأهل السنة والجماعة لا يدعون إلا الله، ولا يستغيثون إلا بالله، ولا ينذرون إلا الله، ولا يحلفون إلا بالله، وهم الذين يخشونه ولا يخشون أحداً سواه1. 4ـ دلالة "لا إله إلا الله" على التوحيد بكل أنواعه: كلمة "لا إله إلا الله" هي العروة الوثقى، وكلمة التقوى، وأساس   1 الرسالة السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 التوحيد، وقد دلّت هذه الكلمة على جميع أقسام التوحيد التي ذكرها أهل السنة والجماعة، وذلك على النحو الآتي: أـ دلالتها على الألوهية: وذلك لأن معناها الحقيقي لا مستحق للعبادة إلا الله تعالى، "فلا إله" نفت استحقاق العبودية عما سوى الله تعالى، و"إلا الله" أثبتت جميع أنواع العبادة لله وحده، فهذه دلالتها على توحيد الألوهية. ب ـ توحيد الربوبية: أي انفراد الله تعالى بخصائص الربوبية، وقد دلت كلمة "لا إله إلا الله" على توحيد الربوبية على سبيل التضمن، فتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية بالدلالة، وذلك لأنه لا يستحق أن يفرد بالعبادة إلا من كان منفرداً بالربوبية، كما قال تعالى: {هل من خالق ..... إلا هو} [فاطر: 3] ، فدلت الآية على أنه لا يستحق أن يعبد إلا المنفرد بالملك والرزق وغيره من أمور الربوبية، وهكذا نجد أن كلمة التوحيد دالة على توحيد الربوبية على سبيل التضمن. ج ـ توحيد الأسماء والصفات: وذلك لأن إثبات وجود الله أصلاً يعد إثباتاً لأسمائه وصفاته، وذلك لأنه لا يتصور وجود ذات دون أسماء وصفات؛ لأن هذا لا يصح إلا في حق الممتنعات والمعدومات، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على دلالة كلمة لا إله إلا الله على جميع أنواع التوحيد، حيث قال رحمه الله تعالى: "وشهادة أن لا إله إلا الله فيها الإلهيات، وهي الأصول الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأصول الثلاثة تدور عليها أديان الرسل وما أنزل إليهم، وهي الأصول الكبار التي دلت عليها وشهدت بها العقول والفطر"1.   1 نقلاً عن كتاب التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 5 ـ الغاية من خلق الخلق وإرسال الرسل: اختلف تحديد الغاية من خلق الخلق وإرسال الرسل عند أهل السنة عنه عند مخالفيهم، وذلك كما يلي: * أولاً ـ عند أهل السنة: يقول أهل السنة: إن الغاية من خلق الله هي عبادة الله وحده، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، فالآية صريحة في بيان أن توحيد العبادة هو غاية خلق الخلق، وكذلك فهو الغاية العظمى من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو أول دعوة الرسل، والغاية من خلق الجن والإنس كما يشهد بذلك الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36] . ومن السنة حديث ابن عباس وفيه: أن رسول الله لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ـ عز وجل ـ ... "1. فهذان النصان الشرعيان دالان على أن أول دعوة الرسل والغاية من بعثهم هي الدعوة إلى توحيد الله في العبادة، والنصوص الشرعية في ذلك كثيرة. * ثانياً ـ عند المخالفين من أهل الكلام: خالف أهل الكلام المذموم أهل السنة؛ فجعلوا الغاية العظمى من إرسال الرسل وإنزال الكتب معرفة الله، وإثبات الصانع الخالق سبحانه وتعالى، وهي إثبات الربوبية لله تعالى. وليتهم وقفوا عند هذا؛ بل زعموا أن توحيد الربوبية هو الغاية العظمى   1 أخرجه مسلم 1/51 ح (31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 من بعثة الرسل، وأنهم إذا أثبتوه بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد1. وفي ذلك يقول الشيخ محمد عبده: "أصل معنى التوحيد اعتقاد أن الله واحد لا شريك له.. وهو إثبات الوحدة لله في الذات والفعل في خلق الأكوان، وأنه وحده مرجع كل كون ومنتهى كل قصد، وهذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما تشهد به آيات الكتاب العزيز2. والرد على هذا ما يلي: أـ أن توحيد الربوبية نوعٌ من التوحيد فهو بعضه لا جميعه، وقد أقرّ به المشركون، فكيف مع ذلك يكون هو الغاية العظمى من بعثة الرسل؟. ب ـ أن مجرد الإقرار بهذا التوحيد فقط لا يُوجب الدخول في الإسلام ولا يصير به الرجل مسلماً. فمشركو العرب كانوا مقرين بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء، ومع هذا سماهم مشركين، حيث قال عنهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] . فالمراد بقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ} هو تصديقهم واعترافهم بأن الله تعالى هو الخالق الرازق، والمراد من قوله تعالى: {إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} أي: أنهم أشركوا مع الله في عبادته، وهذا ما فسر به السلف هذه الآية3. قال محمود الألوسي الحنفي في تفسير هذه الآية: "يندرج فيهم كل من أقر بالله تعالى وخالقيته مثلاً، وكان مرتكباً شركاً كيفما كان، ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضرر ممن الله تعالى أعلم بحالة من فيها، وهم اليوم أكثر من الدود"4.   1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: (2/845 – 846) ، ومجموع الفتاوى: (3/98) ، وفتح المجيد ص13. 2 رسالة التوحيد ص43. 3 كابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك، انظر: جامع البيان: (14/77) ، ومعالم التنزيل: (2/452) . 4 روح المعاني (13/67) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 6 ـ أول واجب على المكلف: لقد اختلف تحديد أول واجب على المكلف عند أهل السنة وعند أهل الكلام من المخالفين، وذلك بناء على اختلافهم في معنى التوحيد أصلاً، وفي معنى "لا إله إلا الله". وسنحاول إيجاز ذلك على النحو التالي: أـ أول واجب على المكلف عند أهل السنة: ينص أهل السنة والجماعة أن أول ما يجب على العبد: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإفراد الله تعالى بالعبادة، وحجتهم في ذلك أمور، من أهمها: قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، لما أرسله إلى اليمن: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ... "1. قال ابن أبي العز الحنفي: "ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك، كما هي أقوال أرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يُؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه ... "2. ب ـ أول واجب على المكلف عند أهل الكلام: اختلف أهل الكلام المذموم في بيان أول واجب على المكلف، وذلك كما يلي: 1 ـ ذهبت طائفة كابن فورك وغيره إلى أن النظر العقلي والاستدلال المؤدي إلى معرفة الخالق هو أول ما يجب على المكلف، وحجتهم أن النظر مقدمة الواجب الذي هو معرفة الله. 2 ـ وذهبت طائفة كأبي بكر بن الطيب وأبي إسحاق الإسفراييني إلى أن   1 أخرجه البخاري (3/357) ح (1496) . 2 شرح الطحاوية ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 القصد إلى النظر هو أول الواجبات، وحجتهم في ذلك أن النظر ذو أجزاء يترتب بعضها على بعض1. 3 ـ وذهبت طائفة إلى أن أول واجب هو الشك الحامل على البحث الموصل إلى المعرفة واليقين، وهذا قولٌ خطير جداً؛ لأنه يجعل الشك في الله ـ وهو كفر ـ يجعله أول ما يجب على المكلف2. قال القرطبي في (المفهم) في شرح حديث: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم": "هذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة والشبه الموهومة، وأشد ذلك الخصومة في الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسلف أمته؛ إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة وقوانين جدلية وأمور صناعية مدار أكثرها على آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية ينشأ بسببها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالاً عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء قد ارتكبوا أنواعاً من المحال لا يرتضيها البُلُه ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيّز الجواهر والألوان والأحوال، فأخذوا فيما أمسك عنه السلف الصالح من كيفيات تعلقات صفات الله تعالى وتعديدها واتحادها في نفسها، وهل هي الذات أو غيرها، وفي الكلام: هل هو متحد أو منقسم، وعلى الثاني: هل ينقسم بالنوع أو الوصف، وكيف تعلق في الأزل بالمأمور مع كونه حادثاً، ثم إذا انعدم المأمور هل يبقى التعلق؟ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلاً هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك مما ابتدعوه مما لم يأمر به الشرع وسكت عنه الصحابة ومن سلك سبيلهم، بل نُهوا عن الخوض فيها لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حد تقف عنده، ولا فرق بين   1 نقل ذلك والذي قبله ابن حجر في الفتح: (13/361) . 2 نقله في الفتح: (13/363) عن القرطبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 البحث عن كيفية الذات وكيفية الصفات، ومن توقف في هذا فليعلم أنه إذا كان حجب عن كيفية نفسه مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يدرك به فهو على إدراك غيره أعجز، وغاية علم العالم أن يقطع بوجود فاعل لهذه المصنوعات منزه عن الشبيه، مقدَّس عن النظير، متصف بصفات الكمال. ثم متى ثبت النقل عنه بشيء من أوصافه وأسمائه قبلناه واعتقدناه وسكتنا عما عداه، كما هو طريق السلف، وما عداه لا يأمن صاحبه من الزلل، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما ثبت عن الأئمة المتقدمين كعمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، والشافعي، وقد قطع بعض الأئمة بأن الصحابة لم يخوضوا في الجوهر والعرض وما يتعلق بذلك من مباحث المتكلمين، فمن رغب عن طريقهم فكفاه ضلالاً. قال: وأفضى الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع وتطلبهم حقائق الأمور من غيره، حتى جاء عن إمام الحرمين أنه قال: "ركبت البحر الأعظم، وغضتُ في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فراراً من التقليد، والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب أهل السلف". هذا كلامه أو معناه، وعنه أنه قال عند موته: "يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغت ما تشاغلت به" إلى أن قال القرطبي: ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقاً بالذم: إحداهما: قول بعضهم: إن أول واجب الشك؛ إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله: ركبتُ البحر. ثانيتهما: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه، حتى لقد أورد على بعضه أن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك، فقال: لا تشنع عليَّ بكثرة أهل النار، قال: وقد ردّ بعض من لم يقل بهما على من قال بهما بطريق من الرد النظري وهو خطأ منه، فإن القائل بالمسألتين كافر شرعاً، لجعله الشك في الله واجباً، ومعظم المسلمين كفاراً حتى يدخل في عموم كلام السلف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة، وإلا فلا يوجد في الشرعيات ضروري، وختم القرطبي كلامه بالاعتذار عن إطالة النَّفَس في هذا الموضع لما شاع بين الناس من هذه البدعة، حتى اغتر بها كثير من الأغمار فوجب بذل النصيحة، والله يهدي من يشاء". انتهى. 7 ـ معنى شهادة أن محمداً رسول الله: أي أقرُّ وأصدق التصديق الجازم من صميم قلبي المواطئ لقول لساني بأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله إلى الناس كافة، فحقيقة شهادة أن محمداً رسول الله " هو: الانقياد التام والطاعة المطلقة له "، والتمسك بما جاء به عن ربه جل وعلا، ونشر سنته وحماية جناب التوحيد الذي بيّنه، وتعظيم أمره ونهيه، واتباع هديه صلى الله عليه وسلم، ومحبته أكثر من محبة النفس والمال والولد. 8 ـ مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله: مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله يتلخص في أمور: أـ الإيمان به عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] . ب ـ طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . ج ـ تصديقه فيما أخبر. د ـ نتبعه لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] . هـ ـ اجتناب ما نهى عنه وزجر. وـ محبته عليه الصلاة والسلام. ز ـ وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع المصطفى صلى الله عليه وسلم. ح ـ التسليم لحكمه لقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . ي ـ نُرضي الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . 9 ـ الشهادة للرسول بالرسالة مقرونة بالشهادة لله بالتوحيد: الشهادة للرسول بالرسالة مقرونة بالشهادة لله بالتوحيد، فلا تكفي إحداهما عن الأخرى، ولا بد فيه من اعتراف العبد بكمال عبودية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى وكمال شريعته. 10 ـ طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه: أوجب الله تعالى على جميع الخلق طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به واجتناب ما نهى عنه وحذرهم من مخالفة أمره؛ فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أآنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ} [النور: 63] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31 ـ 32] . ولا شك أن مما يجب على العباد محبة ربهم، ولكن حصول هذه المحبة وقبولها متوقف على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة هذا الاتباع طاعته صلى الله عليه وسلم فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر. 11 ـ عبادة الله لا تكون إلا بما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الموضح والمبيّن والمفسِّر لما أتى به الكتاب الكريم من أوامر ونواهٍ؛ لذا وجب على أمته أن تعبد الله بما شرع لها الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، فمن عمل عملاً لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو رد، وكما قال عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الصلاة والسلام: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"1. وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"2. المقصود أن إخلاص العبادة ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات على كل عبد. 12 ـ حقيقة التوحيد هو إفراد الله بالعبادة: إن حقيقة التوحيد هي إفراد الله بجميع العبادات الظاهر منها كالصلاة والحج والصيام وغيرها، والباطنية كالتوكل والخوف والتقوى والمحبة وغيرها. 13 ـ الأدلة على إخلاص العبادة لله تعالى: أـ قوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء 22] . ب ـ {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] . ج ـ {قُلْ أفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أعْبُدُ آيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] . د ـ {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59 ـ 65 ـ 73 ـ 85] . ثم ذكر شيخ الإسلام أدلة التوكل والخوف والخشية والتقوى، فارجع إليها ـ رحمك الله ـ في الرسالة التدمرية. 14 ـ معنى قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] . هذا وعد الله لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم بالكفاية والنصرة على الأعداء، فإذا أتوا بالسبب الذي هو الإيمان والاتباع فلا بد أن يكفيهم ما أهمّهم من أمور الدين والدنيا، وإنما تتخلف الكفاية بتخلف شرطها، وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك أي: حسبك الله والمؤمنون، فتكون   1 أخرجه البخاري: (3/167) . 2 أخرجه مسلم: (3/1343) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 (من) في محل رفع عطفاً على اسم الله تعالى، وهذا الذي غلّطه شيخ الإسلام. 15 ـ الطاعة لله ولرسوله وأما الخشية والتقوى فهي لله وحده: جعل الله الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم طاعة له فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] ، فأثبت الطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، فيجب إفراد الله بالعبادات الظاهرة والباطنة. 16 ـ وقفات مع قوله عليه الصلاة والسلام: "ومن يعصهما": ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرن اسمه باسم الله في المعصية فقال: "ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً"1، وهو حديث ضعيف2، وهو معارض للحديث الصحيح الذي فيه أن رجلاً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعضهما فقد غوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله"3. فنهاه عن الجمع بين ضمير الله تعالى وبين ضمير رسوله صلى الله عليه وسلم. 17 ـ النبي صلى الله عليه وسلم قرن اسمه باسم الله بحرف (الواو) في الطاعة، وبحرف (ثم) في المشيئة: قرن النبي صلى الله عليه وسلم اسمه باسم الله تعالى بحرف (و) في الطاعة؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "من يطع الله ورسوله فقد رشد"4.   1 رواه أبو داود: (3/446) . 2 ممن ضعّفه من أهل العلم المنذري كما في مختصر السنن: (2/18) ، والشوكاني في نيل الأوطار: (3/325) . 3 أخرجه مسلم وأبو داود. 4 أخرجه أبو داود (3/446) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وفي المشيئة أمر أن يقرن بـ (ثم) فقال: "قولوا ما شاء الله ثم ما شاء محمد"1. وذلك لأن طاعة الرسول طاعة لله تعالى بخلاف المشيئة، فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله، بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس. 18 ـ شرطا قبول العبادة: أـ الإخلاص لله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * ألا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 ـ 3] . ولقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] . ب ـ موافقة ما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] . ولقوله عليه الصلاة والسلام: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"2. 19 ـ أصول العبادة: أصول العبادة هي: المحبة، والخوف، والرجاء، وقد جمعها الله تعالى في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] ، فابتغاء القرب إشارة إلى المحبة، ثم الرجاء، وبعده الخوف. 20 ـ منزلة الحب أرفع من منزلة الخوف: وذلك لسببين: أـ أن المحبة مقصودة لذاتها، وأما الخوف فمقصود لغيره.   1 أخرجه أبو داود (4166) . 2 أخرجه مسلم برقم: (1718) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 ب ـ أن الخوف يتعلق بأفعال الله، والمحبة تتعلق بذاته وصفاته1. 21 ـ مراعاة الشرع والقدر توجب العبادة والاستعانة: مراعاة الشرع والقدر توجب العبادة والاستعانة لأن الأصل الأول من الشرع هو العبادة، والأصل الأول من القدر هو الاستعانة، وهذا هو الصراط المستقيم، وقد جمع الله تعالى بين العبادة والاستعانة وهي التوكل في مواضع من كتابه منها: أـ قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . ب ـ وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] . ج ـ وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10] . د ـ وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 ـ 3] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الأضحية: "اللهم منك وإليك"2. أي: منك إعانة وتوفيقاً ورزقاً، وإليك عبادة وطاعة وتقرباً، فما لم يكن بالله ومشيئته وتوفيقه لا يكون، وما لم يكن لله تعالى قربة وطاعة لا يدوم، وهذا غاية التوحيد والتحقيق، فالعبادة تحقيق لتوحيد الألوهية، والاستعانة تحقيق لتوحيد الربوبية3. 22 ـ وجوب الاستغفار في الذنوب والمصائب الشرعية: لا يحتج بالقدر في الذنوب والمصائب الشرعية بل يجب الاستغفار، أما في المصائب الكونية ينظر إلى القدر ويحتج به مع الصبر عليها، ومن هذا القبيل احتجاج آدم على موسى بالقدر لما قال موسى: يا آدم، أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته،   1 انظر مدارج السالكين: (1/55) . 2 أخرجه أبو داود برقم: (2795) . 3 بدائع تفسير ابن القيم: (1/66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، فبِكم وجدت مكتوباً عليّ من قبل أن أخلق: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] ، قال: بكذا وكذا، فقالصلى الله عليه وسلم: "فحج آدم موسى"1. لأن موسى لم يعاتب آدم لأجل الذنب، فإنه قد تاب منه ولكن لأجل المصيبة التي لحقتهم وهي إخراجهم من الجنة2. وقد جمع الله تعالى بين الاستغفار عن الذنوب والصبر على الكروب كما في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] . المقصود أن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، فالإيمان بالقضاء السابق والتقدير الماضي يعين العبد على أن ترضى نفسه بما يصيبه فيصبر على المصائب3، ففي المصائب الشرعية يجب الاستغفار، وفي المصائب الكونية يجب الصبر. 23 ـ العلاقة بين الاستغفار وتوحيد العبادة: للعبادة والعمل الصالح أصلان: أـ الأصل الأول: يكون مع العبادة، وهو الاجتهاد في الإتيان بالعبادة على وجه الكمال وفق شرع الشارع. ب ـ الأصل الثاني: يكون بعد العبادة: فيستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور وتعديه الحدود. لذلك جمع الله بين توحيد العبادة والاستغفار في مواضع كثيرة، منها: أـ قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] . ب ـ وقوله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] .   1 أخرجه البخاري: (6/441) ، ومسلم: (4/2042) . 2 اقتضاء الصراط المستقيم ص495. 3 جامع العلوم والحكم: (1/377) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 ج ـ وذكر الله تعالى عن ذي النون أنه نادى في الظلمات: {أنْ لا إِلَهَ إِلا أنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء 87] ، فقال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوة أخي ذي النون: ما دعا بها مكروبٌ إلا فرَّج الله كربه"1. د ـ في الحديث يقول الشيطان: "أهلكتُ الناسَ بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله وبالاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً"2. 24 ـ جماع الكلام في الشرع والقدر: جماع الكلام في الشرع والأمر والقدر أنه لا بد من أصلين: أصلٌ قبله: وهو الاجتهاد والامتثال فلا يزال العبد يجتهد في العلم بما أمر الله والعمل بذلك. وأصلٌ بعده: وهو الاستغفار. ولا بد في القدر من أصلين: أصلٌ قبله: وهو الاستعانة، فيستعين بالله في فعل ما أمر به ويتوكل عليه. وأصل بعده: وهو الصبر فيصبر على المقدور. 25 ـ مشروعية ختم العبادات بالاستغفار: شرع أن تختم جميع العبادات بالاستغفار، وأمثلة ذلك فيما يلي: أـ قوله تعالى: {وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] ، فقاموا الليل بالعبادة ثم ختموه بالاستغفار. ب ـ قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأيْتَ النَّاسَ   1 أخرجه أحمد: (1/70) ، والحاكم: (1/55) وصححه ووافقه الذهبي. 2 رواه ابن أبي عاصم في السنة رقم (7) ص10، وقال الألباني في تحقيقه: "إسناده موضوع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 ـ 3] قال ابن القيم: "فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجاً، فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأداها فشرع له الاستغفار عقيبها"1. ج ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً2.   1 إعلام الموقعين: (1/436) . 2 رواه مسلم: (1/424) ح (591) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 الخاتمة قال شيخ الإسلام: "إنما دين الله ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، وهو الصراط المستقيم، وهو طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير القرون، وأفضل الأمة وأكرم الخلق على الله تعالى بعد النبيين قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] ، فرضي عن السابقين الأولين رضاً مطلقاً، ورضي عن التابعين لهم بإحسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: "خير القرون القرن الذي بُعثتُ فيهم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"1. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "من كان منكم مستنّاً فليستنّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلّفاً، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم". وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: يا معشر القراء، استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً2.   1 أخرجه البخاري في صحيحه (5/259 برقم 2652) ، ومسلم في صحيحه (4/1962 برقم 2533) بطرق متعددة وألفاظ مختلفة. 2 صحيح البخاري (13/250 برقم 7283) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخطَّ خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] . وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن نقول في صلاتنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 ـ 7] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون"، وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه، والنصارى عبدوا الله بغير علم، ولهذا كان يقال: تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفَّل الله لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، وقرأ هذه الآية. وكذلك قوله تبارك وتعالى: {ا?لم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 ـ 5] ، فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء مهتدون مفلحون، وذلك خلاف المغضوب عليهم والضالين. فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم: صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وصلى الله على خير خلقه عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين". معاني الكلمات: الصراط: هو الطريق. المستقيم: البين الواضح الذي لا اعوجاج فيه. القرلا: جمع قرن؛ والقرن: مئة سنة. السابقون: هم الصحابة المهاجرون والأنصار. التابعون: هم الذين أخذوا عن الصحابة الدين وكانوا على الصراط المستقيم. عناصر الموضوع: 1 ـ ينحصر موضوع الخاتمة في مسألتين: 1 ـ الدين الصحيح وما جاء به الرسل. 2 ـ طلب الهداية إلى الصراط المستقيم والثبات عليه. 2 ـ الصلة بين الخاتمة وما سبق: بعد أن بيَّن شيخ الإسلام أصلين من أصول الدين وهما: التوحيد والصفات، والشرع والقدر؛ ناسب أن بيّن أن هذا هو الدين الصحيح الذي بعث الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وهو الصراط المستقيم. 3 ـ الدين الصحيح وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: الدين الصحيح هو ما بعث الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل كتبه، وهو طريق الصحابة الكرام أفضل الناس بعد الأنبياء وخير القرون، فالله سبحانه أخبر عنهم أنه رضي عنهم رضاءً مطلقاً، وشرط فيمن جاء بعدهم أن يتبعهم بإحسان حتى ينالوا رضى الرحمن، كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] ، فمن رضي الله عنه فلا يسخط عنه أبداً، وهداية المتأخرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 منوطة باتباع الدين الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم. 4 ـ الدين الصحيح هو الصراط المستقيم: الدين الذي بعث الله به رسوله هو الصراط المستقيم، الطريق الواضح الموصل إلى الله وإلى جنته، وهو معرفة الحق والعمل به، ولزوم دين الإسلام وترك ما سواه من الأديان. 5 ـ مراتب الهداية: الهداية على أربعة مراتب هي كما يأتي: 1 ـ الهداية العامة لجميع المخلوقات منذ خلقها الله، فيولد الصغير ويهتدي إلى الرضاع وغير ذلك؛ فهذه هداية فطرية ويدل عليها قوله تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي آعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] . 2 ـ هداية البيان والدلالة؛ وقد سبقت هي والتي تليها في المقدمة، وهي الهداية التي جاءت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام. 3 ـ هداية التوفيق والإلهام وهي بعد البيان ومترتبة عليها. 4 ـ الهداية على الصراط يوم القيامة، وهي مترتبة على هداية التوفيق، فمن وُفق وهُدي في الصراط إلى الجنة ويدل عليها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 ـ 6] . 6 ـ أقسام الناس في الهداية: قسم الله عباده بحسب الهداية وعدمها إلى ثلاثة أقسام: 1 ـ أهل الهداية: وهم المهتدون في الدنيا ولهم الأمن في الآخرة يوم الفزع الأكبر، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ومن تبعهم بإحسان. 2 ـ المغضوب عليهم: وهم الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 3 ـ الضالون: وهم الذين تركوا الحق على جهل وضلال كالنصارى ونحوهم. 7 ـ آخر ما قاله شيخ الإسلام في هذه الرسالة المباركة: "فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين". يختم شيخ الإسلام هذه الرسالة المباركة بسؤال الله له ولإخوانه المسلمين بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم الذي أنعم الله به على الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. 8 ـ الأسئلة والأجوبة على ما تقدم: س1 ـ ما حكم الاحتجاج بالقدر في المعاصي، وعلى ماذا يحمل احتجاج آدم به مع موسى؟ ج: لا يحتج بالقدر في المعاصي بل يجب الاستغفار، ويحمل احتجاج آدم به على موسى: أن موسى لم يكن عتبه على آدم لأجل الذنب ـ فإن آدم كان قد تاب منه ـ ولكن لأجل المصيبة التي لحقتهم وهو إخراجهم من الجنة. س2 ـ بين أصْلَي الشر (الأمر) وأصلي القدر مع الأدلة. ج: للشرع أصلان: أـ أصل قبله: وهو الاجتهاد والامتثال علماً وعملاً. ب ـ وأصل بعده: وهو الاستغفار من التفريط في الأوامر، وتعدية الحدود. * أما الأمر فقد شرع أن تختتم جميع العبادات بالاستغفار؛ وأمثلة ذلك ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 1 ـ قال تعالى: {وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فقاموا الليل ثم ختموه بالاستغفار. 2 ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا انصرف من صلاته، استغفر ثلاثاً. * وللقدر أصلان: أـ أصل قبله: وهو الاستعانة. ب ـ وأصل بعده: وهو الصبر. 1 ـ قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] فالتقوى فعل المأمور وترك المحظور، وهو الشرع، والصبر يكون على المقدور وهو القدر. 2 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر" ومعنى ذلك أن الإيمان بالقضاء السابق والتقدير الماضي يعين العبد على أن ترضى نفسه بما يصيبه فيصبر على المصائب. أصلا الشرع قبله بعده الاجتهاد والامتثال الاستغفار أصلا القدر قبله بعده الاستعانة الصبر س3 ـ اذكر مواقف الناس من العبادة والاستعانة. ج ـ للناس فيها أربع مواقف؛ وهي كما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 1 ـ من يعبد الله ويستعين به، وهم أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام. 2 ـ من يعبده ولا يستعين به، وهم كثيرو الأسى وقليلو الصبر. 3 ـ من يستعين به ويتوكل عليه ولا يعبده، وهم المتصوفة. 4 ـ من لا يعبده ولا يستعين به، وهم شر هذه الأقسام. س4 ـ بين فضائل الصحابة. ج ـ من فضائلهم ما يلي: 1 ـ أنهم أصحاب القرون الثلاثة المفضلة. 2 ـ أن الله اختارهم لصحبة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحمل رسالته. 3 ـ أن الله رضي عن السابقين منهم رضاء مطلقاً، ورضي عن التابعين لهم بإحسان. 4 ـ أنهم أبر هذه الأمة قلوباً. 5 ـ أنهم أعمق هذه الأمة علماً وأقلها تكلفاً. 6 ـ أنهم أفضل الأمة وأكرم الخلق على الله بعد النبيين. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] . * قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: "خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". * وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: "من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم على الهدى المستقيم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 س5 ـ ما وجه حاجة الناس إلى الهداية وطلبها على الدوام؟ ج ـ وجه ذلك ما يلي: 1 ـ أنه لا يستغني أحد عن طلب هذه الهداية، بل ضرورته إليها فوق كل ضرورة. 2 ـ أن الله تعالى قد أمرنا أن نسأله الهداية على الدوام في جميع الصلوات، فنقرأ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 ـ 7] . 3 ـ أن من كملت عنده الهداية الثابتة كان سؤاله للهداية هو سؤال تثبيت واستقامة واستمرار ومداومة. كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] . 4 ـ وكما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم"، فالعبد مضطر إلى الهداية على الدوام. وهذا الحديث رواه الحاكم وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (ح رقم 1585) . س6 ـ ما مراتب الهداية؟ ج ـ للهداية أربع مراتب؛ وهي كما يلي: 1 ـ الهداية العامة لجميع المخلوقات منذ خلقها؛ فيولد الصغير ويهتدي إلى أمه وإلى الرضاع وغير ذلك؛ فهذه هداية فطرية ويدل عليها قوله تعالى: {الَّذِي آعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] . 2 ـ هداية البيان والدلالة: وهي الهداية التي جاء بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . 3 ـ هداية التوفيق والإلهام وهي بعد البيان ومترتبة عليها. 4 ـ الهداية على الصراط يوم القيامة، وهي مترتبة على هداية التوفيق، فمن وفق وهدي في هذه الدنيا هدي في الصراط إلى الجنة، ويدل عليها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 ـ 5] . ثم قسم الله عباده بحسب الهداية وعدمها إلى ثلاثة أقسام: 1 ـ أهل الهداية: هم العلماء العاملون؛ وهم أتباع الرسل. 2 ـ المغضوب عليهم: هم العلماء الجاحدون؛ والمراد بهم اليهود ومن على شاكلتهم. 3 ـ الضالون: هم الجاهلون بالحق؛ والمراد بهم النصارى ومن على شاكلتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 ويرد بهذا المثال على: نفاة الصّفات بحجة أن إثباتها يستلزم التشبيه والحق أن الاتفاق في الاسم والمعنى لكي لا يستلزم التشبيه. * مذاهب الناس في أمور الآخرة والأخبار الغيبية عن الله: 1 ـ أهل التنزيل: آمنوا بجميع ذلك مع علمهم بالمباينة بين ما في الآخرة، وما في الدنيا، وأن مباينة الله لخلقه أعظم. 2 ـ أهل التعطيل: أثبتوا ما أخبر الله به عن الآخرة ونفوا كثيراً مما أخبر به عن نفسه. 3 ـ أهل التخييل: (القرامطة والفلاسفة المشاؤون) فزعموا أن أخبار اليوم الآخر خيالات. * الأمثال والأقيسة في حق الله: الأقيسة على ثلاثة أنواع: قياس التمثيل والشمول، لا يجوز في حقه قياس الأولى. * المثل الثاني الروح: يبين أنه قد تعلم معاني الأشياء وتجهل كيفياتها، ومن جحد صفات الروح الواردة في النصوص كان معطلاً، فكذلك من نفى صفات الله تعالى كان جاحداً من باب أولى. الخاتمة الجامعة لسبع قواعد نافعة: * القاعدة الأولى: صفات الله نفيٌ وإثبات: هذه القاعدة رد على شبهة أهل التعطيل: الذين زعموا أنه ليس في النصوص وصفٌ ثبوتي لله تعالى، وإن ورد فهو على غير ظاهره، وأهل التشبيه: زعموا أنه ليس في النصوص إلا وصف ثبوتي. أما التنزيهي فلا يوجد، والحق أنه تعالى وصف نفسه بالإثبات {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] ، ووصف نفسه بالنفي: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] وهو متضمن لإثبات كمال الضد: كما حياته وقيوميته، أما النفي المحض فليس فيه مدح ولا كمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 * القاعدة الثانية: ما يضاف إلى الله من الأسماء والصفات: ومدارها على مسألتين: أـ الرد على أهل التفويض: زعموا أن نصوص الصفات غير ظاهرة المعاني، فيفوضون المعنى إلى الله. والحق: أن ما أخبر الله تعالى وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وجب الإيمان به مطلقاً عرفناه أو لا. التعليل: أـ لأن خبر الله أصدق الأخبار. ب ـ صادرٌ عن علم تام فهو أعلم بنفسه من خلقه. ج ـ اجتمع في كلام الله كمال البيان وكمال القصد والإرادة. ومذهب أهل السنة: ليس في كلام الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا يُعرف معناه، بل لا بد أن يكون معروفاً للأمة. الدليل: {وَأنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . الرد على أهل التفويض: 1 ـ لو كان ما أخبر الله به من صفات لا يعلم لها معنى لكان بعض الشريعة مجهولاً للأمة. 2 ـ لو كان نصوص الصفات غير معلومة المعنى لناقض وصف الله لكتابه بالبيان {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] . 3 ـ أنه قدحٌ في كمال الدين: {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 5] . ب ـ الرد على أهل التعطيل والتأويل: زعموا أن ظاهر نصوص الصفات تؤدي إلى التحيز والتجسم والقول بأنه في جهة. والسلف وضعوا قاعدة لهذه الألفاظ المحدثة (التحيز ـ الجهة ـ الجسم) : اللفظ يتوقف فيه فلا يستخدم لعدم وروده، أما المعنى فيستفصل عنه: فإن كان باطلاً رد وإن كان حقاً قلنا لهم: عبّروا عنه باللفظ الشرعي الوارد. مثاله: (الجهة) يتوقف في اللفظ، والمعنى يستفصل: إن أريد بها شيءٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 مخلوق محيط بالله تعالى فهذا معنى باطل. وإن أراد بها ما فوق العالم (العلو) : فهو معنى ثابت: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] . * القاعدة الثالثة: معنى ظاهر النّصوص وحكم القول بأنّ ظاهرها مراد أولا: مدار هذه القاعدة على مسألتين: أـ معنى ظاهر النصوص: المراد بظاهر الكلام هو المعنى المتبادر إلى فهم ذي الفهم السليم العارف بلغة المتكلم، واختلف الناس في ظاهر نصوص الصّفات: 1 ـ السلف: ظاهر النصوص يليق بالله ولا يَقتضي التشبيه، فيجب إجراء النصوص على ظاهرها. 2 ـ عامة المتكلمين: ظاهرها التمثيل والكفر. غلطوا من وجهين: أـ يجعلون المعنى الفاسد هو الظاهر يحتاج إلى التأويل. ب ـ وقد يفسرون الظاهر بمعنى صحيح لكنهم يردونه لأنه باطل عندهم. أدلتهم: 1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "الحجر الأسود يمين الله في أرضه ... " ظاهره محالٌ، فكذلك ظواهر النصوص محالة. الرد: الحديث ضعيف، وعلى فرض صحته: فإنه مقيّد بـ "الأرض"، وفي قوله: "فكأنما صافح الله" تشبيه وهو يقتضي المغايرة فليس الحجر هو عين يمين الله. 2 ـ قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "مرضت فلم تعدني ... ". الرد: آخر الحديث يوضّح أوله: "أما علمت أن عبدي فلاناً مرض ... ". 3 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ... " فظاهره أن الأصابع في جوف القلب وهو محال ... الرد: البينيّة لا تقتضي الاختلاط كما أن السحاب بين السماء والأرض وليس مختلطاً أو مماساً لها. هناك فرق بين قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أيْدِينَا} [يس: 71] ، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، فالآية الأولى: أضاف الخلق إلى اليد، وجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الضمير، ولم يتعد الفعل بالباء. والثانية: أضاف الخلق إلى نفسه وأفرد الضمير وثنى اليد وعدي الفعل بالباء. ب ـ حكم من قال: إن ظاهر النصوص مراد أو غير مراد: 1 ـ إن كان يعتقد أن الظاهر هو التمثيل فلا ريب أنه مخطئ، فليس التمثيل هو ظاهر الصفات فضلاً أن يكون مراداً. 2 ـ وإن كان يعتقد باعتقاد السلف وهو أن الظاهر على ما يليق بالله فهو المراد. * القاعدة الرابعة: المحاذير التي يقع فيها من يتوهّم التمثيل ثم ينفي الصفات: 1 ـ تمثيل ما فهمه من صفات الله بصفات المخلوقين. 2 ـ تمثيل الله بالمنقوصات من الجمادات أو الأموات أو المعدومات. 3 ـ تعطيل النصوص عمّا دلت عليه من الصفات. 4 ـ تعطيل الله تعالى عن صفات الكمال. من الأمثلة المضروبة على القاعدة: 1 ـ الاستواء: من ينفيه يقول: إن إثباته فيه تشبيه باستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، ويلزم منه الاحتياج إلى العرش. الرد: 1 ـ ليس في لفظ "الاستواء" ما يدل على المماثلة لأن الله تعالى أضاف الاستواء إلى نفسه، كما أضاف سائر أفعاله وصفاته إليه: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4] . 2 ـ الله تعالى ليس مثل خلقه فكذلك استواؤه ليس مثل استوائهم. 3 ـ ثبت بالضرورة عنى رب العالمين عن الخلق فلا يلزم من استوائه افتقاره إلى العرش. 4 ـ جميع الصّفات لا يتوهم فيها النقص فكذلك الاستواء. 5 ـ ثبت أنّ بعض المخلوقات بعضها فوق بعض ومع ذلك فليس الأعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 مفتقراً إلى الأدنى: كالسماء والأرض، فالله أولى بعدم الافتقار. 2 ـ العلو: من توهم أن معنى قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] أي: داخلُ السماء ثم نفى العلو. يرد عليه: 1 ـ أن السماء يراد به العلو فيكون المعنى: (في العلو) . 2 ـ أن (في) تأتي بمعنى (على) فإذا قدّر أن السماء يراد بها الأفلاك المعهودة كان المعنى: (على السماء) . الفرق بين العلو والاستواء: 1 ـ (العلو) ثابت بالنقل والعقل والفطرة، و (الاستواء) ثابت بالنقل فقط. 2 ـ (العلو) على جميع المخلوقات و (الاستواء) لا يضاف إلا إلى العرش. 3 ـ (العلو) صفة ذاتية ملازمة لله، و (الاستواء) صفة فعلية اختيارية. * القاعدة الخامسة: نعلم ما أخبرنا الله به من وجهٍ دون وجه: أي: إننا نعلم ما أخبرنا الله ورسوله به من المغيبات من وجهٍ وهو المعنى، ونجهلها من وجهٍ آخر وهو الحقيقة والكيفية، والمقصود بهذه القاعدة: صفات الله تعالى. يرد بهذه القاعدة: على المفوّضة والمشبّهة والمعطّلة. الدليل على علمنا بمعاني الآيات: {أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد: 24] ، {إِنَّا أنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] . الدليل على الجهل بالكيفية: {هُوَ الَّذِي آنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] . خلاف السلف في الوقف في آية {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 1 ـ جمهور السلف: الوقف عنده {إِلا اللَّهُ} . 2 ـ جماعة من السلف: الوصل: {إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ونقل عن ابن عباس القولين. الجمع بين القولين: لا منافاة بينهما، فمن قال: لا يعلم تأويله إلا الله ـ أراد أنه لا يعلم حقيقة وكيفية صفاته إلا الله، ومن قال إنه يعلم تأويله ـ أراد علم تفسيره ومعناه. معاني التأويل: 1 ـ صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح لدليل يقترن به، كقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ، فقد ثبت عن ابن عباس وغيره أن النسيان هنا هو: الترك ولقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] . 2 ـ التفسير: ومنه قول ابن جرير: "اختلف علماء التأويل". 3 ـ الحقيقة التي يؤول إليها الكلام: {يا أبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100] ، ولذلك رد السلف على الجهمية لأنهم تأولوا النصوص على غير تأويلها الصحيح (تحريف) . مذهب أهْل التفويض: إن نصوص الصّفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله، أدلتهم: 1 ـ قوله {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وأيات الصفات من المتشابه. الرد: آيات الصفات متشابهة من جهة الكيف، أما من جهة المعنى فهي محكمة. 2 ـ قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} . الرد: وقد سبق جوابه بأنه لا يعلم حقائق وكنه الصفات إلا الله، أما معانيها فقد بيّنها في كتابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 هل أسماء الله محصورة بعدد: 1 ـ ليست محصورة: أـ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أسألك بكل اسم هو لك أو استأثرت به في علم الغيب عندك". ب ـ قوله: "لا أحصي ثناء عليك". ـ قال ابن حزم: أسماء الله (99) اسماً فقط لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسماً". الجواب: المقصود منه أن من أحصى هذا العدد دخل الجنة، ولا يمنع أن عدد أسماء الله أكثر من ذلك. * القاعدة السادسة: الضابط الذي يعرف به ما يجوز وما لا يجوز على الله نفياً وإثباتاً: الضابط في ذلك عند المتكلمين هو العقل، ولهم طريقتان في التنزيه: 1 ـ التنزيه بنفي التشبيه. 2 ـ التنزيه بنفي التجسيم. والضابط عند أهل السنة في هذا الباب نوعان: أـ الضابط السمعي: بأن لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم، وننفي ما نفاه الله عن نفسه وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، أما ما لا دليل على إثباته ونفيه: فنتوقف فيه فلا يثبت ولا ينفى. ب ـ الضابط العقلي: وهو مأخوذ من الشرع، بأن كل كمال لا نقص فيه فالله أحق به، وكل نقصٍ فالله منزّهٌ عنه. طريقة أهل السنة في التنزيه: 1 ـ نفي ما نفاه الله تصريحاً. 2 ـ نفي النقص والعيب عن الله، وضابطه: كل ما يضاد الكمال فهو نقص، وكل ما كان من لوازم النقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 3 ـ نفي مماثلة الله لمخلوقاته. شبهة من يزعم أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه: * أولاً: ـ يقول المعتزلة: من أثبت لله صفةً قديمة فقد جعل له شريكاً يماثله في القدم، فلا يجوز القول بتعدد الصفات لأنه قول بتعدد القدماء، وهو تشبيه وكفرٌ بإجماعهم. الرد: 1 ـ إن وصف الصفات بالقدم لا يلزم منه تعدّد القدماء ولا إثبات شريك لله لأمرين: أـ أن القدم إنما هو وصف لذات متصفة بصفات، وليس وصفاً للذات المجردة عن الصفات. ب ـ أنه إذا قيل: إن الصفات متصفة بالقدم، فلا تكون إلهاً. 2 ـ أن الشرع لم ينف هذا التشبيه، وإنما نفى (المثل) كما في قوله: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ، والفرق بينهما: أـ التمثيل ورد نفيه بالنص دون التشبيه. ب ـ التمثيل مشابهةٌ من جميع الوجوه والتشبيه من بعضها. 3 ـ إن الصفات قائمة بالذات، فوصفها بالقدم لا يدل على التمثيل، بل قدم الصفات تابعٌ لقدم الذات. * ثانياً ـ شبهة التجسيم والتحييز: يقول النفاة: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، فلو أثبتنا الصفات لكان جسماً، والأجسام متماثلة فقيام الصفات به يستلزم مماثلته للأجسام وهو التشبيه. الرد: 1 ـ قوله: "الصفات لا تقوم إلا بجسم" لا نسلم به، فقد يوصف ما ليس بجسمٍ، كما تقول نهارٌ طويل وبردٌ شديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 2 ـ قولكم "الأجسام متماثلة": نستفصل فيه: ما مرادكم بالجسم، إن أردتم به الذات التي تُرى ويمكن الإشارة إليها، والمتصفة بالسمع والبصر، فهذا صحيح لا ريب فيه، وإن أردتم أنها مركبة من المادة والصورة أو الجواهر المفردة، فهذا باطلٌ. ثالثاً ـ الأصل الثاني: الشرع والقدر: • أولاً ـ الواجب في القدر اعتقاداً: الإيمان بمراتبه: 1 ـ علم الله الأزلي الأبدي. 2 ـ كتابة الله لمقادير كل شيء: {ألَمْ تَعْلَمْ آنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج: 70] . 3 ـ مشيئته العامة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] . 4 ـ الخلق والإيجاد: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] . • ثانياً ـ أـ الواجب في الشرع اعتقاداً: 1 ـ الله أمر بعبادته وحده: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . 2 ـ خلق الجن والإنس ليعبدوه. 3 ـ أرسل رسله وأنزل كتبه لتحقيق عبوديته {وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . 4 ـ من يطع الرسول فقد أطاع الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] . العبادة: مأخوذة من "عبّد" إذا ذلل، وتطلق على معنيين: 1 ـ التعبد. 2 ـ المتعبد به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ـ دين الأنبياء واحد: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد". ـ الدين الذي اتفقت عليه الرسل هو الإسلام: في العام هو الاستسلام لله وحده، وفي الخاص هو شريعة القرآن. ـ جميع الرسل دعوا إلى توحيد الألوهية: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . أنواع الشرك في القرآن: 1 ـ الشرك بالأصنام. 2 ـ الملائكة والأنبياء. 3 ـ الكواكب. 4 ـ الأحبار والرهبان. ـ أقر عامة المشركين بالربوبية: {وَلَئِنْ سَآلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] . ب ـ أقسام التوحيد: 1 ـ عند المتكلمين: أـ توحيد الذات: لا قسيم له، الرد: هذا كلامٌ مجمل، فإن أريد به أنه يمتنع أن يتفرق أو يتجزأ أو ركب من أجزاء فصحيح، وإن أريد نفي علوّه ومباينته لخلقه ووجهه، فهذا باطل هذا ما يدرجون فيه. ب ـ توحيد الصِّفات: واحد في صفاته لا شبيه له. الرد: لم يعرف من الأمم من أثبت شبيهاً له في جميع الصفات، وكذلك فإنهم أدخلوا تحته نفي الصفات. ج ـ توحيد الأفعال: لا شريك له. الرد: لم تعرف طائفة من الطوائف بإثبات خالقين متماثلين. (فالخطأ أنهم جعلوا هذا غاية التوحيد وأهملوا الألوهية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 (الإله) عند المتكلمين: هو القادر على الاختراع. وهذا مخالف للغة والشرع. 2 ـ عند الصوفية: أـ توحيد العامة. ب ـ توحيد الخاصة. ج ـ توحيد خاصة الخاصة (سبق تفصيله) . موازنة بين آراء بعض الفرق: نضع هذه الفرق في الشكل التالي: القدر غلاة (جبرية) نفاة قدرية خالصة متوسطة غلاة النفاة مقتصدون (المعتزلة) الجهمية الأشاعرة (إنكار العلم) إنكار المشيئة وخلق الفعل الإيمان خوارج حروريّة مرجئة وعيدية معتزلة الجهمية الأشاعرة والماتريدية الكرامية الحنفية (المعرفة القلبية) (التصديق القلبي) (اللسان فقط) (القلب واللسان) خلاصة الموازنة: من ينفي القدر ويثبت الشرع خير ممن ينفي الشرع ويثبت القدر. * أصل الإسلام: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وتشتمل على أصلين: 1 ـ توحيد الألوهية: كان شرك العرب فيه، باتخاذهم وسائط يعبدونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ويزعمون أنها شفعاؤهم عند الله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] . 2 ـ الرسالة: فحق الرسول صلى الله عليه وسلم أن: نؤمن به، نطيعه، نتّبعه، نرضيه، ونحبه، ونسلم لحكمه. • رابعاً ـ مذاهب الفرق الضالة في القَدر: 1 ـ المجوسية: أنكروا القدر وأقروا بالشرع (القدرية) . 2 ـ المشركية: أقروا بالقدر ولكنهم غلوا فيه فأنكروا الأمر والنهي: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أشْرَكْنَا وَلا أبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] . 3 ـ الإبليسية: أقروا بالأمرين ولكنهم طعنوا في حكمة الله وعدله، كإبليس الذي زعم أنه أمر بالسجود لمن هو دونه. • خامساً ـ الكلام في مسائل: أـ الأسباب: 1 ـ قوم أنكروا تأثير الأسباب وجعلوها مجرد علامات يحصل الشيء عندها لا بها. 2 ـ وقومٌ جعلوها هي المؤثرة بذاتها فوقعوا في الشرك. 3 ـ أهل السنة: للأسباب تأثير لا لذاتها بل بما أودعه الله فيها من القوى. ب ـ بطلان أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد: الرد: 1 ـ ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيءٌ لا واحد ولا اثنان إلا الله، بل كل شيء محتاج إلى غيره في التسبب. 2 ـ هذا القول من أعظم الجهل وليس عليه دليل عقلي ولا نقلي بل الله خلق المخلوقات كلها: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] . 3 ـ يلزم منه نفي إرادة الله بل هو مجبور. تعالى الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 ج ـ التحْسين والتقبيح: 1 ـ أهل السنة والماتريدية: إن من أفعال العباد ما يُعلم حسنها وقبحها بالعقل ومنها ما يُعلم بالشرع، الدليل على الأول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 33] ، {قُلْ أمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29] فيعلم بالفطرة قبح الظلم والخيانة وحسن الصدق والأمانة، أما الثواب والعقاب وتفاصيل الشرائع شرعي لا يعرف بالعقل: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: 45] ، {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50] . 2 ـ المعتزلة: إن الأفعال لا يعلم حسنها وقبحها إلا من العقل، فخالفوا النصوص: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] . 3 ـ الأشاعرة: التحسين والتقبيح شرعي فقط وليس للأفعال حسن ولا قبح لذاتها، فخالفوا: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . * ما يبنى على هذه المسألة: لما اتفق الأشاعرة والمعتزلة على نفي المحبة والرضا والسخط والفرح.. وغيرها واتفقوا على تنزيه الله عن فعل ما هو قبيح اختلفوا في سبب ذلك: 1 ـ الأشاعرة: القبيح في حق الله ممتنعٌ لذاته، فكلّ ما كان داخلاً في قدرة الله فهو حسنٌ وله فعله كتعذيب الطائعين وإكرام الكافرين. 2 ـ المعتزلة: الله منزّه عن القبيح لمجرّد كونه قبيحاً عقلاً، وكلّ ما قبّحه العقل فالله منزّه عنه مع قدرته عليه، ومن هنا أدخلوا نفي القدر في العدل. • سادساً ـ النظر في القدر دون الشرع: النظر إلى الحقيقة الكونية دون الحقيقة الشرعية (أمره ونهيه) مخالفٌ للحس والعقل: 1 ـ الحس والذوق: إن التمييز بين ما ينفع الإنسان ويضرّه هو الحقيقة الشرعيّة الدينيّة، ومن ظنّ أنّ البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائماً فقد خالف ضرورة الحس "حتى السكر والإغماء والنوم لا يسقط الإحساس بالكلية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 2 ـ العقل والقياس: إذا عومل أحدهم بموجب مذهبه بأن يُضرب أو يُجاع، فإن لام من فعل به ذلك فقد نقض قوله، وقيل له: هذا فعلٌ مقضيٌّ مقدور، فإن كان القدر حجةً له أيضاً، وإلا فليس بحجةٍ لك ولا له. • سابعاً ـ أنواع الفناء: 1 ـ الفناء عن إرادة السوى: فيفنى عن عبادة غير الله بعبادته وحده، وهو مطلوب شرعاً، ويسمى بـ (الإحسان والتقوى والإيمان) . 2 ـ الفناء عن شهود السوى: ينشغل بالله إلى حدٍّ يترك فيه عبادته بزعم أنّه قد سقطت عنه العبادات وهو باطلٌ مردود: أـ لأنه لم يقع للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لصحابته. ب ـ غياب العقل ووصول صاحبه إلى حالةٍ كالمجانين ليس فيه مدحٌ بل دمٌّ. ج ـ هذا الفناء دليل على ضعف قلب صاحبه لأنه لم يستطع الجمع بين الإيمان بالله وعبادته. د ـ فيه تعطيل للشرائع وتضييع للفرائض. 3 ـ الفناء عن وجود السوى: يرى وجود الخالق هو عين وجود المخلوق، وهذا قول أهل وحدة الوجود والاتحاد كابن عربي وابن سبعين. • ثامناً ـ أـ الواجب في الشرع عملاً: 1 ـ العبادة: بفعل المأمور وترك المحظور، شروط العبادة: أـ الإخلاص لله. ب ـ موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم: {لِيَبْلُوَكُمْ أيّكُمْ أحسن عَمَلاً} [هود: 7] . أي: أخلصه وأصوبه. 2 ـ الاستغفار: فتختم جميع العبادات به {وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ب ـ الواجب في القدر عملاً: 1ـ الاستعانة. 2ـ الصّبر على المقدور: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60] . مراعاة الشرع والقدر توجب العبادة والاستعانة (التوكل) وقد جمع الله بينهما {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . ج ـ أقسام الناس في عبادة الله واستعانته: 1ـ من يعبد الله ويستعين به وهم المؤمنون. 2ـ من يعبده ولا يستعين به. 3ـ من يستعين به ويتوكل عليه دون عبادته. 4ـ من لا يفعل شيئاً منها وهو أضل الأقسام. • تاسعاً ـ أـ الدّين الحق هو ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وهو طريق الصّحابة {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ .... } [التوبة: 100] . ب ـ الإنسان محتاج إلى طلب الهداية على الدّوام: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ج ـ أنواع الهداية: 1ـ الهداية العامة لجميع المخلوقات. 2ـ هداية البيان والدلالة (جاء بها الرسل) . 3ـ هداية التوفيق والإلهام. 4ـ الهداية على الصراط يوم القيامة. وصلّى اللهمّ على نبيّنا محمَّد وآله وصحبه وسلّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 خلاصة شرح الرسالة التدمرية أولاً ـ المقدمة: وقد اشتملت على ما يلي: 1 ـ سبب تأليف الرسالة التدمرية سببان: أـ أهمية السائل، ب ـ أهمية المسؤول عنه. 2 ـ موضوع الرسالة في أصلين: أـ التوحيد والصفات. ب ـ الشرع والقدر مع بيان الفرق بين الأصلين. ثانياً: الأصل الأول في التوحيد والصفات: مقدمة الأصل الأول بذكر طريقة السلف في الصفات وذكر طريقة المخالفين لهم ثم ذكر الرد على المخالفين بأصلين: أـ القول في بعض الصفات لقول في البعض. ب ـ القول في الصفات كالقول في الذات. المثلان المضروبان: * المثل الأول الجنة: أخبرنا الله عما في الجنة من المخلوقات من المطاعم والمساكن: {وَأمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22] ومع علمنا بهذه الأشياء أخبرنا بأننا لا نعرف حقائقها وكيفياتها. {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] ، فإذا كان هذا التباين واقعاً بين المخلوقات فمن باب أولى أن يقع بين الخالق ومخلوقاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456