الكتاب: طريقك الى الإخلاص والفقه في الدين المؤلف: عبد الله بن ضيف الله الرحيلي الناشر: دار الاندلس الخضراء الطبعة: الأولى، 1421هـ/ 2001م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- طريقك الى الإخلاص والفقه في الدين عبد الله الرحيلي الكتاب: طريقك الى الإخلاص والفقه في الدين المؤلف: عبد الله بن ضيف الله الرحيلي الناشر: دار الاندلس الخضراء الطبعة: الأولى، 1421هـ/ 2001م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدّمة الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده وخاتم رسله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا هو الإصدار الثامن من سلسلة: "دراسات في المنهج"، وقد جاء بعنوان: "طريقك إلى الإخلاص والفقه في الدِّين: المفهوم، والأهمية، والمقاييس والمظاهر"، وهو جزءٌ مِن موضوع كنت كتبتُه بعنوان: "الدعوة في الكتاب والسنة: الواجب والمنهج والوسيلة". وقد جاء هذا الموضوع ثمرةَ معاناةٍ طويلة وسنوات غير قليلة، في مجال التدريس والمحاضرات وبعض الإسهامات الدعوية المتعددة في إطار الموضوع، وثمرةَ صحبةٍ متدبِّرة لآيات الكتاب العزيز، ولأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، واستفتائها في مشكلات المسلم في هذا العصر؛ ومِنها: ضعفُ الفقه في الدين، وضعْف الفقه في جانب الدعوة إليه؛ فأحببت إبراز معالم هذين الفقهين، وتأصيلهما تأصيلاً شرعياً في ضوء نصوص الوحي الإلهيّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خَلْفه -أعني كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم-. ولا يُنْكر ما لثقافة الإنسان ومطالعاته السابقة، مِن الأثر المباشر أو غير المباشر في مثل هذا العمل، سواء شعر صاحبه أو لم يشعر، والله سميعٌ عليم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يَرَهْ ... } ، وجزى الله كل مَن كان سبباً لشيءٍ مفيدٍ بأيّ صورةٍ: مباشرة أو غير مباشرة. وقد اطّلع على مسوّدات الموضوع عدد من الإخوة الفضلاء، وطلاّبي الأعزاء؛ فاستفدتُ من ملحوظاتهم واقتراحاتهم القيّمة، وكان عدد منهم -بعد ذلك- يُلحُّ على إخراجه، ويسأل عنه ما بين فينةٍ وأخرى؛ فكان هذا من أسباب توَجّهي لإخراجه. ثم أشكر كلَّ أخٍ أعانني في إخراج هذه الأوراق، وأَخصُّ الأخ العزيز أبا عاصمٍ، الأستاذ: عبد الله المحمديّ؛ فقد بذَلَ جهداً مشكوراً في القراءة والتصحيح والرأي، جزاه الله خيراً. كما أشكر أخي العزيز المهندس أبا سهيل: محمد بن ناصر ابن محمود، على ما بذله مِن جهود مشكورة لمساعدتي في مجال الحاسب الآليّ "الكمبيوتر"، لا أستطيع مكافأته عليها، جزاه الله خيراً. كما أشكر للأخ العزيز د. سعيد صيني آراءه وملحوظاته القيّمة التي قدّمها لي. جزى الله الجميع خير الجزاء. أسأله سبحانه أن يكون هذا عملاً نافعاً مفيداً، وأن يكون سهماً مقبولاً عند الله تعالى وعند عباده الصالحين، في مجال: التأصيل الشرعي، وفقْه الكتاب والسنّة، وفقْه الدعوة في ضوء نصوص الكتاب والسنة ومقاصدها. والحمد لله أوّلاً وآخراً. وصلى الله على خاتم الرسل والأنبياء، وأصحابه أجمعين. عبد الله بن ضيف الله الرحيلي المدينة المنورة 14/ محرّم/1419هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 منهج البحث: - اشترطت على نفسي ألا أعتمد في الاستدلال إلا على دليل صحيح من النقل أو العقل. - عزوتُ الآيات إلى المصحف الشريف، واتّبعتُ في ذلك طريقةَ محمد فؤاد عبد الباقي، رحمه الله، بذكْر رقم الآية أو الآيات أوّلاً، فاسم السورة، فرقم السورة"1". - خرّجت ما أوردته من الأحاديث تخريجاً مختصراً اقتصرتُ فيه على العزو إلى مصدرٍ صحيح، أو الاقتصار على الاعتماد على حديثٍ صحيحٍ. - إذا كان الحديث في الصحيحين فإنني لم أُلْزم نفسي إلا بإحالته إلى أحدهما، أياً كان: البخاري أو مسلماً؛ لأن هذا هو الذي يحقق الغرض من عزو الحديث هنا، وهو بيان أنه صحيح. وعزوت الأحاديث إلى مصادرها بذكر رقم الحديث، ولا سيما إذا كان في الصحيحين. واتّبعت في عزو الأحاديث الإحالة على رقم الحديث بحسب عددٍ مِن الطبعات المتوافقة مع ترقيم كتاب "مفتاح كنوز السنّة"، وكتاب "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي". فاعتمدت في العزو إلى صحيح البخاري على نُسْخة "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، لابن حجر العسقلاني، القاهرة، ط. المكتبة السلفية ومطبعتها، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. فإذا ذكرت رقم الحديث في   (1) وهو ما جرى عليه في كتابه: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 صحيح البخاري فالمقصود رقْمه في هذه الطبعة وإلا بيّنتُ الطبعة المقصودة. واعتمدت ترقيمَ محمد فؤاد عبد الباقي في عزوي الأحاديث إلى صحيح مسلم؛ بذكْر الرقم الخاصّ، ثم ذكْر الرقم العامّ بين قوسين. هذا كله ما لم أَنصَّ على طبعة أُخرى للكتاب الذي أخرجت الحديث منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الفصل الأول: الإخلاص أولاً: الإخلاص والفقه في الدين معاً ... أولاً: الإخلاص والفقه في الدين معاً بالإخلاص والفقه في الدين تُحَلُّ مشكلات المسلمين. هذه حقيقة ينبغي لنا، نحن المسلمين، اليوم الإيمان بها، ومحاسبة أنفسنا عليها. وذلك لأن الإخلاص يَدْفع المرء إلى ما يلي: - إلى العمل. - وإلى اختيار العمل النافع. - وإلى تَمْحِيص النية الصالحة من وراء العمل. - وإلى إتقان العمل، وإعطائه ما يستحقه من عناية. والفقه في الدين يدفع المرء إلى ما يلي: - إلى وجْه الصواب في العمل. - وإلى التفريق بين الخطأ والصواب في الأعمال. - وإلى التفريق بين المنكر والمعروف. - وإلى التمييز بين الأفضل والمفضول. - وإلى المقبول والمردود من الأعمال، في ضوء أدلة الشرع على مراد الشارع. والفقه في الدين يُبَصِّر الإنسان -في ضوء الأدلة الشرعية، ومقاصد الدين- بأنواع الواجب في الحياة الإسلامية: مِن فرْض عين، وفرض كفاية، وواجب موسع، وواجب مُضَيَّق. والفقه في الدين يُسْهِم في التوصّل إلى ترتيب الأولويات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والفقه في الدين يَدْفع الإنسان إلى العناية بما يتعدى العامل نفعه من أعمال الخير. وما إلى ذلك مما يتوصل إليه الإنسان، ويحققه، بالفقه في الدين، لنفسه ولأمته، ولحياته الدنيا ولحياته الأخرى، كل ذلك بدافع من الإخلاص والفقه في الدين. ومما يدل على هذه الحقيقة أمران: الأول: تَتَبُّعُ ما يراه الإنسان من مشكلاتِ المسلم أو المسلمين، والنظر في أسبابها، آخذاً في الاعتبار هذين السببين الرئيسين، أعني عدمَ توافر الإخلاص وعدَمَ توافر الفقه في الدين؛ هل يعود إليهما شيء من تلك المشكلات؛ أو هل يَخرج عنهما شيءٌ من تلك المشكلات؟. وسيكون الواقع أنه لا يَخرج عنهما شيء منها. الثاني: التسليم لما قرره النبي صلى الله عليه وسلم مِن ميزانٍ لاستقامة أعمال الإنسان ظاهراً وباطناً؛ وذلك في الحديثين التاليين: 1- "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" "1". 2- "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ" "2". وفي رواية عند الإمام مسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" "3". وعلق البخاري   (1) البخاري، 54، الإيمان، و2529، العتق، وأخرجه في مواضع أخرى، وأخرجه مسلم أيضاً. (2) البخاري، 2697، ومسلم، 1718، الأقضية، عن عائشة رضي الله عنها. (3) في الموضع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 هذه الرواية في موضعين من صحيحه"1". فهذا هو الميزان: الإخلاص، أي إرادة وجْه الله وحده، والفقه في الدين، أيْ إصابة الحكم الشرعيّ.   (1) في البيوع، باب النجش ... ، وفي الاعتصام بالكتاب والسنّة، باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ثانياً: تعريف الإخلاص لله تعالى ليس المقصود بالتعريف هنا مجرّد التعريف الاصطلاحي واللغويّ، وإنما المقصود تناول هذا الجانب بالإيضاح لمفهوم الإخلاص، والتفصيل فيه بما يكفي لتحقيق الهدف من التعرض له هنا. الإخلاص: مَصْدرٌ مِن "أَخْلَصَ"، ومثله خَلُصَ الشيء، إذا صفا وتمحّض عن غيره. والمقصود به هنا: إخلاص الاعتقاد والتوجه والقول والعمل لله تعالى وحده؛ وذلك بتمحيص النيات والأقوال والأعمال لله تعالى؛ بأنْ تكون صادرةً عن نِيّةٍ يُراد بها وجه الله تعالى. وواضحٌ، مِن هذا، أنه بحَسبِ إضافة هذا المَصْدر يتحدد المُخْلَصُ له ويتحدد معنى الإخلاص، ويتبين كذلك مدى أهميته. حقيقة الإخلاص: وحقيقة الإخلاص صدقٌ في النيَّة والقول والعمل، فيما يتعلق بحقوق الله تعالى، وفيما يتعلق بحقوق المخلوقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 حقيقته، أيضاً، جمْع الهم نحو عبادة الله، ونحو الدار الآخرة مع الصدق في ذلك، فإن القلب لا يملك أن يكون مملوءاً بحب الدنيا وهمّها والتوجه إليها ومملوءاً بحب الله والإقبال عليه وعلى إرادة الدار الآخرة والهم بذلك في آنٍ واحد. وليس معنى هذا تحريم التفكير في الدنيا وأعمالها، فإن ذلك واجب شرعيّ، ولكنَّ شرطه أن لا يكون على حساب الإقبال على الله والدار الآخرة، بحيث يقطعه عن هذا التوجه. ولا يتم هذا للمرء إلا إذا كانت عمارته للدنيا، وتفكيره فيها، واشتغاله بها، إنما هو مِن أجْل عمارةِ الآخرة وعبادةِ الله تعالى، وفي الحدود الشرعية أيضاً. وهذا المقياس، من مقاييس الإخلاص، جدُّ مُهِمٌّ وحسّاس، والمرء مفتقر لاستخدامه بصفة مستمرة طوال حياته بحيث يراقب نفسه على مقتضاه، فمتى ما رأى همّه وهواه وشغله بالدنيا على حساب عبادة الله وحبّ الله تعالى عَلِمَ أن إخلاصه لله قد اختلّ أو فُقِدَ، وقد قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} "1"، فليس للإنسان قلبان، ولا يمكن أن تكون زوجته التي يظاهر منها أُمّاً له، ولا يمكن أن يكون الابن الدّعيّ ابناً في الحقيقة. فاعلم يا أخي أن لك قلباً واحداً فمتى رأيته مال مع الدنيا وانشغل بها، فاعلم أنه لا يسعه أن ينشغل أيضاً في الوقت نفسه بعبادة الله تعالى وبحبه   (1) 4: الأحزاب: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وبهمّ الآخرة، وليس لك قلب آخر يتوجه بك إلى عبادة الله وإلى الدار الآخرة، فانتبه يا أخي، وكنْ بصيراً بنفسك ناصحاً لها"1". غاية الإخلاص: إنّ غاية الإخلاص: *أن تُخْلِصَ لله أعمالك على مقتضى ما ادّعيتَه بلسانك بمقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أي: أن تشهد بأعمالك بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كما شهدتَ ذلك في اعتقادك وكما نطقتَ به بلسانك. *وأن تُخْلِص لله الأعمال لتتطابق أحوالك كلها على الإخلاص والصدق في القول وفي القصد وفي العمل. والقَدْر المطلوب مِن الإخلاص هو: ما تَبْلُغُ به رضا الله تعالى، وتجتنب به سخط الله تعالى. مقتضيات الإخلاص: إنّ مِن مقتضيات الإخلاص أن يَتحقق في حياة الإنسان ما يلي: *أن يكون الإخلاص رقيباً على الإنسان، وهو خير شرطيّ -من داخل الإنسان- يمنعه من المخالفات، ويدفعه إلى فعل الطاعات. *وأن يراقب الإنسان نفسه، ويُحاسبها في الغيب والشهادة، أي عندما   (1) سيأتي موضوعٌ عن: مقاييس الإخلاص. قريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 يكون مع الناس وعندما يكون خالياً، ويُحاكمَها في ضوء حقائق الإيمان ومقتضياته. *وأن يستجيب العبد لداعي الإيمان بالغيب، كاستجابته لداعي الإيمان بالشهادة " أي المشاهد المحسوس "، أو أشد، ويَستجيب لحقائق الإيمان بالغيب، ويُقدِّمَ مقتضيات الإيمان به على المصالح المادية، أو الصوارف المادية الأخرى. ومِن الأمثلة لتطبيقات هذا المعنى ما يلي: -إن من مقتضى الإخلاص أن يكون حديث المتحدّث عن الإخلاص بإخلاص، وإلا فما قيمة الحديث عن الإخلاص بغير إخلاص؟!. وماذا يُجْدي في تحصيل الإخلاص الكلامُ عنه على غير إخلاص؟!. -كما أن من مقتضيات الفقه أن يكون الحديث عن موضوع الفقه بفقه، أو عن فقهٍ، وإلا فما قيمة كلام المتكلم عن الفقه بغير فقه؟!. وماذا يُجْدي في تحصيل الفقه الكلام عنه على غير فقه؟!. وهل قَتَلَ الإخلاصَ شيء كما قتله الكلام عنه على غير إخلاص؟!. وهل قَتَلَ الفقه شيء كما قتله الكلام عنه على غير فقه؟!. ولهذا ربما كان حديثُ غير المُخْلِص عن الإخلاص نفاقاً ورياء!. ولهذا ربما كان حديثُ غير الفقيه عن الفقه نوعاً من البَلَهِ!. -وهل يستقيم أن يُمْدَحَ الإخلاص رياءً؟!. -وأن يُمْدح الصدق كذباً؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 -أو أن ندعو إلى اللغة العربية بالعامية، أو بكلام خارجٍ عن الالتزام باللغة العربية؟!. -إنّ مِن مقتضيات الإخلاص، ومفهومه، مراعاة التعامل مع المقاصد والغايات، والنظر في التعامل إلى حقائق الأشياء. -ومِن ذلك أن يكون تَوَجُّهُ المعلِّم والمتعلِّم في علمهما-مثلاً- إلى حقائق العلم وليس إلى صُوَرِهْ فقط. قال الإمام أحمد بن محمد المقدسيّ -رحمه الله-: ""فأمّا عِلْم المعاملة، وهو علم أحوال القلب: كالخوف، والرجاء، والرضا، والصدق، والإخلاص وغير ذلك، فهذا العلم به ارتفع العلماء، وبتحقيقه اشتهرت أذكارهم، كسفيان الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد. وإنما انحطت رتبة المسمَّين بالفقهاء والعلماء عن تلك المقامات، لتشاغلهم بصُوَرِ العلم من غير أخذٍ على النفس أنْ تَبْلُغَ إلى حقائقه وتعمل بخفاياه. وأنت تجد الفقيه يتكلم في الظهار، واللعان، والسبق، والرمي، ويفرِّع التفريعات التي تمضي الدهور فيها ولا يحتاج إلى مسألة منها؛ ولا يتكلم في الإخلاص، ولا يحذر من الرياء، وهذا عليه فرض عين؛ لأن في إهماله هلاكَهُ، والأول فرض كفاية. ولو أنه سئل عن علة ترك المناقشة للنفس في الإخلاص والرياء لم يكن له جواب. ولو سئل عن علة تشاغله بمسائل اللعان والرمي، لقال: هذا فرضُ كفاية. ولقد صدق، ولكن خفي عليه أن الحساب فرض كفاية أيضاً، فهلاّ تشاغل به. وإنما تُبَهْرِجُ عليه النفسُ؛ لأن مقصودها من الرياء والسمعة يحصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بالمناظرة، لا بالحساب"""1". وقال أيضاً: "فكن أحد رجلين: إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك. وإياك أن تشتغل بما يُصْلِح غيرَك قبل إصلاح نفسك"2"، واشتغلْ بإصلاح باطنك وتطهيره من الصفات الذميمة: كالحرص، والحسد، والرياء، والعُجْب، قبل إصلاح ظاهرك ... ، فإنْ لم تفرغ من ذلك فلا تشتغل بفروض الكفايات؛ فإن في الخلق كثيراً يقومون بذلك، فإنّ مُهْلِكَ نفسه في طلب إصلاح غيره سفيهٌ، ومَثَلُه مثل من دخلت العقاربُ تحت ثيابه، وهو يَذُبُّ الذباب عن غيره. فإن تفرغتَ من نفسك وتطهيرها -وما أبعد ذلك- فاشتغل بفروض الكفايات، وراعِ التدريج في ذلك. فابتدئ بكتاب الله عزّ وجلّ، ثم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بعلوم القرآن: من التفسير، ومن ناسخ ومنسوخ، ومحكَمٍ ومتشابه، إلى غير ذلك. وكذلك في السنّة، ثم اشتغل بالفروع، وأصول الفقه، وهكذا بقية العلوم، على ما يتسع له العمر، ويساعِد فيه الوقت. ولا تستغرق عُمُرَك في فَنٍّ واحدٍ منها؛ طلباً للاستقصاء؛ فإن العلم كثير،   (1) "مختصر منهاج القاصدين"، أحمد بن محمد المقدسيّ، ص20. ولا يَخفى أنّ كلام الإمام المقدسيّ-رحمه الله-إنما هو عن تريبب الاشتغال بهذه العلوم، لا عن مبدأِ الاشتغال بها من حيث هو، وقد كان هو من الأئمة الذين اشتغلوا بهذا الواجب على أكمل وجهٍ. (2) هذا ليس على إطلاقه، كما سيأتي بعد قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 والعمر قصير. وهذه العلوم آلاتٌ يراد بها غيرها، وكل شيء يُطْلَبُ لغيره فلا ينبغي أن يُنْسى فيه المطلوب"""1". وينبغي التنبه هنا إلى أن كلام الإمام المقدسي السابق فيما يتعلق بالنُصْحِ بعدم الاشتغال بما يصلح الآخرين، قبل إصلاح النفس، كلامٌ فيه نظرٌ، وذلك أن الإنسان لا يمكن أن يَفْرُغ من إصلاح نفسِه مادامت أنفاسه تتردد، ولو أُخِذَ بهذا الكلام على إطلاقه لبطلت الدعوة والأمر بالخير، والسعي في إصلاح الآخرين. وهذا الظاهر ليس هو مراده-رحمه الله-وإنما أراد التأكيد على إصلاح النفس، والبعد بها عن حال المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون. ولكن نقول: اعملْ على إصلاح نفسكَ، وإصلاح غيركَ في خطّين متوازيين مع التركيز على نفسك، أكثر. علماً بأن الاشتغال بإصلاح الآخرين فيه إصلاح للنفس.   (1) مختصر منهاج القاصدين، ص22، أحمد بن محمد المقدسيّ، وهذا، واللهِ، كلامٌ منهجيٌّ نفيس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 مفهوم الإخلاص والتجرد الكامل : قد يأتي هنا تساؤلٌ مهم، وهو: هل مِن لازِم الإخلاص التجرد الكامل، بمعنى أنه يُشترط لتحقيق الإخلاص أن لا يكون للإنسان مصلحةٌ مادّيّة، أو دنيويّة إطلاقاً؟. والجواب هو: لا، لا يقتضي تحقيق الإخلاص في واقع حياة الإنسان، هذا التجرد الكامل، إلى الحدّ الذي يَخْرج فيه الإنسان عن منهج الله في جانبٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 آخر مِن الفهم والسلوك؛ بأنْ يُحَرِّم ما أباحه الله مِن أوجه الانتفاع الدنيويّ، التي يُمْكن له شرعاً أن يجنيها في الدنيا مِن وراء أعماله؛ بأن ينال مكافأةً أو عِوَضاً من الناس مادّيّاً أو معنويّاً- بما فيها بعض أنواعٍ من الطاعات الوارد فيها شرعاً مثل هذه المشروعية-. أما الفوائد التي ينالها العبد من الله في الدنيا جزاءً لعمله فهذه مِن ثواب الله، والأصل في العبادات أن يَجْني العبد نفْعها من الله في الدنيا وفي الآخرة، وعلى هذا جاءت نصوص الوعد الإلهيّ؛ إذ جاءت أحياناً بالوعد بالثواب في الآخرة، وأحياناً بالثواب في الدنيا والآخرة، ومرّةً مطْلقةً. والله سبحانه قد شرع العِبادةَ لِعِبادِهِ لينتفعوا هم بها في الدنيا وفي الآخرة، والله غنيٌّ عن العالمين. فالإخلاص لله؛ إذَنْ، لا يوجب، أو لا يُبيح لصاحبه الخروج عن منهج الله وشرعه. والمقياس في مفهوم التجرد لله هو مقياس الشرع، وليس مجرد الرغبة الإيمانية في التجرد. وفي النصوص الشرعيّة أمثلةٌ وأدلةٌ تَدُل على صوابِ هذه الملحوظة في معنى الإخلاص، وتلك النصوص تُعَدُّ ضابطاً يمنع من الشطط والميل عن الصواب، سواء كان هذا الميل إلى الغلوّ أو إلى التقصير. ومِن الأمثلة على ذلك ما يلي: المثال الأول: الجهاد في سبيل الله: فهو على الرغم من النصوص المتكاثرة المؤكِّدة على اشتراط الإخلاص لله فيه، وعلى خطورة خلوّه من هذا الشرط وعاقبةِ ذلك؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 إلا أن الله أباح للمجاهد الغنائم، وهي أمرٌ دنيويّ. لكن نلاحظ أن هذه الغنائم التي أباحها الله للمجاهد، هي الأمر ذاته الذي نهى الله المجاهدين عن أن يكون جهادهم من أجله، وأحبطَ به جهاد من قَصَده منهم لذاته. فقد روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلا عِقَالاً فَلَهُ مَا نَوَى" "1". وقد وردت نصوص تدل على عدم المنع من إرادة الغنائم، طالما أن الجهاد إنما هو لتكون كلمة الله هي العليا. ومن هذه النصوص: - عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقال: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ؛ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟. قال: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" "2". قال ابن حجر: "وفي الحديث شاهدٌ لحديثِ: "الأعمال بالنيات" ... وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين مختص بمن قاتل لإعلاء دين الله ... " "3". وأشار ابن حجر إلى أنّ الحالات المسؤول عنها هي:   (1) النسائي، 3138، 3139، الجهاد، وأحمد، 22184، 22221، 22282، والدارمي، 2416، الجهاد. (2) البخاري، 2810، في الجهاد والسير، والعلم، 123 وأخرجه في مواضع بألفاظ متقاربة، ومسلم، 1904، في الإمارة، وغيرهما. (3) الفتح: 1/222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 - الرجل يقاتل للمغنم. - الرجل يقاتل للذكر. - الرجل يقاتل لِيُرَى مكانه. - الرجل يقاتل رياء. - الرجل يقاتل غضباً. قال ابن حجر: "فالحاصل من رواياتهم أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمِيّة، والغضب، وكلٌّ منها يتناوله المدح والذم [يَقْصد أنّ حكمه يختلف باختلاف النية والباعث] ؛ فلهذا لم يَحْصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي. قوله: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، المراد بكلمة الله: دعوة الله إلى الإسلام. ويحتمل أن يكون المراد: أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط، بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سبباً من الأسباب المذكورة أَخلَّ بذلك. ويحتمل أن لا يُخِلّ إذا حَصَل ضِمناً، لا أصلاً ومقصوداً. وبذلك صَرّح الطبري فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عَرَض له بعد ذلك. وبذلك قال الجمهور. لكن روى أبو داود والنسائي، من حديث أبي أمامة، بإسنادٍ جيدٍ، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله؛ أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 له؟. قال: "لا شيء له"، فأعادها ثلاثاً، كلُّ ذلك يقول: "لا شيء له"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتُغي به وجهه". ويمكن أن يُحمل هذا على من قصد الأمرين معاً، على حدٍ واحد؛ فلا يخالف المرجَّح أوّلاً. فتصير المراتب خمساً: 1 - أن يقصد الشيئين معاً. 2 و3 - أو يقصد أحدهما صِرفاً. 4 و5 - أو يقصد أحدهما ويَحْصل الآخرُ ضِمناً. فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمناً، وقد لا يحصل، ويدخل تحته مرتبتان"1". وهذا ما دل عليه حديث أبي موسى. ودونه أن يقصدهما معاً فهو محذور أيضاً، على ما دل عليه حديث أبي أُمامة، والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفاً، وقد يحصل غير الإعلاء وقد لا يحصل؛ ففيه مرتبتان أيضاً، قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعثُ الأولُ قصْدَ إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه. اهـ. ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً لا يقدح في الإعلاء، إذا كان   (1) وهما:1- أن يقصد غير الإعلاء، ولا يَحْصل الإعلاء. 2- أن يقصد غير الإعلاء، ويحصل الإعلاء ضِمْناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الإعلاء هو الباعث الأصلي، ما رواه أبو داود، بإسنادٍ حسنٍ، عن عبد الله ابن حوالة قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَغْنَمَ عَلَى أَقْدَامِنَا؛ فَرَجَعْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئاً وَعَرَفَ الْجَهْدَ فِي وُجُوهِنَا؛ فَقَامَ فِينَا، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ لا تَكِلْهُمْ إِلَيَّ فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ، وَلا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، وَلا تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ" "1" ... ""2". المثال الثاني: فِعْل المعروف المتبادَل بين المسلم وأخيه المسلم: فهو أمرٌ مباح، بل هو مما أمر الله به المسلمين. فلو أهدى إنسان إلى آخر شيئاً مادّيّاً ثميناً طمعاً في ثواب الله، ثم كافأه صاحبه بهديّةٍ مادّيّة مثلها، أو أحسن، فإنه يباح له أخذها، بل هذا هو الأَولى-ما لم يَمْنع منه مانعٌ شرعيّ آخر-على الرغم مِن أنه قد كانت هديته لوجه الله، لا يريد من ورائها جزاءً من المخلوق. والنصوص معلومة في الأمر بالتهادي، ونحو ذلك من أفعال البر التي مِن هذا القبيل. والمؤكَّد أنه يَحبطُ العملُ بإرادة الدنيا في الحالات التالية: - أن يكون العمل طاعة ليست قابلةً لأخْذِ شيءٍ من الدنيا، عليها أو معها، كأن يُصلي الإنسان، الصلاة المأمور بها، لشيءٍ من الدنيا، أياً كان، وكأن يقرأ القرآن ويتقاضى على قراءته مكسباً مادّيّاً يقرأ من أجله-وهذا بخلاف الأجرة على تعليم القرآن-.   (1) أبو داود، 2535، الجهاد، وأحمد، 21981. (2) ابن حجر، الفتح، 13/442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 - أن يكون العمل عبادةً مأذوناً للإنسان فيها أن يَحصل مِن ورائها على شيء من المكاسب الدنيوية، إذا جاءت تبعاً، أو جاءت بسبب هذه العبادة، إذا لم يكن هذا القصد الثاني مخلاًّ بالنية الصالحة، كالجهاد مع الغنيمة؛ لكن يُبطل هذه العبادة أن يَعْمد الإنسان إلى الجهاد قصداً للمغنم فقط، أو إلى المغنم في الأصل ونيةِ الجهاد في سبيل الله تبعاً. وكذلك في حال استواء القصدين؛ فإنّ الذي يترجح، بمقتضى الأدلة، التحاق ذلك بحالاتِ عدم الإخلاص المحبطة للعمل؛ لأن معنى أن يكون العمل لله: أن تكون إرادةُ وجه الله كافيةً في الاستقلال بتحريك الإنسان للعمل، ولعل هذا مقياسٌ صحيح مطّرد للتفريق بين الإخلاص وعدمه، وللتفريق بين المقاصد الدنيوية، أو المصالح الدنيوية، المنافية للإخلاص وغير المنافية له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 حكمُ النيّة في العمل: - النيّة في اللغة: هي نوعٌ مِن القصْدُ، والإرادة"1". وهي الباعثُ الذي يختفي وراء أعمالنا، ويكون سبباً في القيام بها. والنيّة الباعثة على القيام بطاعةٍ ما: إما أن تكون نيّةً صالحة: وهي تلك النيّة التي تدفع صاحبها إلى القيام بالطاعة متِّجِهاً بها إلى الله تعالى، مستشعراً في ذلك معنى العبودية لله والتعبّد   (1) "جامع العلوم والحكم ... "، لابن رجب، الرياض، مكتبة العبيكان، 1418هـ-1997م، 1/26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 والقربة، فهذه هي النيّة الصالحة التي لا يقبل الله تعالى عملاً بدونها. وإما أن تكون النيّة نيّةً غير صالحة، وهي تلك النيّة التي تدفع صاحبها للتوجه بالعمل من أعمال الطاعة لغير الله تعالى، إما جزئياً: وهو التشريك في النيّة، ومنه الرياء، والشرك الأصغر، أو كليّاً: وهو الرياء المحض، فذلك من عبادةِ ما سِوى الله معه سبحانه. فأنت ترى، بهذا، كيف أثّرت النيّة في قبول العمل عند الله، عز وجل، أو في ردِّه على صاحبه. إن الصورة أمام الناس هي أن هذا العمل طاعةٌ: مِن صلاةٍ أو صيامٍ أو حجٍ، ويقول الناس: صلّى فلان، أو صام فلان، أو حج فلان؛ لأنهم يرونه قد ذهب إلى الحج مثلاً، وأَتى بالأعمال الظاهرة المأمور بها شرعاً، ولكنه عند الله تعالى، تُقَدِّمُهُ نيتُه أو تؤخّرُهُ: فإنْ كانت نيته صالحة خالصة لله سبحانه، وكان عملُهُ قد وافق ما أمره الله به، فهو قد حَجَّ حقيقةً. وأمّا إن كان قد نوى بحجه غير الله تعالى؛ فهو وإن كانت الصورة أنه قد حج، إلا أنه عند الله لم يحج، لأن نيته قد أحبطت ذلك العمل الطيب، وأبطلت أجره، بل لم يَقِف الأمر عند هذا الحدّ- أعني بطلان العمل، وفوات الأجر- بل يتعداه إلى الوزْر، لأن هذا الحج مثلاً، وهو عملٌ من أعمال الطاعة، انقلب بالنية السيئة إلى معصيةٍ يحاسَبُ عليها الإنسان، ويقول الله له يوم القيامة: لَمْ تعمل هذا من أجلي، اذهب للذي عملته من أجله يكافئك عليه. والنية الصالحة سببٌ لدخول الإنسان الجنة ونَيْل رضا الله، والنية السيئة سببٌ لدخول الإنسان النار، والوقوع في سخط الله؛ ففي الصحيحين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قال: قلت: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟، قال: "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه" "1".   (1) البخاري، 31، الإيمان، 6875، الديات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ليس مِن لازِمِ اختلال النية أن يكون رياءً " 2": ليس مِن لازِم اختلال النيّة أن يكون بسبب الرياء؛ وذلك لأن العمل تتعدد أسباب اختلاله. والعمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضاً، بحيث لا يراد به سوى مراعاة المخلوقين لغرض دنيويّ، كحال المنافقين في صلاتهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} "3"، وقال سبحانه في شأنهم: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ"4" الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ"5" الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ"6" ... } "4". وقد وصف الله تعالى الكفار بالرياء المحض فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} "5". وهذا الرياء المحض يقول عنه ابن رجب رحمه الله: "لا يكاد يَصْدر من مؤمن في فرضِ الصلاة والصيام، وقد يَصْدر في الصدقة الواجبة والحج وغيرهما من   (1) يُنظَر: "جامع العلوم والحِكَم"، لابن رجب، 1/33، فما بعدها. (2) 142: النساء: 4. (3) 4-6: الماعون: 107. (4) 47: الأنفال: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الأعمال الظاهرة التي يَتَعَدَّى نفعُها، فإن الإخلاص فيها عزيز" "1". وهذا الرياء يُحْبِط العمل، وصاحبه يستحق المَقْتَ والعقوبةَ. وتارةً يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه في أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضاً وحبوطِهِ. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ" "2". ولفظه عند ابن ماجه: "فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك" "3". وخرّج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليومٍ لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عَمَلٍ عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، عز وجل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك" "4". فالعمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلاً. أما إذا خالطه مثلُ نيةِ غيرِ الرياء، مثل نيّة الحج والتجارة، فهذا يُنْقِص الأجرَ ولا يُبْطله، بشرط أن يكون الغرض الأصليُّ هو الطاعة، كالحج مثلاً،   (1) "جامع العلوم والحِكَم"، لابن رجب، 1/38. (2) مسلم، 2985، الزهد والرقائق. (3) ابن ماجه، 4202، الزهد. (4) مسلم، 1735، الجهاد والسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 دون التكسب والتجارة"1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أقسام الأعمال إذا تخلّفت عنها النية الصالحة" 2": ونوَدُّ أن نقف فيما يلي على أثرِ تخلف النيّة الصالحة عن العمل"3": إنّ أعمال الطاعة كلها تحتاج إلى النية الخالصة لله تعالى، ولكن أعمال الإنسان تنقسم إذا خلت من إخلاص النية لله إلى ثلاثة أقسام: 1- قسم: يزول عنه معنى العبادة، ويتحول إلى معصية، بسبب خلوه من إخلاص النية لله، ويبقى أثر النفع فيه، فينتفع به الناس، ولا يُكتب له به أجر، بل يُكتب عليه به وزر، لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى، وذلك كالصدقة في الظاهر، والمعروف والإصلاح بين الناس في الظاهر، إذا لم يقصد به وجه الله. 2- وقسم: يزول عنه معنى العبادة، ولا يؤجر عليه، بل يتحول إلى معصية أو شرك، ولا ينتفع به صاحبه ولا غيره. وذلك كما لو صام، أو صلى، أو ذكر الله تعالى، يقصد بذلك غير الله. إلا أن يظن به غيره خيرا، فيقتدي به، فينتفع به الغير من هذا الوجه.   (1) يُنظَر فيما ورد في هذا الموضوع: "جامع العلوم والحِكَم"، لابن رجب، في شرحه لحديث: (إنما الأعمال بالنيات..) ، 1/19-49. (2) ينظر "جامع العلوم والحكم ... "، لابن رجب، 1/26، وما بعدها. (3) وينظر ما مضى في: "مفهوم الإخلاص والتجرد الكامل"، و"الاثار المترتبة على خلل النيّة أو التشريك فيها". والكلام هنا إنما هو عن أقسام الأعمال بعد تخلف النيّة الصالحة عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 3- وقسم: يزول عنه معنى العبادة، ولا يؤجر عليه صاحبه، وقد لا يأثم أيضا. مثل الأعمال المباحة، كالنوم، والأكل، والشرب ... إذا لم يتجاوز بها حدود المباح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 والخلل في العمل ينقسم إلى قسمين: 1- خلل مرده إلى اختلال النية، فهذا يحبط العمل. 2- خلل مرده ليس إلى النية، وإنما هو نقص في العمل، وعدم إعطائه حقه، وهذا قد يكون ثمرة من ثمرات النقص في النية، وقد يكون مجرد تقصير في العمل، أو في عدم إعطائه حقه، مع سلامة النية. وأما الإخلاص فإنّه يقتضي استواء باطن الإنسان وظاهره في إرادة الخير وفي فعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ما يتحقق به صلاح النيّة: صلاح النيّة يتوقف على الاستقامة في أمرين، هما: الأول: الفعل الذي يُريد تحقيقه أو عمله. الثاني: الغاية التي يريدها المرء من وراء عمله. فالأول: وهو الفعل، يكون صلاحه في باب العبادات بأن يكون طاعةً من حيث هو، وأن يكون مطابقاً لأمر الله وأمْر رسوله صلى الله عليه وسلم. والثاني: وهو الغاية من الفعل، يكون صلاحه، بإخلاص النية لله تعالى. ويأتي الحديث عن النية في كلام العلماء بمعنيين: أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر عن صلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 العصر ... إلى آخر ما هنالك، وهذا هو الذي يَرِدُ كثيراً في كلام الفقهاء. الثاني: تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أو الله وغيره؟ وهذا هو الذي يَرِد كثيراً في كلام السلف، بل هذا المعنى هو الوارد كثيراً في كلام الله وكلام رسوله: ويُعَبَّرُ عن النية بهذا المعنى بلفظ الإرادة. {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} "1". {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} "2". وقد يُعَبَّرُ عنها في القرآن بلفظ الابتغاء: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} "3"، {وَمَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} "4". والنية تتقلب، فقد قال بعض السلف: "ربما أحدِّث بحديث ولي فيه نية، فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي؛ فإِذَا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات". والنيّة محلها القلب، ولم يَرِد التلفظ بها في شيء من العبادات عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف، إلا أنه في الحج وحده يُسَمِّي نُسُكَه، فإن مجاهداً قال: "إذا أراد الحج يسمِّي ما يُهِلُّ به"، ورُوي عنه أنه قال: "يسميه في التلبية"، ولكن هذا غير التلفظ بالنية وهو أن يقول عند إرادة الإحرام: "اللهم إني أريد الحج والعمرة" وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر نسكه في تلبيته فيقول: "لبيك اللهم عمرة وحجة"، ولم يَرِد عنه التلفظ بالنية. وقد صح عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول عند إحرامه: "اللهم إني أريد   (1) 152: آل عمران: 3. (2) 18: الإسراء: 17. (3) 20: الليل: 92. (4) 272: البقرة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الحج والعمرة"؛ فقال له: أَتُعْلم الناس؟ أوَ ليس الله يعلم ما في نفسك؟! "1". ويتحصل مما مضى النتائج التالية: - من مقتضيات الإخلاص، أن يكون معنى الإخلاص هو المحرِّك الأساس للعمل؛ بحيث لو استقلّ لم يكن استقلاله سبباً في تخلِّي العامل عن العمل. - القاعدة المطّردة، هي: أنه ليس من معنى الإخلاص إلغاء، أو تحريم ما أَذِنَ الله فيه من مصالِحَ دنيوية تأتي تبعاً لعملٍ ما؛ لأنه ما دام الإخلاص إخلاصاً لله، فيجب أن لا يَخرج بصاحبه عن شرع الله. - السبب في إحباط النية والقصد في عملٍ ما، لا يعدو أن يكون أحدَ أمرين: الأول: إرادة حظوظ النفس التي لا تقتضيها العبادة، أو التي لم يأذن بها الله في العبادة، أو مع العبادة. الثاني: مزاحمة المصلحة الدنيوية المقترنة بالعبادة، لنية العبادة، أو تغليبها عليها. وضمير الإنسان له إحساسه وأثره في تقدير هذه الجوانب. واستفت قلبك، على أن تكون مع ربك!. ومهما تعارضت الأمور في التفكير، فالأقرب أن يكون الإنسان إلى الله أقرب، كما أن الأغرب أن يَتَلَوَّنَ تَلَوُّن الحِرباء، أو يَلدغ لدْغ العقرب!. وما سَلِم من هذا وهذا إلا من وفقه الله تعالى للإخلاص؛ إذْ لا خلاص إلا بالإخلاص، إنْ في الدنيا وإنْ في الآخرة!.   (1) يُنظَر فيما أَوردتُهُ هنا: "جامع العلوم والحِكَم"، لابن رجب، في شرحه لحديث: (إنما الأعمال بالنيات..) ، 1/33، فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ثالثاً: دواعي الحرص على الإخلاص هناك دواعٍ إذا توافرت لدى المرء حَرِص على الإخلاص، منها ما يلي: 1- استحضار الإنسانِ أمْرَ اللهِ بهِ. 2- استحضار كونِه شرطاً لصحة العمل وقبوله. 3- علْمه بأن الله تعالى يعلم السر والجهر، وأنه يعلم ما هو أخفى من السر، يعلم مكنونات الضمائر وما تخفي الصدور، وأن السر والجهر عنده، عز وجل، سواء: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْل وَمَنْ جَهرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} "1"، وأن أصل معاملة الإنسان لربه لا يرتكز على ظاهر الأعمال، وإنما على حقيقة أعمال القلوب، "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" "2"، ولا يقبل الله تعالى إلا طيباً. 4- علْمه بأن الناس ليس لهم من الأمر شيء، ولا يستطيعون النفع والضر إلا بإذن الله تعالى، فمن الجهل، ومن السفه أن يتجه الإنسان بعمله إلى من لا يقدر على جزائه عليه، لأنه عبد مخلوق مثله! 5- علْمه بأن الإنسان سيواجه جزاءه ولابد، وأنه سيحاسَب على حقيقة أعماله، لا على دعواه، ولا بما أظهره لعباد الله!!   (1) 10: الرعد: 13. (2) مسلم: برقم 2564. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 6- استحضاره عظيم ثواب الله تعالى، وعظيم عقابه سبحانه، ويقينه به، فمن عَلِم صفات الجنة، وصفات النار، ومن علم قدْر حب الله ورضاه، وقدْر سخط الله، علم أي شيء يَطلب، ومِن أي شيء يَفِرّ. 7- علْمه بأن الأعمال الخالصة لله تعالى، قد تشفع لصاحبها في وقتِ حاجته إليها، في وقت الشدائد والأزمات، أو في يوم القيامة ... ومن الأمثلة على هذا حديثُ أصحاب الغار الثلاثة، الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار، فلم تنفرج عنهم الصخرة إلا بعد أن توسلوا إلى الله تعالى بأعمالٍ عملوها لله تعالى خالصة؛ فخرجوا يمشون "1". 8- علْمه بأن الإخلاص ليس صفة تحصل للمرء ثم تثبت له على الدوام، بل هو صفة تعرض وتزول، تعرض للإنسان عند أسبابها، وتزول بوجود أسباب زوالها. 9- يقينُهُ أنّ بإمكانه تحصيل الإخلاص الذي ينجو به العبدُ في الدنيا وفي الآخرة؛ بل أنّ ذلك مُيَسَّرٌ له؛ فقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَل مِن مُّدَّكِر} "2"، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ} "3"، وقال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَها} "4".   (1) خ، 2215، البيوع، 2272، الإجارة، 2333، المزارعة، 3465، أحاديث الأنبياء، ومسلم، 2743، الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار. (2) 17: القمر: 54، وتكررت مراراً بآيات أخر في السورة نفسها. (3) 78: الحج: 22. (4) 286: البقرة: 2، وقد جاء هذا المعنى في عددٍ من الآيات الأخرى، ومن ذلك: البقرة:233، والأنعام:152، والأعراف:42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فهل يُعْقَلُ أنْ يكون تحصيل الإخلاص صعباً على مَن أراده بصدقٍ وبَذَل سببَ الوصول إليه!، وهل يُعْقَلُ أن يكون تحصيله مستحيلاً بعد هذا كلِّه!. 10- علْمه بالله بأسمائه وصفاته؛ فإنّ ذلك يورث رجاءه وحْده، وخوفه وحْده، ويورث الأدب معه سبحانه، وأما الجاهلون بالله، والمشركون بالله فكما قال الله تعالى عنهم: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} "1". 11- استعراضه آياتِ الله تعالى، وأحاديثَ رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته، وتدبرها، وفقْه معانيها، والعمل بها. 12- كثرة قراءته سِيَرَ المخلصين والعباد والزهاد من السلف الصالح؛ فإن النفس تصفو بقراءة أخبار هؤلاء الأخيار. واعلم، يا أُخَيَّ، أن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، فهو يتذكره ويَذْكره، ومَن عرف قدر شيء -وكان عاقلاً- فإنه لا يملك إلا أن ينزل ذلك من نفسه حسب قدره أياً كان، حباً أو بغضاً، تقديراً وإجلالاً أو ازدراء وإهمالاً. فمَن عَرف الله حق معرفته، ومَن عَرف شأن الإخلاص وعاقبته، وحقيقة ما يضاده مِن أعمال القلوب والجوارح وعاقبتها، فسوف يتطلب الإخلاصَ، وينشغل به، ويُحاكِم نفسه على مقتضياته؛ حتى يُدرِك مطلوبَهُ منه، ومطلوبَهُ مِن ورائه في الدنيا والآخرة! وينبغي لنا العلم بأن الإخلاص في أعمال الناس-ونحن منهم- نفيس   (1) 91: الأنعام:6، 68: والزمر: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 عزيز، إذ الغالب في أعمالنا -والعياذ بالله- إما عدم الإخلاص، وإما أن يكون الإخلاص ناقصاً مشوباً بشيءٍ ما من حظوظ النفس العاجلة، التي لا تخلو أن تكون في الغالب إما على حساب مرضاة الله تعالى، وإما على حساب حظوظ النفس في الآجلة. وهذا كله يقتضي أن يجتهد المرء في أن تكون بضاعته -في هذه الحياة، ويوم القدوم على مولاه في الدار الآخرة-الإخلاصَ والفقهَ في الدين، بحيث لا يَنْفَكّ أحدهما عن الآخر؛ فإن هذا هو العمل الباقي النفيس، الذي يستحق المنافسة. وأمّا ما عداه، فلا شيء، ولا يقبله الله تعالى؛ لأن العمل إذا لم يكن خالصاً لم يُقْبَل، ولو وافق الشرع ظاهراً، وإن كان خالصاً، ولم يكن صواباً، لم يُقْبَل؛ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ... } "1". وقد قال سهل بن عبد الله: "ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب" "2". وقال يوسف بن الحسين الرازيّ: "أعزّ شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أَجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لونٍ آخر" "3". على أنه ليس المراد بالكلام السابق- عن الإخلاص وقِلّته في أعمال الناس-استحالة تحصيله؛ وإنما يُحمَلُ ما قاله السلف عن صعوبةِ تحصيل   (1) 26: يونس: 10. (2) "جامع العلوم والحكم ... "، لابن رجب، 1/42. (3) "جامع العلوم والحكم ... "، لابن رجب، 1/42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الإخلاص، على طبيعة النفس مع الإخلاص، وأنّها متردِّدةٌ، لا تستقر على حالٍ. ونحن في دعوة الناس إلى الإخلاص لابدّ أن نُقَرِّر لَهم أن تحصيلَ الإخلاص مُيَسَّرٌ وبابَه مفتوحٌ، وأن كل من أراده، وصدَقَ مع الله في ذلك، فسينالُه. ومما يُراد بعبارة: "إن الإخلاص عزيز نفيسٌ"، مثلاً، شحْذ الهمَمِ وترغيبها في تحصيله؛ لأنه شيءٌ نفيسٌ؛ فيستحق الجهد والمجاهدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 رابعاً: أهمية الإخلاص واستحضار النيّة يكفي في بيان أهمية الإخلاص ما يلي: - أمْرُ الله به؛ وهو الأمر الذي لا يَسَع عبيدَ الله وعبادَه الإعراضُ عنه، أو تجاهله. - أنه شرطٌ لصحة العمل -كما سبق- فلا يقبل الله تعالى عملاً بدونه. كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} "1". {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ. فَمَا لَهُ مَنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِر} "2". {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} "3". {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلِيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} "4".   (1) 89: الشعراء: 26. (2) 9-10: الطارق: 86. (3) 23: الفرقان: 25. (4) 110: الكهف: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 - أن الناس جميعاً يبعثون على نياتهم: "يهلكون مهلكاً واحداً ويَصْدرون مصادر شتَّى"؛ بحسب نياتهم؛ فمنهم الناجي من عذاب الله ومنهم الهالك؛ فعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: عَبَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامِهِ؛ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ شَيْئاً فِي مَنَامِكَ لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ. فَقَالَ: "الْعَجَبُ! إِنَّ نَاساً مِنْ أُمَّتِي، يَؤُمُّونَ بِالْبَيْتِ، بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ". فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ. قَالَ: "نَعَمْ فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ، وَالْمَجْبُورُ، وَابْنُ السَّبِيلِ. يَهْلِكُونَ مَهْلَكاً وَاحِداً وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى؛ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ""1". ويكفي بياناً لأهمية الإخلاص، أنه هو الشيء الوحيد الذي يتأسف على فقده العاملون، ويحزن على فواته المفرطون، أعني إخلاص العبودية لله، وإخلاص العمل له سبحانه، وكل ما هو من مقتضياته: فقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّتَّخِذَ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّوْنَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لله وَلَو يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعاً وَأَنَّ الله شَدِيدُ الْعَذَاب. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأُوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابَ. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهُمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} "2".   (1) مسلم،، ح2884، الفتن وأشراط الساعة، وبنحوه البخاري، 2118، البيوع. (2) 165-167: البقرة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وقال سبحانه: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْل أَنْ يَّأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَّبِّكُمْ مِنْ قَبْل أَنْ يَّأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تُشْعرُون. أَنْ تَقُولَ نَفْس يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطت فِي جَنْبِ الله وَإِنْ كُنْت لَمِنَ السَّاخِرِينَ} "1". وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُد أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ. وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلكَ وَلَتَكُونّنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيْعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِيْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} "2". ولهذا ينبغي استحضار النيّة الصالحة دائماً في كل عملٍ يعمله الإنسان. وينبغي تحرير النيّة، وتخليصها من الشوائب. وهُناك جانبٌ مهمٌّ متعلق باستحضار النية في الأعمال، واستحضار طلب الأجر، أو السلامة مِن إثم المعصية، وهو أنه بهذا الاستحضار "تتحول العادات إلى عبادات، أو تزداد المقاصد الحسنة في العبادات؛ فيكون أجر العمل الواحد كأجر عددٍ من الأعمال" "3". وقد قال الله، سبحانه، في الهدْي والأضاحي: {لَن يَّنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَّنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُم} "4".   (1) 54-56: الزمر: 39. (2) 64-67: الزمر: 39. (3) جهود الإمام النووي ومنهجه في الدعوة إلى الله، رسالة ماجستير أعدّها، تحت إشرافي، الأخ: عبد الناصر اللوغاني، المبحث الثالث: صفات الداعية وآدابه. (4) 37: الحج: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 "والتداخل بين الإخلاص والنية، غير منكر، إلا أن النية قد تكون أعمَّ من وجهٍ، فإن الإخلاص لا يتصور من غير نية، بخلاف النيّة، فقد توجد بغير إخلاص، كما أن النيّة تتميز بالتعدد في المرادات، فيمكن للعامل أن ينوي بعملٍ واحد، أموراً عديدة مختلفة، فإن كانت حسنة، ازداد ثوابه بزيادة تلك المقاصد الحسنة، وإن كانت مشوبة، فله من الخير والشر بقسطه. وعلى المسلم- لاسيما الداعية- بعد تحرير قصده فيما يتعلق بأعماله الصالحة، ومنها قيامه بالدعوة وتكاليفها، أن يحرص على استحضار النوايا الصالحة فيها، كدلالة الناس على الخير، ونشر العلم، ونصرة الدين، وتثبيت المؤمنين، وخذلان الباطل وأنصاره، والاقتداء برسل الله صلى الله تعالى عليهم أجمعين، وسِواها من النوايا والمقاصد العاليات الساميات. وهذا باب واسع، يَفتح الله تعالى على عباده منه ما يشاء"""1". قال الإمام النووي: ""اعلم أنه ينبغي لمن أراد شيئاً من الطاعات، وإن قلَّ، أن يُحضر النية، وهو أن يقصد بعمله رضا الله عز وجل، وتكون نِيَّتَه حال العمل، ويدخل في هذا جميع العبادات، من الصلاة والصوم، والوضوء والتيمم، و .... ، وإنكار المنكر، والأمر بالمعروف، و .... ، وحضور مجالس العلم والأذكار، وزيارة الصالحين، و ... ، ومذاكرة العلم، والمناظرة فيه، وتكراره، وتدريسه، وتعليمه، ومطالعته، وكتابته، وتصنيفه، والفتاوى، وكذلك ما أشبه هذه الأعمال، حتى ينبغي له إذا أكل، أو شرب، أو نام، يقصد بذلك   (1) المصدر السابق، المبحث الثالث: صفات الداعية وآدابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 التقوّي على طاعة الله، أو إراحة البدن لينشط للطاعة"، ثم قال: "فمن حرم النية في هذه الأعمال، فقد حُرم خيراً عظيماً كثيراً، ومن وُفّق لها، فقد أُعطي فضلاً جسيماً، فنسأل الله الكريم التوفيق لذلك، ولسائر وجوه الخير" "1".   (1) المصدر السابق، المبحث الثالث: صفات الداعية وآدابه، نقلاً عن: بستان العارفين، للنووي: ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 خامساً: آثار إخلاص النية في حياة الإنسان للإخلاص-بمفهومه الصحيح الذي سبق بيانه"1"- آثارٌ في حياة الإنسان وفي أعماله، وفي دنياه وفي أخراه، يمكن تلخيصها في الآتي: 1- سعادة المرء في الدنيا والآخرة. 2- مباركة العمل القليل مع الإخلاص. ومن الأمثلة: * حديث صاحب البطاقة التي فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله؛ فرجحت بالسجلات من الذنوب"2"؛ وما ذلك إلا للإخلاص فيها. *الأحاديث في قول: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، أو يبتغي بذلك وجه الله، وأنه أحق الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه يدخل الجنة، أو يُحَرّم على النار"3".   (1) في: ثانياً: تعريف الإخلاص. ومباحث أُخرى بعده. (2) الترمذي، 2639، الإيمان، وابن ماجه، 4300، الزهد، وأحمد، 6955. (3) ومن ذلك ما في: خ99، العلم، 6570، الرقاق، 425، الصلاة، 1186، الجمعة، 5401،الأطعمة، ومسلم، 33، المساجد ومواضع الصلاة، وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 3- أن الإخلاص شرطٌ وسببٌ لصحة العمل. 4- المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بِصدْقٍ، لا يكونون إلا مخلصين، والإخلاص من جهةٍ أخرى خيرُ دافع لمتابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والإقتداء به. 5- أن الأعمال المباحة تتحول بالنية إلى عبادة لله، بل حياة الإنسان كلها بالنية الصالحة تكون عبادة، وأن هناك أعمالاً لا يفرق بين كونها عبادة لله أو ليست عبادة سوى النية والإخلاص، أو عدمه. 6- أن الإخلاص من أهم أسباب ابتعاد المرء عن كثير من أمراض القلوب وأمراض الجوارح المهلكة كالحقد والحسد والغش ... وما إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الإخلاص المطلوب، نيّةً وعملاً: والإخلاص المطلوب-نيّةً وعملاً- هو: * إخلاص قبل بدء العمل يدفع إلى العمل والحرص عليه. * وإخلاص في أثناء العمل يدفع إلى إتقان العمل وإعطائه حقه. * وإخلاص بعد العمل، يتمثل في الثبات على النية الخالصة لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 سادساً: مقاييس الإخلاص وعلاماته مقدمة : نتناول هنا مقاييس الإخلاص وعلاماته: عدماً ووجوداً، وكمالاً ونقصاً؛ إذ الإخلاص إما أن يكون معدوماً لدى المرء، وإما أن يكون موجوداً، ووجوده إما أن يكون على الكمال، أو على النقص، ولمعرفة هذا كله مقاييس يستطيع الإنسان أن يتعرف بها عليه، أذكرها فيما يأتي. ولكن، أُقدِّم بين يدي ذلك بعض النقاط حول الموضوع فيما يلي: أ- الإخلاص من الصفات النفسية التي لا تعرف إلا بمعرفة آثارها، فعلى من يريد التعرف على حقيقة الإخلاص أن يرجع إلى النصوص الشرعية التي تتناوله، كما أن عليه أيضا أن يتعرف على آثار الإخلاص في الواقع: واقع نفسه، وواقع الناس، مجتمعاً وأفراداً، سواء أكان إخلاص النية أم إتقان العمل؛ وإنْ كانت نيات الناس من الصعب الحكم عليها؛ ولكن الإنسان يعرف مِن نفسه استقامة نيته من عدمها. ب- الإخلاص ليس صفة تحصل للمرء ثم تثبت له على الدوام، بل هو صفة تعرض وتزول، تعرض للإنسان عند أسبابها، وتزول بوجود أسباب زوالها. كما مَضَى. فالمرء يحتاج دائما إلى تحصيل هذه الصفة أو اكتسابها، كما أنه لابدّ له أن يثبت ويستمر على هذا الإخلاص؛ فيجاهد نفسه للحصول عليها، وللاحتفاظ بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 جـ- والإخلاص درجات: فقد يتم للمرء الاتصاف بصفة الإخلاص، على أتمها، مع التخلص مما ينافيها أو يشوبها. وقد يتصف بالإخلاص مع بعض الصفات المنقصة لتمامه. وقد يخلص في عمل دون عمل آخر، فعلى العاقل أن يراقب نفسه في كل ذلك. فهو يستغرق كل مقاصد الإنسان وأعماله القلبية، وجوارحه الأخرى وأعمالها، فينتج من ذلك: 1- إخلاص النية والقصد والتوجه، "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى". على ما رواه "عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" "1". 2- إخلاص القول، على ما جاء في الحديث "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ" "2"؛ إذ رَبَطَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم   (1) البخاري، ح1، بدء الوحي. (2) البخاري، في مواضع متعددة، منها: ح5559، و5560، الأدب، ومسلم في مواضع، منها: ح 67، 68، الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 القولَ والصمتَ بالإيمان المؤثِّر، المورِث لهذه الصفة من المراقبة، وهذه حقيقة الإخلاص. 3- إخلاص الأعمال: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ" "1". والمسلم في حاجةٍ إلى شفافيةٍ في محاسبةِ نفسِهِ في تعامله مع ربه سبحانه؛ وهكذا كان السلف الصالح، على حَدِّ ما ذكره سفيان بن عيينة بقوله: ""كان من دعاء مطرّف بن عبد الله: "اللهم إني أستغفرك مما تُبتُ إليك منه ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلتُه لك على نفسي ثم لم أُوفِ به لك، وأستغفرك مما زعمتُ أني أردتُ به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمتَ" "2".   (1) مسلم، ح5300، الزهد والرقائق. (2) هذا دعاءٌ كان يدعو به مطرّف بن عبد الله، يُنْظَر: جامع العلوم والحكم ... "، لابن رجب، 1/42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 المقاييس : إن هناك مقاييس يُعرفُ بها حقيقةُ الإخلاص، عدماً ووجوداً، كمالاً ونقصاً، وَيُمْكن للمرء أن يطبقها فيعرف بها حقيقة الأمر، أو يكاد، وهي مقاييسُ متعددة"1"، أذكر الآن شيئاً من أهمها -فيما يبدو لي- "ويلاحظ   (1) ويلاحظ أنني أحياناً أقول في عَدِّها: مِن مقاييس. وأحياناً أقول: مِن علامات. وأحياناً: مِن ثمرات. والمعاني متقاربة، وهذا التنويع مقصود، ومِن دواعي هذا التنويع أن المقياس يكون أحياناً ثمرةً مِن ثمرات الإخلاص، لكن ليس كل مقياس ثمرةً دائماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 أن الأمثلة التي تصلح مقياساً لمعرفة حقيقة الإخلاص، لا يشترط أن تكون دائرة بين الإيمان والكفر، بل لا مانع أن تكون في باب الفضائل ... ": 1- يمكنك معرفة مدى إخلاصك من خلال معرفتك نيتك في العمل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" "1". وأنت أدرى بنيتك فيما تعمله من عمل، فتنظر: هل عملته لله، أو عملته لغيره. وقد روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلا عِقَالاً فَلَهُ مَا نَوَى" "2". 2- الإخلاص يقتضي أن تفعل أشياء من أجل الله وأن تترك أشياء من أجل الله، وبهذا المقياس تستطيع أن تختبر نفسك في الإخلاص: عدماً أو وجوداً، كمالاً أو نقصاً. 3- من مقاييس الإخلاص أن تعرض عملك على قولك وقولك على عملك فتنظر: هل يطردان في الخير، فذلك من علامات إخلاصك، أو لا يطردان، فذلك خلل في إخلاصك. قال إبراهيم التيمي: "ما عرضت   (1) مسلم، ح 3530، الإمارة. (2) النسائي، 3138، 3139، الجهاد، وأحمد، 22184، 22221، 22282، والدارمي، 2416، الجهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً""1". والمقصود أن تتعارض النية مع العمل؛ أما في حال الاختلاف بين النية والعمل مع عدم التعارض فليس هذا داخلاً في الذم؛ كما لو قَصَد الإنسان أن يعمل عملاً من أعمال الخير، ولكنه وقَع منه عملٌ آخر مِن أعمال الخير. أو كمَن أراد أن يدفع صدقةً إلى فلان، ولكنها وقعت في يدِ شخص آخر. 4- من مقاييس الإخلاص أن تسرك حسنتك وأن تسوءك سيئتك؛ لأن الإخلاص يوجب يقظةَ القلب والضمير، وهذه ثمرةٌ من ثمرات هذه اليقظة القلبية. 5- من علامة الإخلاص أن تتحلى بالمراقبة والمحاسبة لنفسك. 6- من مقاييس الإخلاص أن يكون سرورك بالحسنة وبثواب الله تعالى أعظم مما تجده في نفسك لو كان لك بتلك الحسنة وبذلك الثواب عرَضٌ دنيوي، أو شهرة ... "كسب مادّيّ، أو معنويّ من الناس"، كمَبْلغ من المال مثلاً. 7- من علامات الإخلاص أن تبكي صادقاً من خشية الله تعالى فيما بينك وبين نفسك، فإن تلك اللحظة لحظة صدق وإخلاص، فإن استمر أثرها في حياتك، وإلا فقد تكون لحظة عارضة، وقد تكون لحظةً خادعة لك ولغيرك؛ فعلى الإنسان أن لا يغتر بِعَبْرَةٍ عَابِرَةٍ أو دَمْعَةٍ قد يكون مثيرها شيئاً آخر غير الإخلاص. 8- من علامات الإخلاص أن تدقق على نفسك في أهليتك إذا التزمت   (1) البخاري: 2- الإيمان، 37- باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 بعمل ما، أو أردت الالتزام به، فتنظر: هل أنت متأهل لهذا العمل؟ أو لست متأهلا للقيام به؟ فيلزمك في هذه الحال التأهل له، وإلا تركته إلى سواه، خهل أإذا كان أمامك مجال لتركه من حيث الحكم الشرعي، ومن الإخلاص أن تكون بتركه في تلك الحال أشد سرورا منك لو عملته ولم تبرىء ذمتك منه. 9- من مقاييس الإخلاص أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنك يراك!. 10- من علامات الإخلاص رؤية الإنسان تقصيره في حق الله تعالى، مهما عمل من الطاعات، على أن لا يقع في اليأس والقنوط، وإنما يلازم التوبة والاستغفار. 11- من ثمرات الإخلاص التزامك بالطاعات، وبعدك عن المعاصي وما يوصل إليها، حتى يصبح ذلك طبعاً لازماً لك، وذلك من علامات الإخلاص. 12- من مقاييس الإخلاص الاستمرار في عمل الخير الذي يتقاضى الإنسان في مقابله أجراً مادّيّاً، لو انقطع عنه ذلك الأجر الماديّ، فلا يتأثر عمله بانقطاع الدنيا عنك. اللهم إلا إذا كان تركه للعمل إنما هو بسبب عدم الاستطاعة حينئذٍ، أو لسبب آخر- غير العمل للدنيا-. المهم أن لا يتأثر العامل بذلك تأثراً عكسياً؛ وحينئذٍ، فإنّ له أجراً، سواء استطاع، أو ظن أنه لا يستطيع، أو عجز عن الاستطاعة، ما دام أنه لا يتأثر بذلك العرَض أو العارض الماديّ. 13- إذا ذهب حظ النفس الدنيوي في عمل الخير جاء الإخلاص، وإذا انضم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 إليه الصواب اكتمل النصاب. أي أن حظوظ النفس المنافية لإخلاص الأعمال، هي المحبطة لها، كما أنّ عدم إصابة الحق، أو الحكم الشرعيّ، مفسدٌ للأعمال؛ وإذا سَلِم العمل من هذين العارضين أصبح عملاً مقبولاً. وبقياس الإنسان لأعماله في الأمر الأول منهما"1" يتبيّن له مدى إخلاصه. 14- بالمقارنة بين موقفك من الغيب وموقفك من عالم الشهادة تستطيع أن تقيس إخلاصك، أي بنظرك إلى نفسك في موقفها من اليقين بالغيب الذي أخبرك الله به، وموقفها من اليقين بالمشاهَد المحسوس لها، تستطيع أن تعرف مدى يقينك المقتضي للإخلاص. 15- بالمقارنة بين قدر استجابتك للرغبة في الخير وفي الأجر والثواب، وقدر استجابتك للرغبة في الدنيا تستطيع أن تعرف حقيقة إخلاصك، فمثلا: إذا كانت الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بألف صلاة، وأنت في المدينة، وبإمكانك الصلاة فيه-وليس أمامك عوارض شرعية مانعة لك في بعض الصلوات أن تصلي فيه، أو مقتضيات شرعية أخرى يتطلب الفقه في الدين مراعاتها، كالانشغال بواجب أو طاعة أولى من ذلك في ذلك الوقت-فبالنظر حينئذٍ في مقدار استجابتك للرغبة في أجر الصلاة في الحرم، والنظر إلى مقدار استجابتك للموقف ذاته لو كان لك في مكان الأجر عند الله أجراً أو مكسباً عند الناس؛ كما لو كان الافتراض أن يكون لك في مكان الألف صلاة ألف ريال مثلا، فعندها   (1) وَفْق الضوابط التي مضى الحديث عنها في مواضعها مِن هذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ستعلم من نفسك ما موقفك في كلٍ، وما الفرق بين الموقفين؟ وما مقدار يقينك وإخلاصك ورغبتك في ثواب الله وفي الدار الآخرة!! وتذكّر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الهم بتحريق المتخلفين عن صلاة الجماعة، وفيه "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقاً سَمِيناً أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ" "1". فالإخلاص دافع قوي لفعل شيء لله أو ترك شيء لله، فإذا ما راقبت نفسك في هذا، تستطيع أن تتعرف على حقيقة إخلاصك لله. وقد تشتد دلالة ما تفعله لله أو تركه لله عند وجود العوارض القوية الصارفة عن الفعل أو عن الترك التي ليست معتبرةً شرعاً. والانتصار على العوارض القاطعة عن الله تعالى من علامات التوفيق والإخلاص وكذلك الانتصار على العوارض القاطعة عن الطاعات، حينما لا تكون مراعاتها مطلوبة شرعا، أو لا تكون عذرا شرعيا. 16- من علامات الإخلاص أن يستوي حالك في العمل لله تعالى عندما تكون خاليا، وعندما تكون مع الناس، بل تكون في الخلوة أكثر اجتهادا في الخير وفي الطاعة. 17- من مقاييس الإخلاص، أن تنظر إذا عملت طاعة لله تعالى خاليا، ثم اطلع عليك بعض الناس، هل يسرك ذلك افتخارا وشهرة عند الناس أم لا؟ فإنك بهذا تعرف مدى إخلاصك في هذه الطاعة لله تعالى.   (1) البخاري، ح608، الأذان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 18- من علامات الإخلاص، أن يحيك الإثم في نفسك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لنَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" "1"؛ فهذا علامةٌ على الإثم، وعلامةٌ على الإخلاص أيضاً؛ لأنه ليس كل الناس يحيك الإثم في صدره بحيث يمنعه من ارتكابه. 19- من علامات الإخلاص لهذا الدين، أن يسعى المرء في تعلم العلم الشرعي، وأن يتعلم كل ما يحتاجه الإنسان لمعرفة دينه وعبادة ربه. 20- من علامات الإخلاص في العمل، أن تحاسب نفسك على أجرة العمل، ومتى ما رأيت رجلا يأخذ الأجرة ولا يحاسب نفسه على ذلك العمل وعلى أدائه له على أحسن وجه، وعلى تحقيقه للغرض المطلوب من وراء ذلك العمل، فاعلم أنه غير مخلص، وبمثل هذا تضيع الأمة، فاحذر أن تكون من هذا الصنف، فإنهم أعداء أنفسهم وأعداء الأمة معا، شعروا بهذا أم لم يشعروا، ولا عبرة بمن مات شعوره، ومات قلبه، نسأل الله السلامة والعافية. 21- بإمكانك التعرف على حقيقة إخلاصك في كل حالة من حالات هذه الحياة، ولا سيما في الحالات الآتية"2": - إذا خلوت. - وإذا غضبت.   (1) مسلم، ح4633، في البر والصلة. وفي ح4632 قال: ((في صدرك)) . (2) الرحيلي، "الأخلاق الفاضلة، قواعد ومنطلقات لاكتسابها"، الرياض، ط. الأولى 1417هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 - وإذا قدرت. - وإذا احتجت. - وإذا استغنيت. - وإذا طمعت. فإن النفس في هذه الأحوال تعود تلقائيا إلى سجيتها، وتنكشف لك حقيقتها، فأما المخلص لله فإن إخلاصه يمنعه من الخروج عن طاعة الله، مهما كانت حاله، ومهما كانت ظروفه، وأما من فقد الإخلاص أو ضعف عنده الإخلاص، فإنه يستجيب لمطالب هواه، ونفسه الأمارة بالسوء، ويقع أسيراً لظرفه. والأمر يحتاج إلى مراقبة ومجاهدة. وقد جاء في أوصاف المنافق: " ... وإذا خاصم فجر" "1". 22- من علامات الإخلاص، أن تحاسب نفسك على مقدار الجهد والهم والتفكير الذي تبذله ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة، في مقابل ما تبذله لمطالب الدنيا البحتة -وإن أردت بها النية الصالحة- وأن تحاسب نفسك على مقدار ما تبذله من جهد، وهم، وتفكير، في نصرة الإسلام والمسلمين، والدعوة إلى هذا الدين، في مقابل ما تبذله من ذلك لمطالبك الخاصة. والقاعدة الصحيحة، والتي لا يشك فيها مؤمنان -ولو نظرياً، لا عملياً- هي: أن الحياة الآخرة هي الحياة، وأن الحياة الدنيا في مقابلها ليست بشيء، وإنما هي متاع الغرور. وعلى هذا الأساس تستطيع أن تتعرف على نفسك، وعلى حقيقة إخلاصك ودرجته، وذلك بالنظر إلى الذي أخلصت له عملك أكثر،   (1) البخاري، ح 33، الإيمان، ومسلم، ح88، الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وبذلت له همك وجهدك أكثر، وتتعرف على حقيقة زَهْوِك بالدعوة إلى الله تعالى، وإياك والتماس الأعذار لنفسك فإنها كثيرة، ولكن لا يثبت منها إلا القليل، أو لا يكاد أن يثبت منها شيء عند الله تعالى. 23- من علامات الإخلاص في العمل، أن يستوي معه حال العامل على الإخلاص في حال وجود الرقيب والرئيس مثلا، وفي غيابه، فلا يختلف نصحا وزيادة ونقصا بوجود المشرف والرقيب، ولا بغيابه. ومن علامات الإخلاص في العمل أن لا يتمنى العامل أن يطلع عليه من له إليه حاجة. 24- من علامة الإخلاص في أعمال الخير والدعوة، أن يستوي عند العامل تحقق نتائج الأعمال على يديه، أو على يدي أخيه المسلم، لأن هذا هو المقصود، اللهم إلا أن يتمنى أن تتحقق على يديه على سبيل الغبطة ومحبة الخير، ومن شأن هذا أن لا يتأثر تأثرا سلبيا من ظهور النتائج المرجوة على يد غيره من المسلمين، وأن لا يكون عائقا لظهورها على يد غيره، بل يسره أن يحقق الله تعالى الخير على يد إخوانه المسلمين. 25- ليس من الإخلاص أن يعمل الإنسان عمل الخير لأجل حَمْدِ الناس، أو لأجل الشهرة، وما إلى ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " ... فمن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" "1". 26- من علامات الإخلاص، قبول الحق ممن جاء به، وعدم رفض الحق   (1) البخاري، ح1، بدء الوحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لأي سبب من الأسباب. 27- ومن علامات الإخلاص، الاعتراف للآخرين بما فيهم من فضل. 28- ليس من الإخلاص، أن يعرض الداعية دعوته من خلال الإكثار من الحديث عن إنجازاته الدعوية، وتجاربه الطويلة في الدعوة وأعمال الخير، من غير مقتض شرعي لذلك. 29- من علامات عدم الإخلاص، عدم الثبات في مواجهة الضغوط، والمحن، والشدائد، ومغريات الحياة، الصارفة عن عمل الخير والدعوة إليه، والثبات عليه. 30- ليس من الإخلاص أن يتطلع العامل والداعية إلى الريادة والصدارة والرئاسة، من غير مقتضٍ شرعيٍّ مؤكَّد. 31- ليس من الإخلاص ادّعاء الإخلاص، من غير مقتضٍ شرعي، ولا سيما نشْره على الملأ، في الصحف وسائر وسائل الإعلام، ككتابة الأسماء: "طبع على نفقة المحسن الكبير ... " "مَبَرَّة فلان أو المحسن الكبير ... ". إلى آخر أمثال هذه العبارات، ولابدّ من التنبيه هنا إلى أنه قد يقع في هذا النوع من مظاهر الرياء-في الغالب- مَن لا يَقصده؛ فليس كل مَن صَدرت منه مثل هذه العبارات يكون قد وقع في الرياء حقيقةً؛ ومِن ثم لا يَصحُّ لك التجاسر بالحكم على الناس بالرياء والقطع به عليهم في مثل هذه الأحوال، وإنما فائدة معرفة هذه الحقيقة الحذر مِن الوقوع في ذلك، والتحذير منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 32- من علامات الإخلاص، أن يحاسب الإنسان نفسه على حقوق الآخرين، وعلى مصالحهم، وأن لا يسعى في تحقيق مصالحه، ولو على حساب الآخرين، فمن علامات الإخلاص النصح لكل مسلم، وإيثاره على نفسه إن أمكن. 33- من علامات الإخلاص، القيام بالواجب الشرعي فيما يتعلق بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنقد البنَّاء، وفق أحكام الشريعة ومصالحها، بغض النظر عن رضَا الناس، وسخطهم، قربهم وبعدهم. فالإخلاص يقتضي النقد البنَّاء: نصحاً للمنقود، وحباً للخير، ولا سيما إذا كان الإنسان في مكان العالم، أو في مكان الطالب، أو في مكان المرءوس أو في نحوها من الحالات التي قد تستدعي أن يضعف الإنسان أمام مصالحه القريبة أو الغريبة، عن القيام بواجب النصح. 34- ليس من الإخلاص عدم إبداء الرأي في موضعه، أو عدم النصيحة في موضعها، أو عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خوفا من شيء ما من دون الله تعالى، أو طمعا في شيء ما عند غير الله تعالى. وليس من الإخلاص أن ترى المرء يداهن في آرائه. وليس من الإخلاص، إبداء الرأي أو الكلمة ليس وفق قناعة المرء ووفق ما يقتضيه الإخلاص، وإنما لأمور أخرى تنافي الإخلاص: كالرغبة في معارضة فلان من الناس. أو الحرص على الظهور. أو إثبات المرء وجوده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أو أي سبب آخر غير الإخلاص. 35- مِن علامات الإخلاص في التربية والتعليم أن يُطَبِّق قول الإمام النووي في هذا الباب: "وينبغي أن يُشْفق على الطالب، ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح ولده ومصالح نفسه، ويُجري المتعلمَ مجرى ولده في الشفقة عليه، والصبر على جفائه، وسوء أدبه، ويعذره في قلة أدبه في بعض الأحيان، فإن الإنسان معرّض للنقائص، لا سيما إن كان صغير السن" "1". 36- من علامة الإخلاص الخوف من النفاق والرياء، قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل". وقال الحسن: "ما خافه إلا مؤمن، ولا أَمِنَهُ إلا منافق" "2".   (1) التبيان، للنووي: 23-24. (2) البخاري: 2- الإيمان، 37 - باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وقد ذكر الأثرين بصيغة الجزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 سابعاً: أمثلةٌ ومظاهرُ تنافي الإخلاص لعل مِن المهمّ هنا، ضرْب أمثلةٍ مِن واقع الحياة، بمختلف مجالاتها، يتبيّن منها مظاهرُ لِفقْد الإخلاص، أو نقْصه. فَمِن ذلك ما يلي: * من عدم الإخلاص، أن لا يحب المرء أن ينجح شخص آخر أو جهة أخرى تدعو إلى الله تعالى على منهج سليم، بغياً منه وحسداً. * عدم تقديم المساعدات والجهود الممكنة لمساعدة الآخرين الداعين إلى الله تعالى على صراط مستقيم. * التشهير بالدعاة الصادقين، والعلماء العاملين، والقدح فيهم بغير حق. * نظرُ المسلم إلى عمله على أنه مجرد عمل رسميّ، لا عملاً دعوياً وتكليفاً شرعياً. * بقاء الإنسان حياته جاهلاً بدينه وعبادة ربه، على الرغم مما يبذله من وقتٍ وجهدٍ لدنياه. * عدم سعي الداعية في استكماله صفات الداعية والتحلي بها. * عدم سعي المسلم، ولا سيما طالب العلم والداعية، في تحصيل الجوانب اللازمة له من قضايا العلم، كي يستقيم له منهج التعلم، مثل ما يحتاجه في اللغة العربية، وما يحتاجه في التجويد، وما يحتاجه في أصول التفسير، وفي العقيدة .... إلخ. * عدم حرص المدرس على إفادة طلابه، وحسن تعليمهم، وتربيتهم، وتهذيب أخلاقهم. * طلب العلم من أجل الشهادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 * تهرب الموظف من عمله، وانصرافه قبل انتهاء وقت العمل المحدد. * عدم رغبة الموظف أو العامل في قضاء حاجات مراجعيه، وعدمُ النصح لهم، وعدمُ تقديرِ وقتهم وظروفهم، وتركُ القيام بحقوقهم الواجبة عليه. * من مظاهر عدم الإخلاص لدى الطالب، أن لا يذاكر دروسه إلا عند قرب الامتحان. * حرص الإنسان أن يَذكر أعماله أمام الناس رغبةً في مدحهم. * الحرص على حضور مجلس شيخٍ ما، وعلى السلام عليه مثلاً، ليقال عنه ذلك. * وصف بعض الناس لنفسه، بأنه متدين، أو ملتزم، أو مخلص مباهاةً وفخراً. * تحسين الرجل صلاته مثلاً بحضرة الناس، وترك ذلك في غيابهم. * من عدم الإخلاص أو من عدم الفقه، اقتصار الإنسان على العناية بالسنن الظاهرة، عن الاهتمام بالباطن وإصلاحه. * مخالفة القول العمل، في مجال الخير، والدعوة إليه. * طلب العلم الشرعي ليس للعمل به وإنما لتوصيله للناس فقط، أو للتباهي به. * حرص المرء على الفتوى، وعلى تصدر المجالس بالحديث وإيراد أقوال العلماء تعالماً وتظاهراً بالعلم. * كثرة الحديث عن النفس، وعن أعماله، بصفة عامة من غير مقتضٍ شرعيّ. * المنافسة غير المشروعة. * الحرص على الدنيا والشح بها أمران لا يجتمعان مع الإخلاص، بل لابدّ أن يغلب القويّ الضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 * عدم تأثير كلام المتكلم في السامعين، إذا كان داعية أو معلِّماً؛ فإن الغالب أن يكون سببه المتكلم نفسه، إمّا أنه غير مخلص -فكلُّ ما خَرَج من القلب وصل إلى القلب- وإمّا أنه قد جانبَ الحكمة في كلامه. * إقبال الداعية على الدعوة تأثراً بكثرة المستجيبين له، وحبّاً للكثرة ذاتها، وترْكه للدعوة، نظراً لقلة المستجيبين له. * الاستعصاء على النصيحة، وعدم الانقياد للحق والإذعان له، ولا سيما إذا جاءت النصيحة من الآخرين المخالفين له فيما يسع فيه الخلاف. * قد يكون مِن عدمِ الإخلاص، رغبة بعض الناس في أن يسعى إليه الآخرون، ولا يسعى هو إليهم. * ليس من إخلاص العبادة لله تعالى، أن لا تستحضر نية العبادة لله تعالى عندما تتجه لعملِ أيّ عملٍ من العبادات، ولا سيما التي كثيرا ما يعملها الإنسان بحكم العادة لا العبادة، كالسواك، والإصلاح بين الناس، والطهارة، ونحو ذلك. * ليس من الإخلاص لله، أن يرفع الإنسان صوته بالذكر، تظاهرا للناس أنه يذكر الله تعالى. * ليس من إخلاص العمل لله، أن يتظاهر الإنسان بالخوف من الرياء، وهو يريد بذلك الرياء ذاته!! أو يتظاهر بإخفاء العمل عن الناس إخلاصا لله، وهو إنما الرياءَ يريد!! {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} "1"!!   (1) 67: الزمر: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 * ليس من الإخلاص لله، أن يتظاهر الابن أمام الناس أنه يحترم والده، ويقبل يده ورأسه، فإذا رجع معه إلى البيت بارزه بالعقوق!! * مما ينافي الإخلاص تضييع الأمانة، أيّ أمانة، بأيّ صورةٍ من صور التضييع. * الإخلاص والفقه في الدين يقتضيان أن لا يتصدى الإنسان للتأليف -في موضوعٍ، أو في تخصصٍ- لم يتأهل له، أو وهو لم يتأهل للتأليف بصفة عامة، لكن على الإنسان أن يسعى في تأهيل نفسه لأعمال الخير دائما. * ينافي الإخلاص حرص كثير من الناس، وهم يعملون أعمال الخير، على السعي وراء المظهرية، والألقاب، وتبجيل الناس لهم، وحرصهم على أن يعلم الناس عنهم كل خير رغبة في هذا المدح والتعظيم، وتعليق رضاهم وسخطهم على حصولهم على ذلك من الناس. * ينافي الإخلاص ضيق المرء بالنقد، فإذا ما نقده أحد من الناس رأيته يتسخط، ويضيق صدره بذلك، ويصنف صداقة الناس له وعداوتهم على هذا الأساس، فمن ينقده في أخطائه فهو العدو، وخفيت عليه الحكمة القائلة: "صديقك من صَدَقك لا من صَدّقك"!!. * مما ينافي الإخلاص دفْع الرأي أو الفكرة، أو الدفاع عنهما، والتدليل على صواب ذلك، ليس قناعةً بصواب الفكرة أو الرأي، وليس دفاعاً عن الحق والصواب، أو دفعاً للخطأ والباطل، ولكن دفاعاً عن النفس من طرْفٍ خفيّ، أو تبرئةً لها، أو تبريراً لخطئها!!. وقليلاً ما يَسْلَم الإنسان من هذا الداء، ومَنْ فتش نفسه واختبرها عرفهَا وخَبَرها، وأيقنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 بهذه الحقيقة. وللسلامة من هذا الداء لابدّ من المجاهدة، ولابدّ من محاكمة النفس دائماً إلى مقتضيات الإخلاص. * لا يتفق مع الإخلاص الكذب وقول الزور، بمختلف أنواعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ثامناً: طرق معالجة نقص الإخلاص أو فقْده ما أحرى مَن أُصيب بِدَاءِ نقْص الإخلاص، أو فقْده، بأن يعالج نفسه لينقذها من هذا الداء المُرْدِي. وللمعالجة هذه طرقٌ، منها ما يلي: 1- العلم، والعناية به. 2- استعراض الآيات والأحاديث ذات العلاقة وتدبرها. 3- تذكّر الموت والحساب والجزاء. 4- استشعار علْم الله تعالى واطّلاعه على المرء في الغيب والشهادة. 5- المراقبة والمحاسبة للنفس، وإلزامها بالإخلاص في كل شيء وتدريبها عليه. 6- الدعاء ولا سيما بالمأثور بطلب التوفيق إلى الإخلاص والسلامة من الشرك. 7- الوقوف على ما يوضّح هذا الجانب في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحاديثه. 8- كثرة القراءة والسماع لسِيَرِ العبّاد المخلصين من السلف الصالح ومجاهدتهم لأنفسهم لتحقيق الإخلاص، وتمحيص أعمالهم لله تعالى. 9- قراءة بعض الموضوعات التي كَتَبَها عددٌ من الأئمة المحققين عن موضوع الإخلاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 10- العلم بأن إخلاص العمل من إخلاص العبودية لله تعالى: "ومن عَلِمَ أن معبوده الله فردٌ، فليفرده بالعبودية {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} "1"، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ". وقال البخاري: في لفظٍ آخر: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ، كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ" "2". فهذا المذكور في الحديث لم يَنَلْ هذه المنزلة إلا بالإخلاص.   (1) 110: الكهف: 18. (2) البخاري، ح 2673، الجهاد والسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 تاسعاً: نصوص في الإخلاص من أراد أن يبحث عن النصوص الواردة في الكتاب والسنّة، في موضوع الإخلاص؛ فإنّ عليه، أوّلاً، أن يُتقنَ معرفة المداخل الموصلة له إلى تلك النصوص، في مواضعها-إنْ على اللفظ وإنْ على المعنى-وبقدر ما يشمله نظرُهُ مِن هذه المداخل يتحصّل له من النصوص، وبقدر ما يَقْصرُ عنه منها يَقْصرُ عن النصوص!. وفيما يلي إشارة إلى المهم من مداخل النصوص في موضوع الإخلاص"1": - كلمة الإخلاص ومرادفاتها. - الإحسان. - اليقين. - التقوى. - الصدق. - الأمانة. - التوحيد. - المراقبة - " من ثمراته ". - المحاسبة - " من ثمراته ". - الورع - " من ثمراته ". - الزهد - " من ثمراته ". - الرياء - " ينافيه ". - الشرك - " ينافيه ". - الإيمان. - علْم الله تعالى بكل شيء "من دواعيه". - دقة الحساب ليوم القيامة "من دواعيه". - الكذب - " ينافيه ". - الخيانة - " تنافيه ". - القلب، "باعتباره مكان الإخلاص".   (1) يُنظر: "استخراج الآيات والأحاديث.."، لعبد الله الرحيلي، 55-57، الرياض، ط. الأولى1413هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 مِن الآيات في الإخلاص: مِن الآيات في الإخلاص، آياتٌ مباشِرةُ التعلق به، وآياتٌ أخرى تبدو بعيدةَ التعلق به، في حين أنها قريبةٌ، بل هي في الصميم، فمِن ذلك الآيات التي تتحدث عن القلوب أو ما في القلوب وإن لم تذكر لفظ القلب، وأضرب لهذا النوع الأخير مثالين-وأتجاوز الأمثلة القريبة لوضوحها-: 1- مثل قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِر. فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِر} "1". 2- قوله تعالى: {وَلا تَخْزِنِي يَومَ يبعَثُون. يَومَ لا يَنْفَع مَال وَلا بنُونَ. إِلاَّ مَن أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيم} "2". فالموضوع في كلٍّ مِن هذين المثالين يتحدّث عن الإخلاص بصورةٍ بليغةٍ مؤثِّرةٍ تأخذ بالألباب، وإنْ لم يُذْكر لفظ الإخلاص، فقدْ ذُكرَ بمعناه، ولا يتنبّه لمثل هذا إلا مَن أخذَ نفسَهُ بمراعاة المداخل للنصوص في الموضوع وأهميتها لجمْع فيه.   (1) 9-10: الطارق: 86. (2) 87-89: الشعراء: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 مِن الأحاديث في الإخلاص: وفي الإخلاص أحاديثُ كثيرةٌ -غير ما تقدّمَ- ومن ذلك الأحاديث التالية"1":   (1) وقد جاء الاختيارُ أن أُوردها بطولِها؛ رجاء أن تُثْمِرَ في نفس المُطَّلِعِ عليها إخلاصاً وإيماناً؛ فلعل القارئ العزيز يَعُدّ ذلك وَسيلةً من وسائل تحصيل الإخلاص؛ فلا يَمُرَّ على هذه الأحاديث مروراً سريعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 * عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ؛ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ؛ فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً؛ فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ؛ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقاً وَاحِداً" "1". * وجاء في لفظٍ للحديث -وأسوقه على طوله، نظراً لأهميته في هذا الباب-: "يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ، وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ: مِنْ بَرٍّ، أَوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ، تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ؛ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ، وَلا وَلَدٌ؛ فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا؛ فَيُقَالُ: اشْرَبُوا. فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ. ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ؛ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ، وَلا وَلَدٌ؛ فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا. فَيُقَال: ُ اشْرَبُوا. فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ: مِنْ بَرٍّ، أَوْ فَاجِرٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ! وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ. فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِم الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا. قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ،   (1) البخاري، 4919، تفسير القرآن، و7440، التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ؛ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا؛ فَلا يُكَلِّمُهُ إِلا الأَنْبِيَاءُ. فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ؛ فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ؛ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً، وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ؛ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقاً وَاحِداً. ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجِسْرِ، فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجَسْرُ؟ قَالَ: "مَدْحَضَةٌ، مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ، وَكَلالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ، لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ. الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ، يُسْحَبُ سَحْباً، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا! كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ"1" عَلَى النَّارِ؛ فَيَأْتُونَهُمْ، وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ؛ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ؛ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ؛ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ. فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا.   (1) أي: وجوههم التي سجدت لله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَءُوا {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ، وَالْمَلائِكَةُ، وَالْمُؤْمِنُونَ؛ فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي؛ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ؛ فَيُخْرِجُ أَقْوَاماً، قَدِ امْتُحِشُوا؛ فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ؛ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ، وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ؛ فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ، فَيَخْرُجُونَ؛ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ؛ فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ؛ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ. فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ""1". الحديث. * وجاء في لفظٍ للحديث: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ؛ فَلا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ، سُبْحَانَهُ، مِنَ الأَصْنَامِ، وَالأَنْصَابِ، إِلا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ؛ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ: مِنْ بَرٍّ، وَفَاجِرٍ، وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وذَكَر نحو ما جاء في الحديث السابق إلى أن قال: "فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، فَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ؛ إِلا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً، وَرِيَاءً، إِلا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ.   (1) البخاري، 7440، التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. * وفي آخر الحديث: "ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ؛ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ؛ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا! أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟! فَيَقُولُ رِضَايَ؛ فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً" "1".   (1) مسلم، 183، الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 عاشراً: التعرف على ما يضادّ الإخلاص؛ لاجتنابه مِن لوازم معرفة الإخلاص، ومِن لوازم تحقيقه كذلك، التعرف على ما يضادُّه؛ لكي يتجنّبه الإنسان. وهكذا الشأن في أي أمرٍ مِن الأمور؛ فإنّ معرفته معرفةً تامّةً تتوقف على معرفة ما يضادّه، أو ينافيه. وبضدّها تتميّز الأشياء. وهذه نقطةٌ منهجيّة تُفيد في الوصول إلى معرفة حقائق الأمور، ومعرفة حقيقة الإسلام، والإيمان والإخلاص، والفقه ... إلى آخر ما هنالك. وإنّ مِن أَعظمِ ما يُضادُّ الإخلاص الشرك-عياذاً بالله منه-فينبغي للإنسان أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 يتعرّف على الشرك، بنوعيه: الأصغر "الرياء"، والأكبر "وهو عبادة غير الله معه". وفيما يلي أُورِدُ حديثاً في الرياء مع شرحٍ له نفيس كتبه الإمام الصنعاني؛ وقد رأيت إيراده هنا لتحقيق المطلب الذي ذكرته آنفاً-أعني أهمية الاطّلاع على ما يضادّ الإخلاص؛ لتحاشيه-: عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ". قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟. قال: "الرِّيَاءُ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمُ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا؛ فَانْظُرُوا: هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً" "1". شرَحَ الإمام الصنعاني، رحمه الله تعالى، هذا الحديث، وسأُورد كلامه، بعد التصرف فيه بالتنسيق، ووضْعِ بعض العناوين الفرعية:   (1) أحمد، 23119، و27742. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 تعريف الرياء : الرياء: مصدر راءى، فاعَلَ، ومصدره يأتي على بناء مفاعلة وفعال، وهو مهموز العين؛ لأنه من الرؤية، ويجوز تخفيفها بقلبها ياء. وحقيقته لغة: أن يُرِي غيره خلاف ما هو عليه. وشرعاً: أن يَفعل الطاعة، ويترك المعصية مع ملاحظة غير الله، أو يُخبِر بها، أو يُحبَّ أن يُطَّلع عليها لمقصدٍ دنيوي مِن مال أو نحوه. وقد ذمه الله في كتابه، وجعله من صفات المنافقين في قوله: {يُرَاءُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً} "1"، وقال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} "2"، وقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ"4"الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ"5"الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ"6"} "3". وورد فيه من الأحاديث الكثيرة الطيبة الدالة على عظمة عقاب المرائي، فإنه في الحقيقة عابدٌ لغير لله؛ في الحديث القدسيّ: "يقول الله تعالى مَن عمل عملاً أشركَ فيه غيري؛ فهو له كله، وأنا عنه بريء، وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك".   (1) 142: النساء: 4. (2) 110: الكهف: 18. (3) 4-6: الماعون: 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وسائل إظهار الرياء : - واعلمْ أن الرياء يكون بالبدن: وذلك بإظهار النُّحول والاصفرار؛ ليوهم بذلك شدة الاجتهاد والحزن على أمر الدين وخوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلة الأكل، وبتشعّث الشعر ودَرَن الثوب يوهم أنّ همه بالدين ألهاه عن ذلك، وأنواع هذا واسعة، وهو لِيُرى أنه من أهل الدين. - ويكون في القول: بالوعظ في المواقف، وبذكر حكايات الصالحين؛ ليدل على عنايته بأخبار السلف، وتبحره في العلم، ويتأسف على مقارفة الناس للمعاصي، والتأوّه مِن ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحضرة الناس. - والرياء بالقول لا تنحصر أبوابه، وقد تكون المراءاة بالأصحاب والأتباع والتلاميذ؛ فيقال: فلان متبوعٌ قدوةٌ. والرياء بابٌ واسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 تفاوت درجات الرياء : إذا عرفت ذلك، فبعض أبواب الرياء أعظم من بعض؛ لاختلافه باختلاف أركانه، وهي ثلاثة: المراءى به، والمراءى لأجله، ونفْس قصْد الرياء. فقصْد الرياء لا يخلو من أن يكون: - مجرداً عن قصْد الثواب. - أو مصحوباً بإرادته. - والمصحوب بإرادة الثواب: لا يخلو عن: - أن تكون إرادة الثواب أرجح. - أو أضعف. - أو مساوية. فكانت أربع صور: الأولى: أن لا يكون قصد الثواب بل فعل الصلاة مثلاً ليراه غيره، وإذا انفرد لا يفعلها، وأخرج الصدقة لئلا يقال إنه بخيل وهذا أغلظ أنواع الرياء وأخبثها، وهو عبادة للعباد. الثانية: قصد الثواب لكن قصْداً ضعيفاً، بحيث إنه لا يحمله على الفعل إلا مراءاة العباد، ولكنه قصد الثواب، فهذا كالذي قبله. الثالثة: تساوي القصدين بحيث لم يبعثه على الفعل إلا مجموعهما، ولو خلى عن كلٍ منهما لم يفعله؛ فهذا تساوى صلاح قصْده وفساده؛ فلعله يخرج رأساً برأسٍ، لا له ولا عليه. الرابعة: أن يكون اطّلاع الناس مرجحاً أو مقوياً لنشاطه، ولو لم يكن لَمَا ترك العبادة. قال الغزالي: والذي نظنه-والعلم عند الله-أنه لا يحبط أصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الثواب، ولكنه ينقص، ويعاقب على مقدار قصد الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب، وحديث: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك"، محمول على ما إذا تساوى القصدان، أو أَنّ قصْد الرياء أرجح. * وأما المراءَى به، وهو الطاعات: فيقسم إلى الرياء بأصول العبادات، وإلى الرياء بأوصافها، وهو ثلاث درجات: - الرياء بالإيمان، وهو إظهار كلمة الشهادة، وباطنُهُ مكذِّبٌ؛ فهو مخلّد في النار في الدرك الأسفل منها، وفي هؤلاء أنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} "1". - وقريبٌ منهم الباطنية، الذين يُظهرون الموافقة في الاعتقاد ويبطنون خلافه، ومنهم الرافضة أهل التقيّة الذين يظهرون لكل فريق أنهم منهم، تقيّةً. - والرياء بالعبادات كما قدّمناه، وهذا إذا كان الرياء في أصل المقصد، وأما إذا عرض الرياء بعد الفراغ من فعل العبادة لم يؤثر فيه، إلا إذا ظهر العمل للغير وتحدّث به. وقد أخرج الديلمي مرفوعاً: "إن الرجل ليعمل عملاً سراً فيكتبه الله عنده سراً، فلا يزال به الشيطان حتى يتكلم به؛ فيمحى من السر والعلانية، وكتب رياءً".   (1) 1: المنافقون:63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 حكم العبادة إذا طرأَ عليها الرياء: وأما إذا قارن باعث الرياء باعث العبادة، ثم ندم في أثناء العبادة فأوجب البعض من العلماء الاستئناف؛ لعدم انعقادها، وقال بعضهم: يلغو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 * جميع ما فعله إلا التحريم، وقال بعض: يصح؛ لأن النظر إلى الخواتيم، كما لو بدأ بالإخلاص وصحبه الرياء من بعده. قال الغزالي: القولان الأخيران خارجان عن قياس الفقه. وقد أخرج الواحدي في أسباب النزول جواب جندب بن زهير لَمّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل لله، وإذا اطّلع عليه سرّني، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا شريك لله في عبادته"، وفي رواية: "إن الله لا يقبل ما شورك فيه"، رواه ابن عباس. وروي عن مجاهد أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله، فيُذكَر ذلك منّي، وأُعجب به. فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم له شيئاً حتى نزلت الآية، يعني قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} "1". ففي الحديث دلالة على أن السرور بالاطلاع على العمل رياء، ولكنه يُعارضه ما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة- وقال: حديث غريب"2"- قال: "قلت: يا رسول الله بينا أنا في بيتي في صلاتي إذْ دخل عليّ رجل؛ فأعجبني الحال التي رآني عليها. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: لك أجران" "3". وفي الكشاف من حديث جندب أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له: "لك أجران: أجر السر، وأجر العلانية".   (1) 110: الكهف: 18. (2) وهذا حكْمٌ منه على الحديث بالضعف، بحسب اصطلاح الترمذي الذي دلَّ عليه الاستقراء. وبناءً على هذا؛ فإنه لا يُبْنى على الحديث الضعيف الأحكام؛ لكن الحديث عند ابن ماجه سنده لا بأس به. (3) ابن ماجه، 4226، الزهد. بنحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقد رجح هذا الظاهر قوله تعالى: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} "1". فدل على أن محبة الثناء من رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، لا تنافي الإخلاص، ولا تُعدّ من الرياء. ويُتأول الحديث الأول بأن المراد بقوله: "إذا اطُّلع عليه سرّني"، لمحبته الثناء عليه، فيكون الرياء في محبته للثناء على العمل، وإن لم يخرج العمل عن كونه خالصاً، وحديث أبي هريرة ليس فيه تعرّضٌ لمحبته الثناء من المطلع عليه، وإنما هو مجرد محبة لما يصدر عنه وعَلِم به غيره. ويحتمل أن يراد بقوله: فيعجبه. أي يعجبه شهادة الناس له بالعمل الصالح؛ لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أنتم شهداء الله في الأرض" "2". وقال الغزالي: وأما مجرد السرور باطّلاع الناس إذا لم يبلغ أمره بحيث يؤثِّر في العمل، فبعيدٌ أن يُفسد العبادة""3".   (1) 99: التوبة: 9. (2) في البخاري، 1367، الجنائز: أَنَس بْنَ مَالِكٍ ?: قال: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْراً، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: (وَجَبَتْ) . ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى؛ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرّاً؛ فَقَالَ: (وَجَبَتْ) . فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ?: مَا وَجَبَتْ؟. قَالَ: (هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْراً؛ فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرّاً؛ فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ؛ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ) . وأخرجه مسلم، 949، الجنائز، وقال في آخره: ( ... أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ) . (3) سبل السلام: 4/366-369. والعناوين الفرعية مِن عملي، لا مِن كلام الصنعاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الفصل الثاني: الفقه في الدين أوّلاً: معنى الفقه في الدين * ... أوّلاً: معنى الفقه في الدين في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللهم فقهْهُ في الدين، وعلمْهُ التأويل" "1". قال ابن الأثير: ""أي فهّمْهُ. والفقْه في الأصل: الفهم، واشتقاقه من الشق والفتح. يقال: فَقِهَ الرجل، بالكسر، يفقَهُ فقهاً، إذا فهم وعَلِمَ، وفَقُهَ، بالضم، يفقه: إذا صار فقيهاً عالماً. وقد جعله العُرْف خاصّاً بعلم الشريعة، وتخصيصاً بعلم الفروع منها"""2". والمتتبع لمدلول كلمة " الفقه " ومشتقاتها في القرآن الكريم يجدها تطلق على أحد معنيين: 1- الفقه في الدين " على معنى: فقُه، بالضم ". 2- وفقْه معنى معيّن أو فقه الكلام " على معنى فقِه، بالكسر "، وهذا أمر لازم لفقه الدين. * - والقَدْر المطلوب مِن الفقه هو: ما تَبْلُغُ به رضا الله تعالى، وتجتنب به سخط الله تعالى، كما هو الشأن في الإخلاص.   (1) البخاري: رقم 143. (ط. البُغا) . (2) النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، 3/465. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 استعمالٌ غير صحيح: والفقه في الدين ليس معناه، في دلالة الكتاب والسّنَّة، مقصوراً على المعنى الاصطلاحي الذي ذكر ابن الأثير، وهو ما تعارف عليه الناس اليوم باسم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 تَخَصُّصِ الفقه، وأقسام الفقه الدراسية، وذلك لأمرين: الأول: أن هذا المعنى الاصطلاحي لا يصح أن يُقَيَّدَ به دلالة اللفظ في الكتاب والسّنَّة، وإلا كان ذلك من الصوارف عن فهم المصطلح أو اللفظ القرآنيّ والنبويّ، وهو أعمُّ من المعنى المراد في الاصطلاح، إذ أن معناه في الاستعمال القرآني والاستعمال النبويّ عامٌّ في فقْه الدين كله، من غير تقييد بحدود موضوعٍ ما "اللهم فقهه في الدين". الثاني: أن المراد بالمعنى الاصطلاحيّ هو مجرد التخصص في دراسة تلك الموضوعات المحدّدة، وهذا غير المراد في استعمال الكتاب والسّنَّة الذي هو حصول الفقه للمرء؛ فيصبح متفقِّهاً في الدين، لا أنه درس تلك الموضوعات التي تسمّى الفقه. وبهذا يتضح أن هناك فرقاً واضحاً بين المراد بالمصطلح في دلالة الكتاب والسّنَّة وبين دلالته في اصطلاح علماء الشريعة أو اصطلاح عامة الناس اليوم، فـ"الفقه" في اصطلاحهم قد روعي فيه تحديد موضوعات الدراسة، فمجرَّد الدراسة لتلك الموضوعات يُعدّ عندهم تخصصاً في الفقه، ومعلوم أن مما يؤخذ على هذا الاصطلاح أن مجرَّد الدراسة ليست فقهاً. بينما الفقْه في اصطلاح الكتاب والسّنَّة قد روعي في إطلاقه حصول الفقه للدارس، وليس مجرّد الدراسة، أي أن المراد وصف الشخص بالفقه وليس وصف ما درسه. والفارق الآخر أن المراد بالمصطلح في القرآن والسّنَّة ليس مقيداً بموضوعات محدّدة بل هو فقْه الدين بعامّة، بخلاف المراد في الاصطلاح إذْ هو دراسة موضوعات خاصة، وكم من دارس للفقه بهذا المعنى لا فقْه له بالمعنى القرآنيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 والمعنى النبويّ، "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ" "1". إِذَنْ ينبغي أن لا يصرفنا المصطلح الحادث في استعمال اللفظة عن المصطلح القرآنيّ. وقول الإمام ابن الأثير السابق في تعريف الفقه بأنه الفهم حيث قال: "أي فَهِمْه، وأصل الفقه الفهم ... "، لا يستقيم على إطلاقه، لأن الفهم قد يكون جزئياً، فلا يكون فقهاً على الإطلاق، ويكون فهماً عاماً كاملاً شاملاً فيكون فقهاً، فتعريف الفقه بالفهم مطلقاً فيه نظر، ولو كان التعريف لقوله صلى الله عليه وسلم كلمة: "اللهم فقهه في الدين" أي فهمْه لكان صحيحاً؛ لأن التعريف في هذه الحال مقيدة فيه اللفظة بعموم الدين، وذلك هو الفقه، فإذا فهم الدين كله فقد فقهه. وهكذا يتبيّن -من خلال مصطلح الكتاب والسنّة- أن الفقه في الدين وفي الدعوة شامل شمول هذا الدين وشمول هذه الدعوة.   (1) الترمذي، 2656، وقال: حديثٌ حسن، و2658، العلم، وأبو داود، 3660 العلم، وابن ماجه، 230، 231، 236، المقدمة، 3056، المناسك، وأحمد في مواضع، منها: 16296، 16312، والدارمي، 227-229، المقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ألفاظٌ بُدِّلت معانيها: قال ابن قدامة -رحمه الله-: "واعلمْ أنه قد بُدِّلَتْ ألفاظٌ وحُرِّفتْ، ونُقِلتْ إلى معانٍ لم يُرِدْها السلف الصالح. فمن ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 - الفقه، فإنهم تصرفوا فيه بالتخصيص، فخَصَّوْهُ بمعرفة الفروع وعللها، ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول منطلقاً على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب. ولذلك قال الحسن البصري: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الوَرِعُ الكافُّ عن أعراض المسلمين، والعفيف عن أموالهم، الناصح لهم. فكان إطلاقهم اسم الفقه على علم الآخرة أكثر، لأنه لم يكن متناولاً للفتاوى ولكن كان متناولاً لذلك بطريق العموم والشمول، فبان من هذا التخصيص تلبيسٌ بَعَثَ الناسَ على التجرد لعلم الفتاوى الظاهرة، والإعراض عن علم المعاملة للآخرة. - اللفظ الثاني: العلم، فقد كان ذلك يطلق على العلم بالله تعالى وبآياته، أي: نعمه وأفعاله في عباده، فَخَصَّوْهُ وسَمَّوْا به في الغالب المُناظِر في مسائل الفقه وإن كان جاهلاً بالتفسير والأخبار. - اللفظ الثالث: التوحيد، وقد كان ذلك إشارة إلى أن ترى الأمور كلها من الله تعالى رؤيةً تَقْطعُ الالتفاتَ إلى الأسباب والوسائط، فيُثْمِرُ ذلك التوكلَ والرضَا، وقد جُعل الآن عبارةً عن صناعةِ الكلام في الأصول، وذلك من المنكرات عند السلف. - اللفظ الرابع: التذكير والذكر، قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} "1" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا:   (1) 55: الذاريات: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر" "1"، فنَقَلُوا ذلك إلى القصص وما يحتوي عليه اليوم مجلس القاص من الشطح والطامات. ومن تشاغل في وعظه بذكر قصص الأولين، فليعلم أن أكثر ما يُحْكى في ذلك لا يثبت، كما ينقلون أن يوسف عليه السلام حل تِكَّتَهُ"2"، وأنه رأى يعقوب عاضاً على يده، وأن داود جهّز "أُوريا" حتى قتل، فمثل هذا يضر سماعه. وأما الشطح والطامات، فمن أَشدِّ ما يُؤذي العوامَّ، لأنها تشتمل على ذكر المحبة والوصال وأَلَمِ الفراق، وعامةُ الحاضرين أجلاف، بواطنهم محشُوَّةٌ بالشهوات وحُبِّ الصُّوَرِ، فلا يُحَرِّك ذلك من قلوبهم إلا ما هو مستكِنٌّ في نفوسهم، فيشتعل فيها نارُ الشهوات، فيصيحون، وكل ذلك فساد. وربما احتوى الشطح على الدعاوى العريضة في محبة الله تعالى، وفي هذا ضرر عظيم. وقد تَرَكَ جماعة من الفلاحين فلاحتهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوى. - اللفظ الخامس: الحكمة. والحكمة: العلم والعمل به. قال ابن قتيبة: لا يكون الرجل حكيماً حتى يجمع العلم والعمل، وقد صار هذا الاسم يطلق في هذا الزمان على الطبيب والمنجم"""3".   (1) أخرجه الترمذيّ: الدعوات، باب رقم 83، 5/498، عن أنس بن مالك ?، بلفظه إلا أنه قال: حِلَقُ الذكر. وأحمد في المسند: 3/150، به، وأخرجه الترمذيّ أيضاً في الموضع المذكور بلفظٍ آخر مختلف، وقال في كلٍ منهما: ((هذا حديثٌ حسنٌ غريب)) . (2) التِّكَّةُ: مَعْقِدُ السروال، ويَقْصِدُ الكذّابون بذلك وَصْفَ نبيِّ الله يوسف الصِّدِّيق بالهمِّ بالزنى، والعياذ بالله تعالى، وحاشاه وحماه مِن هذه الجريمة؛ فقد عَصَمَهُ ربه سبحانه منها، وحكى نزاهته في كتابه في آياتٍ بيّناتٍ، ولكن يتقوّلُ الظالمون!!. (3) مختصر منهاج القاصدين، ص20-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 العلاقة بين الفقه والحكمة : كل حكمة فهي من الفقه، وقد تكون دالة عليه، والدلالة إما أن تكون دلالةً عامة، أو دلالةً خاصة على الفقه في شيء ما، وليس من لازم الفقه في شيء ما الفقه في كل شيء. والحكمة وإن كانت شرطاً للفقه، إلا أنها ليست كل شروطه. وقد تطلق الحكمة أحياناً بمعنى الفقه، ولعلَّ هذا من الاختلاف في استعمال المصطلح، أو هو من إطلاق الكل على الجزء، أو إطلاق الجزء على الكل. وقال الراغب: ""الفقه هو التوصل إلى عِلمٍ غائب بِعلْمٍ شاهدٍ، فهو أخص من العلم، قال: {فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُوْنَ يَفْقَهُونَ حَدِيْثاً} "1"، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ} "2"، إلى غير ذلك من الآيات. والفقه العلم بأحكام الشريعة، يقال: فقُه فقاهة إذا صار فقيهاً، وفَقِهَ أي فَهِمَ فقْهاً، وفَقِهَهُ أي فَهِمَهُ، وتفقَّه إذا طلبه فتخصص به، قال: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} "3""4".   (1) 78: النساء: 4. (2) 7: المنافقون: 63. (3) 122: التوبة: 9. (4) مفردات ألفاظ غريب القرآن، مادة: فقه، 642-643. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ثانياً: مجالات الفقه لفقه الدِّين-لا سيّما فقه الدعوة إليه-فقهاً شرعياً أربعة مناحٍ، أو مجالات: الأول: فقْه فطرة الله تعالى في الخلق والكون، وذلك لعدة أمورٍ، منها: 1- للإفادة من شهادة الكون وسنة الخَلْق أنه لا إله إلا الله رب العالمين. 2- لتجنب مصارعة سنن الله في الخَلْق وتحاشي مصادمة الفطرة. 3- للإفادة من سنن الله في الفطرة والخَلْق بالسير معها واستثمارها. وتعود هذه كلها، حينئذٍ، على المرء بالثباتِ على الحق، واليقينِ بأنّ المستقبل لهذا الدين. الثاني: فقْه هذا الدين بعامّة، فقهاً صحيحاً، يؤدي به إلى الأخذ بالنصوص وفق دلالاتها التي أرادها الله، جل وعزّ، وأرادها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يخرج عن هدايات القرآن والسّنَّة، لا بغلو ولا تقصير، فِقْهاً يستمسك فيه بالنص ويحترمه؛ فلا يتقدمه ولا يتأخر عنه، ويدعوه إلى أن يستنبط من النصِّ المنهج والقاعدة؛ لأن المقصود ليس هو الحرفية دائماً، لكن المعنى، فيكون من الذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم لم يخِرّوا عليها صمّاً وعمياناً، ولا يكون من الذين لا يقيمون لآيات الله وَزْناً. والفقه في الدين هو الأصل والأساس الذي بعث اللهُ تعالى من أجله سيد المرسلين، "من يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين" "1".   (1) أخرجه البخاري في مواضع مِن صحيحه، منها: 3-كتاب العلم، باب 10، وباب13، وأخرجه مسلم، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وينبغي أن يَعلم الداعيةُ أن الفقه في الدعوة أساسه الفقه في الدين؛ فإذا كان الداعية جاهلاً بدينه فإلى أيّ شيءٍ يدعو الناس؟!. الثالث: فِقْه النصوص المتعلقة بالموضوع، أو ذات العلاقة به، وفْق قواعد الفقه المطلوب للنصوص الشرعية ولهذا الدين. وأعني بالموضوع: موضوع البحث الذي يَتَّجه إليه المرء؛ فإن كان هو الدعوة؛ فإنّه في حاجةٍ-في سبيل تحقيق الفقه السديد- إلى الوقوف على النصوص الشرعية المتعلقة بالدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ولا يتأتى هذا الفقه للإنسان إذا أخل بالأمرين الآتيين أو بأحدهما: أ- استيعاب النصوص الواردة في الموضوع وعدم الاقتصار على بعضها دون بعض. ب- تنزيل النصوص على المراد بها، وذلك بالاجتهاد في معرفة دلالاتها التي أرادها بها الله تعالى وأو رادها بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك باتّباع قواعد الفهم والاستنباط الصحيحة. الرابع: معرفة المرء بأحوال عصره، ولا سيما الواقع من حوله، وأحوال مجتمعه، ومجالات الإصلاح فيه، واحتياجاته الدعوية. هذه المجالات الأربعة ينبغي أن يُعْني بها المسلم، لا سيما الداعية، للحصول على الملَكَة الفقهية؛ ليكون فقيها فقهاً شرعياً مكتملاً، على مستوى عصره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ثالثاً: أهمية الفقه في الدين بالإخلاص والفقه في الدين تُحلُّ مشكلات المسلمين، ونظراً لأهمية الفقه في الدين فقدْ حضَّ الله عليه فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفَرُوا كَافَّة، فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} "1". وذكر سبحانه في موضع آخر من كتابه أن المقصود بآياته أن يَفْقه الناسُ، فقال: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} "2". وذمَّ قوماً بعدم الفقه فقال: {فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدْيثاً} "3". وأخبر الله عز وجلّ أنه عاقب أناساً من الكفار بعدم الفقه، بحيث لا يفقهون كلامه، فقال: {وَمِنْهُم مَن يَسْتَمِعُ إِلَيكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِم وَقْراً وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاؤُكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيْرُ الأَوَّلِين} "4". وقال في وصف أصحاب النار: {وَلَقَدْ ذَرَأَنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيْراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ   (1) 122: التوبة:9. (2) 65: الأنعام: 6. (3) 78: النساء: 4. (4) 25: الأنعام: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون} "1".   (1) 179: الأعراف: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 من يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين: ويأتي في أهميّة الفقه قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يرِدِ الله به خيراً يُفَقههُ في الدين، وإنما أنا قاسمٌ، والله يُعطي، ولن تزال هذه الأمَّة قائمة على أمْرِ الله لا يَضُرُّهم مَنْ خالفَهُم حتى يأتي أمرُ الله""1". وهذا الحديث يحتاج إلى وقفةٍ متأنيةٍ عنده. وقد أورده البخاري تحت باب: "مِن يُرِد الله به خيراً يفقهْهُ في الدين". قال ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "وهذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحكام: أحدها: فضْل التفقه في الدين، وثانيها: أن المعطى في الحقيقة هو الله، وثالثها: أن بعض هذه الأمة يَبْقَى على الحق أبداً""2". وقال، أيضاً-معلِّقاً على فقه هذا الحديث -: "وقد تتعلق الأحكام"3" الثلاثة بأبواب العلم -بل بترجمة هذا الباب خاصة- من جهة إثبات الخير لمن تفقه في دين الله، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط، بل لمن يفتح الله عليه به، وأن من يفتح الله عليه بذلك لا يزال جنسه موجوداً حتى يأتي أمر الله.   (1) أخرجه البخاري، رقم (71) ، العلم، (نسخة الفتح) 1/164. (2) فتح الباري 1/164. (3) في فتح الباري، المطبوع: الأحاديث. ولعل الصواب ما أثبتُّه؛ لأنه يتكلم عن الثلاثة الأحكام السابق ذكرها، لا عن ثلاثة أحاديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وقد جزم البخاري بأن المراد بهم أهل العلم بالآثار. وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وقال القاضي عياض: أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. وقال النووي: يحتمل أن تكون هذه الطائفة فرقة من أنواع المؤمنين ممن يقيم أمر الله تعالى من مجاهد وفقيه ومحدث وزاهد وآمرٍ بالمعروف، وغير ذلك من أنواع الخير، ولا يلزم اجتماعهم في مكان واحد بل يجوز أن يكونوا متفرقين، قوله "يفقهه" أي يفهمه، وهي ساكنة الهاء لأنها جواب الشرط، يقال: فَقُهَ، بالضم، إذا صار الفقه له سجيةً، وفَقَهَ، بالفتح، إذا سبق غيره إلى الفهم، وفَقِهَ، بالكسر، إذا فهم، ونَكَّر "خيراً" ليشمل القليل والكثير، والتنكير للتعظيم لأن المقام يقتضيه، ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين -أي يتعلم قواعد الإسلام، وما يتصل بها من الفروع- فقد حُرِمَ الخير. وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية من وجه آخر ضعيف، وزاد في آخره: "ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به"، والمعنى صحيح، لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهاً ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أُريد به الخير، وفي ذلك بيانٌ ظاهرٌ لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم"""1". وقال شيخ الإسلام: ""وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"، ولازمُ ذلك أن من لم يُفَقّهْه الله في الدين لم   (1) فتح الباري 1/164-165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 يُرِد به خيراً؛ فيكون التفقه في الدين فرضاً. والتفقه في الدين: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية؛ فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهاً في الدين، لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره، فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته، لا كل ما يعجز عنه من التفقه، ويلزمه ما يقدر عليه، وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقاً، وقيل: يجوز مطلقاً، وقيل: يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال. والاجتهاد ليس هو أمراً واحداً لا يَقبل التجزِّي والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهداً في فنٍ أو بابٍ أو مسألةٍ، دون فنٍ وبابٍ ومسألةٍ، وكل أحد فاجتهاده بحسب وُسْعه""1".   (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 20/212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 رابعاً: أحاديث في الفقه في الدين وصفا وتعريفا واثباتا ومدحا * ... رابعاً: أحاديث في الفقه في الدين لا شك في أن حصر الأحاديث الواردة في شأن الفقه، والأحاديث المتعلّقة به أمْرٌ يطول، وتحديد النصوص في أمرٍ مَا يَخضعُ لفقْه الإنسان. وللوقوف على الأحاديث المتعلّقة بالفقه علينا أن نحصر المداخل اللازمة لنا للوقوف على أحاديث هذا الموضوع، وعلينا أن نراعي -في النظر إلى هذا- كلاً من اللفظ والمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ومن الأحاديث في الفقه-وصفاً وتعريفاً وإثباتاً ومدحاً- ما يلي: * عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً: فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ؛ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ؛ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ؛ فَشَرِبُوا، وَسَقَوْا، وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لا تُمْسِكُ مَاءً، وَلا تُنْبِتُ كَلأً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ؛ فَعَلِمَ، وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ""1". * عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: "أَتْقَاهُمْ". فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: "فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: "فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِ؟ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ، إِذَا فَقُهُوا" "2". * عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْخَلاءَ، فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءاً. قَالَ: "مَنْ   (1) البخاري، ح77، العلم. (2) البخاري، ح3104، أحاديث الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَضَعَ هَذَا؟ ". فَأُخْبِرَ؛ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" "1". * عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ: حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيباً يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي ... " "2". * عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ أَضْعَفُ قُلُوباً وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ" "3". * عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَلْيَنُ قُلُوباً، الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، ... " "4". * عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ: حَدَّثَنَا أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا: قَالَ يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ، فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِراً، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ... ""5".   (1) البخاري، ح140، الوضوء. (2) البخاري، ح69، العلم. (3) البخاري، ح4039، المغازي. (4) البخاري، ح4037، المغازي. (5) البخاري، ح6016، الرقاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وموضع الشاهد هنا قوله: "ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ"، وأنّ ذلك العلم إنما ينفع إذا سبقه الإيمان بالله تعالى. وهذا مما يؤكِّد العلاقة بين الإخلاص والفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ليس مِن الفقه: قد جاءت أحاديث تَدلُّ على أنّ أُموراً مُعَيَّنةً ليست مِن الفقه، ومِن ذلك ما يلي: * ليس من الفقه الضّيقُ بالاجتهاد، أو الميل إلى قَفْله وقد فتحه الله تعالى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ" "1". * ليس مِن الفقه الأخذ بالظاهريّة دائماً في فقه النصوص الشرعية؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم لِمَن فَهِم الخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى: {َكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} "2"؛ بأنه الحبل حقيقةً؛ فأخذ حبلين: أسود وأبيض، فجعل يأكل وينظر إليهما حتى تبينا له فأمسك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لعريض الوساد". وعلى هذه المعاني أَمثلةٌ متعددةٌ يُؤَكِّد الصوابَ فيها عددٌ مِن الآيات والأحاديث.   (1) البخاري، ح6805، الاعتصام بالكتاب والسنّة. (2) 187: البقرة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 في التربية على الفقه : قد جاءت أحاديث فيها التربية على الفقه، ومِن ذلك ما يلي: * عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ أُنَاساً نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ؛ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ؛ فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا بَلَغَ قَرِيباً مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، "قُومُوا إِلَى خَيْرِكُمْ أَوْ سَيِّدِكُمْ"، فَقَالَ: "يَا سَعْدُ إِنَّ هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ" قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، قَالَ: "حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ أَوْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ" "1". * عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ، أَو كَالرَّجُلِ، الْمُسْلِمِ لا يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا، ولا، ولا، ولا، تُؤْتِي أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لا يَتَكَلَّمَانِ؛ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ؛ فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا شَيْئاً؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هِيَ النَّخْلَةُ". فَلَمَّا قُمْنَا، قُلْتُ لِعُمَرَ: يَا أَبَتَاهُ، وَاللَّهِ، لَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ. فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكَلَّمَ؟ قَالَ: لَمْ أَرَكُمْ تَكَلَّمُونَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، أَوْ أَقُولَ شَيْئاً. قَالَ عُمَرُ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا""2". * عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذاً رضي الله عنه عَلَى الْيَمَنِ قَالَ: "إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ؛ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ   (1) البخاري، ح3520، المناقب. (2) البخاري، ح4329، تفسير القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ؛ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ؛ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ؛ فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ؛ فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ" "1". وفي هذا الحديث نرى النبيّ صلى الله عليه وسلم يُربِّي معاذاً، رضي الله عنه، على الفقه قبْل أن يباشر معاذٌ الدعوة، ويُفقهه في أحكام الإسلام الذي سيدعو الناس إليه. *قَالَتْ عَائِشَةُ صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً فَرَخَّصَ فِيهِ؛ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فَخَطَبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ! فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّه! وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً" "2".   (1) البخاري، ح1365، الزكاة. (2) البخاري، الأدب،. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 في فضْل الفقه والتفقّه: وَرَدَ في فضل الفقه والتفقّه عددٌ مِن الأحاديث، منها ما يلي: * عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلانِ: أَحَدُهُمَا عَابِدٌ، وَالآخَرُ عَالِمٌ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ، وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ" "1".   (1) الترمذي، 2685، العلم. وقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وفي الأثر عن أَبي عَمَّارٍ الْحُسَيْنَ بْنَ حُرَيْثٍ الْخُزَاعِيَّ، قال: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ عَالِمٌ عَامِلٌ مُعَلِّمٌ يُدْعَى كَبِيراً فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ""1".   (1) الترمذي، 2685، العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 أحاديث أخرى في الحكمة : تأتي الحكمة، أحياناً، بمعنى الفقه، وتأتي، أحياناً، باعتبارها خصلةً حميدةً قويّة الصلة بالفقه، أو قريبةً منه. وقد وَرَدتْ أحاديث في الحكمة، منها ما يلي: * حديث: أَنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِيَغُوثَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً" "1". * عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" "2". * قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ؛ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلام، فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَاناً؛ فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ... " "3"؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة في الحكمة والفقه.   (1) البخاري، ح5679، الأدب. (2) البخاري، ح1320، الزكاة. (3) البخاري، الحج، باب ما جاء في زمزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" "1". * وقال معاوية: "لا حكيم إلا ذو تجربة" "2". * عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ" "3". * وقد عَقَد البخاري في صحيحه باباً؛ فقال:"بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسِّرُوا، وَلا تُعَسِّرُوا، وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيفَ وَالْيُسْرَ عَلَى النَّاس" "4". وهذا مِن الفقه المطلوب. * ومِن المهم أن يُنظر هذا الباب كله من الصحيح وما فيه من أحاديث؛ فإنها مما يُربِّي على الفقه. * ويُنظر، كذلك، الباب قبله: 79- باب ما يُستحيا من الحق للتفقه في الدين. * ومن أعظم الأبواب لتحصيل الفقه كثرة القراءة لصحيح الإمام البخاري والتدبر للأحاديث وتراجم الأبواب، ولفتاتِ البخاري رحمه الله، ولا سيما كتاب الأدب منه.   (1) البخاري، ح6608، الأحكام. (2) البخاري، الأدب، باب لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين، معلقاً بصيغة الجزم. (3) البخاري، ح5668، الأدب. (4) البخاري، الأدب،. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 خامساً: من مقاييس الفقه وعلاماته هناك عددٌ مِن مقاييس الفقه وعلاماته، التي تُعِين الراغبَ في التفقه على الوصول إلى هذا الهدف النفيس، بإذن الله تعالى، وتُعِين الإنسان على محاسبة نفسه على الفقه"1"، ومِن ذلك ما يلي: 1- كل مخالفة للحكم الشرعي، في الدعوة أو في غيرها، فهي مجانَبَةٌ للفقه. 2- كل خطأ في اختيار الأسلوب المناسب في الدعوة فهو مجانَبَةٌ للفقهولئك هم الغافلون} أوتبتنبنبتبتب في الدين والفقه في الدعوة. 3- كل خطأ في اختيار الوسيلة المناسبة في الدعوة فهو مجانَبَة للفقه في الدين والفقه في الدعوة. 4- كل تصرّفٍ للداعية يكون على حساب الغاية من الدعوة فهو مجانَبَةٌ للفقه في الدين وفي الدعوة. 5- كل تصرّف للداعية يصدُّ الناس عن الهداية أو عن الاستجابة للدعوة فهو تصرّف مجانب للفقه في الدين والفقه في الدعوة. 6- ليس كل خطأ يقع فيه الداعية دليلاً على عدم فقهه. ووصْف عملٍ ما، أو تصرّفٍ بأنه مجانب للفقه ليس من لازمه وصْف صاحبه بعدم الفقه. 7- مِن الخللِ في فقه الداعية وفي تفكيره، حماسته لجزئياتٍ في الإسلام،   (1) وقد تضمَّنت هذه المقاييس مقاييسَ تتعلق بفقه الدِّين، بعامّة، ومقاييس تتعلّق بفقه الدعوة خاصّة، دون فصْلٍ لِمَا بينهما مِن تلازمٍ لا يَخْفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وعنايته بها، أكثر مما يدعو الإسلام إليه تجاهها. 8- تعرّضُ المرء لعملٍ ما دون أن يتأهل له ودون أن يُحْسنه دليل على نقصٍ أو خللٍ في فقهه، وليس من هذا القبيل التدرّب والمران المبنياّن على المحاولة والاستعداد. 9- تعرُّض المرء لتعليم الناس ما لم يتعلمه، أو ما لم يفقهْه خللٌ في فقهه وفي تفكيره. 10- تعرُّض المرء لدعوة الناس إلى ما لم يفقهْه، أو لم يستوعبه، أو لم يقتنع به، أو لم يلتزم به، دليلٌ على خللٍ في فقهه وفي تفكيره، أو نقصٍ في إخلاصه!. وإن كانت عصمة الداعي من الخطأ ليست شرطاً للدعوة. 11- من عدم فقْه الداعية أن تراه يضيق ذرعاً بالنقْد البنّاء، فلا يفهمه إلا أنه تجريح له، أو تعصبٌ ضده أو ضد عمله أو جماعته، أو أنه تحاملٌ عليه!. 12- من علامات فقه المرء أن تراه حريصاً على جمْع كلمة المسلمين على الخير، بعيداً عن كل ما يفرِّق الصف، ويشتت الكلمة، ويباعد بين القلوب. 13- من علامات الفقه عناية المرء بحسن الخلق في دعوته وفي تعامله مع الناس، وفي تعليمهم وتربيتهم. 14- من علامات فقه المرء عنايته بتربية نفسه أكثر من عنايته بتربية الناس، وعنايته بنصح نفسه أكثر من عنايته بنصح الناس، وعنايته بتعليم نفسه أكثر من عنايته بتعليم الناس، وقد قال صلى الله عليه وسلم في النفقة: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنىً، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ" "1"، وقد جاء في الحديث   (1) البخاري، 1426، و1428، وفي الزكاة، و5355، و5356، في النفقات، عن أبي هريرة، وعن حكيم بن حزام، ومسلم، 1042، الزكاة عن أبي هريرة، و1034، و1036، عن أُمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الآخر: قَالَ: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا؛ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ؛ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا، وَهَكَذَا ... " "1". وقال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بَالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم} "2". 15- من علامات الفقه عناية المرء بالعمل أشد من عنايته بالقول، فإن القول إنما يكون من أجل العمل، {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُوْلُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَعْمَلُون} "3". 16- من علامات الفقه أن لا يكون الإنسان جريئاً على الفتوى، ولا على تحريم ما شرعه الله تعالى، ولا قفْل باب فَتَحَهُ الله تعالى. كما أن من علامات فقهه أن لا يكون جريئاً على أن يَفتح باباً أغلَقَه الله تعالى، أو أن يُلزِمَ بما لم يُلْزِمْه الله سبحانه.   (1) أخرجه مسلم، 997، الزكاة: عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، ?، قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْداً لَهُ عَنْ دُبُرٍ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ?، فَقَالَ: (أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟) . فَقَالَ: لا. فَقَالَ: (مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟) . فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ، بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ ?؛ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ؛ ثُمَّ قَالَ: (ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا؛ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ؛ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا، وَهَكَذَا يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ) . (2) 44-: البقرة: 2. (3) 2-3: الصف: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ومن الأمثلة على هذا -الدالة على عدم الفقه- ما يُعْنى به بعض المسلمين اليوم من تحريم العمل الجماعي في الدعوة إلى الله تعالى مطلقاً، أو الانضمام إلى جماعة إسلامية تعمل وفق الكتاب والسّنَّة في الدعوة إلى هذا الدين مطلقاً. ومِن الأمثلة، كذلك: تحريم السرية مطلقاً في الدعوة إلى الله تعالى، بغضّ النظر عن الظروف المكانية والزمانية وأحوال البلدان المختلفة، ثم ترى هذا يوقِف جهوده، وحبه وبغضه، وولاءه وعداءه على أساس هذه القضية أو تلك، أو هذا الرأي أو ذاك"1". ويتجاوز بهذا المسلك النصوص الشرعية، ويتجاوز ظروف الناس المختلفة في أنحاء الأرض، ويتجاوز تفاوتَ موقفهم من الإسلام: من كفرٍ ومحارَبةٍ له ولأهله، أو إيمانٍ به وسعيٍ في سبيله، ويتجاوز بهذا المسلك الغاية من إيجاب الدعوة إلى الله تعالى، والهدف الأساس الذي جاء به هذا الدين، وهو إخراج الناس من عبادة المخلوقين إلى عبادة الخالق سبحانه، وليس هو السعي في سبيل هذه المسالك المتعصبة، ولو باسم الدين أو الدعوة، سواءٌ أكان بالتعصب ضدها باسم الدين-والدين لا يُقرُّ ذلك-أم بالتعصب لها باسم الدين وتصويرِ أنه لا يصح للمرء دِينه إلا بالانضمام إلى جماعةٍ من جماعات الدعوة-والدين لا يُقِرُّ ذلك الفهم والتعصب أيضاً-حتى لو كانت تلك   (1) الحديث هنا في الأصل ليس عن الحُكم الشرعيّ مِن حيث الجواز وعدمُه، وإنما عن هذا المسلك من حيث هو، ومدى إصابته للفقه-منهجياً-أو مجانبته له، وإنما تَطَرَّق الحديث إلى بيان الحكم مِن أجْلِ بيان المنهجيّة السديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الجماعة على هدي الكتاب والسنّة، والحالة هذه!!. ويَخفى على مَن يَسلك هذا المسلك-إن كان مُخلِصاً لله تعالى صادقاً في أنه إنما يُعَبِّرُ عن رأيه الصادق-أن ظروف المسلمين في أقطار المعمورة مختلفة؛ بحيث يَختلِف فيها الحكم مِن ظرفٍ إلى آخر: أ- فالحال عندما تكون حالَ بلدٍ مسلم والحاكم مسلماً، فإنها تختلف عنها في الصورتين التاليتين: ب- عندما يكون المسلمون أقليّةً -محارَبين أو غير محارَبين-في بلدِ كفرٍ. جـ- عندما يكون المسلمون في بلدٍ مسلمٍ قد حَكَمهم فيه كفّار أو كافر. فهذه ثلاثُ صُوَرٍ. ففي الصورة الأُولى لا مَساغَ شرعاً لسرّيّة الدعوة إلى الله تعالى، إلا بشرطين، هما: الأوّل: أن لا يكون في ذلك خروجٌ على الحاكم المسلم. الثاني: أن لا يكون في ذلك خروجٌ عن أحكام الكتاب والسنّة ومنهجهما وهَدْيهما؛ بحيث لا تكون الدعوةُ إلا تعاوناً على البر والتقوى، كما أَمرَ الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس تعاوناً على الإثم والعدوان والتعصب والتحزّب، وما إلى ذلك. أما في الصورة الثانية والثالثة فلا مَساغَ لكشْف برنامج المسلمين أو خُطّتهم للعدوّ. فالأصلُ في الدعوة في الصورة الأُولى الجهر وعدم السّرّيّة. والأصل في الدعوة في الصورتين الثانية والثالثة السريّة وعدم الجهر، بل لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 معنى للجهر في هاتين الصورتين إلا عَدَم الفقه أو خيانة الإسلام والمسلمين!. ومن الأمثلة على هذا ما كان من حال المسلمين في الاتحاد السوفيتي قبل سقوط الاتحاد، فلقد كان العمل للإسلام هناك في سرّيّةٍ تامّة وكان هذا من أوجبِ الواجبات وأفضل أنواع الجهاد في حقهم؛ لما كانوا فيه من حصار ومنْعٍ من ذكْر اسم الله تعالى، حتى إنه كان مجرّد العثور على المصحف لدى المرء كافياً لقتْله!. ومن الأمثلة كذلك حال المسلمين في فلسطين، وما هم فيه من حُكْمٍ لهم مِن قِبَل اليهود، وما يعانونه من اضطهاد، وتشريدٍ من أرضهم منذ سنين؛ فهل يَصِحّ أن يُقال لهم لا يجوز لكم السّرّيّة في العمل للإسلام والدعوة إليه في أرضكم ضدّ عدوّكم؟!. نَعم يُمكن أن يقال ذلك، ولكن ليس باسم الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم! ومعلومٌ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بدأ دعوته سرّاً نحو ثلاث سنوات، ولم يكن مخطِئاً في ذلك، ولم يُنسَخْ!! فمتى ما وُجِدَت الظروف ذاتها فإنّ الحكْم هو التأسي به صلى الله عليه وسلم في ذلك. والحقيقة أنّ هذا كما أنه هو موقف الشرع، فهو موقف العقل والفطرة أيضاً-حتى في نظرة الكافرين-؛ إذ لا يُنتظَرُ من الكافرين أن يقولوا-مثلاً-: إن العقل والمنطِق يَفرضان عليكم أيها المسلمون أن تكشفوا لنا عن خُططكم وبرامجكم لنشْر دينكم! فكيف إِذَنْ يَسلك مثلَ هذا المسلك بعض المسلمين اليوم، وليس هذا فحسبُ بل تُصبح هذه هي قضيته التي مِن أجلها يتحرّك بدأَبٍ غريب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وبحماسةٍ منقطعة النظير، ويُرتّب على ذلك حُبّاً وبُغضاً، وولاءً وبراءً باسم الدين، للأسف!!. إِذَنْ لا يَصحّ الحكم بالتعميم في هذه الأحكام نظراً لظرفٍ واحدٍ من الظروف، وإنما الواجب الانطلاق في إصدار الأحكام في مثل هذه القضايا وغيرها مِن الإسلام ذاته، وليس مِن ظروف الناس، ثم لابدّ من النظر إلى الظروف كلها، وليس لظرفٍ واحدٍ منها!. والمقصود أن مِن الفقه وعلاماته الاعتدالَ في النظرة وفي الآراء، وعدمَ الحماسة لوجهةٍ واحدةٍ، وإنما النظر لكلِ جوانب المسألة، وقد تبيّن لنا الآن كم هو الفرق بين القول بأنّ هذا لا يجوز مطلقاً، وبين القول بأنه في حالٍ يَجب، وفي حالٍ لا يجوز!!. 17- من علامات الفقه في الدين أن ترى الإنسان يتجه في فهمه اتجاهاً منهجياً، لا فهماً جزئياً معزولاً عن القاعدة والمنهج، فالعلم والإسلام ليسا معلومة فحسب، والعِلْم والحُكم الشرعي ليسا مقصورين على المثال، وإنما ينبغي أن يُفْهم فهماً منهجياً يَسْتثمر القاعدة والمنهج والمثال في التطبيق على كل ما يستجدّ، فيطّرد من خلال هذا الفهم المنهجي الحكم على المتماثلين بحكم واحد، والحكم على كلٍ من المختلفين بحكم مختلف، ويجب تطبيق حكم الله تعالى على ما يستجد في حياة الإنسان مثلما أنه يجب تطبيقه على ما كان في زمن النبوَّة من مسائل، فمبدأ الالتزام بحكم الله في الحاضر يستوي مع مبدأِ تطبيقه في الماضي، ولا يغيّر اختلاف الصور من ذلك شيئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 18- من علامات الفقه المنهجيّ أنك تحتاج إلى مرانٍ وتدرّبٍ على تطبيقه، وعلى تطبيق الفروع عليه، وقتاً طويلاً أو حياتك كلها. 19- من أهم أسباب التربية على الفقه، التربية والتوجيه وَفْق أسلوب القرآن الكريم والحديث النبوي، وذلك بالاتجاه إلى البيان التصنيفي المنهجيّ، وليس الاتجاه إلى البيان التفريعي المغرق على حساب البيان المنهجيّ. 20- الاتجاه إلى الظاهرية في الفهم مجانب للفقه في الدين وفي الدعوة، ومن العجيب أنْ ترى أناساً يتجهون هذا الاتجاه الظاهريّ في فهم الكتاب والسّنَّة، مع أن هذا مخالفٌ لطبيعة الكتاب والسّنَّة ومنهجهما في البيان وطريقة الدعوة والتعليم والتربية، ومَنْ دَرَسَ أساليب القرآن وأساليب الحديث النبويّ في ذلك عَرَفَ طبيعة منهجهما، وأنه مخالفٌ تماماً لتلك النظرة الظاهرية، أو تلك النظرة الحرفية. 21- العناية بالمظهر على حساب المخْبَر، وأعمال الجوارح الظاهرة على حساب أعمال القلوب دليل على اختلال في فقه المرء، ودليلٌ على مخَالفةٍ لهدْي الإسلام، وعدمِ إدراكٍ له، وعدم فهمه فهماً صحيحاً. 22- للقلب المعمور بنور الله تعالى أثرٌ في إدراك الفقه السليم، وإصابة الحق في مسائل النظر والاجتهاد، قال شيخ الإسلام: ""القلب المعمور بالتقوى إذا رَجَّحَ بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي، قال: فمتى ما وقع عنده وحصل في قلبه ما بطن معه إن هذا الأمر أو هذا الكلام أرضى لله ورسوله، كان هذا ترجيحاً بدليل شرعي، والذين أنكروا كون الإلهام ليس طريقاً إلى الحقائق مطلقاً أخطأوا، فإذا اجتهد العبد في طاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الله وتقواه كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة، فإلهام مثل هذا دليل في حقه، وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة، والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذاهب، والخلاف، وأصول الفقه. وقد قال عمر بن الخطاب: اقربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون: فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة. وحديث مكحول المرفوع: "ما أخلص عبدٌ العبادةَ لله تعالى أربعين يوماً إلا أجرى الله الحكمة على قلبه؛ وأنطق بها لسانه"، وفي رواية: "إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه". وقال أبو سليمان الداراني: إن القلوب إذا اجتمعت على التقوى جالت في الملكوت؛ ورجعت إلى أصحابها بِطُرَفِ الفوائد؛ من غير أن يؤدي إليها عالم علماً. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء" "1"، ومن معه نور وبرهان وضياء كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها؟ ولا سيما الأحاديث النبوية؛ فإنه يعرف ذلك معرفة تامة؛ لأنه قاصدٌ العمل بها، فتتساعد في حقه هذه الأشياء، مع الامتثال، ومحبة الله ورسوله، حتى إن المحب يعرف من فحوى كلام محبوبه مرادَه منه، تلويحاً لا تصريحاً.   (1) مسلم، 223، الطهارة، وأخرجه غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 والعين تعرف من عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها إنارة العقل مكسوف بطوع هوىً ... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا وفي الحديث الصحيح: "لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" "1"، ومن كان توفيق الله له كذلك فكيف لا يكون ذا بصيرة نافذة ونفس فعالة؟ وإذا كان الإثم والبر في صدور الخلق له تردد وجَوَلان، فكيف حال مَن اللهُ سَمْعُهُ وبَصَرُهُ وهو في قلبه؟ وقد قال ابن مسعود: الإثم حواز القلوب، وقد قدمنا أن الكذب ريبة والصدق طمأنينة، فالحديث الصدق تطمئن إليه النفس، ويطمئن إليه القلب. وأيضاً فإن الله فطر عباده على الحق، فإذا لم تَسْتَحِلِ الفطرة: شاهدت الأشياء على ما هي عليه، فأنكرت منكَرَها، وعَرَفَت معروفها، قال عمر: الحق أبلج، لا يخفى على فطن. فإذا كانت الفطرة مستقيمة على الحقيقة منورة بنور القرآن، تجلت لها الأشياء على ما هي عليه في تلك المزايا، وانتفت عنها ظلمات الجهالات، فرأت الأمور عياناً مع غيبها عن غيرها"""2".   (1) البخاري، 6502، الرقاق، وأحمد في مواضع متعددة. (2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 20/42-44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 23- من اختلال التفكير المنهجي، أو عدم المنهجية في التفكير لدى المرء، عدم اطّراد أحكامه من غير مقتضٍ لذلك. ومن الأمثلة على ذلك أن ترى شخصاً يَعْلم نجاسة أرضٍ أو فراشٍ ما فيفرش عليها سجادة ليصلي عليها، ويتوضأ ثم يمشي على تلك الأرض أو ذلك الفراش إلى أن يصل إلى السجادة حافياً مبلول القدمين، ثم يصلي على السجادة!!. أو تراه مثلاً يصلّي في ذلك المكان الذي يعتقد نجاسته، على سجادة لكنه يقف واضعاً قدميه أو بعضهما خارج السجادة، على تلك البقعة غير الطاهرة!!. 24- لاستقامة فقه المرء لابدّ من شرطين أساسين، هما: أ- صحة الدليل في ذاته، لأن ما لم يَثْبُتْ لا يُثْبِتُ غيره، فإذا كان المدَّعى دليلاً، ليس هو دليلاً صحيحاً فإنه لا يمكن أن يُصَحَّحَ به غيره!. ب- صحة الاستدلال بذلك الدليل الصحيح في المعنى المستَدل عليه، لأن صحة الدليل في ذاته لا تغني عن صحة الاستدلال به في الموضع، لأن الدليل الصحيح في ذاته إذا وُضِعَ في غير موضعه الصحيح لا تقوم به حجة، ولا يثبت به فقْه صحيح. 25- من معالم إصابة الفقه في تصرفٍ ما في الدعوة، أن ترى أثر الاستجابة لك من المدعو مباشرة على ما ترجوه من دعوتك. فإذا نصحت أو تكلمت أو خطوت خطوةً ما؛ فدَعا لك ذلك الشخص الذي دعوته أو شكر فاعلم أنك قد نجحت في هذه الخطوة، وأنك قد أصبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الفقه أو وفِّقت للفقه فيها غالباً. وإذا كانت ردة الفعل لدى من دعوته على العكس من ذلك فاحذر أن تكون قد جانبتَ الفقه في خطوتك هذه، فإن الغالب أن يكون السبب هو ذلك، لأن الكلمة الطيّبة، والنصيحة الطيّبة بالأسلوب الطيّب هدية يتقبلها كل إنسان مهما كان بُعْده وانحرافه إلا النادر من الناس. فعليك أن تتهم نفسك وتراجعها وتعيد النظر في طرائقك وأساليبك قبل أن تتهم الناس. 26- ليس من الفقه أن تطلب العلم أو الدعوة لغير الله تعالى، وأن ترجو من وراء ذلك العاجلة، لا الدار الآخرة؛ فقد جعل الله تعالى العلم الشرعي والدعوة إلى الله تعالى طريقاً صحيحاً إلى رضوان الله وإلى ثواب الآخرة، وليس ثمت طريق آخر لتحقيق هذه الغاية، فإذا طلب المرء بهما غيرَ هذه الغاية فقد ضل الطريق، واختل فقهه!. 27- من الفقه في الدين طلب العلم والعناية به، ولا تقوم دعوة صحيحة بغير العلم، ويُقبض العلم والفقه بقبض العلماء الربانيين. 28- لا يحفظ الفقه بالحفاظ على الكتب فقط، وقد ضل أهل الكتابِ، والتوراةُ والإنجيلُ بين ظهرانيهم. 29- من الفقه التفريق بين موقف الداعية وموقف المفتي، وعندما يشتبه على الداعية الأمرُ، فيظن أن موقف الداعية هو الإفتاء فقد جانبَ الفقه في ذلك، إلا أن يكون من أهل الفتوى، أو ممن تأهّل لذلك. ومعلوم لدى كثير من الناس ما يحصل من أخطاءٍ بسبب غياب هذا المعنى عن أذهان كثير من الدعاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 30- اتجاه الداعية إلى تكفير الناس وتفسيقهم مجانَبَةٌ للفقه والحكمة، ولن تكون النتيجة سوى بُعد الناس عنه وكراهيتهم له ولدعوته، فهل هذا هو هدف الداعية الحق؟! وهل هذا فقْه صحيح؟!. 31- ضيقُ الداعية بأي خلاف، وعدم سعة الصدر لسماع الآراء المخالفة، مجانبٌ للفقه وللحكمة، ومخالفٌ للفطرة، ومخالفٌ لطبيعة هذا الدين. 32- عناية الداعية بالنقد الذاتي وسماع النقد البنَّاء من الآخرين، والحرص عليه، مظهرٌ من مظاهر الفقه والحكمة والعناية بهما. 33- من مظاهر الفقه لدى الرجل طول صلاته حينما يكون منفرداً، وقِصَرُ خطبته، على ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: "إن طول صلاة الرجل، وقِصَرَ خطبته، مئنّةٌ من فقهه"1"؛ فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة" "2". والمقصود ما لم يكن هناك مقتضٍ للخروج عن هذا. بلغني أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- يقول مخاطباً الدعاة: "اتركوا الناس قبْل أن يتركوكم". وهذا واللهِ من الفقه والحكمة بمكان!. 34- من مظاهر فقه الرجل هندامه، إذْ من الفقه أن لا يكون ثوبه ثوبَ شُهْرة، لا بإسبال ولا بتقصير. 35- من مظاهر فقه الرجل طريقته في الأكل والشرب، والكلام والضحك،   (1) أَيْ: علامةٌ مِن فقهه. (2) مسلم، 869، الجمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والحركة؛ فلا يكون مهرِّجاً ثرثاراً مهذاراً فيُحْتقر، ولا حادّاً صَلِفاً فيُهْجر. 36- مِن علامات الفقه أن يُفَرِّق الإنسان، عند طلبه للعلوم، بَيْنَ ما هو مِن قبيل الغاية، وبين ما هو مِن قبيل الوسيلة؛ فما كان منها وسيلةً لغيره أُخذ منه ما يُتوسَّل به لغيره دون الإطالة فيه. وهذه النظرة المنهجية مهمة عند التفقه في الدين. ومِن تطبيقات هذا، مثلاً: عند دراسة علوم الوسائل: كاللغة، والأصول، والمصطلح، وأصول التفسير؛ فإننا نأخذ منها ما يُعيننا في الوصول للغاية التي من أجلها اتّجهنا إلى دراسة هذه العلوم؛ فلا ننشغل بها عن الغاية منها"1"، فنظل ندرس اللغة، مثلاً، ونحفظ ونقرأ ولم تستقم ألسنتنا أو فهمنا للكلام. ونظل ندرس الأصول بمعزل عن الفقه، والمصطلح بمعزل عن الحديث، وهكذا مما يُعدّ قصوراً في الفهم"2". 37- من علامات فقه المرء عنايته بالوقت، واستثماره لتحصيل الفقه في الدين،   (1) لأنها علوم آلات يراد بها غيرها، "وكل شيء يطلب لغيره لا ينبغي أن يُنسى فيه المطلوب"، على حدِّ قول المقدسي الذي مضى نقله في: ص20. (2) ويقترح للأخذ بهذا المطلب اتّباع ما يلي: 1- إدراك أن علوم الوسائل علومٌ عمليَّة، تحتاج لممارسة وتطبيق، فهي تؤخذ من الناحية النظرية بما يخدم الهدف من التطرق لها أصلاً، ويبقى بعد ذلك القسم الأكبر للتطبيق والممارسة. وهذا الكلام ينطبق على علوم اللغة، والأصول، والمصطلح، وأصول التفسير، وغيرها مما هو وسيلة لغيره في طلب العلم والفقه في الدين. 2- ينبغي أن يكون التطبيق والممارسة على يدِ عالِمٍ خبير بهذا، مؤهَّلٍ له. 3- يحتاج الإنسان إلى مراجعةٍ لِمَا كُتِب في علوم الوسائل؛ ليعرف ما يحتاجه للوصول للغاية منها، وما لا يحتاجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وإلمامه بالطرق المساعدة على استثمار أوقاته. 38- من علامات فقه المرء تفريقه بين الدليل والمدلول، والرأي والرواية، والسبب والنتيجة، والغاية والوسيلة؛ فلا يَخْلِط بينها خلْطاً يوقِعه في أخطاءَ متعدّدة. 39- من دلائل فقه المرء، عدم أخذه الأمورَ بالتسليم دائماً، وإنما يُمْعِنُ النظرَ في الدليل والمدلول، ويتأكد من صحة كليهما من حيث النقل والعقل؛ وذلك مِن غير غلوٍّ أو تقصير. 40- من مقاييس الفقه ودلالاته، إدراك أوجه الدلالة، وموضع الشاهد في النصوص، والعناية بذلك في فهمه وفي طلبه للعلم. 41- توجه المعلِّم والمتعلِّم إلى حقائق العلم، وليس إلى صُوَرِهِ فقط من علامة فقهِ كلٍّ منهما. ومِن تطبيقات هذا المقياس في العناية بمنهج المحدِّثين، أن لا يَدْرس الدارس هذا المنهج دون أن يَبْلُغ به الغاية منه، وهي: التمييز بين ما يصح وما لا يصح مِن الروايات؛ ويستثمر ذلك عمليّاً في فهمه للإسلام واتّباعه للرسول عليه الصلاة والسلام. 42- من دلائل فقه المرء، إعطاؤه كلَّ أمرٍ ما يستحقه من الهمِّ، والتفكيرِ، والبرنامجِ، والعملِ. وحديثُ: "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" "1"، دليلٌ مِن الأدلة على هذا المعنى.   (1) البخاي، 6139، الأدب، وفي غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 سادساً: أمثلةٌ وصورٌ لاختلال الفقه" 1" ما أكثر الأمثلة في هذا الباب! وهي أمثلة متعددة متجددة، منها ما يلي: *نظر شخصٌ في كتابٍ ما فلما رأى أول صفحة منه، فلم ير البدء بخطبة الحاجة، طرحه، وقال: لقد عرفت منذ البداية أن المؤلف ليس حريصاً على السّنَّة!. *قصة الرجل الذي نصحْته في غُلوِّه في تقصير ثوبه ومبالغته فيه، فقال لي: إلى منتصف الساق، فقلت له: لكنك قد رفعته إلى أكثر من منتصف الساق. فقال لي: هذا فيما يبدو لك، ولكن نظرك ليس أصدق من المتر، لقد قِسْتُ ساقي بالمتر، فحددت نصف الساق بالمتر!!. قلت في نفسي: لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعديِّ بن حاتم حينما فهم أن الخيط في الآية هو الحبل حقيقة، في قوله تعالى: {فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} "2"؛ فأخذ حبلين: أسود وأبيض، فجعل يأكل وينظر إليهما حتى تبينا له فأمسك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"إنك لعريض الوساد". فماذا يقال عن فهم صاحب المتر هذا؟!. وهل هذا القياس بالمتر سنة؟!. *أخذ أحد الناس شريطاً لأحد الدعاة إلى الله تعالى، وداس عليه برجله؛ لأنه ليس في الخطّ الدعويّ ضمْن الفهم الضيّق الذي هو عليه، فَعَلَ هذا على   (1) يُنظَر: نقد المسالك المخطئة تجاه الأخذ بالسنة، "أمثلة عجيبة غريبة"، مِن كتاب: "دعوة إلى السنّة في تطبيق السنّة"، ط. الثانية، ص87-91. (2) 187: البقرة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الرغم مما في الشريط من اسم الله تعالى والآيات والأحاديث!!. *أَحد الناس إذا وَجَدَ شريطاً فيه أناشيد إسلامية، فإنه يدوس عليه بقدمه؛ ولا يراعي حتى ما فيه من اسم الله تعالى!!. *قال بعض الناس لشخصٍ: هل فلان من جماعةِ كذا-وسمّى جماعةً يعاديها-؟. قيل له: ولماذا السؤال؟. قال: لأني رأيته واقفاً يوماً مع فلان، وهو مِن هذه الجماعة!!. وهذا مِن أغرب ما يُمْكِن سماعُهُ مِن المقاييس؛ فهل إذا وقفَ شخصٌ مع يهوديّ يُصْبح يهوديّاً، وهل إذا وقف كافر مع مسلم يصبح مسلماً، وهل إذا وقف إنسانٌ مع سلفيّ يصبح سلفيّاً، وهل إذا وقف إنسان مع شافعيٍّ يصبح شافعيّاً!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 سابعاً: صفات الفقيه وعلاماته لعلّ مِن المهمّ التعرّفُ على حالِ الفقيهِ حقاً، وفيما يلي كلامٌ أَنقلُهُ عن الإمام عبيد الله بن محمد ابن بطة العكبري"1"، وذلك بعد حذف الأسانيد، وحذْف التكرار؛"2" للاختصار. قال ابن بطة العكبريّ، مخاطباً السائل الذي كَتَبَ من أجْله تلك الرسالة النفيسة:   (1) في كتابه: "إبطال الحِيَلِ"، بيروت، المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة، 1409هـ 1988م، 5-29. (2) وبعد ضبْطِ ما يحتاج إلى ضبطٍ بالشكل من الكلمات، وتصحيح الأخطاء المطبعيّة، سواء في الضبطِ أو في الحروف والكلمات. وكذلك الشأن في علامات الترقيم التي يترتب عليها وضوح المعنى أو خفاؤه، صحّته أو غلطُه، دون أن أُشير إلى ذلك لكثرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 "غَيْرَ أني أُقدِّم أمام القول، وأبدأ قبل الجواب عن مسألتك، بذكْر صفة الفقيه الذي يجوز تقليده والفزَعُ إليه عند المشكلات، والانقياد إلى طاعته عند نزول المعضلات وحلول الشبهات، ثم أُتْبِعُ ذلك بالجواب عما سألتَ عنه؛ فإني أَرى هذا الاسم قد كثر المتسمُّون به مِن عامةِ الناس وكافّتِهم، وما ذاك إلا لأن البصائر قد عَشِيَتْ، والأفهامَ قد صَدِئتْ، وأُبهِمَتْ عن معنى الفِقْهِ ما هو، والفقيهِ مَن هو؟ فهم يُعَوِّلون على الاسم دون المعنى، وعلى المَنْظَرِ دون الجوهر. ولذلك قال علي بن أبي طالبٍ كرَّم اللهُ وجهه"1"، حين وَصَفَ المتجاسر على الفتوى بغير عِلْم: سمّاه أشباهُ الناس عالماً، ولم يُفْنِ في العِلْم يوماً سالماً. وقال رضي الله عنه: "يوشك أن لا يَبْقى من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه، مساجدهم يومئذ عامرةٌ وهي خَرابٌ من الهُدَى، علماؤهم شرُّ مَن تحت أَديم السماء، مِن عندهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود" 2""". "وسأَنعت لك معنى الفِقْهِ والفقيه من العربية والشريعة الإسلامية نعتاً جامعاً من الشهادة المقنعة، والدلالة الشافية، مختصِراً ذلك ومقتصِراً على بعض الرواية دون النهاية، وملَخِّصُهُ من الرواية بما فيه الكفاية، تلخيصاً يأتي على ما وراءه [ويغنى] عما سواه.   (1) لا مَساغ للتفريق-بهذا المصطلح في الدعاء-بين عليّ ?، وبين سائر الأصحاب رضي الله عنهم أجمعين، ولعلّ هذا تصرّفٌ من النسّاخ، أو أَثر انتشار ذلك في تلك الأزمان. (2) ولعل الناظر يرى اليوم مصداق هذا الكلام؛ لما يراه من حال بعض الناس في هذا الأمر، للأسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فأما الفقيه في اللسان الفصيح [أي: في لغة العرب] ، فمعناه: الفَهْم، تقول: فلان لا يَفْقه قولي، أي لا يفهم، قال الله عزّ وجلّ: {وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّح بِحَمْدِه وَلكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم} "1"، أي لا تفهمون. وقوله عزّ وجلّ: {لِيَتَفَقَّهوا فِي الدِّين} "2". أي لِيَتَفَهَّموه فيكونوا علماء به، ومن ذلك قولهم: فلان لا يَفْقه ولا يَنْقه، معناه لا يفهم ولا يعلم. ونجد الله عزّ وجلّ نَدَبَنا إلى توحيده، والمعرفة بعظيم قُدْرته، بما دلنا عليه من بديع صنعته، وعجيب حكمته، وما أَسبغ علينا من نِعْمته، ثم أخبرنا أنه إنما أظهر هذه المعجزات، وفصَّل هذه الآيات للفقهاء العلماء؛ لأنهم هم الذين فَهِموا عنه، وفَقِهوا معنى مراده، فجاز أن يدلّوا عليه بما دلّهم به على نفسه، وجاز أن يكونوا هم النصحاء لعباده بما نَصَحوا به أنفسهم. فإن الله عزّ وجلّ وصَفَ نفسه لعباده، وعرّفهم بربوبيته، ودعاهم إلى توحيده وعبادته بما أظهر لهم من قُدْرته فقال عزّ وجلّ: {إنّ اللهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرج الحيّ مِنَ الْميت} "3"، إلى آخر الآية، ثم قال عزّ وجلّ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَر حُسْباناً ذَلكَ تَقْدِير العَزِيزِ الْعَلِيم} "4"، ثم قال عزّ وجلّ: {وَهُو الَّذِي جَعَلَ لَكُم النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا في ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قد   (1) 44: الإسراء: 17. (2) 122: التوبة: 9. (3) 95: الأنعام: 6. (4) 96: الأنعام: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَومٍ يَعْلَمُون} "1"، ثم قال عزّ وجلّ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُم مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُستَقرٌّ ومستودَعٌ قَد فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَومٍ يَفْقَهُون} "2". فلما فقهوا عن الله عزّ وجلّ ما عظَّم به نفسه، وأَخبر به من جلاله وهيبته، ونفاذ قدرته، وعظيم سلطانه وسطوته، وما وعد به من ثوابه، وتوعّد به من عقابه، ومُلْكه للأشياء في الضُرّ والنَّفْع، والإعطاء والمنع، والدوام والبقاء، هابوا الله عزّ وجلّ وأجَلُّوه، واستحيوا الله وعبدوه، وخافوا الله وراقبوه، وذلك لِمَا فقهوا عنه من عظمته وجلاله، وعظِيم ربوبيّته، وَلِحَقِّ ما فقهوا عن الله عزّ وجلّ بقلوبهم فأَزعجها، وعن جميع مكاره الله باعدَها، وعلى ما يرضيه حركها وأذابها، ومن مخالفته أَوْجَلها وأَرْهبها، فعند ذلك أضافهم الله عزّ وجلّ إلى نفسه فيمن شهد لها بالإلهية، فقال: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ والْمَلائِكَة وَأُولُوا الْعِلْم قائِماً بِالْقِسْطِ} "3"، ثم رفعهم على جميع خَلْقه فقال: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَالَّذِينَ أُوْتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} "4"، وقال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَّشَاء} "5" قيل: بالعلم. فَهُمْ صفوةُ الله من عباده، وأهل نوره في بلاده. اصْطَفاهم اللهُ لعِلْمه، واختارهم لنفسه، وعرَّفهم حقه، ودلّهم على نفسه، فأقام بهم حجته، وجعلهم قوّامين بالقسط ذُبّاباً عن   (1) 97: الأنعام: 6. (2) 98: الأنعام: 6. (3) 18: آل عمران: 3. (4) 11: المجادلة: 58. (5) 76: يوسف: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 حُرَمِهِ، نصحاء له في خلقه، فارّين إليه بطاعته؛ فلذلك أمر الله عزّ وجلّ بمسألتهم، والنزولِ عند طاعتهم، فقال عزّ وجلّ: {فَاسَأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لا تَعْلَمُونَ} "1"، ثم أَلصق طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله، فقال: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُم} "2"، قال: الفقهاء"3" [أي: هم الفقهاء] . كذا قال المفسرون". "فطاعتهم على جميع الخَلْق واجبةٌ، ومعصيتهم محرّمة، من أطاعهم رشد ونجا، ومن خالَفَهم هلك وغوى، هم سُرُجُ العِباد ومَنارُ البلاد، وقوّام الأُمم، وينابيع الحِكم في كل وقت وزَمَن، وصفهم الله عزّ وجلّ بالخشية والاعتبار، والزهد في كل ما رَغِب فيه الجهلة الأغمار. فقال عز من قائل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماءُ} "4"، وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَال نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقلها إلا الْعالِمُون} "5". ووصَفَ قارون وخروجه في زينته، ومباهاته لأهل عصره بما أُوتيه من حُطام الدنيا وزينتها، وغِبْطة الجاهلين له، المريدين منها مثل إرادته، وتأسفهم على مثل حاله، ثم دَلّ على فضل العلماء وإصابتهم الصواب، بعزوف أنفسهم عن ملكه وزينته، ورضاهم بما فهموا عن الله، وتصديقهم له فيما   (1) 43: النحل: 16. (2) 59: النساء: 4. (3) يَعني تفسير "أُولي الأمر" بالفقهاء. (4) 28: فاطر: 35. (5) 43: العنكبوت: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وعد من جزيل ثوابه، وحُسْن مآبه لمن آمن بذلك ورضي به، فقال عزّ وجلّ: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوم مُوسَى فَبَغَى عَلَيهم وآتَينَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنّ مَفَاتِحَهُ لتنوء بالعُصْبةِ أُولي القوّة} "1"، ثم قال: {فَخَرَجَ عَلَى قَومِه فِي زِينَته. قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُون الحَيَاة الدُّنْيَا يا ليت لنا مثلَ ما أُوتي قارون، إنه لذو حظٍّ عظيم. وَقَالَ الَّذَينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُم ثَوابُ الله خَيرٌ لِمَن آمَنَ وعَمِلَ صَالحاً} "2". وقال عزّ وجلّ تخصيصاً للعلماء وتفضيلاً للفقهاء: {وَلا يُلَقّاها إلا الصّابِرُون} "3" يعني الصابرين على الدنيا وزينتها، رضاءً بالله وبثوابه، وبما أعاضهم من العلم به والفهم عنه، وبما فَقِهوا عنه ما وَعَدَ به مَنْ صبر عنها - ولذلك يُرْوى والله أعلم- في معنى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من يُرِدِ الله به خيراً يُفَقّهْهُ في الدِّين" "4". "ولهذا الفقيه الذي أراد الله به خيراً صفات وعلامات وصَفَها العلماء، وأبانت عن حقائقها العقلاء" ". ثم أَخذ الإمام ابن بطة يَذكر صفات الفقيه وعلاماته، فقال: "عن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عزّ وجلّ". "عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ألا أُخبركم بالفقيه كل الفقيه؟ مَن لم   (1) 76: القصص: 28. (2) 80: القصص: 28. (3) 80: القصص: 28. (4) أخرجه البخاري في مواضع مِن صحيحه، منها: 3-كتاب العلم، باب 10، وباب13، وأخرجه مسلم، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 يُقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يؤَمِّنْهم من مكْر الله، ولم يُرَخّص لهم في معاصي الله، ولم يَدَعِ القرآن رغبةً عنه إِلى غيره". "قال عبد الله بن مسعود: كفى بخشية الله عِلماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً". "عن أبي علقمة الليثي قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله إن الفِقْهَ ليس بكثرة السَّرْدِ، وسعةِ الهَدْرِ، وكثرةِ الرواية، وإنما الفِقْه خشية الله عزّ وجلّ". "حدثنا ابن مسعود عن أبيه قال: قلت لسعد بن إبراهيم"1": مَنْ أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم"". " ... حدّثني بعض القرشيين قال: إن كمال عِلْم العالم ثلاثةٌ: ترْك طلبِ الدنيا بعلمه، ومحبتُهُ الانتفاع لمن يجلس إليه، ورأفتُهُ بالناس". "قال أبو حازم: لا يكون العالم عالماً حتى تكون فيه ثلاث خصال، لا يَحْقر مَن دونه في العِلْم، ولا يَحْسد من فوقه، ولا يأخذ على عِلْمه دُنيا". "مَطَرُ الورّاق قال: سألت الحسن عن مسألةٍ فقال فيها. فقلت: يا أبا سعيد، يأبى عليك الفقهاء. فقال الحسن: ثكلتك أمُّك يا مطر، وهل رأيت بعينك فقيهاً قط؟ وقال: تدري ما الفقيه؟ الفقيه: الوَرِع الزاهدُ المقيم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يسخر بمن أسفل منه، ولا يهزأ بمن فوقه، ولا يأخذ على عِلْمٍ عَلّمه الله إياه حطاماً". "عن الحسن قال: الفقيه المجتهد في العبادة، الزاهد في الدنيا، والمقيم على   (1) في المطبوع: "لسعد ان إبراهيم:" والصواب ما أثبتُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". "عن الحسن، وقد أتاه رجل سأله عن مسألة فأفتاه، قال: فقال له الرجل: يا أبا سعيد قال فيها الفقهاء غير ما قلت. قال: فغضب الحسن، وقال: "ثكلتك أُمُّك، وهل رأيتَ فقيهاً قط؟ " قال: فسكت الرجل، قال: فسأله رجل فقال: يا أبا سعيد: مَنِ الفقيه؟ قال: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير في دينه، والمجتهد في العبادة. هذا الفقيه". "سفيان بن عيينة قال: سمعت أيوب يقول: سمعت الحسن يقول: ما رأيت فقيهاً قط يُدَاري ولا يماري، إنما يُفْشي حِكْمته، فإِن قُبلت حَمِدَ الله، وإن رُدّتْ حَمِد الله. قال: وسمعت الحسن يقول: ما رأيتُ فقيهاً قط. وإنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، الدائب على العبادة، المتمسك بالسنة". "عن وهب بن منبه قال: الفقيه: العفيف، المتمسك بالسنّة، أولئك أتباع الأنبياء في كل زمان". "عن يوسف بن أسباط قال: قال سفيان الثوري: الفقيه: الذي يَعُدُّ البلاءَ نِعْمة، والرخاءَ مصيبة، وأفقه منه من لم يجترئ على الله عزّ وجلّ في شيء لعلمه به". "عن الحارث بن يعقوب قال: يقال: إن الفقيه كل الفقيه: من فَقِهَ في القرآن، وعَرَفَ مَكِيدة الشيطان". "عن أبي الدرداء قال: لا يفقه الرجل كلَّ الفقه حتى يَمْقت الناسَ في ذات الله، ثم يَرْجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً". "عن أبي الدرداء، قال: إنّ مِنْ فِقْه المرء: ممشاه ومدخله ومجلسه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 "عن أبي قلابة قال: قال أبو الدرداء: إنك لا تَفْقه كل الفِقْه حتى ترى للقرآن وجوهاً، وإنك لا تَفْقه كل الفِقْه حتى تمقُتَ الناس في جَنْب الله عزّ وجلّ ثم تَرْجعُ إلى نفسك فتكون لها أشدَّ مقتاً منك للناس". "إبراهيم بن نصر الصائغ قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: إنما الفقيه الذي أَنطقتْهُ الخشية، وأسكتتْهُ الخشية. إنْ قال: قال: بالكتاب والسنة، وإنْ سكتَ سكتَ بالكتاب والسنة، وإن اشتبه عليه شيء وقَفَ عنده وردَّه إلى عالِمِهِ". "عن الحسن قال: إنا لنجالس الرجلَ فنرى أنّ به عِياً وما به عِيٌّ وإنه لفَقِيهٌ مُسْلم. قال وكيع: أسكتته الخشية". "عن ليث قال: كنت أسأل الشعبي فيُعْرِض عنّي ويَجْبهني بالمسألة، قال فقلت: يا معشر العلماء؟ تَزْوون عنّا أحاديثكم وتَجْبهوننا بالمسألة؟ " فقال الشعبي: "يا معشر العلماء، يا معشر الفقهاء؟! لسنا بعلماء ولا فقهاء. ولكننا قومٌ قد سمعنا حديثاً فنحن نُحَدثكم بما سمعنا. إنما الفقيه: وَرِعٌ عن محارم الله، والعالِمُ مَن خاف الله عزّ وجلّ". "عن مالك بن مِغْول قال: استفتى رجلٌ الشعبيَّ، فقال: أيها العالم أفتني. فقال: إنما العالِمُ مَن يخاف الله". "عن عطاء وأبي الزناد عن جابر أنه تلا {وَما يَعْقِلُها إلاّ العَالِمُون} "1"، فقال: العالم الذي عَقَلَ عن الله أمْرَهُ؛ فَعَمِلَ بطاعةِ الله، واجتنب سخطَهُ". "قال عبد الله بن مسعود: ليس العلم للمرء بكثرة الرواية ولكنّ العلم الخشية".   (1) 43: العنكبوت: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 "مقاتل بن محمد قال: خرجنا مع سفيان بن عيينة إلى منى في جماعة، فيهم أبو مسلم المستملي، فقال سفيان في بعض ما يتكلم به: العالِمُ بالله الخائف لله، وإن لم يُحْسِن: "فلان عن فلان"، ومَنْ لم يُحْسِن العِلْمَ والخوفَ من الله فهو جاهل وإن كان يُحْسِن: "فلان عن فلان"، المسلمون شهودُ أنفسهم، عَرَضوا أعمالهم على القرآن، فما وافق القرآن تمسكوا به وإلا استَعْتَبوا مِن قريب. قال أبو مسلم: ما أحسنَ هذا الكلام يا أبا محمد، قال: إنه والله أحسن من الدُّرّ، وهل الدُّرّ إلا صَدَفَةٌ؟ ". "حبان بن موسى قال: سئل عبد الله بن المبارك: هل للعلماء علامة يعرفون بها؟ قال: علامة العالِمِ: مَن عَمِل بعلمه، واستقل كثيرَ العلم والعمل من نفسه، ورَغِب في علمِ غيره، وقَبِل الحق مِن كلِّ مَن أتاه به، وأَخَذَ العِلْم حيث وَجدَه، فهذه علامة العالِمِ وصِفَتُهُ. قال المروذي: فذكرت ذلك لأبي عبد الله. فقال: هكذا هو". "حدثنا ابن مخلد، حدثنا المروذيّ، قال: قلتُ لأبي عبد الله: قيل لابن المبارك: كيف يُعْرَف العالِم الصادق؟ فقال: الذي يزهد في الدنيا ويَعْقل أمر آخرته فقال: نعم كذا يريد أن يكون". "مَعْمر، قال: سمعت الزهري يقول: لا تثق للناس بعملِ عامل لا يَعْلم، ولا تَرْضَ لهم بعِلْم عالِمٍ لا يعمل". "أحمد بن مسروق الطوسي، قال: سمعت إبراهيم بن الجنيد يقول: "عوتب بعض العقلاء على تركه المجالس، وقيل له: ما بالك لا تكتب الحديث؟ فقال: قد سمعت حديثين؛ فأنا محاسِبٌ نفسي بهما، فإذا أنا عَلِمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أني قد عَمِلت بهما كتبتُ غيرهما. قيل: وما الحديثان؟ قال: "مِنْ حُسْن إسلام المرء تَرْكه ما لا يعنيه"، و"حبُّ الدنيا رأس كل خطيئة"، وأنا أستغفر الله من اعتذاري إليه، وأشكره على ما قد عرّفني من زللي. فانصرَفوا وهم يَحْلفون بالله: ما رأينا أفقه منه، ولا أشدَّ محاسبةً منه لنفسه. قال: فرجع إليه رجلٌ منهم، فقال: أوصني، قال: عليك بتقوى الله وصِدْق الحديث، وتَرْك ما لا يعنيك ثم قام فدخل إلى منزله". "عن الحسن قال: الرجل إذا طلب باباً من الِعلْم لم يَلْبث أن يُرى ذلك في تخشّعِهِ وبَصَرِهِ ولسانِهِ ويدِهِ وزهدِهِ وصَلاتِهِ وبدَنِهِ، وإنْ كان الرجلُ ليَطلبُ الباب من العلم فلَهُوَ خيرٌ له من الدنيا وما فيها"". "عن أيوب قال: ينبغي للعالِمِ أن يَضَع التراب على رأسه تواضعاً لله عزّ وجلّ". "مَعْمر القطيعي قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: العِلْم إذا لم ينفع ضَرَّ". "حدثنا العباس بن الحسين القنطري حدثنا محمد بن الحجاج، قال: كتب أحمد بن حنبل رضي الله عنه عني كلاماً- قال العباس: وأملاه علينا. قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه -يعني للفتوى- حتى يكون فيه خمس خصال: أما أُولاها: فأن يكون له نيةٌ، فإنه إن لم تكن له فيه نيّةٌ لم يكن عليه نورٌ ولا على كلامه نور. وأما الثانية: فيكون له خُلُق ووقارٌ وسَكِينةٌ. وأما الثالثة: فيكون قويّاً على ما هو فيه وعلى معرفته. وأما الرابعة: فالكفاية، وإلا مضَغَهُ الناس. وأما الخامسة: فمعرفة الناس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 "قال أبو عبد الله"1" رحمه الله: فأقول -واللهِ العالِمِ- لو أن رجلاً أنعمَ نظره، وميَّز فكْره، وسَمَا بطرْفِهِ، واستقصى بجهده، طالباً خَصلةً واحدةً في أحدٍ مِن فقهاء المدينة والمتصدرين للفتوى فيها"2" لَمَا وجدها. بل لو أراد أضدادها والمكروهَ والمرذولَ مِن سجايا دناءةِ الناس وأفعالِهم فيهم، لوجد ذلك متكاثِفاً متضاعِفاً، واللهَ نسألُ صفحاً جميلاً وعفواً كثيراً". "ابن أبي أوس، عن أخيه، عن أبيه، قال: أدركتُ الفقهاء بالمدينة يقولون: لا يجوز أن يَنْصب نفسه للفتوى، ولا يجوز أن تَسْتفتي إلا الموثوقَ في: عفافه، وعقله، وصلاحه، ودينه، وورعه، وفقهه، وحِلْمه ورِفْقه، وعِلْمه بأحكام القرآن، والمُحْكَمِ والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، عالِماً بالسنّةِ والآثار، وبمن نَقَلها، والمعمولِ به منها والمتروك، عالماً بوجوهِ الفقه التي فيها الأحكام، عالِماً باختلاف الصحابة والتابعين، فإنه لا يستقيم أن يكون صاحبَ رأي ليس له علم بالكتاب والسنة والأحاديث والاختلاف، ولا صاحِبَ حديثٍ ليس له عِلمٌ بالفقه والاختلاف ووجوه الكلام فيه. وليس يستقيم واحد"3" منهما"4" إلا بصاحبه. قالوا: ومَن كان من أهل العلم والفقه والصلاح بهذه المنزلة، إلا أنّ طُعْمته من الناس وحاجاته مُنْزَلةٌ بهم، وهو محمولٌ عليهم، فليس بموضعِ الفتوى، ولا موثوقٍ به في فتواه، ولا مأمونٍ على   (1) هو ابن بطة العكبري رحمه الله تعالى. (2) يَقْصِد في زَمَنِه. (3) أي من هذه الصفات. (4) أي: كلٍ من العلم بالكتابِ والسنة، والعلم باختلاف الفقهاء والرأي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الناس فيما اشتبه عليهم". "قال الشيخ أبو عبد الله ابن بطة -رحمه الله: قد اقتصرتُ يا أخي -صانَكَ اللهُ- من صفة الفقيه على ما أَوردتُ، وكففتُ عن أضعافِ ما أردتُ؛ فإني ما رأيت الإطالة بالرواية في هذا الباب متجاوزةً ما قصدْنا من جواب المسألة، نعم -أيضاً- وتهجينٌ لنا وسبّةٌ علينا، وغضاضةٌ على الموسومين بالعلم، والمتصدرين للفتوى من أهل عصرنا، مع عدم العالِمين لذلك والعاملين به، فأسأل الله أن لا يَمْقتنا، فإنا نَعُدُّ أنفسَنا من العلماء الربانيين، والفقهاء الفهماء العارفين، ونحسِبُ أنا أئمةٌ متصدرون عِلماً وفُتيا، وقادةُ أهل زمانِنَا، ولَعلَّنا عند الله من الفاجرين، ومن شرار الفاسقين!. فقد رُوي عن الفضيل بن عياض رحمه الله، قال: إنا نتكلم بكلامٍ أحسب أن الملائكة تستحسنه، ولعلّها تَلْعن عليه! ". "وقال عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم: يا معشر الحواريين الحقَّ أَقولُ لكم: إن الدنيا لا تَصْلح إلا بالمِلْحِ، والطعامَ لا يَطِيبُ إلا به، فإذا فَسَدَ المِلْح فَسَدَ الطعامُ وذهبت المنفعةُ به. وكذلك العلماء مِلْح الأرض لا تستقيم الأرض إلا بهم، وإذا فَسَدَ العلماء فَسَدَت الأرض". "وقال سفيان بن عيينة: قَدِم عبيد الله بن عمر الكوفة فلمّا رأى اجتماعهم عليه، قال: نسيتم العِلْم، وأذهبتم نوره، لو أدركني وإياكم عمر لأوجعَنا ضرباً. هذا -رحمكم الله- قول عبيد الله بن عمر رحمه الله لِمَن اجتمع عليه من طلبة العلم، وهم: سفيان الثوري، وابن عيينة، وأبو إدريس الخَوْلاني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وحَفْص بن غِياث، ونظراؤهم؛ فما ظنُّك بقوله لو رأى أهل عصرنا"1"، فنسأل الله صفحاً جميلاً، وعفواً كبيراً، فيا طوبى لنا إن كانت موجباتُ أفعالنا أن نوجَعَ ضرباً؛ فإني أحسِب كثيراً ممن يتصدر لهذا الشأن يرى نفسه فوقَ الذين قد مضى وصْفُهم، ويرى أنهم لو أدركوه لاحتاجوا إليه وأَمموه. ويرى أن هذه الأفعال منهم والأقوال المأثورة عنهم كانت من عَجْزهم، وقلّةِ عِلْمهم، وضَعْف نحائزهم. الله المستعان! فلقد عشنا لشرِّ زمان. فقد حدّثَنا أبو محمد السكري، حدثنا أبو يعلي الساجي، حدثنا الأصمعي، قال: سمعت سفيان بن عيينة قال: إذا كنتَ في زمانٍ يُرْضى فيه بالقول دون الفعل، والعِلْمِ دون العمل، فاعلم بأنك في شرِّ زمانٍ بَيْن شرِّ الناس. ولقد رُوي عن حبرٍ من أحبار هذه الأُمّة وسيدٍ من سادات علمائها أنه قال: ما أرى أن يُعَذِّب الله هذا الخَلْق إلا بذنوب العلماء. قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد"2" -ومعنى ذاك، والله أعلم-: أن العالِمَ إذا زلَّ عن المحجة، وعَدَلَ عن الواضحة، وآثر ما يهواه على ما يَعْلمه، وسامحَ نفسه فيما تدعوه إليه، زلَّ الناس بزلَلِهِ، وانهمكوا مُسْرعين في أَثرِهِ، يَقْفون مَسْلَكَه، ويَسْلكون محجته؛ وكان ما يأتونه ويرتكبونه من الذنوب وحَوْبات المأثمِ بحُجّةٍ، وعلى اتّباعِ قدوةٍ؛ فلا تجري مجرى الذنوب التي تُمحى بالاستغفار، ومرتكبها بين الوجل والانكسار، فالمقتدون به فيها كالسفينةِ إذا   (1) وما بالك لو رأى أهلَ عصرنا نحن؟!. (2) هو ابن بطة العكبري صاحبُ رسالة: "إبطال الحِيَل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 غَرِقت غَرِق بغرقِها خَلقٌ كثير، وجوهرٌ خطير، أضعافُ ثَمَنِها وقيمتِها وبأضعافٍ مضاعفةٍ. والله أعلم""1". ولعله، بعد هذا البيان لصفات الفقيه وعلاماته، يتضح للمطلع على هذا أهمية الفقه في حياة الإنسان، ومعرفة جانبٍ من كيفية تحصيل المرء للفقه عن طريق الحرص على التحلي بتلك الصفات النفيسة، فما أجملَ، وما أحسنَ أن يأخذ الإنسان نفسه بهذه الأخلاق والصفات الحسنة؛ حتى يُصْبح من أهلها. والله المستعان.   (1) انتهى ما أردتُ نقْله من كلام الإمام عبيد الله، ابن بطة، رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الفصل الثالث: الطريقة المنهجية لتحصيل الفقه في الدِّين عَرْضٌ عامٌّ للطريقة * ... الطريقة المنهجية لتحصيل الفقه في الدين عَرْضٌ عامٌّ للطريقة إذا كانَ تحصيل الفقه في الدين مطلباً مهمّاً، فإنه لا يكفي لتحصيله مجرّد الرغبة فيه، وإنما لابدّ مِن الأخذ بالأسباب التي شرعها الله تعالى للوصول إلى هذا المطلب العظيم. وهذه الأسباب تُمثِّل جانباً مِن سُننِ الله سبحانه في الخَلْق. ويمكن تلخيص أسباب الوصول للفقه فيما يلي: 1- الرغبة الصادقة لدى الإنسان في تحصيل الفقه في الدين، رغبةً يَحْدوها الإخلاص لله وحده لا شريك له؛ فإخلاص النية لله تعالى في طلب العلم، ولاسيما هذا النوع من العلم الذي هو خاص بطريق هداية الإنسان إلى الله تعالى، وليس إلى أمور المعاش في الحياة الدنيا الفانية = أمرٌ لا يُغْنِي عنه شيءٌ آخر. وينبغي للراغب في تحصيل الفقه، أن يُدرِك خطورة انحراف النية عن هذا القصد في طلب هذا النوع من العلم. وينبغي للراغب في تحصيل الفقه، أن يُدرِك أهمية هذا النوع من العلم وقدْرَهُ؛ فلا يَنْحرف به عن غايته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 2- تحديد مفهوم الفقه في الدين تحديداً صحيحاً، وذلك حسب ما مضى في تعريفه في هذا البحث"1". 3- تحديد الطرق الصحيحة لتحصيل الفقه في الدين، المتمثلة في تصحيح المنهج في تلقي العلم؛ كي لا ينحرف الدارس بإفراط أو تفريط. ومما يؤكَّد عليه في هذا الباب: * أن ندرك منذ البداية أن العلم منهجٌ، قبل أن يكون مسائل متفرقة. *وأن ندرك أن العلم فقهٌ، قبل أن يكون حفظاً، أو سعة اطّلاعٍ؛ قال تعالى: {والذين إِذا ذُكِّرُوا بآياتِ ربِّهِمْ لَمْ يَخِرِّوْا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} "2"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين". * وأن ندرك أن العلم عملٌ وتطبيقٌ، قبل أن يكون فكراً وثقافة ... * ويجب أن يكون أساس المنهج هو تحكيم الكتاب والسنة، واتخاذهما ميزاناً يَصْدر عنه طالب العلم في علمه ومنهجه في طلب العلم، وفي فهمه ... * ولابد من سلامة المنهج في فهم الكتاب والسنة والاستنباط منهما، وإلا فكم من الفِرَق المنتسبة إلى الإسلام قد انحرفت عن هدايات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ودلالاتهما، مع زعمها، أو حرصها، على تحكيمهما، ولكنها لم تَظْفر بذلك؛ لأحد سببين أساسيين في تقديري، أو لهما معاً: - الأول: عدم استقامة منهج الفهم عند الطائفة أو الجماعة.   (1) في: "أوّلاً"، مِن الفصل الثاني. (2) 73: الفرقان: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 - الثاني: عدم السلامة من الهوى، أو وجود شيء من الهوى ... على درجات فيما بين تلك الفِرق وأصحابها. * والتثبت أمرٌ مهمٌّ، يُمَثِّل جانباً أساسيّاً في معالم المنهجية السليمة في طلب العلم، والتثبت يشمل جانبين-كما سبق-: أ - التثبت مِن صحة النقل وفي الروايات التي تنبني عليها الأحكام. ب - التثبت مِن الفهم، بمعنى تدقيق الفهم ونقده بحيث يستقيم له صحة فهمه واستدلاله. 4- السعي الجادّ في تحصيل الفقه في الدين وفْق تلك الطرق الصحيحة، وذلك ببذل الجهد الكافي لتحصيل العلم، ويَنْبغي أن ندرك قدر الجهد الذي يتطلبه هذا العلم، وأن نَعِيَ أن العلم لا يدرك بالأماني والراحة؛ "لا يُدْرَك العلم براحة الجسم"؛ بل لابد من المجاهدة، {والَّذِينَ جَاهَدُوْا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} "1". فهل نُدْرِك-بعد هذا- نتائج الوفاء بهذه الأمور الأربعة، ونتائج الإخلال بها أو بواحد منها!. إنّ مِن المؤكَّد أنّ مَن لم يَسِر على هذا المنهج؛ فليس له سبيلٌ إلى تحصيل الفقه في الدين بصورةٍ صحيحةٍ شاملةٍ متكاملةٍ؛ لأنّ مِن سُننِ الله في الخَلْق أنه قضى، سبحانه، أن تحصيل الأمور مرهون بـ: - الأخذ بأسبابها، وقد قال تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ   (1) 69: العنكبوت: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "1"؛ فلا تكفي الرغبة وحدها لتحصيل أمرٍ مِن الأمور، حتى ينضمّ إليها السعيُ. - ولا يكفي ذلك حتّى يكون السعي منضبطاً بالتوجّه الصحيح لتحصيل ذلك الأمر؛ قال تعالى: {والَّذِينَ جَاهَدُوْا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} "2". ومما يَلْزم الإنسانُ لتحقيق هذا المطلب: 1- النية الصالحة. 2- القناعة. 3- الإرادة القوية التي لا تردد فيها؛ بحيث لا يشغلك شاغلٌ عن الهدف وألا تُؤْثِرَ الراحة على تحصيل العلم، ولا تؤجل الواجب لغير وقته. 4- تخصيص الوقت الكافي.   (1) 189: البقرة: 2. (2) 69: العنكبوت: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قواعد عامّةٌ لتطبيق الطريقة المطلوبة فيما يلي أَذكرُ بعض القواعد العامة التي ينبغي مراعاتها لتطبيق تلك الطريقة المطلوبة في تحصيل العلم والفقه في الدين تطبيقاً فرعيّاً في مختلف العلوم: ينبغي-منذ البداية-إدراك التلازم الذي ينبغي أن يكون بين تحصيل العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 * وتحصيل الفقه؛ إذ العلم هو الطريق الطبيعية لتحصيل الفقه، والعلم-بمختلف طرقه وأساليبه ومجالاته-مِن أهمّ ثمراته، والغاية منه، أن يكون طريقاً للوصول للفقه المطلوب. * الاتّجاه أوّلاً إلى قراءة المتون الصغيرة المنتقاة في مختلف العلوم، وحفظها لتكون بدايةً مؤَسِّسةً له في كل علمٍ يتّجه إلى تحصيله. مع العناية بالفهم إلى جانب الحفظ. * ثم التوسّع في كل علمٍ بحسب الحاجة، وَفْق برنامجٍ انتقائيّ دقيق، لاختيار الكتاب الذي يُحَقّق الغاية المرتجاة مِن وراء دراسة هذا العلم، وهنا يتعيّن الإفادة مِن المتخصِّصين المتقنين. * العناية بتحصيل مداخل مختلف العلوم ابتداءً، وتَصُّور ما فيها مِن نظراتٍ تقويمية للمناهج والكتب، والإفادة مِن ذلك في طلب العلم وفقهه. * العناية بتحصيل مفاتيح العلم الثلاثة، وهي: القراءة، والكتابة، والفهم. وسيأتي الكلام عليها قريباً. * العنايةُ بكلٍّ مِن الفهم والحفظ، مع تقديم الفهم على الحفظ. * إعمال العقل، وفهم قاعدة: "لا اجتهاد مع النص" على وجهها؛ إذ أنها لا تمنع من الاجتهاد في فهْم النص، الأمر الذي ظنَّهُ بعض الناس كذلك؛ فصرفهم عن إصابة بابٍ مِن أهم أبواب الفقه السديد. * تأويل النصوص يجب أن يكون المنهج فيه على الاعتدال؛ فلا يذهب إلى التكلف في تفسير النصوص وتأويلها، ولا يذهب إلى الظاهرية البحتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 * العناية بالتزكية وتهذيب النفس بالعلم الذي يُحَصّله الإنسان. * العناية بالعمل والتطبيق للأحكام التي يتفقه فيها مَن يَدْرُسُ آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم. * أن تنطلق في طلبك للعلم مِن معرفة الضوابط التي يقوم عليها عامة مسائل العلم. * أن تجتهد في تحرير هذه القواعد والأصول التي تنطلق منها لفهم النصوص. * هذه نقاطٌ مهمةٌ يتعيّن مراعاتها لتحصيل العلم، واجتناء ثمرته في الدنيا والآخرة. * وفي إطار هذا الاهتمام، فإنّ مِن اللازم، للراغب في تحصيل العلم والفقه السديدين، أن يُعْنى بالتعرُّف على القواعد الفرعية التطبيقيّة، المطلوبة لتحصيل الفقه في مختلف العلوم؛ بحيث يَقِف على تلك القواعد فيما يَخُصُّ كلَّ علْمٍ مستقِلاًّ، ويُراعيها في طلبه للعلم. وعلى سبيل المثال أُورِدُ فيما يلي بعض القواعد المطلوبة لدراسة الحديث وفقهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 قواعد تطبيقية لازِمةٌ لدراسةِ الحديث وفقهه" 1": أَذكرُ فيما يلي أَهمَّ القواعد والأُسس اللازمة لفقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل به، فمِن أهمها: * التأكد مِن صحة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. * التأكد مِن صحة فهم النص، وفقهه.   (1) يُنظر تفصيل هذه المنهجية في: "السنّة النبوية: أهميتها ومنهج فقهها"؛ فقد فصّلتُ فيه المنطلقات والأُسس اللازمة لفقه حديث رسول الله ?. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 * ومما يعين في فهم النصوص: - مراعاة سبب ورود الحديث؛ لأن له دخلاً في تحديد المراد بالنص. - الوقوف على النص بتمامه، وبلفظه إن كان متاحاً. - الاطلاع على الروايات في الحديث. - جمع النصوص الواردة في المسألة الواحدة. - ربط الشرح بمواضع استنباطه مِن النص؛ فإنه مُعينٌ على الفهم. * استعذاب النص، وذلك بالنظر إلى من تكلم به؛ علماً بأن هذا الاستعذاب هو الذي يقود إلى فقه النص وحفْظه. * أن لا تأخذ النصوص على وجه السرد، بل على سبيل الدراسة المنهجية. * إيقانك أن الحق في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. * أن تنطلق من الثقة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الثقة يجب أن تسبق الدراسة، وتُتَرجَم هذه الثقةُ في أمرين يجب أن يظهرا فيه، هما: 1- الاعتقاد بأن الحق في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والصواب فيهما، وأنه ليس فيهما ما يضادُّ ذلك. 2- تحكيم الكتاب والسنة في فهمنا وفي أفعالنا وسلوكنا، وهذا نتيجةٌ للقناعة بالأمر الأول. وتطبيق هذا المعنى في باب الخلاف: أن تستشعر أن هذا الحديث والكلام هو حديث النبي عليه الصلاة والسلام؛ فمهما وضعنا بجانبه من كلام فلن يَرْقى إلى مستوى كلامه صلى الله عليه وسلم وما يجب له مِن الثقة، واعتقاد الحق المطلق، والاحترام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وأنْ نُحَكِّمَ نصوص الكتاب والسنة في المسائل الخلافية وفي كلام أئمّتنا، لا العكس؛ لأنّ الصحيح أن نأخذ أقوالهم-رحمهم الله تعالى في ضوء نصوص الكتاب والسنّة. هذا مع التسليم بأنهم إنما كان قصْدهم التماس الحق في هدايات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن لم يَكتب الله لهم العصمة. على أنه يجب علينا التأدّب مع هؤلاء الأئمة الفضلاء على كل حال. وبهذا التطبيق السليم نَسْلم من داء التعصب، الذي أضلّ أقواماً مِن الناس عن الحق. * أن تستشعر المنة والنعمة من الله عليك أَنْ صحّ لك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويَتْبع هذه المنهجية مراعاة منهجية تحصيل العلم في مختلف جوانبها الأخرى، وفيا يلي حديثٌ عن روافد تحصيل العلم والفقه، وعن القراءة باعتبارها الطريق لتحصيل العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 روافد تحصيل العلم والفقه لتحصيل العلم والفقه في الدين روافدُ. ومِن أهمّها ما يلي: - الانصراف للعلم بالقدر الكافي لتحصيل مهمّاته، وذلك مِن حيث الوقت والجهد والتفكير. - الأخذ عن متخصص متقنٍ، ممن تَوَجَّه في تحصيله للعلم إلى الفقه وتحرير مسائل التخصص وقواعده ومناهجه على الفهم السديد، لا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 مجرّد الاطّلاع أو الحفظ؛ لأن فاقد الشيء لا يُعْطيه. - القراءة الواعية بضوابطها المطلوبة فيها. وهذا الرافد مِن أهم روافد تحصيل العلم والفقه، وهي لا تَقِلُّ أهمّيةً عِن الأخذ على الشيخ أو المتخصص، وإن كانت لا تُغني عن ذلك. إلى آخر ما هنالك مِن روافد تحصيل العلم والفقه في الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 القراءةُ رافِداً مِن روافد العلم والفقه نظراً لأهميّة هذا الرافد مِن روافد تحصيل العلم والفقه، تَعَيَّن هنا أن تُخَصَّ ببيان شيءٍ مِن ضوابطها وقواعدها؛ كي تؤتي ثمارها؛ فمِن ذلك ما يلي: * الانقطاع للقراءة، واتّخاذها واجباً لازماً طوال العمر. * أن تقرأ وأنت على علمٍ بقدْر ما تقرأ، وتتقرب إلى الله بهذه القراءة. * أن تقرأ لتفهم، لا لتنتهي، ولا لتحفظ، فقط، وليكن الحفظ بعد الفهم، إذ ليست العبرة بأن تحفظ، أو تفهم فقط، ولكن أن تفهم وتحتفظ بما تفهم. * أن تعمل بما تقرأ. وهذا نتيجةٌ للإخلاص. * أن تُهَيِّئ نفسك للقراءة الأُولى؛ وذلك لأن مراعاة الجانب النفسي أمرٌ مهم في القراءة، ويتم لك هذا الأمر بمراعاة ما يلي: - أن تستشعر أنّ ما تقرؤه جديد عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 - أن تستثمر أول قراءة لك؛ لأن هناك فرقاً بين القراءة الأولى والقراءة الثانية، وما بعدها، فأنت بالقراءة الأولى ُتعبِّد الطريق لك في هذا المجال. - ينبغي أن لا تكون أولُ قراءة لك سريعةً أو سطحية. * ينبغي أن يكون معك ورقة وقلم حينما تقرأ؛ لِتسجِّل ما يَلْزَم تسجيله. * في حال قراءتك ينبغي أن تُرَشِّح معلوماتٍ مما تقرؤه، للاسترجاع في الوقت الضيق. * ينبغي أن تُحدِّد عناصر الموضوع الذي تقرؤه، ثم تَرْبط العناصرَ ببعضها. * أن تجتهد في أن تكونَ قراءتك قراءةً سليمةً موصلةً للعلم والفقه السديدين؛ وهذا يتطلب منك التعرف على مفاتيح العلم الثلاثة، وطريقة تحصيلها. وفيما يلي حديثٌ عن هذه المفاتيح، وعن طريقة تحصيلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 مفاتيح العِلْمِ الثلاثة"1" ليست مشكلةُ كثير من الناس أنهم لا يَطْلبون العلم، لكن المشكلة عندهم أنهم لا يأتون الأمْرَ مِن بابه، ومِن ذلك أنهم قد يبدأون بما ينبغي أن يؤخروه، أو يؤخرون ما ينبغي أن يُقدِّموه. ومِن هذا أن يتّجه أحدهم لطلب العلم بالدرس والقراءة وتَلَقِّي العلم مع أنه لم يُحَصِّل مفاتيح العلم الثلاثة التي   (1) كتاب: "كلمات في مناسبات"، للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 هي شَرْط تحصيل العلم، وهي: المفتاح الأول: أن تقرأ قراءةً صحيحةً. المفتاح الثاني: أن تكتب كتابةً صحيحةً. المفتاح الثالث: أن تَفْهم فهماً صحيحاً. ومَن لم يُحصِّل هذه المفاتيح الثلاثة أَوّلاً فإنه لا يمكنه تحصيل العلم بحالٍ. فهل يُدْرِك هذا الأمر المعلّمون والمربون والمتعلِّمون؛ فيتجهون إليه أوّلاً؛ فيُقَدِّمون المقدَّمَ أوّلاً ويؤخرون المؤخَّر؛ فينجحون في مهمتهم!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الطريقة المثلى لتحصيل مفاتيح العلم الثلاثة "1": لتحصيل مفاتيح العلم الثلاثة -السابق ذكْرها- طريقةٌ، مَن لم يأخذ نفسه بها فإنه لن يُحَصّلها، وتتلخص هذه الطريقة فيما يلي: الطريق إلى تحصيل المفتاح الأول-وهو: أن تقرأ قراءةً صحيحةً: إنّ الطريق لتحصيل هذا المفتاح هو أن تتعرف على صورة كل حرفٍ وتتدرب على قراءته مفرداً ومجموعاً مع بقية حروف الكلمة بشكلٍ صحيحٍ، لكنّ ذلك لا يكفي لأَنْ تقرأ القراءة الصحيحة؛ ولا يَتِم لك ذلك حتى تُلِمّ -فيما بعد- بالأساس مِن اللغة العربية نحواً وصَرْفاً-نظرياً وعملياً-بأنْ تتعرف على ذلك مِن كتاب جيدٍ مختار، وتدْرسه على يدِ شخص متقنٍ، بشرط أن تَجمع بين الإلمام النظريّ والتدريب العمليّ؛ فتقرأ بين يديه، ويتولّى توجيهك في نطق الكلمات-مِن حيث صفات الحروف ومخارجها، وضبطها الإعرابي-ويوَقّفك عند القراءة،   (1) كتاب: "كلمات في مناسبات"، للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ويسألك عن سبب الرفع والنصب والجر للكلمة؛ حتى يُصبح الطابع لقراءتك رفْعَ المرفوع ونصْبَ المنصوب وجرَّ المجرور، وهذا هو المفتاح الأول تماماً. الطريق إلى تحصيل المفتاح الثاني- وهو: أن تكتب كتابةً صحيحةً-: إنّ الإتقان لطريقة القراءة الصحيحة-نظرياً وعملياً-يُعَدُّ الشطر الأول للقيام بواجب الكتابة كتابة صحيحةً، ومعنى ذلك أنك إذا عرفت وتدربت كيف تقرأ قراءةً صحيحةً فقد خطوتَ نصفَ الخطوةِ لتكتب كتابةً صحيحةً. إنّ الطريق لتحصيل هذا المفتاح هو أن تتعرف على صورة كل حرفٍ وتتدرب على كتابته بشكلٍ صحيحٍ، ثم تتعرف على ربط الحروف مع بعضها بطريقةٍ صحيحةٍ، ثم تتعرف على قواعد الإملاء السليم نظرياً، وتتدرب على تطبيقها عملياً، ثم تتدرب على شيء مِن أنواع الخط وطُرق وضوحه وجماله؛ بحيث يؤدي كلُّ ذلك إلى أن تكتب كتابةً صحيحةً وواضحةً وجميلةً في الوقت نفسه. والشرط في التعرف على كل ذلك أن تعتمد على: - كتابٍ جيدٍ محرَّرٍ في الإملاء، وكتابٍ كذلك في الخط. - التدرب على يدِ شخصٍ متقنٍ للإملاء، وشخص متقنٍ للخط. الطريق إلى تحصيل المفتاح الثالث-وهو: أن تَفْهم فهماً صحيحاً-: إنّ تحصيل المفتاحين: الأول والثاني بإتقان يعني أنك قد خطوت نصف الخطوة لكي تفهم فهماً صحيحاً، لكنّ ذلك لا يكفي لأَنْ تفهم فهماً صحيحاً؛ وإنما عليك أن تخطُوَ النصف الباقي لتحصيل هذا المفتاح، وهو أن تُعنى بالفهم، ويُساعدك عليه العناية بما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 - الإلمام ببعض تراكيب اللغة وأساليبها، مِن الحقيقة والمجاز، والظاهر المراد والظاهر غير المراد، والأمثال في اللغة، وكل ما يَلزم مِن مباحث علم البلاغة. - الإلمام بالأساس مِن القواعد في أصول الفقه، والقواعد الفقهية. - الإلمام بالأساس في أصول التفسير. - الإلمام بالأساس في أصول الحديث. فإذا فعلتَ ذلك فقد أصبحت عارفاً بمدلولات الألفاظ والتراكيب، وعارفاً بعلوم الآلة-كما يُسمّونها-وبالعلوم المنهجية للفهم والتحقيق العلمي، وتستطيع، عندئذٍ، المشاركة في العلم والفهم، ويَسْهل عليك تحصيل العلم مِن بابه، وتُميّز بين الصحيح وغير الصحيح روايةً ورأياً. والموفق مَن وفقه الله تعالى، ومَن يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين. وبهذا يتضح أن كل مفتاح مِن هذه المفاتيح شرطٌ لتحصيل المفتاح الآخَر، على الترتيب المذكور. وكم من إنسانٍ وقع في اللحن أو الخطأ وهو لا يشعر، ويأتيه الخطأ من أربعة أمور، هي 1- الخطأ في حركة إعراب الكلمة. 2- الخطأ بإبدال حرف في الكلمة بغيره. 3- الخطأ بإبدال كلمة بكلمة. 4- الخطأ في المعنى بسبب الوقف والابتداء بما يحيل المعنى. وهو لا يستطيع أن يعرف خطأه ما لم يكن عنده إلمامٌ بالصواب في مجالاتِ الخطأِ هذه كلها، ولا يستطيع أن يُلِمَّ بتلك المجالات إلا بالعناية بتحصيل تلك المفاتيح الثلاثة اللازمة لطلب العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وربما قالت للإنسان نفسه: إن هذا طريق طويل لتحصيل العلم. والجواب كلاّ ليس هذا طريقاً طويلاً، بل الأطول منه طريق الجهل، والأطول منه كذلك إتيان العلم مِن غير بابه؛ فيُفْسد الإنسان، عندئذٍ، أكثر مما يُصْلح، ويَضِل ويُضِل، وقد قال الله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "1". ولا شكّ في أنّ تحصيل العلم بهذه الطريقة، يختصر كثيراً مِن الوقت على المتعلم والمعلم، إضافةً إلى الإتقان والضبط؛ فيحْصُلَ على ما يُريد بالضبط؛ فَدَعْكَ مِن أهل الظن والخلط والخبط!.   (1) 189: البقرة: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الخاتمه ... وختاماً: * ينبغي أن يَعْلم الإنسان أنّ "الهمّ - البرنامج - العمل"،كلُّ هذه أمور لابدَّ منها لتحصيل العلم، وللسير في طريق التوفيق والفقه السديد. * وأن يَعْلم أنّ الثواني والدقائق والساعات تسير بالإنسان إلى أجله، وإن لم يَسِرْ بها أو معها!. ونسأله تعالى أن يَجْعل هذه النقاط الواردة في هذا الفصل عن طرق المنهجية لتحصيل الفقه في الدين طريقاً عمليّاً مثمراً يتحقق به المطلوب. والله ولي التوفيق والسداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الفصل الرابع: نقاط في منهجيّة فِقْهِ الدِّين نقاط أساسية في منهجيّة فقْه الدِّين * ... نقاط أساسية في منهجيّة فقْه الدِّين فيما يلي أُوردُ عدداً من المنطلقات التي أعتقد أنها من الأهمية بمكانٍ للإلمام بموضوع الفقه في الدين فقهاً صحيحاً، وذلك في عددٍ من النقاط: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أوّلاً: يَلزمنا للوقوف على الحق والأخذ به أمور أهمها 1- صحة النيّة وصحة الغاية، ومن ذلك: صِدْقُ الرغبة في معرفة الحق، وإرادتِهِ. 2- الفهم، وأعني به القدرة على الفهم بدرجة كافيةٍ لإدراك معنى الكلام السليم، والتلقي عن رب العالمين ورسوله سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. 3- موافقة كلٍ من الفهم والعمل للشرع. وهذا يستلزم: صحةَ الطريق، والمنهجَ السديد - وهذا يتوقف على: صحة النية والقدرة على الفهم. 4- بذْل الجهد المطلوب والكافي للوصول إلى الحق والصواب. يقول ابن الوزير -رحمه الله- في أثناء تعداده لأوصاف من صُنّفت لهم التصانيف، وعُنيتْ بهدايتهم العلماء: " ... وهم من جَمَعَ خمسة أوصاف، معظمها: - الإخلاص. - والفهم. - والإنصاف. - ورابعها. -وهو أقلها وجوداً في هذه الأعصار-: الحرص على معرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الحق من أقوال المختلفين، وشدة الداعي إلى ذلك، والحامل على الصبر والطلب كثيراً، وبذْل الجهد في النظر -على الإنصاف ومفارقة العوائد، وطلب الأوابد- فإن الحق في مثل هذه الأعصار قلما يعرفه إلا واحد بعد واحد! وإذا عظم المطلوب قل المساعد! فإن البدع قد كثرت، وكثُرت الدعاة إليها والتعويل عليها. وطالبُ الحق اليوم شبيه بطلاّبه في أيام الفترة"1"، وهم: سلمان الفارسيّ، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأضرابهما -رحمهما الله تعالى- فإنهم قدوة الطالب للحق، وفيهم له أعظم أُسوة؛ فإنهم: لمّا حرصوا على الحق، وبذلوا الجهد في طلبه، بلّغهم الله إليه، وأوقفهم عليه، وفازوا [به] من بين العوالم الجَمّة، فكم أدرك الحقَّ طالبُهُ في زمن الفترة! وكم عميَ عنه المطلوب له في زمن النبوّة! فاعتبرْ بذلك، واقتدِ بأولئك؛ فإن الحق ما زال مصوناً عزيزاً نفيساً كريماً؛ لا يُنال مع الإضراب عن طلبه، وعدم التشوّف والتشوّق إلى سببه! ولا يهجم على المبطلين المعرضين! ولا يُفاجِئ أشباه الأنعام الغافلين! ولو كان كذلك ما كان على وجه الأرض مبطل ولا جاهل، ولا بطّال ولا غافل! وقد أخبر الله تعالى أنَّ ذرْء جهنم هم الغافلون، فإنا لله، وإنا إليه راجعون! ما أعظم المصاب بالغفلة، والمغْتَرَّ"2" بطول المهلة!! """3".   (1) أيْ فترة انقطاع الرسل. ويقصِد بها الفترة التي سبقت بعثة نبينا محمد ?. (2) مراده التعجب مِن عِظَم مصيبةِ المصاب، لا مِن المصاب نفسه، ولكن جاء تعبيره هكذا بتجوِّزٍ، رحمه الله تعالى. (3) ابن الوزير، "إيثار الحق على الخلْق":24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ثم قال ابن الوزير مستكمِلاً أوصاف المذكورين: - "خامسها -وهو أصعبها-: المشاركة في العلم أو في التمييز والفهم لأهل الطبقة الوسطى"1" ومن يقاربهم في المنزلة""2". ولابدّ من الاستعانة بالله تعالى فنِعْمَ المعين. يقول ابن الوزير-رحمه الله تعالى-: "مع الدعاء واللّجَئِ إلى الله تعالى، وما أقرب نفْع هذا مع خلْق القلوب على الفطرة، وكثْرة موادّ هدايته! كما ذكره في آية النور"3"، وقال تعالى: {إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} "4" فأكّد ذلك بمؤكِّدين اثنين، كما تقول: إنّ زيداً لقائم. وقال {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيل} "5" هذا للخلْق عموماً. وللمؤمنين خصوصاً: {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَه} "6"، إلى غير ذلك.   (1) لعلَّه يقصدُ بهم المتوسطين في التحصيل، وهذا مقياسٌ يختلف فيه الأمر بالنسبة لعصرنا. (2) ابن الوزير، "إيثار الحق على الخلْق": 27. (3) يَقْصِدُ قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، 35: سورة النور: 24. (4) 12: الليل: 92. (5) سورة النحل:9. والمعنى هو: إنه تعالى - مِن رحمته بعباده - قد تكفّل لهم إيضاح السبيل القاصدة، وهي الطريق المستقيمة، وهي الصراط المستقيم الذي هو أقرب الطرق وأخصرها إيصالاً إلى الله وإلى كرامته، بخلاف الطريق الجائرة في العقائد والأعمال، التي لاتوصلُ إلى الله تعالى! يُنظر: ابن سعدي في التفسير، سورة النحل، بتحقيق محمد زهري النجار: 3/25، والأصبهاني، في "مفردات ألفاظ القرآن"،مادة: قصد. (6) 11: التغابن: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وإنما يؤتى أكثر الخلْق من كفرهم بآيات الله البينة، وبطلبهم غيرها، كما قال تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِن آيِةٍ بِيِّنَةٍ وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةِ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} "1"؛ فلْيُحذر كل الحذر من عدم القنوع بما قنع به السلف من حجج الله تعالى، ويا له من تخويف شديد ووعيد عظيم! ""2".   (1) 211: البقرة: 2. (2) ابن الوزير، "إيثار الحق على الخلْق":23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ثانياً: العِلْم وهو إمّا نقْلٌ صحيح"1" عن النبيّ المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهذا هو دليل الرواية والنص. وإمّا فهْمٌ صحيح، وهذا هو دليل العقل، أو الدليل العقليّ، الذي جاءت النصوص الشرعية بالأخذ به والاعتداد به. والرأي والفكرة إمّا أن يقوم عليهما دليل نصيٌّ، أو دليل عقليٌّ، أو يقوم عليهما الدليلان. والقاعدة المطّردة في هذا هي أنْ لا تَعَارُضَ، بحالٍ، بين كلٍ من دليل النقل والعقل؛ فمتى ما ثبت دليل النقل فدليل العقل يؤيده، إن كان له فيه مجال، وإلا سَلّمَ العقل للنقل الصحيح عن المعصوم!. ومتى ما ثبت دليل العقل، فدليل النقل الصحيح يؤيده!.   (1) يُنظَر: ابن تيمية، مقدّمة في أصول التفسير، بيروت، ط. الثانية،1392هـ -1972م، تحقيق عدنان زرزور، ص33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ولا معاداة بين العقل والنقل؛ وإنّ الذين يُقيمون عِداءً أو تعارضاً موهوماً بينهما يَنْقصهم الدليلُ، فإن كانوا ممن يتخذ العقل أصلاً في الاستدلال فإن أصلهم يردُّ عليهم! وإن كانوا ممن يتخذ النقل أصلاً في الاستدلال فإن أصلهم يردُّ عليهم أَيضاً!. إن هؤلاء الذين يُعادون نصوص الكتاب والسّنَّة بدعوى الاستمساك بأحكام العقل السليم، وهؤلاء الذين يُعادون العقل بدعوى الاستمساك بنصوص الكتاب والسّنَّة، إنّ هؤلاء وهؤلاء جميعاً يُعْييهم أن يُقيموا دليلاً صحيحاً من نصوص الكتاب والسّنَّة أو استدلالٍ عقليّ سليم، يُثبت صحة دعواهم هذه أو مسلكِهم هذا، فأين يذهبون؟!. ويرى بعض الفضلاء أنّ هذا الذي ذكرته في هذه الجزئية ليس على إطلاقه، ولكن في أمور، وأما في أمورٍ أخرى فينظر إلى القواعد الأساسية: منهج المحدِّثين، والمؤرخين؛ فهناك أشياء نقلية-في رأيه-لا يمكن التدليل مباشرة على صحتها، وهناك أشياء عقلية لا نصوص فيها"1".   (1) د. سعيد بن إسماعيل الصيني، في تعليقله مشكوراً على مسوّدات هذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ثالثاً: عدّتنا في فهم الكتاب والسنّة إن عدّتنا في فهم الكتاب والسّنَّة ثلاثة أُمور أساسيّة، هي: 1- نصوص الكتاب والسّنَّة. 2- فقْه اللغة العربية"1". 3- الفهم، والعقل، وما يقتضيه هذا من وضوحِ منهج التدبر والنظر والبحث. فعلى الإنسان أن يدرك أنه قادرٌ على الفهم مطلقاً، متى ما سلك الطرق الموصلة إليه، المتنوّعة بحسب تنوِّع المراد فهمه. ولعل في قوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ... " "2"، دليلٌ وشاهدٌ، حيث جعل شيخ الإسلام ابن تيمية التفقهَ في الدين-أي فهْمه- فرضاً، ولا يمكن أن يُفْرض شيء وهو مستحيل.   (1) وذلك لأنها وعاء العلم، ولغة الكتاب والسنّة. ومِن طُرُق تحصيلها الآتي: - كثرة حَلِّ التدريبات، وممارسة التحدث باللغة، وذلك على يدِ متخصص متقن. - العناية بالإملاء وعلامات الترقيم. - التعرف على أساليب اللغة، والتدرب على ممارستها، ومما يفيد في ذلك العناية بعلم البلاغة. - محاولة تذوّق اللغة قراءةً وسماعاً وكتابةً. - تحفيز الذهن، للتمييز بين الخطأ والصواب في استعمال الألفاظ والأساليب اللغوية. - القراءة في الكتب التي اعتنت ببيان وجْه الخطأِ فيما يُستخدم مِن ألفاظٍ وأساليب في العصر. (2) أخرجه البخاري في مواضع مِن صحيحه، منها: 3-كتاب العلم، باب 10، وباب13، وأخرجه مسلم، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 والعموم في قوله: "مَنْ"، دليلٌ على أنّ كل أَحدٍ قابلٌ لأن يكون ممن أراد الله به الخير، طالما وُجِدتْ القابلية لدى كل إنسانٍ بحسبه -من حيث القسمة الإلهية للقُدُرَات العقلية، التي يكون عليها الحساب يوم القيامة-. ويبقى بعد ذلك رغبةُ الإنسان المطلوبة لتحصيل الفهم هي التي تُحَدِّد مقدار ما يُحَصِّله مِن الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولن يُحصِّل بعد ذلك إلا ما كتبه الله له، وسيسره الله لما خلقه له. مِن أهم الجوانب التطبيقية في مجال فقْه الدّين، العناية بطُرُق التدبر للنصوص؛ وذلك لأن التدبر للنصوص هو السبيل للفقه السديد، وهناك أمران مهمّان، مِن هذه الطرق التطبيقية في هذا المجال، هما: - الأوّل: التأمل طويلاً في الموضوع، وأن يَتَذَكر الآيات والأحاديث ذات العلاقة به، وأن يتأمله في ضوئها كلما مرّ بها، أو طرقتْ سمعه في أوقات ومناسبات متعددة، فإنّ من شأن ذلك أن يفتح له أبواباً من الفقه للنصوص تلك، وأبواباً لفقه الموضوع قد تخفى عليه لو لم يسلك هذا المسلك. - الآخَرُ: النظر في الموضوع عن طريق حصر ما ورد فيه من نصوص قرآنية ونبوية، بطرق الاستخراج الصحيحة للنصوص في الموضوع، فإن من شأن هذه الطريقة أن تعود على المرء بأمور مهمة من الفقه للنصوص وفقْه طبيعتها، وفقْه الموضوع، أيضاً، في ضوء النصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 رابعاً: تيسير الله معرفة الحق، والعمل به ومِن يُسْر هذا الدين أن الله تعالى إذا أوجب أمراً على عباده، فإنه يُيسر معرفته ومعرفة وجوبه لكل من أراده بإخلاص وسعى إلى معرفته"1". والمنهج الصحيح لطلب العلم، أو التوصل إلى معرفة ذلك الواجب، والالتزامِ به، يتحقق باتّباع الأسس الآتية: 1- التثبت من الرواية. 2- التثبت من الرأي. 3- العمل بالثابت منهما. 4- اتّخاذ الكتاب والسّنَّة مُحتَكَماً يُصْدَرُ عنه في كلٍ مِن: المقاصد، والأحكام، والآراء، والأفعال، والأقوال. وقد يَرِد -بعد هذا- استشكالٌ"2" فيما إذا تعددت الصوَرُ المقبولة، أو تعارضت؛ فأيها نأخذ؟. والذي يبدو في هذه الحال أنه لا إشكال، طالما أن الصوَر كلها مقبولة، حتى ولو تعارضت؛ لأن ذلك مِن قبيل تعارُضِ المصالح؛ فتكون مِن قضايا الاجتهاد التي لا حرج فيها بحسب المنهج الشرعي. ودليل هذا الأصل-أعني تيسير الله معرفة الحق والعمل به، لكلّ راغبٍ   (1) يُنظَر: ابن الوزير، "إيثار الحق على الخلْق":34. (2) أَوْرَدَ هذا د. سعيد صيني في تعليقه على مسوّدات الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فيه- ما يلي: 1- قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّف اللهُ نَفْساً إلا وُسْعَها} ، فهي تقرر أن كل ما يقع تحت دائرة التكليف الشرعيّ؛ فإنّ في وسع الإنسان فعله والأخذ به، ومن التكليف الأمر بالإخلاص، والتواضع، وطلب العلم إلى آخر ما هنالك. 2- قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين يُسْرٌ، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه ... ". فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين يُسْرٌ" فـ"أل" هنا للاستغراق؛ لتشمل الدين كله "الأقوال، والأعمال: عمل القلوب، والجوارح". وتأمل التنكير في " يُسْرٌ"، ولم يحدد نوع اليسر؛ ليشمل اليسر كله فهو: - يُسْرٌ في التعرف عليه وإدراكه - يُسْرٌ في العمل به. - يُسْرٌ في الدعوة إليه. 3- والكلام هنا مبناه -أيضاً- على سنةٍ من سنن الله، وهي أن الإنسان إذا رغب في أمرٍ وسعى لتحصيله من بابه، وبَذَل الجهدَ الواجب لتحصيله، أدركه بعد توفيق الله له. 4- دلالة الواقع، حيث إن أهل الفترة لَمّا أرادوا الحق بصدق وُفِّقوا لمعرفته والعمل به، وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لَمّا أرادوا الحق، وسعوا في طلبه، وُفِّقوا لمعرفته والعمل به. ولكن ينبغي أن لا يَغْتَرّنّ مُغْتَرٌّ بهذا اليسر؛ فيقعد ولا يقدم الجهد المطلوب شرعاً، إذ أنه رغم يسر معرفة الحق والعمل به، لمن أراده بصدق؛ ينبغي ألا ننسى مثل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُوْلُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة". وجَمْع النصوص في هذا المقام هو الذي يصحح الفهم، ومن ثمَّ يستقيم العمل. وقد أعجبتني مقولة أحدهم: لا تَقُلْ عن أمرٍ ما: أنه صعب، ولكن قلْ: يحتاج لجهد كبير. وهذا التقرير فيه ردٌّ على مسلكٍ مخطئ يرتكبه البعض، وهو الكلام في بعض المسائل الشرعية، كالإخلاص، وطلب العلم، ونحوهما، مع تضمين الكلام القول بأنه صعب المنال، ولا يكاد يصفو لأحد، وقليل من الناس مَن يدركه، إلى آخر ما يقال، والأولى -والله أعلم- تيسير المطالب الشرعية للناس، مع دلالتهم على الطريق لتحصيلها؛ ليرغبوا فيها ويسْعوا إليها بعد ذلك كل بحسبه، "وكلٌّ ميسّرٌ لِمَا خُلِق له". ومما يدل على خطأ هذا المسلك مع ما سبق: الواقع المشاهد، حيث أنه لو ذهبت لتقنع شخصاً بأمر ما، وتبين له أهميته، ووسائل تحصيله، ثم قلت له بعد ذلك، لكن هذا الأمر صعب إدراكه عزيز مناله، لَمَا أقبلت نفسه عليه رغم أهميته. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا" "1"، وقد يكون الدافع مِن وراء هذا المسلك في طريقة العرض لقضايا الدين، كالإخلاص والتفقه في الدين، مثلاً، إنما هو الرغبة في تحريص الناس على الأخذ بهذا الأمر، وبيان نفاسته؛ ليَجِدُّوا في تحصيله، لكنَّ صحة هذه الغاية لا تستلزم صحة الوسيلة التي مارسها البعض للترغيب في تحصيلها.   (1) البخاري، 69، العلم، وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 والقاعدة أنه كلما عَظُم الأمر في الدين، كلما كان بيانه أوفى، والدعوة إليه، ووسائل تحصيله أكثر، والأخذ به أسهل، وذلك كأركان الإيمان، والإسلام، فهي يدركها الكبير والصغير، والجاهل والمتعلم. وهذا المسلك المخطيء يناقض طبيعة الإسلام، وكَوْنَهُ يمكن تطبيقه في واقع الناس، الأمر الذي هو خصيصة من خصائص الإسلام الكبرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 خامساً: العلم بما تَقُوم به دلالة الدليل يتعيّنُ العلم بأنّه ليس لأحدٍ حجة في الرأي أو في الرواية إلا بشروط، فإذا توافرت هذه الشروط قامت الحجة وإلا فلا. فالرواية لا تقوم بها الحجة إذا لم تَثْبُتْ. والرواية لا تقوم بها الحجة إذا لم تُفهَمْ على وجهها، أو لم تُنزّل على معناها. والرأي لا تقوم به الحجة في مخالفة الكتاب والسّنَّة. والرأي لا تقوم به الحجة في القول بغير علم. والرأي لا تقوم به الحجة، ولا اعتداد به، في الزيادة والنقص في الدين. إِذَنْ قد تصحّ الرواية وقد لا تصحّ. وفي حال صحتها قد يصح الاستدلال بها-في موضعٍ ما-وقد لا يصح، وذلك تبعاً لصحة فهمها وعدم صحته. والرأي قد يصح وقد لا يصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فلكلٍ من الرأي والرواية ميزان شرعيّ ينبغي أن يُعْرف به مدى صحة الاستدلال بكلٍ منهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 سادساً: هناك نوع من النقل لا يلزم فيه التثبت دائماً على الرغم من وجوب التثبت، بصفةٍ عامّة، إلا أن هناك نوعاً من النقل لا يَلْزم فيه التثبت دائماً، وذلك كالمواعظ عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم، فإن الموعظة المقصود بها الوعظ - بغضّ النظر عن قائلها: صحابياً أو تابعياً أو شخصاً آخر- فلا ينبني، في الغالب، على ثبوتها عن فلان أو عدمه، فائدة كبيرة. المهم أنْ تؤخذ الموعظة في ضوء هدْي الكتاب والسّنَّة. وهذا بخلاف ما إذا كان الغرض هو النظر في ثبوت هذه الموعظة أو تلك عن فلان، على أن الموعظة عن صحابيّ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن إمام أحياناً أوقع في النفس منها عن غيره. وإذا دخلت الموعظة فيما ليس للرأي فيه مجال شرعاً فإنها لا يُطبّق عليها هذا التسامح في النقل، بل لابدّ حينئذٍ من التثبت في النقل والعرض على هدْي الكتاب والسّنَّة. وهكذا لو جاء حديثٌ ضعيف بمعنىً قد استقرَّ في الشريعة بحديث آخر صحيح أو أحاديث أو آية أو دليل آخر شرعيٍّ؛ فإنّ ضعْف ذلك الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 عندئذٍ لا يُبْطِل صحة ذلك المعنى الوارد في الحديث الضعيف. على أنّ عدم التثبت في هذا النوع مِن الروايات، لا يَعني عدَمَ العناية بفهمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 سابعاً: القناعة بأهميّة الاجتهاد في فهم النصوص الحاجة قائمة إلى الاجتهاد في فهم النصوص الشرعية في مجالاتٍ متعددة، ولاسيما في: - محاولة الفهم لبعض النصوص التي ظاهرها التعارض. - محاولة فهم نصٍ استُشكِل فهمه، ولو عند بعض الناس. - محاولة تدبُّر النصوص بعامّةٍ، والاستنباط منها، واستجلاء هداياتها. - محاولة تحكيم النصوص في مستجدات الإنسان من القضايا والمشكلات، أي محاولة تطبيق أحكام النصوص ومعانيها على الواقع. فمما يلزم للقيام بهذا الواجب أن تتوافر القناعة بأهميّة الاجتهاد في فهم النصوص الشرعية، والقناعة بأن كلاً من هذا الاجتهاد والفهم المطلوبين ممكِنٌ تحقيقهما في الواقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ثامناً: التنبه إلى دلالات اللغة، ودِقَّة التعريفات - من أبواب الفهم والفقه المهمة، التي ينبغي لطالب معاني النصوص الشرعية أن يتنبه لها، مسألة دلالة اللغة، وتعريف الأشياء والمعاني والمصطلحات. - ومن ذلك التنبه -في باب دلالة اللغة وتعريف الأشياء والمعاني- إلى التفريق بين التعريف على طريقة الحدّ، والتعريف بذكْر وصفٍ أو أكثر من أوصاف المعرَّف. فتعريف المعرَّف على طريقة الحدّ من شأنه أن يَحُدّ المحدود بتعريف جامعٍ مانعٍ، يُدخِلُ المعرَّف ويُخرج غيره؛ فيكون التعريف مطّرداً. - بخلاف التعريف بذكر شيء من الوصف، أو الجزء، أو النوع، أو المثال، فليس هو بتعريف لغويّ، ولا يكون بالضرورة مطّرداً. والتمييز بين هذا وذاك بابٌ مهم من أبواب الفقه السديد للنصوصِ ولكلامِ المتكلم بصفة عامّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 تاسعاً: التنبّهُ إلى التفريق بين كلٍّ من الرأي والرواية ينبغي للمتدبر للنصوص الشرعية، والقارئ في تفسيرها وشرحها أن يتنبه -في أثناء ذلك- إلى ما يأتي: - التفريق بين الرأي والرواية؛ فلا يَضَعُ أحدهما في مكان الآخر. - التفريق بين الثابت وغير الثابت من الروايات؛ فلا يُنزّل ما لم يَثْبُت منزلة الثابت. - التفريق بين ما يصح وما لا يصح من الآراء. - التفريق بين ما لا يُقبَلُ من الموضوعات والآراء إلا عن طريق الرواية، وما يُمكن معرفته بالرأي. - التنبه إلى أهمية أخْذ النصوص الشرعية كلها، وعدمِ الاقتصار على ما يوافق هواه منها، ويدَعُ ما سوى ذلك، كحال مَن يميل إلى التشديد، وكحال مَن يميل إلى التساهل، مثلاً ... إذ الغالب أنّ كلاًّ منهما يميل إلى ما يوافق طبعه، وقد يتخير مِن الدِّين ونصوصه ما يوافق طبعَهُ كذلك. - وعليه أن يتدرّب على هذا تحت إشرافِ مُلِمٍّ به -نظرياً وعملياً- ناصحٍ. - وإذا ما أدرك الإنسان حقيقةَ هذا الموضوع فإنه يكون قد أتقن باباً واسعاً من أبواب الفقه وتحصيل العلم وفهْم النصوص الشرعية فهماً سديداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 عاشراً: القناعة بعدم تعارُضِ النصوص الشرعية - الاختلاف بين النصوص الشرعية الثابتة إنما يحصل في الظاهر لا في الحقيقة؛ إذْ لا تعارُضَ بين النصوص الشرعية أصلاً، لكنه قد يحْصل التعارض في الذهن. وما كتبه العلماء في هذا الباب إنما هو لحلِّ ذلك التعارض في الظاهر. - وإزالةُ التعارض في الظاهر بين النصوص، إنما يكون بالرجوع إلى القواعد الصحيحة المعتمدة في فهم نصوص الكتاب والسّنَّة. - وإزالةُ التعارض وحلّ الإشكال هذان يجب أن لا يكونا زيادةً أو نقصاً، وإنما هو محاولةٌ للفهم الصحيح للنص. وإنما يزول استشكال فهْم النصوص بإنزالها على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الحادي عشر: إعْمالُ عمومات أَلفاظ الكتاب والسنّة إذا أردت أن تفهم الكتاب والسّنَّة، فهماً صحيحاً، فعليك بأمور، منها: أن تُعْمِل عمومات نصوص الكتاب والسنّة في مواضعها المرادة؛ فلا تُقَيِّدْ نصوص القرآن والحديث المطْلقة إلا بأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تُخَصِّصْ عامّها إلا بأمر الله ورسوله، أي بمقتضى آيةٍ أو حديثٍ ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عكْس ذلك أيضاً؛ فما يدل الدليل على تخصيصه، فليس لأحدٍ مِن دون الله ورسوله أن يجعله عامّاً-ويُدْرَكُ تخصيص النصوص هذا عن طريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 النص أو الاجتهاد، ولكنه الاجتهاد في فهم النص، وليس الاجتهاد مع النص- فما كان فيهما من مقيَّد أو خاصّ فلا تجعلْه مطْلقاً ولا عامّاً. بل انْزِلْ أنت على حُكم الله ورسوله ولا تتجاوزْه، ولا تختلط عليك وظيفة الفهم ووظيفة التغيير والتبديل!! ولا وظيفة الاختراع!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الثاني عشر: أنواع الاختلاف الاختلاف نوعان: 1- اختلاف تنوُّع لا اختلاف تضادّ. 2- اختلاف تضادّ. وهذا هو الذي يحتاج إلى الترجيح. أما اختلاف التنوّع فلا يحتاج إلى الترجيح؛ لأنه من قبيل اختلاف العبارات لا اختلاف الاعتبارات"1". وطالب العلم الفقيه، والداعية الفقيه، يُفرّقان بين هذين النوعين من الخلاف، ولا يخلطان بينهما. ولكلٍّ من النوعين من الخلاف في موضعهما فوائد يُقدّرها طالب العلم الفقيه"2".   (1) يُنظَر: طاهر بن صالح الجزائريّ،"توجيه النظر إلى علم الأثر":5. (2) يُنظَر: طاهر بن صالح الجزائريّ،"توجيه النظر إلى علم الأثر":5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الثالث عشر: التعارض بين النقل والعقل إذا تعارض العقل مع النقل فلا يخلو الأمر من أحد ثلاثة أمور: 1- إما أن يكون النص غير صحيح. 2- أو يكون العقل غير سليم. بأن يكون مجنوناً، أو معتوهاً. 3- أو يكون الفهم غير سليم. وذلك لأن الله تعالى قد أناط التكليف بالعقل؛ فالنقل الصحيح لا يتعارض مع العقل السليم. وإنما نعني بدليل العقل: استدلالَ العقل المؤمن السليم. هذا من الناحية النظرية التي ينبغي أن يتطلّبها الراغب في الحق والصواب. أمّا من الناحية التطبيقية، فَجُلُّ الناس يدّعي ذلك، أو يستطيعه، ولكنّ العبرة بالمصداقية، وبمراعاة المعايير المطلوبة لهذا العقل السليم، وهي سلامته من الانحراف عن الفطرة التي فطره الله عليها بأيّ مؤثّرٍ من المؤثرات الخارجية: مِنْ هوى، أو اعتقاد، أو وسَطٍ يعيش فيه الإنسان يَصْرفه عن الجادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الرابع عشر: إدراك المراد بالحجة العقلية ينبغي التأكيد على ملحوظة هامّة في باب الدعوة إلى الأخذ بحُكم العقل والنقل، وهي: إن المراد بالدعوة إلى الأخذ بحكم العقل هو: إعمال العقل في موضعه المأذون له شرعاً بالعمل فيه. ومعنى ذلك أننا لا نُعْمل العقل في ما لا مجال له فيه إلا بالتسليم، ولا قُدْرة له فيه إلا التلقّي، وهو أمران: - مجال الغيب؛ "لأن الواجب فيه التسليم لما ثبت منه عن الله ورسوله بأي درجةٍ من درجات الثبوت وفق منهج المحدثين". - ما لا يُعْلم إلا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم. "ويثبت بأي درجة من درجات الثبوت، كذلك، وفق منهج المحدِّثين". - ويلتحق بهذين نظرُ العقل حينما يزيغ بسببٍ عارضٍ محرّم، كما لو تأثر العقل بالهوى مثلاً. وإن كان نظرُ العقل بالهوى قد يصادف الحق من حيث لا يريده؛ فيكون الحق عندئذٍ مقبولاً، وتصرُّف العقل مردوداً، لكنه قد يبقى عندئذٍ غيباً بالنسبة للآخرين ما لم تدل عليه قرائن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الخامس عشر: مؤدَّى إبطال دليل العقل إنّ إبطال دليل العقل إبطالٌ لدليل القرآن، وإبطالٌ لمعجزة القرآن؛ لأن أدلة القرآن معظمها عقليّة، ومعجزته معظمها عقليّ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 السادس عشر: خطأُ ذمِّ الرأي مطلقاً قد يعمُد بعض الناس إلى ذمّ الرأي والتقليل من شأن العقل سداً للذرائع إلى مخالفة الكتاب والسّنَّة! وهذه نظرة مخطئة؛ لأن سدّ الذرائع ينبغي أن لا يُفْضي إلى إبطال الشرائع. والشرعُ قد أَمَرنا أن نُفكّر بالعقل، لا أن نُلْغيه سدّاً للذرائع!! ويضاف إلى هذا أن النقل لا يَثبت إلا بإعمال العقل؛ وإلا فإنّ علينا أن نقبل كثيراً من الأحاديث الموضوعة المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم"1".   (1) من تعليقات أخي د. سعيد الصيني على الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 السابع عشر: المقصود بذَمِّ السلف للرأي قد جاء عن بعض السلف أقوال في ذمّ الرأي، ويبدو من ظاهِر تلك الأقوال عنهم ذمُّ الرأي مطلقاً. وليس الأمر كذلك؛ إذْ لو كان هذا صحيحاً وكان هذا هو مرادهم من ذمّ الرأي، لكان معناه قفْلَ باب الاجتهاد، وإلغاء إعمال العقل. والأدلةُ الشرعية قائمة على عكس هذا! وإنما مرادهم من ذلك، والله أعلم، ذمه في حال الاقتصار عليه، أو ترجيح كفته على النقل الثابت؛ ويتحدد وجْه ذمهم للرأي فيما يلي: 1- ذمّ الرأي إن كان مخالفاً للكتاب والسّنَّة. 2- أو ذمّ الرأي في أمر مخصوص، وهو: أ- في حال استخدامه في القول على الله بغير علم. ب- في حال استخدامه للزيادة والنقص في الدين. هذا هو توجيه كلامهم، رحمهم الله تعالى، على ما تقتضيه النصوص، ولو صح -فرَضاً- عن أحدٍ من السلف النهيُ عن استخدام العقل مطلقاً، لوجب علينا ردُّه والأخذ بحُكم نصوص الكتاب والسّنَّة المؤكِّدة على استخدام الرأي والعقل! لقد دلت أدلة الكتاب والسنّة على وجوب التسليم للحق، والصدق، وعلى قبول الخبر الثابت عن الله ورسوله، وعلى وجوب إعمال العقل والأخذ بمقتضى حكم ذلك، وهذه كلها، في الجملة، يَعْتمِد الأخذ بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ومراعاتها على إعمال العقل. وقد ورد في الكتاب العزيز كثير من الآيات التي تأمر بهذا، ومنها، على سبيل المثال: - قوله تعالى: { ... لعلكم تتفكرون} "1"، وقوله تعالى: {..أفلا تتفكرون} "2". ووردت لفظة: "يتفكرون" في آيات من القرآن مكررة: 11مرة. - ووردت لفظة: "يعقلون"، و"لا يعقلون" في القرآن: 22 مرة. - ووردت لفظة: "تعقلون"، و"لا تعقلون" في القرآن: 24 مرة. - ووردت لفظة: "تذكّرون"، و"لا تتذكرون" في القرآن: 20 مرة. - ووردت لفظة: "يتذكرون"، و"لا يتذكرون" في القرآن: 7 مرات. وكلُّ ذلك دعوةٌ إلى استخدام العقل والتعقل والتذكر، وبيانٌ لعاقبة ذلك وعاقبة ضدِّه، وبيانٌ لأهميّة الاستناد إلى الدليل الصحيح، واحترامه. فهل بعد هذا يصح أن يقال شيء من الذمّ المطلق للعقل والرأي باسم الشرع أو الكتاب والسنّة؟!. وتتلخص الأدلة، التي يُعْتمد عليها في النفي أو الإثبات، إلى الأنواع التالية: 1- أدلة منقولة ثابتة عن الله ورسوله. 2- أدلة عقلية تعتمِد على الاستقراء والاستنباط. 3- أدلة محسوسة، كالقول بأن هذا ذَكَرٌ أو أنثى- لإنسان أمامنا، أو لطفلٍ، أو لِجَنين-. وقد جاء الشرع والعقل بالتسليم لهذه الأدلة وعَدَمِ مكابرتها أو تجاهلها.   (1) 219 و266: البقرة: 2. (2) 50: الأنعام: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الثامن عشر: مراعاة مقاصد الشريعة وهداياتها نحن في حاجة إلى المنهجية السديدة المطّردة في فقه نصوص الوحي الإلهي، ولابدّ أن يكون من سِمات هذه المنهجية مراعاة مقاصد النصوص وهداياتها، إلى جانب مراعاة ألفاظها. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وإذا عُلِم مقصود الشرع سُلِك أوصلُ الطرق إليه"1"!. وهذه نظرة منهجية صحيحة فريدة، ولا تجتمع هذه النظرة والظاهرية بحالٍ، ولا تجتمع مع النظرة التجزيئية "عكس النظرة الكلية" بحالٍ.   (1) هذا نصٌّ حفظته من كلامه - رحمه الله تعالى - وغاب عنّي الآن موضعه من كُتبه، ولم أجده بعد البحث عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 التاسع عشر: إدراك عاقبة الصواب والخطأِ في منهج الدعوة إن الذي يدعو إلى هُدى الله ونوره وَفق منهج سليم وخُلُق فاضل، إنسانٌ يؤيده في دعوته نصوص الكتاب والسّنَّة وهدْيهما، والعقل والفطرة، ومثْلُ هذا سعيه مشكور مقبول عند الله وعند عباده، ولاسيما الصالحين. ومثْل هذا الداعية لا يدعو في الحقيقة وحده، وإنما يُسانده الكتاب والسّنَّة والعقل والفطرة، وقد جعل الله تعالى هذه كلها شواهد الحق في الخلْق؛ فحريٌّ بهذا أن ينجح ويُفلح! هذا على الرغم من أنه قد يخْطيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 المحكِّم للكتاب والسنّة اجتهاداً، كما يدل عليه حديث: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" "1". وأما من يدعو إلى الله وفق منهج غير شرعيّ: - كالذي يدعو بخُلُقٍ سيّئٍ.- أو يتجه إلى التهجم على الناس. - أو يتجرَّأ على الحُكم على نيّات الناس وما تخفيه صدورهم. - أو ينتهج ضِيْقاً في النظرة. أو أيّ ابتعادٍ عن مقاصدِ الدعوة الشرعية، وأحكامِها. مَن يَفعل ذلك، فإنه بخروجه هذا يُعاكِس: الكتاب، والسّنَّة، والعقل، والفطرة؛ فتصبح هذه كلها جنوداً ضده! فكيف يُفْلح مَنْ هذا حاله؟! حريٌّ بهذا أن لا يكون مشكوراً ولا مقبولاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا عند الله ولا عند الناس!   (1) البخاري، ح6805، الاعتصام بالكتاب والسنّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 العشرون: ضرورةُ العقل إلى الرسالة المحمّدية قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ""فبمحمد صلى الله عليه وسلم تبين الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، والنجاة من الوبال، والغيّ من الرشاد، والزيغ من السداد، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقون من الفجّار، وإيثار سبيل من أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، من سبيل المغضوب عليهم والضالين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فالنفوس أحوج إلى معرفة ما جاء به واتّباعه منها إلى الطعام والشراب؛ فإن هذا إذا فات حصل الموت في الدنيا، وذاك إذا فات حصل العذاب! فحقٌ على كل أحدٍ بذْل جهده واستطاعته في معرفة ما جاء به وطاعته، إذْ هذا طريق النجاة من العذاب الأليم، والسعادةِ في دار النعيم. والطريقُ إلى ذلك الرواية والنقل؛ إذْ لا يكفي مجرّد العقل. بل كما أن نور العين لا يَرى إلا مع ظهورِ نورٍ قدّامه، فكذلك نور العقل لا يهتدِي إلا إذا طلعتْ عليه شمس الرسالة!. فلهذا كان تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام، وكان معرفة ما أمر اللهُ به ورسولُهُ واجباً على جميع الأنام"""1".   (1) شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، مجموع الفتاوى:1/5 - 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الفصل الخامس: أمثلةٌ تطبيقية على موضوع الفقه في الدِّين * ... لعلَّ مِن المناسب، أن أسوق، فيما يلي عدداً مِن الأمثلة التطبيقية لبعض المفاهيم التي تقررت في موضوع: الفقه في الدين وفي الدعوة؛ إذْ مِن المعلوم أنه بالمثال يتّضِحُ المقال. وفي هذه الأمثلة الآتية مناقشةٌ لفهْم بعض الأحاديث على غير وجهها، أو مناقشةٌ لبعض المفاهيم المخطئة في هذا الباب، وتقريرٌ للفهم الصائب بحسب ما سبق تقريره مِن المنهجية في هذا الموضوع. والمرجوّ أن يكون في هذا تذكيرٌ ونفعٌ، بإذنه تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 المثال الأول: وقفةٌ عند حديثٍ لفقْهه من أسباب الخطأ في فهم النصوص: أن تُفهم فهاً ظاهرياً، في حين أنه غير مقصودٍ فيها. ومن الأمثلة على هذا: - ما يمكن أن يُفْهَمَ عليه حديث: "من رأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ.." "1". فبعض الناس يَفْهم هذا الحديث فهماً ظاهرياً بعيداً عن المراد به، بل يتعارض مع أصل المعنى المراد بالحديث، أو المسوق له الحديث، ويتعارض مع هَدْي الإسلام ومع نصوصه الأخرى، ومع العقل. هذا الفهم الظاهري الخطأ هو: حَمْل الحديث على ظاهره غير المراد، وهو أن المسلم مطلوب منه تغيير المنكر في أُولى المراتب باليد، فإن لم يستطع   (1) مسلم، 49، الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه. وعلى الرغم من أهمية التغيير باليد في الموضع الذي يُحْتاج فيه عقلاً وشرعاً إلى التغيير بها، إلا أن هذا التغيير باليد على ذلك الفهم ليس هو المراد بالحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الأدلة على أنّ هذا فهْمٌ للحديث غير صحيح: ومما يدلّ على أن هذا الفهم ليس هو المراد بالحديث ما يأتي: 1- لأن الله تعالى قد أمر بالدعوة إليه بالحكمة -كما دعانا إلى الحكمة في كل شيء على مقتضى ما جاء به هذا الدين من أحكام وتوجيهات-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . {إِذَهَبَا إِلَى فِرْعَونَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَولاً لَيِّناً ... } . وليس من الحكمة التغيير دائماً باليد، بل قد يترتب عليه مفاسد أكبر. ولو استعرض المرء النصوص في أدب الدعوة، وتغيير المنكر، وطُرُق ذلك، لأدرك -بيقين- أن فَهْم الحديث على هذا المعنى خروج عما تقضي به تلك النصوص. 2- ولأن حمْل الحديث على هذا المعنى الخطأ يتعارض مع أصل المعنى الذي جاء من أجله الحديث، وهو تغيير المنكر: " من رأى منكم منكراً فليغيره ... "، فالمقصود هو تغيير المنكر، وهذا يقتضي أن يترسم الإنسان هَدْي الإسلام في تغيير المنكر، وأن يراعي الغاية الشرعية من هذا، وذلك يوجب على من يتولى هذا التغيير أن يأخذ بالأسباب، والطرق، والوسائل، اللازمة لتحقيق هذه الغاية. فالمقصود من الأمر بالتغيير إزالة المنكر، لا إبقاء المنكر، ولا تثبيته بأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 سبب، أو إحداث منكر أكبر منه. ومن المعلوم أن التغيير باليد مباشرة، مع عدم الحاجة لها، كثيراً ما يُحْدِث: فتنة، أو إصراراً من صاحب المنكر على منكره، أو يُحْدِث منكراً أكبر منه؛ فإذا كان التغيير باليد ينتج عنه مثل هذه المنكرات التي هي أعظم من المنكر المأمور بإزالته؛ فكيف يُتصوّر أن يأمر الرسول به صلى الله عليه وسلم في تلك الأحوال؟! كيف يُتصوّر أن يأمر بعمل المنكر وهو ينهى عن إقرار المنكر؟! لقد فُهِم الحديث خطأ، ونسي بهذا الفهم ما ينبغي مراعاته في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وقد قيل: "ليكن أمرك بالمعروف، بالمعروف، ونهيك عن المنكر غيرَ منكر" "1". 3- ولأن من المعلوم عقلاً أن الإقدام على إزالة المنكر باليد دائماً في كل الأحوال، مع عدم الحاجة لها ممجوج في العقول والفِطَر، فَيَستغرب العاقل من الإقدام على إِعمال اليد لمنعه من خطأ ارتكبه مع عدم الحاجة لها. ومثل هذا لا يأمر به الدين، ولا يدعو إليه سيد المرسلين. 4- ومن المعلوم أن الواجب على الداعي والمحتسب، أنه إنما يَلجأ إلى الشدّة في موضعها وعند الحاجة لها، وإذا لم تكن لها حاجة فمن الخطأ ومن المنكر أن يلجأ الداعية لاستخدامها، ويُتصوّر هذا حتى في حق منْ له ولايةٌ أو سلطان، فمثلاً لو أخطأ ابنك فهل من المقبول أن تبدأ مباشرة بضربه ليقلع عن الخطأ في حين أنك لم تَنْهه، ولم تَقُلْ له بخصوص هذا الخطأ شيئاً، وكان   (1) ابن تيمية، "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:، بيروت، دار الكتاب الجديد، 1396هـ-1976م، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، ص: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بالإمكان أن تمنعه بكلمة. على أنه لا يكفي دائماً المنعُ، بل لابدّ من التوجيه والبيان، فهل التغيير باليد مقبول أو معقول في هذه الحال؟!. والحديث قد رتّب التغيير حسب الاستطاعة، فقال: "فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ... ". وقد تبين لنا الآن أنه حتى المستطيع الذي له سلطان أو ولاية لا يصح في حقه اللجوء إلى التغيير باليد مباشرة دائماً. إذا كان الأمر على ما ذكرتُ؛ فما معنى هذا الحديث؟ وما الفهم الصحيح إِذَنْ؟ ولماذا جاء هذا الترتيب في الحديث؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 معنى الحديث : يتلخص الجواب عن هذا التساؤل في أَحدِ معنيين: الأول: هو أن الحديث مسوق لبيان وجوب تغيير المنكر، ولَمّا كان هذا هو المقصود، وهو التغيير، بَيْنَ وسائل التغيير، ورتّب تلك الوسائل حسب قوّتها في إزالة المنكر، ولَمّا كان المقصود بيان ما يُغيّر المنكر بدأ بأقواها ثم بما بعدها ... وأبان الحديث -إلى جانب بيان هذه الوسائل- أن الأمر مرتبط بالاستطاعة، فلا ينبغي أن يُلجأ إلى هذه الوسائل إلا حسب الاستطاعة، وليس معنى ذلك أن كل من توافرت له الاستطاعة لاستخدام وسيلةٍ منها فله أن يُقْدم عليها، كلاّ، لأن الاستطاعة شرط للتغيير، وليست هي كل الشروط، إضافةً إلى أن الاستطاعة عامّة، لا تقتصر على القدرة البدنية، وإلا فكل الناس لهم أيدٍ!!. يتبين بهذا أن الحديث قد جاء لترتيب وسائل التغيير حسب القوّة، ولم يأت لترتيب مراحل التغيير، أو لترتيب خطوات من يريد التغيير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 والخَلْط بين هذين الأمرين، مِن أهم أسباب الخطأ في فهم هذا الحديث، وعدم إدراك هذه الحقيقة. الثاني: هو أن المقصود باليد في الحديث هنا ليس هو الظاهر- وهو إعمال اليد- وإنما المقصود التغيير الفعليّ، سواءٌ كان باليد أو باللسان، ولكن عبَّر باليد للدلالة على التغيير الفعليّ، وهذا على حد قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} "1"، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} "2"، فكثيراً ما يأتي التعبير بنسبة الكسب والفعل إلى اليد، وإن لم تعمله اليد، والمعنى أنه من عمل الإنسان، ويؤيد هذا المعنى واقِعُ الحال بالنسبة للمنكرات والأخطاء؛ إذْ ليست كلها مما يَقْبل إعمال اليد؛ لأن بعضها قوليٌّ، وبعضها قلبيٌّ ... ونظير هذا ما جاءت به النصوص من التعبير بالأكل عن أخذ المال بالباطل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ... } "3"، ومعلوم أن صرف هذا المال الحرام، في الأكل، أو في غيره سواءٌ في الحكم، وإنما جاء التعبير بالأكل لكثرته أو للكناية عن أَخْذه بأي صورةٍ من الصور.   (1) 30: الشورى: 42. (2) 41: الروم: 30. (3) 10: النساء: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 جوابٌ آخر عن هذا التساؤل في معنى الحديث: ويُمْكن أن يقال: الجواب هو أن هذا الترتيب الوارد في الحديث غير مرادٍ، على أيِّ حالٍ؛ وقد ورَد في اللغة العربية، وفي استعمالات الشرع، كذلك، ومِن ذلك استعمال لفظة "ثمّ"، في غير الترتيب، مع أنها موضوعةٌ في أصل معناها في اللغة للترتيب. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في فقه الأحاديث الواردة في المفاضلة بين الأعمال -بعد أن ذكر عدداً من الآراء-: ""فإن قيل: فقد جاء في بعض هذه الروايات أفضلها كذا، ثم كذا. بحرف "ثم"، وهي موضوعة للترتيب. فالجواب: أن "ثم" هنا للترتيب في الذِّكر، كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ"12"فَكُّ رَقَبَةٍ"13"أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ"14"يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ"15"أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ"16"ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ"17"} "1". ومعلوم أنه ليس المراد هنا الترتيب في الفعل، وكما قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا ... } ، إلى قوله {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} "2"، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ   (1) 12-17: البلد: 90. (2) 151-154: الأنعام: 6. ونصُّ الآيات كاملة هو: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) } . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ} "1". ونظائر ذلك كثيرة وأنشدوا فيه: قل لمن ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده"""2".   (1) 11: الأعراف: 7. (2) شرح مسلم، للنووي، 2/78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 أَسباب الخطأِ في فهم النصوص: للخطأِ في فهم النصوص أسباب، لعل مِن أهمها ما يلي: - عدمُ إدراكِ المقصود بلفظةٍ فيه: إنّ مِن أهمّ أسباب الخطأ في فهم النصوص عدَمُ إدراك المعنى المقصود بلفظةٍ فيه، كما هو الشأن في هذا الحديث في تغيير المنكر؛ إذْ لم يَفهم بعضهم المقصود باليد فيه. الذهول عن المراد بالوصف العارض: ومن أسباب الخطأ في فهم النص التي ينبغي التنبه لها، كذلك، كون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الحديث -مثلاً- مشتملاً على وصفٍ ليس مقصوداً لذاته، فعند سماع الحديث أو قراءته، ومعرفةِ ما فيه من ثواب أو مدْحٍ -للعامل الذي ذَكَرَ الحديث، عَرَضاً، ذلك الوصف له- يظن السامع أو القارئ أن الثواب والمدح له إنما هو من أجل ذلك الوصف العَرَضيّ. في حين أن الأمر ليس كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أمثلةٌ للأوصاف العارضة في الأحاديث: قد جاءت الأوصاف المذكورة عَرَضاً في عدّة أحاديث، ومن الأمثلة لذلك الأحاديث التالية: الحديث الأول: ما يمكن أن يُفهم عليه حديث: "رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ" "1"؛ فَيُظن أن هذه المنزلة بسبب الشعث والدفع بالأبواب، في حين أنّ الأمر ليس كذلك. الحديث الثاني: الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ؛ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ؛ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ   (1) مسلم، 2622، البر والصلة والآداب، و2854، الجنة وصفة نعيمها وأهلها. عن أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 يُشَفَّعْ" "1". فَيُظن أن هذا المدح له إنما هو بسبب شَعَث واغبرار القدمين، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، وإنما جاء هذا وصفاً عارضاً. الحديث الثالث: حديث: أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُبَاهِي الْمَلائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثاً غُبْراً""2". فيُظن أن الشعث والغبرة أيضاً هما السبب في هذه المغفرة!. لكن الأمر ليس على هذا المعنى في جميع هذه الأحاديث. ومن ثم لم يطّرد هذا الفضل والثواب في حديث: أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّباً، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ؛ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ! ""3".   (1) البخاري، ح2673، الجهاد والسير. (2) أحمد، 7986. وأخرجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، برقم 7049. (3) مسلم، ح1686، الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الحديث الرابع: 2- ما فُهِم عليه حديث: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؛ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا" "1". فقد ظن كثير من الناس أن هذا في الدنيا، وأن معناه أن الله تعالى يحب هذه الرائحة الكريهة، تقدَّس ربنا. وقد فهموا هذا الفهم من الحديث على الرغم من أن الحديث ليس فيه ذكرٌ لمحبة الله لها، بل إنني لم أقف على شيءٍ مِن هذا، إلا ما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: "خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ، أَوْ قَالَ: أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ" "2". لكن هذه الرواية فيها ما يأتي: - ليس فيها التصريح بالرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. - جاءت بالشك في لفظة: "أحب إلى الله". والقاعدة أنه إذا جاءتنا روايةٌ على الشك، وجاءتنا روايات بالجزم، رَدَدْنا   (1) البخاري، الجامع الصحيح ... ، نسخة "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، لابن حجر: ح1894. وأخرجه مسلم في صحيحه، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: ح1151، والترمذي في سننه، بترقيم أحمد شاكر ومن معه: 764، والنسائي في سننه، بترقيم عبد الفتاح أبو غدة: ح2211، و2212،و2213، 2215، و2216، و22172234، وابن ماجة في سننه بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي: ح1638، وأحمد في مسنده، في عدة مواضع. (2) أخرجه أحمد في المسند، 8366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 التي على الشك إلى التي لا شكّ فيها. وكذلك إذا جاءتنا رواية موقوفة مخالفة للمرفوع حَكَمْنا بالمرفوعة على الموقوفة. فليس في الحديث نصٌ على أن هذا الخلوف أطيب عن الله في الدنيا، بل ذلك قد فُهِمَ منه خطأً، ويدل على الصواب الرواية الأخرى: "أطيب عند الله يوم القيامة" "1"، ويَدُل عليه كذلك الحديث عن دم الشهيد: "الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ" "2"، وكذلك النصوص الأخرى في المعنى. وإنما ذُكِرَ الشعث والغبرة، وخلوف فم الصائم، للإشارة إلى علامةٍ من علامات الصدق، وذلك بتحمّل الأذى، والمشاق، والمكاره، في سبيل مرضاة الله تعالى. فليس المقصود في هذه الأحاديث: مدْح تلك المكروهات لذاتها. أو الحث عليها، أو الدعوة إليها. أو الدعوة لاتخاذها بمفردها علامة على إخلاص الإنسان وصدقه. كيف وقد جاءت الشريعة بالنظافة بمعانيها المتعددة الحسيّة والمعنوية، والدعوة إليها، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله جميل يحب الجمال" "3". ولقد أراد بعض الصحابة أن يتأكد مِن النبي صلى الله عليه وسلم مِن مفهوم الكِبْر؛ خوفاً مِن   (1) مسلم، 1151، الصيام، وأخرجه غيره. (2) البخاري، 2803، الجهاد والسير. (3) مسلم، 91، الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أن يكون منه عناية الإنسان بمظهره؛ فأخبره أنّ ذلك ليس منه؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ". قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَناً، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ، يُحِبُّ الْجَمَالَ. الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ" "1".   (1) وهو الحديث السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 المثال الثاني: مِن الفقه في الدِّين وفقه الدعوة إليه من الفقه في الدِّين وفقْه الدعوة إليه مراعاة الخصوصيات، ومِنْ ذلك أنني لم أَرَ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرّح في خطبةٍ عامة ببعض الأحكام الخاصة المتعلقة مثلاً ببعض موجِبات الغسل، وموجِبات إقامة حدّ الزنى، ولم أره مصرِّحاً بذلك إلا في أحد موضعين: - عند إقامة الحدّ وما يترتّب على ذلك من إزهاق نفسٍ مؤمنة. - عند بيان الحكم لمحتاج إليه، كسائلٍ أو مستفتٍ أو صاحبِ حالٍ واقعةٍ؛ فيبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم واضحاً وصريحاً بقدر ما يوضِّح له حكم الله تعالى. فقلت لنفسي أين كثير من الخطباء، والمعلمين الناسَ دروس الفقه، الذين يخطبون في الناس في هذه الموضوعات كما لو كان أحدهم يحقق في إقامة حدِّ الرجم على شخصٍ معيَّنٍ، أو يوضِّح لمستفتٍ في الموضوع لا يفهم إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 بالتصريح، أين هم من هذا الهدي النبوي!. إننا في حاجة إلى وقفةٍ فاقهة للأسلوب الصحيح لتعليم ديننا، بحيث نُصْلح ولا نُفْسد، ونختار: إما الدرس وإمّا التلاميذ؛ فليس كل موضوع يَهُمُّ كل الناس، وليس كل درس يناسب كل الناس، وليس كل الناس يناسبهم كل درس. وبعض الذين يسلكون المسلك الآنف الذكر في التعليم والدعوة، لو قلتَ له مثْلَ هذا، لقال لك: إن تعليم أحكام الله واجب. أو: لا حياء في الدين. إلى آخر ما هنالك من العبارات الواردة على هذا النحو التي يَخْرج بها قائلها عن الموضوع الذي نحن بصدده كليّاً!!. نَعَمْ هناك أحاديث قد تدلُّ في ظاهرها على هذا المعنى الذي يَذهب إليه مَن يَسْلك هذا المسلك، مثل قول عائشة، رضي الله عنها: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ" "1". ومثله ما في الحديث أنه: "جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ؛ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ". فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ- تَعْنِي وَجْهَهَا-وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ تَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟. قَالَ: "نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ! فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا! ""2". ونحو هذه الأحاديث. لكن الأمر ليس على هذا الفهم- الذي يَستدِل بمثل هذه الأحاديث على   (1) علّقه البخاري في صحيحه، بصيغة الجزم، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، وأخرجه ابن ماجه، 642، الطهارة وسننها. (2) البخاري، 130، العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ذلك المسلك-وذلك لأن هذه الأحاديث قد جاءت في دائرة مقامَيِ التصريح السابق ذكرهما اللذين يُصَرّح فيهما بمثل هذا. على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس في كلامه هنا شيءٍ مِن التصريح الذي يَستدل له أصحاب هذا المسلك. وأما السائلة، فإنها تسألُ عن حكمٍ مِن أحكام الله لا يمكن لها أن تَعْرفه إلا بالتصريح بتلك العبارات، على أنها قد تأدبت في سؤالها، وقدّمتْ بين يدي سؤالها تلك العبارة المؤدّبة. فلا حجةَ على ذلك المسلك. فإلى الفقه والحكمة أيها الخطباء، ويا أيّها المعلمون والمدرسون، حَفِظَكم الله ورعاكم، وإلى الاقتداء بسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتربية والتعليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 المثال الثالث: مناقشةُ مسألة الاجتهاد في وسائل الدعوة قد ذهب ببعضِ الناسِ الفهمُ إلى أنّ وسائل الدعوة توقيفية؛ مستدلين بأنّ الدعوة عبادةٌ، والعبادة توقيفية، وأن الدِّين قد كَمُل، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم بيّنَ البيان المبين"1". لكن هذا الفهم يحتاج إلى مناقشةٍ، وبيانٍ للصواب الذي تَدُلُّ عليه النصوص الشرعية ومقاصدها معاً. وفيما يلي وقفاتٌ مختصرة عند هذا الرأي: - قد يَختلط أمران على القائلين بأنّ وسائل الدعوة توقيفية، هما: الأول: كون المنهج في الدعوة توقيفياً.   (1) قد أوْضح حكم الوسائل "، إيضاحاً شافياً د. مصطفى مخدوم في: "قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية في الشريعة الإسلامية"، الرياض، دار إشبيليا،1420هـ-1999م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الثاني: القول بأن وسائل الدعوة توقيفية-بمعنى اشتراط الدليل الخاص لكل وسيلة، وعدم الاكتفاء بدلالة عموم النصوص الشرعية، وسائر الأدلة-!. وشتان بين الأمرين؛ فالقول الأول معناه الاتّباع في الدعوة وعدم الابتداع. والقول الثاني معناه قفْلُ باب الاجتهاد في أمْرٍ شَرَع الله فيه الاجتهاد، وهو وسائل الدعوة؛ ولا يَصِحّ أن يُقْفل باب الاجتهاد الذي شَرَعه الله تعالى بحجة الاتّباع، كما لا يَصِح إلغاء الاتّباع بحجة القول بالاجتهاد. - مما يُرَدُّ به على القول بأن وسائل الدعوة توقيفية، المطالبة بالدليل في موضعِ البحث والنظر؛ فهل مِن دليلٍ يَنُصُّ على هذا الفهم؟ أو هو فهم يَدَّعي صاحبه أنه حُكْم الشرع فقط؟. إنه ليس مِن دليلٍ سوى نصوصٍ عامّة قد يستدل صاحب هذا القول بعمومها، نَعَمْ عمومها فقط، العموم الذي لا يتعارض مع القول بالإطلاق في وسائل الدعوة- في دائرة الضوابط الشرعية- وذلك لقيام الدليل على تخصيص هذا العموم في هذه الناحية من الموضوع. - إننا قد نَعْجب من الاتجاه إلى القول بأن وسائل الدعوة توقيفية، في حين أننا لم نر دليلاً واحداً من الكتاب أو السنة يأمر بأن ندعو إلى الله تعالى بوسيلة محدّدة، وإنما جاءت الأدلة بالأمر بالدعوة مطلقاً، أو الأمر بالدعوة مقروناً بالنصِّ على منهج الدعوة المطلوب، أو أسلوبها المطلوب، أو غايتها. وأما ما سوى ذلك فلم نَرَ دليلاً واحداً يأمر به، أو يحدده، أو ينص أن الدعوة فيه توقيفية؛ فلماذا نذهب إلى هذا التوقيف في غير موضعه الشرعي؟! لماذا ندّعي أن الحكم الشرعيّ هنا توقيفيٌّ مع عدم قيام الدليل الشرعيّ؟! بل إنّه يعارض الدليل الشرعيّ!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 إن الذين يريدون أن يجعلوا وسائل الدعوة توقيفة يريدون -من حيث يشعرون أو لا يشعرون- أن تتوقف الدعوة!. إنهم بهذا الفهم يعارضون دليل الشرع!. كما أنهم يعارضون سنة الله الكونيّة، فيُعارضون سنة الله المتجددة المطّردة في الخَلْق. إنهم يعارضون الفطرة التي فطر الله عليها عباده، من الرغبة في مواكبة الجديد والتطور، حتى إن النفوس تميل مع الجديد غالباً، فتحب أن تطّلع عليه، وأن تجارِيَهُ في كثيرٍ مِن الأحيان، ولو كان مُضِرّاً أو مشتملاً على شيء من الضرر. لكن الشرع جاء بالميزان الصحيح؛ فلم يُحَرِّم هذه الفطرة، ولم يُلْغها، كما أنه لم يَنْسَقْ معها، ولم يجعلها وحدها هي الدليل على حكم الشرع. - إن الذين يزعمون بأن وسائل الدعوة توقيفية، يُشارِكون، مِن حيث لا يشعرون، في هزيمة الدعوة، وفي القعود بها عن التأثير المطلوب أن يكون على مستوى العصر، وعلى مستوى إمكانات العصر، وعلى مستوى ما جعله الله تعالى مِن جديدٍ مفيدٍ في باب الوسائل يُسْرِع بالداعية إلى التأثير السريع والفعال في المدعوّ، فيوفّر عليه في الوقت والجهد، وبه يتحقق له الهدف والنتيجة المطلوبة. - إن هؤلاء الذين يزعمون بأن وسائل الدعوة توقيفية يُضْعِفون الدعوة أمام الدعوات إلى الأديان والمبادئ الأخرى، التي اسْتَخْدَمَتْ مستجداتِ العصر في عالم الاتصال؛ فَنَفَذَتْ بباطلها إلى القلوب والعقول. وهذه الملاحظات، كلها، تجتمع في هذا الرأي المُحَجِّرِ واسعاً، ومع ذلك يَتَّجه إليه البعض، بدعوى تحكيم الكتاب والسنّة، على الرغم مِن أنه تَبيّن أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 لا دليلَ عليه مِن الكتاب والسنّة، بل أدلة الكتاب والسنّة تردّه. فَتَبَيّن بهذا أهمية الفقه، وأهمية إصابة الحق والصواب في النظر والاجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 المثال الرابع: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد جعله الله واجباً مِن أهم الواجبات، لكن للقيام به صفةٌ شرعية، إذا لم تتوافر فإن الإتيان به على غير وجْهها لا يكون أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر"1". وقد جعل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على درجات، حسب استطاعة الآمر الناهي، فهو يكون: تارةً بالقلب، وتارةً باللسان، وتارةً باليد. فأما القلبُ فيجب بكل حال، إذ لا ضَرَر في فعله، ومَنْ لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وذلك أضعف الإيمان""2"، وقال: "ليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل""3".   (1) ينظر في هذا وما يأتي في هذا الموضوع: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، للإمام ابن تيمية، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، بيروت، دار الكتاب الجديد، ط. الأولى، 1396هـ-1976م. (2) مسلم، 49، الإيمان، بلفظ: أضعف الإيمان. (3) أخرجه مسلم مِن حديث آخر عن ابن مسعود: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? قَالَ مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) . 50، الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وقيل لابن مسعود رضي الله عنه: "مَنْ ميّتُ الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا يُنكر مُنكراً". وهذا هو المفتون، الموصوفُ بأنّ قلبه كالكوز مجخِّياً، في حديث حُذيفة ابن اليمان، رضي الله عنهما، في الصحيحين: "تُعْرَضُ الفِتنُ على القلوب عرضَ الحصير ... " الحديث"1".   (1) مسلم، 144، الإيمان، وأحمد، 22769. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 مسالك الناس في تَنَكُّب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وقد انقسم الناس، الذين أخطأوا تجاه القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى فريقين: الفريق الأول: مَن يترك ما يجب عليه مِن الأمر والنهي؛ تأويلاً لهذه الآية: {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} "1". الفريق الثاني: مَنْ يريد أن يأمر وينهى- إما بلسانه وإمّا بيده- مُطْلقاً، من غير فِقْهٍ، ولا حلمٍ، ولا صَبْرٍ، ولا نظرٍ فيما يَصْلح من ذلك وما لا يَصْلحُ، وما يَقْدر عليه وما لا يَقْدر، كما في حديث أبي ثَعْلَبَة الخُشَني: سألتُ عنها   (1) 105: المائدة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 -أي الآية السابقة- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المُنْكَر، حتى إذا رأيتَ شُحّاً مُطاعاً، وهوىً متَّبعاً، ودنيا مؤثَرةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه، ورأيتَ أمراً لا يَدَان لك به، فعليك بنفسك، ودَعْ عنك أمر العوام؛ فإن من ورائِك أيّامَ الصبرِ، الصَبْرُ فيهِنّ مثل قبْضٍ على الجمر، للعامل فيهنّ كأجْرِ خمسين رجلاً يَعْملون مثل عمله" "1". فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع لله ولرسوله، وهو مُعْتَدٍ في حدوده، كما نصب كثير من أهل البدع والأهواء نفسه للأمر والنهي، كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم، ممن غَلِط فيما آتاه الله من الأمر والنهي والجهاد وغير ذلك، وكان فساده أعظمَ من صلاحه. وكلٌّ مِن الفريقين مخطيءٌ؛ وذلك لما يأتي: - لأن الله تعالى قد أوجب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وما استدلَّ به الفريق الأول استدلالٌ غير صحيح؛ لِما فيه مِن اقتصارٍ على بعض النصوص الشرعية عن البعض الآخر، ولِما فيه مِن تأويلٍ غير صحيح. ولقد خَطب أبوبكر في الناس؛ لتصحيح هذا التوهّم، كما جاء في الحديث فقال في خطبته: "أيّها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} "2"، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإنّي سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ الناس إذا   (1) الترمذي، 3058، وأبو داود، 4341، وابن ماجه، 4014، وبينها اختلافٌ يسير. (2) 105: المائدة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 رأوا المنكرَ فلم يُغيّروه، أوشك أن يَعُمهم اللهُ بعِقابٍ منه" "1". - ولأن الله تعالى، الذي أوجب القيام بهذا الواجب، قد أَمر أن تُراعى فيه صفاتٌ أو شرائط؛ فمَن لم يأتِ بها لا يكون أتى به حقيقةً، وإنما صورةً. ومِن ذلك مراعاة العِلم والدليل، والحكمة، والرفق واللين، ورعاية المصالح ودفع المفاسد المعتبرة شرعاً، والصبر على الأذى.   (1) ابن ماجه، 4005، الفتن، وأحمد، 1، و17، و54. وبينها اختلافٍ يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ولا يكون عمله صالحاً إنْ لم يكن بعلمٍ وفقه، كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "مَنْ عَبَد الله بغير علم كان يُفسد أكثر مما يُصْلح"، وكما في حديث مُعاذ بن جبل رضي الله عنه: "العلم إمامُ العمل، والعمل تابِعُهُ". وهذا ظاهر؛ فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلمٍ كان جهلاً، وضلالاً، واتّباعاً للهوى -كما تقدم-. وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام. فلابد من العلم بالمعروف والمنكر. والتمييز بينهما. ولابد من العلم بحال المأمور وحال المنهي. ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي على الصراط المستقيم، والصراط المستقيم أقربُ الطرق، وهو الموصل إلى حصول القصد. - ولابد في ذلك من الرفق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيء إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ذ زانه، ولا كان العُنْف في شيءٍ إلا شانه" "1"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويُعطي عليه ما لا يُعطي على العُنْف" "2". - ولابد أيضاً أن يكون حليماً، صبوراً على الأذى؛ فإنّه لابد أن يَحْصل له أذىً، فإن لم يَحْلم ويصبر فإنه يُفسد أكثر مما يُصْلِح، كما قال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} "3". ولهذا أمر الله الرُسُل -وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بالصبر، كقوله لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة، فإنّه أول ما أُرسل أُنزلت عليه سورةُ: {يا أيّها المدّثّر} ، بعد أن أُنزلت سورة: {اقرأ} ، التي بها نُبّئ. - فقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ "1" قُمْ فَأَنذِرْ "2" وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ "3" وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ "4" وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ "5" وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ"6" وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ "7"} "4". - فافتتح آيات الإرسال إلى الخَلْق بالأمر بالإنذار، وختمها بالصبر. - ونفْس الإنذار أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر؛ فعُلم أنه يجب بعده الصبر. - وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} "5". - وقال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} "6".   (1) أحمد، 25181، لكن بلفظ: (مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلا زَانَهُ وَلا عُزِلَ عَنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ) . (2) مسلم، 2593، البر والصلة والآداب، وعند البخاري: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) . 6927، استتابة المرتدين. (3) 17: لقمان: 31. (4) 1-7: المدثر: 74. (5) 48: الطور: 52. (6) 10: المزمل: 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 - وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} "1". - وقال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} "2". - وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ} "3". - وقال: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} "4". فلابد من هذه الثلاثة: العلمُ، والرفق، والصبر. - العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه. - والصبر بعده. - وإن كان كلٌّ من الثلاثة لابد أن يكون مستصْحَباً في هذه الأحوال. وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السَلَف، ورووه مرفوعاً، ذكره القاضي أبو يعلى في "المعتمد": "لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا مَنْ كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمرُ به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه" "5". "وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أو المستحبّات لابُدّ أن تكون المصلحةُ فيها راجحة على المفسدة. إذْ بهذا بُعثتِ الرُسُل، ونَزَلت الكتب، والله لا يحبّ الفساد، بل كلُّ ما أَمَرَ الله به هو صلاح.   (1) 35: الأحقاف: 46. (2) 48: القلم: 68. (3) 127: النحل: 16. (4) 115: هود: 11. (5) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للإمام ابن تيمية، ص18-20، و28-31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذمَّ الفساد والمفسدين في غير موضع. فحيثُ كانت مفسدةُ الأمر والنهي أعظم من مصلحته، لم يكن مما أمر الله به، وإن كان قد تُرك واجبٌ وفُعل مُحرّم؛ إذ المؤمنُ عليه أن يتّقي الله في عباد الله، وليس عليه هُداهم. وهذا من معنى قوله تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} "1". والاهتداء إنما يتمّ بأداء الواجب؛ فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قام بغيره من الواجبات، لم يضرّه ضلال الضالّ""2".   (1) 105: المائدة: 5. (2) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للإمام ابن تيمية، ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 موقف الناس من هذه الشروط : ولْيُعلمْ أن اشتراط هذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يوجب الصعوبةَ على كثيرٍ من النفوس؛ فيظنّ أنه بذلك يَسْقط عنه؛ فَيَدَعه. وذلك مما يضرّه، أكثرَ مما يضرّه الأمرُ بدون هذه الخصال، أو أقلّ. فإن ترْك الأمرِ الواجبِ معصيةٌ. وفِعْل ما نهى الله عنه في الأمر معصية. فالمنتقل من معصية إلى معصية كالمستجير من الرمضاء بالنار، أو كالمنتقل من دِيْنٍ باطلٍ إلى دِيْنٍ باطلٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 قد يكون الثاني شراً من الأول، وقد يكون دونه، وقد يكونان سواء. فهكذا تجد المقصِّر في الأمر والنهي، والمعتدي فيه؛ قد يكون ذنْبُ هذا أعظمَ، وقد يكون ذنْبُ ذاك أعظمَ، وقد يكونان سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 المعاصي سبب المصائب، والطاعة سبب النعمة : ومن المعلوم -بما أرانا الله من آياته في الآفاق، وفي أنفسنا، وبما شهد به في كتابه -أنّ المعاصي سبب المصائب. - فسيئات المصائب والجزاء: هي من سيئات الأعمال. - وأنّ الطاعة سببُ النعمة. - فإحسان العبد العمل سببٌ لإحسان الله. - قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} "1". - وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} "2". - وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} "3". - وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} "4".   (1) 30: الشورى: 42. (2) 79: النساء: 4. (3) 155: آل عمران: 3. (4) 165: آل عمران: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 - وقال: {أوْ يوبِقْهُنّ بما كسبوا، ويَعْفُ عن كثير} "1". - وقال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} "2". - وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} "3".   (1) 34: الشورى: 42. (2) 48: الشورى: 42. (3) 33: الأنفال: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 مراعاة الموازنة بين المصالح والمفاسد إذا تعارضت : وجماعُ ذلك داخل في القاعدة العامّة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيّئات، أو تزاحمت، فإنّه يجب ترجيحُ الراجح منها؛ فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارَضت المصالح والمفاسد. فإن الأمر والنهْيَ -إنْ كان مَتَضمِّناً لتحصيل مصلحة ودَفْع مفسدة -فيُنظَرُ في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرَّماً، إذا كانت مفسدتُه أكثرَ من مصلحته. ميزان تقدير المصالح والمفاسد هو ميزان الشرع: لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قَدِرَ الإنسانُ على اتِّباع النصوص لم يَعْدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تُعْوِزَ النصوصُ مَنْ يكون خبيراً بها، وبدلالتها على الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 مثال للموازنة بين المصالح والمفاسد: وعلى هذا إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرّقون بينهما، بل إمّا أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً = لم يَجُزْ أن يؤمروا بمعروف، ولا أن يُنهوا عن مُنْكر، بل يُنظر: - فإنْ كان المعروف أكثر أُمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر. - ولم يُنْهَ عن مُنكرٍ يستلزم تفويت معروفٍ أعظمَ منه، بل يكون النهي حينئذٍ من باب الصَدّ عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وزوال فعل الحسنات. - وإن كان المنكر أغلب، نُهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف، المستلزم للمنكر الزائد عليه، أمراً بمنكرٍ، وسعياً في معصية الله ورسوله. - وإنْ تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان؛ لم يؤمر بهما ولم يُنْهَ عنهما. فتارةً يَصْلح الأمرُ. وتارةً يصلح النهي. وتارة لا يصلح أمرٌ ولا نهيٌ حيث كان المعروف والمنكر متلازمين. وذلك في الأمور المعيَّنة الواقعة. وأما مِن جهةِ النوع: فيؤْمر بالمعروف مطلقاً، ويُنهى عن المنكر مطلقاً. وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمَرُ بمعروفها ويُنهى عن منكرها، ويُحمد محمودُها، ويُذمُّ مذمومها- بحيث لا يتضمّن الأمر بمعروفٍ فواتَ معروفٍ أكبرَ منه، أو حصولَ منْكَر فوقه، ولا يتضمّن النهْيُ عن المنكر حصول ما هو أَنْكرُ منه، أو فواتَ معروفٍ أرجح منه-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وإذا اشتبه الأمرُ، استبانَ المؤمنُ حتى يتبيّن له الحق، فلا يُقْدِم على الطاعة إلا بعلمٍ ونيّة، وإذا تركها كان عاصياً. فتَرْكُ الواجب معصية. وفعلُ ما نُهي عنه من الأمر معصيةٌ. وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله. مثال آخر للنظر للمصالح والمفاسد: ومن هذا الباب تَرْك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبيّ بن سَلول وأمثاله من أئمةِ النفاق والفجور؛ لِما لهم من أعوان؛ فإزالةُ المنكر بنوعٍ من عقابه مستلزمةٌ إزالة معروف أكبر من ذلك بغضبٍ قومه وحميّتهم، وبنفورِ الناس إذا سمعوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، ولهذا لما خطبَ الناسَ في قضيّة الإفك بما خَطَبَهم به، واعتذر عنه، وقال له سعد بن مُعاذ قوله الذي أحسنَ فيه = حمي له سعد بن عبادة -مع حُسْن إيمانه وصدقه- وتعصَّب لكلٍّ منهم قبيلَةٌ، حتى كادت تكون فتنة""1". وبهذا يُعْلم أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعِظَمُ شأنه، كما يُعْلَمُ أهمية الإتيان به على وجْهه، ومراعاة الصفات المطلوبة في القيام به، وأنه لم يُحْسِن كلٌّ ممن تركه ومن قام به متنكباً الهدْي المطلوب فيه شرعاً. وأنه يجب الأخذ بجميع النصوص وجميع الأحكام الشرعية.   (1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابن تيمية، ص20-22. وعنه أخذت- بتصرّف في بعض المواضع، وتقديم وتأخير- جلَّ ما نُقِل هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الخَاتمَة ختاماً أحمد الله وأشكره، حمداً وشكراً يليقان بجلاله وعظيم إحسانه، وأحمد الله وأشكره على أسمائه وصفاته، وأحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله. أما بعد: فإنّ مثل هذين الموضوعين في غاية الأهميّة-على ما سبق بيانه-وهما، كذلك، متجدِّدان مع الإنسان بتجدّد قضايا الحياة وأحوالها. والإنسان بحاجةٍ إلى أنْ يكون ملازماً في جميع أحواله لكلٍّ مِن الإخلاص والفقه؛ وبهذا يَسعد ويُسْعِد، وبهذا ينجو في الدنيا وفي الآخرة، بإذن الله تعالى. وأمّا بدون هذين الأمرين فإنّ الإنسان يلتمس توفيقاً ونجاةً وسعادةً لا وجود لها في الواقع!. وإنّ مما أرجوه أن تكون هذه الدراسة زاداً لِمَن يرغب في إسعاد نفسه ونجاتها في الدنيا وفي الآخرة، ولِمَن يرغب في إسعاد الآخرين ونجاتهم. ولعله لا يخفى أن مثل هذه الموضوعات تحتاج إلى المعاودة عليها مرةً بعد مرة، بالقراءة المتكررة، والتطبيق، ومحاسبة النفس عليها؛ شأنها شأن غالب موضوعات المنهج والتربية. ورحِمَ الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي؛ فنبهني على وهمٍ أو خطأٍ. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. وكَتَبَ: عبد الله بن ضيف الله الرّحيليّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201