الكتاب: سر الفصاحة المؤلف: أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي (المتوفى: 466هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ_1982م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- سر الفصاحة ابن سنان الخفاجي الكتاب: سر الفصاحة المؤلف: أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي (المتوفى: 466هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ_1982م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] خطبة الكتاب وبيان الخفاجي بسم الله الرحمن الرحيم وبه أثق الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. لقد جاءت رسل ربنا بالحق الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. لقد جاءت رسل ربنا بالحق صلوات الله عليهم وعلى سيدهم محمد والأبرار من عترته الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. أما بعد: فإني لما رأيت الناس مختلفين في مائية1الفصاحة وحقيقتها أودعت كتابي هذا طرفاً من شأنها وجملة من بيانها وقربت ذلك على الناظر وأوضحته للمتأمل. ولم أمل بالاختصار إلى الإخلال ولا مع الإسهاب إلى الإملال ومن الله تعالى أستمد المعونة والتوفيق. اعلم أن الغرض بهذا الكتاب معرفة حقيقة الفصاحة والعلم بسرها فمن الواجب أن نبين ثمرة ذلك وفائدته لتقع ونقده فيه فنقول: أما العلوم الأدبية فالأمر في تأثير هذا العلم فيها واضح لأن الزبدة منها والنكتة نظم الكلام على اختلاف تأليفه ونقده ومعرفة ما يختار منه مما يكره. وكلا الأمرين2متعلق بالفصاحة بل هو مقصور على المعرفة   1 نسبة إلى - ما- الاستفهامية وقد يقال ماهية بقلب الهمزة هاء. 2 الأول نظم الكلام ونقده والثاني هو الذي عرف فيما بعد باسم علم البلاغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بها. فلا غنى للمنتحل الأدب عما نوضحه ونشرحه في هذا الباب. وأما العلوم الشرعية فالمعجز الدال على نبوة محمد نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو القرآن والخلاف الظاهر فيما به كان معجزا على قولين: أحدهما أنه خرق العادة بفصاحة1وجرى ذلك مجرى قلب العصا حية2وليس للذاهب إلى هذا المذهب مندوحة عن بيان ما الفصاحة التي وقع التزايد فيها موقعا خرج عن مقدور البشر, والقول الثاني: أن وجه الإعجاز في القرآن صرف العرب عن المعارضة3 مع أن فصاحة القرآن كانت في مقدورهم لولا الصرف وأمر القائل بهذا يجري مجرى الأول في الحاجة إلى تحقق الفصاحة ما هي؟ ليقطع على أنها كانت في مقدورهم ومن جنس فصاحتهم ونعلم أن مسيلمة وغيره لم يأت بمعارضة على الحقيقة لأن الكلام الذي أو رده خال من الفصاحة التي وقع التحدي بها في الأسلوب المخصوص وإذا ثبت بما ذكرناه الغرض بهذا الكتاب وفائدته فالدواعي إلى معرفة ذلك قوية والحاجة ماسة شديدة. ونحن نذكر قبل الكلام في معنى الفصاحة نبدأ من أحكام الأصوات والتنبيه على حقيقتها ثم نذكر تقطعها على وجه يكون حروفا متميزة ونشير إلى طرف من أحوال الحروف في مخارجها ثم ندل على أن الكلام ما انتظم منها ثم نتبع ذلك بحال اللغة العربية وما فيها من الحروف وكيف يقع المهمل فيها والمستعمل وهل اللغة في الأصل مواضعة أو توقيف ثم نبين هذا كله وأشباهه مائية الفصاحة. ولا نخلى ذلك الفصل من شعر فصيح وكلام غريب بليغ يتدرب بتأمله على فهم مرادنا فإن الأمثلة توضح وتكشف وتخرج من اللبس إلى البيان ومن جانب   1 هذا هو قول جمهور العلماء. 2 معجزة نبي الله موسى عليه السلام. 3 هذا هو قول إبراهيم بن يسار المعروف بالنظام المتوفى سنة 221هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الإبهام إلى الإفصاح فإذا أعان الله تعالى ويسر تمام كتابنا هذا كان مفرداً بغير نظير من الكتب في معناه. وذلك أن المتكلمين وأن صنفوا في الأصوات وأحكامها وحقيقة الكلام ما هو فلم يبينوا مخارج الحروف وانقسام أصنافها وأحكام مجهورها ومهموسها وشديدها ورخوها. وأصحاب النحو وأن أحكموا بيان ذلك فلم يذكروا ما أوضحه المتكلمون الذي هو الأصل والأس. وأهل نقد الكلام1فلم يتعرضوا لشيء من جميع ذلك وإن كان كلامهم كالفرع عليه. فإذا جمع كتابنا هذا كله وأخذ بحظ مقنع من كل ما يحتاج الناظر في هذا العلم إليه فهو مفرد في بابه غريب في غرضه. وفق الله تعالى ذلك ويسره بلطفه ومنه.   1 هم علماء البلاغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فصل في الأصوات . الصوت مصدر صات الشيء يصوت صوتاً فهو صائت وصوت تصويتا فهو مصوت. وهو عام ولا يختص. يقال: صوت الإنسان. وصوت الحمار. وفي الكتاب الكريم: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} 1 وقال الراجز: كأنما أصواتها في الوادي ... أصوات حج من عمان غاد2 وقال جرير بن عطية: لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس   1 سورة لقمان الآية 19. 2 حج جمع حاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 والصوت مذكر لأنه مصدر كالضرب والقتل وقد ورد مؤنثاً على ضرب من التأول. قال رويشد بن كثير الطائي: يا أيها الراكب المهدي مطيته ... بلغ بني أسد ما هذه الصوت فأراد الاستغاثة. كما حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه سمع بعض العرب يقول وذكر إنسانا: فقال فلان لغوب1 جاءته كتابي فاحتقرها فقال له: أتقول جاءته كتابي! قال: نعم أليست بصحيفة؟ وفي كتاب سيبويه: إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فقد أبى اليتيم2 لأن بعض السنين سنة. ويقال: رجل صات أي شديد الصوت. كما يقال: رجل نال أي كثير النوال. وقولهم: لفلان صيت إذا انتشر ذكره من لفظ الصوت إلا أن واوه انقلبت ياءاً لسكونها وانكسار ما قبلها. كما قالوا: قيل من القول. والصوت معقول لأنه يدرك ولا خلاف بين العقلاء في وجود ما يدرك. وهو عرض ليس بجسم ولا صفة لجسم. والدليل على أنه ليس بجسم أنه مدرك بحاسة السمع والأجسام متماثلة والإدراك إنما يتعلق بأخص صفات الذوات. فلو كان جسما لكانت الأجسام جميعها مدركة بحاسة السمع وفي علمنا ببطلان ذلك دليل على أن الصوت ليس بجسم. وهذه الجملة تحتاج إلى أن نبين أن الأجسام متماثلة وأن الإدراك إنما يتعلق بأخص صفات الذوات لأن كون الصوت مدركا بالسمع   1 اللغوب واللغب الضعيف الأحمق. 2 البيت لجرير في مدح هشام بن عبد الملك وقوله تعرقتنا بمعنى أذهبت أموالنا من تعرقت العظم إذا أذهبت ما عليه من اللحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 والأجسام غير مدركة بالسمع مما لا يمكن دخول شبهة فيه ولا منازعة. والذي يدل على تماثل الأجسام: أنا ندرك الجسمين المتفقى اللون فيلتبس أحدهما علينا بالآخر لأن من أدركهما ثم أعرض عنهما وأدركهما من بعد يجوز أن يكون كل واحد منهما هو الآخر بأن نقل إلى موضعه ولم يلتبسا على الإدراك إلا لآشتراكهما في صفة تناولها الأدراك وقد بينا أن الإدراك إنما يتناول أخص صفات الذات وهو ما يرجع إليها وسندل على ذلك. وإذا كان الجسمان مشتركين فيما يرجع إلى ذاتيهما فهما متماثلان لأن هذا هو المستفاد بالتماثل. فإن قيل: دلوا على أنهما لم يلتبسا إلا للاشتراك في صفة ثم بينوا أن تلك الصفة مما يتناوله الآدراك. قلنا: الوجوه التي يقع فيها الالتباس معقولة وهي المجاورة أو الحلول. كالتباس خضاب اللحية بالشعر من حيث المجاورة. وكما التبس على من ظن أن السواد الحال في الجسم صفة له من حيث الحلول. وكذلك من اعتقد أن صفة المحل للحال. حتى ذهب إلى أن للسواد حيزاً وكلا الأمرين منتف في التباس الجسمين لأنه لا حلول بينهما ولا مجاورة بل يقع الالتباس مع العلم بتغايرهما. فدل ذلك على ما ذكرناه. فأما الدليل على أن الصفة التي اقتضت الالتباس مما يتناوله الإدراك فهو أن الأمر لو كان بخلاف ذلك لما التبسا على الإدراك وفي التباسهما عليه دلالة على تعلق الإدراك بما التبسا لأجله ولأن المشاركة فيما لا يتعلق الإدراك به لا يقتضى الاشتباه على المدرك. ألا ترى أن السواد لا يشبه البياض ويلتبس به عند المدرك وأن اشتركا في الوجود من حيث كان الإدراك لا يتعلق بالوجود. وليس لأحد أن يقول: إذا أستدللتم على أن الأجسام متماثلة بالتباسها على الإدراك فقولوا: إن الأجسام التي لا تلتبس كالأبيض والأسود غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 متماثلة لفقد الالتباس. وذلك أن هذا مطالبة بالعكس في الأدلة وليس ذلك بمعتبر. وإثبات المدلول مع ارتفاع الدليل جائز غير ممتنع لأن الدليل غير موجب للمدلول وإنما هو كاشف عنه لكن المنكر ثبوت الدليل وارتفاع المدلول. على أن الالتباس في الجسمين المذكورين حاصل أيضاً لأن المدرك لهما ربما يجوز أن يكون أحدهما الآخر وإنما تغير لونه. أما الدليل على أن الإدراك يتعلق بأخص صفات الذوات وأن كلامنا كله متعلق به فهو أنه لا يخلو من أن يكون يتعلق بالصفة الراجعة إلى الفاعل أو الراجعة إلى العلة أو الراجعة إلى الذات. والذي يرجع إلى الفاعل من الصفات هو الوجود. ولو تناوله الإدراك لم يخل من أن يتعداه إلى ما يرجع إلى الذات أو لا يتعداه فإن لم يتعد وجب ألا يحصل الفصل بين المختلفين بالإدراك لاشتراكهما في الوجود الذي لم يتناول الإدراك غيره. وإن تعداه إلى الصفة العائدة إلى الذات فيجب أن يفصل بين المختلفين بالإدراك من حيث افترقا في الصفة التي يتعلق بها وأن يلتبس أحدهما بالآخر من حيث اشتركا في الوجود الذي تعلق الإدراك به أيضاً وذلك محال فأما ما يرجع إلى العلل من صفات الجسم والذي يمكن أن يدخل شبهة في تناول الإدراك له كونه كائنا في جهة. والذي يوضح أن الإدراك لا يتناول ذلك أنه لو تناوله لفصل بالإدراك بين كل صفتين ضدين منه وذلك غير مستمر. وأحدنا لو أدرك جوهراً في بعض الجهات ثم أعرض عنه جوز أن يكون انتقل إلى أقرب الأماكن إليه والتبس عليه الأمر فيه. ولا يلتبس أمره لو اسود بعد بياض، فبان أن الإدراك لا يتناول إلا أخص صفات الذوات، دون صفات العلل وما بالفاعل. ويمكن الدلالة على أن الصوت ليس بجسم إذا ثبت أن الأجسام متماثلة من وجه آخر وذلك أنا ندرك الأصوات مختلفة. فالراء مخالفة للزاي. وكذلك سائر الحروف المختلفة فإذا كانت الأجسام متماثلة والأصوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 تدرك مختلفة فليست بأجسام. وإذا كنا دللنا على أن الصوت ليس بجسم فالذي يدل على أنه ليس بصفة لجسم بل هو ذات مخالفة له أن الصوت لو كان صفة لم يخل من أن يكون صفة ذاتية أو غير ذاتية. ولا يجوز أن يكون صفة ذاتية لتجدده وأن دوامه غير واجب. ولا يجوز أن يكون صفة غير ذاتية لما بيناه من أن الأدراك لا يتناول إلا الصفات الذاتية والصوت مدرك بلا خلاف. ومع الدلالة على أن الأصوات أعراض ففيها المتماثل والمختلف وقد ذهب أبو هاشم عبد السلام بن محمد الجبائي: إلى أن المختلف منها متضاد. وتوقف علم الهدى المرتضى1 نضر الله وجهه عن القطع على ذلك. فأما أبو هاشم فإنه اعتمد في تضادها على طريقين أحدهما: أن حمل الصوت على اللون من حيث كان إدراك كل واحد منهما مقصوراً على حاسة واحدة فلما قطع على تضاد المختلف من الألوان قال بمثل ذلك في الأصوات. والطريق الثاني: أن الصوت مدرك فهو هيئة للمحل إذا أوجب مختلفة هيئتين استحال اجتماعهما للمحل في حالة واحدة كما يستحيل ذلك في الألوان. وليس بعد امتناع اجتماعهما في المحل الواحد في الوقت الواحد إلا التضاد. ولقائل أن يقول على ما ذكره أولا: ما أنكرت من أن تكون الأصوات والألوان وإن اتفقت في إدراك كل واحد منهما بحاسة واحدة تختلف فيكون المختلف من الألوان متضاداً دون الأصوات ولا يوجب الاتفاق في قصر الإدراك على حاسة واحدة التساوي في جميع الأحكام. كما أنها وإن اتفقت عندك في ذلك فلم تتفق في أن الأصوات تبقى كما أن الألوان تبقى ولا في أن الأصوات يضادها ما يحدث بعدها كما كان ذلك في الألوان. وإذا جاز مع التساوي فيما ذكرته من قصر الإدراك على حاسة واحدة. الاختلاف في أحكام كثيرة فأحر أن يكون المختلف من   1 هو الشريف أبو القاسم على بن الظاهر ابن أحمد الحسين المتوفى سنة 436هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الأصوات غير متضاد وإن كان المختلف من الألوان متضاداً. ويقال له فيما ذكره ثانياً: إن الصوتين المختلفين ليس محلهما واحداً فيقطع على تضادهما لامتناع اجتماعهما فيه في ذلك الوقت الواحد. بل محال الحروف المتغايرة متغايرة وإذا كان المحلان مختلفين فلا سبيل إلى القطع على التضاد بإستحالة اجتماعهما في المحل. لأن كل واحد من الصوتين المختلفين لا يصح أن يحل محل الآخر. وقد أشار القاضي أبو الحسن1 عبد الجبار بن أحمد الهمذاني رحمه الله: إلى أن الأصوات غير متضادة لأنها غير باقية والمنافاة إنما تصح في المتضاد الباقي. كأنه أراد أن عدم أحد الضدين إذا كان واجبا لأنه مما لا يبقى فليس لوجود ضده حكم يخالف عدمه. فأما الكلام في تماثلها واختلافها فالدلالة على ذلك ما قدمناه من الإدراك لها. وبيانه في الحروف فأن الراء تدرك ملتبسة بالراء ومخالفة للزاي وقد بينا أن الإدراك يتناول أخص صفات الذات ولا يجوز وجود الصوت إلا في محل أما من أثبت حاجة جميع الأعراض إلى المحال من حيث كان عرضا وأما من أجاز وجود بعض الأعراض في غير محل بدلالة أنه يتولد عن اعتماد الجسم ومصاكته لغيره ولأنه يختلف باختلاف حال محله فيتولد من الصوت في الطست خلاف ما يتولد في الحجر فيقول قد ثبت وجود بعض الأصوات في غير محل فإذا ثبت ذلك في بعضه ثبت في جميعه لأن الأصوات متفقة في أنها لا توجب حالا لمحل ولا جملة 2.   1 هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني – أبو الحسين قاض أصولي لقب بقاضي القضاة وكان شيخ المعتزلة في عصره ولي القضاة بالري ومات فيها له تصانيف كثيرة منها: الأمالي والمجموع في المحيط وشرح الأصول الخمسة والمغني في أبواب التوحيد والعدل وتثبيت دلائل النبوة وتشابه القرآن توفي بالري عام 1025 ميلادية. 2 في هذه العبارة تحريف لأن معناها غير ظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وقد ذهب أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي1: إلى أن جنس الصوت يحتاج مع المحل إلى هيئة وحركة. وقال أبو هاشم أخيراً: أنه لا يحتاج إلا إلى المحل. وعلى هذا القول أكثر أصحابه. وله نصر الشريف المرتضى رضي الله عنه. واستدلوا على نفي حاجته إلى غير المحل بأنه مما لا يوجب حالاً لغيره فجرى مجرى اللون في أنه لا يحتاج إلى سوى محله. وقالوا: أن الصوت من فعلنا إنما احتاج إلى الحركة لأنها كالسبب فيه من حيث كنا لا نفعله إلا متولداً عن الاعتماد على وجه المصاكة والاعتماد يولد الحركة فلهذا جرى مجرى السبب. فليس يمتنع أن يفعل الله تعالى الصوت مبتدأ من غير حركة كما يفعله غير متولد عن الاعتماد وكما يفعل ما وقع منا بآلة من غير آلة. وجعلوا هذا هو العلة في انقطاع طنين الطست بتسكينه. وأجازوا وجود القليل من الصوت مع السكون عند تناهيه وانقطاعه ومنعوا من وجوده من فعلنا مع السكون من فعلنا حالا بعد حال2 لما ذكرناه. والأصوات تدرك بحاسة السمع في محالها ولا تحتاج إلى انتقال محالها وانتقالها وكونها أعراضا منع من انتقالها. وقد استدل على ذلك بأنها لو انتقلت لجاز أن تنتقل إلى بعض الحاضرين دون بعض حتى يكون مع التساوي في القرب والسلامة يسمع الصوت بعضهم دون بعض وأن يجوز إختلاف انتقال الحروف حتى يدرك الكلام مختلفا. واستدل على ذلك أيضاً بأنه: لو احتيج في إدراك الأصوات إلى انتقال المحال لما وقع الفرق مع السلامة بين جهة الصوت والكلام مكانهما كما أنه لا يعرف في أي جهة   1 هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجنائي أبو علي ولد عام 235هـ وهو من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره وإليه نسبة الطائفة الجبائية له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب نسبته إلى جبن بجبي له تفسير حافل مطول رد عليه الأشعري. توفي عام 303هـ. 2 في هذه العبارة ارتباك ظاهر وهنا كما ورد في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 انتقل إلى محل ما يلاقيها من الأجسام التي يدرك منها الحرارة والبرودة. وقد سئل على هذا المذهب عن العلة في مشاهدة القصار من بعد يضرب الثوب على الحجر ثم يسمع الصوت بعد مهلة فيسبق النظر السمع. وأجيب عن ذلك: بأن الصوت يتولد في الهواء والبعد المخصوص مانع من إدراكه فإذا تولد فيما يقرب أدرك في محله وإن ما يتصل بحاسة السمع والذي يدرك بعد مهلة هو غير الصوت الذي تولد عن الصكة الأولى لأن ذلك إنما لا يدرك لبعده. قيل: فكذلك يدرك الصوت في جهة الريح أقوى لأنه يتولد فيها حالا بعد حال فيكون إلى إدراكه أقرب. وإذا كانت الريح في خلاف جهة الصوت ضعف إدراكه وربما لم يدرك لأنه يتولد فيما يبعد عنه البعد المانع من إدراكه. ولا يجوز البقاء على الأصوات أما من أثبت البقاء معنى كالبغداديين من المعتزلة فإنه يمنع من بقاء جميع الأعراض لأن البقاء الذي هو عرض عنده لا يصح أن يحل العرض. وأما من لم يثبت البقاء معنى - وهو الصحيح - ويجوز على بعض الأعراض البقاء ويقطع على بعض فإنه يعتل في المنع من بقاء الأصوات بأنها لو بقيت لاستمر إدراكنا لها مع السلامة وارتفاع الموانع ومعلوم خلاف ذلك. ولو كان الصوت مدركا على الاستمرار لم يقع عنده فهم الخطاب لأن الكلمة كانت حروفها تدرك مجتمعة فلا يكون زيد أولى من يزد أو غير ذلك مما ينتظم من حروف زيد. ولو كان الكلام أيضاً باقيا لكان لا ينتفي إلا بفساد محله لأنه لا ضد له من غير نوعه. ولا تقع الأصوات من فعل العباد إلا متولدة. ويدلك على ذلك أيضا تعذر إيجادها عليهم إلا بتوسط الاعتماد والمصاكة ولأنها تقع بحسب ذلك فيجب أن تكون مما لا يقع إلا متولداً كالآلام. والصوت يخرج مستطيلا ساذجا حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده فيسمى المقطع أينما عرض له حرفا. وسنبين ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فصل في الحروف الحرف في كلام العرب يراد به حد الشيء وحدته. ومن ذلك حرف السيف إنما هو حده وناحيته. وطعام حريف: يراد به الحدة. ورجل محارف أي محدود عن الكسب. وقولهم: انحرف فلان عن فلان أي جعل بينه وبينه حدا بالبعد. وفسر أبو عبيدة معمر بن المثنى1 قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} 2 أي لا يدوم. وفسره أبو العباس أحمد بن يحيى3 أي على شك. وكلا التأويلين على ما قدمناه لأن المراد أنه غير ثابت على دينه ولا مستحكم البصيرة فيه فكأنه على حرفه أي غير واسط منه. وسميت الحروف حروفاً لأن الحرف حد منقطع الصوت. وقد قيل: إنها سميت بذلك لأنها جهات للكلام ونواح كحروف الشيء وجهاته. فأما قولهم في القراءة: حرف أبي عمرو من القراء وغيره فقد قيل فيه: إن المراد أن الحرف كالحد ما بين القراءتين. وقيل أيضاً: أن الحرف في هذا القول المراد به الحروف كما قال الله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} 4 أي والملائكة. وكقولهم: أهلك الناس الدينار والدرهم أي   1 هو معمر بن المثنى التيمي أبو عبيدة النحوي المعروف من أئمة العلم بالأدب واللغة ولد بالبصرة سنة 110هـ وتوفي فيها سنة 209هـ قال عنه الجاحظ لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه له نحو 200 مؤلف منها نقائض جرير والفرزدق ومجاز القرآن وأيام العرب ومعاني القرآن 00 وغيرها كثير وهو من حفاظ الحديث-. 2 سورة الحج الآية 11. 3 هو أحمد بن يحيى بن زيد الشيبائي أبو العباس المعروف بثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة وكان راوية للشعر مشهورا بالحفظ ولد ببغداد سنة 200هـ أصيب في أواخر عمره بالصمم توفي على أثر صدمة تلقاها من فرس سنة 291.هـ من كتبه قواعد الشعر وشرح ديوان زهير والفصيح ومجالس ثعلب. 4 سورة المجادلة الآية 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الدنانير والدراهم 1. والمعنى: أن القارىء يؤدي حروف أبي عمر وبأعيانها من غير زيادة ولا نقصان. وقد اختلفوا في تسمية الناقة الضامر حرفاً. فقال قوم: أي أنها قد حددت أعطافها بالضمر. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: لأنها انحرفت عن السمن. وقال غيره: شبهت بحرف الجبل في الشدة والصلابة. وزعم بعضهم: أنها شبهت بحرف السيف في مضائه. وقال آخرون: شبهت بالهاء من الحروف لدقتها وتقويسها. وكل هذا راجع إلى ما تقدم. ومنه سمى مكسب الرجل حرفة لأنه الجهة التي انحرف إليها. وسموا الميل محرافاً لدقته. وأنشد أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد: كما زل عن رأس الشجيج المحارف2 والتحريف في الكلام الميل والانحراف. قال الله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 3. أما تسمية أهل العربية أدوات المعاني نحو: من وقد حروفا فإنهم زعموا أنهم سموها بذلك لأنها تأتي في أول الكلام وآخره فصارت كالحروف والحدود له. وقد قال بعضهم: إنما سميت حروفاً لانحرافها عن الأسماء والأفعال. وهي عندنا نحن كلام لأنها منتظمة من حرفين فصاعداً. وأما قولهم للحروف التي في لغة العرب حروف المعجم فليس بصفة للحروف لأن ذلك يفسد من وجهين أحدهما: امتناع وصف   1 لأن أل فيها للجنس. 2 المحارف جمع محراف وهو الميل الذي يسبر به الجراحات يقول بلغ الميل العظم نزل عنه. 3 سورة النساء الآية 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 النكرة بالمعرفة1 والثاني: إضافة الموصوف إلى صفته والصفة عند النحويين هي الموصوف في المعنى ومحال أن يضاف الشيء إلى نفسه2. إلا أن أبا العباس المبرد ذهب في ذلك إلى أن المعجم بمنزلة الإعجام كما تقول: أدخلته مدخلا أي إدخالا. وكما حكى أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش: أن بعضهم قرأ: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} 3 بفتح الراء أي من إكرام. فكأنهم قالوا - على هذا الوجه: حروف الإعجام. ولم يجز أبو الفتح عثمان بن جنى أن يكون قولهم: حروف المعجم بمنزلة قولهم صلاة الأولى ومسجد الجامع. قال: لأن معنى ذلك: صلاة الفريضة الأولى ومسجد اليوم الجامع فهما صفتان حذف موصوفاهما وأقيما مقامهما وليس كذلك حروف المعجم لأنه ليس معناه حروف الكلام المعجم ولا حروف اللفظ المعجم. وليس يبعد عندي ما أنكره أبو الفتح بل يجوز أن يكون التقدير: حروف الخط المعجم لأن الخط العربي فيه أشكال متفقة لحروف مختلفة عجم بعضها دون بعض ليزول اللبس. وقد يتفق في غيرها من الخطوط أن تختلف أشكال الحروف فلا يحتاج إلى النقط فوصف الخط العربي بأنه معجم لهذه العلة. وقيل: حروف المعجم أي حروف الخط المعجم كما يقال: حروف العربي أي حروف الخط العربي وليس يمكن أن يعترض على هذا القول بأن يدعى أن وضع كلام العرب قبل خطهم وأن التسمية كانت لحروفه بحروف المعجم من حين تكلم به لأن قائل هذا يحتاج إلى إقامة الدلالة على ذلك وهي متعذرة لبعد العهد وفقد الطرق التي يتوصل بها إلى معرفة ذلك لا سيما إثبات التسمية لهذه الحروف بأنها حروف المعجم   1 الممنوع نعت النكرة بالمعرفة وما هنا من باب الإضافة. 2 إضافة الموصوف إلى صفته ليست من إضافته الشيء إلى نفسه لما بينهما من المغايرة التي تجعل هذا موصوفا وذلك صفة. 3 سورة الحج الآية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قبل وضع الخط وكلما يروى من ابتداء وضعه وأنه خرج على ما قيل من الأنبار وما يجري هذا المجرى فليس يثمر إلا الظن. فإذا قيل أعجمت الكتاب فمعناه ازلت ابهامه كما يقال اشكيته إذا إذا أزلت ما يشكوه. لأن هذه اللفظة في كلام للابهام والخفاء. ومنه: رجل أعجم. وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "جرح العجماء جبار" 1 يريد البهيمة. وعجم الزبيب وغيره أي المستتر فيه. وسموا صلاتي الظهر والعصر: عجماوين لأنه لا يفصح بالقراءة فيهما. والحروف تختلف بأختلاف مقاطع الصوت حتى شبه بعضهم الحلق والفم بالناي لأن الصوت يخرج منه مستطيلاً ساذجاً فإذا وضعت الأنامل على خروقه ووقعت المزاوجة بينها سمع لكل حرف منها صوت لا يشبه صاحبه فكذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم بالإعتماد على جهات مختلفة سمعت الأصوات المختلفة التي هي حروف. ولهذا لا يوجد في صوت الحجر وغيره لأنه لا مقاطع فيه للصوت وليس يحتاج إلى حصر الحروف التي يتعلق بها. وإنما الغرض ذكر ما في اللغة العربية التي كلامنا عليها لأن في غيرها من اللغات حروفاً ليست فيها كلغة الأرمن وما جرى مجراها. فحروف العربية تسعة وعشرون حرفا وهي: الهمزة والألف والهاء والعين والحاء والغين والخاء والقاف والكاف والضاد والجيم والشين والياء واللام والراء والنون والطاء والدال والتاء والصاد والزاي والسين والظاء والذال والثاء والفاء والباء والميم والواو. فهذا ترتيبها على المخارج. وكان أبو العباس محمد بن يزيد المبرد2 لا يعتد بالهمزة ويجعل   1 أخرج البخاري الحديث بلفظ العجماء جرحها جبار. 2 هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثعالي الأزدي أبو العباس المعروف بالمبرد إمام العربية ببغداد في زمنه ولد بالبصرة سنة 210هـ وتوفي ببغداد سنة 286هجرية = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الحروف ثمانية وعشرين حرفاً. وقوله هذا عند النحويين مرفوض واعتلاله بأن الهمزة لا صورة لها مستكره غير مرضى1 لأن الاعتبار باللفظ دون الخط وهي ثابتة فيه. ولو أن العرب خط لها كغيرها من الأمم لم يمنع ذلك من الاعتداد بجميع هذه الحروف المذكورة. فأما الألف التي هي ساكنة أبداً فقد قالوا: إن واضع الخط ولا ى أتى بلا على وزن ما لأن الألف ساكنة لا يصح الابتداء بها فجاء بحرف قبلها ليمكن النطق بها ويقع تمثيل ذلك. وليس غرضه أن يبين كيف يتركب بعض هذه الحروف من بعض كما يقول المعلمون: لام ألف. ولو أراد أن يبين التركيب لبينه في سائر الحروف ولم يقتصر على الألف مع اللام. وقد قال أبو الفتح عثمان بن جتى2: أنهم إنما اختاروا لها حرف اللام دون غيره من الحروف لأن واضع الخط أجراه في هذا على اللفظ لأنه أصل للخط والخط فرع عليه. فلما رآهم قد توصلوا إلى النطق بلام التعريف بان قدموا قبلها الفا نحو الغلام والجارية لما لم يمكن الابتداء باللام الساكنة كذلك أيضاً قدم قبل الألف في لا لا ما توصلا إلى النطق بالألف الساكنة. وكان في ذلك ضرب من المعارضة بين الحرفين. ويمكن عندي أن يعترض على هذا القول بأن يقال: أن التي مع اللام   = من كتبه المطبوعة: الكامل والمقتضب وشرح لامية العرب ومن كتبه المخطوطة المذكر والمؤنث والتعازي والمرائي والمقرب. 1 لا يخفى أن الهمزة لها صورة معروفة وإن كانت لا تنفصل توضع فوقه أو تحته. 2 هو عثمان بن جني الموصلي أبو الفتح من أئمة الأدب والنحو ولد بالموصل وتوفي ببغداد كان أبو مملوكا روميا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي من تصانيفه رسالة في من نسب إلى أمه من الشعراء مخطوط ومن كببه المطبوعة شرح ديوان المتنبي والمنهج في اشتقاق أسماء رجال الحماسة والمحتسب في شواذ القراءات والمذكر والمؤنث وغيرها كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 في الرجل والجارية هي الهمزة وليست الألف الساكنة التي جاءت اللام معها في لا فكيف تجعل العلة في ورود اللام هنا مع الألف ورود الهمزة هناك مع اللام وليس بين الموضعين تناسب ولا معارضة كما ذكرت وهل يصح أن يقال: إن الألف الساكنة التي لا يمكن أن يبتدأ بها في النطق بل يحتاج إلى حرف قبلها يتوصل بها إلى النطق بلام التعريف التي هي ساكنة مثلها وكل من الحرفين يحتاج إلى ما يحتاج إلى ما يحتاج إليه الآخر؟ فإن قيل: إن الهمزة التي مع اللام في الرجل هي ألف على الحقيقة وهي التي بعد اللام في قولهم: لا وإن كانت ساكنة هناك قيل له فما وجه إنكارك وإنكار أصحابك على أبي العباس المبرد أنه لم يعتد بالهمزة في الحروف بل جعلها ثمانية وعشرين حرفا فقط1 أو ليس هذا منكم إنكار للهمزة رأسا وليس يحظر أن يجاب عن هذا الكلام إلا بأن كافة النحويين يطلقون على الهمزة التي مع لام التعريف أنها ألف ومثل هذا لا يقنع لأن التعليل فيما ذكره أبو الفتح إذا قصر على الشبه في الاسم ضعف جداً واطرح. ثم الكلام عليهم أيضاً باق في قولهم أن الهمزة في نحو الرجل ألف على الإطلاق مع اعتقادهم أن الألف هي الحرف الساكن أبداً في نحو كتاب وغيره والهمزة حرف غيره وإنكارهم على أبي العباس المبرد ما ذكرناه. فأما نحن إذا سئلنا عن العلة في إيراد اللام مع الألف للتوصل بحرف متحرك دون غيرها من الحروف فمن جوابنا أن الغرض كان إيراد حرف متحرك للتوصل به والعادة جارية في مثل هذا الموضع بمجيء همزة الوصل كما جاءت في نحو اذهب وغيره فمنع من ذلك ما ذكره أبو الفتح   1 قد يجاب عن هذا بأنه خاص بهمزة الوصل فهي عليه ألف على الحقيقة دون همزة القطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 من أنها تأتي مكسورة ولو جاءت قبل الألف مكسورة لانقلبت الألف ياء لانكسار ما قبلها وانتفض الغرض. فلما خرجت الهمزة بهذه العلة التي ذكرها كانوا في غيرها من الحروف بالخيار أي حرف متحرك ورد صح به الغرض فأتوا باللام لغير علة كما خص واضع الخط بعض الحروف بشكل دون بعض لغير سبب. وأمثال هذا الذي لا يعلل كثيرة لا تحصى. ويلحق هذه الحروف التي ذكرناها حروف بعضها يحسن استعماله في الفصيح من الكلام وبعضها لا يحسن فالتي تحسن ستة أحرف وهي: النون الخفيفة التي تخرج من الخيشوم والهمزة المخففة وألف الإمالة وألف التفخيم وهي التي بها ينحا نحو الواو وذلك كقولهم في الزكاة: الزكاوة والصاد التي كالزاي نحو قولهم في مصدر مزدر والشين التي كالجيم نحو قولهم في أشدق أجدق. والحروف التي لا تستحسن ثمانية وهي الكاف التي بين الجيم والكاف نحو كلهم عندك والجيم التي كالكاف نحو قولهم للرجل ركل والجيم التي كالشين نحو قولهم خرشت والطاء التي كالتاء كقولهم طلب والضاد الضعيفة كقولهم في أثرد أضرد والصاد التي كالسين في قولهم صدق والظاء التي كالثاء كقولهم ظلم والفاء التي كالباء كقولهم فرند1. ومخارج هذه الحروف ستة عشر مخرجاً: ثلاثة في الحلق فأولها من أقصاه مخرج الهمزة والألف والهاء وهذا على ترتيب سيبويه. وزعم أبو الحسن الأخفش أن الهاء مع الألف لا قبلها ولا بعدها. ثم يليه من وسط الحلق مخرج العين والحاء. ثم من فوق ذلك مع أول الفم مخرج الغين والخاء. ثم من أقصى اللسان مخرج القاف. ومن أسفل ذلك وأدنى إلى   1 في المخطوط رسم المؤلف فوق كل حرف ما يشبهه فجيما صغيرة فوق حرف الكاف في كلهم وركل وخرشت وتاء صغيرة كذلك فوق حرف الطاء من طلب وهكذا حتى آخر الأمثلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 مقدم الفم مخرج الكاف. ومن وسط اللسان ذلك بينه وبين الحنك الأعلى مخرج الجيم والشين والياء. ومن أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس مخرج الضاد. ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرفه بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى مخرج اللام. ومن طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا مخرج النون. ومن مخرج النون غير أنه ادخل في ظهر اللسان مخرج الراء. ومما بين طرف اللسان وأصول الثنايا مخرج الطاء والتاء والدال. ومما بين الثنايا وطرف اللسان مخرج الصاد والزاي والسين. ومما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا مخرج الظاء والثاء والذال. ومن باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا مخرج الفاء ومن بين الشفتين مخرج الباء والميم والواو ومن الخياشيم مخرج النون الخفيفة. ومن هذه الحروف المجهور والمهموس ومعنى الجهر في الحرف أنه أشبع الاعتماد في موضعه ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضى الاعتماد ويجري الصوت. ومعنى الهمس فيه أن يضعف الاعتماد في الصوت حتى يجري معه النفس. والحروف المهموسة عشرة أحرف وهي الهاء والحاء والخاء والكاف والسين والصاد والتاء والشين والثاء والفاء ويجمعها في اللفظ ستشحثك خصفه وجمعت أيضا: سكت فحثه شخص وما سوى هذه الحروف هو المجهور. ومنها أيضا الرخو والشديد والذي بين الشديد والرخو فالشديد الحرف الذي يمنع الصوت أن يجري فيه. وهي ثمانية أحرف: الهمزة والقاف والكاف والجيم والطاء والدال والتاء والباء ويجمعها في اللفظ أجدك قطبت. والتي بين الشديد والرخو ثمانية أحرف وهي: الألف والعين والراء واللام والياء والنون والميم والواو ويجمعها في اللفظ: لم يروعنا. والرخوة الحروف التي لا تمنع الصوت أن يجري فيها وهي ما سوى هذين القسمين المذكورين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ومنها أيضاً المنطبقة والمنفتحة ومعنى الأطباق أن يرفع المتلفظ بهذه الحروف لسانه ينطبق بها الحنك الأعلى فينحصر الصوت بين اللسان والحنك. وهي أربعة أحرف: الصاد والضاد والطاء والظاء. وما سواها من الحروف مفتوح غير منطبق. ومن الحروف أيضاً حروف الاستعلاء. وحروف الانخفاض ومعنى الاستعلاء: أن تصعد في الحنك الأعلى وهي سبعة أحرف: الحاء والغين والقاف والضاد والظاء والصاد والطاء. وما سوى ذلك من الحروف منخفض. ومنها حروف الذلاقة ومعنى الذلاقة أن يعتمد عليها بذلق اللسان وهو طرفه وذلق كل شيء حده. وهي ستة أحرف: اللام والراء والنون والفاء والباء والميم. وما سواها من الحروف فهي المصمتة. وللحروف أيضاً انقسام إلى الصحة والاعتلال والزيادة والأصل والسكون والحركة وغير ذلك مما أكثر علقته بالنحو ولو ذكرناه في هذا الكتاب أطلناه. وعدلنا عن الغرض في تقريبه. وإنما أربنا ذكر مالا يستغنى عنه طالب معرفة الفصاحة التي لها يقصد وإليها ينحو. فأما ما سوى ذلك فاللمحة تقنع منه واللمعة تغنى فيه. وفيما أردناه من أقسام الحروف وأحكامها في هذا الفصل مقنع ولا يليق به الزيادة عليه والإسهاب لأنه كالطريق الذي يجتاز فيه إلى مرادنا ونتوصل بسلوكه إلى مقصدنا فالليث به غير واجب والريث فيه غير محمود 1.   1 أخذ ابن الأثير في كتاب المثل السائر على المؤلف أنه أكثر في كلامه من ذكر الأموات والحروف والكلام عليها وإن كان كتابه هذا جيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فصل في الكلام . الكلام اسم عام يقع على القليل والكثير. وذكر السيرافي أنه مصدر والصحيح أنه اسم للمصدر والمصدر التكليم قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1 ولعل أبا سعيد تسمح في إيراد ذلك وقاله مجازاً. فأما الكلم فإنه اسم يدل على الجنس هكذا مذهب أهل النحو في الأسماء التي يكون فيها الاسم على صورتين تارة بالهاء وتارة بطرحها نحو تمرة وتمر وبسره وبسر وما أشبه ذلك. على أن بعضهم قد جعل الكلم جمع كلمة لكن الأحرى على مذهبهم ما ذكرناه. والكلمات جمع كلمة وقد حكى كلمة وجمعها كلم. وروى أبو زيد أن العرب تقول الرجلان لا يتكالمان يريد: لا يتكلمان 2. وقد استدل على أن الكلام ليس بمصدر بأن الفعل المستعمل منه إنما هو كلمت وفعلت يأتي مصدره في القياس على مثال التفعيل نحو: كسرت تكسيرا ولا يأتي مصدره في القياس على مثال التفعيل نحو: كسرت تكسيرا ولا يأتي على لفظ آخر. والكلام عندنا على ما انتظم من هذه الحروف التي ذكرناها أو غيرها على ما بيناه من أننا لا نذكر إلا حروف اللغة العربية دون غيرها من اللغات. وحده ما انتظم من حرفين فصاعداً من الحروف المعقولة إذا وقع ممن تصح منه أو من قبيله الإفادة. وإنما شرطنا الانتظام لأنه لواتي بحرف ومضى زمان وأتى بحرف آخر لم يصح وصف فعله بأنه كلام. وذكرنا الحروف المعقولة لأن أصوات بعض الجمادات ربما تقطعت على وجه يلتبس بالحروف. ولكنها لا تتميز وتتفصل كتفصيل الحروف التي ذكرناها. واشترطنا وقوع ذلك ممن يصح منه أو من قبيله الإفادة لئلا يلزم عليه أن يكون ما   1 سورة النساء الآية 164. 2 مادة تكالما تدل على المشاركة بخلاف مادة تكلم فلا يجوز تفسير الأولى بالثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يستمع من بعض الطيور كالببغاء وغيرها كلاما وقلنا القبيل دون الشخص لأن ما يسمع من المجنون يوصف بأنه كلام وأن لم تصح منه الفائدة وهو بحاله لكنها تصح من قبيله وليس كذلك الطائر. فأما الدليل على صحة هذا الحد فهو: أن الشروط التي ذكرناها فيه متى تكاملت صح الوصف بأنه كلام ومتى إختل بعضها لم يوصف بذلك. وفيما ذكرناه تسمح وهو قولنا لو أتى بحرف ومضى زمان وأتى بحرف آخر لم يصح وصف فعله بأنه كلام. وكذلك النطق بحرف واحد متعذر غير ممكن إذ لابد من الإبتداء بمتحرك والوقوف على ساكن وما يمكن ذلك في أقل من حرفين الأول منهما متحرك والثاني ساكن وهو الذي يسميه العروضيون سبباً خفيفاً. وبهذا أجاب أصحابنا من ألزمهم على هذا الحد الذي ذكرناه أن يكون: ق وع في الأمر ليس بكلام لأنه حرف واحد. وقالوا: إن المنطوق به في هذا القول حرفان والغنة التي وقف عليها عند السكت هي حرف1. وإن لم يثبت في الخط. وبينوا أن النطق بحرف واحد غير ممكن للعلة التي ذكرناها. وبهذا الجواب غنوا عما قاله أبو هاشم: من أن الأصل في هاتين اللفظتين عند الأمر أوق وأوع وإنما حذف ذلك لضرب من التصريف والمحذوف مقدر في الكلام مراد فعاد الأمر إلى أن الحرف الواحد لا يفيد. وإذا كنا قد بينا التسمح فيما ذكرناه فوجه العذر فيه أنه لو أمكن فرضا وتقديراً أن ينطق بحرف واحد لم يكن كلاما وإن كان الصحيح أن ذاك غير ممكن لما بيناه. وقد ألزمنا على هذا الحد الذي ذكرناه أن يكون الأخرس متكلما لأنه قد يقع منه حرفان. والتزم أصحابنا ذلك وقالوا: إن الأخرس يمكن   1 أنظر ما هذه الغنة وإنما هي هاء السكت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أن يقع منه أقل قليل للكلام. وفيهم من احترز من ذلك وقال في أصل الحد ما إنتظم من حرفين مختلفين. وادعى أن الأخرس لا يقع منه ذلك. وطعن على هذا القول بأنه: غير ممتنع أن يقع من الأخرس حرفان مختلفان. والمعتمد التزام ذلك والقول بجوازه. وليس يجوز أن يشترط في حد الكلام كونه مفيداً على ما يذهب إليه أهل النحو ومضى في بعض كلام أبي هاشم وذلك أنا وجدنا أهل اللغة قد قسموا الكلام إلى مهمل ومستعمل. والمهمل ما لم يوضع في اللغة التي أضيف أنه مهمل إليها لشيء من المعاني والفوائد والمستعمل هو الموضوع لمعنى أو فائدة. فلو كان الكلام هو المفيد عندهم وما لم يفد ليس بكلام لم يكونوا قسموه إلى قسمين بل كان يجب أن يسلبوا ما لم يفد اسم الكلام رأسا لا أن يجعلوه أحد قسميه. على أن الكلام إنما يفيد بالمواضعة. وليس لها تأثير في كونه كلاما كما لا تأثير لها في كونه صوتاً وأي دليل على أن اسم الكلام عندهم غير مقصور على المفيد أو كد من تسميتهم للهذيان الواقع من المجنون وغيره كلاما. وليس يمكن دفع ذلك عنهم ولا إنكاره. وقد وجدت أبا طالب أحمد بن بكر العبدي النحوي ينصر في كتابه الموسوم بالبرهان في شرح الإيضاح ما يذهب إليه النحويون في هذا المسألة. فلما تأملته وأنعمت النظر فيه لم أجده معتمداً فيما أدعوه. وأنا أحكيه وأتبعه ببيان عدم الدلالة منه. قال أبو طالب: وهذا اللفظ من الكلام فإنه يكون واقعا على المفيد منه لا على غيره ألا ترى أن سيبويه رحمه الله قال: واعلم إن قلت إنما وقعت في كلام العرب على أن يحكى بها ما كان كلاما لا قولا وفسر معنى هذا القول. ثم قال فإن قلت: ألست تقول لمن نطق وأظهر كلمة واحدة قد تكلم وإن لم يكن ما ذكره جملة. قيل قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أقول تكلم ولا أقول قال كلاما لأن الكلام ما وقع على الجمل من حيث ذكرت أن كلاما إنما وقع على أن يكون اسما للمصدر ونائباً عنه. وذلك المصدر1 موضوع للمبالغة والتكثير. ألا ترى أنك تقول فعلت كذا وكذا. ولفظ هذا يحتمل أن يكون كثيرا وأن يكون قليلا. وبابه القلة. وإذا قال فعلت بتشديد العين لم يكن إلا للتكثير وزال عنه معنى القلة من أجل التشديد. فإذا كان الأمر على هذا وكان الكلام جاريا على لفظ فعل للمبالغة وجب أن يراد به التكثير وأقل أحوال التكثير والتكرير أن يكون واقعاً على جملة. فإن قيل فإن الفعل المستعمل من هذا اللفظ لا يكون على وجهين إذا أريد التقليل كان خفيفا وإذا أريد التكثير ثقل كما نجد ذلك في ضرب وضرب وذلك أنه لم يجىء فيه إلا كلمت البتة. قيل: أليس قد تقرر أن لفظ فعل للتكثير والتكرير فينبغي أن يوفى حق لفظها. وكونها على حالة واحدة عندي أبلغ في المعنى حتى صارت عندهم لفظة لا تستعمل إلا للمبالغة من حيث كان الكلام أجل ما يوصف به الإنسان. حتى قال الشاعر: 2 لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم وقال قبل هذا البيت: وكائن ترى من ساكت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم ولآخر: 3 ومما كانت الحكماء قالت ... لسان المرء من خدم الفؤاد ويقال لأهل الدين والكلام عليه: فلان متكلم. فلولا أنها شيمة   1 يعني التكليم. 2 هو زهير بن أبي سلمى والأبيات من معلقته. 3 البيت لأبي تمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 شريفة وصفة مبالغة لما وصف بذلك. ثم يقال للإنسان الذي يورد ما تقل فائدته: هذا ليس بكلام. فقد بان بما ذكرته موضع المبالغة في قولهم: فلان متكلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن من البيان لسحرا ". فأما ما جاء من قوله: فصبحت والطير لم تكلم. وقوله: عجبت لها أني يكون غناؤها ... فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فما فمجاز لا حقيقة له. كما قيل: إلى ملك أظلافه لم تشقق1 وكما أنشد سيبويه: وداهية من دواهي المنون ... ترهبها الناس لا فالها2 فجعل للداهية فما استعارة. وكشف هذا شاعر محدث فقال3: وسألت من لا يستجيب فكنت في استخباره ... كمجيب من لا يسأل ويكشف هذا المعنى للمتأمل أن العرب لشرف الكلام عندهم وأن القليل المفيد منه عندهم كثير أنهم يقولون: وقال فلان في كلمته. إنما يريدون القصيدة. وكشف هذا المتأخر ما أريد فقال:   1 هذا عجز بيت للشاعر عقفان بن قيس بن عاصم وتمامه هكذا: سأمنعها أو سوف أجعل أمرها – ... إلى ملك أظلافه لم تشقق 2 هذا البيت من رواية سيبويه والبيت للخنساء ومعنى لا فالها لا مدخل إلى معاناتها والتداوي منها أي هي داهية مشكلة. 3 البيت للبحتري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ورسائل قطع العداة سحاءها ... فرأوا قناً وأسنة وسنوراً 1 وهل هو إلا كلام وقد ترى تفصيله إياه بالقنا والسنور وقد قال الأول: والقول ينفذ مالا تنفذ الإبر وقال آخر2: فإن القوافي يتلجن موالجا ... تضايق عنها أن تولجها الإبر وهذا كله إنما أوردته نصرا لنطقهم بتكلم مثقل العين على لفظ المبالغة ولم يستعملوه على وجهين مخففاً ومثقلاً. فيقال لأبي طالب. إن كنت أوردت ما ذكرته عن سيبويه على وجه الإستدلال به فلا حجة فيه لأنا لسنا نخالفك في هذه المسألة وحدك وإنما نخالف فيها سيبويه وغيره من النحويين الذين ذهبوا إلى أن الكلام هو المفيد دون غيره. وكيف يكون قول خصومنا علينا حجة من غير أن يعتمدوا إلا على نفس الدعوى فإن ذهب إلى أن قول سيبويه وأمثاله في هذا وأمثاله حجة واستكره الإفصاح بخلافه. قلنا: إن كان هذا لحسن الظن به فذلك أليق بالمتكلمين الذين هم أصحاب التحقيق والكشف عن أسرار المعلومات وغوامض الأشياء وعللهم هي الصحيحة المستمرة الجارية على منهج واضح وسبيل مستقيم. وإنما غيرهم بالإضافة إليهم خابط عشواء وحاطب ليل. فإن جاز الاعتصام بتقليد سيبويه كان الاعتصام بالدخول في شعب هؤلاء أحرى وأولى. وأن قيل أن أتباع النحويين في مثل هذا الباب أسوغ لأنهم أهل هذا الشأن وأرباب هذه الصناعة قلنا: إنما يجب إتباعهم فيما   1 السحاء ما يشد به الكتاب والرسالة والسنور أي الدروع. 2 طرفة بن العبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 يحكونه عن العرب ويروونه وليس هذه المسألة من قبيله بل العرب مجمعون معنا على تسمية الكلام المفيد وغير المفيد بأنه كلام. وليس يمكن جحد ذلك عنهم. فأما طريقة التعليل فإن النظر إذا سلط على ما يعلل النحويون به لم يثبت معه إلا الفذ الفرد بل ولا يثبت شيء البتة. ولذلك كان المصيب منهم المحصل من يقول هكذا قالت العرب من غير زيادة على ذلك فربما اعتذر المعتذر لهم بأن عللهم إنما ذكروها وأوردوها لتصير صناعة ورياضة ويتدرب بها المتعلم ويقوى بتأملها المبتدئ. فإما أن يكون ذلك جاريا على قانون التعليل الصحيح والقياس المستقيم فذلك بعيد لا يكاد يذهب إليه محصل. على أنه قد يمكن أن يقال: إن المتقدمين من أهل النحو تواضعوا في عرفهم على أن سموا الجمل المفيدة كلاما دون ما لم يفد لا أن ذلك على سبيل التحقيق. كما أنهم سموا هذه الحوادث الواقعة كضرب وقتل أفعالا. ولو عدلنا إلى التحقيق ورفض عرفهم كانت أسماء لما وقع من الحوادث. أما تسليمه أن كل من نطق بكلمة واحدة يقال له تكلم ولا يقال قال كلاماً. واعتلاله بأن كلاماً وقع اسما لمصدر ونائباً وذلك المصدر موضوع للتكثير فيجب أن يوفي حقه فمن طريف ما يعتمد عليه. وذلك أن التكثير موجود في لفظ تكلم وقد أجازه مع القلة فكيف لم يجز ذلك مع المصدر الذي ليس في لفظه التكثير. وإنما هو نائب عن ذلك في لفظه. فإذا جاز هذا في الأصل فهو فيما ينوب أسوغ وأليق. وأما قولهم أنهم لم ينطقوا في الكلام إلا بفعل التي هي للتكثير لشرف الكلام عندهم فذلك هو الحجة في إطلاق لفظ الكلام وتكلم على القليل الذي ليس بمفيد لما ذكره من الشرف والمبالغة. وأما استدلاله على شرف الكلام عندهم بالأبيات التي ذكرها فمما يمكن إيراد مثله إلا أن ذكره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ومما كانت الحكماء قالت ... لسان المرء من خدم الفؤاد1 لا أعلم موقع الدلالة منه على شرف الكلام وهو بالدلالة على تشريف الفؤاد والوضع من اللسان بأنه خادمه أليق. وأما قوله أنهم يقولون للإنسان الذي يورد ما تقل فائدته: هذا ليس بكلام قلنا ذلك وأمثاله إنما يورد على سبيل الجواز والإسراف في المبالغة. كما يقال للرجل البليد: ليس بإنسان والفرس البطيء ليس بفرس لا أن ذلك على الحقيقة. وهذا مما لا تدخل في مثله شبهة. وأما قوله إن العرب لشرف الكلام عندهم وأن القليل المفيد منه كثير. يقولون: قال فلان في كلمته يريدون القصيدة فذلك كله هو وأمثاله هو الوجه في اقتصارهم على لفظ التكثير في الكلام أفاد أو لم يفد دون الألفاظ التي لم توضع للتكثير. وقد حد الكلام بحدود غير صحيحة كحد بعض النحويين له بأنه فعل المتكلم وذلك ينتقض بجميع أفعاله الحادثة منه في حال كلامه كالضرب وما أشبهه على أن من عقل كونه متكلما عقل الكلام ولم يحتج إلى حده. وكذلك حد بعض المتكلمين له بأنه: ما أوجب كون المتكلم متكلما. وقول غيره: ما يقوم بذات المتكلم لأن هذا كله فرع على عقل المتكلم وتحققه وذلك لا يتم إلا بعد المعرفة بالكلام وما يقوم بذات المتكلم ينتقض بكل ما يقوم به من العلم والقدرة والحياة. ثم السؤال فيه باق لأنه إذا قيل فهذا الذي أوجب كون المتكلم متكلماً أو قام بذاته ما هو فلابد من الرجوع إلى ما قدمنا من حده. وإذا كان كلامنا مبنياً على أن الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه وكان أبو علي الجنائي يذهب إلى أن جنس الكلام يخالف جنس الصوت فلا بد من بيان ما ذهبنا إليه وفساد ما عداه. والذي يدل على أن   1 هذا البيت لأبي تمام كما سبق ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه أنه لو كان غيره لجاز أن يوجد أحدهما مع عدم الآخر على بعض الوجوه لأن هذه القضية واجبة في كل غيرين لا تعلق بينهما ولما استحال أن توجد الأصوات المقطعة على وجه مخصوص ولا تكون كلاماً أو الكلام من غير صوت مقطع دل على أنه الصوت بعينه. فأما من ذهب إلى أن الكلام معنى في النفس من المجبرة فإن الذي حملهم على هذا المذهب الواضح الفساد ظهور أدلة نظار المسلمين1 على حدوث هذا الكلام المعقول وتقديم بعض حروفه على بعض فلم يتمكنوا من الاعتراف بأنه من جنس الأصوات المقطعة مع القول بأن كلام الله عز اسمه قديم فادعوا لذلك أن الكلام غير هذا الصوت المسموع وأنه معنى قائم في النفس ليسوغ لهم قدمه على بعض الوجوه فلجأوا من الاعتراف بالحق والانقياد بزمامه إلى محض الجهل وصرف الضلال. ولو تجنب خطابهم على هذا القول وعول في إفساده على حكاية مذهبهم لأغني ذلك عند كافة المحصلين ولم يفتقر إلى استئناف دليل عليهم غي التأمل لما يدعونه والعجب مما يلتزمونه ويصرحون به وحمد الله تعالى على ما أنعم به من الإرشاد ومنحه من الهداية. لكن قد جرت عادة أهل العلم معهم بإيضاح الحق وإن كان غير خاف والتنبيه على الصواب وأن كان ليس بمشكل في جميع المذاهب التي تفردوا بها وإن جرت في البعد مجرى هذا المذهب فنحن نستدرك عليهم في هذه المسألة على طريقة أصحابنا ونذكر ما قالوه وإن كنا غير محتاجين إلى ذلك. والذي يدل على أن الكلام ليس بمعنى في النفس أنه لو كان معنى زائداً على المعاني المعقولة الموجودة في القلب كالعلم وغيره لوجب أن يكون إلى معرفته طريق من ضرورة أو دليل. ولو كان ضرورة لوجب اشتراك العقلاء   1 يعني أصحابه من المعتزلة القائلين بأن القرآن مخلوق وليس بقديم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 في المعرفة ولم يحسن الخلاف بينهم فيه والمعلوم غير ذلك ولو كان عليه دليل لكان من ناحية حكم يظهر له ويتوصل به إلى إثباته كما يتوصل بأحكام الذوات إلى إثباتها ومعلوم أنه لا حكم يمكن أن يشار إليه في هذا الباب. فإن قيل: الصوت المسموع طريق إلى إثبات الكلام القائم في النفس قلنا: ليس يخلو من أن يكون طريقاً إليه بأن يعلم عنده أو يستدل به عليه فإن كان الأول وجب أن يعلم كل من سمع الكلام الذي هو الصوت الواقع على بعض الوجوه شيئاً آخر عنده ومعلوم خلاف ذلك وأن كان يستدل به عليه فالكلام المسموع إنما يدل على ما لولاه لما حدث وهو القدرة أو ما لولاه لم يقع على بعض الوجوه وهو العلم والإرادة. فأما ما سوى ذلك فلا دلالة عليه لنفي التعلق. فإن قيل: كل عاقل يجد في نفسه عند الكلام أمراً يطابقه ويدبر في نفسه ما يريد أن يتكلم به حتى يخطب الخطبة وينشد القصيدة من غير أن يحرك لشيء من ذلك جارحة بحال من الأحوال وذلك يبين أن الكلام معنى قائم في النفس: قلنا: كل أمر يجده الإنسان من نفسه عند الكلام معقول وهو العلم بكيفية ما يوقعه منه أو الظن له أو إرادة ذلك والداعي إلى فعل الكلام أو الفكر والروية في إيقاعه وكيفية فعله. فإن أشير إلى بعض ما ذكرناه بالكلام صح المعنى وعاد الخلاف إلى عبارة. وأن أريد غيره فليس بمعقول. وههنا جواب آخر: وذلك أن الإنسان يفعل كلاماً خفياً في داخل صدره ويقطعه بالنفس فيكون كلاماً بالحقيقة وأن كان غير مسموع له. ثم إن أحدنا قد يحدث نفسه بنسج ثوب أو بناء دار فيظن لها أن ذلك مصور في نفسه قبل الفعل وليس يجب لذلك أن يكون البناء أو النساجة معنى في النفس بل ذلك علم بكيفية أيقاع كل واحد منهما حسب ما بيناه في الكلام. فأما تعلقهم بجنس قول القائل في نفسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 كلام ففاسد لأنه توصل إلى إثبات المعاني بالعبارات ولا يعول على ذلك محصل. على أن من يطلق هذا القول لا يخلو من أن يكون أطلقه عن علم أو عن غير علم فإن كان أطلقه عن غير علم فلا حجة في إطلاقه وإن كان عن علم لم يخل أن يكون ضرورياً أو مكتسباً. فإن كان ضرورياً وجب اشتراك العقلاء فيه ولم يحسن الخلاف بينهم وليس الأمر كذلك وإن كان مستدلاً عليه فالواجب إيراد الدليل الذي اقتضى إطلاق هذا العبارة ليقع النظر فيه. وبعد فإن الإنسان قد يطلق أيضاً فيقول في نفسي بناء دار ونسج ثوب. كما يقول في نفسي كلام فهل يدل ذلك على أن البناء والنساجة معنيان في النفس كما دل عندهم على أن الكلام معنى فيها. ثم أن لقول القائل في نفسي كلام وجهاً صحيحاً وذلك أن المعنى إني عازم عليه ومريد له ولهذا لو أبدلوا هذا اللفظ مما ذكر لقام مقامه في الفائدة. وأما تعلقهم بأن الساكت يقال فيه أنه متكلم فليس بصحيح لأن المراد بذلك إمكان الكلام منه أو إضافته إليه على طريق الصناعة كما يقال للصائغ - في حال هو لا يصوغ فيها - إنه صائغ. وكذلك سائر الصناع ثم هو مع ذلك استدلال بالمعاني على العبارات وقد بينا فساد ذلك فيما تقدم. والكلام مما لا يوجب حالاً للمتكلم إذ لا طريق إلى إثبات ذلك من ضرورة أو استدلال. ولا فرق بين من ادعى في الكلام أنه يوجب حالاً وبين من ادعى ذلك في جميع الأفعال كالضرب وغيره. وأيضاً فإن الكلام يوجد في الصدا ونكون نحن المتكلمين به. ومن شأن ما ينفصل عن الحي أن لا يوجب لح حالاً لأن كل ما أوجب للحي حالاً لا يصح وجوده في محل لا حياة فيه كالعلم والقدرة. والكلام يتعلق بالمعاني والفوائد بالمواضعة لا لشيء من أحواله وهو قبل المواضعة إذ لا اختصاص له ولهذا جاز في الاسم الواحد أن تختلف مسمياته لاختلاف اللغات. وهو بعد وقوع التواضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 يحتاج إلى قصد المتكلم به واستعماله فيما قررته المواضعة ولا يلزم على هذا أن تكون المواضعة لا تأثير لها لأن فائدة المواضعة تمييز الصيغة التي متى أردنا مثلاً أن نأمر قصدناها. وفائدة القصد أن تتعلق تلك العبارة بالمأمور وتؤثر في كونه أمراً له. فالمواضعة تجري مجرى شحذ السكين وتقويم الآلات والقصد يجري مجرى استعمال الآلات بحسب ذلك الإعداد. والكلام على ضربين مهمل ومستعمل: فالمهمل هو الذي لم يوضع في اللغة التي قيل له مهمل فيها لشيء من المعاني والفوائد. والمستعمل هو الموضوع لمعنى أو فائدة. وينقسم إلى قسمين: أحدهما ماله معنى صحيح وأن كان لا يفيد فيما سمى به كنحو الألقاب مثل قولنا: زيد وعمرو. وهذا القسم جعله القوم بدلاً من الإشارة. والفرق بينه وبين المفيد أن اللقب يجوز تبديله بغيره وتغييره واللغة على ما هي عليه والمفيد لا يجوز ذلك فيه. والقسم الثاني هو المفيد وهو على ثلاثة أضرب: أحدها أن يبين نوعاً من نوع كقولنا: كون ولون. وثانيهما أن يبين جنساً من جنس كقولنا: جوهر وسواد. وثالثها أن يبين عيناً من عين كقولنا: عالم وقادر. والمفيد من الكلام ينقسم إلى قسمين: حقيقة ومجاز. فاللفظ الموصوف بأنه حقيقة هو ما أريد به ما وضع لإفادته. والمجاز هو اللفظ الذي أريد به مالم يوضع لإفادته. والكلام المفيد يرجع كله إلى معنى الخبر. ومتى اعتبرت ضروبه وجدت لا تخرج عن ذلك في المعنى. أما الجحود والتنبيه والقسم والتمني والتعجب فالأمر في كونها أخباراً في المعنى ظاهر وأما الأمر فيفيد كون الأمر مريداً للفعل فمعناه معنى الخبر. والنهي يفيد أنه كاره فهو أيضاً كذلك. والسؤال والطلب والدعاء يجري هذا المجرى. والعرض فهو سؤال على الحقيقة فأما النداء فقد اختلف فيه فقيل معنى: يا زيد أدعو زيداً وهذا على الحقيقة خبر. وقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المراد به: أقبل يا زيد وعلى هذا المعنى فهو داخل في قسم الأمر. وأما التخصيص فهو في معنى الأمر لأنه يغبىء عن إرادة المخصص للفعل. وإذ كنا قد بينا حد الكلام وحقيقته فينبغي أن نذكر حقيقة المتكلم فنقول: إن المتكلم من وقع الكلام الذي بينا حقيقته بحسب أحواله من قصده وإرادته واعتقاده وغير ذلك من الأمور الراجعة إليه حقيقة أو تقديراً والذي يدل على ذلك أن أهل اللغة متى علموا أو اعتقدوا وقوع الكلام بحسب أحوال أحدنا وصفوه بأنه متكلم ومتى لم يعلموا ذلك أو يعتقدوه لم يصفوه فجرى هذا الوصف في معناه مجرى وصفهم لأحدنا بأنه ضارب ومحرك ومسكن وما أشبه ذلك من الأفعال. ومن دفع ما ذكرناه في الكلام وإضافته إلى المتكلم تعذر عليه أن يضيف شيئاً على سبيل الفعلية لأن الطريقة واحدة. ولا يلزم على ما ذكرناه إضافة كلام النائم والساهي إليهما وإن لم يقع بحسب المقصود وذلك أننا لم نقتصر على ذكر المقصود والدواعي دون جملة الأحوال. والكلام يقع من النائم والساهي بحسب قدرتهما ولغتهما. واللثغة العارضة في لسانهما وغير ذلك من أحوالهما. على أنا قد احترزنا بذكر التقدير في كلامنا لأن من المعلوم أن كلام النائم لو كان قاصداً لوقع بحسب قصده وأنه مخالف لكلام غيره. ويدل على ما ذكرناه أيضاً أنهم يضيفون الكلام المسموع من المصروع إلى الجني لما اعتقدوا تعلقه بقصده وإرادته. وهذا وأن كان خطأ منهم وجهلا فلا يغير دلالتنا منه لانا إنما استدللنا باستعمالهم على وجه لا فرق فيه بين الفاسد والصحيح لأن عبارتهم تابعة لاعتقاداتهم ولا فرق بين أن تكون تلك الاعتقادات علماً أو جهلاً. كما يستدل على أن لفظة إله في لغتهم موضوعة لمن يحق له العبادة بوصفهم للأصنام بأنها آلهة لما اعتقدوا أن هذه العبادة تحب لها وأن كان هذا الاعتقاد منهم في الأصنام فاسدا. فإن قالوا: إنهم إنما أضافوا الكلام المسموع من المصروع إلى الجني لما اعتقدوا أن الجني قد سلكه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وخالطه وأن الكلام حال في الجني دونه فيعود الأمر إلى أن المتكلم بالكلام من حله. قلنا له ليس يعتقدون أن آلة المصروع ولسانه قد صار للجني دونه لأنهم لا يضيفون إلى الجني كل كلام يسمع من المصروع كالتسبيح والقراءة وما يجري مجراهما مما يعتقدون أن الجني لا يقصده. وإنما يضيفون إليه ما يعتقدون أنه لا يكون من مقصود غير الجني. فدل هذا على أنهم لا يضيفون الكلام إلا إلى من وقع بحسب أحواله وقصوده على ما قدمناه. ويدل أيضاً على ما ذهبنا إليه أن الكلام يوجد في الصدأ ويستحيل أن يكون كلاماً له أو للقديم تعالى لأنه ربما كان كذبا أو عبثاً وهو عز اسمه ينزه عن ذلك. أو كلاماً لا لمتكلم به فيجب أن يكون كلاماً لمن فعل أسبابه ووجد بحسب دواعيه وقصوده. وليس لهم أن يمتنعوا من وجود الكلام في الصدا لأنه عندهم معنى في النفس لانا قد بينا أن الكلام هو هذه الأصوات المخصوصة فيما تقدم ولا شبهة في وجودها في الصدا. فأما حدهم للمتكلم بأنه من له كلام فإحالة على مبهم والسؤال باق لأنه يقال: فكيف صار الكلام له ابأن حله أو بأن فعله. فلا بد من التفسير. وهذه اللفظة أعني قولهم: أن له كذا تحتمل أموراً مختلفة المعاني: منها إضافة البعض إلى الكل كقولهم: له يد ورجل. ومعنى الملك كقولهم: له دار وغلام. ومعنى الفعلية كقولهم: له إحسان ونعمة. ومعنى الحلول كما يقال: له طعم ولون. وما يحتمل أموراً مختلفة لا يجوز أن يحد به في الموضع الذي يقصد فيه التمييز وكشف الغرض. ولما كنا قد ذكرنا طرفاً من القول في حقيقة الكلام والمتكلم فيحتاج إلى نبذ من الكلام في الحكاية والمحكي ليكون هذا الفصل مقنعا فيما وضع له. والذي كان يذهب إليه أبو الهذيل محمد بن الهذيل1. وأبو علي   1 هو محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي مولى عبد القيس أبو الهذيل العلاف من أئمة المعتزلة ولد بالبصرة سنة 135هـ اشتهر بعلم الكلام قال عنه المأمون أطل أبو هذيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام له مقالات في الاعتزال ومجالس ومناظرات وكان حسن الجدل قوي الحجة كف بصره في آخر عمره وتوفي بسامرا سنة 235هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 محمد بن عبد الوهاب1 أن الحكاية هي المحكي وأن التالي للقرآن يسمع منه كلام الله على الحقيقة وأن البقاء يجوز على الكلام ويوجد في الحال الواحدة في الأماكن الكثيرة فيوجد مع الصوت مسموعاً ومع الكتابة مكتوباً ومع الحفظ محفوظاً. ويجري في وجوده في الأماكن الكثيرة مجرى الأجسام ويزيد على الأجسام بأنه يوجد في الأماكن الكثيرة في الوقت الواحد والأجسام إنما توجد في الأماكن على البدل. ثم قال أبو علي بعد ذلك: إن التالي للقرآن يوجد مع تلاوته كلامان أحدهما من فعله والآخر هو كلام الله تعالى. والذي كان يقوله أبو هاشم وقد ذهب إليه قبله جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر أن الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه ولا يجوز عليه البقاء ولا يوجد إلا في المحل الواحد والحكاية غير المحكي وإن كانت مثله. والقارئ لا يسمع منه إلا ما فعله والقراءة غير المقروء والكتابة غير الكلام وإنما هي إمارات للحروف والحفظ هو العلم بكيفية الكلام ونظمه. وعلى هذا القول أكثر الشيوخ وهو الصحيح الذي لا شبهة فيه والذي يدل عليه أننا قد بينا فيما تقدم أن الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه بما لا فائدة في إعادته. والصوت فلا شبهة في أنه غير باق لما بيناه أيضاً. وإذا كان الكلام هو الصوت والصوت لا يجوز عليه البقاء فكيف يقال أنه يوجد في قراءة كل قارئ ومع الكتابة وغيرها. ويدل أيضاً على أن الكتابة لا يوجد معها كلام وإنما هي أمارات الحروف بالمواضعة أن الاستفادة بالكتابة كالاستفادة بعقد الأصابع والإشارة وغيرهما من الأفعال التي تقع المواضعة عليها   1 هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي وردت ترجمته في الصفحات السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فلو كان لابد من كلام يوجد مع الكتابة لأجل الفائدة الحاصلة بها لوجب ذلك في جميع ما ذكرناه وذلك محال لا يحسن الخلاف فيه. ومما يدل على أن التلاوة للقرآن لا يوجد معها شيء آخر: أن القائل بسم الله الرحمن الرحيم متعوذاً بها غير قاصد إلى تلاوة القرآن يوجد الكلام من فعله فلو كان إذا قصد حاكياً لكلام الله تعالى وجد كلام آخر لكان إذا قصد حكاية كلام كل من تلا القرآن يوجد كلامهم أجمع عند قصده فيقوى إدراكنا للكلام من حيث نسمع كلاماً كثيرا في هذه الحال وفي غيرها شيئا واحدا وهذا واضح الفساد. وقد تعلق أبو علي وأبو الهذيل فيما ذهبا إليه بأنه: لو كان القارئ لا يسمع منه إلا ما فعله دون كلام الله تعالى لبطل التحدي وخرج من كونه معجزاً لأنه لو كانت الحكاية غير المحكي وهي مثله لكان كل من فعل القرآن قد أتى بمثله على الحقيقة والتحدي يضمن أنهم لا يأتون بمثله على الحقيقة. والجواب عن هذا: أن التحدي إنما وقع بفعل مثل القرآن على الابتداء دون الاحتذاء والتالي للقرآن قد أتى بمثله محتذياً فلا يكون بذلك معارضاً. وعلى هذا أيضاً كان يقع التحدي من العرب بعضها بعضا بالأشعار على سبيل الابتداء والأمر في هذا واضح. وتعلق أبو علي فيما ذهب إليه ثانياً: بأن القرآن ليس بقبيح على وجه من الوجوه وقد ثبت أن قراءته تقبح من الجنب والحائض ودل ذلك على أن القراءة شيء والقرآن شيء. والجواب عن هذا أن معنى قولنا إن القرآن ليس بقبيح بوجه من الوجوه هو أن ما فعله تعالى وأنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه صفته ولا يمنع أن تكون التلاوة التي هي فعل التالي والحكاية التي هي فعل الحاكي. ويسمى بالتعارف قرآناً في بعض الأحوال ويرجع القبح إلى أفعال العباد دون القرآن على الحقيقة. وقد أعتمد أبو الهذيل وأبو علي أيضا على قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1   1 سورة التوبة الآية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ولا خلاف بين الأمة أن المسموع في المحاريب كلام الله تعالى على الحقيقة. والجواب عن هذا: أن إضافة الكلام إلى المتكلم أن كان الأصل فيها أن يكون من فعله فقد صار بالتعارف يضاف إليه إذا وردت مثل صورة كلامه. ولهذا يقولون فيما نسمعه الآن هذه قصيدة امرئ القيس وأن كان الفاعل لذلك غيره. وقد صار هذا بالتعارف حقيقة حتى لا يقدم أحد على أن يقول ما سمعت شعر امرئ القيس على الحقيقة. وقد تخطى ذلك إلى أن صاروا يشيرون إلى ما في الدفتر ويقولون: هذا علم فلان وهذا كلام فلان. لما كان مثل هذه الصورة 1.   1 أطال هنا المؤلف في بيان حقيقة الكلام والمتكلم مع أن هذا يظهر بوضوح براعته في الجدل وعلم الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فصل في اللغة : اللغة عبارة عما يتواضع القوم عليه من الكلام أو يكون توقيفاً: يقال في لغة العرب: أن السيف القاطع حسام. أي تواضعوا على أن سموه هذا الاسم. وتجمع لغة على لغات ولغين ولغون. وقد قيل في اشتقاقها أنها مشتقة من قولهم: لغيت بالشيء إذا أولعت به وأغريت به. وقيل: بل هي مشتقة من اللغو وهو النطق. ومنه قولهم سمعت لواغي القوم أي أصواتهم. ولغوت أي تكلمت. وأصلها على هذا لغوة على مثال فعله. فأما قولهم: في لغة بني تميم كذا وفي لغة أهل الحجاز كذا فراجع إلى ما ذكرناه. والمعنى أن بني تميم تواضعوا على ذلك ولم يتواضع أهل الحجاز عليه. والصحيح أن أصل اللغات مواضعة وليس بتوقيف وإنما أوجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ذلك لأن توقيفه تعالى يفتقر إلى الاضطرار إلى قصده والتكليف يمنع من ذلك. وإنما افتقر إلى الاضطرار إلى قصده لأنه أن أحدث كلاماً لم يعلم أنه قد أراد بعض المسميات دون بعض ولو اقترن بهذا الكلام إشارة إلى مسمى دون غيره. لأنا لا نعلم توجه الكلام إلى ما توجهت الإشارة إليه وإنما يعلم ذلك بعضنا من بعض بالاضطرار إلى قصده وتخصص الإشارة بجهة المشار إليه لا يعلم بها هل الاسم للجسم أو للونه أو لغير ذلك من أحواله. وأما إذا تقدمت المواضعة بيننا وخاطبنا القديم تعالى بها علمنا مراده لمطابقة تلك اللغة. وقد يجوز فيما يعد أصل اللغات أيكون توقيفاً منه تعالى لتقدم لغة عن التوقيف يفهم بها المقصود. وقد حمل أهل العلم قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1على مواضعة تقدمت بين آدم عليه السلام وبين الملائكة على لغة سالفة ممن خاطبه الله تعالى على تلك اللغة وعلمه الأسماء ولولا تقدم لغة لم يفهم عنه عز أسمه. وقد ظن قوم أن المواضعة بيننا تحتاج إلى إذن سمعي ولا وجه لهذا القول إذ الدواعي إلى التخاطب وتعريف بعضنا مراد بعض قوية والانتفاع بذلك ظاهر. ولا وجه فيه من وجوه القبح قبحت حسنه كالتنفس في الهواء. وكما تحسن من أحدنا الإشارة في بعض الأوقات إلى ما يريده من غير إذن سمعي فكذلك المواضعة على كلام يدل عليه. ومن فرق بينهما فمقترح. وإنما فزع العقلاء إلى الحروف في المواضعة لأنها أسهل وأوسع ومع التأمل لا يوجد ما يقوم مقامها. فأما ما نحن بصدده من ذكر اللغة العربية فلا خفاء بميزاتها على سائر اللغات وفضلها. أما السعة فالأمر فيها واضح. ومن. تتبع جميع اللغات لم يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية في كثرة الأسماء للمسمى الواحد. على أن اللغة الرومية بالضد فإن الاسم الواحد يوجد فيها   1 سورة البقرة الآية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 للمسميات المختلفة كثيراً. وقد كان بعض اللغويين حصر أسماء السيف والأسد في لغة العرب فكانت أورقاً عدة. وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني وفي النقل إليها يبين ذلك. فليس كلام ينقل إلى لغة العرب إلا ويجيء الثاني أخصر من الأول مع سلامة المعاني وبقائها على حالها. وهذه بلا شك فضيلة مشهورة وميزة كبيرة. لأن الغرض في الكلام ووضع اللغات بيان المعاني وكشفها. فإذا كانت لغة تفصح عن المقصود وتظهره مع الاختصار والاقتصار فهي أولى بالاستعمال وأفضل مما يحتاج فيه إلى الإسهاب والإطالة. وقد خبرني أبو داود المطران - وهو عارف باللغتين العربية والسريانية - أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبحت وخست. وإذا نقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي إزداد طلاوة وحسناً. وهذا الذي ذكره صحيح يخبر به أهل كل لغة عن لغتهم مع العربية. وقد حكى أن بعض ملوك الروم وأظنه نقفور سأل عن شعر المتنبي فأنشد له: كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا1 وفسر له معناه بالرومية فلم يعجبه. وقال كلاما معناه: ما أكذب هذا الرجل كيف يمكن أن يناخ جمل على عين إنسان وما أحسب أن العلة فيما ذكرته عن النقل إلى اللغة العربية منها وتباين ذلك إلا أن لغتنا فيها من الاستعارات والألفاظ الحسنة الموضوعة ما ليس مثله في غيرها من اللغات. فإذا نقلت لم يجد الناقل ما يتوصل به إلى نقل تلك الألفاظ المستعارة بعينها وعلى هيئتها لتعذر مثلها في اللغة التي تنقل إليها. والمعاني لا تتغير   1 هو من قصيدة له في مدح بدر بن عمار يقول: كنت لا أبكي قبل فراقهم فكان إبلهم كانت تمسك دمعي عن السيلان ببروكها فوق جفني فلما فارقوني سال دمعي فكأنها ثارت الرحيل من فوق جفني فسال ما كانت تمسكه من دموعي وهو تخيل بديع ويعد من المبالغة المقبولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فنقلها ممكن من غير تبديل فكأن ما ينقل من اللغة العربية يتغير حسنه لهذه العلة وما ينقل إليها يمكن الزيادة على طلاوته لأن ناقله يجد ما يعبر به في العربية أفضل مما يريد وأبلغ مما يحاول. وهذا وجه يمكن ذكر مثله ويجب أن يتأمل وينظر فيه لأني لا أعرف لغة سوى العربية. وإنما ذهبت إليه ظناً وحدسا. وقد تصرف في هذه اللغة بما لم أظنه تصرف في غيرها من اللغات فلم توجد إلا طيعة عذبة في كل ما استعمل فيه نظماً ونثراً وهي إلى الآن لا تقف على غاية في ذلك ولا تصل إلى نهاية كما قال أبو تمام في هذا المعنى: ولكنه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب وقد بينت فضلها بسعتها وما فيها من الاختصار في العبارة عن المعاني وذكرت وجه التفضيل بالاختصار مما لا شبهة فيه. فأما السعة فالأمر فيها أيضا واضح لأن الناظم أو الناثر إذا حظر عليه موضع إيراد لفظة وكانت اللغة التي ينسج منها ذات ألفاظ كثيرة تقع موقع تلك اللفظة في المعنى أخذ ما يليق بالموضع من غير عنت ولا مشقة وهذا غير ممكن لولا السعة في كثرة الأسماء للمسمى الواحد وتلك فائدة حاصلة بلا خلاف. على أنه ربما عرض في وضع الأسماء المشتركة فائدة في بعض المواضع مثل أن يحتاج الناطق إلى كلام يؤثر أن يكنى فيه ولا يصرح فيقول لفظة ويوهم بها معنى قد قصد غيره. وهذا وإن قل الداعي إليه إلا في اليسير من المواضع فلم تجعل اللغة العربية خالية منها بل فيها أسماء مشتركة. كقولهم عين وما أشبهها وههنا لها فضيلة أخرى وهي أن الواضع لها أن كانت مواضعة تجنب في الأكثر كلما يثقل على الناطق تكلفه والتلفظ به كالجمع بين الحروف المتقاربة في المخارج وما أشبه ذلك. واعتمد مثل هذا في الحركات أيضاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فلم يأت إلا بالسهل الممكن دون الوعر المتعب ومتى تأملت الألفاظ المهملة لم تجد العلة في إهمالها إلا هذا المعنى وليس غيرها من اللغات كذلك كلغة الأرمن والزنج وغيرهم. ومما يدل على فضل هذه اللغة العربية أيضاً وتقدمها على جميع اللغات أن أربابها وأصحابها هم العرب الذين لا أمة من الأمم تنازعهم فضائلهم ولا تباريهم في مناقبهم ومحاسنهم وإن كانوا تواضعوا على هذه اللغة فلم يكن تنتج أذهانهم الصقيلة وخواطرهم العجيبة إلا شيئا خليقاً بالشرف وأمراً جديرا بالتقدم. وأن كانت توفيقاً من الله تعال لهم ومنة من بها عليهم فلم يكن بد لهم من العناية بشأنهم والتشييد من ذكرهم حتى ركبهم على حميد الخلال وطبعهم على جميل الأخلاق إلا على غاية لا يتعلق بشأوها ورتبة يقصر الطالبون عن بلوغها. ولست في هذه النتيجة ممن يدعى مقدمتها عصبية ولا يذهب إليها حمية بل سأبين في هذا الفصل صحة ما أقوله من تفضيل العرب بحسب ما يليق به ولا يفضل عن قدر الحاجة فيه فإني لو رمت إيضاح ذلك بجملته وإيراده بجميع أدلته خرجت عن المقصود في هذا الكتاب وأخذت في تفضيل العرب على الأمم وهو يحتاج إلى جزء مميز وكتاب مفرد. وجه تفضيل هؤلاء القوم على غيرهم. إن الخصال المحمودة توجد فيهم أكثر وفي غيرهم أقل وعلى هذا الحد يقع التمييز بين القبيلتين وأهل البلدين ومتى تأمل المنصف حال العرب علم ما ذكرته حقيقة. أما الكرم فالأمر فيه واضح لأننا لم نجد أمة من الأمم ولا شعباً من الشعوب رأى قرى الضيف واجباً ومساواة الجار فريضة إلا هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الأمة من العرب حتى صرحوا بذلك في أشعارهم ودونوه في المأثور عنهم وتساوى فيه موسرهم ومعسرهم وغنيهم وفقيرهم. هذا وهم في الأكثر أهل جدب وفاقة وضيق وعسر ونصب في انتجاع الرزق وكد التعرض للكسب ثم بلغ من حبهم الجود وصبابتهم إلى جميل الذكر أن سمحوا بنفوسهم ورأوا البخل بها مذموماً كالبخل بأموالهم وكان من كعب بن مامة الأيادي في ذلك ما هو مشهور معروف لا تزيد الأيام ذكره إلا بقاء ولا يؤثر فيه بعد العهد الأجدة ووضوحاً. ولم نر في الهند والزنج والحبش والترك من إدعى مثل هذه السجية ولا إنتسب إلى هذه الخلة. فأما الفرس والروم فالبخل عليهم غالب وحب الغنى مركز في طباعهم ليس عندهم في ذلك كبير عار ولا يلحقون أنفسهم به منقصة. وأما الوفاء فمن دينهم الذي كانوا يرونه لازما ومذهبهم الذي كانوا يعتقدونه حتما حتى صار من تمسك بجوارهم أو تعلق ببعض أطنابهم تبذل النفوس دونه وتراق الدماء في المنع منه فكم قتل الرجل منهم في ذلك أقرب الناس إليه نسباً وأمسهم به رحماً وكم من وقعة عظيمة وحرب جليلة طويلة جرها ضيم نزيل أو التعرض لسب جار كالحال في حرب البسوس التي ساقها ما علم من قتل كليب لناقة جارة جساس واستفحال ذلك وتماديه حتى شهدته الأجنة شيباً. فأما السموءل ورضاه بقتل ابنه دون الدروع التي كانت وديعة عنده وأبو دؤاد الأيادي في قود ولده بجاره فمما هو متداول لإخفاء بتقصير جميع الأمم عنه. وأما البأس والنجدة وطاعة الغضب والحمية وأدراك الثأر وطلب الأوتار فأخبارهم بذلك معروفة وسيرهم فيه بذلك متداولة لا يخص به الرجل دون المرأة ولا الغلام دون الهم المسن بل يوجد عند نسائهم من الصبر والشجاعة والتحريض على الحرب والقساوة مالا يساويه المذكورون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 بالنجدة في غيرهم والمنسوبون إلى البأس من سواهم كأسماء1 ومن يجري مجراها ممن خبره مشهور معروف. هذا وفي طباع النساء اللين وشيمتهن الضعف واليهن تنسب رقة القلوب وعنهن يؤخذ انتكاس العزائم. ثم هم أصحاب السرى والتأويب وإليهم يعزى جوب القفار وقطع المهامة والحروب عادتهم والغارة صناعتهم وبصيرتهم بها وآراؤهم فيها تدلك على اهتمامهم بهذا الشأن وإرهاف أفكارهم فيه وشحذ خواطرهم لتدبيره. ولا حجة فيما ذكرناه أبين ولا دليل عليه أوضح من اجتزائهم عن جميع المعايش غيره واقتصارهم من سائر المكاسب عليه. إذ لم يروضوا شماسهم بذلة المهن ولا مرنوا نخواتهم على معاناة الحرف لا يسأل أحدهم الرزق الأغرار سيفه ولا يستنجد على نفي الضيم إلا بسنان رمحه. وأما العقول الصحيحة والأذهان الصافية فالأمر في تفضيلهم بها واضح وذلك أنهم لم يكونوا أهل تعليم ودرس ولا أصحاب كتب وصحف ولا يعرفون كيف التأديب والرياضة ولا يعلمون وجه اقتباس العلم والرواية. وفي كلامهم من الحكم العجيبة والأمثال الغريبة والحث على محاسن الأخلاق والأمر بجميل الأفعال ما إذا تأملته غض عندك ما يروى عن حكماء اليونانيين وسهل الأمر عليك فيما حكاه الناس عنهم. ووجدت تلك الفصول اليسيرة والفقر القليلة تسند إلى جليل من الحكماء وتضاف إلى رئيس من العلماء وأمثالها وأضعافها في شعر راع جلف ومن كلام عبد غمر ينشئها طبعه بلا تثقيف ويسمح بها خاطره عن غير صقال.   1 يريد أسماء بنت أبي بكر في تحريضها لابنها عبد الله بن الزبير على حرب بني أمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ثم لما صار هؤلاء القوم إلى الدين وتمسكوا بالشريعة وعادوا أصحاب كتاب يدرس ومذهب يروى ظهر لعمري من دقيق أفهامهم وعجيب كلامهم ما هو موجود لا يخفى على أحد جالس العلماء وخالط الكتب سبقهم إليه ومعجزهم فيه وأنهم فرعوا من المذاهب وولدوا من العلوم ما كان من قبلهم كان ممنوعاً منه ومصروفاً عنه. وأما حب الذكر وجميل الثناء والفرق من الذم وسوء القول فمما هو معلوم من عادتهم معروف من شيمتهم. حتى كانوا إذا أسروا شاعراً شدوا لسانه بن سعة خوفاً من أن يسبقهم ببيت يشرد أو يعجلهم بقول يؤثر. وقد قال أبو عثمان الجاحظ: لأمر ما قال حذيفة بن بدر لأخيه والرماح شوارع في صدره إياك والكلام المأثور. وقال هذا مذهب فرعت فيه العرب جميع الأمم وهو مذهب جامع لأصناف الخير. وأما الغيرة والأنفة والصبر والجلد فمعلوم منهم حتى نسبوا إلى الفظاظة وذكروا بالقساوة وعلل ذلك بإكثارهم أكل لحوم الإبل وإدمانهم التقوت بها وزعموا أن في طباعها قسوة القلوب ومن عادتها غلظ الأكباد. هذا وهم متى هب في أحدهم نسيم الصبابة ودبت في مفاصله نشوة الهوى لانت تلك المعاطف ورقت تلك الشمائل وعاد ذلك العز ذلاً وفرقاً وصارت تلك النخوة توسلا وخضوعاً لكنه مع العفاف من الريب والبعد من التهم والمساواة بين الباطن والظاهر والاتفاق بين الغائب والبادي. وأشعارهم وأخبارهم بهذا كله مملوءة حتى كان هذا الحي من عذرة1 قوماً إذا نظروا عشقوا وإذا عشقوا ماتوا.   1 قبيلة اشتهرت بالحب العذري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وأما مراعاة الأنساب وحفظها وذكر الأصول والبحث عنها فباب تفردت به العرب فلم يشاركها فيه مشارك ولا ماثلها فيه مماثل وفوائده في الانتصار للعشيرة والحمية للأهل وغير ذلك معروفة ليس هذا موضع ذكرها وتقصى الكلام عليها. هذه شيمهم وأخلاقهم وفيهم من بعد كتاب الله خير الكتب ورسوله سيد الرسل ودينه ناسخ الأديان. وفي جميع ما ذكرناه من أشعارهم ما يدل على صحته لكن المختار منه يأتي في الكلام على الفصاحة من هذا الكتاب بمشيئة الله تعالى فلذلك لم نورده هنا خوفاً من الإعادة وفراراً من التكرار. ونعود إلى الكلام في اللغة قالوا مما إختصت به لغة العرب من الحروف وليس هو في غيرها حرف الظاء وقال آخرون حرف الظاء والضاد. ولذلك قال أبو الطيب المتنبي: وبهم فخر كل من نطق الضاد يريد وبهم فخر جميع العرب. وقد ذهب قوم إلى أن الحاء من جملة ما تفردت به لغة العرب وليس الأمر كذلك لأني وجدتها في اللغة السريانية كثيراً. وحكى أنها في الحبشية والعبرانية. وأما العين والصاد والطاء والتاء والقاف فقد تكلم بها غير العرب إلا أنها قليل. وقد خلت اللغة العربية من حروف توجد في غيرها من اللغات لا سيما لغة الأرمن فإنها على ما قيل ستة وثلاثون حرفاً إلا أنك إذا تأملتها وجدت بعض الحروف التي فيها يتشابه ببعض كثيراً على حد تشابه الظاء والضاد في لغة العرب. فإن هذين الحرفين متقاربان لأجل ذلك احتاج الناس إلى تصنيف الكتب في الفرق بينهما ولم يتكلفوا ذلك في غيرهما من الحروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فأما الأعراب فقل من رأيت من فضحائهم اليوم من يفرق بينهما في كلامه وهذا يدلك على شدة التشابه وقوة التماثل ولست أقول هذا على وجه الأحتجاج بكلامهم فإنهم الآن محتاجون إلى أقتباس اللغة من الحضر وإصلاح المنطق بأهل المدر. إلا أنهم قل ما يتفق منهم العدول عن النطق بحرف من الكلام إلى حرف آخر إلا والشبه فيهما قوى على ما قدمت ذكره. ووقوع المهمل من هذه اللغة على ما قدمته لك في الأكثر من اطراح الأبنية التي يصعب النطق بها لضرب من التقارب في الحروف فلا يكاد يجىء في كلام العرب ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة لحزونة ذلك على ألسنتهم وثقله. وقد روى أن الخليل ابن أحمد قال: سمعنا كلمة شنعاء وهي الهغجع وأنكرنا تأليفها. وقيل إن إعرابياً سئل عن ناقته فقال: تركتها ترعى الهغجع فلما كشف عن ذلك وسئل الثقات من العلماء عنه أنكروه ودفعوه وقالوا: نعرف الخعخع وهذا أقرب إلى تأليفهم لأن الذي فيه حرفان حسب. وحروف الحلق خاصة مما قل تأليفهم لها من غير فصل يقع بينهما كل ذلك أعتماداً للخفة وتجنباً للثقل في النطق. فأما القاف والكاف والجيم فلم تتجاوز في كلامهم البتة لم يأت عنهم قج ولا جق ولا كج ولا جك ولا قك ولا كق وكل ذلك فراراً مما ذكرناه إلا أن هذه الحروف قد تكررت في بعض الكلام قال رؤبة بن العجاج: لو أحق الأقراب فيها كالمقق1 ونحو ذلك. والعلة فيه على ما ذكر أصحاب هذه الصناعة أن المكرر معرض في أكثر أحواله للإدغام لأنك تقول فرس أمق والحرفان   1 لواحق الأقراب خماص البطون قد لحقت بطونها بظهورها والمقق الطول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 المتجاوران لا يمكن إدغام أحدهما في الآخر حتى يتكلف قبله إلى لفظه ثم يدغم فكانت المشقة فيه أغلظ فرفض لذلك. وهذا وجه صالح. وقد قسم تأليف الحروف ثلاثة أقسام فالأول تأليف الحروف المتباعدة وهو الأحسن المختار والثاني تضعيف هذا الحرف نفسه وهو يلي هذا القسم في الحسن والثالث تأليف الحروف المتجاورة وهو إما قليل في كلامهم أو منبوذ رأساً لما قدمناه والشاهد على ما ذكرناه الحس فإن الكلفة في تأليف المتجاور ظاهرة يجدها الإنسان من نفسه حال التلفظ ومن الحروف التي لم يتركب في كلامهم بعضها مع بعض الصاد والسين والزاي ليس في كلام العرب مثل سص ولا صس ولا سز ولا زس ولا زص ولا صز والعلة في هذا كله واحدة. وهذه جملة مقنعة في هذا الفصل لمن وقف عليها بعون الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الكلام في الفصاحة : الفصاحة الظهور والبيان ومنها أفصح اللبن إذا انجلت رغوته وفصح فهو فصيح قال الشاعر: وتحت الرغوة اللبن الفصيح ويقال أفصح الصبح إذا بدا ضوءه وأفصح كل شيء إذا وضح وفي الكتاب العزيز: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ} 1وفصح النصارى عيدهم وقد تكلمت به العرب. قال حسان بن ثابت: ودنا الفصح فالولائد ينظمن ... سراعا أكلة المرجان ويجوز أن يكون ذلك لاعتقادهم أن عيسى عليه السلام ظهر فيه   1 سورة القصص الآية 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وسمي الكلام الفصيح فصيحاً كما أنهم سموه بياناً - لأعرابه عما عبر به عنه وإظهاره له إظهاراً. جلياً. روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أنا أفصح العرب" 1 بيد أني من قريش. والفرق بين الفصاحة والبلاغة أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني. لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها إنها فصيحة. وكل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغاً كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه. وقد حد الناس البلاغة بحدود إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم وليست بالحدود الصحيحة فمن ذلك قول بعضهم لمحة دالة وهذا وصف من صفاتها فأما أن يكون حاصرا لها وحداً يحيط بها فليس ذلك بممكن لدخول الإشارة من غير كلام يتلفظ به تحت هذا الحد. وكذا قال آخر والبلاغة معرفة الفصل من الوصل لأن الإنسان قد يكون عارفاً بالفصل والوصل عالما بتمييز مختار الكلام من مطرحة وليس بينه وبين البلاغة سبب ولا نسب ولا يمكنه أن يؤلف ما يختاره من تأليف غيره والحدود لا يحسن فيها التأول وإقامة المعاذير وغرابة ألفاظ تدل على المقصود لأنها مبنية على الكشف الواضح موضوعة للبيان الظاهر والغرض بها السلامة من الغامض فكيف يوقع في غامض بمثله. وكذلك قول الآخر: البلاغة أن تصيب فلا تخطيء وتسرع فلا تبطئ لأن هذا يصلح لكل الصنائع وليس بمقصور على صناعة البلاغة وحدها ثم إنما سئل عن بيان الصواب في هذه الصناعة من الخطأ فجعل جواب السائل نفس سؤاله. وبهذا أيضاً يفسد قول من ادعي أن حدها الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطل. وقول من قال: البلاغة اختيار الكلام   1 بيد بمعنى غير أو من أجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وتصحيح الأقسام. لأن هذين إنما سئلا عن حد يبين الكلام المرفوض من المختار والخطأ من الصواب ويوضح كيف يكون الإيجاز مختاراً ومتى يقع الإطناب مرضيا محموداً فأحالا على ما السؤال فيه باق وعدم العلم معه موجود حاصل. وفي البلاغة أقوال كثيرة غير خارجة عن هذا النحو وإذا كانت الفصاحة شطرها وأحد جزئيها فكلامي على المقصود وهو الفصاحة غير متميز إلا في الموضع الذي يجب بيانه من الفرق بينهما على ما قدمت ذكره فأما ما سوى ذلك فعام لا يختص وخليط لا ينقسم. وسأذكر بمشيئة الله ما يخطر لي ويسنح بفكري في موضعه. وأقول قبل ذلك إن الناس قد أكثروا من الدلالة على شرف الفصاحة وعظم قدر البيان والبلاغة ونبهوا بطرق كثيرة وألفاظ مختلفة. وقد قال عز اسمه: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 1ولم يكن تعالى يذكر البيان ها هنا إلا وهو من عظيم النعم على عبيده وجميل البلاء عندهم لا جرم وقد قرن ذلك بذكر خلقهم فجعله مضافا إلى المنة بخروجهم من العدم إلى الوجود ومن جانب النفي إلى الإثبات. وأنا أقول قولا مختصرا كافيا: قد ثبت أن الفرق الواضح بين الحيوان الناطق والصامت هو النطق وبه وقع التمييز في الحد المنسوب إلى الحكيم2وأن كان يفسره أصحابه بغير هذا الظاهر فالشرف منه يؤخذ والفضل به يقع. ولا خلاف في أن الصمت أفضل من مطرح الكلام ومنبوذه وأوفق للسامع من كلف ذلك. فقد صار مع هذا   1 سورة الرحمن الآيات 1-4. 2 يشير المؤلف بلفظه الحكيم إلى أرسطو الذي عرف الإنسان بأنه حيوان ناطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 التخريج الفصل المميز والفضل اللائح إنما هو للإفصاح والبيان والبلاغة وحسن النطق دون ما يسمى كلاماً فقط. ووجب على من أراد أن يخرج من حيز ذلك الصامت الناطق1سلوك الطريق الذي به توجد الفضيلة وعنه تدرك الميزة باجتهاده إن كان لا دربة له وتكلفه أن كان لا طبع عنده. وليعلم أن من شارك الناطق بالصورة وخالفه بالمعنى الموجب للشرف أسوأ حالاً وأقبح صفة من الصامت المخالف في الأمرين معا. لأن هذا غريب في الموضع الذي وجد فيه آهلا ووحيد في المكان الذي خلق به آنساً. وما أحسن ما قال إبراهيم بن محمد المعروف بالإمام2يكفى من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق ولا الناطق من سوء فهم السامع. وهذا كلام مختار في تفضيل البلاغة. وقال سهل بن هرون الكاتب3: العقل رائد الروح والعلم رائد العقل والبيان ترجمان العلم. وأولى من هذا بالحجة قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس وقد سأله فيم الجمال فقال: "في اللسان".   1 في نسخة أخرى الناقص. 2 هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب زعيم الدعوة العباسية قبل ظهورها أوصى له أبوه بالإمامة هو الذي وجه أبا مسلم الخراساني واليا على دعاته وشيعته في خراسان كان فصيح اللسان راجح العقل يروي الحديث والأدب عرف باسم إبراهيم الإمام توفي سنة 131هـ. 3 هو سهل بن هارون بن راهبون أو راهيون أبو عمر الدستميساني كاتب بليغ حكيم من واضعي القصص يلقب بزرجمهر الإسلام اتصل بهارون الرشيد وارتفعت مكانته عنده حتى أحله محل يحيى البرمكي صاحب دواوينه ثم خدم المأمون فولاه رياسة خزانة الحكمة ببغداد له كتبا كثيرة منها: الإخوان, والمسائل, وتدبر الملك والسياسة, والنمر والثعلب وغيرها كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقالوا لما دخل ضمرة بن ضمرة1 على النعمان بن المنذر احتقره لما رأى من دمامته وقال: تسمع بالمعيدي2 خير من أن تراه. فقال: أبيت اللعن أن الرجال لا تكال بالقفزان وليست تستقي فيها وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه إن صال صال بحنان وأن نطق نطق بلسان. وأنشدوا لأبي الأعور السلمى: كائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم3 وهذان البيتان قد ذكرتهما فيما تقدم حكاية عن أبي طالب العبدي لكن هذا موضعهما. وقيل لزيد بن علي عليهما السلام: الصمت أفضل أم الكلام فقال أخزى الله المساكتة فما أفسدها للسان وأجلبها للحصر والله إن المماراة على ما فيها لأقل ضرراً من السكتة التي تورث أدواء أيسرها العي. وأنت إذا سمعتهم يمدحون الصمت وينظمون القريض في مدحه ويذكرون جنايات اللسان وكلومه ويروون عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: "وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم" ويقولون لو كان الكلام من فضة كان الصمت من ذهب. وأشباه هذا ونظائره.   1 هو ضمرة بن ضمرة بن جابر النهشلي من بني دارم شاعر جاهلي من الشجعان الرؤساء وهو صاحب يوم ذات الشقوق من أيام العرب في الجاهلية. أغار فيه على بني أسد وظفر بهم في مكان يسمى ذات الشقوق. 2 المعيدي تصغير المعدي خففت الدال استثقالا للتشديدين مع ياء التصغير. 3 البيتان ينسبان أيضا لزهير ابن أبي سلمى في معلقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فإنما يريدون الكلام الذي ليس بجميل واللفظ الذي لا يستحسن. فأما أن يكون الحسن يتواتر حتى يصير قبيحاً والقبيح يتضاعف حتى يكون حسناً فهذا شيء خارج عن حد العقل ونظامه وليس هذا المذهب مما يمكن وقوع الخلاف فيه فيحتاج إلى إطالة في بيانه وقد أوردنا لمحة يستدل بها على غيرها وأن المذكور في هذا النحو لا ينحصر ولا تستوفي غايته. وأقول قبل كلامي في الفصاحة وبيانها إنني لم أر أقل من العارفين بهذه الصناعة والمطبوعين على فهمها ونقدها مع كثرة من يدعي ذلك ويتحلى به وينتسب إلى أهله ويماري أصحابه في المجالس ويجاري أربابه في المحافل وقد كنت أظن أن هذا شيء مقصور على زماننا اليوم ومعروف في بلادنا هذه حتى وجدت هذا الداء قد أعيا أبا القاسم الحسن بن بشر الآمدي وأبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قبله وأشكاهما حتى ذكراه في كتبهما. فعلمت أن العادة به جارية والرزية فيه قديمة. ولما ذكرته رجوت الانتفاع به من هذا الكتاب وأملت وقوع الفائدة به إذ كان النقص فيما أبنته شاملا والجهل به عاما والعارفون حقيقته قرحة الأدهم1بالإضافة إلى غيرهم والنسبة إلى سواهم. ونبتدئ الآن بالكلام فيما أجرينا القول إليه ونقول إن الفصاحة على ما قدمنا نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ. وبحسب الموجود منها تأخذ القسط من الوصف وبوجود أضدادها تستحق الأطراح والذم. وتلك الشروط تنقسم قسمين فالأول منها يوجد في اللفظة الواحدة على انفرادها من غير أن ينضم إليها شيء من الألفاظ وتؤلف معه والقسم الثاني يوجد في الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض.   1 الأدهم الأسود من الخيل والقرحة بياض في وجهه دون الغرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فأما الذي يوجد في اللفظة الواحدة فثمانية أشياء: الأول: أن يكون تأليف تلك الفظة من حروف متباعدة المخارج على ما ذكرناه في الفصل الرابع1 وعلة هذا واضحة وهي أن الحروف التي هي أصوات تجرى من السمع مجرى الألوان من البصر ولا شك في أن الألوان المتباينة إذا جمعت كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة ولقرب ما بينه وبين الأصفر وبعد ما بينه وبين الأسود وإذا كان هذا موجودا على هذه الصفة لا يحسن النزاع فيه كانت العلة في حسن اللفظة المؤلفة من الحروف المتباعدة هي العلة في حسن النقوش إذا مزجت من الألوان المتباعدة وقد قال الشاعر في هذا المعنى: فالوجه مثل الصبح مبيض ... والفرع مثل الليل مسود ضدان لما استجمعا حسنا ... والضد يظهر حسنه الضد وهذه العلة يقع للمتأمل وغير المتأمل فهمها ولا يمكن منازعا أن يجحدها. ومثال التأليف من الحروف المتباعدة كثير جل كلام العرب عليه فلا يحتاج إلى ذكره. فأما تأليف الحروف المتقاربة فقد قدمنا في الفصل الرابع مثالا حكى منه وهو الهفخع ولحروف الحلق مزية في القبح إذا كان التأليف منها فقط وأنت تدرك هذا وتستقبحه كما يقبح عندك بعض الأمزجة من الألوان وبعض النغم من الأصوات. والثاني أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسناً ومزية عل غيرها وإن تساويا في التأليف من الحروف المتباعدة كما أنك تجد لبعض النغم   1 هو فصل في اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 والألوان حسناً يتصور في النفس ويدرك بالبصر والسمع دون غيره مما هو من جنسه كل ذلك لوجه يقع التأليف عليه ومثاله في الحروف ع ذ ب فإن السامع يجد لقولهم العذيب اسم موضع وعذيبة اسم امرأة وعذب وعذاب وعذب وعذبات مالا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ في التأليف وليس سبب ذلك بعد الحروف في المخارج فقط ولكنه تأليف مخصوص مع البعد ولو قدمت الذال أو الباء لم تجد الحسن على الصفة الأولى في تقديم العين على الذال لضرب من التأليف في النغم يفسده التقديم والتأخير وليس يخفى على أحد من السامعين أن تسمية الغصن غصناً أوفنناً أحسن أحسن من تسميته عسلوجاً. وأن أغصان البان أحسن من عساليج الشوحط1 في السمع ويقال لمن عساه ينازعنا في ذلك لو حضرك مغنيان وثوبان منقوشان مختلفان في المزاج هل كان يجوز عليك الطرب على صوت أحد المغنيين دون صاحبه وتفضيل أحد الثوبين في حسن المزاج على الآخر! فإن قال لا يصح أن يقع لي ذلك خرج عن جملة العقلاء وأخبر عن نفسه بخلاف ما يجد وأن اعترف بما ذكرناه قيل له فخبرنا ما السبب الذي أوجب عليه ذلك فإنه لا يجد أمراً يشير إليه إلا ما قلناه في تفضيل إحدى اللفظتين على الأخرى وقد يكون هذا التأليف المختار في اللفظة على جهة الاشتقاق فيحسن أيضاً كل ذلك لما قدمته من وقوعه على صفة يسبق العلم بقبحها أو حسنها من غير المعرفة بعلتها أو بسببها ومثال ذلك مما يختار: قول أبي القاسم الحسين بن علي المغربي في بعض رسائله ورعوا هشيما تأنفت روضه فإن تأنفت كلمة لإخفاء بحسنها لوقوعها الموقع الذي ذكرته وكذلك قول أبي الطيب المتنبي: إذا سارت الأحداج فوق نباته ... تفاوح مسك الغانيات ورنده   1 الشوحط نوع من الشجر يصنع منه القسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فإن تفاوح كلمة في غاية من الحسن. وقد قيل إن أبا الطيب أول من نطق بها على هذا المثال وإن وزير كافور الأخشيدي سمع شاعرا نظمها بعد أبي الطيب: فقال أخذتموها! ومثال ما يكره قول أبي الطيب أيضا: مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجر شي شريف النسب1 فإنك تجد في الجرشي تأليفاً يكرهه السمع وينبو عنه. ومثل ذلك قول زهير بن أبي سلمى: تقي نقي لم يكثر غنيمةً ... بنهكة ذي قربى ولا بحقلد2 الحقلد - كلمة توفي على قبح الجرشي وتزيد عليها. والثالث- أن تكون الكلمة كما قال أبو عثمان الجاحظ غير متوعرة وحشية كقول أبي تمام: لقد طلعت في وجه مصر بوجهه ... بلا طائر سعد ولا طائر كهل فإن كهلاها هنا من غريب اللغة وقد روى أن الأصمعي لم يعرف هذه الكلمة وليست موجودة إلا في شعر بعض الهذليين3 وهو قوله: فلو كان سلمى جاره أو أجاره ... رياح بن سعد رده طائر كهل   1 هذا البيت من قصيدة له في مدح سيف الدولة والجرشي بمعنى النفس. 2 الحقلد: البخيل. 3 هو: أبي خراش الهذلي ويقال طار لفلان طائر كهل إذا كان له جد وحظ في الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وقد قيل: إن الكهل الضخم وكهل لفظة ليست بقبيحة التأليف لكنها وحشية غريبة لا يعرفها مثل الأصمعي. ومن ذلك أيضاً ما يروى عن أبي علقمة النحوي من قوله: ما لكم تتكأكؤون على تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني. فإن تتكأكؤون وافرنقعوا - وحشي وقد جمع لعمري العلتين مع قبح التأليف الذي يمجه السمع والتوعر وما أكثر ما تجتمع العلتان في هذا الجنس ومن الأمثلة قول أبي تمام: بنداك يوسى كل جرح يعتلى ... رأب الأساء بدردبيس قنطر1 وكذلك قوله: قدك اتئد أربيت في الغلواء2 فإن هذه الألفاظ كما ترى وحشية. ويوجد هذا الجنس في شعر العجاج وابنه رؤبة كثيراً ومنه قول بعضهم: فشحا جحافلة جراف هبلع3 وقال الآخر: غرباً جروراً وجلالا خزخز4   1 الدردبيس والقنطر الداهية. 2 الرواية المشهورة قدك اتئب أربيت في الغلواء وقدك بمعنى حسبك واتئب بمعنى استحى وأربيت بمعنى زدت والغلواء المبالغة في العدل. 3 هو من قول جرير: وضع الخزير فقيل ابن مجاشع ... فشحما جحافله جراف هيلع وشجا فتح والجحافل جمع جحفلة وهي الشفة ولكنها في الأصل لغير الإنسان والجراف الأكول والهبلع الواسع الحنجور. 4 الغرب الدلو العظيمة والجلال البعير العظيم والخزخز القوي الشديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وقال غيره في صفة اللبن: وآخذ طعم السقاء سامط ... وخاثر عجلط عكالط1 وقول الآخر: يأكلن من قراص ... وحمصيص واص2 وفي هذه الألفاظ ما جمع الصفتين معاً على ما ذكرناه. وقد روى أن أبا العتاهية قال لمحمد بن مناذر: إن كنت أردت بشعرك شعر العجاج ورؤبة فما صنعت شيئاً وإن كنت أردت أهل زمانك فما أخذت مأخذنا. أرأيت قولك: ومن عاداك لاقي المرمريسا3 أي شيء المرمريس؟ ولهذا كله أعتمد الحذاق من الشعراء على اختيار أسماء المنازل والنساء في الغزل وتجنبوا ما لا يحسن لفظه للشروط التي ذكرناها وعابوا قول جرير بن عطية: وتقول بوزع قد دببت على العصا ... هلا هزئت بغيرنا يا بوزع وذكروا أن الوليد بن عبد الملك. قال: له أفسدت شعرك ببوزع   1 السقاء جلد السخلة إذا أجدع يكون للباء واللبن والسامط البن تذهب حلاوته والخائر اللبن الثخين والعجالط بمعناه أيضا وكذلك العكالط. 2 القراض: البابونج والحمصيص بقلة رملية حامضة وواص اسم فاعل من وصى الأرض اتصل نباتها. 3 المرمريس: الداهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وهجنوا اتباع الخليل بن أحمد1 له في هذا الاسم حين قال: أم البنين وأسماء ... والرباب وبوزع واستقبحوا قول أبي تمام: يقول أناس في حبينآء عاينوا ... عمارة رحلى من طريف وتالد وقالوا: ما الفائدة في ذكر حبينآء وليس أبو تمام مضطراً إلى ذكر الموضع الذي قيل له فيه هذا. وقد ذكروا أن الفرزدق أنكر على مالك بن أسماء بن خارجة وقد أنشده: حبذا ليلتي بتل بوني وقال أفسدت شعرك بذكر بوني قال له ففي بوني كان ذلك قال: وإن كان. وأما قول أبي عبادة البحتري: وأنا الشجاع وقد رأيت مواقفي ... بعقرقس والمشرفية شهدي فله في ذكر عقرقس عذر واضح لأنه الموضع الذي شاهد الممدوح به قتاله. وليس يحسن أن يذكر موضعاً غيره ولم يحمد فيه. وهذا ليس بموجب حسن اللفظة. ولكنه يبسط عذر ناظمها حسب. ومن هذه الألفاظ المذكورة قول عنترة:   1 هو الخليل بن أحمد الفراهيدي أبو عبد الرحمن من أئمة اللغة والأدب واضع علم العروض وهو أستاذ سيبويه النحوي ولد في البصرة سنة 100هـ وتوفي فيها سنة 170هـ عاش فقيرا صابرا وكان شاحب اللون ممزق الثياب مغمورا في الناس لا يعرف من كتبه: العين ومعاني الحروف وجملة آلات العرب وتفسير حروف اللغة هو الذي اخترع العروض وأحدث أنواعا من الشعر ليست من أوزان العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 شربت بماء الدحرصين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم1 ولعل عنترة أراد ذكر الماء المشروب على الحقيقة وإلا لو أمكنه أن يذكر اسم مورد من الموارد الذي يجري هذا المجرى كان أحسن وأليق. وأما قول الكميت: وأدنين البرود على خدود ... يزين الفداغم بالأسيل2 فإن الفداغم كلمة رديئة كما ترى. ومن الوحشي قول امرىء القيس بن حجر: وسن كسنيق سنآء وسنما3 فإن هذا على ما ذكر لم يعرفه الأصمعي ولا أبو عمرو وقال: هو بيت مسجدي يريد من عمل أهل المسجد. وقال غيرهما شنيق جبل وسنم هي البقرة فأما السن فالثور. ومن هذا أيضاً قول العجاج: وفاحماً ومرسناً مسرجاً فإن المرسن الأنف والمسرج لا يعرف حتى خرج له أنه أراد   1 ضمير شربت للتاقة والدحرضان ماءان وزوراء مائلة من النشاط والديلم ماء ببني سعد بمعنى أنها تنفر عنها لأنها تخافها لعداوة أو نحوها. 2 الفداغم جمع فدغم وهو الخد الحسن الممتلئ والأسيل الأملس بمعنى الوجه. 3 تمام البيت هو: وسن كسنيق سناء وسنما ... ذعرت بمدلاج الهجير تهوض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 بالمسرج المحدد من قولهم للسيوف السريجيات منسوبة إلى قين يعرف بسريج. وهذا القصد على ما تراه وحشى غريب. وما زال أهل العلم بالشعر يكرهون قول ذي الرمة: عصا عسطوس لينها وإعتدالها وفي عسطوس ضروب من العيوب المذكورة وقيل إنه الخيزران. وقد كان يمكن ذا الرمة أن يقول: عصا خيزران. وإن كان هؤلاء الشعراء أرادوا الإغراب حتى يتساوى في الجهل بكلامهم العامة وأكثر الخاصة فما أقبح ما وقع لهم. وقد رأيت أنا جماعة يتعمدون هذا فقلت لهم: إن سررتم بمعرفتكم وحشى اللغة فيجب أن تغتموا بسوء حظكم من البلاغة. وجرى بين أصحابنا في بعض الأيام ذكر شيخنا أبي العلاء بن سليمان1 فوصفه واصف من الجماعة بالفصاحة واستدل على ذلك بأن كلامه غير مفهوم لكثير من الأدباء فعجبنا من دليله وان كنا لم نخالفه في المذهب. وقلت له: إن كانت الفصاحة عندك بالألفاظ التي يتعذر فهمها فقد عدلت عن الأصل أولا في المقصود بالفصاحة التي هي البيان والظهور ووجب عندك أن يكون الأخرس أفصح من المتكلم لأن الفهم من إشاراته بعيد عسير. وأنت تقول كلما كان أغمض وأخفى كان أبلغ وأفصح. وعارضه أبو العلاء صاعد بن عيسى الكاتب وقال: صدقت إننا لا نفهم عنه كثيراً مما يقول إلا أن على قياس قولك يجب أن يكون ميمون الزنجي الذي نعرفه أفصح من أبي العلاء لأنه يقول ما لا نفهمه نحن ولا أبو العلاء أيضاً! فأمسك. وأنا أكره من قول كثير بن عبد الرحمن صاحب عزة:   1 هو أبو العلاء المعري أحمد بن عبد الله بن سليمان المتوفى سنة 446هـ المشهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها ذكر الجثجاث لأنه اسم غير مختار. ولو أمكنه ذكر غيره كان عندي أليق وأوفق. ولا أحب أيضاً تسمية أبي تمام صاحبه علاثة ونداءه بالترخيم في قوله: قف بالطلول الدارسات علاثاً ... أضحت حبال قطينهن رثاثا وإن كان الروى قاده إلى ذلك فليت شعري من حظر عليه القوافي واقتصر به على الثآر دون غيرها من الحروف! وليس يؤثر منه إلا الشعر الحسن على أقرب الوجوه وأسهل السبل دون ما يتكلف المشقة في نظمه والعناء في تأليفه وليس يغفر للشاعر لأجل ما يلزم به نفسه ذنب ولا يغفل له عن خطأ إذ كان حظر المباح وحرم الحلال وأعتمد تكلف النصب طوعاً واختياراً وهوى وقصداً. لكنه لعمري إذا أتانا بالسليم من الزلل البعيد من التكلف والخطل. وكان كذلك في مأخذ صعب ومسلك وعر حمدناه الحمد الكامل ووصفناه الوصف التام. ومن الألفاظ التي ذكرناها قول أبي عبادة البحتري: فلا وصل إلا أن يطيف خيالها ... بنا تحت جؤشوش من الليل مظلم1 فليس بقبح جؤشوش خفاء. هذا على إنني لم أعرف شاعراً قديماً ولا حديثاً أحسن سبكاً من أبي عبادة ولا أحذق في اختيار الألفاظ وتهذيب المعاني.   1 الجؤشوش: القطعة من الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ومن ذلك أيضاً قول أبي تمام: صهصلق في الصهيل تحسبه ... اشرج حلقومه على جرس وقول القطامي: إلى حيزبون توقد النار بعد ما ... تصوبت الجوزاء قصد المغارب1 فهل تعرف أوعر من صهصلق أو حيزبون؟ وعلى كل حال فالبدوي صاحب الطبع في هذا الفن أعذر من القروي المتكلف. لأن هذا لا يعرف هذه إلا بعد البحث والطلب وتجشم العناء في التصفح. وعلى قد ذلك يجب لومه والإنكار عليه. والرابع: أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية كما قال أبو عثمان أيضاً. ومثال الكلمة العامية قول أبي تمام: جليت والموت مبد حر صفحته ... وقد تفرعن في أفعاله الأجل فإن تفرعن مشتق من اسم فرعون. وهو من ألفاظ العامة. وعادتهم أن يقولوا: تفر عن فلان إذا وصفوه بالجبرية. ومنه قول أبي نصر عبد العزيز ابن نبانة: أقام قوام الدين زيغ قناته ... وأنضج كي الجرح وهو فطير فتأمل لفظة فطير تجدها عامية مبتذلة إن كانت لعمري قد وقعت   1 الحيزبون العجوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 هنا موقعاً لو كانت فصيحة هجنها وأذهب طلاوتها. كيف وهي على ما تراه. فأما قول أبي الطيب المتنبي: إني على شغفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها فلا شيء أقبح من ذكر السراويلات وما أعرف كناية أشهد الله أن التصريح أجمل منها ووصف عفة سلوك لريب والنهم أحسن من التلفظ بها إلا كناية أبي الطيب هذه ونعته عفافه هذا النعت. ومن الألفاظ العامية أيضاً قوله: خلوقية في خلوقيها ... سويداء من عنب الثعلب1 فإن عنب الثعلب مما أقول إن العامة لو نظمت شعراً لترفعت عن ذكره. وليس ايرادي هذه الأمثلة على جهة الطعن على هؤلاء الشعراء الفضلاء والغض منهم. وكيف يكون ذلك وسأورد من غرائبهم وبدائع كلامهم ما يعلم معه أننا تحت تقصير عن شأوهم ويقع العجز عن أدراك القريب من غاياتهم. لكني إذا أحتجت إلى إيراد الأمثلة في المختار والمنبوذ والمحود والمذموم فلا معدل لي عن أشعارهم وتصفح نظمهم وأخذ ما أريده منها وإيراده عنها في الصنفين معاً. ومن الألفاظ العامية أيضا قول أبي تمام في رواية أبي القاسم: لو كان كلفها عبيد حاجة ... يوماً لزنى شدقماً وجديلا2   1 هو من قطعة له في وصف عين باز يقول: إن مقلته صفراء مثل لون الخلوق وهو ضرب من الطيب أصفر اللون واتسان عينه كأنه الحبة الصغيرة من عنب الثعلب. 2 الضمير في كلفها للناقة وعبيد اسم الراعي الشاعر وشدقم وجديل فحلان كانا للنعمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فزنى في القبح يوفي على كل قبيح. فأما قول زهير بن أبي سلمى في قصيدته المختارة: وأقسمت جهداً بالمنازل من مني ... وما سحقت فيه المقادم والقمل1 فإن القمل من الألفاظ التي تجري هذا المجرى. وقول أبي تمام: قد قلت لما لج في صده ... أعطف عل عبدك يا قابري غاية في السخافة! لأن قابري من ألفاظ عوام النساء وأشباههن. وليس لأحد أن يتخيل أن العذر في إيراد هذه الألفاظ وأمثالها تعذر ما يقع موقعها في النظم كما يظن ذلك بعض المتخلفين في هذه الصناعة. وذلك أنه ليس يجب على الانسان أن يكون شاعراً ولا كاتباً ولا صاحب كلام يؤثر ولفظ يروى ولا يجب عليه لو وجب هذا أن ينظم تلك القصيدة التي وردت فيها هذه اللفظة ولا البيت من القصيدة. فكيف نعذره إذا أورد لفظة قبيحة جارية مجرى ما ذكرناه وهو قادر على حذف البيت كله واطراح ذكر جميعه إن لم يكن قادراً على تبديل كلمة منه. ونعود إلى ذكر الألفاظ العامية ونقول من الأمثلة قول أبي نصر ابن نباتة: فقد رفعت أبصارها كل بلدة ... من الشوق حتى أوجعتها الأخادع فإن أوجعتها من أشد ألفاظ العامة ابتذالا. وإن كانت الأخادع قبيحة. ومنها قول أبي تمام:   1 المقادم مقادم الرأس والقمل استعارة للشعر الذي يكون فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ليزدك وجدا بالسماحة ما ترى ... من كيمياء المجد تغن وتغنم وكيمياء من ألفاظ العوام المبتذلة وليست من ألفاظ الخاصة ولا يحسن نظم مثلها. وكذلك أيضاً قول أبي الطيب المتنبي: تستغرق الكف فوديه ومنكبه ... وتكتسى منه ريح الجورب الخلق1 والجورب مما يكره ايراد مثله لما ذكرته. وأمثال هذا كله في الأشعار المطرحة كثير. ولو تأملت قصيدة واحدة من شعر من يدعى القريض في هذا العصر وجدت فيها عدة أمثلة لكل ما أكرهه وأنكره إلا أني أعتمد على التمثيل بأشعار هؤلاء الفحول المتقدمين في هذه الصناعة لأمور: أولها صيانة هذا الكتاب عن تهجينه بذكر غيرهم. وثانيها أن اللفظة التي تكره في نظم هؤلاء الحذاق تقع فريدة وحيدة يظهر مباينتها لكلامهم فالعلم بها واضح وكشفها جلي. وقد قال حبيب بن أوس: وكذاك لم تفرط كآبة عاطل ... حتى يجاورها الزمان بحال وقال غيره قبله: الجهل في الجاهل المغمور مغمور ... والعيب في الكامل المذكور مذكور كفوفة الظفر تخفي من مهانته ... وبعضها في سواد العين مشهور2 وليس مكانها في أشعار غيرهم كذلك. بل هي منظومة مع غيرها في القبح وأشكالها. وثالثها إيثاري أن أعلمك أن مقدمي الفصاحة سامحوا   1 هذا البيت من قصيدة له في هجاء إسحاق ابن كيغلغ. 2 الغوقة بياض في الظفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 نفوسهم وأصبحوا في طاعة أهوائهم ليتحقق أن الزلل في طباع البشر موجود. والعصمة عن أكثرهم بائنة هذا على مالي في طلب ذلك من الكلفة والنصب إذ كان قليلا في كلامهم مغموراً بمحاسنهم وكنت أفتقر إلى تأمل الديوان الكامل حتى أظفر منه بالكلمات اليسيرة فأوردها مثالا. فأما اقتصاري في أكثر ما أمثل به على المنظوم دون المنثور مع أن كلامي عليهما واحد فإنما أقصد ذلك لكثرة المنظوم واشتهاره ورغبتي في أن يسهل الوزن عليك حفظ ما أذكره فإنه داع قوى وسبب وكيد. والخامس: أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح غير شاذة ويدخل في هذا القسم كل ما ينكره أهل اللغة ويرده علماء النحو من التصرف الفاسد في الكلمة. وقد يكون ذلك لأجل أن اللفظة بعينها غير عربية. كما أنكروا على أبي الشيص قوله: وجناح مقصوص تحيف ريشه ... ريب الزمان تحيف المقراض وقالوا: ليس المقراض من كلام العرب. وتبعه أبو عبادة فقال: وأبت تركي الغديات والآ ... صال حتى خضبت بالمقراض فعابوه عليهما معاً. وقد تكون الكلمة عربية إلا أنها قد عبر بها عن غير ما وضعت له في عرف اللغة كما قال أبو تمام: حلت محل البكر من معطى وقد ... زفت من المعطى زفاف الأيم1   1 ضمير حلت لصلة الممدوح وحلولها محل البكر عنده لأنها كانت أولى صنائعه له ويعني بزفافها زفاف الأيم من المعطى أنه أعطى مثلها كثيرا لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقال أبو عبادة: يشق عليه الريح كل عشية ... جيوب الغمام بين بكر وأيم فوضع الأيم مكان الثييب وليس الأمر كذلك. ليس الأيم الثيب في كلام العرب إنما الأيم التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً. قال الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} 1 وليس مراده تعالى نكاح الثيبات من النساء دون الأبكار وإنما يريد النساء اللواتي لا أزواج لهن. وقال الشماخ بن ضرار: يقر بعيني أن أحدث أنها ... وإن لم أنلها أيم لم تزوج وليس يسره أن تكون ثيباً. وقد حكى أن بعض كبار الفقهاء وهو محمد بن إدريس الشافعي2 غلط في ذلك والصحيح ما ذكرناه. ومثال هذا أيضا قول أبي تمام: ما مقرب يختال في أشطانه ... ملآن من صلف به وتلهوق3 يريد بالصلف هنا الكبر والتيه وهذا مذهب العامة في استعمال هذه   1 سورة التوبة الآية 32. 2 هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي أبو عبد الله أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة ولد في غزة بفلسطين وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين ارتحل إلى مصر سنة 199وتوفي فيها كان الشافعي أشعر الناس وأدبهم وأعرفهم بالفقه والقراآت وكان ذكيا له تصانيف كثيرة أشهرها كتاب الأم في الفقه ومن كتبه أيضا المسند في الحديث وأحكام القرآن والسنن والرسالة في أصول الفقه وغيرها كثير. 3 هو من قصيدة له يمدح فيها الحسن بن وهب ويصف فرسا حمله عليه وجملة ما مقرب مبتدأ وخبر على الاستفهام والمقرب المكرم على أهله ويختال في أشطانه أي يختال وإن كان مشكولا والتلهوق التخذلق يعني عزة نفس الفرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 اللفظة. وأما العرب فتقول: صلفت المرأة عند زوجها إذا لم تحظ عنده وصلف الرجل أيضاً كذلك إذا كرهته. قال جرير: إني أواصل من أردت وصاله ... بحبال لاصلف ولا لوام والصلف الذي لا خير عنده. ومن أمثالهم رب صلف تحت الراعدة1. ومن ذلك أيضاً قول أبي عبادة: شرطي الأنصاف إن قيل اشترط ... وصديقي من إذا صافي قسط وأراد بقسط عدل. لأن الأمر عليه وليس الأمر كذلك وإنما يقال أقسط: إذا عدل وقسط: إذا جار. قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} 2. وقد يكون ما ذكرناه على جهة الحذف من الكلمة كما قال رؤبة ابن العجاج: قواطناً مكة من ورق الحما يريد الحمام. كقول خفاف بن ندبة: كنواح ريش حمامة نجدية ... ومسحت باللثتين عصف الإثمد3 يريد كنواحي وكما قال غيره هو مضرس بن ربعي: وطرت بمنصلي في يعملات ... دوامي الأيد يخبطن السريحا4   1 الصلف قلة الخير والراعدة السحابة ذات الرعد يضرب للبخيل مع الغني والسعة. 2 سورة الحن الآية 15. 3 شبه شفتي المرأة بنواحي ريش الحمامة في رقتهما والإثمد الكحل وعصفه ما سحق. 4 المنصل السيف واليعملات النوق المطبوعة على العمل والسريح السير الذي يشد على رجلها يعني عقره لها بسيفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 والوجه الأيدي. ومن ذلك قول النجاشي: قلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك أسقني أن كان ماؤك ذا فضل أراد ولكن اسقني وقال الآخر: أو معبر الظهر ينبي عن وليته ... ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا1 يريد ما حج ربه. وقال مالك بن حريم الهمداني: فإن يك غثاً أو سميناً فانني ... سأجعل عينيه لنفسه مقنعا يريد لنفسه. وقال أبو الطيب المتنبي: تعثرت به في الأفواه ألسنها ... والبرد في الطرق والأقلام في الكتب2 وقد يكون على وجه الزيادة في الكلمة مثل أن يشبع الحركة فيها فتصير حرفا كما قال: وأنت على الغواية حين ترمى ... وعن عيب الرجال بمنتزاح3 أي بمنتزح. وقال غيره:   1 المعبر الظهر: الكثير وبره والولية البردعة.: الكثير وبره والولية البرذعة. 2 هذا البيت من قصيدة في رثاء أخت سيف الدولةوالبرد جمع بريد أي الرسول. 3 هذا البيت لابن هرمة يرثي ولده وعن عيب الرجال بمنتزاح أي بعيد عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وانني حيثما يسرى الهوى بصري ... من حيث ما نظروا أدنوا فانظور1 يريد أدنو فانظر. وقال الآخر: تنفي يداها الحصا في كل هاجرة ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف2 يريد الدراهم والصيارف. وقد يكون إيراد الكلمة على الوجه الشاذ القليل وهو أردأ اللغات فيها لشذوذه. والكثير أبداً خفيف كما يقول النحويون في خفة الأسماء لكثرتها. ومن هذا قول البحتري: متحيرين فباهت متعجب ... مما يرى أو ناظر متأمل فقوله باهت لغة رديئة شاذة. والعربي المستعمل بهت الرجل يبهت فهو مبهوت ومنه قول المتنبي: وإذا الفتى طرح الكلام معرضاً ... في مجلس أخذ الكلام اللذعنا3 فإن اللذ في الذي لغة شاذة قليلة. ومنه قوله أيضاً: ايفطمه التوراب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل4 فالتوراب لغة في التراب شاذة غير كثيرة.   1 هذا البيت للفراء. 2 هو للفرزدق والضمير في يديها للناقة. 3 هو من قصيدة له في مدح بدر بن عمار والاعتذار إليه عن تخلفه عنه. 4 هذا البيت للمتنبي أيضا وهو في رثاء ابن سيف الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وقد يكون لأن الكلمة بخلاف الصيغة في الجمع أو غيره كما قال الطرماح: وأكره أن يعيب على قومي ... هجاي الأرذلين ذوي الحنات فجمع إحنة على غير الجمع الصحيح لأنها إحنة وإحن ولا يقال حنات. وقد روى أبو بصير أن عبد الملك بن قريب الأصمعي قال: كنا نظن أن الطرماح شيء حتى سمعنا قوله هذا البيت. وكما قال الآخر: من نسج داود أبي سلام يريد أبا سليمان. ومن هذا الفصل أيضا أن يبدل حرف من حروف الكلمة بغيره كما قال الشاعر هو رجل من بني يشكر: لها أسارير من لحم متمرة ... من الثعالي ووخز من أرانيها1 يريد من الثعالب وأرانبها. وقال الآخر: ومنهل ليس له حوازق ... ولضفادي جمة نقانق يريد ولضفادع. ومنه أيضا إظهار التضعيف في الكلمة مثل قول الشاعر: هو قعنب بن أم صاحب2   1 يصف الشاعر في هذا البيت عقابا الأشارير جمع أشرارة وهي قطعة اللحم. 2 الشاعر هو قعنب بن ضمرة وهو في الأصل منسوب لأمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وأن ضننوا وأما صرف ما لا ينصرف كقول حسان بن ثابت: وجبريل أمين الله فينا ... وروح القدس ليس له كفآء ومنع الصرف مما ينصرف كما أنشدوا قول العباس بن مرداس: وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان كرداس في مجمع وكما قال البحتري: هزج الصهيل كأن في نغماته ... نبرات معبد في الثقيل الأول فمنعا الصرف عن مرداس ومعبد. وقصر الممدود كقول الآخر: والقارح العدا وكل طمرة ... ما إن تنال يد الطويل قذالها1 ومد المقصور على ما روى بعضهم: سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناء وحذف الأعراب للضرورة مثل قول امرىء القيس بن حجر: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل وتأنيث المذكر على بعض التأويل كقول الشاعر: وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم   1 هذا البيت للأعشى والطمرة: الفرس الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وتذكير المؤنث كما قال الآخر: هو عامر بن جوين الطائي: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها فإن هذا وأشباهه وما يجري مجراه وإن لم يؤثر في فصاحة الكلمة كبير تأثير فإنني أوثر صيانتها عنه لأن الفصاحة تنبىء عن اختيار الكلمة وحسنها وطلاوتها. ولها من هذه الأمور صفة نقص فيجب اطراحها. على أن ما ذكرته يختلف قبحه في بعض المواضع دون بعض على قدر التأويل فيه وحكمه. فأما إدخال الألف واللام على الفعل في نحو قول الشاعر1: يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع وتشديد الكلمة المخففة مثل قول الشاعر: كأن مهواها على الكلكل2 وقول الآخر: هو رؤبة: ضخم يحب الخلق الأضخما وتحريك الياء التي تقع قبلها كسرة في الرفع والجر مثل قول الشاعر: ما إن رأيت ولا أرى في مدتي ... كجواري يلعبن في الصحراء فإن هذا كله داخل في باب الزيادة التي ذكرناها وأشرنا إليها وهي مكروهة على ما تقدم.   1 هو لذي الخرق الطهوي. 2 الكلكل: الصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 والسادس: أن لا تكون الكلمة قد عبر بها عن أمر آخر يكره ذكره فإذا أوردت وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت وأن كملت فيها الصفات التي بيناها. ومثال هذا قول عروة بن الورد العبسي: قلت لقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا عند ما وان رزح1 والكنيف أصله الساتر ومنه قيل للترس كنيف غير أنه قد استعمل في الآبار التي تستر الحدث وشهرتها. فأنا أكرهه في شعر عروة وإن كان ورد موردا صحيحاً لموافقة هذا العرف الطارىء. على أن لعروة عذراً وهو جواز أن يكون هذا الاستعمال حدث بعده. بل لا أشك أنه كذلك لأن العرب أهل الوبر لم يكونوا يعرفون هذه الآبار. فهو وأن كان معذوراً وغير ملوم فبيته مما يصح التمثيل به. ومنه عندي قول الشريف الرضي رحمه الله: أعزز على بان أراك وقد خلت ... من جانبيك مقاعد العواد فإيراد مقاعد في هذا البيت صحيح لأنه موافق لما يكره ذكره في مثل هذا الشان. لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل اضافته إليهم وهم العواد. ولو انفرد كان الأمر فيه سهلا. فأما أضافته إلى ما ذكره ففيها قبح لاخفاء به. ومن هذا النحو قول أبي تمام: متفجر نادمته فكأنني ... للدلو أو للمرزمين نديم2   1 ما وان قرية من أرض اليمامة وقوم رزح: صعاليك. 2 المرزمان: نجمان من نجوم المطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فالدلو ها هنا أحد البروج ولا أختاره لموافقته اسم الدلو المعروف. وأنت تجد بأقرب تأمل فرق ما بين قول القائل لمن يمدحه: أنت المرزم جودا والجنة لمن تقصده الأيام عزا. وبين قوله: أنت الدلو كرماً والكنيف لطريد الدهر سعة. والمعنيان صحيحان. وحسن أحدهما وقبح الآخر ظاهر لإخفاء به. ولولا ما ذكرته ونبهت عليه لم يكن لذلك وجه ولا علة. ومن هذا أيضاً قول أبي صخر الهذلي: قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم1 وإنما أنكرت هذا لموافقته أيراد العامة هذه اللفظة على هذه الصيغة بالصاد فيما هي بالسين فكان ايثاري تجنبها لذلك. فأما قول عمرو: 2 وكم من غائط من دون سلمى ... قليل الأنس ليس به كتيع فجار هذا المجرى. والغائط البطن من الأرض إلا أنه يستعمل الآن في الحدث على ذلك الأصل. فذكره قبيح على ما تقدم. لكن عمرو معذور كعروة لأنه على ما ذكر وعرف حدث. فلعل عمراً قبله. ومما يوضح ما ذكرته لك ويبينه أنك تجد تصرم في قول أبي عبادة:   1 الصرم: القطيعة. 2 هو عمرو بن سعد يكرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 تصرم الدهر لا وصل فيطمعني ... فيما لديك ولا يأس فيسليني مختارا مرضياً. وكذلك يتصرم في الشعر المنسوب إلى يزيد بن معاوية وهو: خذوا بنصيب من نعيم ولذة ... فكل وإن طال المدى يتصرم ولا يقبحان لمخالفتهما الأسم الذي ذكرته في اللفظ. وهو قبيح في بيت الهذلي للموافقة لا على غير ما أعلمتك به. ومنه أيضاً قول أبي تمام: وعزائماً في الروع معتصمية ... ميمونة الأدبار والإقبال فالإدبار من الألفاظ المكروهة لما ذكرته. وكذلك قوله: يضحكن من أسف الشباب المدبر ... يبكين من ضحكات شيب مقمر لأن المدبر ها هنا مثل الأدبار في البيت الأول والكلمة الفصيحة غيرهما على ما بين. ومنه قول الشريف الرضي رحمه الله: سلام على الأطلال لا عن جنابة ... ولكن بأسا حين لم يبق مطمع فإن جنابة هنا لفظة غير مرضية للوجه الذي ذكرته وأن كانت لولا ذلك فصيحة مختارة لخلوها من العيوب غيره. والسابع: مما قدمناه أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فإنها متى زادت على الأمثلة المعتادة المعروفة قبحت وخرجت عن وجه من وجوه الفصاحة. ومن ذلك قول أبي نصر بن نباته: فإياكم أن تكشفوا عن رؤوسكم ... ألا أن مغناطيسهن الذوائب فمغناطيسهن كلمة غير مرضية لما ذكرته وأن كان فيها أيضاً عيوب أخر مما قدمناه. ومن هذا النوع أيضاً قول أبي تمام: فلأ ذربيجان اختيال بعد ما ... كانت معرس عبرة ونكال سمجت ونبهنا على استسماجها ... ما حولها من نضرة وجمال فقوله: فلأذربيجان كلمة رديئة لطولها وكثرة حروفها وهي غير عربية ولكن هذا وجه قبحها. وكذلك قوله في البيت الثاني: أستسماجها رديء لكثرة الحروف وخروج الكلمة بذلك عن المعتاد في الألفاظ إلى الشاذ النادر. ونحو من هذا قول أبي الطيب المتنبي: إن الكريم بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سويداواتها فسويدا واتها كلمة طويلة جدا فلذلك لا أختارها ومنه أيضا قول أبي تمام: أنله باستماعكه محلا ... يفوت علوه الطرف الطموحا فليس بقبح قوله: باستماعكه خفاء لكثرة الحروف على ما ذكرناه لا غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وكذلك قوله أيضاً: العيس تعلم أن حوباواتها ... ربح إذا بلغتك أن لم تنحر1 وحوباواتها كلمة طويلة. ومنه قوله أيضاً: وليس في كل الروايات: وإلى محمد ابتعثت قصائدي ... ورفعت للمستنشدين لوائي فالمستنشدين كلمة كثيرة الحروف على ما تراه. وهذا قد يستدل به على غيره وأن امثاله كثيرة. والثامن: أن تكون الكلمة مصغرة في موضع عبر بها فيه عن شيء لطيف أو خفي أو قليل أو ما يجري مجرى ذلك. فإني أراها تحسن به ويجب ذكره في الأقسام المفصلة ولعل ذلك لموقع الاحصار بالتصغير ومثال ذلك قول الشريف الرضي رحمه الله: يولع الطل بردينا وقد نسمت ... رويحة الفجر بين الضال والسلم2 فلما كانت الريح المقصودة هناك نسيما مريضاً ضعيفاً حسنت العبارة عنه بالتصغير وكان للكلمة طلاوة وعذوبة. ومثاله أيضا قول أبي العلاء صاعد بن عيسى الكاتب: إذا لاح من برق العقيق وميضة ... تدق على لمح العيون الشوائم   1 حوباوات جمع ومفردها الحوباء بمعنى النفس. 2 يولع يبيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أفلا تراه لما أراد أنها خفية تدق على من ينظرها حسن التصغير في العبارة عنها. وكذلك قول شيخنا أبي العلاء بن سليمان: إذا شربت رأيت الماء فيها ... أزيرق ليس يستره الجران1 لما كان ماء قليلا يلوح ودونه حائل من أعناق الإبل وساتر على كل حال حسن وروده مصغراً. وكذلك قول الرضى رحمه الله: زال وأبقي عند ورائه ... جذيم مال عرقته الحقوق فصغر لما أراد القلة. وأما قول المخزومي: وغاب قمير كنت أرجو طلوعه ... وروح رعيان ونوم سمر فإنما جعله قميراً لأنه كان هلالا غير كامل ويمكن الدلالة على ذلك بقوله: إنه غاب في أول الليل وقت نوم السمر والقمر إذا كان هلالا غاب في ذلك الوقت بلا شك. وهذا تصغير مختار في موضعه فأما الأسماء التي لم ينطق بها إلا مصغرة كاللجين والثريا وما أشبههما فليس للتصغير فيهما حسن يذكر لأنه غير مقصود به ما قدمناه ولذلك لا أختار التصغير في قول أبي الطيب:   1 الجران: باطن منق البعير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 إذا عذلوا فيها أجبت بأنة ... حبيبتا قلبي فؤادي هيا جمل1 لأنه عار من الوجه الذي ذكرته. فأما ما يذهب إليه من التصغير بمعنى التعظيم في مثل قول الشاعر: وكل أناس سوف يدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل فقد حكى أن أبا العباس المبرد كان ينكره ويزعم أن التصغير في كلام العرب لم يدخل إلا لنفي التعظيم ويتأول دويهية وما يجري مجراها بأن يقول أراد خفاءها في الدخول فصغرها لهذا الوجه وهو ضد التعظيم المذكور ويقوى عندي ما ذهب إليه أبو العباس المبرد أنهم إذا وضعوا التصغير أمارة للتحقير والتعظيم معاً فقد زالت الفائدة به ولم يكن دليلا على واحد منهما بل يرجع إلى المقصود باللفظة ويلتمس بيان ذلك من جهة المعنى دون اللفظ فليس للتصغير تأثير. وعلى كلا القولين فليس التصغير عندي وجهاً من وجوه الفصاحة إلا في الموضع الذي ذكرته دون ما يسمونه تصغيراً في التعظيم وعلى هذا أحمل قول المتنبي: أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد فلا أختار التصغير في لييلتنا لأنه تصغير تعظيم وليس على الوجه الذي ذكرته. فأما قول أبي نصر بن نباتة يصف الحية: ففي الهضبة الحمراء إن كنت ساريا ... أغيبر يأوي في صدوع الشواهق فإن تصغيره ها هنا مرضى على ما ذكرته لأن الحية توصف بأنها لا تغتذي إلا بالتراب قد جف لحمها وذهبت الرطوبة منها ألا ترى إلى قول النابغة:   1 جمل اسم محبوبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع فوصفها بأنها ضئيلة لما ذكرته: وأما قول أبي الطيب: ظللت بين أصيحابي أكفكفه ... وظل يسفح بين العذر والعذل 1 فالتصغير فيه مختار لأن العادة جارية في قلة عدد من يصحب الإنسان في مثل هذه المواضع ولهذا كانوا في الأكثر ثلاثة. وجرى ذكر الصاحبين والخليلين في الشعر كثيراً لهذا السبب كما قال امرؤ القيس: خليلي مر أبي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب وقال أبو نصر بن نباتة: قفا قاقضياني لذة من حديثه ... علانية إن السرار مريب وأمثال هذا يعرفها كل أحد وهي أكثر من أن يحاط بها أو تحصى. فهذه الأقسام الثمانية هي جملة ما يحتاج إلى معرفته في اللفظة لمفردة بغير تأليف فتأملها وقس عليها ما يرد عليك من الألفاظ فإنك تعلم الفصيح منها من غيره إن شاء الله تعالى.   1 العذل: اللوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الكلام في الألفاظ المؤلفة . وإذ كنا قد تكلمنا على الكلمة المفردة وقلنا فيها ما يستدل به على غيره فلنذكر الآن ما يحضرنا من القول في الكلام المؤلف وهم القسم الثاني ما ابتدأنا بذكره أولاً ونقول قبل ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 إن كل صناعة من الصناعات فكمالها بخمسة أشياء على ما ذكره الحكماء الموضوع وهو الخشب في صناعة النجارة والصانع وهو النجار والصورة وهي كالتربيع المخصوص إن كان المصنوع كرسياً والآلة مثل الميشار والقدوم وما يجري مجراهما والغرض وهو أن يقصد على هذا المثال الجلوس فوق ما يصنعه. وإذا كان الأمر على هذا ولا تمكن المنازعة فيه وكان تأليف الكلام المخصوص صناعة وجب أن نعتبر فيها هذه الأقسام. فنقول: إن الموضوع هو الكلام المؤلف من الأصوات على ما قدمته. وقد ذكرت فيه ما يقنع طالب هذا العلم وشرحت من حال اللفظة بانفرادها وما يحسن فيها ويقبح ما اعتمدت في تلخيصه وإيضاحه على أنني لم أرجع فيه إلى كتاب مؤلف ولا قول يروى ولا وجدت ما ذكرته مجموعا في مكان وإنما عرفته بالدربة وتأمل أشعار الناس وما نبه أهل العلم في أثباتها ولهذا لست أدعي السلامة من الخلل ولا العصمة من الزلل وأعترف بالتقصير وأسأل من ينظر في كتابي هذا بسط عذري والصفح عما لعله يثيره مسلكا صعبا وألفت منه تأليفاً مقتضباً يجب على المنصف الإعراض عما يجدني أشير إلى التجاوز عنه والتغمد له1. فأما الصانع المؤلف فهو الذي ينظم الكلام بعضه مع بعض كالشاعر والكاتب وغيرهما وسأذكر بعون الله في موضع من هذا الكتاب ما يفتقر المؤلف إلى معرفته ويحتاج إلى علمه. وأما الصورة فهي كالفصل للكاتب والبيت للشاعر وما جرى مجراهما.   1 التغمد له: التغاضي عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وأما الآلة فأقرب ما قيل فيها إنها طبع هذا الناظم والعلوم التي اكتسبها بعد ذلك ولهذا لا يمكن أحداً أن يعلم الشعر من لا طبع له وإن جهد في ذلك لأن الآلة التي يتوصل بها غير مقدورة لمخلوق. ويمكن تعلم سائر الصناعات لوجود كل ما يحتاج إليه من آلاتها. وأما الغرض فبحسب الكلام المؤلف فإن كان مدحاً كان الغرض به قولا ينبئ عن عظم حال الممدوح وإن كان هجوا فبالضد وعلى هذا القياس كل ما يؤلف وإن تألمته وجدته كذلك. وقد ذهب أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب1 إلى أن المعاني في صناعة تعلم الكلام موضوع لهل وذكر ذلك في كتابه الموسوم بنقد الشعر وقال في كتابه في الخراج وصناعة الكتابة عند كلامه على البلاغة إن اللغة تجرى مجرى الموضوع لصناعة البلاغة وهذان القولان على ما تراه مختلفان والصحيح منهما ما قدمناه وذكره في كتاب الخراج. ويجب أن يقال له إذا ذهب إلى أن المعاني هي الموضوع خبرنا عن الألفاظ التي أخذها هذا الصانع المؤلف فألفها إذا لم تكن عندك موضوعاً لصناعة فما منزلتها من الأقسام التي اعتبرها الحكماء في كل صناعة والتأمل قاض بصحتها ونحن نرى الألفاظ تأثيرها في هذه الصناعة التي كلامنا عليها تأثير بين الحسن والقبح ولا يجوز أن تكون مع هذه العلقة الوكيدة عرية منها فإن قلت إنها الآلة قلنا لك وأي صناعة من الصناعات تصاحبها الآلة بعد فراغ الصانع منها حتى تصير أصلا والمصنوع تابعاً لها فإنا نجد الألفاظ على هذه الصفة فبطل هذا الوجه أن يكون آلة وفساد أن تكون الألفاظ هي الصانع المؤلف أو   1 هو قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي أبو الفرج كاتب من البلغاء الفصحاء المتقدمين في علم المنطق والفلسفة يضرب به المثل في البلاغة توفي ببغداد سنة 237هـ من كتبه: الخراج ونقد الشعر وجواهر الألفاظ وغيرها كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الصورة المصنوعة أو العرض المقصود ظاهر لا يخفى على أحد فمتى أخرجت الألفاظ من أن تكون موضوعاً لصناعة التأليف أخرجتها من جملة الأقسام المعتبرة في كل صناعة ونحن نجد تعلقها ظاهراً. فإن قال لنا ما تقول انتم في المعاني مع أن علقتها أيضاً وكيدة قلنا المعاني وتأليف الألفاظ هي صناعة هذا الصانع التي أظهرها في الموضوع وهي التي تكمل الأقسام المذكورة فأما الألفاظ فليست من عمله وإنما له منها تأليف بعضها مع بعض حسب وقد وقفت في بعض المواضع على كلام في هذه الصناعة لا أعلم الآن صاحبه قدامة أو غيره - لأني قد أنسيت الكتاب الذي وجدته فيه - يدل على أن الألفاظ موضوع كما قلنا إلا أنه يدعي أن الناظم متى ألف لفظة رديئة فليس ذلك بعيب عليه كما أن النجار إذا صنع كرسياً من خشب رديء فليس بعيب في صناعته وقد أحكمها كون الموضع الذي هو الخشب رديئاً. وهذا الذي ذكره هذا القائل فاسد وذلك أن النجار يعاب إذا كان قليل البصيرة بموضوع صناعته ولو تمكن من عمل ذلك الكرسي الذي مثل به من خشب مرضى فعدل عنه إلى خشب رديء جهلا منه بالمختار من هذا الجنس كان معيباً عند أهل صناعته. وإنما يتوجه له العذر إذا سلم إليه خشب رديء لتظهر صناعته فيه فإنه عند ذلك لا يعاب لأجل الخشب فأما ناظم الكلام فقادر على اختيار موضوعه غير محظور عليه تأليف ما يؤثره منه فمتى عدل عن ذلك جهلا أو تسمحاً توجه الإنكار واللوم عليه وكان أهلاً له وجديراً به: على أن كلامنا في الصورة نفسها ولا شبهة في قبح صورة الكرسي المصنوع من رديء الخشب وإن كان النجار قد أحكم عمله. ومع هذا البيان كله فالفصاحة عبارة عن حسن التأليف في الموضوع المختار فإذا كنت قد ذكرت الموضع والوجه في اختياره وعلى أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 صفة يكون المرضى منه والمكروه بما فيه مقنع وكفاية ثم شرعت الآن في الكلام على التأليف بحسب ذلك وبينت منه الوجوه التي بها يحسن أو يقبح كان الكلام على التأليف بحسب ذلك وبينت منه الوجوه التي بها يحسن أو يقبح كان الكلام في معرفة الفصاحة وحقيقتها واضحاً جلياً وأمكن من لم تكن له بهادرية ولا معرفة الفرق بين فصيح الكلام وغيره باعتبار الصفات التي ذكرتها وكانت منزلة هذا الكتاب لمن لا يعرف البلاغة وطلاوة الكلام منزلة العروض لمن لا ذوق له يميز به بين صحيح النظم من فاسده والنحو لمن لا يعرف طبعاً وعادة وإنما يتكلف ويتصنع وليس يمكن إيضاح الفصاحة لمن يجهلها إلا بهذا السبب وعلى هذا النحو لأن من له بها معرفة وسابق علم إنما حصل له ذلك بالمخالطة والمناشدة وتأمل الأشعار الكثيرة والكلام المؤلف على طول الوقت وتراخى الأزمنة وليس يمكنه أن يحضر لمن أراد تعليمه كل بيت سمعه وفصل تأمله ولفظة كرهها ومعنى حكم بفساده أو بصحته لأن هذا يحتاج إلى الزمان الطويل والأيام الكثيرة بل لا يمكن حصوله البتة فلا طريق إلى العلم بما شرحته إلا من هذا النحو الذي قصدته والطريق الذي سلكت فيه. فأما من يفرق بين الكلام المختار وغيره فإنه وإن كان غير مفتقر إلى كتابي هذا كافتقار العاري من هذه الصناعة الراغب في اقتباسها فهو محتاج إليه من وجه آخر منزلته أيضاً منزلة العروض والنحو لصاحبي الذوق والطبع لأن العالم بالفصاحة إذا قطع على فصاحة بيت من قصيدة أو فصل من رسالة أو كلمة أو ما أشبه ذلك وفضله على غيره لم يمكنه أن يبين من أين حكم ولا لأي وجه فضل بل إنما يفزع إلى مجرد دعواه ومحض قوله فإذا عرف ما بينته وفصلته في هذا الكتاب علل واستدل وذكر الوجوه والأسباب كما أن العارف صحيح النظم بذوقه والمعرب بطبعه وعادته فإذا وقف على علم العروض والنحو علل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 في البيت الموزون والكلمة المعربة وقال هذا إنما كان صحيح الوزن لأنه من الدائرة الفلانية والبحر الفلاني وضربه كذا وعروضه كذا وعدد أجزائه كذا وذكر ما يحسن فيه من الزحاف ويقبح وفصل ما يفصله العروضيون. وقال في الكلمة المعربة إنما كانت مثلا مرفوعة لأنها فاعلة والفاعل في كلام العرب مرفوع وما يجرى هذا المجرى. وعلى مثل هذا النحو يقول في الفاسد الذي ينفر منه ذوقه أو يكرهه طبعه ويعلله على حد هذا التعليل الذي ذكرته. ونبتدئ الآن بالقول في تأليف الكلام على ما قدمناه من أن القسم الثاني من الفصاحة صفات توجد في التأليف وتعتبر ما يتفق فيه من الأقسام الثمانية المذكورة في اللفظة المفردة فنقول: إن الأول منها أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج وهذا بعينه في التأليف وبيانه أن يجتنب الناظم تكرر الحروف المتقاربة في تأليف الكلام كما أمرناه بتجنب ذلك في اللفظة الواحدة بل هذا في التأليف أقبح وذلك أن اللفظة المفردة لا يستمر فيها من تكرار الحرف الواحد أو تقارب الحرف مثل ما يستمر في الكلام المؤلف إذا طال واتسع. وما زال أصحابنا يعجبون من هذا البيت: لو كنت كنت كتمت الحب كنت كما ... كنا نكون ولكن ذاك لم يكن وليس يحتاج إلى دليل على قبحه للتكرار أكثر من سماعه. وقد روى أن أبا تمام لما أنشد أحمد بن أبي داود قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فالمجد لا يرضى بأن ترضى بأن ... يرضى المؤمل منك إلا بالرضى قال له إسحاق بن إبراهيم الموصلي: لقد شققت على نفسك يا أبا تمام والشعر أسهل من هذا. وكنت حاضراً عند شيخنا أبي العلاء وقد قرئت عليه قصيدة لأبي الطيب فلما وصل القارئ إلى هذا البيت: ولا الضعف حتى يبلغ الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف قال هذا والله شعر مدبر1 وكان من العصيبة لأبي الطيب على الصفة التي اشتهرت عنه. فأما قول الآخر: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر2 فمبنى من حروف متقاربة ومكررة ولهذا يثقل النطق به حتى يزعم بعض الناس أنه من شعر الجن ويختبر المتكلم بإنشاده ثلاث مرات من غير غلط ولا توقف. وكذلك قول الآخر: لم يضرها والحمد لله شئ ... وانثنت نحو عزف نفس ذهول فإن المصراع الثاني من هذا البيت يثقل التلفظ به وسماعه لما فيه من تكرر حروف الحلق.   1 ربما الأصح كما في نسخ أخرى مدين. 2 رغم أن هذا البيت لبعض الجن وكان قد صاح على حرب بن أمية في فلاة فمات بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وقد ذهب أبو الحسن على بن عيسى الرماني1 إلى أن التأليف على ثلاثة أضرب متنافر ومتلائم في الطبقة الوسطى ومتلائم في الطبقة العليا. قال والمتلائم في الطبقة الوسطي كقول الشاعر: رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية آرام الكناس2 رميم ألا رب يوم لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم قال: والمتلائم في الطبقة العليا القرآن كله وذلك بين لمن تأمله والفرق بينه وبين غيره من الكلام في تلاوم الحروف على نحو الفرق بين المتنافر والمتلائم في الطبقة الوسطى. وهذا الذي ذكره غير صحيح والقسمة فاسدة وذلك أن التأليف على ضربين متنافر ومتلائم وقد يقع في المتلائم ما بعضه أشد تلاوماً من بعض على حسب ما يقع التأليف عليه ولا يحتاج أن يجعل ذلك قسما ثالثاً كما يكون من المتنافرة ما بعضه أشد في التنافر أكثر من بعض ولم يجعل الرماني ذلك قسماً رابعاً. فأما البيتان فليسا في هذا الموضع بأحق من غيرهما. وأما قوله إن القرآن من المتلائم في الطبقة العليا وغيره في الطبقة الوسطى وهو يعنى بذلك جميع كلام العرب فليس الأمر على ذلك ولا فرق بين القرآن وبين فصيح الكلام المختار في هذه القضية ومتى رجع الإنسان إلى نفسه وكان معه أدني معرفة بالتأليف المختار وجد في كلام العرب هي ما يضاهى القرآن في تأليفه ولعل أبا الحسن يتخيل أن الإعجاز في القرآن لا يتم إلا بمثل هذه الدعوى الفاسدة والأمر بحمد الله أظهر   1 هو علي بن عيسى بن علي بن عبد الله أبو الحسن الرماني باحث معتزلي مفسر. من كبار النحاة أصله من سامراء ولد ببغداد سنة 296هـ وتوفي فيها سنة 384هـ وله نحو مئة مصنف منها: الأكوان والمعلوم والمجهول والأسماء والصفات والتفسير وغيرها كثير. 2 هما لابن حية النميري والكناس موضع في بلاد عبد الله بن كلاب ويقال له أيضا رمل الكناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 من أن يعضده بمثل هذا القول الذي ينفر عنه كل من علق من الأدب بشيء أو عرف من نقد الكلام طرفا. وإذا عدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك. وإذا كان الأمر على هذا فنحن بمعزل عن ادعاء ما ذهب إليه من أن بين تأليف حروف القرآن وبين غيره من كلام العرب كما بين المتنافر والمتلائم ثم لو ذهبنا إلى أن وجه إعجاز القرآن الفصاحة وادعينا أنه أفصح من جميع كلام العرب بدرجة ما بين المعجز والممكن لم يفتقر في ذلك ادعاء ما قاله من مخالفة تأليف حروفه لتأليف الحروف الواقعة في الفصيح من كلام العرب وذلك أنه لم يكن بنفس هذا التأليف فقط فصيحا وإنما الفصاحة لأمور عدة تقع في الكلام من جملتها التلاؤم في الحروف وغيره. وقد بينا بعضها وسنذكر الباقي فيم ينكر على هذا أن يكون تأليف الحروف في القرآن وفصيح كلام العرب واحداً ويكون القرآن في الطبقة العليا لما ضام تأليف حروفه من شروط الفصاحة التي التأليف جزء يسير منها فقد بان أن على كلا القولين لا حاجة بنا إلى ادعاء ما ادعاه مع وضوح بطلانه وعدم الشبهة فيه ثم يقال له أليس التلاؤم معتبراً في تأليف حروف الكلمة المفردة على ما ذكرناه فيما تقدم فلا بد من نعم! فيقال له فما عندك في تأليف كل لفظة من ألفاظ القرآن بانفرادها أهو متلائم في الطبقة العليا أم في الطبقة الوسطى فإن قال في الطبقة العليا قيل له أو ليس هذه اللفظة قد تكلمت بها العرب قبل القرآن وبعده ولولا ذلك لم يكن القرآن عربيا ولا كانت العرب فهمته فقد أقررت الآن أن في كلام العرب ما هو متلائم في الطبقة العليا وهو الألفاظ المفردة ولم يتوجه عليك في ذلك ما يفسد وجه إعجاز القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 هلا قلت إن في كلامهم المؤلف من الألفاظ ما هو أيضاً كذلك فإن علم الناظر بأحدهما كالعلم بالآخر وإن قال إن كل لفظة من ألفاظ القرآن متلائمة في الطبقة الوسطى قيل له أولاً إن مشاركة القرآن لطبقة ألفاظهم على هذا الوجه أيضاً باقية ثم ما الفرق بينك وبين من ادعى أن التلائم من ألفاظ القرآن في الطبقة الوسطي فإن أحد الموضعين كالآخر على أن اللفظة المفردة يظهر فيها التلاؤم ظهورا بينا بقلة عدد حروفها واعتبار المخارج وإن كانت متباعدة كان تأليفها متلائماً وإن تقاربت كان متنافراً ويلتمس ذلك بما يذهب إليه من اعتبار التوسط دون البعد الشديد والقرب المفرط فعلى القولين معاً اعتبار التلاؤم مفهوم وليس ينازعنا في كلمة من كلم القرآن إذا أوضحنا لك تأليفها وتقول ليس هذا في الطبقة العليا إلا ونقول مثله في تأليف الألفاظ بعضها مع بعض لأن الدليل على الموضعين واحد فقد بان أن الذي يجب اعتماده أن التأليف على ضربين متلائم ومتنافر وتأليف القرآن وفصيح كلام العرب من المتلائم ولا يقدح هذا في وجه من وجوه إعجاز القرآن والحمد لله. وقد ذهب على بن عيسى أيضاً إلى أن التنافر أن تتقارب الحروف في المخارج أو تتباعد بعداً شديداً وحكى ذلك عن الخليل بن أحمد. ويقال إنه إذا بعد البعد الشديد كان بمنزلة الطفر وإذا قرب القرب الشديد كان بمنزلة مشى المقيد لأنه بمنزلة رفع اللسان ورده إلى مكانه وكلاهما صعب على اللسان والسهولة من ذلك في الاعتدال ولذلك وقع في الكلام الإدغام والإبدال والذي أذهب أنا إليه في هذا ما قدمت ذكره ولا أرى التنافر في بعد ما بين مخارج الحروف وإنما هو في القرب ويدل على صحة ذلك الاعتبار فإن هذه الكلمة الم غير متنافرة وهي مع ذلك مبنية من حروف متباعدة المخارج لأن الهمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 من أقصى الحلق والميم من الشفتين واللام متوسطة بينهما وعلى مذهبه كان يجب أن يكون هذا التأليف متنافراً لأنه على غاية ما يمكن من البعد وكذلك أم وأو لأن الواو من أبعد الحروف من الهمزة. وليس هذان المثالان مثل عح ولا سز لما يوجد فيهما من التنافر لقرب ما بين الحرفين في كل كلمة ومتى اعتبرت جميع الأمثلة لم تر للبعد الشديد وجها في التنافر على ما ذكره فأما الإدغام والإبدال فشاهدان على أت التنافر في قرب الحروف دون بعدها لأنهما لا يكادان يردان في الكلام إلا فراراً من تقارب الحروف وهذا الذي يجب عندي اعتماده لأن التتبع والتأمل قاضيان بحضته وإذا ثبت ما ذكرناه فقد بان أن تكرر الحروف والكلام يذهب بشطر من الفصاحة وقد كان بعض العلماء بالشعر يعيب في قول أبي تمام: كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي ومتى ما لمته لمته وحدى تكرر حروف الحلق على سلامة المعنى واختيار الألفاظ. فأما قول أبي الطيب: العارض الهتن بن العارض الهتن بن ... العارض الهتن بن العارض الهتن1 فمن أقبح ما يكون من التكرار وأشنعه وإذا كان يقبح تكرار الحروف المتقاربة المخارج فتكرار الكلمة بعينها أقبح وأشنع وأما قوله أيضاً: وأنت أبو الهيجا بن حمدان يابنه ... تشابه مولود كريم ووالد وحمدان حمدون وحمدون حارث ... وحارث لقمان ولقمان راشد2   1 هذا البيت من قصيدة له في مدح محمد ين عبد الله الخصيبي والعارض السحاب والهتن: الكثير الصب يعني أنه جواد ابن أجواد. 2 هذا البيت موجه لسيف الدولة وقوله حمدان وحمدون إشارة إلى آباء سيف الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فليس هذا التكرار عندي قبيحاً لأن المعنى المقصود لا يتم إلا به. وقد اتفق له أن ذكر أجداد الممدوح على نسق واحد من غير حشو ولا تكلف لأن أبا الهيجاء هو عبد الله بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن راشد. ولو ورد هذا الكلام نثراً لم يزد على هذه الصفة فلما عرض في هذا التكرار معنى لا يتم إلا به سهل الأمر فيه وكان البيت مرضياً غير مكروه. وعلى ذلك يجب أن يحمل كل تكرار يجرى هذا المجرى. وقيل أذن أبو مهدية الأعرابي يوماً فقال أشهد أن لا إله إلى الله مرة فقيل له: خالفت السنة إنما هو أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله فقال أو ليس المعنى واحداً ونربح التكرار1 الذي هو عي. وأجاز لنا في بعض الأيام شيخنا أبو العلاء بن سليمان قول الشاعر: ألا طرقتنا بعد ما هجعوا هند ... وقد سرن خمسا واتلأب بنا نجد ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأى والبعد2 وقال: من حبه لهذه المرأة لم ير تكرير اسمها عيباً ولأنه يجد للتلفظ باسمها حلاوة فلم يرمن الاعتذار للتكرير إلا هذا العذر فأما قول أبي الطيب: لك الخير غيري رام من غيرك الغنى ... وغيري بغير اللاذقية لاحق3   1 الظاهر ونزيل التكرار وقد أخطأ أبو مهدية في دعواه إن هذا من التكرار المعيب. 2 البيتان للحطيئة ويقال اتلأب الأمر استقام وانتصب والطريق استقام وامتد والحمار أقام صدره ورأسه. 3 هو من قصيدة له في مدح الحسين بن إسحاق التنوخي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فلا خفاء بقبحه للتكرار وكذلك قوله: ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل لأنه ذكر الجهل خمس مرات وكرر بي فلم يبق من ألفاظ البيت ما لم يعده إلا اليسير. وأما قوله أيضاً: فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلهن قلاقل1 غثاثة عيشى أن تغث كرامتي ... وليس بغث أن تغث المآكل فقد اتفق له أن كرر في البيت الأول لفظة مكررة الحروف فجمع القبح بأسره في صيغة اللفظة نفسها ثم في إعادتها وتكرارها واتبع ذلك بغثاثة في البيت الثاني وتكرار تغث فلست تجد ما تزيد على هذين البيتين في القبح. ولم يزل الناس على وجه الدهر منكرين قول امرئ القيس بن حجر: ألا إنني بال على جمل بال ... يقود بنا بال ويتبعنا بال وهو لعمري قبيح وإن كان بيت هذا الفن الذي لا غاية وراءه في القبح قول مسلم بن الوليد الأنصاري: سلت وسلت ثم سل سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا2 ولولا أن هذا البيت مروي لمسلم وموجود في ديوانه لكنت أقطع على أن قائله أبعد الناس ذهناً وأقلهم فهماً وممن لا يعد في عقلاء العامة فضلاً عن عقلاء الخاصة ولكنى أخال خطرة من الوسواس أو شعبة من البرسام عرضت له وقت نظم هذا البيت فليته لما عاد إلى صحة مزاجه   1 قلقلت: حركت وقلاقل العيس النوق الخفيفة وقلاقل الثانية جمع قلقلة بمعنى الحركة. 2 يشير الشاعر في بيته هذا إلى الخمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وسلامة طباعه جحده فلم يعترف به ونفاه فلم ينسبه إليه وما أضيف هذا وأمثاله إلا إلى عوز الكمال في الخلقة وعموم النقص لهذه الفطرة. وأما قول أبي الطيب: قبيل أنت أنت وأنت منهم ... وجدك بشر الملك الهمام فقبيح للتكرار وقد زاده قبحا وقوعه بغير فصل. والحروف التي تربط بعض الكلام ببعض وتدل على معنى في غيرها كما يقول النحويون يبقح تكررها في الكلام وإن اختلفت ألفاظها وذلك لأنها جنس واحد ومشتركة في المعنى وإن تميزت فائدة بعضها من بعض. ومما يسهل الأمر فيها قليلاً وقوع الفصل بينها بكلمة من غيرها فأما أن ترد على نحو ما قال أبو الطيب: وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد1 فذلك العيب الذي لا يتوجه عذر فيه وقد أنكر أبو الفرج قدامة ابن جعفر الكاتب ما ذكرناه من قبح تكرر حروف الرباطات وقال في كتابه في الخراج وصناعة الكتابة فأما له منه أو منه عليه أو به له أو ما جرى هذا المجرى ففيه قبح وسبيل ذلك إذا وقع أن يحتال في فصل ما بين الحرفين بكلمة مثل أن يأتي ما يحتاج إلى أن يقال فيه أقمت شهيداً به عليه. فيقال أقمت عليه شهيداً به ثم قال بعد أوراق يسيرة: وبلغني أن المأمون أمر عمرو بن مسعدة يوما أن يكتب لرجل له به عناية فأنسي أبو الفرج ما قدمه وسها عما أنكره وقد كان يمكنه أن يعبر عما قاله أولا فيقول لرجل له عناية به ويجب أن يجعل هذا الزلل عذرنا فيما   1 الغمرة الشدة والسبوح: الفرس السريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 لعلنا أن نأتي به في هذا الكتاب من لفظة قد أنكرناها وأمرنا بتجنبها فإن الإنسان عم عن عيبه. ولنا بمن ذكرناه أسوة. وهذا الذي أنكرناه من تكرار الألفاظ فن قد أولع به الشعراء والكتاب من أهل زماننا هذا حتى لا يكاد الواحد منهم يغفل عن كلمة واحدة فلا يعيدها في نظمه أو نثره ومتى اعتبرت كلامهم وجدته على هذه الصفة. وما أعرف شيئاً يقدح في الفصاحة ويغض من طلاوتها أظهر من التكرار لمن يؤثر تجنبه وصيانة نسجه عنه. إذ كان لا يحتاج إلى كبير تأمل لا دقيق نظر. وقلما يخلو واحد من الشعراء المجيدين أو الكتاب من استعمال ألفاظ يديرها في شعره حتى لا يخل في بعض قصائده بها. فربما كانت تلك الألفاظ مختارة يسهل الأمر في إعادتها وتكريرها إذا لم تقع إلا موقعها. وربما كانت على خلاف ذلك. وقد كان أبو الحسن مهيار بن مرزويه1 ممن غرى بلفظة طين وطينة فما وجدت له قصيدة تخلو من ذلك إلا اليسير حتى وضع هذه اللفظة تارة في غير موضعها ومستعارة لما لا يليق بها وأقرها مقرها في بعض الأماكن ووافق بينها وبين ما ألفت معها. وذلك موجود في شعره لم يتتبعه. فهذا وإن لم يكن محموداً عندي فهو أصلح من التكرار في القصيدة الواحدة أو البيت الواحد. فأما قول بعضهم: ولولا دموعي كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع   1 هو مهيار بن مرزويه أبو الحسن أو أبو الحسين الديلمي شاعر كبير في أسلوبه قوة وفي معانيه ابتكار جمع بين فصاحة العرب ومعاني العجم. ولد في الديلم جنوب جيلان على بحر قزوين كان مجوسيا وأسلم واستخدم في بغداد للترجمة عن الفارسية أسلم سنة 394هـ على يد الشريف الرضي وعليه تخرج في الشعر والأدب له ديوان شعر أربعة أجزاء توفي سنة 428هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فليس من التكرار المكروه لما قدمته في بيت أبي الطيب1 وذلك أن المعنى مبنى عليه ومقصور على إعادة اللفظ بعينه. وهذا حد يجب أن تراعيه في التكرار فمتى وجدت المعنى عليه ولا يتم إلا به لم يحكم بقبحه وما خالف ذلك قضيت عليه بالاطراح ونسبته إلى سوء الصناعة. وقال أبو الفتح بن جنى. قلت لأبي الطيب المتنبي: إنك تكرر في شعرك ذا وذي كثيراً ففكر ساعة ثم قال: إن هذا الشعر لم يعمل كله في وقت واحد. فقلت: صدقت إلا أن المادة واحدة فأمسك. وأما القسم الثاني من الثمانية المذكورة أولاً وهو أن تجد للفظة في السمع حسناً ومزية على غيرها لا من أجل تباعد الحروف فقط بل لأمر يقع في التأليف ويعرض في المزاج كما يتفق في بعض النقوش على ما بيناه فيما تقدم فإن هذا إنما يكون في التأليف إذا ترادفت الكلمات المختارة فيوجد الحسن فيه أكثر وتزيد طلاوته على ما لا يجمع من تلك الكلمات إلا القليل. وهذا لعمري إنما يرجع إلى اللفظة بانفرادها وليس للتأليف فيه إلا ما أثاره التواتر والترادف. وكذلك الثالث والرابع من الأقسام وهما أن تكون الكلمة غير وحشية ولا عامية لأن هذين القسمين أيضاً لا علقة للتأليف بهما. وإنما يقبح إذا كثر فيه الكلام الوحشي أو العامي على حد ما يحسن إذا كثر فيه الكلام المختار فهو يرجع إلى اللفظة المفردة كما قلناه. وعلقة التأليف ما قدمناه من حكم الإسهاب في إيراد المحمود والمذموم إلا   1 يعني قوله: وحمدان حمدون وحمدون حارث ... وحارث لقمان ولقمان راشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 أن يتفق لفظة لم تبتذ لها العامة بانفرادها وإنما تستعملها مضافة إلى غيرها فيكون التأليف على هذا الغرض عامياً بحكم ما أفادته الضافة لتلك اللفظة وإذا اتفق هذا وجب تجنبها مضافة والاحتراز من الصيغة التي تعرض فيها بعض الوجوه المذمومة. وأما الخامس وهو أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح وللتأليف بهذا القسم علقة وكيدة لأن إعراب اللفظة تبع لتأليفها من الكلام وعلى حكم الموضع الذي وردت فيه. ولهذه الجملة تفصيل طويل إذا ذكرناه عدلنا عن الغرض المقصود بهذا الكتاب وشرعنا في صريح النحو ومحض علم الإعراب. ولذلك كتب موضوعة له ومقصورة عليه تغنى الناظر فيها عما نذكره في كتابنا هذا ويجد ما يبتغيه هناك مستوفى مستقصى فإن قال لنا قائل: إني إذا أنعمت النظر وأحسنت الفكر واعتبرت قول حسان: يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل وغيرت الإعرابي عن وجهه فرفعت المخفوض وخفضت المرفوع وأتيت بما لا يسيغه تأويل ولا يتوجه في مثله عذر ووجدت فصاحة هذا البيت على ما كانت عليه وهو جار على القانون العربي ومتى اعتبرت باقي الأقسام وجدت الأمر فيه على ما ذكرتموه ومخالفة لحكم هذا النوع لتأثيرها في الفصاحة ورونق الكلام وهذا يوجب عليكم الامتناع من إيراد هذا القسم في الجملة والاقتصار على ما تشهد النفوس بصحته ويقضي التأمل بتقبله. وقيل له: إننا لا ننكر أن يكون بعض ما ذكرناه من الأقسام أظهر من بعض وتأثيرها في الفصاحة أوضح وأجلى ن غيره. لكنا على كل حال لا نرضى بالقطع على اختيار الكلام العربي المؤلف والشهادة بحسنه وهو مخالف لما تلفظت به العرب وتواضعت عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 إن كان مواضعه وفيه وجه آخر من وجوه القبح عندهم. ولا يكون حسناً حتى تنتفى عنه وجوه القبح في مثله على أننا نجد في تغير الكنايات وعدول الضمائر عن السبق في إيرادها ما يزيل شطراً من الفصاحة وطرفاً من الرونق ومن تأمل قول عبيد الله بن قيس الرقيات: فتاتان أما منهما فشبيهة اله ... لال وأخرى منهما تشبه الشمسا فتانا بالنجم السعيد ولدتما ... ولم تلقيا يوماً هواناً ولا نحسا علم أن بين قوله: ولدتما وولدتا فرقاً واضحاً ومزية بينة1 ووجد الكلام الثاني كالمنقطع من الأول. وكذلك قول المتنبي: قوم تفرست المنايا فيكم ... فرأت لكم في الحرب صبر كرام لأن وجه الكلام قوم تفرست المنايا فيهم فرأت لهم. فهذا وما يجرى مجراه في جانب التأليف مذكور وفي شعبه معدود واتباع العرف في إيراد الظاهر المعروف دون الشاذ النادر واجب لمن آثر مشاركتهم في فصاحة النظم وسلامة النسج فإنما بهم يقتدي وعلى منارهم يهتدي ثم يقال لمن عساه يمنع أن يكون إعراب الكلام شرطا في فصاحته: هل يجوز عندك أن يكون عربياً وأن استعمل كل اسم منه لغير ما وضعته له العرب فإن قال: نعم لزمه أن يكون متكلماً باللغة العربية إذا سمى الفرس إنساناً والسواد بياضاً والموجود معدوماً وغير ذلك من الكلام وهذا حد لا يذهب إليه محصل وإن قال: لا يكون عربياً حتى يضع كل اسم في موضعه ويلفظ به على حد ما يلفظ به أهله قلنا: فقد دخل في هذا إعراب الكلام لأن   1 لأن في قوله ولدتما انتقالا من الغيبة إلى الخطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 معانيه تتعلق به وهو الدليل على المقصود منها وبه يزول اللبس والجواز فيها وإذا ثبت أنه لا يكون عربياً حتى يجرى على ما نطقت العرب به وجب أن يشترط في فصاحته تبعهم فيما تكلموا به ولا نجيز العدول عنه لأن كلامنا إنما هو في فصاحة اللغة العربية ومتى خرج الكلام عن كونه عربياً لم يتعلق قولنا به كما لا يتعلق بغيره من اللغات فقد بان أن اشتراطنا ما ذكرناه في الفصاحة صحيح لازم وتفصيل هذه الجملة يوجد في كتب النحو ولا يليق بكتابنا هذا ذكره لأنه علم مفرد وصناعة متميزة. وأما السادس مما ذكرناه وهو أن تكون الكلمة قد عبر بها عن أمر آخر يكره ذكره فللتأليف فيه تعلق بحسب إضافة الكلمة إلى غيرها فإن القبح يختلف بحسب ذلك كما قلنا في قول الشريف الرضى: أعزز علي بأن أراك وقد خلت ... من جانبيك مقاعد العواد لأن مقاعد لما أضيف إلى العواد زاد قبح الكلام ولو قال قائل: مقاعد الجبال على وجه الاستعارة أو غير ذلك لكان الأمر أسهل وأيسر فبهذا ونحوه يتعلق التأليف بهذا القسم. وأما السابع وهو اجتناب الكلمة الكثيرة الحروف فلا علقة للتأليف بهذا إلا أن ظهور قبحه أجلى إذا ترادفت فيه الكلمات الطوال على حد ما قلناه في الكلمة الوحشية. وأما الثامن وهو التصغير فلا علقة للتأليف به إذ كان لا يتعدى الكلمة بانفرادها لكني أقول أن تكرار التصغير والنداء والترخيم والنعت والعطف والتوكيد وغير ذلك من الأقسام والإسهاب في إيرادها معدود في جملة التكرار ويجب التوسط فيه فإن لكل شئ حداً ومقداراً لا يحسن تجاوزه لا يحمد تعديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فإن قيل: كيف تحمدون التصغير في الكلمة على ما قدمتموه فإذا انضاف إليه تصغير آخر قبح. وكل واحد منهما حسن في نفسه قلنا: إن التصغير المحمود معنى واحد وغير مختلف ولا متباين فنحن نكره تكراره كما نذم تكرار الكلمة الواحدة بعينها وإن كانت مرضية غير ذميمة والعلة في الجميع واحدة. فهذا ما يتعلق بالأقسام المذكورة في الكلمة بانفرادها قد أوضحناه وبيناه. ونعود إلى ما يختص بالتأليف وينفرد له. ونقول: إن أحد الأصول في حسنه وضع الألفاظ موضعها حقيقة أو مجازاً لا ينكره الاستعمال ولا يبعد فيه وهذه الجملة تحتاج إلى تفصيل نحن نذكره ونشرحه ونبين أمثلته ليقع فهمه والعلم به. فمن وضع الألفاظ موضعها أن لا يكون في الكلام تقديم وتأخير حتى يؤدي ذلك إلى فساد معناه وإعرابه في بعض المواضع أو سلوك الضرورات حتى يفصل فيه بين ما يقبح فصله في لغة العرب كالصلة والموصول وما أشبههما ولهذا أمثلة: منها قول الفرزدق يمدح إبراهيم بن إسماعيل خال هشام بن عبد الملك: وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه ففي هذا البيت من التقديم والتأخير ما قد أحال معناه وأفسد إعرابه لأن مقصوده وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه يعني هشاماً لأن أبا أمه أبو الممدوح. ومن هذا أيضاً قول عروة بن الورد العبسى: قلت لقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا عند ما وان رزح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم ... إلى مستراح من حمام مبرح1 لأن تقديره: قلت لقوم رزح في الكنيف عشية بتنا عند ما وان تروحوا تنالوا الغنى - ففصل بين الصفة والموصوف والأمر وجوابه. فأما قول أبي الطيب: المجد أخسر والمكارم صفقة ... من أن يعيش لها الهمام الأروع2 فجار هذا المجرى وفيه تقديم وتأخير وفصل بين الصلة والموصول وتقديره: المجد والمكارم أخسر صفقة. أما قول الفرزدق: فليست خراسان التي كان خالد ... بها أسد إذ كان سيفاً أميرها فإن جماعة من النحويين قالوا: أنه يمدح خالداً ويذم أسداً وكانا واليين بخراسان وخالد قبل أسد. وتقدير البيت فليست خراسان بالبلدة التي كان خالد فيها سيفاً إذ كان أسد أميرها ويكون رفع أسد مكان الثانية وأميرهما نعت له وكان في معنى وقع أو يكون في كان ضمير الشان والقصة ويكون أسد وأميرها مبتدأ وخبراً في موضع خبر الضمير وقال أبو سعيد السيرافي: إن تقدير البيت عنده أن يجعل أسداً بدلاً من خالد ويجعله هو خالد على سبيل التشبيه له بالأسد فكأنه قال فليست خراسان التي كان بها أسد إذ كان سيفاً أميرها ويجعل سيفاً خبراً لكان الثانية ويجعل أميرها الاسم. وعلى التأويلين معاً فلا خفاء بقبح البيت والتعسف فيه ووضع الألفاظ في غير موضعها والفرزدق أكثر   1 قوله: أو تبلغوا بنفوسكم إلى مستراح بمعنى أو تقتلوا. 2 هذا البيت من قصيدة له في رثاء أبي شجاع فاتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الشعراء استعمالاً لهذا الفن حتى كأنه يعتمده ويقصده ويعتقد حسنه. ومن ذلك قوله أيضاً: وترى عطية ضارباً بفنائه ... ربقين بين حظائر الأغنام متقلداً لأبيه كانت عنده ... أرباق صاحب ثلة وبهام1 يريد: متقلداً أرباق ثلة وبهام كانت لأبيه عنده. ومن التقديم والتأخير أيضاً قول الشاعر: صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم2 يريد: وقلما يدوم وصال على طول الصدود. وكذا قول الآخر: لما رأت ساتيد ما استعبرت ... لله در اليوم من لامها3 أي لله در من لامها اليوم. وعلى هذا قول المتنبي: جفخت وهم لا لايجخفون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دليل4 يريد: جفخت وهم لا يجفخون بها. وكذلك قوله: وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه   1 يهجو الشاعر في هذين البيتين عطية والد جرير الربق حبل فيه عدة عرى والبهام أولاد البقر والمعز الضأن. 2 هو للمرار بن سعيد الأسدي. 3 هو لعمرو بن قميئة. 4 جفخت: فخرت وتكبرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 لأن تقدير: وفاؤكما بان تسعدا كالربع أشجاه طاسمه ففصل وقدم وأخر. وكذلك قول أبي عدى القرشي: خير راعى رعية سره الله ... هشام وخير مأوى طريد أي خير راعى رعية هشام سره الله وقول الآخر: لعمر أبيها لا تقول خليلتي ... ألافر عني مالك بن أبي كعب يريد: لعمر أبي خليلتي. ومن وضع الألفاظ موضعها أن لا يكون الكلام مقلوباً فيفسد المعنى ويصرفه عن وجهه ولذلك أمثلة مذكورة. منها قول عروة بن الورد العبسي: فلو أني شهدت أبا سعاد ... غداة غد لمهجته يفوق فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوك إلا ما أطيق يريد أن يقول: فديت نفسه بنفسي. ومنه قول خداش بن زهير: وتركت خيل الهوادة بينها ... وتعصى الرماح بالضياطرة الحمر والضياطرة هي التي تشقى بالرماح. وكذلك قول الفررزدق: وأطلس عسال وما كان صاحباً ... رفعت لناري موهناً فأتاني وإنما النار هي المرفوعة للذئب ومن المقلوب أيضاً قول الآخر: 1   1 النابغة الجعدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناء فريضة الرجم1 وإنما الرجم فريضة الزناء. وعلى هذا حمل أبو القاسم الآمدي قول الطائي الكبير: طلل الجميع لقد عفوت حميدا ... وكفى على رزئي بذاك شهيدا2 قلل: لأنه يقول مضى حميداً شاهداً على أني رزئت ووجه الكلام أن يكون: وكفى برزءى شاهداً على أنه مضى حميداً لأن حميداً من الطلل قد مضى وليس بمشاهد معلوم وزرءه بما يظهر من تفجعه مشاهد معلوم فلأن يكون الحاضر شاهداً على الغائب أولى من أن يكون الغائب شاهداً على الحاضر. وهذا الذي ذكره الشيخ أبو القاسم رحمه الله قول مثله من يتقدم الناس في هذا العلم ودقيق النظر فيه وكشف سرائره. وقد حمل بعضهم قول أبي الطيب: وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق على المقلوب وتقديره عنده: كيف لا يموت من يعشق. وقال غيره: إن الكلام جار على طريقته والمراد به كيف تكون المنية غير العشق أي أن الأمر الذي يقدر في النفوس أنه في أعلى مراتب الشدة هو الموت ولما ذقت العشق فعرفت شدته عجبت كيف يكون هذا الأمر الصعب المتفق على شدته غير العشق وكيف يجوز أن لا تعم علته حتى تكون منايا الناس كلهم به - وكان هذا أشبه بمراد أبي الطيب من حمل الكلام على القلب.   1 الرثاء بالمد أصله الرثا بالقصر ففيه شاهد لمد المقصور أيضا. 2 هو لأبي تمام وإنما وصفه بالطائي الكبير لأنه كان أقدم من البحتري وهو من طي أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فأما قول الله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} 1 ليس من هذا بشئ وإنما المراد والله أعلم أن المفاتح تنوء بالعصبة أي تميلها من ثقلها وقد ذكر هذا الفراء وغيره وكذلك قوله عز اسمه: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ليس على ما يزعم بعضهم المراد به وأن حبه للخير لشديد بل المقصود به أنه لحب المال لبخيل - والشدة - البخل أي من حبه للمال يبخل. فأما قول الحطيئة: فلما خشيت الهون والعير ممسك ... على رغمه ما أمسك الحبل حافره2 فقد قيل فيه إن الحبل إذا أمسك الحافر فالحافر أيضاً قد شغل الحبل فعلى هذا ليس بمقلوب. وكذلك قول أبي النجم: قبل دنو الأفق من جوزائه لأن الجوزاء إذا دنت من الأفق فقد دنا منها. وقد حمل أبو الفتح عثمان بن جني قول أبي الطيب: نحن ركب ملجن في زي ناس ... فوق طيرلها شخوص الجمال على المقلوب وقال تقديره: نحن ركب من الأنس في زي الجن فوق جمال لها شخوص طير وهذا عندي تعسف من أبي الفتح لا تقود إليه ضرورة. ومراد أبي الطيب المبالغة على حسب ما جرت به عادة الشعراء.   1 سورة القصص الآية 76. 2 يقول ما دام الحمار مقيدا فهو دليل معترف بالهوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فيقول نحن قوم من الجن لجوبنا الفلاة والمهامه والقفار التي لا تسلك وقلة فرقنا فيها إلام أننا في زي الإنس - وهم على الحقيقة كذلك ونحن فوق طير من سرعة إبلنا إلا أن شخوصها شخوص الجمال ولا شك أيضاً في ذلك. فأما قول قطري بن الفجاءة المازني: ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام فقد حملوه على المقلوب. وقالوا: يريد قارح البصيرة جذع الإقدام. كما يقال: إقدام غرور أي مجرب وقد كان أبو العلاء صاعدين عيسى الكاتب جاراني في بعض الأيام هذا البيت وقال: ما المانع من أن يكون مقصوده لم أصب أي لم ألف على هذه الحال بل وجدت على خلافها جذع الإقدام قارح البصيرة ويكون الكلام على جهته غير مقلوب وتمكن الدلالة على أن قوله: لم أصب في البيت بمعنى لم ألف دون ما يقولون من أن مراده به لم أجرح قوله قبله: لا يركنن أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى متخوفاً لحمام فلقد أراني للرماح رديئة ... من عن يميني تارة وأمامي حتى خضبت بما تحدر من دمى ... أكناف سرجى أو عنان لجامى فكيف يكون لم يصب وقد خضب هذا بدمه فأما قولهم إنه أراد من دمي أي من دم قومي وبني عمي فمبالغة منهم في التعسف والعدول عن وجه الكلام ليستمر لهم أن يكون فاسداً غير صحيح وهذا الذي ذكره أبو العلاء وسبق إليه له وجه يجب تقبله واتباعه فيه وفحوى كلام قطري يدل على أنه أراد جرح ولم يمت إعلاماً أن الإقدام غير علة في الحمام وحثاً على الشجاعة ونيها عن الفرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ومن طريف التفسير للشعر أن يتأول ليقع الفساد فيه ولو حمل على ظاهره كان صواباً صحيحاً وما أعرف أعجب من حمل كافة المفسرين قول الفرزدق: أن الذي سمك السماء بنا لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول على وجهين أحدهما أن يكون أعز وأطول بمعنى عزيزة طويلة والثاني أعز وأطول من بيتك يا جرير. فيتعسفون في التأويل ومراد الشاعر أوضح من أن يخفى وأشهر من أن يجهل وهو أعز وأطول من السماء التي ذكرها في أول البيت وإنما جاء بها لهذا الغرض وهذا مبالغة في العشر معروفة مستعملة وليست بالمكروهة ولا الغريبة. ومن وضع الألفاظ في موضعها حسن الاستعارة وقد حدها أبو الحسن على بن عيسى الرماني فقال: هي تعليق العبارة على غير ما وضعت في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة وتفسير هذه الجملة أن قوله عز وجل {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} 1 استعارة لأن الاشتعال للنار ولم يوضع في أصل اللغة للشيب فلما نقل إليه بان المعنى لما اكتسبه من التشبيه لأن الشيب لما كان يأخذ في الرأس ويسعى فيه شيئاً فشيئاً حتى يحيله إلى غير لو نه الأول كان بمنزلة النار التي تشتعل في الخشب وتسرى حتى تحيله إلى غير حاله المتقدمة فهذا هو نقل العبارة عن الحقيقة في الوضع للبيان ولا بد من أن تكون أوضح من الحقيقة لأجل التشبيه العارض فيها لأن الحقيقة لو قامت مقامها كانت أولى لأنها الأصل والاستعارة الفرع وليس يخفى على المتأمل أن قوله عز اسمه: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}   1 سورة مريم الآية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 أبلغ من كثير شيب الرأس وهو حقيقة هذا المعنى وقول امرئ القيس - قيد الأوابد أبلغ من مانع الأوابد عن جريها والأصل في ذلك ما أفاده التشبيه في الاستعارة نت البيان. فإن قال قائل: فما الفرق بين الاستعارة والتشبيه إذا كان الأمر على ما ذكرتم قيل: الفرق بينهما ما ذكره أبو الحسن وهو أن التشبيه على أصله لم يغير عنه في الاستعمال وليس كذلك الاستعارة لأن مخرج الاستعارة مخرج ليست العبارة له في أصل اللغة على أن الرماني قال في كلامه: إن التشبيه في الكلام بأداة التشبيه وهو يعني كأن والكاف وما جرى مجراهما وليس يقع الفرق عندي بين التشبيه والاستعارة باداة التشبيه فقط لأن التشبيه قد يرد بغير الألفاظ الموضوعة له ويكون حسناً مختاراً ولا يعده أحد في جملة الاستعارة لخلوة من آلة التشبيه ومن هذا قول الشاعر: سفرن بدوراً وانتقلن أهلة ... ومسن غصوناً والتفتن جاذراً1 وقول الآخر: وأسبلت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد2 وكلاهما تشبيه محض وليس باستعارة وإن لم يكن فيهما لفظ من ألفاظ التشبيه وإنما الفرق بين الاستعارة والتشبيه ما حكيناه أولا.   1 هو لأبي القاسم الزاهي وإنما شبههن بالأهلة عند لبس النقاب لظهور حواجبهن مقوسات فوقه والجآذر: أولاد البقر الوحشي. 2 هو للوأواء الدمشقي شبه الدمع باللؤلؤ والعين بالنرجس والخد بالورد والأنامل بالعناب والسن بالبرد وما في البيت استعارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ولا بد للاستعارة من حقيقة هي أصلها: وهي مستعار ومستعار منه ومستعار له. فالمستعار لفظ الاشتعال فيما مثلنا به والنار مستعار منه والشيب مستعار له. ولها تأثير في الفصاحة ظاهر وعلقة وكيدة. والبعيد منها يقضي باطراح الكلام ويذهب طلاوته ورونقه ولأجل هذا احتاج إلى إيضاحها ووصف ما يحسن منها ويقبح والإكثار من الأمثلة التي تدل على ما أريده. وهي على ضربين قريب مختار وبعيد مطرح. فالقريب المختار ما كان بينه وبين ما استعير له تناسب قوى وشبه واضح والبعيد المطرح إما أن يكون لبعده مما استعير له في الأصل أو لأجل أنه استعارة مبنية على استعارة فتضعف لذلك والقسمان معا يشملهما وصفي بالبعد لكن هذا التفصيل يوضح وإذا ذكرت الأمثلة بان القريب في الاستعارة من البعيد وعرف المرضى منها والمكروه وتنزلت الوسائط بينهما بحسب النسبة إلى الطرفين. وهذا الفن قد أورده المحدثون كثيراً وإن كان المتقدمون بدؤا به وممن أكثر استعماله أبو تمام حبيب بن أوس فأورده منه في شعره الجيد المحمود والرديء الذي هو الغاية في القبح. سأذكر في شعره خاصة ما يستدل به على ذلك. وقد خرج على بن عيسى ما ورد في القرآن من الاستعارة فكان من ذلك قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراًً} 1. لأن حقيقته عمدنا لكن قدمنا أبلغ لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم يقدم من سفر لأنه من اجل إمهاله لهم عاملهم كما يفعل الغائب عنهم إذا قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم به وفي هذا تحذير من الاغترار بالإهمال. وقوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 2   1 سورة الفرقان الآية 23. 2 سورة الحاقة الآية 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 لأن حقيقة طغي علا والاستعارة أبلغ لأن طغى علا قاهراً. وكذلك: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} 1. لأن حقيقة عاتية شديدة والعتو أبلغ لأنه شدة فيها ثمرد. وقوله عز اسمه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} 2 لأن انسلاخ الشئ عن الشئ هو أن يتبرأ منه ويزول عنه حالا فحالا وكذلك انفصال النهار عن الليل والانسلاخ أبلغ من الانفصال لما فيه من زيادة البيان وقوله عز وجل: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 3 لأن تنفسها هنا مستعار وحقيقته بدأ انتشاره وتنفس أبلغ لما فيه من الترويح عن النفس وقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 4 وحقيقته لا تمنع نالك كل المنع. والاستعارة أبلغ لأنه جعل منع النائل بمنزلة غل اليد إلى العنق وحال المغلول أظهر. وأمثال هذا في كتاب الله كثيرة وهو جار على عادة العرب المعروفة في الاستعارة. ومنه قول طفيل الغنوي: وجعلت كوري فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرحل5 فإن اشتعارة هذا البيت مرضية عند جماعة العلماء بالشعر لأن الشحم لما كان من الأشياء التي تقتات وكان الرحل يتخونه ويذيبه كان ذلك بمنزلة من يقتاته وحسنت استعارته القوت للقرب والمناسبة والشبه الواضح.   1 سورة الحاقة الآية 6. 2 سورة يس الآية 37. 3 سورة التكوير الآية 18. 4 سورة الإسراء الآية 29. 5 الكور: رجل البعير والناجية الناقة السريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وكذلك قول ذي الرمة في إحدى الروايات: أقامت به حتى ذوى العود والثرى ... ولف الثريا في ملاءته الفجر لأن الفجر لما غطى الليل ببياضه وشمل الأرض عند طلوعه حسنت استعارة الملاءة له لتضمنها هذا المعنى وعب بطلوع الثريا وقت طلوع الفجر بأنه لفها في ملاءته وتلك أحسن عبارة وأوضح استعارة. وقد اختار أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي الكاتب من جملة الاستعارة قول امرئ القيس: فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل1 وقال: إن هذه الاستعارة في غاية الحسن والجودة والصحة لأنه إنما قصد وصف أحوال الليل الطويل فذكر امتداد وسطه وتثاقل صدره للذهاب والانبعاث وترداف أعجازه وأواخره شيئاً فشيئاً قال: وهذا عندي منتظم لجميع نعوت الليل الطويل على هيئته وذلك أشد ما يكون على من يراعيه ويترقب تصرمه فلما جعل له وسطاً يمتد وأعجازاً رادفة للوسط استعار له اسم الصلب وجعله متمطياً من أجل امتداده لأن قولهم تمطى وتمدد بمنزلة واحدة وصلح أن يستعير للصدر اسم الكلكل من أجل نهوضه وهذه أقرب الاستعارات من الحقيقة لملاءمة معناها لمعنى ما استعيرت له. وهذا الذي قاله أبو القاسم لا أرضى به غاية الرضى ولو كنت أسكن إلى تقليد أحد من العلماء بهذه الصناعة أو أجنح إلى اتباع مذهبه من غير نظر وتأمل لم أعدل عما يقوله أبو القاسم لصحة فكره وسلامة نظره وصفاء ذهنة وسعة علمه لكنني أغلب الحق عليه ولا   1 هذا البيت من معلقته المشهورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أتبع الهوى فيما يذهب إليه. وبيت امرئ القيس عندي ليس من جيد الاستعارة ولا رديئها بل هو من الوسط بينهما وبيتاً الغنوي وذي الرمة أحمد في الاستعارة وأشبه بالمذهب الصحيح منها وإنما قلت ذلك لأن أبا القاسم قد أفصح بأن امرأ القيس لما جعل الليل وسطاً وعجزاً استعار له اسم الصلب وجعله متميطاً من أجل امتداده وذكر الكلكل من أجل منهوضه فكل هذا إنما يحسن بعضه لأجل بعض فذكر الصلب إنما حسن لأجل العجز والوسط والتمطى لأجل الصلب والكلكل لمجموع ذلك. وهذه الاستعارة المبنية على غيرها فلذلك لم أر أن أجعلها من أبلغ الاستعارات وأجدرها بالحمد والوصف وكانت استعارة طفيل وذي الرمة عندي أوفق وأصح لأنها غنية بنفسها غير مفتقرة إلى مقدمة جلبتها. وقد اختار الآمدي أيضاً قول زهير: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله وقال لما كان من شأن ذي الصبا أن يوصف أبداً بأن يقال ركب هواه وجرى في ميدانه وجمح في عنانه ونحو هذا حسن أن يستعار للصبا اسم الأفراس وأن يجعل النزوع عنه بأن تعرى أفراسه ورواحله وكانت هذه الاستعارة من أليق نشيء بما استعيرت له. وعندي أن الاستعارة في بيت طفيل أليق منها في هذا البيت والعلة ما ذكرته في بيت امرئ القيس وذلك أن الاستعارة في بيت زهير مبنية على قولهم ركب هواه وجرى في ميدانه على محو ما قاله أبو القاسم وتلك استعارة بغير شك وقد بنى عليها. وبيت طفيل أقرب وأحسن لغناه بنفسه. وقد كنت مثلت في بعض المواضع الاستعارة المحمودة والمذمومة ببيتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أحدهما قول أبى نصر بن نباتة: حتى إذا بهر الأباطح والربا ... نظرت إليك بأعين النوار فنظر أعين النوار من أشبه الاستعارات وألقها لأن النوار يشبه العيون وإذا كان مقابلاً لم يجتر فيه ويمر به كان كأنه ناظر إليه وهذه الاستعارة الصحيحة الواضحة التشبيه. والبيت الثاني قول أبي تمام: قرت بقران عين الدين وانتشرت ... بالأشترين عيون الشرك فاصطلما1 وقرة عين الدين وانشتار عيون الشرك من أقبح الاستعارات لعدم الوجه الذي لأجله جعل للدين والشرك عيوناً ومع تأمل هذين البيتين يفهم معنى الاستعارة لأن النوار والشرك لا عيون لهما على الحقيقة وقد قبحت استعارة العيون لأحدهما وحسنت للآخر وبيان العلة فيه أن النوار يشبه العيون والدين والشرك ليس فيهما ما يشبهها ولا يقاربها وهذه طريقة متى سلكت ظهر المحمود في هذا الباب من المذموم. وأما قول الشريف الرضى: والحب داء يضمحل كأنما ... ترغوا رواحله بغير لغام2 فقريب من قول زهير - أفراس الصبا ورواحله - لكنه أبعد منه لأنه بنى عليه أمراً آخر غير قريب وهو قوله: إن رواحل الصبا ترغو ولا لغام لها. وهذا المذهب الرديء في الاستعارة على ما قدمناه.   1 قران علم والاشتران تثنية الاشتر علم أيضا وانشترت مطاوع شطر العين قلب جفنها وشتر الشيء قطعه واصطلم استؤصل والبيت مع غثائه لفظه وسوء التجنيس فيه يؤخذ عليه أن انتشار العين لا يوجب الاصطلام. 2 الرواحل الإبل السائرة اللغام الزبد الذي يخرج من أفواه الإبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وقد أعاد أبو نصر بن نباتة قوله نظرت إليك بأعين النوار - في موضع آخر فقال: إذا نظرت أرض الخليج بأعين ... من النور قامت للصوارم سوق وكلاهما واحد. فأما قول الرضى: رسا النسيم بواديكم ولا برحت ... حوامل المزن في أجداثكم تضع ولا يزال جنين النبت ترصعه ... على قبوركم العراصة الهمع1 فمن أحسن الاستعارات وألقيها لأن المزن تحمل الماء وإذا هملت وضعته فاستعارة الحمل لها والوضع المعروفين من أقرب شئ وأشبهه وكذلك قوله جنين النبت - لأن الجنين المستور مأخوذ من الجنة وإذا كان النبت مستوراً والغيث يسقيه كان ذلك بمنزلة الرضاع وكانت هذه الاستعارات من أقرب ما يقال وأليقه. وأما قول أبي ذؤيب الهذلي: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع فليس من أحسن الاستعارات ولا أقبحها ولا أراه نظير ما اخترته من قول طفيل وذي الرمة وابن نباتة والشريف الرضى. ولا الأمثلة البعيدة التي ذكرتها بل هو وسط وإن كان إلى الاختيار أقرب لما جرت به العادة من قولهم: علقت به المنية ونشبت وما أشبه ذلك ولأجل كثرة هذا حسن. ولأنه مبنى على غيره لم اجعله من أبلغ الاستعارات على ما قدمت ذكره.   1 العراضة: السحاب العريض والهمع: الماطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وأما قول أبي تمام: أيامنا مصقولة أطرافها ... بك والليالي كلها أسحار فمن الاستعارة المختارة لأنه لما أراد الأيام المحمودة الصافية من الكدر والقذى جعلها مصقولة على وجه الاستعارة وهذا تشبيه ظاهر. وأما قوله: يا دهر قوم من أخدعيك فقد ... أضججت هذا الأنام من خرقك1 وقوله: فضربت الشتاء في أخدعيه ... ضربة غادرته عوداً ركوبا2 وقوله: سأشكر فرجة اللب الرخى ... ولين أخادع الدهر الأبي3 فإن أخادع الدهر والشتاء من أقبح الاستعارات وأبعدها مما استعيرت له وليس بقبح ذلك خفاء. ولا يعرف أبو تمام الوجه الذي لأجله جعل للشتاء والدهر أخادع إلا سوء التوفيق في بعض المواضع. وأما قول أبي الطيب:   1 الأخدعان: عرقان في صفحتي العنق قد خفيا وبطنا والخرق الحمق ز 2 العود المسن من الإبل. 3 هو من قصيدة له في مدح الحسن بن وهب واللبب المنحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 مسرة في قلوب الطيب مفرقها ... وحسرة في قلوب البيض واليلب1 فمن أبعد ما يكون في هذا الباب ولا عذر يتوجه له في الاستعارة للطيب والبيض واليلب قلوباً تسر وتتحسر. وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني2 صاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصمه: أن بعض أصحابه جاراه أبياتاً أبعد أبو الطيب فيها الاستعارة وخرج عن حد الاستعمال والعادة وكان منها هذا البيت الذي ذكرناه وقوله أيضاً: تجمعت في فؤاده همم ... ملئ فؤاد الزمان إحداها قال فقلت له: هذا ابن أحمر يقول: ولهت عليه كل معصفة ... هو جاء ليس للبها زبر3 فما الفصل بين من جعل للريح لباً ومن جعل للبيض واليلب قلوباً وهذا الكميت يقول: ولما رأيت الدهر يقلب ظهره ... على بطنه فعل الممعك بالرمل4 وهذا ابن رميلة يقول:5 هم ساعد الدهر الذي يتقى به ... وما خير كف لا تنوء بساعد   1 البيض: مفردها بيضة وهي الخوذة واليلب الدروع يعني أن الطيب يسر باستعمالها إياه والبيض واليلب يتحسران لأنهما من ملابس الرجال. 2 هو علي بن عبد العزيز بن الحسين الجرجاني أبو الحسن قاضي من العلماء بالأدب ولد بجرجان وولي قضاؤها ثم قضاء الري فقضاء القضاة وتوفي سنة 392هـ في نيسابور من كتبه الوساطة بين المتنبي وخصومه وتفسير القرآن وتهذيب التاريخ. 3 الزبر: الرأي. 4 الممعك: من التمعك وهو التمرغ. 5 هو الأشهب بن رميلة منسوب إلى أمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وذكر أبياتاً من هذا النحو ثم قال: فكيف أنكرت على أبي الطيب أن جعل له فؤاداً قال فلم يحرجوا أبا غير أن قال إذا استبرأت نفسي1 وجدت بين استعارة ابن أحمر للريح لباً واستعارة أبي الطيب للطيب قلوباً بوناً بعيداً وربما قصر اللسان عن مجاراة الخاطر ولم يبلغ الكلام مبلغ الهاجس ثم قال القاضي أبو الحسن وقد أجد لهذا الفصل الذي تحمل له بعض البيان وذلك أن الريح لما خرجت بعصوفها عن الاستقامة وزالت عن الترتيب شبهت بالأهوج الذي لا مسكة في عقله ولا زبر للبه ولما كان مدار الهوج في الالتياث على العقل حسن من هذا الوجه أن يجعل للريح عقلاً فأما الدهر فإنما يراد بذكره أهله فإذا جعل الممدوح للدهر ساعداً فقد أقيم لأهله مقام هذه الجوارح من الإنسان وليس للطيب والبيض واليلب ما يشبه القلب ولا ما يجرى مع هذه الاستعارة في طريق ثم قال ابن عبد العزيز: وإنما يحمل ما جاء من ألفاظ المحدثين وكلام المولدين زائلاً عن السنن على وجوه تقربهم من الإصابة وتقيم لهم بعض العذر وتلك الوجوه تختلف بحسب اختلاف مواضعه وتتباين على قدر تباين المعاني المتضمنة له. ولهذا قال أبو الطيب: مسرة في قلوب الطيب مفرقها فإنما يريد أن مباشرة مفرقها شرف ومجاورته له زين ومفخر وأن التحاسد يقع فيه والحسرة تعظم عليه. فلو كان الطيب ذا قلب لسر كما لو كانت البيض ذوات قلوب لأسفت وإذا جعل للزمان فؤاداً ملأته هذه الهمة فإنما أورده على مقابلة اللفظ باللفظ فلما افتتح البيت بقوله: تجمعت في فؤاده همم   1 إذا استبرت نفسي: بمعنى سبر الشيء واختبره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ثم أراد أن يقول إحداهما تشغل الزمان وأهله ترخص بأن جعل له فؤاداً وأعانه على ذلك أن الهمة لا تحل إلا الفؤاد وسهله ما تقدم من تسامح الشعراء في نعوت الدهر وتوسعهم في استعارة الأوصاف له. وإذا قال أبو تمام: يا دهر قوم من أخدعيك فإنما يريد أعدل ولا تجر وانصف ولا تحف لكنه لما رآهم قد استجازوا أن ينسبوا إليه الجور والميل وأن يقذفوه بالعسف والظلم وبالخرق والعنف وقالوا قد اعرض عنا وأقبل على فلان وقد جفانا وواصل غيرنا. وكان الميل والأعراض إنما يكون بانحراف الأخدع وازورار المنكب واستحسن أن يجعل له اخدعاً وأن يأمره بتقويمه وهذه أمور متى حملت على التحقيق وطلب منها محض التقويم أخرجت عن طريقة الشعر ومتى اتبع فيها الرخص وأجريت على المسامحة أدت إلى فساد اللغة واختلاط الكلام وإنما القصد فيها التوسط والاجتزاء بما قرب وعرف والاقتصار على ما ظهر ووضح وهذه حكاية كلام القاضي أبي الحسن. ونحن نذكر ما عندنا في كل فصل منه والانتفاع به في الاستعارة ظاهر. أما الذي أنكر على أبي الطيب استعارته هذه فلم يضع يده إلا على ما تشهد الافهام له وتقطع العقول على صحته وأما اعتذار القاضي له بالأبيات التي ذكرها فغن كان قصد بذلك التنبيه على أن أبا الطيب غير مبتدع لهذا الزلل والمخترع بل هو مشارك فيه مماثل به وقد تقدمه من سلك هذا الطريق ونحا هذا النحو فإن وجب اطراح شعر أبي الطيب لهذا السبب وجب اطراح الأشعار كلها لأن العلة واحدة فعلى هذا الوجه الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 في موضعه وإن كان القصد بذلك إقامة العذر للمتنبي وترك الإنكار عليه إذ كان النهج الذي سلك فيه مطروقاً فليس هذا الرأي من معتقده بصواب لأن القول في استعارة أبي الطيب إذا كانت بعيدة غير مرضية كالقول في كل استعارة كذلك سواء كانت لمتقدم أو لمتأخر وليس يتميز قبحها بإضافتها إلى رجل من الرجال ولا زمان من الأزمنة وإنما هذا شئ يقع للعامة وأشباههم من أغمار الأدبار فيتخيلون أن للحسن ولقبح حكما يرجع إلى التاريخ ويتعلق بالإضافة ولا بد لنا من الكلام على هذا المذهب الفاسد فيما يأتي من هذا الكتاب في موضع مفرد يليق به وإن كانت الشبهة لا تعترض فيه لمحصل. ومن لم يعلم الصواب فيه ابتداء من نفسه فأجدر به ألا يعرف مواقع الأدلة عليه والحجج فيه لكنا نذكره هناك عل كل حال مستوفى مستقصى. فعلى ما قلناه ليس قول ابن احمر حجة لأبي الطيب لأنا نقول لهما جميعاً أخطأتما منهج الاستعارة وعدلتما عن الغرض المختار فيها. وأما قول القاضي: إن الفصل الذي يتخيل بين استعارة أبي الطيب للطيب قلوباً واستعارة ابن أحمر للريح لباً إنما هو أن الريح لما خرجت بعصوفها عن الاستقامة شبهت بالأهوج الذي لا مسكة في عقله ثم لما كان مدار الأهوج على الالتياث في العقل حسن من هذا الوجه أن يجعل للريح عقلاً. فلعمري أن الأمر على ما ذكره وقد سهل بيت ابن أحمر بهذا التخريج الذي جرت به العادة وإن لم يكن حسناً ولا محموداً لكنه أصلح من قلوب الطيب لأن تلك الاستعارة لا وجه لها من عادة ولا غيرها وكذلك ما قاله في ساعد الدهر لأنه تأويل لا يستمر لأبي الطيب مثله. فأما قوله: إنما يحمل ما جاء من ألفاظ المحدثين وكلام المولدين وزائلاً عن السنن على وجوه تقربهم من الإصابة وتقيم لهم بعض العذر فكأنه بهذا القول يخص المحدثين من المتقدمين وليس بينهم من هذا الوجه فرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وكما يلتمس من المتأخر الحسن الصحيح كذلك يلتمس من المتقدم. ومن عدل منهما كان التأويل له واحداً بحيث يمكن ولا يبعد ولم يقع بينهما تميز فيما يوجبه النظر ويتقدمه الفحص وما أحسب أن أحداً ممن ينتسب إلى العلم ويتميز بصحة الفهم يحتاج في اختيار الاستعارة إلى معرفة صاحبها وزمانه حتى يكون حكمه على من تقدم مولده يخالف حكمه على من قرب عهده فلعل من يجدنا نستدل بكلام العرب المتقدمين على لغتهم لا نستدل بكلام المتأخرين يتحيل أن هذا شئ يرجع إلى الزمان وليس الأمر كذلك وإنما العرب الأول لما كثر الإسلام واتصلت الدعوة وانتشرت حضر أكثرهم1 وسكنوا الأرياف وفارقوا البدو وخالطهم الباقي فامتزج كلامهم بمن جاوروه من الأنباط وعاشروه من الأعاجم وعدم منهم الطبع السليم الذي كانوا عليه قبل هذه المخالطة فهم الآن لا يحتج بكلامهم لهذه العلة لا لأن القدم والحدوث سببان في الصواب والخطأ ولهذا كان الأصمعي ينكر أن يقال في لغة العرب مالح فلما أنشد في ذلك شعر ذي الرمة. قال: إن ذا الرمة قد بات في حوانيت البقالين بالبصرة زماناً. فأراد بذلك أن بمخالطتهم سمعهم يقولون مالح فقاله فلم يجز أن يحتج بكلامه لهذا السبب ولو فرضنا اليوم أن في بعض الصحارى النائية عن العمارة قوماً على عادة المتقدمين في البدو وترك الإلمام بأهل المدر متمسكين بطبعهم وجارين على سجيتهم كان على هذا الفرض قولهم حجة واتباعهم واجباً ولهذه العلة تختلف العرب في كلامهم بحسب تباينهم في المخالطة. فنجد اليوم من بعد منهم عن الحضر أكثر من غيره إلى الصواب أميل ومن جانبه أقرب. وأما قوله: إن أبا الطيب يريد أن مباشرة مفرقها شرف ومجاورته زين ومفخر وأن التحاسد يقع فيه والحسرة تعظم عليه فلو كان الطيب   1 حضر: بمعنى سكن الحضر أي المدن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ذا قلب لسر كما لو كانت البيض ذوات قلوب لأسفت فلم يزد على أن فسر مراد أبي الطيب بقوله: إن الطيب يسر بمفرق هذه المرأة والبيض تتحسر. والمعنى ظاهر فيه لا خفاء به. وقوله: إن مراده لو كان الطيب ذا قلب لسر ليس بعذر في قوله قلوب الطيب لأن بين قوله: لو كان للطيب قلب وبين قوله للطيب قلب فرقاً ظاهراً لا يخفى على أحد لأن أحدهما قد جعله واجباً والآخر ممتنعاً ليس فيه أكثر من الفرض الذي يعلم من فحوى اللفظ انه لم يقع وليس يخفى على متأمل أن بين قول البحتري: فلو أن مشتاقاً تكلف غير ما ... في طبعه لمشى إليه المنبر1 وبينه لو كان قال: إن المنبر مشى إليك ميزة بينة ظاهرة. وهذا أمر لا يستمر في مثله شبهة فيحتاج إلى الإسهاب في إيضاحه. وأما قوله: إنه جعل للزمان فؤاداً ملأته هذه الهمة على مقابلة اللفظ باللفظ لما افتتح البيت بقوله: تجمعت في فؤاده همم فليس بمعتمد لأن مقابلة اللفظ باللفظ على ما أراده مجاز والمجاز لا يقاس عليه وليس يحسن بنا أن نقابل اللفظ باللفظ في كل موضع من الكلام قياساً على مقابلة اللفظ باللفظ في قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 2 كما لا يجوز منا أن نحذف المضاف ونقيم المضاف إليه مقامه أبداً اتباعاً لقوله عز اسمه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} 3 والمراد أهل القرية حتى نقول ضربت زيداً ونريد غلام زيد والعلة في الجميع   1 هذا البيت من قصيدة له في مدح المتوكل. 2 سورة الشورى الآية 40. 3 سورة يوسف الآية 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 واحدة وهو أن المجاز لا يقاس عليه وإنما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه في موضع دون موضع بحسب ما يتفق من فهم المقصود وزوال اللبس والأشكال وكذلك نقابل بعض الكلام ببعض بحيث لا يعرض فيه فساد في المعنى ولا خلل في العبارة فإذا اعترضنا في المقابلة مثل هذه الاستعارة لم نجزها كما إذا تطرق إلينا في حذف المضاف وجود اللبس لم نركن إليه ولا نعرج عليه. وأما قوله: إنه أراد أن يقول أحداها تشغل الزمان وأهله فترخص بأن جعل له فؤاد وأعانه على ذلك أن الهمة لا تحل إلا الفؤاد وسهلة ما تقدم من تسامح الشعراء في نعوت الدهر وتوسعهم في استعارة الأوصاف فليس هذا القول بحجة لأن الشعراء إذا تسمحوا وأبعدوا في الاستعارة نسبوا إلى ما نسب إليه أو الطيب من الخطأ والعدول عن الوجه في الكلام وليس يعذر لهم كما لا يحتج لهم به وكلهم في هذا الباب شرع واحد. وقوله فيما بعد: إن أبا تمام قال: يا دهر قوم من أخدعيك فقد لما رآهم قد استجازوا أن ينسبوا إليه الجور والميل وقالوا قد أعرض عنا وأقبل على فلان وجفانا والميل والأعراض إنما يكون بانحراف الأخدع وازورار المنكب كلام لا يغنى عن أبي تمام شيئاً لأنا قد ذكرنا أن الاستعارة إذا بنيت على استعارة قبحت وبعدت والواجب أن تكون لها حقيقة ترجع إليها بلا واسطة وإذا كان الأمر على هذا وكان قولهم عن الدهر قد أعرض عنا وأقبل على فلان استعارة ومجازا بغير شك ولم يحسن أن يجريه مجرى الحقيقة ونبنى عليه أمرا بعيدا حتى نجعل للدهر أخدعا لأجل قولهم إنه قد عرض عنا وانحرف. ويقال للقاضي أبي الحسن: هل تجيز: هي تجيز لبعض المحدثين أن يبنى استعارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 أخرى على الأخدع في الدهر لأن أبا تمام قد استعمل ذلك ويبنى غيره على قول هذا المحدث استعارة أخرى بعيدة ويؤول هذا إلى ما لا نهاية له حتى يفسد الكلام وتختل العبارة ويذهب التمييز في الوجوه المحمودة والذميمة فإن أجاز ذلك بأن فساد قوله لكافة العقلاء وأن امتنع منه وقال لا بد للاستعارة من حقيقة يرجع إليها ويكون بينهما شبه ظاهر وتعلق وكيد قيل له: فبهذا نخاطبك وله قطعنا على قبح استعارة أبي تمام للدهر أخدعا فاعرض الآن عن هذا التعليل منك بالباطل جانبا فإنه غير لائق بك وبمن يجرى مجراك من أهل العلم بهذه الصناعة ثم ما الفرق بينك فيما ذكرته وبين من عذر القائل: باض الهوى في فؤادي ... وفرخ التذكار وقال: لما كانت العادة جارية في الهوى أن يقال حل في الفؤاد وأقام وليس بزائل ولا ذاهب وكان الطائر ذو البيض أو الفراخ شديد المقام على وكره والألف له والحنين إليه ترخص بان استعار للهوى باض وللتذكار فرخ كناية عن مقامهما وثباتهما في فؤاد وتشبيهاً بما ذكرناه من حال الطائر فإن ادعى صحة هذا التخريج وألحقه بما ذكره في بيت أبي تمام وجب الإمساك عنه وإن أفصح بخلافة للعلة التي بيناها فهي موجودة في الأبيات التي ذكرها على أنه قال في آخر كلامه: إن هذه أمور لا تحمل على التحقيق ولا يتبع فيها الرخص ثم حملها على أشد الرخص إحالة وفساداً. ومن التوسط الذي حمده وأشار إليه أن لا يتعدى في الاستعارة حدها ولا يعدل بها عن منهجها. فأما قول أبي الطيب: وقد ذقت حلواء البنين على الصبا ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل1   1 هذا البيت من قصيدة له في رثاء لسيف الدولة والحلواء الحلاوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فقد كان الصاحب كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل بن عباد أنكره على أبي الطيب وذكره في جملة المساوي من شعره والأمر فيه على ما قاله وهو من رديء الاستعارة وأرى أن الزائد في قبحه قوله حلواء لأن المستعمل في هذا الفن حلاوة وتلك اللغة في العرف مفردة لأمر آخر حقيقي هي غير مستعارة فيه. وأما قول أبي تمام: وكم أحرزت منكم على قبح قدها ... صروف النوى من مرهف حسن القد فإن استعارة القد لصروف النوى من أبعد ما يقع في هذا الباب وأقبحه وإنما يقود أبا تمام إلى هذا وأمثاله رغبته في الصنعة حتى كأنه يعتقد أن الحسن في الشعر مقصور عليها فيورد منه لأجل التكليف ما لا غاية لقبحه ويسعده الخاطر في بعض المواضع فيأتي بالعجائب الغرائب. ومن مختار الاستعارة قول الشريف الرضي: وما نطفة مشمولة في مجمة ... وعاها صفا من آمن الطود فارع من البيض لولا بردها قلت دمعة ... مرنقة ما أسلمتها المدامع1 لأنه استعار لأعلى الجبل الأمن عبارة عن الارتفاع وتعذر الوصول إليه وهذا لائق محمود في الصناعة ومعلوم عند أهلها وما زلت أسمع أبا العلاء يقول: إن من الشعر ما يصل إلى غاية لا يمكن تجاوزها وهذا البيت عندي من ذلك القبيل حسناً وصحة نسج وعذوبة لفظ. وللسري الموصلي أبيات مرضية في معناها وهي:   1 النطفة الماء الصافي والمجمة مجتمع الماء والطود الجبل العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أقول لحنان العشى المغرد ... يهز صفيح البارق المتوقد تبسم عن ري البلاد حبيه ... ولم يبتسم إلا لإيجاز موعد ثم بعدها أبيات: وياديرها الشرقي لا زال رائحً ... يحل عقود المزن فيك ويغتدى عليلة أنفاس الرياح كأنما ... يعل بماء الورد نرجسها الندى يشق جيوب الورد في شجراته ... نسيم متى ينظر إلى الماء يبرد وفي هذه الأبيات استعارات عدة كل منها مختار: أما حنان العشي مغرد فمعروف والعادة جارية باستعارة الحنين والتغريد: للغيث لأن له صوتاً على كل حال. وكذلك صفيح البارق وأشبه شئ بالبرق لمع السيوف والتبسم فيه أيضاً ظاهر لضوء برقه في خلاله وعقود المزن لائقة لتشبيه القطرات من الماء والدمع بالعقد إذا وهي من سلكه وأنفاس الرياح تكاد تكون حقيقة لوضوحه واستعمال العلة فيها كناية عن الضعف والخفوت وقلة الحركة على وجه التشبيه بالمريض وجيوب الورد مختار لأن النسيم إذا أظهره من أكمامه ونشره عن طيه بعد ذلك كان بمنزلة الجيوب التي تشق وعبارته عن سرعة برد الماء بالنسيم إنه متى نظر إليه برد مرضية لأن النظر ليس هو الرؤية وإنما هو ضرب من المقابلة والمواجهة تقع الرؤية بعده ومثل هذا في النسيم موجود ولائق غير بعيد. وأنا أختار أيضاً قول الأمير أبي الحسن على بن مقلد بن منقذ: لا يحفظون سوى أسمال زادهم ... ولا يضيعون إلا حرمة الجار لأن الأسمال الأخلاق1 وإذا استعيرت لبقية الزاد وفضلته كانت من   1 الأخلاق جمع ومفردها خلق وهو الشيء البالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أحسن شئ وأليقه وأقربه إلى الحقيقة والجامع بينهما أن كلا منهما غبر وعقابيل قد أنهجت جدته وذهب أكثره وهو معرض للنبذ وهو منسوب إلى الاطراح والرفض وهذه وجوه ظاهرة تحمل الاستعارة عليها. وأما قول أبي عبادة البحتري: وكنت إذا استبطأت ودك زرته ... بتفويف شعر كالرداء المحبر عتاب بأطراف القوافي كأنه ... طعان بأطراف القنا المتكسر فلعمري أن هذه المقابلة الصحيحة لأن للقوافي طرفاً بلا شك وأولاً ووسطا وآخراً فإن كان أبو عبادة لا يريد طرف القافية الحقيقي وإنما مقصوده أنى ألوح بالعتاب في القصائد ولا أصرح به فهو يفهم من معاريضها وملاحنها وحيا وعلى وجه الإيماء والاشارة وهي غير مقصورة عليه ولا مفردة لذكره فبهذا أيضاً جرت العادة في استعمال الطرف. وإذا قال القائل تلوحت من أطراف كلام فلان كذا وكذا فإنما هذا المعنى يريد وله يعنى والبحتري على كل حال محسن: وأما تفويف شعر فإن النظم إذا كان نسجاً وصف بالصقال والرقة وكثرة الماء والهلهلة والمتانة وغير ذلك مما يستعمل في الثياب المنسوجة من النعوت المحمودة والمذمومة كان التفويف فيه جاريا هذا المجرى ومعدودا من هذا القبيل. وأما قول الرضى: ملك سماحتي تحلق في العلا ... وأذل عرنين الزمان السامي1 فليس عرنين الزمان من الاستعارة الجيدة وإنما بناه على ذكر الأنف الحقيقي عند وصف صاحبه بالذل وقد وردت استعارة الأنف في مثل هذا الموضع وكلاهما قبيح قال تأبط شراً:   1 العرنين: الأنف كله أو ما سلب منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 نحز رقابهم حتى صدعنا ... وأنف الموت منخره رثيم فجعل للموت أنفا ومنخر رثيما من قولهم: - رثمت أنف الرجل فهو رثيم - إذا ضربته فدمى. وقال ذو الرمة: يعز ضعاف القوم عزة نفسه ... ويقطع أنف الكبرياء من الكبر فاستعار للكبرياء أنفا أو لعله أراد أنف صاحب الكبرياء وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقال معقل بن خويلد الهذلي: تخاصم قوماً لا تلقى جوابهم ... وقد أخذت من أنف لحيتك اليد يريد قبضت على طرف لحيتك كما يفعل المهموم فجعل للحية أنفاً: وقال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان فيما قرأته عليه: إذا ذن أنف البرد سرتم فليته ... عقيب التنائي كان عوقب بالجدع1 وقال أيضاً: للطيب في منزلها سورة ... مناخر البدر بها تفغم2 فاستعار للبرد أنفاً وللبدر مناخر وقال سلم الخاسر: لولا المقادير ما حط الزمان به ... لكن تولى بأنف كلمه دام فجعل للزمان أنفاً دامياً. وقال الحسين بن مطير: فلما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا   1 ذن الأنف: سالت منه الرطوبة 2 هذا البيت من قصيدة له يهنئ فيها بزفاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وكل هذا من الاستعارة البعيدة الذميمة وقد حمل بعض المفسرين قول ذي الرمة: أنف الكبرياء على أنه أراد أوله والمقدم منه كما قال امرؤ القيس: قد غدا يحملني في أنفه ... لا حق الإطلين محبوك ممر1 أي في أول جرية أو في أول الغيث الذي ذكره قبل هذا البيت وهذا التأويل على بعده ليس يسوغ في جميع الأبيات المذكورة لأن المعنى فيها مبنى على الأنف الذي هو العضو. ومن الاستعارة المحمودة التي كأنها حقيقة قول شيخنا أبي العلاء: وكأن حبك قال حظك في السري ... فالطم بأيدي العيس وجه السبسب وهذا من قربه لو قيل إنه حقيقي غير مستعار جاز ذلك وإن كان على محض الاستعارة أحسن وأحمد فأما قوله: ولما ضربنا قونس الليل من عل ... تفرى بنضخ الزعفران أو الردع2 فإن قونس الليل ليس بمرضى على أن ذا الرمة قد أتى بمثله في قوله: تيممن يا فوخ الدجى فصدعنه ... وجوز الفلا صدع السيوف القواطع3 وإن كان يا فوخ الدجى أقبح وأشنع لكن هذا عندنا ليس بعذر وما   1 لا حق الإطلين: ضامر الخصرين وممر محكم القتل. 2 القونس أعلى الرأس وتغرى انشق والردع اللطخ. 3 جوز الفلا: معظمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 يتوجه على أحدهما إلا ما يتوجه على الآخر. وما زال العلماء بالشعر ينكرون هذه الاستعارة على ذي الرمة ويعتدونها من اساآته وقد تجاوز الشريف الرضى في بعض المواضع ذكر الرأس لليل إلى أن جعل له مخاً وعظماً فقال: ليالي أسرى في أصيحاب لذة ... ومخ الدجى رار وقد دق عظمه1 وهو من أردأ ما يكون في هذا الباب وأشنعه. وما زال الناس ينكرون قول أبي تمام: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماس بكائي ويحكون الحكاية المعروفة عن سائل سأل أبا تمام أن ينفذ له في إناء شيئاً من ماء الملام وربما نسبها بعض الرواة إلى عبد الصمد بن المعذل. وقد تصرف أصحاب أبي تمام في التأويل له فقال بعضهم إن أبا تمام أبكاه الملام وهو يبكى على الحقيقة فتلك الدموع هي ماء الملام وهذا الاعتذار فاسد لأن أبا تمام قال: - قد استعذبت ماء بكائي - وإذا كان ماء الملام هو ماء بكائه فكيف يكون مستعفياً منه مستعذباً له. وقال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي 2: كيف يعاب أبو تمام إذا قال ماء الملام وهم يقولون كلام كثير الماء وقال يونس بن حبيب في تقديم الأخطل. لأنه أكثرهم ماء شعر ويقولون ماء الصبابة وماء الهوى يريدون الدمع. وقال ذو الرمة: أأن توهمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم3   1 الراز الذائب من المخ. 2 هو محمد بن يحيى بن عبد الله أبو بكر الصولي ويعرف بالشطرنجي من أكابر علماء العرب له تصانيف كثيرة منها أدب الكاتب وأشعار أولاد الخلفاء. 3 خرقاء اسم امراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وقال أيضاً: أداراً بحزوى هجت للعين عبرة ... فماء الهواء يرفض أو يترقرق وقالوا: ماء الشباب. قال أبو العتاهية: ظبى عليه من الملاحة حلة ... ماء الشباب يجول في وجناته وهو من قول عمر بن أبي ربيعة: وهي مكنونة تحير منها ... في أديم الخدين ماء الشباب فما يكون إذا استعار أبو تمام من هذا كله حرفاً فجاء به في صدر بيته لما قال في آخره - إنني صب قد استعذبت ماء بكائي - قال في أوله: لا تسقني ماء الملام وقد تحمل العرب اللفظ على اللفظ فيما لا يستوي معناه. قال الله جل وعز: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 1 فالسيئة الثانية ليست بسيئة لأنها مجازاة ولكنه لما قال وجزاء سيئة سيئة حمل اللفظ على اللفظ وكذلك: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 2إنما حمل اللفظ على اللفظ فخرج الانتقام بلفظ الذنب لن الله عز وجل لا يمكر. وكذلك: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} 3 لا قال فبشر هؤلاء بالجنة قال: وبشر هؤلاء بالعذاب والبشارة إنما تكون في الخير لا في الشر. هذه جملة ما قاله أبو بكر وهي غير لائقة بمثله من أهل العلم بالشعر لأن قولهم كلام كثير الماء وماء الشباب وقول يونس إن الأخطل أكثرهم ماء شعر إنما المراد به الرونق كما يقال ثوب له ماء ويقصد بذلك رونقه ولا يحسن أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذا   1 سورة الشورى الآية 40. 2 سورة آل عمران الآية 54. 3 سورة آل عمران الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الثوب كما لا يحمل أن يقال ما شربت أعذب من ماء هذه القصيدة لأن هذا القول مخصوص بحقيقة الماء لا بماء هو مستعار له وأبو تمام بقوله: لا تسقني ما الملام ذاهب عن الوجه على كل حال ثم لا يجوز أن يريد هنا بالماء الرونق لأن الملام لا يوصف بذلك وإنما يذم ويستقبح ولا يحمد ويستحسن وأبو تمام القائل: عذلاً شبيهاً بالجنون كأنما ... قرأت به الورهاء شطر كتاب1 فبهذا وأمثاله ينعت الملام لا بالماء الذي هو الرونق والطلاوة فقد بان فساد هذا الاعتذار من هذا النحو. وأما ماء الصبابة وماء الهوى فقد بين أبو بكر أنهم يريدون به الدمع فكيف يقول إنه استعارة والدمع ماء حقيقي بلا خلاف وعلى أي وجه يحمل ماء الملام في الاستعارة على ماء الدمع وهو حقيقة؟ وأما مقابلة اللفظ باللفظ واستشهاده بالآيات المذكورة فقد ذكرنا الكلام عليه فيما تقدم وبينا أن هذا مجاز ولا يقاس عليه ولا يحسن منا المقابلة في موضع يعترضنا فيه فساد في المعنى أو خلفي اللفظ كهذه الاستعارة أو ما يجرى مجراها كما لا يحسن بنا غير ذلك في المجاز إذا أدى إلى اللبس والإشكال. وقال أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي2: ليس قول أبي تمام لا تسقني ماء الملام بعيب عندي لأنه لما أراد أن يقول قد استعذبت ماء بكائي جعل للملام ماء ليقابل ماء بماء وإن لم يكن للملام ماء على   1 الورهاء الحمقاء. 2 هو الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي أبو القاسم عالم بالأدب راوية من الكتاب وله شعر. ولد بالبصرة وتوفي سنة 370هـ. من كتبه المؤتلف والمختلف والموازنة بين البحتري وأبي تمام ومعاني شعر البحتري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الحقيقة فإن الله جل اسمه يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 1 ومعلوم أن الثانية ليست بسيئة وإنما هي جزاء على السيئة وكذلك: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} 2 والفعل الثاني ليس بسخرية ومثل هذا في الشعر والكلام كثير ومستعمل فلما كان في مجرى العادة أن يقول القائل: أغلظت لفلان القول وجرعته منه كأساً مرة أو سقيته منه أمر من العلقم وكان الملام مما يستعمل فيه التجرع جعل له ماء على الاستعارة وهذا كثير موجود. وهذا الذي قاله أبو القاسم عن المقابلة قد ذكرناه فلا وجه لإعادة الكلام عليه وأما اعتذاره بأن العادة جارية أن يقال: جرعته من القول كأسا مرة فلما استعمل في الملام التجرع على الاستعارة جعل له ماء على الاستعارة فلعمري أن هذا أقرب ما يعتذر به لأبي تمام في هذا البيت وأولى من جميع ما قد ذكر لما قدمناه من فساد التعلق بذلك لكنا قدمنا أن الاستعارة إذا بنيت على استعارة بعدت وإن اعتبر فيها القرب فماء الملام ليس بقريب وإن لم يعتبر فيها لم ينحصر وبنى على كل استعارة استعارة وأدى ذلك إلى الاستحالة والفساد على ما قدمناه. وليس هذا البيت عندي بمحمود ولا من أقبح ما يكون في هذا الباب بعد قول أبي تمام: لها بين أبواب الملوك مزامر ... من الذكر لم تنفخ ولا هي تزهر وقوله: إلى ملك في أيكة المجد لم يزل ... على كبد المعروف من نيله برد وقوله:   1 سورة الشورى الآية 40. 2 سورة هود الآية 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وتقسم الناس السخاء مجزأ ... وذهبت أنت برأسه وسنامه وتركت للناس الإهاب وما بقي ... من فرثه وعروقه وعظامه فانظر كيف جعل للذكر مزامر لم تنفخ وللمعروف كبدا تبرد ولم يقنع بأن استعار للسخاء رأساً وسناما وإهابا وعظاما وعروقا حتى جعل له فرثا. وتعالى الله كيف يذهب هذا على من يقول: أخرجتموه بكره من سجيته ... والنار قد تنتضى من ناضر السلم1 ويقول: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود لكن أعوز الكمال واستولى الخلل على هذه الطباع فالمحمود من كانت سيئاته مغمورة بحسناته وخطأه يسيرا في جانب صوابه. وقد قدمنا فيما مضى من هذا الكتاب أننا لم نذكر هذه الأبيات الذميمة وغرضنا الطعن على ناظمها وإنما قادتنا الحاجة في التمثيل إلى ذكر الجيد والردئ والفاسد والصحيح على ما ذكرناه سالفاً ومعاذ الله أن يخرجنا بغض التقليد وحب النظر من الطرف المذموم في الإتباع والانقياد إلى الجانب الآخر في التسرع إلى نقص الفضلاء والتشييد لما لعله اشتبه على بعض العلماء والرغبة في الخلاف لهم وإيثار الطعن عليهم بل نتوسط إن شاء الله بين هاتين المنزلتين فننظر في أقوالهم ونتأمل المأثور عنهم ونسلط عليه صافي الذهن ونرهف له ماضي الفكر فما وجدناه موافقاً للبرهان وسليما على السبر اعترفنا بفضيلة السبق فيه وأقررنا لهم بحسن النهج لسبيله. وما خالف ذلك وباينه اجتهدنا في تأويله وإقامة المعاذير فيه.   1 السلم: شجر يدبغ به مفردها سلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وحملناه على أحسن وجوهه وأجمل سبله وإيجاباً لحقهم الذي لا ينكر وإذعاناً لفضلهم الذي لا يجحد وعلما أنهم لم يؤتوا من ضلالة ولا كلال ذهن وفطنة ولكن لاستمرار هذه القضية في المحدثين وعمومها أكثر المخلوقين ومن الله نستمد التوفيق والمعونة برحمته. فهذه الجملة تكشف لك عن نهج الاستعارة وتوضح كيف تقع الألفاظ موقعها في المجاز. فأما الحقيقة فلا نحتاج فيها إلى مثال لأن أكثر الكلام على ذلك ولكن ها هنا ألفاظ قد وضعت في غير موضعها ليس على وجه الاستعارة ولا الحقيقة فإنا أذكر لك منها ما تجعله دليلا على الباقي وتعتبر في الكلام الذي تؤثر معرفة حظه من الفصاحة أن يكون خالياً من مثل تلك الألفاظ بل كل كلمة منه موضوعة في موضعها اللائق بها إما حقيقة أو على وجه المجاز السائغ المختار الذي نبهتك على علمه. فمن تلك الألفاظ قول أبي تمام: سعى فاستنزل الشرف اقتساراً ... ولولا السعي لم تكن المساعي فإن استنزال الشرف ليس بحقيقة فيه ولا على وجه الاستعارة الصحيحة لأن الشرف إذا حط وأنزل فقد وصف بما لا يليق به من الاذالة والخفض والمحمود في هذا أن يقال رفعت منار الشرف وشيدته فهو سام على الكواكب وعال عن درجة الأفلاك فأما استنزلته فلا يحسن في هذا الموضع البتة وقد كان يمكنه أن يعبر عن نيله الشرف ووصوله إليه بغير استنزاله. فإن الرجل الشريف الآباء لو ذم لكان أبلغ ما يذم به أن يقال حططت شرفك ووضعت منه وما يجرى هذا المجرى. فهذا هو وضع الألفاظ في غير الموضع الذي يليق بها. ومن ذلك أيضاً قول أبي تمام: جذبت نداه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعاً بين أيدي القصائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 لأن هذا الموضع لا يليق به جذبت والممدوح يوصف بأنه أعطى طوعاً واختياراً وحباً للكرم وصبابة إلى الإحسان. وإذا جذب الندى حتى يخر صريعاً فليس من الطوع بشيء إنما ذلك لفظ القسر والغلبة والجبر وهذا لا يكون مدحاً إنما هو صريح الهجو ومحضه. ومن هذا الفن أيضاً قوله: ضعفت جوانح من أذاقته النوى ... طعم الفراق فذم طعم العلقم لأن دعاءه على من ذم طعم العلقم بالإضافة إلى طعم الفراق بضعف الجوانح كلام موضوع في غير موضعه وذكر الحواس التي يضاف إليها الذوق في هذا الموضع أليق فأما الجوانح فلا معنى لها وقوله: ضعفت كلام ضعيف ها هنا. فعلى هذا النحو يكون وضع الألفاظ في غير موضعها على الوجه الذي لا يوافق الاستعارة وحقيقتها فتأمله وقس غيره عليه فإنك تجده في الكلام كثيراً. ومن وضع الألفاظ موضعها أن لا تقع الكلمة حشوا وأصل الحشو أن يكون المقصد بها إصلاح الوزن أو تناسب القوافي وحرف الروي إن كان الكلام منظوما وقصد السجع وتأليف الفصول إن كان منثورا من غير معنى تفيده أكثر من ذلك وهذا الباب يحتاج إلى شرح وبيان وتفصيله أن كل كلمة وقعت هذا الموقع من التأليف فلا تخلو من قسمين إما أن تكون أثرت في الكلام تأثيراً لولاها لم يكن يؤثر أو لم تؤثر بل دخولها فيه كخروجها منه وإذا كانت مؤثرة فهي على ضربين أحدهما أن تفيد فائدة مختارة يزداد بها الكلام حسنا وطلاوة والآخر أن تؤثر في الكلام نقصا وفي المعنى فساداً. والقسمان مذمومان والآخر هو المحمود وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 أن تفيد فائدة مختارة ولكل من ذلك مثال فمثال الكلمة التي تقع حشوا وتفيد معني حسناً قول أبي الطيب: وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانياً لأن حاشاك ها هنا لفظة لم تدخل إلا لكمال الوزن لأنك إذا قلت احتقار مجرب يرى كل ما فيها فانياً كان كلاماً صحيحاً مستقيما فقد أفادت مع إصلاح الوزن دعاءً حسنا للممدوح في موضعه. ومثله قول أبي محلم: 1 إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان لأن وبلغتها تجرى مجرى وحاشاك في الفائدة ولو ألغيت من البيت لصح المعنى دونها على حد ما قلناه في البيت الأول وليس يخفى على المتأمل حسن المقصود بحاشاك وبلغتها في هذين الموضعين. وكذلك أيضاً قول أبي الطيب: نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد لأن قوله لهنئت الدنيا بمنزلة الحشو إذ كان المعنى يتم من دونه ولو استوى له أن يقول نهبت من الأعمار ما لو حويته لخلدت في الدنيا لكان المعنى مستقيما لكنه لما احتاج إلى ألفاظ يصح بها الوزن جاء بقوله لهنئت الدنيا فأنى بزيادة من المدح وفضلة من التقريظ والوصف لإخفاء بحسن موقعها فهذا وما أشبهه هو الحشو المحمود المختار. وقد زل في هذا الموضع أبو هاشم عبد السلام بن محمد فالحق الحشو الجيد بالرديء وقال في المسائل البغداديات في مسألة ذكرها في إيجاز   1 هو لعوف بن محلم الشيباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 القرآن أن الشاعر إذا احتاج إلى الوزن ذكر ما لا يحتاج إليه في الكلام المنثور ألا ترى إلى قول امرئ القيس: ورضت فذلت صعبة أي إذلال1 ولو كان في الكلام لكان يقول: ورضيت فذلت أي إذلال لو شاء ولو شاء لقال ورضت فذلت صعبة فقد بان أنهم ربما ذكروا المصادر والظروف ليتم الوزن هذا في الشعر الرصين. ولهذا ما قال الأعشى: فأصبحت حبة قلبها وطحالها ولولا الوزن لاكتفى بقوله: فأصبت حبة قلبها وهذا كلام بعيد من الصواب لأن صعبة من بيت امرئ القيس وقوله أي إذلال حشو مختار حسن يقصد في المنثور مثله الحذاق بتأليفه لأنه لو قال ورضت فذلت لم يكن في الكلام دليل على أن هناك صعوبة ولا ثم تمنعا وبقوله: صعبة قد حصل هذا وهو مقصود في الغرض لا يخيل على عاقل في هذا الموصوف وفي تأليف الكلام لا يخفى على من له أدنى علم بهذه الصناعة ثم في قوله بعد: أي إذلال وصف حسن لذلها ليس يستفاد من الأول لموقع التعجب فيه والوصف وليس هذا الموضع مما يقصر في فهمه أحد من المتوسطين في هذا العلم. وأبو هاشم وإن كان العالم المتقدم في صناعة الكلام فليس معرفته بالجواهر والأعراض وكلامه في العدل والألطاف مما يفيده العلم بصناعة نقد الكلام المؤلف وفهم النظم والنثر كما أن من المتقدمين في هذا العلم من يجهل أول ما يجب على العاقل فضلا عما تجاوزه ونعوذ بالله من تعاطي ما لا نحسنه ونسأله التوفيق والعصمة فيما نقوله ونفعله. فأما بيت الأعشى فالأمر فيه على ما وقع لأبي هاشم   1 هذا عجز البيت وتمامه: وصرنا إلى الحسنى ورق كلامها ... ورضت فدلت صعبة أي إذلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وهو من أقبح الحشو ولا مناسبة بينه وبين بيت امرئ القيس في حال من الأحوال ومما تزدادج به عجبا أن على بن عيسى الرماني نقض على أبي هاشم مسائله هذه بكتاب معروف قصره على نقضها واعتمد فيه المناقشة وترك المسامحة في كل لفظة من ألفاظ أبي هاشم فلما وصل إلى هذه المسألة ونقضها لم يعرض لهذا الموضع الذي ذكرناه بل ظهر من كلامه أنه موافق فيه مسلم له. ولا نعلم السبب الموجب لخفاء مثله على أبي الحسن مع مكانه المشهور من الأدب. وأما مثال الكلمة التي تقع حشواً وتؤثر في المعنى نقصاً وفي الغرض فساداً فكقول أبي الطيب يمدح كافورا: ترعرع الملك الأستاذ مكتهلا ... قبل اكتهال أديباً قبل تأديب لأن قوله: الأستاذ بعد الملك نقص له كبير وبين تسميته له بالملك والأستاذ فرق واضح فالأستاذ قد وقع ها هنا حشواً ونقص به المعنى إذ كان الغرض في المدح تفخيم أحوال الممدوح وتعظيم شأنه لا تحقيره وتصغير أمره وقد رأيت في أخبار كافور الأخشيدي ما يقيم عذر أبي الطيب في هذا ويزيل عنه بعض اللوم وذلك أنه روى أن كافوراً لما غلب على ولد الأخشيد فاستبد بالأمور دونهم لم يخرج بذلك عن حد المدبر إلى المالك ولم يقم له على منبر دعوة ولا نقش باسمه سكة ولا اختار أن يخاطب إلا بالأستاذ فلم يسم في مدة أيامه بالأمير ولا بغيره مما يخاطب به من جرى مجراه. فإذا كان الأمر على هذا - ولا شك في صحته - فإن الأستاذ صار له بمنزلة اللقب الذي لا يجوز تغييره فإذا علم منه الشعراء حب المخاطبة بهذه التسمية نظموا ذلك في مديحهم فكأن أبا الطيب ذكر الأستاذ بعد الملك علماً منه بغرض كافور فأما تمثيلنا نحن بهذا البيت فصحيح وفي حكم النظم والنثر أن لا تذكر هذه الكلمة بعد كلمة هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أشرف منها بدرجة عالية. فإن زعم زاعم: أن أبا الطيب قصد بقوله الأستاذ تقريع كافور بذلك بأنه خصي ونقصه كما كان يقصد ذلك بذكر سواده فإن هذه اللفظة أعني الأستاذ قد صارت في العرف مختصة بذلك وقد قال أبو الطيب كان كافور الأخشيدي يشق عليه أن يعرض له بالسواد فكنت أعتمد معه في كل قصيدة ذكر سواده حتى قلت فيه: بشمس منيرة سوداء 1. وقلت: سوابق خيل يهتدين بأدهم2. وغير ذلك مما هو موجود في المديح لكافور فلعمري أن هذا القول مروى عن أبي الطيب لكنا إذا تكلمنا على المديح وما يجب أن يكون مبنياً عليه من التعظيم للمدوح لم نعرج على ما يقصده المادح من منافاة هذا الغرض إذ كان هذا بخلاف ما هو بصدده وقاصده وليس يكون فيه أكثر من عذر المادح وأنه لم يخف عنه ما يجب عليه وإنما قصده وتعمده فأما أن يكون ذلك سبباً لصحة الكلام في نفسه فلا ونحن إنما نتكلم على ذلك. فأما قول أبي الطيب أيضاً: فلا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب فإن الندى ها هنا حشو يفسد المعنى وذلك أن مقصوده أن الدنيا لا فضل فيها للشجاعة والصبر لولا الموت لأن الشجاعة إذا علم أن يخلد فأس فضل لشجاعته وكذلك الصابر فأما الندى فمخالف لذلك لأن الإنسان إذا علم أنه يموت هان عليه بذل ماله وكذلك يقول إذا عوتب   1 وتمام البيت: يفضح الشمس كلما ذرت الشمس ... بشمس منيرة سوداء 2 وتمام البيت: فدى لأبي المسك الكرام فإنها ... سوابق خيل يهتدين بأدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 في بذله كيف لا أبذل ما لا أبقى له ومن أين أثق بالتمتع بهذا المال والأمر في هذا ظاهر قال طرفة: فإن كنت لا أسطيع دفع منيتي ... فذرني أبادرها بما ملكت يدي وقال مهيار بن مرزويه: وكل إن أكلت وأطعم أخاك ... فلا الزاد يبقى ولا الآكل وأما إذا كان الإنسان خالداً في الدنيا ثم جاد بماله فلعمري أن كرمه يكون أفضل وبذله لماله أشد والأمر في ذلك مخالف لحكم الشجاعة بغير شك لأن تلك لولا الموت لم تحمد والندى بالضد وإذا كان الأمر على هذا كان قوله والندى حشوا يفسد المعنى وقد قال الشريف المرتضى علم الهدى رضي الله عنه أن المراد بالندى في البيت بذل النفس لا بذل المال كما قال مسلم بن الوليد: يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود قال: وإذا جاز أن يسمى بدل النفس جولاً جاز أن يسميه ندى أيضاً وكرماً وسخآء وهذا الذي ذكره رحمه الله أقصى ما يجوز أن يتأول به ولا يحمل قول الشاعر على الفساد وإما إذا عدنا إلى التحقيق علمنا أن لفظ الندى المطلق لا يفيد إلا بذل المال والكرم ولا يكاد يستعمل في بذل النفس وإن استعمل فعلى وجه الإضافة فأما مع الإطلاق فلا يفيد ذلك ثم إذا سوغنا ما ذهب إليه على بعده كان لفظ الندى حشوا لأن الشجاعة قد أغنت عنه فيمكن حمل هذا البيت على الحشو الذي يحيل به المعنى على ما ذكرناه من تأويله الظاهر وعلى الحشو الذي يكون غير مؤثر في الكلام على خرجه الشريف رحمه الله وتأويله. وأما الكلمة التي تقع حشوا غير مؤثرة فأمثلتها كثيرة موجودة في النظم والنثر ومنها قول أبي تمام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 جذبت نداه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعاً بين أيدي القصائد لأن قوله: غدوة السبت حشو لا يحتاج إليه ولا تقع فائدة بذكره ومن ذا الذي يؤثر أن يعلم اليوم الذي أعطى الممدوح فيه أبا تمام ما أعطاه وأي فرق بين أن يقع عطاؤه في يوم السبت أو الأحد أو غيرهما من الأيام وما بقي عليه شئ إلا أن يخبر بتاريخ: لك الوقت وموقع ذلك اليوم من الشهر. فمثل هذا وأشباهه الحشو الذي يقع ولا تعرض في ذكره فائدة إلا ليصح الوزن وهو عيب فاحش في هذه الصناعة وما أكثر ما تستعمل أمسى وأصبح وأخواتها في هذا الموضع من الحشو ويجب أن تعتبر ذلك بأن تنظر الفائدة فيه فإن كان الأمر الذي ذكر أنه أصبح فيه لم يكن أحسن فيه. فالفائدة حاصلة. وإن كان الأمر بخلاف ذلك فهو حشو لا يحتاج إليه فاعتبار الفائدة فيه هو الأصل الذي يرجع إليه ويعول على النظر من جهته. ومثال ذلك أن يقال: أصبحنا مغيرين على بني فلان فإن موقع أصبحنا في هذا الموضع موقع صحيح لأنهم لم يكونوا أغاروا عليهم في وقت المساء. ومثل ذلك قوله تبارك وتعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} 1 لأن الأمر لم يطرقهم إلا ليلاً فأما لو قال قائل: أصبح العسل حلوا لكان قوله: أصبح حشواً لأنه قد أمسى كذلك ويدل على صحة هذا واعتبار العلماء له ما ذكره أبو الحسن على بن عيسى الرماني في كتابه المعروف بالجامع في علم القرآن فإنه قال في قوله تعالى: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} 2 وإنما ذكر الصباح من غير أن يرد به معنى الصباح لأنهم بمنزلة من أصبح على أسوإ حال وذلك لأن أكثر ما يكون من هيجان الإعلان بالليل فيؤمل لصاحبها حسن الحال   1 سورة الأعراف الآية 78. 2 سورة المائدةالآية53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 عند الصباح فإذا كان الضد من ذلك حصل على الهلاك فلم يرض أبو الحسن أن تقع أصبح في كلام الله تعالى حشوا بل تأول ذلك كما يتأوله مثله وفي ضمن قوله الشهادة بما ذكرناه والإذعان له. فإن قال قائل: كيف يمكنكم أن تقولوا هذا وعلى الصحيح من مذاهبكم أن دليل الخطاب عندكم ليس بحجة وأن تعليق الحكم باسم أو صفة أو شرط أو غاية لا يدل على انتفائه بانتفاء ذلك وإذا كان هذا قولكم فليس في قول القائل: أصبحي السكر حلواً دليل على أنه لم يمس كذلك كما زعمتم أن ليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " في سائمة الغنم الزكاة" 1 دليل على أن المعلوفة لا زكاة فيها ولا يمتنع عندكم أن يقال في ساعة الغنم الزكاة وإن كانت واجبة في معلومتها فكذلك لا يقبح أن يقال أصبح العسل حلواً. لأن وإن كان قد أحسن أيضاً بهذه الصفة قيل الجواب عن هذا السؤال: إن الفرق بين ما نحيره من تعايق الحكم بصفة وثبوته لما انتفت عنه تلك الصفة في مثل الصفة في مثل قوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة وبين ما تكرهه من قول القائل أصبح السكر حلواً لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: "في سائمة الغنم الزكاة" فليس مراده أن يبين لنا حال المعلوفة هل تجب فيها الزكاة أم لا بل هي مسكوت عنها فنجوز فيها ما كنا نجوزه في السائمة قبل هذا القول وليس كذلك قول القائل: أصبح العسل حلواً لأنه يريد حلو في كل حال من صباح أو مساء فلذلك كان ذكر الصباح حشواً. ومثاله في مسألتنا أن يكون صلى الله عليه وسلم يقصد أن يبين لنا حال الزكاة في الغنم جميعها السائمة والمعلوفة ثم يقول في سائمة الغنم الزكاة فإنا نقول إن هذا اللفظ غير موافق للمقصود إذ كان لا يعطينا تصريحه ولا فحواه في المعلوفة حكماً كما قلنا إن من أراد أن يصف لنا العسل بالحلاوة   1 أخرج النسائي في باب الزكاة: وفي صدقة الغنم سائمتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 في جميع الأوقات ثم قال أصبح العسل حلواً فإنه قد أتى بأصبح حشواً لغير فائدة فبان الفرق بين الأمرين. ومن الحشو أيضاً قول أبي تمام: كالظبية الأدماء صافت فارتعت ... زهر العرار الغض والجثجاثا فإن الجثجاث إنما جاء به حشواً لأجل القافية وإلا فليس للظبية فضيلة إذا أرعت الجثجاث ولا له فيها ميزة على غيره من النبات وقد سبقه إلى مثل هذا الحشو في القافية عدى بن الرقاع العاملي فقال: وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر جاسم لأن جاسم إنما وردت هنا لأجل القافية لا لمعنى فيها وهي قرية بالشام من أعمال دمشق وفيها ولد أبو تمام الطائي وليس لجاذرها ميزة على غيرها وقد سألت عن ذلك جماعة ممن يخبر تلك الناحية فما وجدت عندهم فيها إلا ما عندهم في غيرها من البلاد. ومن ذلك أيضاً قول علي بن محمد البصري: وسابغة الأذيال زعف مفاضة ... تكنفها مني بجاد مخطط1 فليس لكون البجاد مخططاً تأثير في صفة الدرع وإنما الغرض بذكره القافية. وأضداد هذا في وقوع الفائدة بالكلمة التي تكون فيها القافية فكثير ومنه قول امرئ القيس: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب   1 الزغف من الدموع: المحكمة اللينة ومفاضة واسعة والبجاد: الثوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فإنه لما أتى على التشبيه قبل القافية واحتاج إليها جاء بزيادة حسنة في قوله: لم يثقب لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون. وكذلك قول زهير بن أبي سلمى: كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم فقوله: لم يحطم في هذا البيت مثل لم يثقب في البيت الذي قبله. وروى أبو الفرج قدامة بن جعفر عن محمد بن يزيد المبرد عن التوزي. قال قلت للأصمعي: من أشعر الناس. فقال: من يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرا أو الكبير فيجعله بلفظه خسيساً أو ينقضي كلامه قيل القافية فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى قال نحو من قال: نحوذي الرمة: حيث يقول: قف العيس في أطلال مية فأسأل ... رسوماً كأخلاق الرداء فتم الكلام. ثم قال: المسلسل فزاد شيئاً ثم قال: أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعا كتبديد الجمان فتم كلامه ثم قال: المفصل فزاد شيئاً. قال قلت ونحو من قال الأعشى حيث يقول: كناطح صخرة يوماً ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل فزاد معنى. قال قلت: وكيف صار الوعل مفضلاً على كل ما ينطح قال: لأنه ينحط من أعلى الجبل على قرنيه فلا يضيره. وقد سمى أصحاب صناعة الشعر هذا المعنى الإيغال وأرادوا بذلك أن الشاعر يوغل بالقافية في الوصف إن كان واصفاً وفي التشبيه أن كان مشبهاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ويجب أن تعلم أن هذا الموضع من حشو البيت شديد المراعاة لأجل أنه القافية فإذا وقعت فيه الإصابة أو الخطأ كان أظهر لهما إذا وقعا في كلمة من متن البيت لما يختص به هذا الموضع من فضل العناية إذ كان متميزاً بالقصد مما هو طرف وقافية. وعلى هذا يقع الأمر أيضاً في السجع من الكلام المنثور وكثيراً ما يتعذر على مؤلفه القرينة فيتحمل الكلام تمحلا شديداً ويأتي بمعان خارجة عن غرضه حتى يظفر بالسجعة بعد تعب ويكون معها بمنزلة من يطلب شيئاً يقصده فهو يجد في الطلب والمقصود يجتهد في الهرب ويجئ من هذا اختلاف الفصول في الطول والقصر يجتهد في الهرب ويجئ من هذا اختلاف الفصول في الطول والقصر لأنه يحتاج في طلب القرينة إلى إطالة الفصل حتى يزيد على ما قبله زيادة فاحشة وهذا عيب ظاهر في أكثر من ينتحل صناعة الكتابة في زماننا هذا. وقد سن الكتاب المتقدمون من تجنب السجع في أكثر كلامهم سنة لو اعتمدت لوجدت فيها الراحة من هذا العارض لأنهم إذا كانوا لا يحفلون بالسجع فالواجب إطراحه في الموضع الذي يكون متكلفاً نافراً. فأما الشعر فلا مندوحة عن القافية فإن تعذرت في البيت فليس غير ترك ذلك البيت رأساً وسيأتي الكلام في هذا الباب إذا صرنا إلى ذكر التناسب في الألفاظ بمشيئة الله وعونه. فأما زيادة: ما في قول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} 1 وقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} 2 فإن لها هنا تأثيراً في حسن النظم وتمكيناً للكلام في النفس وبعداً به عن الألفاظ المبتذلة فعلى هذا لا يكون حشوا لا يفيد. وأهل النحو يقولون إن ما في هذا الموضع صلة مؤكدة للكلام وقد يكون التوكيد عندهم بالتكرار كما   1 سورة آل عمران الآية 159. 2 سورة النساء الآية 155. سورة المائدة الآية 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 يكون بالعلامة الموضوعة له وإذا أفاد الكلام شيئاً فليس من الحشو المذموم لأن حقيقة الحشو هو الذي يكون دخوله في الكلام وخروجه على سواء. وإنما الغرض به إقامة الوزن في الشعر أو ما يجرى مجرى ذلك في النثر وقد جاءت أيضاً: ما في الشعر أيضاً على معنى ما وردت في الآية قال الشاعر: 1 فاذهبي ما إليك أدركني الحلم ... عداني عن هيجكم أشغالي ومن هذا القبيل أيضاً دخولها في: ابنما. قال المتلمس: وهل لي أم غيرها إن تركتها ... أبى الله ألا أن أكون لها ابنما وقال الآخر: 2 لقيم بن لقمان من أخته ... فكان ابن أخت له وابنما وورودها في هذا الموضع خاصة كثير فهذا مبلغ ما نقوله في الحشو ليكون دليلا على غيره ومنبها على مثله. ومن وضع الألفاظ موضعها اللائق بها أن لا يكون الكلام شديد المداخلة يركب بعضه بعضاً وهذا هو المعاظلة التي وصف عمر بن الخطاب رضى الله عنه زهير بن أبي سلمى بتجنبها. فقال: كان لا يعاظل بين الكلام لأن المعاظلة المداخلة ومن ذلك يقال معاظلة الكلاب وغيرها مما يتعلق بعضه ببعض عند السفاد وقد غلط في تمثيل هذا أبو الفرج قدامة ابن جعفر الكاتب وبين خطأه فيه أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي رحمه الله. لأن أبا الفرج قال: إن المداخلة التي تكره ووصف عمر رضي الله عنه زهيراً بتجنبها أن يدخل بعض الكلام فيما ليس من جنسه قال وما   1 أعشى قيس. 2 النمر بن تولب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أعرف ذلك ألا فاحش الاستعارة مثل قول أوس بن حجر: وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولباً جدعا1 فسمي الصبي تولباً والتولب ولد الحمار. ومثل قول الآخر: وما رقد الولدان حتى رأيته ... على البكر يمريه بساق وحافر فسمى رجل الإنسان حافراً وهذا ليس من المعاظلة التي هي ركوب بعض الكلام بعضاً ومداخلة بعضه في بعض والصحيح من تمثيل ذلك ما ذكره أبو القاسم الآمدي وهو قول أبي تمام: خان الصفاء أخ خان الزمان أخاً ... عنه فلم يتخون جسمه الكمد2 لأن ألفاظ هذا البيت تيشبث بعضها ببعض وتدخل الكلمة من أجل كلمة أخرى تجانسها وتشبهها مثل خان وخان ويتخون وأخ وأخ فهذا هو حقيقة المعاظلة. وكذلك قول أبي تمام أيضاً: يا يوم شرد يوم لهوي لهوه ... بصبابتي وأذل عز تجلدي فقوله: يا يوم شرد يوم لهوى لهوه شديد التعاظل حتى كأنه سلسلة. ومنه أيضاً قول أبي تمام: يوم أفاض جوى أغاض تعزياً ... خاض الهوى بحري حجاه المزبد   1 هذا البيت من قصيدة له في رثاء فضالة بن كلدة. والهدم: الثوب البالي والنواشر عروق باطن اللواع وجدعا: سيد الفداء. 2 لم يتخون: لم ينقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقال أبو القاسم: فإن قال قائل إن هذا الذي أنكرته من تشبث الكلام بعضه ببعض وتعلق كل لفظة بما يليها وإدخال كلمة من أجل أخرى تشبهها وتجانسها هو المحمود من الكلام وليس من المعاظلة في شئ ألا ترى أن البلغاء والفصحاء لما وصفوا ما يستجاد ويستحب من النثر والنظم. قالوا: هذا كلام يدل بعضه على بعض ويأخذ بعضه برقاب بعض. قيل: هذا صحيح من قولهم ولم يريدوا به هذا الجنس من النظم والنثر ولا قصدوا هذا النوع من التأليف وإنما أرادوا المعاني إذا وقعت ألفاظها في مواقعها وجاءت الكلمة مع أختها المشاكلة لها التي تقتضي أن تجاورها بمعناها أما على الاتفاق أو التضاد حسبما توحيه قسمة الكلام وأكثر الشعر هذا سبيله. وذلك نحو قول زهير: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبالك يسأم لأنه قال في أول البيت: سئمت. وقال: ومن يعش ثمانين حولا اقتضى أن يكون في آخره يسأم. وكذلك قوله: والستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر فالستر الأول اقتضى الستر الثاني. وكذلك قول امرئ القيس: فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تقصدوا الذم لا نقصد فإن كل لفظة تقتضي ما بعدها فهذا هو الكلام الذي يدل بعضه على بعض ويأخذ بعضه برقاب بعض وإذا أنشدت صدر البيت علمت ما يأتي من عجزه فالشعر الجيد أو أكثره على هذا مبنى وهذا الذي ذكره أبو القاسم رحمه الله: صحيح ويجب أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 يقتدي به في هذا الباب وقد بين المعاظلة وفرق بينها وبين غيرها من العيوب بالتمثيل الذي ذكره. فأما الذي قاله من دلالة بعض الكلام على بعض حتى يمكن استخراج قوافيه إن كان شعراً ويكون بعض البيت شاهداً لبعض فهو من النعوت المحمودة وسيأتي الكلام في ذلك مستوفى عند ذكر القوافي والأسجاع بعون الله ومشيئته. وبعض الناس يسمى هذا الفن من الشعر التوشيح وبعضهم يسميه التسهيم1 ومثاله قول الشاعر: عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر2 وقول عمرو: وكنت سناماً في فزارة تامكا ... وفي كل حي ذروة وسنام3 وقوله أيضاً: إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وحاوزه إلى ما تستطيع4 وقول أبي عبادة: مشيب كبث السرعى بحمله ... محدثه أو ضاق صدر مذيعه تلاحق حتى كاد يأتي بطيئه ... بحث الليالي قبل أتى سريعه5 وقوله: أبكيكما دمعاً ولو أني على ... قدر الجوى أبكى بكيتكما دما6   1 نوع من البديع يسمى الأرصاد أيضا. 2 هو لأبي صخر الهذلي. 3 هو لعمرو بن معد يكرب الزبيدي. 4 الأرصاد في قوله إذا لم تسطع. 5 الأرصاد في قوله حتى كاد يأتي بطيئة. 6 الأرصاد في قوله أبكيكما دمعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 لأن هذه الأبيات كلها إذا سمع الإنسان صدورها وكان قد عرف الروى المقصود فيها أن عرف الكلمة التي تكون قافية قبل الوصول إليها وأمثال هذا كثيرة. وسيأتي ذكرها في باب القوافي والأسجاع وترك التكلف والتعقيد في الكلام بمشيئة الله وعونه. ومن وضع الألفاظ المعروفة للمدح بل يستعمل في جميع الأغراض الألفاظ اللائقة بذلك الغرض في موضعها أن لا تعبر عن المدح بالألفاظ المستعملة في الذم ولا في الذم موضع الجد ألفاظه وفي موضع الهزل ألفاظه ومثال ما استعمل من هذه الألفاظ في غير موضعه قول أبى تمام: ما زال يهذى بالمكارم دائباً ... حتى ظننا أنه محموم وقوله: وتثفى الحرب منه حين تغلى ... مراجلها بشيطان رجيم وقوله: ولى ولم يظلم وهل ظلم امرؤ ... حث النجاء وخلفه التنين وقول الحسين بن الضحاك: كذا من يشرب الراح ... مع التنين في الصيف وقول أبى نواس: جاد بالأموال حتى ... حسبوه الناس حمقا وقول العنبري: ما كان يعطى مثلها في مثله ... إلا كريم الخيم أو مجنون وقول أبى تمام: يا أبا جعفر جعلت فداك ... فاق حسن الوجوه حسن قفاك لأن يهذى والمحموم والشيطان الرجيم والتنين والحمق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 والجنون وذكر القفا من الألفاظ التي تستعمل في الذم وليست من ألفاظ المدح. وقد كان بعض الأدباء يعيب قول ابن الرومي: من شعرها من فضة ... وثغرها من ذهب ويقول: إن التشبيه بالفضة والذهب إنما يقع في المدح وكان يجب أن يهجو هذه المرأة بما يستعمل من ألفاظ الذم وطرقه. فإن قال قائل: إذا كان التنين هو الحية وكانوا كثيراً ما يشبهون الممدوح بالحية. ويقولون: هو صل صفاة وحية واد وأرقم وأسود وغير ذلك كما قال أبو الطيب: يمد يديه في المفاضة ضيغم ... وعيناه من تحت التريكة أرقم1 وقال آخر: إني على رأس العدو وتحته ... لغمام قسطلة وحية واد2 وقال الرضى: نبهت منى يا أبا الغيداق ... أصم لا يسمع صوت الراقي ذا ريقة تهزأ بالدرياق ... كأنما أم من الإطراق3 وقال حريث بن عناب: أترجو الحياة يا بن بشر بن مسهر ... وقد علقت رجلاك في ناب أسودا من الصم تكفى مرة من لعابه ... وما عاد إلا كان في العود أحمدا   1 المقاضة: الدرع الواسعة والتريكة البيضة تشبيها لها ببيضة النعامة إذا خرج منها الفرخ. 2 اللغام: زبد أفواه الإبل والقسطلة: هدير الإبل. 3 أم: شج في رأسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وأمثال هذا كثيرة فكيف يكون ذكر التنين عيباً ولا يكون ذكر الأرقم والصل والأسود عيباً أن ومعنى الجميع واحد. قيل له: إننا لم ننكر التنين لأجل معناه فيقال لنا: إن معنى التنين والحية واحد وإنما عبناه من أجل مدحه لأن هذه اللفظة لم تستعمل في المدح وتلك الألفاظ قد استعملت فيه وليس يمتنع أن يكون للشيء الواحد اسمان يستعمل أحدهما في موضع ويستعمل الآخر في موضع آخر وهذا شئ إنما أصله العرف والعادة دون أصل وضع الأسماء في اللغة ألا ترى أن الإنسان إذا مدح ذكر الرأس والكاهل والهامة وإذا هجا ذكر القفا والأخادع والقذال وإن كانت معاني الجميع متقاربة. وليس يحسن أن يخاطب الملوك فيقال لبعضهم وحق يا فوخك أو قمحدودتك أو أخادعك أو قذالك أو قفاك قياساً على أن يقال له وحق رأسك لأن الاستعمال يختلف في الألفاظ وإن كان المعنى فيها غير مختلف على ما قدمناه. ومن هذا الجنس حسن الكناية عما يجب أن يكنى عنه في الموضع الذي لا يحسن فيه التصريح وذلك أصل من أصول الفصاحة وشرط من شروط البلاغة. وإنما قلنا في الموضع الذي لا يحسن فيه التصريح لأن مواضع الهزل والمجون وإيراد النوادر يليق بها ذلك ولا تكون الكناية فيها مرضية فإن لكل مقام مقالاً أن ولكل غرض فنا وأسلوباً ومما يستحسن من الكنايات قول امرئ القيس: فصرنا إلى الحسنى ودق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال لأنه كنى عن المباضعة بأحسن ما يكون من العبارة. وروى عن أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة: أنه لما أجاب أبا الجيش خمارويه بن أحمد ابن طولون عن المعتضد بالله من كتابه بانفاذ ابنته التي زوجها منه. قال في الفصل الذي احتاج فيه إلى ذكرها وأما الوديعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمنيك عناية بها وحياطة لها ورعاية لمواتك فيها. وقال للوزير أبى القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب: والله إن تسميتي إياها بالوديعة نصف البلاغة واستحسنت هذه الكناية حتى صار الكتاب يعتمدونها. وكتب أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بختيار بن معز الدولة إلى أبى تغلب ابن ناصر الدولة في انفاذ ابنته المزوجة منه: وقد توجه أبو النجم الحرمى أيده الله نحوك بالوديعة وهو الأمين على ما يحوطه ويحفظه والوفى بما يحرسه ويلحظه وإنما نقلت من مغرس إلى معرس1 ومن وطن إلى سكن ومن مأوى بر وانعطاف وإلى مثوى كرامة وإلطاف. فأجاب أبو تغلب عن هذا بكتاب من إنشاء أبي الفرج الببغا قال في جوابه عن هذا الفصل: ووصل أبو النجم بدر الحرمي بالأمانة العظيم قدرها والصفوة البينة نسبها وذكرها. فقال: عوض الوديعة الأمانة ليغاير بين اللفظين. وكذلك سبق بعضهم إلى الكناية عن الهزيمة بالتحيز اتباعاً لقول الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} 2 ثم صارت هذه العبارة للكتاب سنة. وخبرني من أثق به عن رجل من أهل بغداد يصنع الغزل من الذهب. قال: أحضرني الوزير أبو الحسن على بن عبد العزيز المعروف بابن حاجب النعمان وزير القادر بالله وأخرج إلى علماً مذهباً عليه اسم المقتدر بالله قد بلى وخلق ونقى فيه الذهب. فقال لي كيف السبيل إلى أخذ ما على هذا من الذهب فقلت: يحرق فصاح صيحة عظيمة وقال ويلك ما هذا التهجم أتحرق أعلام أمير المؤمنين وأمر بإخراجي فدفعت وقد قاربت التلف من هيبته والخوف منه وتعقبني أهل المجلس بالسؤال في بسط عذري بعدم الفهم.   1 المعرس: المكان الذي يعرس فيه القوم أي ينزلون من السفر للراحة ثم يسافرون من جديد. 2 سورة الأنفال الآية 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 لما أنكره على فأمر بإعادتي إليه وقال: هيه ما الذي تقول. فقلت: ما يرسمه سيدنا الوزير فقال قل: يستخلص. فقلت: يستخلص فقال خذه وانصرف فأخذت العلم ومضيت فأحرقته وأحضرت له ما خرج فيه من الذهب فأخذه. ومن هذا الفن أيضاً من حسن الكناية قول أبي الطيب: تدعى ما ادعيت من ألم الشو ... ق إليها والشوق حيث النحول لأنه كنى عن كذبها فيما ادعته من شوقها بأحسن كناية وكذلك قوله: لو أن فنا خسر صبحكم ... وبرزت وحدك عاقه الغزل1 لأنه أراد انهزم فكني عن هزيمته بعاقه الغزل. وتلك أحسن كناية في هذا الموضع. وأضداد هذا من قبح العبارات قول أبي الطيب: إني على شغفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها وقول الآخر: تعطين من رجليك ما ... تعطى الأكف من الرغاب2 وقول الرضى يرثى والدته:   1 قنا خسر اسم عضد الدولة. 2 الرغاب: الأرض اللينة الواسعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 كان ارتكاضي في حشاك مسبباً ... ركض الغليل عليك في أحشائي لأنك إذا تأملت هذين البيتين وجدتهما يجريان من بيت امرئ القيس مجرى الضد وذلك أن امرأ القيس عبر عما يجب أن يكنى عنه من المباضعة فكنى بأحسن كناية وهذان عبرا عما لا يجب أن يكنى عنه فأتيا بألفاظ يجب عنها وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 1 كناية عن الحدث وليس الأمر على ما قال بل معنى الكلام على ظاهره لأنه كما لا يجوز أن يكون المعبود محدثاً كذلك لا يجوز أن يكون طاعماً وهذا شئ ذكره أبو عثمان الجاحظ وهو صحيح. ومن وضع الألفاظ موضعها: أن لا يستعمل في الشعر المنظوم والكلام المنثور من الرسائل والخطب: ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين ومعانيهم والألفاظ التي تختص بها أهل المهن والعلوم لأن الإنسان إذا خاض في علم وتكلم في صناعة وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وكلام أصحاب تلك الصناعة. وبهذا شرف كلام أبى عثمان الجاحظ وذلك أنه إذا كاتب لم يعدل عن ألفاظ الكتاب وإذا صنف في الكلام لم يخرج عن عبارات المتكلمين فكأنه في كل علم يخوض فيه لا يعرف سواه ولا يحسن غيره. ومما يذكر من هذا النوع في استعمال ألفاظ المتكلمين قول أبي تمام: مودة ذهب أثمارها شبه ... وهمة جوهر معروفها عرض لأن الجوهر والعرض من ألفاظ أهل الكلام الخاصة بهم.   1 سورة المائدة الآية 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ومن ألفاظ النحويين قوله أيضا: خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلعب الأفعال بالأسماء1 وقول أبي الطيب: إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم وقوله: وكان ابنا عدو كاثراه ... له ياءى حروف أنيسيان2 وقول أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان فيما قرأته عليه: تلاق تفرى عن فراق تذمه ... مآق وتكسير الصحائح في الجمع3 وقوله أيضاً في بعض رسائله: فحرس الله عز سيدنا حتى تدغم الطاء في الهاء فتلك حراسة بغير انتهاء وكثيراً ما يسلك هذه الطريقة في كلامه وهي لائقة به لأنه لم تكن له يد في صناعة الكتابة ولا طريقة محمودة وإنما رسائله معدودة في كتب اللغة ودساتير الأدب فاستعمال هذا وما يجرى مجراه فيها لائق ومن هذا النوع ما يحكى من أشعار أصحاب المهن واستعمالهم لألفاظ صناعاتهم ومعانيها فيما ينظمونه أو ينثرونه وربما كان ذلك أو بعضه شيئاً يصنع وينسب إليهم. وحكى أن بعض المهندسين حضرته الوفاة فقال: يا عالماً بجذر الأصم ومحيط الدائرة لا تقبض روحي إلا على خط مستقيم وزوايا قائمة. وقيل أن بعض الملوك أنفذ صاحباً له في جيش وكان طبيباً فلما عاد   1 خرقاء: حمقاء صفة للخمر في الأبيات قبله والحباب: الفقاقيع التي تعلو السوائل. 2 ياءي انيسيان: تصغير إنسان. 3 تفرى: تشقق يعني أنه تلاق أدى إلى غراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 إليه سأله عن الوقعة فقال له: التقت الفئتان في موضع كرحبة البيمارستان فلو ألقى مبضع لما وقع إلا على قيفال1 فما كانت إلا ساعة حتى أبحر أعداؤنا بحراناً مهلكان وعدنا في صحة مطلقة باقبالك يا معتدل المزاج. وخبرت أن عز الدولة بختيار بن معز الدولة قال يوماً وفي مجلسه جماعة من ندمائه وكتابه: لينشدني كل واحد منكم أغزل ما يعرفه من الشعر فأنشده كل واحد منهم ما حضره فلما انتهى القول إلى أبي الخطاب مفضل بن ثابت الصابي وكان أبوه طبيباً أنشده قول أبي العتاهية: قال لي أحمد ولم يدر ما بي ... اتحب الغداة عتبة حقاً فتنفست ثم قلت نعم حباً ... جرى في العروق عرقا فعرقا فقال له: بختيار لا تخرج بنا يا أبا الخطاب عن صناعة الطب التي ماترثها عن كلالة. وكان أصحابنا إذا سمعوا قول المهلبي: يا من له رتب ممكنة ... القواعد من فؤادي قالوا: هذا يصلح أن يكون شعر بناء. وقال الظاهر الجزري: محاسنه هيولي كل حسن ... ومغناطيس أفئدة الرجال وهذا كأنه شعر فيلسوف. وحكى أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. قال: أنشدت أبا شعيب الفلال أبيات أبي نواس: ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس   1 القيفال عرق في اليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فقال: هذا شعر لو نقرته طن فوصفه من طريق صناعته. وقال: أبو القاسم الآمدي في قول أبي تمام: العار والنار والمكروه والعطب ... والقتل والصلب والمران والخشب1 هذا كأنه من كلام خالد الحداد. وكان بمعرة النعمان شارع يعرف بالوامق موصوف بالخلاعة والمجون فكان ينظم أشعاراً: في حائك واسكاف وصائغ ومن يجرى مجراهم ويستعمل ألفاظ تلك الصناعة ومعانيها في ذلك الشعر فمما يروى له في غلام اسكاف قوله: إن سن بالهجران شفرته ... ليقد قلبي قد مجتهد فلأصبرن كصبر تجتجة ... متمسكاً بمحلل العقد وهذا إنما يسوغ على هذا السبيل من الهزل والخلاعة فأما في باب الجد فليس يحسن أن يستعمل في كل موضع منه إلا الألفاظ اللائقة به. وشعر أبي عبد الله بن الحجاج وأن تضمن كثيراً من الألفاظ التي لا تحسن في مواضع الجد فإنه قد جاء بها في الموضع اللائق بها ولأجل هذا حسنت ولم تقبح ألا ترى أن قول ابن نباتة: وقال لنا الزمان ظلمتموهم ... فقلنا للزمان دع الفضولا ليس بمختار على طريقته في الجد وفنه ولو ورد في شعر أبي عبد الله بن الحجاج كان مرضياً مختاراً. ومن شروط الفصاحة: المناسبة بين الألفاظ وهي على ضربين: مناسبة بين اللفظين من طريق الصيغة. ومناسبة بينهما من طريق المعنى   1 المران: شجر صلب تتخذ منه الرماح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فأما المناسبة من طريق المعنى فسنذكرها في المعاني إذا وصلنا إليها من هذا الكتاب بعون الله ومشيئته. وأما المناسبة بينهما من طريق الصيغة فلها تأثير في الفصاحة ومثال ذلك ما رواه أبو الفتح عثمان بن جنى. قال قرأت على أبي الطيب قوله: وقد صارت الأجفان قرحاً من البكا ... وصار بهاراً في الخدود الشقائق1 فقلت: قرحى فقال: إنما قلت قرحاً لأن قولي بهاراً. فهذه المناسبة التي تؤثر في الفصاحة والشعراء الحذاق والكتاب يعتمدونها وكتب بعضهم: إذا كنت لا تؤتى من نقص كرم وكنت لا أوتى من ضعف سبب فكيف أخاف كم خيبة أمل أو عدولا عن اغتفار زلل أو فتوراً عن لم شعث وإصلاح خلل فناسب: بين نقص وضعف وكرم وسبب وعدول وفتور بالصيغ. وإلا فقد كان يمكنه أن يقول: مكان نقص قلة فلا يكون مناسباً لضعف ومكان كرم جوداً فلا يكون مناسباً لسبب أو مكان سبب شكراً فلا يكون مناسباً لكرم ومكان فتور تقصيراً فلا يكون مناسبا لعدول. ومن هذا النحو أيضا قول أبي تمام: مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل فناسب بين مهى وقنى والوحش والخط. وكذلك قول أبي عبادة: فأحجم لما لم يجد فيك مطعماً ... وأقدم ملا لم يجد عنك مهربا2   1 البهار: زهر أصفر ومفردها بهارة. 2 هو من قصيدة له في مدح الفتح بن خاقان في وصف مبارزته للأسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فناسب بين أحجم وأقدم ومطمعاً ومهرباً وعنك وفيك. وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى. ومن المناسبة بين الألفاظ في الصيغ: السجع والازدواج ويحد السجع بأنه تماثل الحروف في مقاطع الفصول وبعض الناس يذهب إلى كراهة السجع والازدواج في الكلام وبعضهم يستحسنه ويقصده كثيراً وحجة من يكرهه أنه ربما وقع بتكلف وتعمل واستكراه فأهذب طلاوة الكلام وأزال ماءه وحجة من يختاره أنه مناسبة بين الألفاظ يحسنها ويظهر آثار الصنعة فيها لولا ذلك لم يرد في كلام الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والفصيح من كلام العرب وكما أن الشعر يحسن بتساوي قوافيه كذلك النثر يحسن بتماثل الحروف في فصوله والمذهب الصحيح: أن السجع محمود إذا وقع سهلاً متيسراً بلا كلفة ولا مشقة وبحيث يظهر أنه لم يقصد في نفسه ولا أحضره إلا صدق معناه دون موافقة لفظه ولا يكون الكلام الذي قبله إنما يتخيل لأجله ورد ليصير وصلة إليه فإنا متى حمدنا هذا الجنس من السجع كنا قد وافقنا دليل من كرهه وعملنا بموجبه لأنه إنما دل على قبح ما يقع من السجع بتعمل وتكلف. ونحن لم نستحسن ذلك النوع ووافقنا أيضاً دليل من اختاره لأنه إنما دل به على حسن ما ورد منه في كتاب الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والفصحاء من العرب. وكان يحسن الكلام ويبين آثار الصناعة ويجرى مجرى القوافي المحمودة والذي يكون بهذه الصفات هو الذي حمدناه واخترناه وذكرنا أنه يكون سهلاً غير مستكره ولا متكلف. وقد حكى الجاحظ عن بشر بن المعتمر1 أنه قال في وصيته في البلاغة:   1 هو بشر بن المعتمر الهلالي البغدادي أبو سهل فقيه معتزلي من أهل الكوفة تنسب إليه الطائفة البشرية له مصنفات في الاعتزال منها قصيدة في أربعين ألف بيت رد فيها على جميع المخالفين مات ببغداد سنة 210هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 إذا لم تجد اللفظة واقعة موقعها ولا صائرة إلى مستقرها ولا حالة في مركزها بل وجدتها قلقة في مكانها نافرة من موضعها فلا تكرهها على القرار في غير موطنها فإنك إذا لم تتعاط قريض الشعر الموزون ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك أحد. وإذا أنت تكلفتهما ولم تكن حاذقاً فيهما عابك من أنت أقل عيباً منه وأزرى عليك من أنت فوقه. وهذا كلام صحيح يجب أن يقتدي به في هذه الصناعة. وأما الفواصل التي في القرآن فإنهم سموها فواصل ولم يسموها أسجاعاً وفرقوا فقالوا: إن السجع هو الذي يقصد في نفسه ثم يحمل المعنى عليه والفواصل التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة في أنفسها وقال على بن عيسى الرماني: إن الفواصل بلاغة والسجع عيب وعلل ذلك بما ذكرناه من أن السجع تتبعه المعاني والفواصل تتبع المعاني وهذا غير صحيح والذي يجب أن يحرر في ذلك أن يقال: إن الأسجاع حروف متماثلة في مقاطع الفصول على ما ذكرناه والفواصل على ضربين ضرب يكون سجعاً وهو ما تماثلت حروفه في المقاطع وضرب لا يكون سجعاً وهو ما تقابلت حروفه في المقاطع ولم تتماثل ولا يخلو كل واحد من هذين القسمين أعني المتماثل والمتقارب من أن يكون يأتي طوعا سهلا وتابعا للمعاني وبالضد من ذلك حتى يكون متكلفاً يتبعه المعنى فإن كان من القسم الأول فهو المحمود الدال على الفصاحة وحسن البيان وإن كان من الثاني فهو مذموم مرفوض. فأما القرآن فلم يرد فيه إلا ما هو من القسم المحمود لعلوه في الفصاحة وقد وردت فواصله متماثلة ومتقاربة فمثال المتماثلة قوله تعالى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} 1 وقوله عز اسمه: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2   1 سورة الطور 1-2-3. 2 سورة طه الآيات 1-5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وقوله تبارك وتعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} 1 وقوله تبارك وتعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} 2 وقوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاد فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} 3 وحذفوا الياء من يسرى والوادي طلبا للموافقة في الفواصل. وقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} 4 وجميع هذه السورة على هذا الازدواج وهذا جائز أن يسمى سجعاً لأن فيه معنى السجع ولا مانع في الشرع يمنع من ذلك. ومثال المتقارب في الحروف قوله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 5 وقوله تبارك وتعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} 6 وهذا لا يسمى سجعاً لأنا قد بينا أن السجع ما كانت حروفه متماثلة. فأما قول الرماني: أن السجع عيب والفواصل بلاغة على الاطلاق فغلط لأنه إن أراد بالسجع ما يكون تابعاً للمعنى وكأنه غير مقصود   1 سورة العاديات 1-5. 2 سورة الفجر الآيات 1-4. 3 سورة الفجر الآيات 5-11. 4 سورة القمر الآيات 1-3. 5 سورة الفاتحة 3-4. 6 سورة ق 1-2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فذلك بلاغة والفواصل مثله وإن كان يريد بالسجع ما تقع المعاني تابعة له وهو مقصود متكلف فذلك عيب والفواصل مثله. وكما يعرض التكلف في السجع عند طلب تماثل الحروف كذلك يعرض في الفواصل عند طلب تقارب الحروف وأظن أن الذي دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعاً رغبة في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروى عن الكهنة وغيرهم وهذا غرض في التسمية قريب. فأما الحقيقة فما ذكرناه لأنه لا فرق بين مشاركة بعض القرآن لغيره من الكلام في كونه مسجوعاً وبين مشاركة جميعه في كونه عرضاً وصوتاً وحروفاً وعربياً ومؤلفاً وهذا مما لا يخفى فيحتاج إلى زيادة في البيان. ولا فرق بين الفواصل التي تتماثل حروفها في المقاطع وبين السجع. فإن قال قائل: إذا كان عندكم أن السجع محمود فهلا ورد القرآن كله مسجوعاً وما الوجه في ورود بعضه مسجوعاً وبعضه غير مسجوع. قيل: إن القرآن أنزل بلغة العرب وعلى عرفهم وعادتهم وكان الفصيح من كلامهم لا يكون كله مسجوعاً لما في ذلك من أمارات التكلف والاستكراه والتصنع لا سيما فيما يطول من الكلام فلم يرد مسجوعاً جرياً به على عرفهم في الطبقة العالية من كلامهم. ولم يخل من السجع لأنه يحسن في بعض الكلام على الصفة التي قدمناها وعليها ورد في فصيح كلامهم فلم يجز أن يكون عالياً في الفصاحة وقد أخل فيه بشرط من شروطهاً فهذا هو السبب في ورود القرآن مسجوعاً وغير مسجوع والله أعلم. ومن الكتاب المحدثين من كان يستعمل السجع كثيراً ولا يكاد يخل به وهو: أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي1 وأبو الفرج   1 هو إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون الحراني أبو إسحاق الصابئ نابغة كان أسلافه يعرفون بصناعة الطب ومال هو إلى الأدب فتقلد دوواين الرسالة والمظالم تقليدا سلطانيا في أيام المطيع لله العباسي ثم قلده معز الدولة الديلمي ديوان رسائله غخدمه وخدم بعده ابنه عز الدولة بختيار كان يحفظ القرآن وقد نشر له الأمير شكيب أرسلان رسائل الصابئ وعلق عليه حواشي نافعة وله كتاب الناجي وكتاب الهفوات النادرة الذي نشره المجمع العلمي العربي بدمشق توفي سنة 384هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 المعروف بالببغاء1 ومنهم من كان يتركه ويتجنبه وهو: أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد2 وطريقة غير هؤلاء استعمله مرة ورفضه أخرى بحسب ما يوجد من السهولة والتيسير أو الإكراه والتكلف فأما عبد الحميد بن يحيى وعبد الله بن المقفع وأبو الربيع محمد بن الليث وجعفر بن يحيى بن خالد وإبراهيم بن العباس وسعيد بن حميد وأبو عثمان الجاحظ وأبو علي البصير وأحمد بن يوسف وإسماعيل بن صبيح ومحمد بن غالب ومحمد بن عبد الله الأصفهاني وابن ثوابه وأبو الحسين أحمد بن سعد وأبو مسلم محمد بن بحر وأشباههم. فإن السجع فيما وقفت عليه من كلامهم قليل لكنهم لا يكادون يخلون بالمناسبة بين الألفاظ في الفصول والمقاطع إلا في اليسير من المواضع. وأما قول أبى الحسين بن سعد في بعض رسائله: وقد عرفت القدر فيما تراخى من كتبك وأبطأ عني من برك ورجعت فيما اتفق من حال الجفاء في هذه الوهلة إلى ما عرفت صحته من العهد وخلوصه من الود فلم   1 هو عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي أبو الفرج المعروف بالببغاء شاعر مشهور من أهل نصيبين اتصل بسيف الدولة ودخل الموصل وبغداد ونادم الملوك والرؤساء له ديوان شعر توفي سنة 398هـ. 2 هو محمد بن الحسين العميد بن محمد أبو الفضل وزير من أئمة الكتاب كان ضليعا في علوم الفلسفة والنجوم ولقب بالجاحظ الثاني قال عنه ابن الأثير كان أبو الفضل من محاسن الدنيا اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره من حسن التدبير وسياسة الملك والكتابة التي أتى فيها بكل بديع مع حسن خلق ولين عشرة وشجاعة تامة ومعرفة بأمور الحرب والمحاضرات وبه تخرج عضد الدولة البويهي ومنه تعلم سياسة الملك ومحبة العلم والعلماء مات بهمدان سنة 360هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أجد لسوء الظن مساغاً ولا لظاهر الإعراض قبولاً لأنك الأخ المبلوة أخباره المتكافئة في الجميل أفعاله غير أن النفس تستوحش لما ينكر من حيث عرفت وتذم من حيث حمدت ويتضاعف عليها الأسف للجفاء إذا وقع من معدن البر والارتياب إذا كان رديفاً للثقة وأرجو أن أكون من تلون الزمان فيك على أمن ومن وفائه بعهد مودتك على أقوى أمل. فان في هذا الكلام تركا للمناسبة بين الألفاظ: لأن قبولا ليس على وزن مساغ وتستوحش ليس بأزائها كلمة لأنه كان ينبغي أن يقال: تستوحش لما يستنكر من حيث عرفت وتنفر مما تذم من حيث حمدت أو غير يستنكر من الألفاظ التي تكون مناسبة لتستوحش وكذلك البر لا يناسب الثقة في الصيغة وأمن ليس على وزن أمل وهذا ليس بعيب فاحش وإنما هو ترك للأفضل والأولى من اعتماد المناسبة. وحدثني أبو القاسم زيد بن علي الفارسي قال حدثنا أبو عبيد نعيم بن مسعود الهروي قال حدثنا أبو القاسم يحيى بن القاسم القصباني قال حدثنا دعلج بن أحمد بن دعلج قال حدثنا على بن عبد العزيز البغوي قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام عن غير واحد من رجاله عن أبي نعامة عمرو بن عيسى العدوى عن مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة " 1. فقال: مأمورة لأجل المناسبة والمستعمل مومرة أي كثيرة النتاج كما قرئ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} 2 أي كثرنا.   1 أخرجه الإمام أحمد. 2 سورة الإسراء الآية 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وحدثني زيد بن على بهذا الإسناد عن أبي عبيد القاسم بن سلام عن يزيد بن سفيان عن منصور عن المنهال ابن عمور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه كان يعود الحسن والحسين عليهما السلام فيقول: "أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة" 1. ولم يقل ملمة لأجل المناسبة وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الحديث: "ترجعن مأزورات غير مأجورات" لأن مأزورات من الوزر والمتسعمل موزورات فجاء به هكذا لأجل المناسبة. والسجع الواقع موقعه كثير لمن طلبه ومنه قول أبى الفرج عبد الواحد بن نصر الببغا في أول رسالة له: إذا كانت حقيقة الشكر أطال الله بقاء سيدنا الأمير سيف الدولة في متعالم العرف والعادة إنما هي علة موضوعي لاستجلاب الزيادة فقد لزم بدليل العقل وحجة الفضل أن يسمى الشاكر مستزيداً لا مكافياً ومستديماً لا مجازيا وتبقى النعمة مطالبة بواجبها والمنة مقتضية عن صاحبها وقوله في فصل آخر: وعلمي بأن أقرب مؤمليه إليه وأوجبهم حرمة عليه أشدهم استزادة لنعمه وأكثرهم إلحاحاً على كرمه بعثني على التقرب إلى قلبه بالسؤال ومناجاة كرمه بلسان الآمال فسألت متقربا وطلبت متسحباً. وبلغ على بن الحسن عليه السلام قول نافع بن جبير في معاوية: كان يسكته الحلم وينطقه العلم فقال: بل كان يسكته الحصر وينطقه البطر. ووقف الأحنف على قبر الحارث بن معاوية المازني فقال: رحمك الله أبا المورق كنت لا تحقر ضعيفاً ولا تحسد شريفاً.   1 أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ومسلم في كتاب الذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وقال بعضهم: سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتباراً. وقال أبو إسحاق الصابي في بعض كتبه: وييسر له الفتوح شرقاً وغرباً ويمكنه من نواصي أعدائه سلماً وحرباً ويجعله في أحواله كلها سعيداً مخظوظاً وبعين رعايته ملحوظاً محفوظا ولا يخليه من مزيد تتوافر مادته إليه وإحسان لله يتظاهر لديه ويصل ما منحه بنظائر تتلوه وتتبعه. وأمثال تقفوه وتشفعه. ومن كتاب له آخر: وصل كتاب مولانا الأمير الجليل عضد الدولة جواباً وفهمته. وما اقترن به ثواباً وقبضته ووقع منى موقع الماء من ذي الغلة والشفاء من ذي العلة وأعظمت قدر ما اختصنى به من عنايته وأبانه في من رعايته وجعلت ذلك جنة بيني وبين الزمان وأثرة لي على الأضراب والأقران وشكرت أنعامه مجتهداً محتفلاً وادرعته مفتخراً متجملا. وهذا كله سجع يتبع المعاني غير متكلف ولا مستكره وأمثاله أكثر من أن تحصى. وقد سمى قدامة بن جعفر ترك المناسبة في مقاطع الفصول: التجميع ومثل ذلك بقول سعيد بن حميد في أول كتاب له: وصل كتابك فوصل به ما يستعبد الحر وإن كان قديم العبودية ويستغرق الشكر وإن كان سالف فضلك لم يبق شيئاً منه لأن المقطع على العبودية منافر للمقطع على منه. فهذا هو مثال ما تترك به المناسبة مع قدمناه ومثال الأسجاع التي تكون غير متكلفة قد ذكرناه فأما إذا تكلفت واعتمدت وكانت المعاني تابعة لها فليس ذلك بمرضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ومما يجب اعتماده في هذا ألا تجعل الرسالة كلها مسجوعة على حرف واحد لأن ذلك يقع تعرضاً للتكرار وميلا إلى التكلف وقد استعمل ذلك في الخطب وغيرها من المنثور وهو يقبح في المكاتبات خاصة. فأنا القوافي في الشعر فإنها تجري مجرى السجع وأن المختار منها ما كان متمكناً يدل الكلام عليه وإذا أنشد صدر البيت عرفت قافتيه كما قال ابن نباته في وصف قصيدته: خذها إذا أنشدت للقوم من طرب ... صدورها علمت منها قوافيها وقد قدمنا لذلك أمثلة وبينا ما يكون من القوافي حشواً في باب الحشو. وقد صنف العلماء في باب القوافي كتباً بينوا فيها ما تجب إعادته من الحروف والحركات وما لا تجب إعادته ووضعوا لتلك الحروف والحركات أسماء لا حاجة بنا إلى ذكر شئ من ذلك لأنه هناك مستوفى مستقصى وليس مما نحن بسبيل. وقد التزم بعض الشعراء في القوافي إعادة ما لا يلزمه إعادته طلباً للزيادة في التناسب والاغراق في التماثل كقول الحطيئة: ألا من لقلب عارم النظرات ... يقطع طول الليل بالزفرات إذا ما الثريا آخر الليل اعنقت ... كواكبها كالجزع منحدرات1 فالتزم الرآء في جميعها قبل حرف الروي وهي غير لازمة. وكقول حسان:   1 عارم النظرات مشتدها وأعتقت ما لت للغروب والجزع خرز فيه سواد وبياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 بكل كميت جوزه نصف خلقه ... وقب طوال مشرفات الحوارك1 فالتزم الرآء التي تسميها أصحاب القوافي الدخيل بين ألف التأسيس وحرف الروى. وكان شيخنا يذهب إلى أن قصيدة كثير التي أولها: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم أبكيا حيث حلت قد لزم اللام في جميعهاً فلما سألناه عن البيت الذي يروى فيها وهو: أصاب الردى من كان يهوى لك الردى ... وجن اللواتي قلن عزة جنت قال: هذا البيت ليس من القصيدة وأما أبو عبادة البحتري فإنه التزم الدال في قصيدته التائية التي مدح فيها المهتدي بالله وفيها يقول: أسفت لأقوام ملكت بعيدهم ... وكانت دجت أيامهم واسوأدت مضوا لم يروا من حسن عدلك منظرا ... ولم يلبسوا نعماك حين استجدت ولم يعلموا أن المكارم أبديت ... جداعا ولا أن المظالم ردت وكان علي بن العباس الرومي: يلتزم هذا كثيراً وهو موجود في شعره ونظم أبو العلاء أحمد بن عبيد الله بن سليمان شعره - المعروف بلزوم ما لا يلزم - على هذه الطريقة وكذلك أكثر كلامه المنثور سلك فيه هذا المنهج. وليس يغتفر للشاعر إذا نظم على هذا الفن لأجل ما ألزم نفسه ما لا يلزمه شئ من عيوب القوافي لأنه إنما فعل ذلك طوعا واختيارا من غير   1 كميت بعير لونه بين السواد والحمرة وجوزه: وسطه أي بطنه والقب: الخيل الضوامر والحوارك جمع حارك وهو أعلى الكاهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الجاء ولا إكراه. ونحن نريد الكلام الحسن على أسهل الطرق واقرب السبل وليس بنا حاجة إلى المتكلف المطرح وإن ادعي علينا قائلة أن مشقة نالته وتعباً مر به في نظمه. وورود القوافي متمكنة في الأشعار المختارة موجود ومنه قول أبي عبادة: أخيال علوة كيف زرت وعندنا ... أرق يشرد بالخيال الزائر طيف ألم لها ونحن بمهمه ... قفر يشق على الملم الخاطر أفضى إلى شعث تطير كراهم ... روحات قود كالقسي ضوامر1 حتى إذا نزعوا الدجي وتسربلوا ... من فضل هلهلة الصباح النائر2 ورنوا إلى شعب الرحال بأعين ... يكسرن من نظر النعاس القاتر أهوى فأسعف بالتحية خلسة ... والشمس تلمع في جناحي طائر وقول أبي الطيب المتنبي: يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شئ بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما الجرح إذا أرضاكم ألم وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم وقول أبى العلاء بن سليمان فيما قرأته عليه: ردى كلامك ما أمللت مستمعاً ... ومن يمل من الأنفاس ترديدا باتت عرى النوم عن جفني محللة ... وبات كوري على الوجناء مشدودا   1 قود: جمع أقود وهو الذلول المنقاد من الإبل والخيل ونحوهما. 2 النائر: اسم فاعل من نار الصبح ظهر نوره وهلهلته ضعفه ورقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وقوله أيضاً: لاقاك في العام الذي ولى فلم ... يسألك إلا قبلة في القابل إن البخيل إذا يمد له المدى ... في الجود هان عليه وعد السائل وأمثال هذا أكثر من أن تحصى. ومما يجب أن يعتمد في القافية أن لا تكون الكلمة إذا سكت عليها كانت محتملة لمعنى يقتضي خلاف ما وضع الشعر له مثل أن يكون مديحاً فيقتضى بالسكوت عليها وقطع الكلام بها وجهاً من الذم أو معنى يتطير منه الممدوح أو ما يجرى هذا المجرى كما حكى أن الصاحب إسماعيل بن عباد أنشد عضد الدولة قصيدة مدحه بها فقال فيها: ضممت على أبناء تغلب تائها ... فتغلب ماكر الجديد أن تغلب1 فتطير عضد الدولة من مواجهته إياه بتغلب وقال: يكفى الله ذلك ولو قال في وسط البيت تغلب وتغلب لم يكن في ذلك من القبح ما يكون في القافية لأنها موضع قطع وسكوت ووقوف على ما مضى واستئناف لما يأتي. وروى أن أبا الطيب لما أنشد قصيدته التي ودع بها عضد الدولة فقال فيها: وأيا شئت يا طرقي فكوني ... أذاة أو نجاة أو هلاكا قال عضد الدولة: يوشك أن يصاب في طريقه وكانت منيته فيه. وقال أبو الفتح عثمان بن جني: جعل القافية هلاكا فهلك.   1 تغلب في أول البيت قبيلة عربية وتغلب في آخره فعل مضارع مبني للمجهول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ومن هذا الجنس أيضاً الابتداء في القصائد فإنه يحتاج إلى تحرز فيه حتى لا يستفتح بلفظ محتمل أو كلام يتطير منه وقد روى أن ذا الرمة أنشد هشام بن عبد الملك قصيدته البائية فلما ابتدأ وقال: ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كلى مفرية سرب قال هشام: بل عينك1 وقد كان أبو الطيب افتتح قصيدته التي مدح فيها عضد الدولة بقوله: أوه بديل من قولتي واها ... لمن نأت والحديث ذكراها فقال له: أوه وكيه ويقال إن بعض الشعراء2 دخل على الداعي العلوي3 في يوم مهرجان فأنشده: لا تقل بشرى ولكن بشريان ... غرة الداعي ويوم المهرجان فبطحه وضربه خمسين عصاً وقال: إصلاح أدبه أبلغ في ثوابه. وكان شيخنا يعيب قول أبي الطيب: إذا ما لبست الدهر مستمعاً به ... تخرقت والملبوس لم يتخرق ويقول: إذا طولب الشاعر بحسن الأدب وجب أن لا يقابل الممدوح بمثل هذا الكلام.   1 كانت عين هشام تدمع دائما فظن أنه يعرض به. 2 هو نصر بن نصر الحلواني المشهور بابن مقاتل. 3 هو محمد بن زيد صاحب طبرستان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وقد أنكر عبد الملك بن مروان على جرير ما هو دون هذا من القول وذلك أنه لما أنشده: أتصحو أم فؤادك غير صاح1 فقال له عبد الملك: بل فؤادك. ويروى أن أبا نواس لما أنشد الفضل بن يحيى قصيدته: أربع البلى أن الخشوع لبادي ... عليك وإني لم أخنك ودادي تطير الفضل من هذا الابتداء فلما انتهى إلى قوله في القصيدة: سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بنى برمك من رائحين وغاد استحكم تطيره فلم يمض إلا أسبوع حتى نكب بنوبرمث وقتل جعفر بن يحيى وبعض الناس يروى أن أبا عبادة أنشد يوسف بن محمد ابن يوسف الثغري قوله: لك الويل من ليل تطاول آخره ... ووشك نوى حي تزم أباعره ومن القوافي التي جاءت حشواً لأجل حرف الروي من غير معنى يختص به قول أبى عدى القرشي:   1 هذا صدر البيت وتمامه: عشية هم صحبك بالرواح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ووقيت الحتوف من وارث وال ... وأبقاك صالحاً رب هود فليس في تسمية الباري تبارك وتعالى: رب هود معنى ولا وجه لذلك إلا أن القصيدة دالية وإلا فهو تعالى رب نوح وهود وكل أحد وهذا كثير في الأشعار الضعيفة. ومن تناسب القوافي: تجنب الإقواء فيها وهو اختلاف إعرابها فيكون بعضها مثلاً مرفوعاً وبعضها مجروراً وهذا يوجد في أشعار العرب. وقد روى أن الناغبة كان يقوى حتى دخل المدينة وسمع أهلها يغنون بقوله في قصيدته التي أولها: من آل مية رائح أو مغتدى ... عجلان ذازاد وغير مزود زعم البوارح أن رحلتنا غداً ... وبذاك خبرنا الغراب الأسودب1 ففطن للإقواء فتركه. والإيطاء في القوافي عيب وهو أن تتفق القافتيان في قصيدة واحدة وأمثال ذلك كثيرة فأما أن يكون معنى القافيتين مختلفاً ولفظهما واحداً فذلك ليس بعيب مثل أن تأتي العين ويراد بها الجارحة والعين ويراد بها الذهب وإذا بعد ما بين القافيتين المتكررتين في القصيدة كان أصلح وإن كان الإيطاء عيباً على كل حال. والسناد أيضا عيب وهو اختلاف في الحركات قبل حروف الروي كما قال عدي بن زيد: ففاجأها لاقت جموعاً ... على أبواب حصن مصلتينا   1 البوارح الطيور التي تجئ من اليمن فتوليك مياسرها وكانوا يتشاءمون منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فقدمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذباً وميناً1 فالميم من ميناً مفتوحة والتاء من مصلتينا مكسورة. والسناد من قولهم خرج بنو فلان برأسين متساندين أي كل واحد منهما على حياله وكذلك قالوا كانت قريش يوم الفجار متساندين أي لا يقودهم رجل واحد. ومن عيوب القوافي: أن يتم البيت ولا تتم الكلمة التي منها القافية حتى يكون تمامها في البيت الثاني مثل أبيات كتبها إلى الشيخ أبو العلاء بن سليمان في بعض كتبه وحكى أن أبا العباس المبرد ذكرها في كتابه الموضوع في القوافي وسمى هذا الجنس من عيوب القافيه المجاز والأبيات: شبيه بابن يعقوب ... ولكن لم يكن يو سف يشرب الخمر ... ولا يزني ولا يو سع بالأمواه القهو ... ة مزجا لم يكن دو ن في صبح وامسآء ... وهذا منكر يو شك الرحمن أن يصليه ... في نار خزى هو لها أهل فلا يكشف ... عنه ربنا السوء قد النار لأضياف ... لوو قيل له ذو دنانير وأموال ... فيارحمن لا تو سع الرزق على هذا ... الذي منظره لو لو والفعل ستوق ... فوزن الريش لا يو2   1 المصلتون: المجردون سيوفهم الأديم: الجلد الراهشان: عرقان في باطن الزراعين. 2 ستوق: زيف بهرج ملبس بالفضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وقطع الكلام على يو. ومما يجرى هذا المجرى التضمين: وهو أن لا تستقل الكلمة التي هي القافية بالمعنى حتى تكون موصولة بما في أول البيت الثاني وذلك مثل قول النابغة الذبياني: وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ أنى شهدت لهم مواطن صادقات ... أتيتهم بنصح الود منى ومن عيوب القوافي في ترك التناسب: أن يكون الروي على حرفين متقاربين كما قال بعض العرب: بنى إن البر شئ هين ... المنطق اللين والطعيم وهذا من الشاذ النادر الذي لا يلتفت إليه. ومن عيوب القوافي: أن تكون قافية المصراع الأول من البيت الأول على روى ينبئ أن تكون قافية آخر البيت بحسبه فيأتي بخلافه كقول عمرو ابن شاس: تذكرت ليلى لات حين أدكارها ... وقد حنى الأضلاع بتضلال1 فلما قال: أدكارها أو هم أن الروي حرف الراء بوصل وخروج وردف قبله ثم جاء بالقافية على اللام كذلك قول الشماخ: لمن منزل عاف ورسم منازل ... عفت بعد عهد العاهدين رياضها   1 أدكارها: ذكرها أي ليس الحين حين ذكرها وضل بتضلال خبر مبتدأ محذوف أي أمري ويقال للباطل ضل بتضلال أو ضلا بتضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقد سمى هذا الفن: التجيع وهو على كل حال من أسهل عيوب القوافي وأقربها إلى الجواز والصحة. وأما التصريع فيجرى مجرى القافية وليس الفرق بينهما ألد أنه في آخر النصف الأول من البيت والقافية في آخر النصف الثاني منه وإنما شبه مع القافية بمصراعي الباب وقد استعلمه المتقدمون والمحدثون في أول القصيدة وربما استعملوه في أثنائها وممن كان يلهج به من المتقدمين امرؤ القيس فإنه صرع في أول قصيدته: قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل ثم قال من بعد: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل وقال فيها: وقال في التي أولها: ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي ديار لسلمى عافيات بذي الخال ... ألح عليها كل أسحم هطال1 ألا أنني بال على جمل بال ... يقود بنا بال ويتبعنا بال   1 ذي الخال: موضع أو جبل الأسجم: السحاب الأسود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وكذلك اعتمد جماعة من الشعراء في بعض قصائدهم والذي أراه أن التصريع يحسن في أول القصيدة ليميز بين الابتداء وغيره ويفهم قبل تمام البيت روى القصيدة وقافيتها ولذلك قال أبو تمام: وإنما يروقك بيت الشعر حين يصرع فأما إذا تكرر الصريع في القصيدة فلست أراه مختاراً وهو عندي يجرى مجرى تكرر الترصيع والتجنيس والطباق وغير ذلك مما سيأتي ذكره وأن هذه الأشياء إنما يحسن منها ما قل وجرى منها مجرى اللمعة واللمحة فأما إذا تواتر وتكرر فليس عندي ذلك مرضياً. فإن قال لنا قائل: كيف يكون التصريع وغيره من الأصناف التي أشرتم إليها حسناً إذا قل وإن كثر لم يكن حسناً قيل له: هذا غير مستنكر ولا مستطرف وله أشباه كثيرة فإن الخال يحسن في بعض الوجوه ولو كان في ذلك الوجه عدة خيلان لكان قبيحان ويكون في بعض النقوش يسير من سواد أو حمرة أو غيرهما من الألوان فيحسن ذلك المزاج والنقش بذلك القدر من اللون فإن زاد لم يكن حسناً وتستحسن غرة الفرس وهي قدر مخصوص فإن كان وجهه كله أبيض أو زاد ذلك القدر من البياض لم يحسن وأشباه هذا أكثر من أن يحصى والعلة فيه أنه إنما كان حسناً بالإضافة إلى غيره. وقد ترك التصريع جماعة من الشعراء المتقدمين والمحدثين في أول القصيدة كما ابتدأ ابن أحمر قصيدته فقال: قد بكرت عاذلتي بكرة ... تزعم أني بالصبا مشتهر فلم يصرع ثم قال من بعده: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 بل ودعيني طفل أنى بكر ... فقددنا الصبح فما انتظر وربما أخل الشارع بالتصريع في جميع القصيدة. ومن التناسب أيضاً: الترصيع وهو أن يعتمد تصيير مقاطع الأجزاء في البيت المنظوم أو الفصل من الكلام المنثور مسجوعة وكأن ذلك شبه بترصيع الجوهر في الحلي وهذا مما قلنا أنه لا يحسن إذا تكرر وتوالى لأنه يدل على التكلف وشدة التصنع وإنما يحسن إذا وقع قليلاً غير نافر. ومن أمثلة ذلك في النثر قول أبي على البصير في بعض كلامه: حتى عاد تعريضك تصريحاً وتمريضك تصحيحاً. وقالت الخنساء: حامي الحقيقة محمود الحليقة مه ... دي الطريقة نفاع وضرار جواب قاصية جزار ناصية ... عقاد ألوية للخيل جرار وقال امرؤ القيس: فتور القيام قطيع الكلا ... م تفتر عن ذي غروب خصر1 وقال بشامة بن عمرو بن الغدير: هوان الحياة وخزى الممات ... وكلا أراه طعاماً وبيلا وقال أبو العلاء أحمد بن عبد الله:   1 فتور القيام: متراخيته لكبر عجيزتها وقطيع الكلام: قليلته لحيائها والغروب: بياض الأسنان والخصر: البارد العذب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ألفت الملا حتى تعلمت بالفلا ... رنو الطلى أو صنعة الآل في الخدع1 فهذا وأمثاله إذا كان قدراً يسيراً حسن على ما ذكرناه فأما إذا توالى وكثر فإنه يقبح لدلالته على التكلف وإن كان كل منه بانفراده جيداً وذلك مثل قول أبي صخر الهزلي: عذب مقبلها جدل مخلخلها ... كالدعص أسفلها مخصورة القدم2 سود ذوائبها بيض ترائبها ... محض ضرائبها صيغت على الكرم3 عبل مقيدها حال مقلدها ... بض مجردها لفاء في عمم4 سمح خلائقها درم مرافقها ... يروى معانقها من بارد شبم فهذا لما توالى لم يحسن والعلة في ذلك ما ذكرناه. ومن التناسب أيضاً: حمل اللفظ على اللفظ في الترتيب ليكون ما يرجع إلى المقدم مقدماً وإلى المؤخر مؤخراً ومثال ذلك قول الشريف الرضى: قلبي وطرفي منك هذا في حمى ... قيظ وهذا في رياض ربيع   1 الملا: المتسع من الأرض والرنو: إدامة النظر والطلي ولد الظبية والآل: السراب ويضرب به المثل لأنه يخدع النظر. 2 الدعص: كثيب الرمل المجتمع شبه به عجيزتها. 3 الترائب: جمع تريبة وهي أعلى الصدر وضرائبها سجاياها. 4 عبل ضخم: يعني أنها ممتلئة الساقين وحال مقلدها به حلى وبض مجردها رقيقة الجلد ناعمته ولقاء غير مسترخية والعمم التام العام من كل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فإنه لما قدم قلبي وجب أن يقدم وصفه بأنه في حمى قيظ فلو كان قال: طرفي وقلبي منك لم يحسن في الترتيب أن يؤخر قوله في رياض ربيع والطرف مقدم. وكذلك أيضاً قول الآخر: فاللامعات أسنة وأسرة ... والمائسات ذوابل وقدود1 لأن القدود لما كانت مؤخرة وجب أن تكون الأسرة كذلك وأن يقدم الأسنة كما قدمت الذوابل وأمثال هذا كثيرة. ومن المناسبة أيضاً: التناسب في المقدار وهذا في الشعر محفوظ بالوزن فلا يمكن اختلاف الأبيات في الطول والقصر فإن زاحف بعض الأبيات أو جعل الشعر كله مزاحفاً حتى مال إلى الانكسار وخرج من باب الشعر في الذوق كان قبيحاً ناقص الطلاوة كقصيدة عبيد بن الأبرص: أقفر من أهله ملحوب وكقوله ابن يعفر: إنا ذممنا على ما خيلت ... سع د بن زيد وعمراً من تميم وضبة المشتري العار بنا ... وذاك عم بنا غير رحيم ونحن قوم لنا رماح ... وثروة من موال وصميم2 فإن هذا غير مستحسن لأنه خارج عن أسلوب المنظوم والمنثور وإن   1 الذوابل: الرماح. 2 الصميم من كل شيء خالصه ومحضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 كان في العروض مستقيماً وكان الخليل بن أحمد يستحسن بعض الزحاف في الشعر إذا قل وإذا كثر قبح عنده. وقال بعض الأدباء: هو مثل اللثغ في الجارية يشتهى القليل منه وإن كثر هجن وسمج. فأما الكلام المنثور فالأحسن منه تساوى الفصول في مقاديرها أو يكون الفصل الثاني أطول من الأول. وعلى هذا أجمع الكتاب وقالوا لا يجوز أن يكون الفصل الثاني أقصر من الأول والذوق يشهد بما قالوه ويقضى بصحته ولهذا السبب استقبحوا إطالة الفصول لئلا يؤتى بالجزء الأول طويلاً فيحتاج إلى إطالة التالي له ليساويه أو يزيد عليه فيظهر في الكلام التكلف ويقع ما لا حاجة لمعنى والغرض إليه. ومن التناسب بين الألفاظ: المجانس1 وهو أن يكون بعض الألفاظ مشتقاً من بعض إن كان معناهما واحداً أو بمنزلة المشتق إن كان معناهما مختلفان أو تتوافق صيغتا اللفظتين مع اختلاف المعنى وهذا إنما يحسن في بعض المواضع إذا كان قليلاً غير متكلف ولا مقصود في نفسه وقد استعمله العرب المتقدمون في أشعارهم ثم جاء المحدثون فلهج به منهم مسلم بن الوليد الأنصاري وأكثر منه ومن استعمال المطابق والمخالف وهذه الفنون المذكورة في صناعة الشعر حتى قيل عنه أنه أول من أفسد الشعر. وجاء أبو تمام حبيب بن أوس بعده فزاد على مسلم في استعماله والإكثار منه حتى وقع له الجيد والرديء الذي لا غاية وراءه في القبح فمما للعرب قول امرئ القيس:   1 لعله التجانس كما سماه الرماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا1 وقول القطامي: كنية الحي من ذي القيظة احتملوا ... مستحقبين فؤاداً ماله فاد وقول جرير بن عطية: وما زال معقولاً عقال عن الندى ... وما زال محبوساً عن الخير حابس2 وقول حبان بن ربيعة الطائي: لقد علم القبائل أن قومي ... لهم حد إذا لبس الحديد3 وقول النعمان بن بشير: ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا ... وليلك عما ناب قومك نائم وقال رجل من بني عيسى: وذلكم أن ذل الجار حالفكم ... وأن أنفكم لا يعرف الأنفا   1 الطماح: رجل من بني أسد وهو الذي وشى به عند قيصر حتى غضب عليه وسمه. 2 عقال وحابس: من أجداد الفرزدق. 3 حد قوة ومنعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وقول مسكين الدارمي: وأقطع الخرق بالخرقاء لاهية ... إذا الكواكب كانت في الدجا سرجا1 وقول زياد الأعجم: ونبئتهم يستنصرون بكاهل ... وللؤم فيهم كاهل وسنام2 وبعض البغداديين يسمى تساوى اللفظتين في الصفة مع اختلاف المعنى: المماثل ككاهل وكاهل في هذا البيت وهو جل وهو جل في قول قول الأفواه الأودي: وأقطع الهوجل مستأنساً ... بهوجل عيرانة عنتريس3 لأن لفظة الهوجل واحدة والمراد بالأولى الأرض البعيدة وبالثانية الناقة العظيمة الخلق ويسمى المجانس ما توافقت فيه اللفظتان بعض الاتفاق وأبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب يسمى هذا الفن الجنس ويسمى المطابق المتكافئ وقد أنكر عليه ذلك أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي. وقال إن هذا البيت وإن صح بموافقته معنى الألقاب وإنها غير محظورة فإن الناس قد تقدموا أبا الفرج في تلقيب هذا الأنواع مثل أبي العباس عبد الله بن المعتز بالله وغيره وكفوه المؤنة في اختراع ألقاب تخالفهم والصواب ما قاله أبو القاسم. ومن مجانس أبي تمام المختار قوله:   1 الخرق: الفلاة الواسعة والخرقاء: الناقة. 2 كاهل الأول: اسم رجل وكاهل الثاني: ما بين الكتفين. 3 العيرانة: السريعة والعنتريس الغليظة الوثيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 يمدون من أيد عواص عواصم ... تطول بأسياف قواض قواضب1 وقوله: أرامة كنت مألف كل رئم ... لو استمتعت بالأنس المقيم وقوله: فيا دمع أنجدني على ساكني نجد ومن قبيح تجنيه قوله: قرت بقران عين الدين وانشترت ... بالأشترين عيون الشرك فاصطلما وقوله: خشنت عليه أخت بني خشين وقوله: فأسلم من الآفات ما سلمت ... سلام سلمى ومهما أورق السلم2 وقوله: سلم على الربع من سلمى بذي سلم وقوله: تجرع أسى قد أقفر الأجرع الفرد وله من هذا الجنس أبيات كثير والسبب في ذلك أنه أحب الإكثار ولم يقنع باليسير الذي يسمح به خاطره ويقع بغير تكلف ولا تعمل.   1 عواص: جمع عاصية وقواض قاتلات وقواضب قواطع. 2 السلام: شجر مر الطعم واحدته سلامة والسلم: شجر يدبغ به واحدته سلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ومما ورد في القرآن العظيم من هذا الفن قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 1 وقوله تبارك وتعالى: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} 2 وقوله عز وجل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} 3 ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم: " عصية عصت الله وغفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله " وقال خالد ابن صفوان لرجل من بني عبد الدار: هشمتك هاشم وأمتك أمية وخزمتك مخزوم فأنت ابن عبد دارها ومنتهى عارها. وكتب بعض الكتاب: العذر مع التعذر واجب فرأيك فيه وقال آخر: لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرطاً. وقال العلاء بن سليمان: والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر وقال مهيار بن مرزويه: وإذا عددت سنى لم أك صاعداً ... عدد الأنابيب التي في صعدتي وألام فيك شبت على الصبا ... يا جور لأئمتي عليك ولمتي4 وقال أبو العلاء بن سليمان: إن جهلاً سلمى لآل سليمى ... وثنائي على عذاب الثنايا وقال أبو عبادة:   1 سورة التوبة الآية 127. 2 سورة النور الآية 37. 3 سورة البقرة الآية 276. 4 الصمدة: القناة المستوية المستقيمة واللمة: الشعر المجاوز لحمة الأذن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ورأيتني فرأيت أحسن منظر ... رب القصائد في القنا المتقصد1 وقال أيضاً: ومذهب حب لم أجد عنه مذهباً ... وشاغل حب لم أجد عنه شاغلا وقال: هل لما فات من تلاق تلاف ... أو لشاك من الصبابة شاف وقد سمى قدامة بن جعفر2 هذا الفن من المجانس في تلاق وتلاف المضارعة إذا كانت إحدى اللفظتين تماثل الأخرى بأكثر الحروف ولا تشابهها في الجميع ومثل ذلك بقول نوفل بن مساحق للوليد وقد اعتد عليه بالأذن له على نفسه وهو يلعب بالحمام. وقال: خصصتك بهذه المنزلة فقال له نوفل: ما خصصتني ولكن خسستني لأنك كشفت لي عورة من عوراتك. وأمثال هذا كثير. والمحمود منه ما قل ووقع تابعاً للمعنى غير مقصود في نفسه. ومن المجانس: فن ورد في شعر أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان وسماه لنا مجانس التركيب لأنه يركب من الكلمتين ما يتجانس به الصيغتان كقوله: مطايا مطايا وجدكن منازل ... مني زل عنها ليس عني بمقلع وما أحفظ لأحد من الشعراء شيئاً من قبيله وهو عندي غير حسن ولا مختار ولا داخل في وصف من أوصاف الفصاحة والبلاغة.   1 القنا: الرماح المتقصد المنكسر. 2 هو قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي أبو فرج وردت ترجمته سابقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فأما مجانس التصحيف فقد ورد في شعر أب عبادة كقوله: ولم يكن المغتر بالله إذ شرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه1 وكقوله: وكأن السليل والنثرة الحصداء ... منه على سليل عريق2 وهذا أول طبقات المجانس لأنه مبنى على تجانس أشكال الحروف في الخط وحسن الكلام وقبحه لا يستفاد من أشكال حروفه في الكتابة إذ لا علقة بين صيغة اللفظ في الحروف وشكله في الخط. فأما تناسب الألفاظ من طريق المعنى فإنها تتناسب على وجهين أحدهما أن يكون معنى اللفظتين متقارباً والثاني أن يكون أحد المعنيين مضاداً للآخر أو قريباً من المضاد فأما إذا خرجت الألفاظ عن هذين القسمين فليست بمناسبة وقد سمى أصحاب صناعة الشعر المتضاد من معاني الألفاظ المطابق وسماه أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب المتكافيء وأنكر ذلك عليه أبو القاسم الحسن بن بشر على ما حكيناه في المجانس. وحكى أبو علي محمد بن المظفر الحاتمي عن أبي الفرج على بن الحسين الأصفهاني. قال: قلت لأبي الحسن على بن سليمان الأخفش أجد قوماً يخالفون في الطباق فطائفة تزعم وهي الأكثر: أنه ذكر الشئ وطائفة تخالف في ذلك وتقول: هو اشتراك المعنيين في لفظ واحد فقال: من هو الذي يقول هذا فقلت قدامة فقال:   1 هذا البيت من قصيدة له في مدح المعتز بالله وهجاء المستعين وشرى: غضب ولج والمعتز بالله إشارة إلى المستعين. 2 الشليل: الغلالة تلبس تحت الدرع والنثرة الدرع السلسة الملبس أو الواسعة والحصداء الضيقة الحلق المحكمة والغريف الأجمة وسليلها الأسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 هذا يا بني هو التجنيس ومن زعم أنه طباق فقد ادعى خلافاً على الخليل والأصمعي فاتفق الأخفش والآمدي على مخالفة أبي الفرج في التسمية وسمى أصحاب صناعة الشعر ما كان قريباً من التضاد المخالف وقسم بعضهم التضاد فسمى ما كان فيهما لفظتان معناهما ضدان كالسواد والبياض المطابق وسمى تقابل المعاني والتوفيق بين بعضها وبعض حتى تأتي في الموافق بما يوافق وفي المخالف بما يخالف على الصحة: المقابلة. وسمى ما كان فيه سلب وإيجاب: بالسلب والإيجاب ولم يجعله من المطابق ولكل من ذلك أمثلة سنذكرها ونوضحها فأما التسمية فلا حاجة بنا إلى المنازعة فيها لأن الغرض فهم هذه المناسبة دون الكلام في أحق الأسماء بها على أن الذي أختاره تسمية الجميع بالمطابق لأن الطبق للشيء إنما قيل له طبق لمساواته إياه في المقدار إذا جعل عليه أو غطى به وإن اختلف الجنسان وفي المثل وافق شن طبقه ومنه طباق الخيل. يقال: تطابق الفرس إذا وقعت رجلاه في موضع يديه في المشي والعدو وكذلك الكلاب. قال النابغة الجعدي: وخيل يطابقن بالدار عين ... طباق الكلاب يطأن الهراسا1 وقد فسر قول الله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} 2 أي حالاً بعد حال ولم يرد تساويهما في نفس المعنى وإنما أراد تساويهما في المرور عليكم والتعيير لكم فإذا كان هذا حقيقة الطباق وهو مقابلة الشئ بمثله الذي هو على قدره سمو المتضادين إذا تقابلا متطابقين. وهذا الباب يجرى مجرى المجانس ولا يستحسن مه إلا ما قل ووقع غير مقصود ولا متكلف فإما إذا كان معنياً الكلمتين غير   1 الهراس شوك مؤذ. 2 سورة الانشقاق الآية 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 متناسبين لا على التقارب ولا على التضاد فإن ذلك يقبح ومنه ما أنكره نصيب على الكميت في قوله: أم هل ظعائن بالعلياء نافعة ... وإن تكامل فيها الدال والشنب فإنه قال له: أين الدل من الشنب إنما يكون الدل مع الغنج ونحوه والشنب مع اللعس أو ما يجري مجراه من أوصاف الثغر والفم. فكان الدل والشنب في قول الكميت عيباً لأنهما لفظتان لا يتناسبان بتقارب معنيهما ولا بتضادهما. ومما يستحسن من المطابق قول أبي عبادة البحتري: فأراك جهل الشوق بين معالم ... منها وجد الدمع بين ملاعب وهذه هي ديباجة أبي عبادة المعروفة وكلامه السهل الممتنع وشعره الخضل لكثرة مائه وقول أبي الطيب: أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغرى بي فهذا البيت مع بعده من التكلف كل لفظة من ألفاظه مقابلة بلفظة هي لها من طريق المعنى بمنزلة الضد: فأزورهم وأنثني وسواد وبياض والليل والصبح ويشفع ويغرى ولي وبي وأصحاب صناعة الشعر لا يجعلون الليل والصبح ضدين بل يجعلون ضد الليل النهار لأنهم يراعون في المضادة استعمال الألفاظ وأكثر ما يقال الليل والنهار ولا يقال الليل والصبح وبعضهم يقول في مثل هذا: مطابق محض ومطابق غير محض فالليل والصبح عنده من بيت المتنبي طباق غير محض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ومن المطابق المحض قول دعبل بن علي: لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى ولو قال: تبسم وبكا لم يكن عندهم من المطابق المحض. ومن المطابق قول بعضهم: كدر الجماعة خير من صفو الفرقة فكدر وصفو والجماعة والفرقة من الطباق المحض وقال محمد بن عمران التيمي: ما اجمد في الحق ولا أذوب في الباطل. وقال عمر بن الخطاب: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وقال زهير: ليث يعثر يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا1 وقال طفيل الغنوي: بساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مبذول2 وقال حبيب بن أوس: ما إن ترى الأحساب بيضاً وضحاً ... إلا بحيث ترى عنكم المنايا سوداً وقال جرير بن عطية: وباسط خير فيكم بيمينه ... وقابض شر عنكم بشماليا وقال عبد الله بن الزبير الأسدي: فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سودا   1 عثر: موضع توجد في الأسد. 2 أباجل: عروق اليد أو الرجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وقال الفرزدق: لعن الإله بني كليب أنهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار يستقظون إلى نهاق خميرهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار وقال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان فيا قرأنا عليه: ومن دونها يوم من الشمس عاطل ... وليل بأطراف الأسنة حال1 وقال بشار بن برد: إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمراً ثم نم وهذا كله من المطابق المختار فأما المتكلف القبيح فكقول حبيب ابن أوس: لعمري لقد حررت يوم لقيته ... لو أن القضاء وحده لم يبرد وقوله: وإن خفرت أموال قوم اكفهم ... من النيل والجدوى فكفاك مقطع2 فهذان البيتان من الطباق القبيح الذي لم يرد لحسن معناه وسلامة لفظه بل لتكون في الشعر مطابقة فقط. ومما يجري مجرى المطابق: أن يقدم في الكلام جزء ألفاظه منظومة نظاماً ويتلى بآخر يجعل فيه ما كان مقدماً في الأول مؤخراً في الثاني وما كان مؤخراً مقدماً وقد سمى قدامة بن جعفر الكاتب هذا الفن   1 حال: من حلى. 2 خفرت: حفظت ولم تصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 التبديل ومثله بقوله بعضهم: اشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك وبقول الحسن البصري: إن من خوفك حتى تلقى الأمن وير لك ممن أمنك حتى تلقى الخوف. وقول عمر بن عبيد في بعض دعائه: اللهم أغنني بالفقر إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك. وقول رجل لآخر وكان يتعهده بالبر: اسأل الذي رحمني بك أن يرحمك بي فأما المخالف فهو الذي يقرب من التضاد فكقول أبي تمام: تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر قال الحمر والخضر من المخالف وبعض الناس يجعل هذا من المطابق. وكذلك قول عمر بن كلثوم: بانا نورد الرايات بيضاً ... وتصدرهن حمراً قد روينا وقول الوليد بن عبيد البحتري: والصحيح أنهم يعتبرون في التضاد استعمال الألفاظ والأحمر والأبيض ليسا بضدين على عرفهم. وإنما ضد البياض السواد على ما ذكرناه آنفاً. ومن قبيح المخالف قول أبي تمام: مكرهم عنده فصيح وإن هم ... خاطبوا مكره رأوه جليباً لأنه لما أراد أن يخالف بين فصيح وجليب وهو الذي قد جلب في السبي فلم يفصح بالكلام وجعل المكر جليباً وذلك من الاستعارات المستحيلة والأغراض الفاسدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وأما الإيجاب والسلب فكقول أبي عبادة: تقيض لي من حيث لا أعلم النوى ... ويسرى إلي الشوق من حيث أعلم وكقول السموأل: وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول وكقول الشماخ: هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها ... ويملأ منها كل حجل ودملج فقوله: لا أعلم واعلم وننكر ولا ينكرون ولا يملأ ويملأن من السلب والإيحاب. فأما الذي ذكرناه أنه يسمى المقابلة في مراعاة المعاني حتى يأتي في الموافق وفي المخالف ما يخالف على الصحة فسنورد أمثلته عند شروعنا في الكلام على المعاني بعد الفراغ من الألفاظ وما يتعلق بها بمشيئة الله وبعونه. ومن شروط الفصاحة والبلاغة: الإيجاز والاختصار وحذف فضول الكلام حتى يعبر عن المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة. وهذا الباب من أشهر دلائل الفصاحة وبلاغة الكلام عند أكثر الناس حتى أنهم إنما يستحسنون من كتاب الله تعالى ما كان بهذه الصفة ومن الناس من يقول: إن من الكلام ما يحسن فيه الاختصار والإيجاز كأكثر المكاتبات والمخاطبات والأشعار ومنه ما يحسن فيه الإسهاب والإطالة كالخطب والكتب التي يحتاج أن يفهمها عوام الناس وأصحاب الأذهان البعيدة فإن الألفاظ إذا طالت فيها وترددت في إيضاح المعنى أثر ذلك عندهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فيه ولو اقتصر بهم على وحى الألفاظ وموجز الكلام لم يقع لأكثرهم. حتى يقال في ذكر السيف: الحسام القاطع والجزار الباتر وفي وصف الشجاع: البطل الفاتك النجد الباسل وما يجرى هذا المجري. قالوا: وربما كان ذلك الكتاب بالفتح أو الخطبة تقرأ في موقف حافل يكثر فيه لغط الناس وصخبهم فيحتاج إلى تكرار الألفاظ ليكون ما يفوت سماعه قد استدرك ما هو في معناه. والذي عندي في هذا الباب أنهم إن كانوا يريدون بالإطالة تكرر المعاني والألفاظ الدالة عليها وخروجها في معاريض مختلفة ووجوه متباينة - وإن كان الغرض الأصل واحد - فليس هذا مما نحن بسبيله لأنه بمنزلة إعادة كلام واحد مراراً عدة فإن تلك الإعادة لا تؤثر فيه حسناً ولا قبحاً وإن كانوا يريدون أن المعنى الذي يمكن أن يعبر عنه بألفاظ يسيرة موجزة قد يحسن أن يعبر عنه بألفاظ طويلة ليكون ذلك داعياً إلى فهم العامي والبليد له وتكون الإطالة في هذا الموضع خاصة أصح وأحمد كما أن الوحي والإشارة في موضعهما أوفق وأحسن فأنا لا نسلم ذلك لأنا نذهب إلى أن المحمود من الكلام ما دل لفظه على معناه دلالة ظاهرة ولم يكن خافياً مسغلقاً كالمعنى التي وردت في شعر أبي الطيب وسنذكر ذلك مستوفى مستقصى فيما يأتي من هذا الكتاب. فإن كان الكلام الموجز لا يدل على معناه دلالة ظاهرة فهو عندنا قبيح مذموم لا من حيث كان مختصراً بل من حيث كان المعنى فيه خافياً وإن كان يدل على معناه دلالة ظاهرة إلا أنها تخفى على البليد والبعيد الذهن ومن لا يسبق خاطره إلى تصور المعنى ولو كان الكلام طويلاً لجاز أن يقع لهم الفهم فليس هذا عندنا بموجب أن يكون الإسهاب في موضع من المواضع أفضل من الإيجاز. كما أن النقوش الغليظة في كثير من الصناعات لا تكون أحسن من النقوش الدقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 لأن تلك يدركها الضعيف البصر ويتعذر عليه إدراك هذه ولو اعتبرنا هذا في الكلام وفهم البليد له لاعتبرنا ذلك في النقوش وإدراك الضعيف البصر لهاً وهذا فاسد. ويلزم من ذهب إلى اختيار العبارة عن المعنى بالألفاظ الكثيرة من حيث كان ذلك سبباً لفهم عوام الناس ومن لا يسبق ذهنه إلى تصور المعنى أن يختار الألفاظ العامية المبتذلة على الألفاظ الفصيحة التي لم تكثر استعمالها العامة ولا ابتذلوهاً لأن علته في اختيار الطويل لأجل فهمهم له قائمة في الألفاظ المتبذلة ولا خلاف أنهم إلى فهمها أقرب من فهم ما يقل ابتذالهم له وهذا مما لا يذهب إليه أحد ولا التزامه ملتزم. وقد قسموا دلالة الألفاظ على المعاني ثلاثة أقسام أحدها المساواة وهو أن يكون المعنى وفاضلاً عنه والثالث الإشارة وهو أن يكون المعنى زائداً على اللفظ. أي أنه لفظ موجز يدل على معنى طويل على وجه الإشارة واللمحة. وقالوا: إن التذبيل يصلح للمواقف الجامعة وبحيث يكون الكلام مخاطباً به عامة الناس ومن لايسبق ذهنه إلى تصور المعاني والإشارة تصلح لمخاطبة الخلفاء والملوك ومن يقتضى حسن الأدب عنده التخفيف في خطابه وتجنب الإطالة فيما يتكلف سماعه والمساواة إلي هي الوسط بني هذين الطرفين من الإشارة والتذبيل تصلح للوسط بين الطرفين اللذين هما الملوك وعوام الناس. والذي عندي في هذا ما ذكرته وهو أن المختار في الفصاحة والدال على البلاغة هو أن يكون المعنى مساوياً للفظ أو زائداً عليه وأعنى بقولي زائداً عليه أن يكون اللفظ القليل يدل على المعنى الكثير دلالة واضحة ظاهرة لا أن تكون الألفاظ لفرط إيجازها قد ألبست المعنى وأغمضته حتى يحتاج في استنباطه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 طرف من التأمل ودقيق الفكر فإن هذا عندي عيب في الكلام ونقص على ماأبينه فيما بعد وقد دللت على اختيار الإيجاز والاختصار بما تقدم ويدل عليه أيضاً أن من اختار الإطالة وسماها التذبيل إنما حجته في ذلك أنه اعتبر الكلام بالإضافة إلى المخاطب به وليس للمخاطب تأثير في حسن تأليف الكلام وقبحه ولو جاز أن يعتبر الكلام بالإضافة إلى المخاطب لجاز أن يعتبر بالإضافة إلى المخاطب به حتى يكون ذلك مؤثراً في صحته أو فساده وحسنه أو قبحه وكنا نستحسن كلام العالم العاقل وإن كان ردئ التأليف ونستقبح كلام الجاهل وإن كان في أعلى طبقات الفصاحة حتى يكون شعر أبي عثمان الجاحظ وأبي إسحاق النظام أعظم عندنا من شعر أبي حية النميري ومن جرى مجراه وهذا مما لا يدخل في مثله شبهة. وسنتكلم على من يعتبر الكلام بالإضافة إلى زمان قائلة حتى يقدم كثيراً من المتقدمين على المحدثين بمجرد تقدمهم بما نستوفي الحجة فيه ونزيل موقع الشبهة وإن كانت ضعيفة لا تخفى على من طباعه سليمة وبنيته صحيحة. وذكروا أن جعفر بن يحيى بن خالد1 كان يقول لكتابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيف فافعلواً فهذا أمر لهم بالإيجاز وتجنب الإطالة وقد كان جعفر كبيراً في هذه الصناعة. فأما قول قيس بن خارجة الفزاري لما قيل له ما عندك في حمالات داحس. قال: عندي قرى كل نازل ورضي كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب آمر فيها بالتواصل وأنهى عن التقاطع. فليس   1 هو جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي أبو الفضل وزير الرشيد العباسي ولد في بغداد سنة 150هـ وعندما نقم الرشيد على البرامكة قتله سنة 187هـ هو أحد الموصوفين بفصاحة اللسان وبلاغة القول قالوا في وصف حديثه: جمع الهدوء والتمهل والجزالة والحلاوة وإفهاما يفتيه عن الإعادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ذلك من الإطالة في العبارة عن المعنى الواحد بالألفاظ الكثيرة لأنه يجوز أن يكون أراد خطبة تكثر فيها المعاني والألفاظ على ما قدمناه. ومن أمثلة الإيجاز والاختصار قول الله تبارك وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 1. لأن هذه الألفاظ على إيجازها قد عبر بها عن معنى كثير وذلك أن المراد يها أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل كان ذلك داعياً هل قوياً إلى أن لا يقدم على القتل فارتفع بالقتل الذي هو قصاص كثير من قتل بعضهم لبعض فكان ارتفاع التقل حياة لهم وهذا معنى إذا عبر عنه بهذه الألفاظ اليسيرة في قوله تعالى ولكم في القصاص حياة كان ذلك من أعلى طبقات الإيجاز. وقد استحسن أيضاً في هذا المعنى قولهم: القتل أنفى للقتل. وبينه وبين لفظ القرآن تفاوت في البلاغة وذلك من وجوه: أحدها أنه ليس كل قتل ينفى القتل وإنما القتل الذي ينفيه ما كان على وجه القصاص والعدل ففي ذكر القصاص بيان للمعنى وكشف للغرض وثانيها أن في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} من إبانة الغرض المرغوب فيه بذكر الحياة ما ليس في قوله القتل أنفى للقتل وهذه زيادة في الإيضاح وثالثها أن نظير قوله القتل أنفى للقتل القصاص حياة والقصاص حياة أوجز لأنه عشرة أحرف والقتل أنفى للقتل أربعة عشر حرفاً ورابعها أن في القتل أنفى للقتل تكريراً وليس في القصاص حياة تكرير وقد قدمنا أن تكرير الحروف عيب في الكلام على ما ذكرناه فيما مضى من هذا الكتاب. ومن الإيجاز أيضاً قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا   1 سورة البقرة الآية 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} 1 وقوله تبارك وتعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} 2 وقوله تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 3. وأمثال هذا في القرآن كثير. والقصد الإيجاز فيما وقع فيه حذف كثير حتى حذفت الأجوبة لدلالة الكلام عليها كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} 4. كأنه يريد لكان هذا القرآن ولم يقل ذلك. وقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} 5 كأنه يريد لما كان هذا كله حصلوا على النعيم الذي لا يشوبه كدر أو غير ذلك من الألفاظ ولم يقله. وفي هذا الحذف في الكلام مع الدلالة على المراد فائدة لأن النفس تذهب فيه كل مذهب ولو ورد ظاهراً في الكلام لاقتصر به على البيان الذي تضمنه فكان حذف الجواب أبلغ لهذه العلة. كما تقول: لو رأيت علياً بين الصفين وتحذف الجواب فيذهب السامع كل مذهب ولو قلت: لو رأيت علياً عليه السلام بني الصفين لرأيت شجاعاً أو لرأيت رجلاً يقتل الأبطال أو ما يجري هذا المجرى لم يكن في العظم عند السامع بمنزلة حذف الجواب لأنه يذهب مع الحذف كل مذهب ولا يعول على نفس ما كان يرد في اللفظ فقط. ومما قصد به الإيجار: حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه بحث يقع العلم ويزول اللبس كقوله تبارك وتعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} 6 والمعنى أهل القرية وأصحاب العير.   1 سورة سبأ الآية 51. 2 سورة المنافقون الآية 4. 3 سورة يونس الآية 23. 4 سورة الرعد الآية 31. 5 سورة الزمر الآية 71. 6 سورة يوسف الآية 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وكان أبو الحسن عل نب عيسى الرماني يسمى هذا الجنس - وهو إسقاط كلمة لدلالة فحوى الكلام عليها: الحذف ويسمى بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف: القصر ويجعل الإيجار على ضربين القصر والحذف. وكان يسمى العبارة عن المعنى بالكلام الكثير. مع أن القليل يكفى فيه: التطويل ويسمى العبارة عن المعنى بالكلام الكثير الذي يستفاد منه إيضاح ذلك المعنى وتفصيلة: الإطناب ويجعل التطويل عيباً وعياً والأطناب حسناً ومحموداً. وهذا المذهب من أبى الحسن موافق لما اخترناه لأنه يذهب إلى حسن الأطناب الذي هو عنده طول الكلام في فائدة وبيان وإخراج للمعنى في معاريض مختلفة وتفصيل له ليتحققه السامع ويستقر عنده فهمه وهذا هو الذي اخترناه وقلن أنه في إنه على التحقيق ألفاظ كثيرة ومعان كثيرة وكذلك قد وافقنا استقباح التطويل وحمد الإيجاز على ما فسره من معنييهما عنده. ويجب أن نحد الإيجاز المحمود بأن نقول: هو إيضاح المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ وهذا الحد أصح من حد أبي الحسن الرماني بأنه العبارة عن المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ وإنما كان حدنا أولى لأنا قد احترزنا بقولنا: إيضاح من أن تكون العبارة عن المعنى وإن كانت موجزة غير موضحة له حتى يختلف الناس في فهمه فيسبق إلى قوم دون قوم بحسب أقساطهم من الذهن وصحة التصور فإن ذلك وإن كان يستحق لفظ الإيجاز والاختصار فليس بمحمود حتى يكون دلالة ذلك اللفظ على المعنى دلالة واضحة. وقد قدمنا ما ورد في القرآن من أمثلة ذلك وإن كانت كثيرة يطول استقصاؤها ومنه قول أمير المؤمنين عليه السلام: قيمة كل امرئ ما يحسن فإن هذه الألفاظ على غاية الإيجاز وإيضاح المعنى وظهور حسنها يغنى عن وصفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وروى أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب عن أحمد بن يوسف الكاتب أنه قال: دخلت يوماً على المأمون وفي يده كتاب وهو يعاود قراءته تارة بعد أخرى ويصعد ويصوب فيه طرفه قال: فلما مرت على ذلك مدة من زمانه التفت إلى فقال: يا أحمد أراك مفكراً فيما تراه منى قلت: نعم! وفى الله أمير المؤمنين المكاره وأعاذه من المخاوف قال: فإنه لا مكروه في الكتاب ولكني قرأت فيه كلاماً وجدته نظير ما سمعت الرشيد يقوله في البلاغة فإني سمعته يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة والتقرب من معنى البغية والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى حتى قرأت هذا الكتاب أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى حتى قرأت هذا الكتاب ورمى به إلى. وقال هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا. قال: فقرأته فإذا فيه: كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما يكون طاعة جند تأخرت أرزاقهم وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم فاختلت لذلك أحوالهم والتاثت معه أمورهم فلما قرأته قال لي: إن استحساني إياه بعثني على أن أمرت للجد قبله بعطاياهم لسبعة أشهر وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه من حل محله في صناعته. وروى عن المأمون أيضاً: أنه أمر عمرو بن مسعدة أن يكتب لرجل يعنى به إلى بعض القمال وأن يختصر كتابه ما أمكنه حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد فكتب إليه عمرو بن مسعدة: كتابي إليك كتاب واثق بمن كتبت إليه معنى بمن كتبت له ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله. ومن أمثلة الإيجاز في النظم قول زهير: فإني لو لقيتك واتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 لأن مقصوده إنني لو واجهتك لكان عندي مكافأة لك على كل أمر يبدو منك أنكره فقد أورد المعنى في لفظ قليل وبهذا كان يوصف شعره زهير أنه كثير الإيجاز مع الإيضاح لمعانيه. ومن ذلك أيضاً قول امرئ القيس: على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جرى غير كز ولا وان1 لأنه جمع بقوله: أفانين جرى ما لو عد كان كثيراً وأضاف إلى ذلك أوصاف الجودة في الفرس بقوله: إنه يعطى قبل سؤاله أفانين جريه ولا يحتاج إلى حث ونفى عنه بقوله: غير كز ولا وان أن تكون معه الكزازة من قبل الجماح والمنازعة والوني من قبل الاسترخاء والفترة. فكان في هذا البيت جملة من وصف الفرس قد عبر بها عن معان كثيرة. ومما يذكر من الإيجاز أيضاً قول امرأة من عكل: يا ابن الدعي إنه عكل: يا بن الداعي إنه عكل فقف ... لتعلمن اليوم إن لم تنصرف أن الكريم واللئيم مختلف وهذا إجمال في المعنى وإيجاز في العبارة عنه. ومن ذلك أيضاً قول الشريف الرضى: مالوا على شعيب الرحال وأسندوا ... أيدي الطعان إلى قلوب تخفق2 لأنه لما أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في متابعتهم الغرام والصبابة عبر عن ذلك بقوله: أيدي الطعان فأتى بأخصر ألفاظ وأوجزها.   1 الهيكل: الفرس الضخم. 2 شعب الرحال: خشبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ومن الإيجاز أيضاً قول عمر بن معد يكرب: فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت أي شقت لساني كما يجر لسان الفصيل يريد أنها اسكتتني ومن هذا الفن أيضاً قول حميد بن ثور الهلالي: أرى بصرى قد خانني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما فإن قوله: وحسبك داء أن تصح وتسلما من الإيجاز الحسن. وكذلك قول نصيب. فإن قوله: لو سكتوا اثنت عليك الحقائب من الكلام الحسن الموجز. والأصل في مدح الإيجاز والاختصار في الكلام أن الألفاظ غير مقصودة في أنفسها وإنما المقصود هو المعاني والأغراض التي احتيج إلى العبارة عنها بالكلام فصار اللفظ بمنزلة الطريق إلى المعاني التي هي مقصودة وإذا كان طريقان يوصل كل واحد منهما إلى المقصود على سواء في السهولة إلا أن أحدهما أخصر وأقرب من الآخر فلا بد أن يكون المحمود منهما هو أخصرهما وأقربهما سلوكا إلى المقصد فإن تقارب اللفظان في الإيجاز وكان أحدهما أشد إيضاحاً للمعنى كان بمنزلة تساوى الطريقين في القرب وزيادة أحدهما بالسهولة. ومثل هذا قول أبى عبادة: ولم أني ليلتنا في العناق ... لف الصبا بقضيب قضيبا وقول غيره: وضم لا ينهنهه اعتناق ... كما التف القضيب على القضيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فإن هذين البيتين وأن تساويا في كمية الألفاظ فإن بيت أبي عبادة أوضح لأنه بين بذكر الصبا ما يلف القضيب على القضيب. ومن ذلك أيضاً قول أبي القاسم المطرز البغدادي: وردت وقد حل لي ماؤه ... فلما بكيت عليه حرم وقول مهيار بن مرزويه: فبيت مهيار وأن قارنت ألفاظه عدد ألفاظ بيت المطرز فقد تضمن من إيضاح المعنى ما لم يتضمنه بيت المطرز لأن قائلاً لو قال لم حرم الماء لما بكى عليه لو جب - في حق تفسير المعنى وإيضاحه - أن يقال: لأن دموعه كانت دماً غلب على هذا الماء والدم حرام فقد أتى مهيار بهذا التفسير في متن البيت. وعلى هذا القياس يعتبر الإيضاح في الإيجاز لئلا يقع فيه إخلال بالمعنى وإشكال فيه ولذلك أمثله منها قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أعاذل عاجل ما أشتهى ... أحب من الأكثر الرائث لأنه أراد عاجل ما اشتهى مع القلة أحب إلى من الأكثر المبطي فترك مع القلة وبه تمام المعنى. ومنها قول عروة بن الورد: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ... وفقدلهم عند الوغى كان أعذرا كأنه أراد أن يقول: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم في السلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقتلهم في الحرب أعذر فترك في السلم وبه يتم المعنى. ومنها قول الحارث بن حلزة: والعيش خير في ظلا ... ل النوك ممن عاش كدا1 فأراد أن يقول: والعيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل فأخل بأكثر المعنى. ومن أمثلة ذلك في النثر ما حكاه أبو الفرج قدامة بن جعفر أن بعضهم كتب في كتاب له: فإن المعروف إذا وحى2 كان أفضل منه إذا توفر وأبطأ. فأراد أن يقول: أن المعروف إذا قل ووحا كان أفضل منه إذا كثر وأبطأن فترك ما بنى المعنى عليه وهو ذكر القلة. وكذلك كتب بعضهم: فما زال حتى أتلف ماله وهلك رجاله وقد كان ذلك في الجهاد والإبلاء أحق بأهل الحزم وأولى. فاخل بما فيه تمام المعنى وذلك أن الذي أراد: أنه أنفق ماله وأهلك رجاله في السلم والموادعة وقد كان ذلك في الجهاد أفضل فاخل بذكر السلم أو ما يقوم مقامه فصار المعنى ناقصاً. ولحمد الإيجاز فضل أحد الشاعرين على صاحبه إذا كانا قد اشتركا في معنى وأوجز أحدهما في ألفاظه أكثر من الآخر ولهذا قدموا قول الشماخ بن ضرار: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين3 على قول بشر بن أبي حازم:   1 النوك: الجهل. 2 وحى: أسرع. 3 يريد عرابة الأوسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 إذا ما المكرمات رفعن يوماً ... وقصر مبتغوها عن مداها وضاقت أذرع المثرين عنها ... سما أوس إليها فاحتواها1 وإن كان ابن أبي خازم سبق الشماخ إلى المعنى إلا أنه جاء به في بيتين واختصره الشماخ فأتى به في بيت واحد. ومن هذا القبيل أيضاً قول امرئ القيس: إذا ما استحمت كان فيض حميمها ... على متنتيها كالجمان لدى الجالي2 فإن امرئ القيس أتى بهذا التشبيه في بيت واحد وأخذه الوليد بن يزيد فأساء لأنه أتى به في بيتين فقال: كأن الحميم على متنها ... إذا غرفته بأطساسها جمان يجول على فضة ... جلته حدايد دواسها على أن الوليد قد زاد في التشبيه بقوله: على فضة لكن بين ألفاظه وألفاظ امرئ القيس تفاوت لا يخفى. فأما المساواة بين اللفظ والمعنى كما وصف بعض الأدباء رجلاً فقال: كانت ألفاظه قوالب لمعانيه أي هي مساوية لها لا يفضل أحدهما على الآخر وحد المساواة المحمودة هو إيضاح المعنى باللفظ الذي لا يزيد عنه ولا ينقص وقد احترزت بقولي: إيضاح مما احترزت منه في حد الإيجار لما أذهب إليه من قبح العبارة عن المعنى باللفظ الذي لا يوضحه وفرقت بين المساواة والتذييل بقولي: لا يزيد عنه لأن التذييل لفظ يزيد على المعنى وفرقت بين المساواة والإيجاز والإخلال بقولي: ولا ينقص لأن الإيجاز والإخلال لفظ ينقص عن المعنى إلا أن الفرق بين الإيجار والإخلال أن الإيجاز على ما ذكرناه إيضاح المعنى بأقل ما   1 يريد أوس بن حارثة بن لام الطائي. 2 الحميم الماء الحار أو البارد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 يمكن من اللفظ والإخلال هو نقص المعنى باختصار اللفظ فقد فهم بهذا القول: الإيجاز والإخلال والمساواة والتذييل ولكل من ذلك أمثلة. فأما أمثلة الإيجاز والإخلال فقد ذكرناها وأما أمثلة المساواة فكثيرة ومنها قول زهير: ومهما يكن عند امرئ من خليفة ... ولو خالها تخفى على الناس تعلم وقوله أيضاً: إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا ... أصبت حليما أو أصابك جاهل وقوله طرفة بن العبد: ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقول أبي نصر بن نباتة: عسى ممسك الريح القبول يعيدها ... وينقص من أنفاسنا ويزيدها1 وقوله أيضاً: إذا كان نقصان الفتى في تمامه ... فكل صحيح في الأنام عليل وقول أبي الطيب: أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم وقول أبي عبادة: ما زال يسبق حتى قال حاسده ... له طريق إلى العلياء مختصر   1 ريح القبول: ريح الصبا وهي ريح تهب من جهة الشرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وأمثال هذا أكثر من أن تحصى. وأما التذييل: فهو العبارة عن المعنى بألفاظ تزيد عليه وإنما لم نقل في التذييل إيضاح المعنى كما قلنا في حد المساواة والإيجاز لما يذهب إليه من حمد الإيجاز والمساواة إذا كان المعنى فيهما واضحا فاحترزنا بالإيضاح من أن ندخل في الحد ما لا نحمده من المساواة والإيجاز اللذين يكون المعنى فيهما غامضاً خفيا فأما التذييل قانا على ما قدمناه لا نحمده في موضع من المواضع فلا معنى لاحترازنا بذكر الإيضاح في جده. فأما مثاله فكما وقفت لبعض الكتاب المتأخرين على فصل من كتاب له شفاعة وهو: وفلان بن فلان الرجل المشهور بالفروسية والرجلة والشجاعة والنجدة وله السن والحنكة والتجارب والدربة فهذا كله تطويل بإيراد ألفاظ كثيرة تدل على معنى واحد. وكذلك قول الشاعر: فقدمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذباً ومينا فالكذب والمين واحد والفرق بين التطويل والحشو أن الحشو لفظ يتميز عن الكلام بأنه إذا حذف منه بقى المعنى على حاله والتطويل هو أن يعبر عن المعاني بألفاظ كثيرة كل واحد منها يقوم مقام الآخر فأي لفظ شئت من تلك الألفاظ حذفته وكان المعنى على حاله وليس هو لفظاً متميزاً مخصوصاً كما كان الحشو لفظاً متميزاً مخصوصا يبين ذلك أن الحشو على ما قدمناه من وصفه نحو قول أبي عدي: نحن الرؤس وما الرؤس إذا سمت ... في المجد للأقوام كالأذناب فللأقوام هو الحشو لأن هذه اللفظة دون ألفاظ البيت هي التي إذا حذفت منه بقي المعنى بحاله والتطويل مثل ما حكيناه في قوله: الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 المشهور بالفروسية والرجلة والشجاعة والنجدة. لأن هذه الألفاظ كلها بمعنى واحد فأنت أن شئت حذفت الرجلة وإن شئت حذفت الشجاعة وإن شئت حذفت النجدة وإن حذفتهما معاً بقي الكلام بحاله فهذا هو الفرق بين الحشو والتطويل وعلى أن الحشو في الأكثر إنما يقع في النظم لأجل الوزن وفي النثر لأجل تساوى الفصول أو الأسجاع ويجب أن يعتبر الكلام في التطويل والحشو والمساواة والإيجاز والإخلال بهذا الاعتبار وهو أن يتأمل الكلام المؤلف فإن كان المعنى فيه ناقصاً غير مستوفى فذلك الإخلال. وإن كان المعنى تاماً فلا يخلو أن يكون في الألفاظ ما إذا حذفته بقي المعنى بحاله أو ليس في الألفاظ ما إذا حذف بقى المعنى بحاله فإن كان فيها ما إذا حذف بقى المعنى بحاله فلا يخلو من أن يتميز ذلك اللفظ الزائد من غيره أو لا يتميز فإن لم يتميز فتلك الإطالة وأن تميز فذلك الحشو وإن لم يكن في الكلام ما إذا حذف بقي المعنى بحاله فلا يخلو من أن يكون تمكن العبارة عن ذلك المعنى بأقل من تلك الألفاظ أو لا تمكن فإن كان تمكن العبارة عن ذلك المعنى بأقل من ذلك اللفظ فتلك المساواة وإن كان لا تمكن العبارة عن ذلك المعنى بأقل من ذلك اللفظ فذلك هو الإيجاز. فبهذا يصح لك اعتبار الأقسام المذكورة ولا يخفى شئ منها على المتأمل. ومن شروط الفصاحة والبلاغة: أن يكون معنى الكلام واضحاً ظاهراً جلياً لا يحتاج إلى فكر في استخراجه وتأمل لفهمه وسواء كان ذلك الكلام الذي لا يحتاج إلى فكر منظوماً أو منثوراً. وإنما احتجنا إلى هذا التفصيل لأن أبا اسحق إبراهيم بن هلال الصابي غلط في هذا الموضع فزعم أن الحسن من الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة وممطالطة والحسن من النثر ما سبق معناه لفظه ففرق بين النظم والنثر في هذا الحكم ولا فرق بينهما ولا شبهة تعترض المتأمل في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أناقد بينا أن الكلام غير مقصود في نفسه وإنما احتيج إليه ليعبر الناس عن أغراضهم ويفهموا المعاني التي في نفوسهم فإذا كانت الألفاظ غير دالة على المعاني ولا موضحة لها فقد رفض الغرض في أصل الكلام وكان ذلك بمنزلة من يصنع سيفاً للقطع ويجعل حده كليلا ويعمل وعاء لما يريد أن يحرزه فيقصد إلى أن يجعل فيه خروفاً تذهب ما يوعن فيه. فإن هذا مما لا يعتمده عاقل ثم لا يخلو أن يكون المعبر عن غرضه بالكلام يريد إفهام ذلك المعنى أولا يريد إفهامه فإن كان يريد إفهامه فيجب أن يجتهد في بلوغ هذا الغرض بإيضاح اللفظ ما أمكنه: وإن كان لا يريد إفهامه فليدع العبارة عنه فهو أبلغ في غرضه. وإذا كان هذا مفهوماً فالأسباب التي لأجلها يغمض الكلام على السامع سنة: اثنان منها في اللفظ بانفراده واثنان في تأليف الألفاظ بعضها مع بعض واثنان في المعنى. فأما اللذان في اللفظ بانفراده فأحدهما أن تكون الكلمة غريبة كما ذكرنا فيما تقدم من وحشي اللغة العربية والآخر أن تكون الكلمة من الأسماء المشتركة في تلك اللغة كالصدى الذي هو العطش والطائر والصوت الحادث في بعض الأجسام. وأما اللذان في تأليف الألفاظ فأحدهما فرط الإيجاز كبعض الكلام الذي يروى عن بقراط في علم الطب والآخر إغلاق النظم كأبيات المعاني من شعر أبي الطيب المتنبي وغيره. وكما يروى من كلام أرسطو طاليس في المنطق. وأما اللذان في المعني فأحدهما أن يكون في نفسه دقيقاً ككثير من مسائل الكلام في اللطيف والآخر أن يحتاج في فهمه إلى مقدمات إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 تصورت بني ذلك المعنى عليها فلا تكون المقدمات حصلت للمخاطب فلا يقع له فهم المعنى كالذي يريد فهم فروع الكلام والنحو وغيرهما من العلوم قبل الوقوف على الأصول التي بنيت تلك الفروع عليها. وإذا كان هذا واضحاً فإن استعمال الألفاظ الغريبة الوحشية نقص في الفصاحة التي هي الظهور والبيان على ما قدمنا من ذلك فيما مضى من كتابنا هذا فأما استعمال الألفاظ المشتركة كالصدى فإنه يحسن في فصيح الكلام إذا كان في اللفظ دليل على المقصود مثل قول أبي الطيب: ودع كل صوت دون صوتي فإنني ... أنا الطائر المحكى والآخر الصدى فإن الصدا ها هنا لا يشكل بالصدى الذي هو الطعش ولا يسبق ذلك إلى فهم أحد من السامعين فأما إن كان ذلك في موضع يشكل فليس ذلك بموافق للفصاحة. وأما السببان اللذان في التأليف وهما إفراط الإيجاز وإغلاق اللفظ فمن شروط الفصاحة والبلاغة أن يسلم الكلام منهما لما قدمناه من الدلالة على ذلك. وأما السببان اللذان في المعاني وهما دقة المعنى في نفسه وحاجته إلى الإحاطة بأصل قد بني عليه فليس في أن يجعل المعنى الدقيق ظاهراً جلياً جله للمعبر عنه لكن يحتاج أن يحسن العبارة عنه ويبالغ في إيضاح الدلالة ليكون ما في المعنى من الدقة واللطافة بآزاء ما في العبارة عنه من الظهور والفصاحة وكذلك يحتاج السامع إلى إحكام الأصل قبل أن يقصد إلى فهم الفرع ويحتاج المخاطب إلى ذكر المقدمات إذا كان غرضه أن يفهم المخاطب كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فإن قيل: فما تقولون في تأخير البيان عن وقت الخطاب أيجوز عندكم أم لا يجوز فإن منعتم من جوازه كان قولكم مطردا وأن أجزتموه فما وجه إنكاركم إغلاق اللفظ ومطالبتكم بإيضاح المعنى وبيان المراد مع قولكم بتأخير البيان عن وقت الخطاب قيل الجواب: إنا لا نذهب إلى أن كل أمر يؤثر في الفصاحة وتعتبر سلامة أعلى طبقاتها منه غير جائز في الاستعمال ولا سائغ في الكلام وكيف نقول ذلك وقد قدمنا من شروط الفصاحة أن تكون الكلمة مبنية من حروف متباعدة المخارج وغير كثيرة الحروف ومع ذلك فألفاظ العرب المبنية من الحروف المتقاربة المخارج والكثيرة الحروف أكثر من أن تحصى وقد استعملوا تلك الألفاظ في الفصيح من كلامهم وكذلك إذا قلنا من شروط الفصاحة الإيجاز لم يكن ذلك منعاً لجواز الإسهاب ولا رفضاً لاستعماله وإنما مقصودنا أن هذا النحو أحسن من هذا النحو وبهذا الوجه يستدل على الفصاحة أكثر من هذا الوجه. فإذا كان هذا بينا فلو قلنا بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لم يكن ذلك مناقضاً لقولنا: إن مقارنة البيان لوقت الخطاب أحسن وإلى حيز الفصاحة والبلاغة أقرب لأن لا نتكلم في هذا الموضع على الجائز والممتنع وإنما كلامنا على الأفصح والأحسن. على أن من منع من جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إنما علل ذلك لأنه خطاب لا يفهم منه المراد فجرى في القبح مجرى خطاب العربي بالزنجية ومن أجازه فرق بين الخطاب بالزنجية وبين تأخير البيان بأن في الخطاب مع تأخير البيان بعض الفائدة البيان بعض الفائدة والفهم للمراد كتوطين النفس على الفعل والعزم عليه إن كان الخطاب أمراً وليس في الخطاب للعربي بالزنجية ذلك. فقد وقع والإجماع على انه متى لم يفهم من الخطاب شئ كان قبيحاً. فإن قيل: كلامكم الماضي يدل على أن في القرآن ما بعضه أفصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 من بعض وفي الناس من يخالفكم ويأبى ذلك فما عندكم فيه قلنا: أما زيادة بعض القرآن على بعض في الفصاحة فالأمر منه ظاهر لا يخفى على من علق بطرف من هذه الصناعة وشدا شيئاً يسيرا1 وما زال الناس يفردون مواضع من القرى يعجبون منها في البلاغة وحسن التأليف كقوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2. وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 3. وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 4. وقوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} 5. وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 6. وأمثال هذا ونظائره كثير. فلو كانوا يذهبوا إلى تساويه في الفصاحة لم يكن لإفرادهم هذه المواضع المعينة المخصوصة دون غيرها معنى وإنما تدخل الشبهة في هذا ومثله على الأعاجم من الفقهاء والمتكلمين لجهلهم بهذه الصناعة وعدم فهمهم لقوانينها. فإن من عجيب أمرهم أن أحدهم إذا حاول ابتياع ثوب أو دابة وعلم أن غيرهن أخبر بذلك الجنس منه لم يرض بمقدار علمه حتى يرجع إلى من تظن معرفته بالثياب أو الدواب فيستفتيه ويقلده ويقبل رأيه كل ذلك خوفاً من أن يستمر عليه الغبن في شئ من ماله وإذا وصل إلى الكلام في كتاب الله تعالى ووجه   1 يقال شدا شعرا أو غناء إذا غنى به وترنم. 2 سورة هود الآية 44. 3 سورة البقرة الآية 187. 4 سورة فصلت الآية 34. 5 سورة سبا الآية 51. 6 سورة البقرة الآية 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 إعجازه ما هو وهل هو صرف العرب عن معارضته أو علوه عن كلامهم بفصاحته وكان ذلك يحتاج إلى صناعة لا يفهمها وعلوم لا يعرف شيئاً منها لم ير أن يرجع إلى أقوال العلماء بتلك الصناعة والمهتمين بفهم أسرار تلك العلوم. بل قال بغير حجة وأفتى من غير معرفة ورضي أن يغبن عقله ودينه من الموضع الذي تحرز فيه وأشفق أن يغبن شيئاً من ماله. وليت شعري أي فرق بين أن يخلق الله وجهين أحدهما أحسن وأصبح من الآخر وبين أن يحدث كلامين أحدهما أبلغ وأفصح من الآخر وهل من يفرق بينهما إلا مقترح. ثم ليس أحد ممن ينكر أن يكون بعض القرآن أفصح من بعض يتمنع من القطع على أن القرآن في لغته أفصح من التوراة في لغتها والإنجيل في لغته والزبور في لغته لأن تلك الكتب عنده لم تكن معجزة لخرقها العادة بالفصاحة وإن كان الجميع كلام الله تعالى. فما المانع من أن يكون بعض كلامه الذي هو القرآن أفصح من بعض حتى تكون آية منه أفصح من آية والجميع كلام الله كما جاز عنده أن يكون القرآن أفصح من الإنجيل وإن كان الجميع كلام الله وهذا لا يخفى على محصل. فإن قيل: الذي يمنع أن يكون بعض القرآن أفصح من بعض. القول بأن قدر كل سورة من قصار سور المفضل منه قد خرق العادة في الفصاحة بفصاحته وكان معجزاً لعلوه في الفصاحة وما كان خارفاً للعادة. في الفصاحة لا يكون غيره أفصح منه. قيل: الجواب عن هذا أولا أن الصحيح أن وجه الإعجاز في القرآن هو صرف العرب عن معارضنته وأن فصاحته قد كانت في مقدورهم لولا الصرف وهذا هو المذهب الذي يعول عليه أهل هذه الصناعة وأرباب هذا العلم وقد سطر عليه من الأدلة ما ليس هذا موضع ذكره فالسؤال على هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 المذهب ساقط. ثم لو سلم أن وجه الإعجاز هو الفصاحة لم يمنع أن يكون كلام معجز يخرق العادة بفصاحته أفصح من كلام معجز يخرق العادة بفصاحته فإن نبياً لو أظهر الله على يده معجزاً - وهو حمله ألف رطل - لم يمنع أن يظهر على يده أو على يد بني غيره معجزا آخر وهو حمل ألفي رطل فيكون المعجزان أحدهما أعظم من الآخر مع كون كل واحد منهما معجزاً. فإن قيل: فما تقولون في الكلام الذي وضع لغزاً وقصد ذلك فيه. قيل: إن الموضوع على وجه الألغاز قد قصد قائله إغماض المعنى وإخفاءه وجعل ذلك فناً من الفنون التي يستخرج بها أفهام الناس وتمتحن أذهانهم فلما كان وضعه على خلاف وضع الكلام في الأصل كان القول فيه مخالفاً لقولنا في فصيح الكلام حتى صار يحسن فيه ما كان ظاهره يدل على التناقض. أو ما جرى مجرى ذلك. كما قال بعضهم في الشمع: تحيا إذا ما رؤسها قطعت ... وهن في الليل أنجم زهر وقد كان شيخنا أبو العلاء يستحسن هذا الفن ويستعمله في شعره كثيرا ومنه قوله: وجبت سرابياً كأن أكامه ... جوار ولكن ما لهن نهود تمجس حرباء الهجير وحوله ... رواهب خيط والنهار يهود1 فألغز بقوله: جوار عن الجواري من الناس وهو يريد كأنهن يجرين في السراب وبقوله: نهود عن نهود الجوارى وهو يريد بنهود نهوض أي كأنهن يجرين في السراب وما لهن على الحقيقة نهوض.   1 الخيط: الجماعة من النعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وأراد بقوله: تمجس الحرباء أي صار لاستقباله الشمس كالمجوس التي تعبدها وتسجد لها وجعل الرواهب النعام لسوادها ويهود: يرجع وهو يلغز بذلك عن اليهود لما ذكر المجوس والرواهب. وكذلك قوله: إذا صدق الجد اتفرى العم للفتى ... مكارم لا تكرى وإن كذب الخال1 لأنه يريد بالجد: الحظ وبالعم: الجماعة من الناس وبالخال: المخيلة وقد ألغز بذلك عن العم والجد والخال من النسب. فهذا وأمثاله ليس من الفصاحة بشئ وإنما هو مذهب مفرد وطريقة أخرى. فإن قيل: فما عندكم في الحكاية التي تحكى عن أبي تمام أنه لما قصد عبد الله ابن طاهر بقصيدته التي أولها: أهن عوادي يوسف وصواحبه ... فعزماً فقدماً أدرك السؤل طالبه وعرض هذه القصيدة على أبي العميثل صاحب عبد الله بن طاهر2 وشاعره. فقال له أبو العميثل عند إنشاده أول القصيدة -: لم لا تقول يا أبا تمام من الشعر ما يفهم. فقال: وأنت يا أبا العميثل لم لا تفهم من الشعر ما يقال فانقطع أبو العميثل: قيل: إن الذي قاله أبو تمام وأبو العميثل صحيح لأن أبا العميثل طلب من أبي تمام إذ كان حاذقاً في صناعة الشعر وقد قصد مثل عبد الله بن طاهر بالمديح أن   1 لا تكرى: لا تنقص. 2 هو عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي أمير خراسان ومن أشهر الولاة في العصر العباسي ولي غمرة الشام ثم ولاه المأمون خراسان كان من أكثر الناس بذلا للمال وقال عنه ابن خلكان كان عبد الله سيدا نبيلا عالي الهمة شهما وكان المأمون كثير الاعتماد عليه توفي في نيسابور سنة 230هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 يكون شعره مفهوماً واضحاً يسبق معناه لفظه فكان هذا من أبي العميثل كلاماً صحيحاً في موضعه وطلب أبو تمام من أبي العميثل إذ كان يدعى علم الشعر ويتحقق بالأدب ويخدم عبد الله بن طاهر في اعتراض قصائد الشعراء وترتيبهم على مقدار ما يستحقه كل منهم بحظه من الصناعة أن يكون يفهم معاني الشعر ويطلع على الغامض والظاهر منها وكان هذا من أبي تمام أيضاً كلاماً صحيحا وكانا فيه بمنزلة من يقول لصاحبه لم فعلت ذلك الفعل وهو قبيح. فيقول كما فعلت أنت ذلك الفعل الآخر وهو قبيح فيكون كل واحد منهما قد أجاب من طريق الجدل وإن كان لم يدل على أنه أصاب وأخطأ صاحبه. وإذا كان هذا مفهوماً فأمثله الكلام الذي يظهر معناه ولا يحتاج إلى الفكر في استخراجه كثيرة وعامة شعر أبي عبادة البحتري عليه فأمام الذي يسأله عن معناه ويفكر في فهمه فكالأبيات التي من شعر أبي الطيب المتنبي وقد نعاها عليه الصاحب أبو القاسم بن عباد رحمه الله وكان يسميها رقى العقارب والناس إلى اليوم مختلفون في معاني بعضها وكل يذهب إلى فن ويسبق خاطره إلى غرض كقوله: ذم الزمان إليه من أحبته ... ماذم من بدره في حمد أحمده وقوله: عيون رواحلي إن جزت عيني ... ولك بغام رازحة يغامي1 فأما غير ذلك مما قد فهم معناه ولم يختلف فيه إلا أنه مع ذلك لا يخرج إلا بطرف من الفكر فكقوله:   1 الرازحة: الناقة تسقط من التعب والإعياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ودون الذي ينعون ما لو تخلصوا ... إلى الموت منه عشت والطفل أشيب وقوله أيضاً: سرب محاسنه حرمت ذواتها ... داني الصفات بعيد موصوفاتها1 وقوله: رجلاه في الركض رجل واليدان يد ... وفعله ما تريد الكف والقدم وأمثال هذا له ولغيره كثير. وقد قال بشر بن المعتمر في وصيته: إياك والتوعر في الكلام فإنه يسلمك إلى التعقيد والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويمنعك من مراميك. وحكى أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ عن بعض من وصف البلاغة. فقال: ينبغي أن يكون الاسم للمعنى طبقاً وتلك الحال له وفقاً ولا يكون الاسم لا فاضلاً ولا مقصراً ولا مشتركاً ولامضمناً. فهذا كله يدل على صحة ما قلناه وإن كانت الشبهة لا تعترض فيه لمتأمل. ومن نعوت البلاغة والفصاحة: أن تراد الدلالة على المعنى فلا يستعمل اللفظ الخاص الموضوع له في اللغة بل يؤتى بلفظ يتبع ذلك المعنى   1 ذواتها: صواحباتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ضرورة فيكون في ذكر التابع دلالة على المتبوع وهذا يسمى الإرداف والتتبيع لأنه يؤتى فيه بلفظ هو ردف اللفظ المخصوص بذلك المعنى وتابعه والأصل في حسن هذا أنه يقع فيه من المبالغة في الوصف ما لا يكون في نفس اللفظ المخصوص بذلك المعنى ومثاله قول عمر بن أبي ربيعة: بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم1 فإنه إنما أراد أن يصف هذه المرأة بطول العنق فلو عبر عن ذلك باللفظ الموضوع له لقال طويلة العنق فعدل عن ذلك وأتى بلفظ يدل عليه وليس هو الموضع له. فقال: بعيدة مهوى القرط فدل بعد مهوى قرطها على طول الجيد وكان في ذلك من المبالغة ما ليس في قوله: طويلة العنق لأن بعد مهوى القرط يدل على طول أكثر من الطول الذي يدل عليه طويلة العنق لأن كل بعيدة مهوى القرط طويلة العنق وليس كل طويلة العنق بعيدة مهوى القرط إذا كان الطول في عنقها يسيرا وهذا موضع يجب فهمه. ومنه قول امرئ القيس: وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل2 فإنه لما أراد أن يصف ترفه هذه المرأة ونعمتها. قال: نؤوم الضحى يبقى فتيت المسك فوق فراشها لم تنتطق لتخدم نفسها فعبر بذلك عن غناها وترفهها وخفص عيشها وأتى بألفاظ تدل على ذلك أبلغ مما يدل عليه قوله: إنها غنية مرفهة.   1 نوفل وعبد شمس وهاشم من أشراف قريش وهاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم. 2 لم تنطق: لم تشد نطاقا للعمل ومن تفضل: عن ثوب نوم أي بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وكذلك قوله: وقد اغتدى والطير في وكناتها1 ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل لأنه أراد أن يصف الفرس بالسرعة فلم يقل إنه سريع وقال: قيد الأوابد وهي الوحوش أي أنه إذا طلبها على هذا الفرس لحقها لسرعته فكأنه قيدها له وفي هذا من المبالغة ما ليس في وصف الفرس بأنه سريع لأن الفرس قد يكون سريعاً ولا يلحق الوحش حتى تصير بمنزلة المقيدة له. وقد استحسن الناس هذا اللفظ من امرئ القيس حتى قالوا: هو أول من قيد الأوابد. وأصحاب صناعة البلاغة يذكورن الأرداف ولا يشرحون العلة في سببه وحسنه من المبالغة التي نبهنا عليها ومنه في النثر قول أعرابية وصفت رجلاً فقالت: لقد كان فيهم عمار وما عمار طلاب بأوتار لم تخمد له قط نار. فأرادت بقولها: لم تخمد له قط نار كثرة إطعامه الطعام فلم تأت بذلك اللفظ بعينه بل بلفظ هو أبلغ في المقصود لأن كثيراً ممن يطعم الطعام تخمد ناره في وقت. وكذلك قول الأخرى: له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك. فأرادت: أن هذا الرجل ينحر إبله فقل ما تسرح وتبعد في المرعى لأنه يبركها بفنائه ليقرب عليه نحرها للضيوف والمزهر العود الذي يغنى به فإذا سمعت الإبل صوته أيقنت أنها هوالك لما قد اعتادته من نحره لها إذا سمع الغناء وانتشى وذلك لاتعتاده الإبل وتفهمه إلا مع الاستمرار والدوام.وهذا كله أبلغ من قولها: إنه ينحر الإبل على ما قدمناه وبيناه. ومن هذا الفن من الإرداف قول أبي عبادة:   1 وكناتها: أعشائها المتجرد: القصير الشعر هيكل: ضخم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فأوجرته أخرى فأضللت نصله ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد1 لأنه أراد القلب فلم يعبر عنه باسمه الموضوع له وعدل إلى الكناية عنه بما يكون اللب والرعب والحقد فيه وكان ذلك أحسن لأنه إذا ذكره بهذه الكنايات كان قد دل على شرفه وتميزه عن جميع الجسد بكون هذه الأشياء فيه وأنه أصاب هذا المرمى في أشرف موضع منه. ولو قال: أصبته في قلبه لم يكن في ذلك دلالة على أن القلب أشرف أعضاء الجسد فعلى هذا السبيل يحسن الإرداف. ومما يجرى مجرى قول أبي عبادة قول غيره: 2 الضاربين بكل أبيض مخذم ... والطاعنين مجامع الأضغان وفيما ذكرناه كفاية في الدلالة على كل ما هو من هذا الجنس. ومن نعوت الفصاحة والبلاغة: أن يراد معنى فيوضح بألفاظ تدل على مغنى آخر وذلك المعنى مثال للمعنى المقصود وسبب حسن هذا مع ما يكون فيه من الإيجاز أن تمثيل المعنى يوضحه ويخرجه إلى الحس والمشاهدة وهذه فائدة التمثيل في جميع العلوم لأن المثال لا بد من أن يكون أظهر من الممثل فالغرض بإيراده إيضاح المعنى وبيانه ومن هذا الفن قول الرماح بن ميادة: ألم تك في يمنى يديك جعلتني ... فلاتجعلني بعدها في شمالكا فأراد: أني كنت عندك مقدما فلا تؤخرني ومقربا فلا تبعدني.   1 هذا البيت من قصيدة له يذكر فيها قتله للذئب. 2 عمر بن معد يكرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فعدل في العبارة عن ذلك إلى أني كنت في يمينك فلا تجعلني في شمالك لأن هذا المثال أظهر إلى الحس. وكذلك قول الآخر: تركت يدي وشاحا له ... وبعض الفوارس لا يعتنق فعبر عن قوله: عانقته بأنني تركت يدي وشاحاً له فأوضح المعنى حين جعل له مثالا معروفاً مشاهدا. ومنه أيضاً قول زهير: ومن بعض أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم1 لأنه عدل عن وقوله: ومن لم يطع باللين أطاع بالعنف إلى أن قال: ومن لم يطع زجاج الرماح أطاع الأسنة وكان في هذا التمثيل بيان المعنى وكشفه. ومن أمثلة ذلك في النثر ما كتب به الوليد بن يزيد - لما بويع - إلى مروان ابن محمد قد بلغه توقفه عن البيعة له: أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام. فعبر عن مراده بمثال أوضحه وأوجزه. ومنه أيضاً ما كتب به الحجاج إلى المهلب حين حضه على قتال الأزارقة وتوعده له حيث قال: فإن أنت فعلت ذلك وإلا شرعت إليك صدر الرمح. فأجابه المهلب وقال: فإن يشرع الأمير إلى صدر الرمح قلبت له ظهر المجن. وهذا كله   1 الزجاج: جمع زج وهو الحديدة في أسفل الرمح والعوالي: التي يكون فيها السنان واللهدم: السنان القاطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 إنما حسن لما فيه من الإيضاح والإيجاز وقدمنا تأثيرهما في الفصاحة والبلاغة. فهذا منتهى ما نقوله في الألفاظ بانفرادها واشتراكها مع المعاني ومن وقف عليه عرف حقيقة الفصاحة ومائتيها وعلم أسرارها وعللها فأما الكلام على المعاني بانفرادها فقد قدمنا القول بأن البلاغة عبارة عن حسن الألفاظ والمعاني وإن كل كلام بليغ لا بد من أن يكون فصيحا وليس كل فصيح تبليغاً إذ كانت البلاغة تشتمل على الفصاحة وزيادة لتعلق البلاغة مع الألفاظ بالمعاني. فإذا كان قد مضى الكلام في الألفاظ على الانفراد والاشتراك فلنذكر الآن الكلام على المعاني مفردة من الألفاظ ليكون هذا الكتاب كافياً في العلم بحقيقة البلاغة والفصاحة فإنهما وإن تميزا من الوجه الذي ذكرته فهما عند أكثر الناس شئ واحد ولا يكاد يفرق بينهما إلا القليل والله يمن بالمعونة والتسديد برحمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الكلام في المعاني مفردة أما حصر المعاني بقوانين تستوعب أقسامها وفنونها على حسب ما ذكرناه في الألفاظ فعسير متعب لا يليق بهذا الكتاب تكلفه لأنه ثمرة علم المنطق ونتيجة صناعة الكلام ولسنا بذاهبين في هذا الكتاب إلى تلك الأغراض والمطالب. ولكن نحتاج إلى أن نومئ إلى المعاني التي تستعمل في صناعة تأليف الكلام المنظور والمنثور ونبين كيف يقع الصحيح فيها والفاسد والتام والناقص على أن من كان سليم الفكر صحيح التصور لم يخف عنه شئ مما تستر النفوس وإن كان قد يخفى عنه كثير مما ذكرناه من الكلام والألفاظ لأن في الألفاظ مواضعة واصطلاحاً يختلف الناس في المعرفة بهما بحسب اختلافهم في معرفة اللغة وفهم الاصطلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 والمواضعة والمعاني ليس فيها شئ من ذلك. وإنما معيارها العقل والعلم وصفاء الذهن في الوجود وهي أربعة مواضع الأول وجودها في أنفسها والثاني وجودها في إفهام المتصورين لها والثالث وجودها في الألفاظ التي تدل عليها. والرابع وجودها في الخط الذي هو أشكال تلك الألفاظ المعبر بها عنه وإذا كان هذا مفهوماً فإنا في هذا الموضع إنما نتكلم على المعاني من حيث كانت موجودة في الألفاظ التي تدل عليها دون الأقسام الثلاثة المذكورة ثم ليس نتكلم عليها من حيث وجدت في جميع الألفاظ بل من حيث توجد في الألفاظ المؤلفة المنظومة على طريقة الشعر والرسائل وما يجرى مجراهما فقط إذ كان ذلك هو مقصودنا في هذا الكتاب. وإذا بان هذا فإن الأوصاف التي تطلب من هذه المعاني: هي الصحة والكمال والمبالغة والتحرز مما يوجب الطعن والاستدلال بالتمثيل والتعليل وغيرهما وسنذكر من أمثلة ذلك ما يعرب عن قصدنا ويوضح مرادنا. أما الصحة في التقسيم: فإن تكون الأقسام المذكورة لم يخل بشئ منها ولا تكررت ولا خدل بعضها تحت بعض ومثال هذا في النظم قول نصيب: فقال فريق القوم لا وفريقهم ... نعم! وفريق قال ويحك ما ندري فليس في أقسام الإجابة عن مطلوب إذا سئل عنه غير هذه الأقسام ومنه قول الشماخ يصف صلابة سنابك الحمار وشدة وطئه الأرض: متى ما تقع أرساغه مطمئنة ... على حجر يرفض أو يتدحرج فليس في أمر الوطء الشديد إلا أن يكون الذي يوطأ رخوا فيرض أو صلباً فيندفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى: يطعنهم ما ارتموا حتى إذا أطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاروبا اعتنقا وهذا تقسيم صحيح. ومنه قول الحارثي: فكذبت طرفي عنك والطرف صادق ... وأسمعت أذني فيك ماليس تسمع وما أسكن الأرض التي تسكنينها ... لئلا يقولوا صابر ليس يجزع فلا كمدي يغنى ولا لك ذمة ... ولا عنك إقصار ولا فيك مطمع لقيت أموراً فيك لم ألق مثلها ... وأعظم منها منك ما أتوقع وهذا كلها أقسام صحيحة. ومن أمثلة ذلك في النثر قول بعضهم في كتاب له: فإنك لم تخل فيما بدأتني به من مجد أثلته أو شكر تعلجته أو أجر ادخرته أو متجر اتجرته أو من أن تكون جمعت ذلك كله فلم يبق في هذا المعنى قسم لم يأت به ولا من الأقسام شئ تكرر. فأما الأقسام الفاسدة فكقول جرير: صارت حنيفة أثلاثاً فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها فهذه قسمة فاسدة من طريق الاخلال لأنه قد أخل بقسم من الثلاثة. قيل: إن بعض بنى حنيفة سئل من أي الأثلاث هو من بيت جرير فقال: هو من الثلث الملغي. ومنها قول أبي تمام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 قسم الزمان ربوعها بين الصبا ... وقبولها ودبورها أثلاثاً فهذا فاسد من طريق التكرار لأن القبول هي الصبا على ما ذكره جماعة من أهل اللغة. ومن ذلك أيضاً قول هذيل الأشجعي: فما برحت تومى إلي بطرفها ... وتومض أحياناً إذا خصمها غفل لأن-تومي بطرفها وتومض-في معنى واحد. ومنه قول الآخر: أبادر إهلاك مستهلك ... لمالي أو عبث العابث فهذا فاسد لدخول أحد القسمين في الآخر لأن عبث العابث داخل في استهلاك المستهلك. ومن هذا الجنس: أن بعض المتخلفين سأل مرة قال علقمة بن عبدة جاهلي أو من بني تميم فضحك منه لأن الجاهلي قد يكون من بني تميم ومن بني عامر والتميمي قد يكون جاهلياً وإسلامياً. وكتب بعضهم إلى عامل من قبله: ففكرت مرة في عزلك وأخرى في صرفك وتقليد غيرك وكتب أيضاً في هذا الكتاب: فتارة تسترق الأموال وتختزلها وتارة تقتطعها وتحتجنها. وهذا مثل الأول في التكرير. وكتب آخر في فتح فقال: فمن بين جريح مضرج بدمائه وهارب لا يلتفت إلى ورائه. وهذان القسمان يدخل كل واحد منهما في الآخر لأن الجريح قد يكون هاربا والهارب قد يكون جريحاً. وروى أبو الفرج قدامة بن جعفر: أن ابن منارة وقع على ظهر رقعة عامل من عماله هرب من صارفه - وكتب إليه رقعة يعلم بها ما عنده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 إنك لا تخلو في هربك من صارفك من أن تكون قدمت إليه اساءة خفت منه معها أو خنت في عملك خيانة رهبت تكشفه إياك عنها فإن كنت أسأت. فأول راض سنة من يسيرها وإن كنت خنت خيانة فلا بد من مطالبتك بها. فكتب العامل تحت هذا التوقيع: قد بقي من الأقسام ما لم تذكره - وهو أني خفت ظلمة إياي بالبعد عنك وتكثيره على بالباطل عندك ووجدت الهرب إلى حيث يمكنني فيه دفع ما يتخرصه أنفي للظنة عني والبعد عمن لا يؤمن ظلمه أولى بالاحتياط لنفسي فوقع ابن منارة تحت ذلك: قد أصبت فصر إلينا آمناً بالاحتياط لنفسي فوقع ابن منارة تحت ذلك: قد أصبت. فصر إلينا آمناً من ظلمة عاجلاً على أن ما يصح عليك فلا بد من مطالبتك به. وقد ذهب أبو القاسم الآمدي إلى فساد القسمة من قول أبي عبادة البحتري: ولا بد من ترك أحدى اثنتين ... إما الشباب وإما العمر قال: لأن ها هنا قسماً آخر وهو أن يتركا معاً فيموت الإنسان شاباً. وأجاب الشريف المرتضى رضي الله عنه عن ذلك: بأن المراد بترك الشباب تركه بالشيب وبترك العمر تركه بالموت وهذا هو المستعمل المألوف في هذه الألفاظ فمن مات شاباً فلا يقال عنه أنه ترك الشباب لأنه لم يشب وإنما يقال عنه أنه ترك العمر فدخل في أحد القسمين. ولى في هذا الموضع نظر وتأمل. ومن الصحة تجنب الاستحالة والتناقض: وذلك أن يجمع بين المتقابلين من جهة واحدة. والتقابل يكون على أربع جهات أما على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 طريق المضاف وهو الشيء الذي يقال بالقياس إلى غيره مثل الضعف بالقياس إلى نصفه والأب إلى ابنه والمولى إلى عبده وأما على طريق التضاد مثل الأبيض والسود والشرير والخير وأما على طريق العدم والقنية كالأعمى والبصير والأمرد وذي اللحية وأما على طريق النفي والإثبات مثل أن يقال زيد جالس زيد ليس بجالس. فإذا ورد في الكلام جمع بين متقابلين من هذه المتقابلات من جهة واحدة فهو عيب في المعنى والمراد بقولنا من جهة واحدة أن لا يكون المتقابلان من جهتين فإنهما إذا كانا من جهتين لم يكن الكلام مستحيلا مثال ذلك أن يقال: العشرة ضعف ونصف لكنها ضعف الخمسة ونصف العشرين فيكون هذا صحيحاً لأنه تقابل من جهتين فأما لو كان من جهة واحدة حتى يقال: إن العشرة ضعف الخمسة ونصفها لكان ذلك محالا وكذلك يقال في المتقابلين بالعدم والقنية زيد أعمى العين بصير القلب فيكون ذلك صحيحاً فأما لو قيل زيد أعمى العين بصير العين كان ذلك محالا وكذلك في التضاد أن يقال: الفاتر حار عند البارد وبارد عند الحار ولا يكون حاراً بادراً عند أحدهما وزيد كريم بالطعام بخيل بالثياب ولا يصح أن يقال كريم بالثياب بخيل بها. وإذا كان هذا مفهوماً فالذي يقع في النظم والنثر من هذا التناقض على هذا النحو عيب في المعاني بغير شك وإن كانوا قد تسمحوا في الشعر أن يكون في البيت شيء وفي بيت آخر ما ينقضه حتى يذم في بيت شئ من وجه ويمدح في بيت آخر من ذلك الوجه بعينه وإنما أجازوا هذا لأنهم اعتقدوا أن كل بيت قائم بنفسه فجرى البيتان مجرى قصيدتين. فكما جاز للشاعر أن يناقض في قصيدتين كذلك جاز له أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 يناقض في بيتين ولم يختلفوا في أن البيت إذا ولى البيت وكان معنى كل واحد منهما متعلقاً بالآخر فلن يجوز أن يكون في أحدهما ما يناقض الآخر وإنما أجازوا ذلك مع عدم الاتصال والتعلق على أن تجتنب هذا في القصيدة - وإن كانوا قد أجازوه - أحسن وأولى. وقد قال أبو عثمان الجاحظ: إن العرب تمدح الشئ وتذمه لكنهم لا يمدحون الشيء من الوجه الذي يذمونه به. وما أحسن ما قال أبو عثمان: لعمري أنهم على ذلك يتصرف قولهم وإن أبا تمام لما وصف يوم الفراق بالطول فقال: يوم الفراق لقد خلقت طويلا ... لم تبق لي جلداً ولا معقولا قالوا الرحيل فما شككت بأنها ... نفسي من الدنيا تريد رحيلا علل طوله بما لقي فيه من الوجد لرحيل أحبابه عنه وأبو عبادة لما وصفه بالقصر فقال: ولقد تأملت الفراق فلم أجد ... يوم الفراق على امرئ بطويل قصرت مسافته على متزود ... منه لدهر صبابة وغليل علل قصره بأنه اجتمع فيه بمن يحبه للوداع وتزود منه لأيام البعد عنه. فهما وإن كان كل واحد منهما قد خالف صاحبه في مدح الفراق وذمه فقد ذكر لما ذهب إليه وجهاً يصح به وعلى هذا الطريق يحسن وقوع الخلاف في أغراض الشعراء إلا أن يكون أحد القولين صحيحاً والآخر فاسداً. فأما المتناقض في العشر فكقول عبد الرحمن بن عبد الله القس: أرى هجرها والقتل مثلين فأقصروا ... ملامكم فالقتل أعفى وأيسر فقال هذا الشاعر: إن الهجر والقتل مثلان ثم سلبهما ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فقال: إن القتل أعفى وأيسر فكأنه قال إن القتل مثل الهجر وليس هو مثله وذلك متناقض ولو كان استوى له أن يقول بل القتل أعفى وأيسر لكان الشعر مستقيماً لأن لفظة بل تنفى الماضي وتثبت المستأنف كما قال زهير: حي الديار لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم على أنهم قد عابوا هذا البيت على زهير لكنه بمجيء بلى فيه لم يكن عندي فاسدا وقد يمكن فيه من التأويل وجه آخر: وهو أن زهيراً قال لم يعفها القدم وغيرتها الريح والأمطار وليس ذلك بمتناقض لأن التغير دون أن تعفو والقدم غير الريح والمطر. ومن قال: لم يقتل زيد عمراً بل ضربه بكر لم يكن متناقضا وإنما المناقضة أن يقول: لم يقتل زيد عمراً وقتله زيد ويكون الأول هو الثاني وهذا واضح. ومن الاستدلال قول الآخر: 1 أليس قليلاً نظرة إن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل وقد ذهب أبو الفرج قدامة بن جعفر إلى أن قول ابن هرمة في صفة الكلب: تراه إذا ما أبصر الضيف مقبلاً ... يكلمه من حبه وهو أعجم من المتناقض لأنه اقنى الكلب الكلام في قوله يكلمه ثم أعدمه إياه عند قوله: إنه أعجم وهذا غلط من أبي الفرج طريف   1 هو ليزيد بن الصمة المعروف بابن الطئرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 لأن الأعجم ليس هو الذي قد عدم الكلام جملة كالأخرس وإنما هو الذي يتكلم بعجمة ولا يفصح قال الله تبارك وتعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . 1 وإذا قيل: فلان يتكلم وهو أعجم لم يكن ذلك متناقضا على أن الرواية الصحيحة في بيت ابن هرمة: يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً وهذا البيت من إحسان ابن هرمة المشهور. وكذلك ذهب أبو القاسم الآمدي إلى تناقض بيت أبي تمام في صفة الفرس: وبشعلة تبدو كأن فلولها ... في صهوتيه بدو شيب المفرق مسود شطر مثل ما اسود الدجى ... مبيض شطر كابيضاض المهرق2 قال: لأنه ذكر في البيت الأول إنه اشعل ثم قال في الثاني: إن نصفه أسود ونصفه أبيض وذلك هو الأبلق فكيف يكون فرس واحد أشعل أبلق وهذا من أبي القاسم تحامل على أبي تمام لأنه يصف فرساً أشعل ويريد بقوله: إنه مسود شطر ومبيض شطر أن سواده وبياضه متكافئان فلو جمع السواد لكان نصفه وكذلك البياض وهذا الوصف من تكافي السواد والبياض في الأشعل محمود حتى أن النخاسين يقولون: أشعل شعرة شعرة فعلى هذا لا يكون شعر أبي تمام من المتناقض. ومما يعترض الشك فيه قول أبي العلاء احمد بن عبد الله بن سليمان: ولقد سلوت عن الشباب كما سلا ... غيري ولكن للحزين تذكر   1 سورة النحل الآية 103. 2 المهرق: الصحيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فيقال كيف يجوز أن يسلو وهو حزين يتذكر وقد قرأت هذا البيت عليه في جملة شعره ولم أسأله عنه والذي يحتمل عندي من التأويل أنه أراد بالسلو ها هنا اليأس ورفض الطمع فكأنه قال: قد يئست من الطمع للشباب كما أيس غيري ولكني حزين عليه أتذكره وهذا وجه قريب. وذهب أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب إلى تناقض قول أبي نواس في صفة الخمر: كأن بقايا ما عفا من حبابها ... تفاريق شيب في سواد عذار تردت به ثم انفرى عن أديمها ... تفرى ليل عن بياض نهار1 وقال: إنه وصف في البيت الأول الحباب بالبياض حين شبهه بالشيب ولن يشبه الشيب في شئ إلا في بياضه ووصف الخمر بالسواد حين شبهها بسواد العذار ثم وصف الحباب في البيت الثاني بالسواد حين شبهه يتفرى الليل ووصف الخمر بالبياض حين قال بياض نهار وكون كل واحد من الحباب والخمر أسود وأبيض مستحيل. وقد سأل أو الفرج نفسه فقال أن قيل: إنه لم يصف الحباب في البيت الثاني بالسواد وإنما شبهه بالليل في تفريه وانحساره عن النهار دون نفس اللون. وأجاب عن هذا: بأن أبا نواس قد صرح بأنه لم يرد غير اللون فقط لقوله عن بياض نهار. وفي هذا الشعر نظر وتأمل ليس هذا موضع تقصيه وإنما الغرض هنا التمثيل. وقد فرق بين المستحيل والممتنع: بأن المستحيل هو الذي لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم مثل كون الشئ أسود أبيض وطالعاً نازلاً فإن هذا لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم والممتنع هو:   1 تردت به: اتخذته رداء وتفرى: تشقق وانشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الذي يمكن تصوره في الوهم وإن كان لا يمكن وجوده مثل أن يتصور تركيب بعض أعضاء الحيوان من نوع في نوع آخر منه كما يتصور يد أسد في جسم إنسان فإن هذا وإن كان لا يمكن وجوده فإن تصوره في الوهم ممكن وقد يصح أن يقع الممتنع في النظم والنثر على وجه المبالغة ولا يجوز أن يقع المستحيل البتة فأما قول أبي عبادة: لما مدحتك وأفاني نداك على ... أضعاف ظني فلم أظفر ولم أخب فليس هذا من المتناقض لأنه من جهتين على ما ذكرناه فيما تقدم ألا ترى أن معناه لم أظفر بنفس ما ظننته لأنك زدت عليه فكأن ظنى لم يصدق لأنه لو صدق لكان وقع على ما ظننته بعينه من غير زيادة عليه ولم أخب لأنك قد أعطيتني ومن أعطى فما خاب وهذا صحيح واضح. ومن المتناقض على طريق المضاف قول عبد الرحمن بن عبد الله القس: وإني إذا ما الموت حل بنفسها ... يزال بنفسي قبل ذاك فأقبر لأنه وضع هذا القول وضع الشرط وجعل جوابه يزال بنفسي. ثم قال: قبل ذاك فكأنه قال أن نفسي تزول بعد نفسها وقبلها وهذا مثل قول القائل: إذا دخل زيد الدار دخل عمرو قبله وذلك متناقض. وقد ذهب أبو القاسم الآمدي إلى مناقضة أبي تمام في قوله: الرزق لا تكمد عليه فإنه ... يأتى ولم تبعث إليه رسولا وقوله بعده في صفة الناقة: لله درك أي معبر قفرة ... لا يوحش أنب البيضة ألا جفيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بنت القفار متى تخدبك لا تدع ... في الصدر منك على الفلاة غليلا1 قال: لأنه صرح في البيت الأول بذكر القعود عن طلب الرزق وأتبعه في البيت الثاني بلا فصل بذكر الناقة وصفتها والرحيل عليها فكان ذلك مناقضة ظاهرة. ومن الصحة أن لا يضع الجائز موضع الممتنع فإنه يجوز أن يضع الممتنع موضع الجائز إذ كان في ذلك ضرب من الغلو والمبالغة ولا يحسن أن يوضع الجائز موضع الممتنع لأنه لا علة لجواز ذلك وهو ضد ما يحمد من الغلو والمبالغة في الشعر. ومن أمثلة هذا قول الشاعر:2 وإن صورة راقتك فاخبر فربما ... أمر مذاق العود والعد أخضر فبنى الكلام على أن العود في الأكثر يكون حلواً بقوله: فربما وليس الأمر كذلك بل العود الأخضر في الأكثر من وكأن هذا الشاعر وضع الأكثر موضع الأقل وذلك غلط في المعنى. ومنه ما أنكره أبو القاسم الآمدي على أبي تمام في قوله يمدح الواثق بالله. جعل الخلافة فيه رب قوله ... سبحانه للشيء كن فيكون قال: لأن مثل هذا إنما يقال في الأمر العجب الذي لم يكن يقدر ولا يتوقع ولا يظن إنه مثله يكون فيقال إذا وقع ذلك قدرة قادرة واحد وفعل من لا يعجزه أمر وتلك واحد ومن يقول للشئ كن فيكون فأما الأمور التي لا يتعجب منها ولا تستغرب والعادات جارية بها وبما أشبهها فلا يقال فيها مثل هذا وإنما يسبح الله تبارك وتعالى وتذكر قدرته على تكوين الأشياء لو جاؤا بأبي العبر أو بجحا فجعلوه خليفة. فأما الواثق   1 المعبر: ما يعبر به وابن البيضة: النعام والاجفيل: السريع المر الخفيف. 2 هو الخالد بن صفوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فما وجه تسبيح أبي تمام في أن أفضت الخلافة إليه وأبوه المعتصم وجده الرشيد وجد أبيه المهدي وجد جده المنصور وأخو جد جده السفاح وعماه خليفتان الأمين والمأمون وعم أبيه الهادي فذلك ثمانية خلفاء هو تاسعهم. وهذا الذي ذكره أبو القاسم صحيح واضح. ومن الصحة: صحة التشبيه وهو أن يقال أحد الشيئين مثل الآخر في بعض المعاني والصفات ولن يجوز أن يكون أحد الشيئين مثل الآخر من جميع الوجوه حتى لا يعقل بينهما تغاير البتى لأن هذا لو حاز لكان أحد الشيئين هو الآخر بعينه وذلك محال. وإنما الأحسن في التشبيه أن يكون أحد الشيئين يشبه الآخر في اكثر صفاته ومعانيه وبالضد حتى يكون ردئ التشبيه ما قل شبهه بالمشبه به. وقد يكون التشبيه بحروفه كالكاف وكأن وما يجرى مجراهما وقد يكون بغير حرف على ظاهر المعنى ويستحسن ذلك لما فيه من الإيجاز. والأصل في حسن التشبيه: أن يمثل الغائب الخفي الذي لا يعتاد بالظاهر المحسوس المعتاد فيكون حسن هذا لأجل إيضاح المعنى وبيان المراد أو يمثل الشئ بما هو أعظم وأحسن وأبلغ منه فيكون حسن ذلك لأجل الغلو والمبالغة. ومما ورد في القرآن من ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} 1. وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} 2. وقوله   1 سورة النور الآية 39. 2 سورة إبراهيم الآية18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} 1 وقوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} 2. وقوله جل وعز: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} 3 وقوله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 4. وقوله جل وعز: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} 5. وهذه التشبيهات كلها على ما بيناه من تشبيه الخفي بالظاهر المحسوس والذي لا يعتاد بالمعتاد لما في ذلك من البيان إلا قوله تبارك وتعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} 6. فانه شبه الشئ بما هو أعظم منه على وجه المبالغة. ومن التشبيه في العشر قول النابغة الذبياني: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وهذا التشبيه يجمع المقصودين من الظهور والمبالغة وأما الظهور فلأن علم الناس بأن الليل لا بد من إدراكه له أظهر من علمهم بأن النعمان لا بد من إدراكه له وأما المبالغة فإن تشبيهه بالليل الذي لا يصددونه حائل أعظم وأفخم وأبلغ في المدح.   1 سورة يونس الآية 24. 2 سورة الرحمن الآية 37. 3 سورة الجمعة الآية 5. 4 سورة العنكبوت الآية 41. 5 سورة الرحمن الآية 24. 6 سورة الرحمن الآية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ومن التشبيه أيضاً قول يزيد بن عوف العليمي يذكر صوت جرع رجل قراه اللبن: فعب دخالا جرعه متواتر ... كوقع السحاب بالطراف الممدد وهذا تشبيه جيد لأنه شبه صوت اللبن على عصب المرئ من حلق الإنسان بصوت المطر على الخباء المصنوع من الأدم وذلك من أصح التشبيه لأن المرئ من جنس الأدم واللبن من جنس الماء فصوتاهما متشابهان لأن السبب في اختلاف الأصوات تخالف الأجسام التي تحدث فيها والغرض في هذا التشبيه المبالغة. ومن التشبيه المختار قول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والحشف البالي وهذا من التشبيه المقصود به أيضا الشيء لأن مشاهد العناب والحشف البالي1 أكثر من مشاهد قلوب الطير رطبة ويابسة. وروى عن بشار بن برد إنه قال: ما زلت منذ سمعت بيت امرئ القيس هذا اطلب أن يقع لي تشبيهان في بيت واحد حتى قلت: كأن مثار النقع فوق رؤسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه2 فشبهن النقع بالليل والسيوف بالكواكب وهذا تشبيه للمبالغة والتفخيم ومن التشبيه المختار قول عدى بن الرقاع العاملي: وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر جاسم وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم3   1 العناب: شجر حبة كحب الزيتون أحمر وطعمه لذيذ. الحشف: أردأ التمر. 2 النقع: الغيار متضمنة معنى مع وليست لمحض العطف لأنه تشبيه مركب لا متعدد. 3 أقصده النعاس: كسر من عينيه ورنق النوم في عينيه: غشيهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وقوله أيضاً: تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها1 وقول عنترة: وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غردا كفعل الشارب المترنم هزجاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم2 وقول الحسين بن مطير الأسدي: في عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا وقال الطرماح: يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد وقول أبي الحسن التهامي: والصبح قد غمر النجوم كأنه ... سيل طغى فطفا على النوار وقول ابي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان: والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر   1 الأغن: الذي في صوته غنة أبرته: طرفه روته: قرنه. 2 هزجا: مسرعا مداركا صوته والمكب: المقبل على الشيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وقوله: وسهيل كوجنة الحب في اللو ... ن وقلب المحب في الخفقان يسرع اللمح في احمرار كما تسر ... ع في اللحظ مقلة الغضبان وقوله: تراقب أظلاف الوحوش نواصلا ... كأصداف بحر حول أزرق مترع وهذه تشبيهات صحاح وأمثالها كثيرة وقد وإلى أبو القاسم محمد ابن هانئ الأندلسي التشبيه بكأن في أبيات كثيرة فقال: كأن رقيب النجم أجدل مرقب ... يقلب تحت الليل في ريشه طرفا1 كأن بني نعش ونعشاً مطافل ... بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا2 كأن سهيلاً في مطالع افقه ... مفارق إلف لم يجد بعده إلفا3   1 الأجدل: الصقر. 2 بنو نعش: سبعة كواكب أربعة منها تسمى نعش لكونها أربعة وثلاثة تسمى بناته مطافل: مفردها مطفل ذات الطفل من الإنس والوحش الخشف: ولد الظبية. 3 سهيل: كوكب يطلع في آخر الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 كأن سهاها عاشق بين عود ... فاونة يبدو واونة يخفى1 كأن معلى قطبها فارس له ... لوان مركوزان قد كره الزحفا كأن قدامى النسر والنسر واقع ... قصصن فلم تسم الخوافي به ضعفا2 كأن أخاه حين دوم طائراً ... أني دون نصف البدر فاختطف النصفا كأن الهزيع الأبنوسي آونا ... سرى بالنسيج الخسرواني ملتفا3 كأن ظلام الليل إذا مال ميلة ... صريع مدام بات يشربهان صرفا كأن عمود الصبح خاقان معشر ... من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى كأن لواء الشمس غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا فأما التشبيه بغير حرف التشبيه فكقول امرئ القيس: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال   1 سماها كوكب صغير لا يكاد يرى. 2 القدامى الريشات الكبار في مقدم جناح الطائر والخوافي: المؤخرات منه. 3 الهزيع: قطعة من الليل النسيج الخسرواني: ثوب أبيض من الحرير الناعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وقول النابغة: نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر المريض إلى وجوه العود1 وقوله أيضاً: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وقول أبي عبادة: يهوى كما تهوى العقاب وقد رأت ... صيداً وتنتصب انتصاب الأجدل2 وقول أبي نصر بن نباتة وقد يذكر في التمثيل: خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقع السيوف حواجب وقول أخت ذى الكلب: تمشى النسور إليه وهي لاهية ... مشى العذارى عليهن الجلابيب3 وقول ديك الجن: سفرن بدوراً وانتقبن أهلة ... ومسن غصوناً والتفتن جاذرا وقول الوأواء الدمشقي:   1 لم تقضها: لم تقدر على الكلام عنها مخافة أهلها. 2 الأجدل: الصقر. 3 هذا البيت من قصيدة لها في رثاء أخيها عمرو ذي الكلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فأسبلت لؤلؤا من نرجس وسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد وقول أبي إسحاق الصابي يصف الطير التي تصاد بالبندق محمولة على حكم الكفار إذ يقتلون ومصيرهم إلى النار. ومما يحتاج إليه التشبيه: أن يكون الأمر المشبه به واقعاً مشاهداً معروفاً غير مستنكر ليوافق ذلك المقصود بالتشبيه والتمثيل من الإيضاح والبيان ولهذا عاب نصيب على الكميت قوله: كأن الغطامط من غليها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا1 وقال له: أخطأت ما هجت أسلم غفارا قط وأراد نصيب من الكميت أن يكون شبه بشئ واقع معروف وهذا كما يقال: كان مناقضة فلان وفلان مناقضة جرير والفرزدق. فيكون هذا الكلام صحيحاً. ولو قيل: كأن مناقضتهما مناقضة الأحوص وعمر بن أبي ربيعة لم يكن ذلك التشبيه صحيحاً. إذ كان المشبه به لم يقع وعلى هذا أكره قول علقمة ابن عبدة: كأن إبريقهم ظبى على شرف ... مقدم بسبا الكتان ملثوم2 على أن يكون مقدم من صفة الظبي لأن الظبي لا يكون مقدماً بسب الكتان ملثوما فكأن التشبيه وقع بما لا يشاهد ولا يعرف وإن كان المقدم راجعاً إلى الإبريق فذلك صحيح.   1 الغطامط: صوت غليان القدر. 2 شرف: المكان المشرف ومفدم: من الفدام وهو مصفاة صغيرة أو خرقة تجعل على فم الإبريق ليصفي بهما ما فيه وسبا الكتان: سبائبه مفردها سبيبة وهي الشقة البيضاء وملثوم: جعل له كاللثام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وكذلك قول الحكم لعله عبد الرحمان بن الحكم وليحقق: كانت بنو غالب لأمتها ... كالغيث في كل ساعة يكف فإن العادة لم تجر بأن الغيث يكف في كل ساعة وإن كان هذا البيت يحتمل من التأويل أن يكون معناه كان هؤلاء القوم كالغيث إلا أنه غيث يكف كل ساعة وإن لم يدل لفظه على هذا المعنى دلالة واضحة. ومن هذا الفن. قول أيمن: 1 فإننا قد وجدنا أم بشر ... كأم الأسد مذكاراً ولودا لأن أم الأسد ليست كذلك. وأما ردى التشبيه فكقول المرار: وخال على خديك يبدو كأنه ... سنا البدر في دعجاء باد دجونها2 لأن الخدود بيض والمتعارف أن يكون الخال أسود فتشبيه الخدود بالليل والخال بضوء البدر تشبيه ناقض للعادة. فإن قيل: قد مضى في كلامكم أن المشبه به يجب أن يكون معروفاً واضحاً أبين من الشئ الذي يشبه فما تقولون في قوله تعالى في شجرة الزقوم: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} 3 ورؤوس الشياطين غير مشاهدة. قيل: إن الزقوم غير مشاهد ورؤس الشياطين غير مشاهدة إلا أنه قد استقر في نفوس الناس من قبح الشياطين بما صار بمنزلة المشاهد كما استقر في   1 هو أيمن بن خزيم في مدرج بشر بن مروان. 2 دعجاء: سوداء ودجونها: سوادها. 3 سورة الصافات الآية 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 نفوسهم من حسن الحور العين ما صار بمنزلة المشاهد حتى أنهم إذا شبهوا وجهاً بوجه الحور كان تشبيها صحيحاً وإن كانت الحور لم تشاهد ولم يستقر في نفوسهم قبح طلع الزقوم كما استقر في نفوسهم قبح رؤوس الشياطين فكأن المشبه به أوضح وفي رؤوس الشياطين أيضاً من المبالغة في القبح ما ليس في طلع الزقوم. وقد قيل في بعض التفاسير: إن الشياطين هنا الحيات. وعلى هذا القول يسقط السؤال لأن الحيات مشاهدة. ومن ظريف التشبيه قول ابن هرمة: وإن وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زناداً شحاحا1 كتاركة بيضها بالعر اء ... وملبسة بيض أخرى جناحا وقول الفرزدق: وإنك إذ تهجو تميما وترتشى ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم2 كمهريق ماءٍ بالفلاة وغره ... سارب أذاعته رياح السمائم3 فإن بيت ابن هرمة الثاني يليق بييت الفرزدق الأول وبيت الفرزدق الثاني يليق ببيت ابن هرمة الأول حتى أن ابن هرمة لو قال: وإني وتركي ندى الأكرم ... ين وقدحي بكفي زناداً شحاحاً كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم والفرزدق لو قال: وإنك إذ تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أوسحوق العمائم   1 زناد شحاح: لا تورى. 2 السحوق: جمع سحق وهو الخلق البالي. 3 السمائم: جمع سموم وهي الريح الحارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 كتاركة بيضها بالعر ... اء وملبسة بيض أخرى جناحا لكان كل واحد منهما قد شبه تشبيهاً واضحاً صحيحاً فأما والشعر على ما هو عليه فإن التشبيه بعيد. ومن الصحة: صحة الأوصاف في الأعراض وهو أن يمدح الإنسان بما يليق به ولا ينفر عنه فيمدح الخليفة بتأييد الدين وتقويه أمره ومحبة الناس وطاعتهم والتقى والورع والرحمة والرأفة وإقامة العدل وشرف الحسب وحسن السياسة والتدبير والاضطلاع بالأمور والحلم والعفو والعلم وحفظ الشرع والجمال والبهاء والهيبة والشجاعة وكرم الأخلاق ولينها وما يجري هذا المجرى. ويمدح الوزير والكاتب وبالعقل والحلم وسداد الرأي وحسن التدبير والبلاغة وتثمير الأموال والعدل والكرم وما يلحق بهذا. ويمدح الأمير وقائد الجيش بالشجاعة والمعرفة بالحرب وحسن النقيبة والظفر والصبر وسداد التدبير وما أشبه ذلك وعلى هذا السبيل يجرى الأمر في النسيب فيذكر فيه صدق الهوى والمحبة وشدة الوجد والصبابة وكتمان الأسرار ومخالفة العذال وما يتفرع عن ذلك ويلحق به. وكذلك في كل غرض من الأغراض الشعرية من هجاء وفخر وعتاب ووصف وغير ذلك حتى يكون كل شئ موضوعا في المكان الذي يليق به. فأما النثر فيجرى على هذا المنهاج ويحتاج فيه إلى معرفة المواضعات في الخطاب والاصطلاحات فإن للكتب السلطانية من الطريقة ما لا يستعمل في الإخوانيات وللتوقيعات من الأساليب ما لا يحسن في التقاليد وهذا الباب أعنى المواضعة والاصطلاح في الخطاب يتغير بحسب تغير الأزمنة والدول فإن العادة القديمة قد هجرت ورفضت والتسجد الناس عادة بعد عادة حتى أن الذي يستعمل اليوم في الكتب غير ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 كان يستعمل في أيام أبي إسحاق الصابي مع قرب زمانه منا وإذا كان الأمر على هذا جارباً فليس يصح لنا أن نضع رسموماً نوجب اقتفاءها لأنا نحن في هذا الزمان قد غيرنا الرسم المتقدم لمن قبلنا وكذلك ربما جرى الأمر فيما بعدنا. لكن أصول الأغراض في الأوصاف والمعاني مما لا تتبدل ولا تتغير فليكن الائتمام بها واقعا والاجتهاد في جريها على قانون السداد والصواب حاصلا فقد عيب أبو عبادة في مديحه الخليفة بقوله: لا العدل يردعه ولا التعنيف ... عن كرم يصده وقيل: من هو الذي يجسر على عذل الخليفة وتعنيفه وليس هذا المدح مما يصلح للملوك والأمراء فضلا عن الأئمة والخلفاء. وعيب أبو ذؤيب الهذلي في قوله يصف الفرس: قصر الصبوح لها فشرج لحمها ... بالتي فهي تثوخ فيها الإصبع1 وقيل: وصف لحمها باللين وإنما يحمد صلابة لحم الفرس. وعيب قول أبي عبادة: ذنب كما سحب الرداء يذب عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل وقول امرئ القيس قبله: لها ذنب مثل ذيل العرو ... من تسد به فرجها من دبر   1 الصبوح: البن الذي يقدم لها في الصباح وشرج لحمها بالني: خالطه الني وهو الشحم ويثوخ: يغيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وقيل: المحمود من ذنب الفرس أن يكون طويلاً ولا ينال الأرض كما قال امرؤ القيس: كميت إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل1 وعيب جميل في قوله: رمى في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح وقيل: ليس هذا كلام صادق المحبة بل هذا دعاء مبغض قد تجاوز قدر السلوة. وعيب عبد الرحمن القس في قوله: سلام ليت لساناً تنطقين به ... قبل الذي نالني من صوته قطعا2 وقيل: هذا غاية الغلظ والجفاء والمخالفة لعادة أهل الهوى. وسمع أبو السائب المخزومي قول إسحاق الأعرج: فلما بدالي ما رابني ... نزعت نزوع الأبي الكريم فقال: قبحه الله والله ما أحبها ساعة قط. وعيب على جرير قوله في بشر ابن مروان:   1 الكميت: الفرس الأحمر أو الأملس والضافي: الذيل الطويل وفويق: تصغير فوق يعني أنه قريب من الأرض والأعزل: الذي يميل ذيله في جانب. 2 سلام منادى مرخم وهي سلامة المشهورة بالغناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 قد كان حقك أن تقول لبارق ... يا آل بارق فيما سب جرير1 وقال بشر: أما وجد ابن اللخناء رسولا غيري. وعيب على أبي نواس قوله في الفضل بن يحيى: سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواها لعل الفضل يجمع بيننا وقال له الفضل: ما زاد على أن جعلني قوادا. وعيب عل الأخطل قوله يهجو سويد بن منجوف: وما جذع سوء خرب السوس وسطه ... لما حملته وائل بمطيق وقال سويد له: أردت هجائي فمدحتني جعلت وائلا كلها حملتني أمرها وما طمعت في بني تغلب فضلا عن بكر وزدتني بني تغلب.2 وعيب عليه أيضاً قوله يمدح سماكا الأسدي وهو من قوم يلقبون القيون. قد كنت أحسبه قيناً وأنبأه ... فاليوم طير عن أثوابه السرر3 وقال سماك: يا أخطل أردت مدحي فهجوتني كان الناس يقولون قولا فحققته. وعيب عليه أيضاً قوله:   1 وهو من قصيدة له في هجاء سراقة بن مرداس وبارق ماء بالعراق. 2 ثعلبة وبكر تغلب فروع من وائل. 3 القين: الحداد والسرر: السباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وقد جعل الله الخلافة فيكم ... لأزهر لا عاري الخوان ولا جدب وقيل: ليس يليق هذا بمدح الخلفاء إنما يصلح للطبقة السفلى من الناس. وعيب على كثير قوله: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل وقيل: لم أرد أن ينسى ذكرها حتى تتمثل له. وعيب عليه قوله أيضاً: فما روضة بالجون طيبة الثرى ... يمجح الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزة موهناً ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها1 وقيل: لو أن زنجية بخرت بمندل رطب لكانت أردانها طيبة وعيب على ذي المرة قوله في الناقة: تصغى إذا شدها بالكور جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب2 وقيل: إذا كانت كما وصف رمت الراكب قبل أن يستوي على ظهرها.   1 الجثجاث: ريحانة طيبة الريح برية والمرار: البهار البري وهو حسن الصفرة طيب الريح وموهنا: بعد هدء من الليل والمندل: العود. 2 الغرز: ركاب من جلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وعيب على الأحوص قوله: يقر بعيني ما يقر بعينها ... وأفضل شئ ما به العين قرت وقيل له: إنه يقر بعينها أن تنكح افيقر ذلك بعينك؟. وعيب عليه أيضاً قوله: فإن تصلى أصلك وإن تبيني ... بهجر بعد وصلك لا أبالي وقيل له: لو كنت فحلا لباليت. وعيب على الفرزدق قوله: بأي رشاء يا جرير وماتح ... تدليت في حومات تلك القماقم1 وقيل: جعل جرير أعلى من الفرزدق وقومة حين قال: إنه تدلى عليهم. وعيب على جرير قوله: وأوثق عند المردفات عشية ... لحاقاً إذا ما جرد السيف لامع وقيل: جعلن قد سبقن بالغداة ولحقن بالعشى. وعيب عليه أيضاً قوله: طرقتك صائدًة القلوب وليس ذا ... وقت الزيادرة فارجعي بسلام تجرى السواك على أغر كأنه ... برد تحدر من متون غمام وقيل: أي وقت لا تصلح فيه زيارة الحبيب ولما طردها لم وصفها؟.   1 الرشاء: الحبل والماتح: اسم فاعل من متح الماء استخرجه من البئر والقماقم: جمع قمقام وهو البحر أو معظمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وعيب على زهير قوله في الضفادع: يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغم والغرقا وقيل: الضفادع لا تخرج من الماء خوف الغم والغرق. وعيب على أبي العتاهية قوله: إني أعوذ من التي شغفت ... من الفؤاد بآية الكرسي وقيل: إنما يستعاذ بآية الكرسي من الشياطين. وعيب على أبي الطيب المتنبي قوله: لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا وقيل: من جملة الناس أمه فكان ينبغي أن يركبها. وعيب عليه أيضاً قوله: ليت أنا إذا ارتحلت لك الخيل ... وأنا إذا نزلت الخيام وقيل: الخيام تعلو على الممدوح. وعيب على امرئ القيس قوله: وقيل: كثرة شعر الناصية مذموم في الفرس وهو الغمم. وعيب عليه أيضاً قوله: أغرك منى أن حبك قاتلي ... وإنك مهما تأمري القلب يفعل وقيل: إذا كان هذا لا يغر فماذا الذي يغر؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وعيب على أبي نواس قوله في الأسد: كأنما عينه إذا نظرت ... نادرة الجفن عين مخنوق وقيل: الأسد لا يوصف بجحوظ العين إنما يوصف بغؤورها. وعيب على عبد الله بن السمط قوله: أضحى أمام الهدى المأمون مشتغلاً ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل وقيل: ما زاد على أن جعله عجوزاً في محرابها وإذا كان مشتغلاً عن الدنيا فمن القائم بها وهو الخليفة؟ وعيب على كعب بن زهير قوله: ضخم مقلدها فعم مقيدها ... في خلقها عن بنات الفحل تفضيل1 وقيل: إنما توصف النجائب بدقة المذبح. وعيب على المسيب قوله: وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم2 وقالوا: الصيعرية للنوق لا للفجول وسمعه طرفة بن العبد وهو صبي فقال: استنوق الجمل: وعيب على المرقش الأصغر قوله: صحا قلبه عنها سوى أن ذكرة ... إذا خطرت دارت به الأرض قائماً   1 مقلدها: عنقها ومقيدها: موضع القيد من رجلها وفعم: ممتلئ. 2 ناج: سريع والصيعرية: سمة في عنق الناقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وقيل: هذا من المتناقض لآن من يكون إذا ذكرت دارت به الأرض قائما ليس بصاح. وعيب على عدى بن زيد قوله في صفة الخمر: والمشرف الهندي يسقى به ... أخضر مضموماً بماء الخريص1 وقيل: وصف الخمر بالخضرة وما وصفها أحد بذلك. وعيب على الفرزدق قوله: أبنى غدانة إنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال لولا عطية لاجتدعت أنوفكم ... من بين ألأم لحية وسبال وقيل: كيف يهبهم له وهو يهجو بهذا الهجاء. وقال عطية حين بلغه هذا الشعر ما أسرع ما ارتجع أخي في هبته. وعيب على أبي تمام قوله: رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه ... بكفيك ما ماريت في أنه برد وقيل: وصف الحلم بالرقة وإنما يوصف بالعظم والثقل والرزانة. وعيب عليه أيضاً قوله: الود للقربى ولكن عرفه ... للأبعد الأوطان دون الأقرب وقيل: لم منع ذوى القربى من عرفه وجعله في الأبعدين ودنهم؟ وهلا كان عطاؤه عاماً للقريب والعيد. وعيب عليه أيضا قوله:   1 والمشرف: إناء كانوا يشربون به أو المكان المرتفع ومطموثا: ملموسا أو ممزوجا وخريص: بارد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 لو كان في عاجل من آجل بدل ... لكان وعده من رفده بدل وقيل: ولم لا يكون في العاجل من الآجل بدل. والناس كلهم على اختيار العاجل وإيثاره. وعيب عليه أيضاً قوله: يقظ وهو أكثر الناس إغضاء ... على نائل له مسروق وقيل: هذا هجوا لأنه جعل نائله يؤخذ منه وجه السرقة. وعيب على الفرزدق قوله: ومن يأمن الحجاج والطير تتقى ... عقوبته إلا ضعيف العزائم وقال له الحجاج: الطير تتقى الثوب وتتقى الصبي. وأمثال هذا أكثر من أن تحصى مما وقع فيه فساد الأغراض والصفات. وقد كان أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب يذهب إلى أن المدح بالحسن والجمال والذم بالقبح والدمامة ليس بمدح على الحقيقة ولا ذم على الصحة ويخطئ كل من يمدح بهذا ويذم بذاك ويستدل بانكار عبد الملك بن مروان على عبد الله بن قيس الرقيات قوله فيه: يأتلفق التاج فوقه مفرقه ... على جبين كأنه الذهب وقوله له: تقول في هذا وتقول لمصعب: إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء وقد أنكر هذا المذهب على أبي الفرج أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي. وقال إنه خالف فيه مذاهب الأمم كلها عربيها وأعجميتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 لأن الوجه الجيل يزيد في الهيبة ويتيمن به ويدل على الخصال المحمودة وهذا الذي ذكره أبو القاسم صحيح. ولو لم يكن في ذلك إلا ما قد جبلت النفوس عليه من الميل إلى الوجوه الحسان لكفى وأغنى فإن كان قدامة يعتقد أن ذاك ليس بفضيلة لما كان الإنسان قد خلق عليه فهذا حكم جميع الفضائل النفسانية فإن الكريم قد خلق كريما والشجاع شجاعا والعاقل عاقلا وكما لا يقدر القبيح الوجه على أن يستبدل صورة غير صورته كذلك لا يقدر الجاهل على أن يستفيد عقلاً فوق عقله. ويلزم قدامة لآن لا يجيز المدح بشرف النفس النسب وكرم الأصل لأن ذلك أيضاً يجرى مجرى الصور. ولا صنيع للممدوح في شئ منهما والأمر في هذا ظاهر. فأما إنكار عبد الملك بن مروان على ابن قيس الرقيات مدحه له بالتاج فإنما أنكره لأن التيجان كانت من زي ملوك العجم ولم يكن خلفاء العرب يعرفونها فقال له: تمدحني كما تمدح ملوك الأعاجم وتمدح مصعباً كما تمدح الخلفاء. والأمر على ما قال عبد الملك لأن مدح الخليفة بأنه شهاب من الله تعالى أبلغ من مدحه باعتدال التاج فوق مفرقه. وهذا كما أنكر على كثير قوله فيه: على ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... أجاد المسدي نسجها فأذالها1 وقال قول الأعشى: كنت المقدم غير لابس جنة ... بالسيف تضرب معلماً أبطالها2 أحسن من قولك فأراد عبد الملك في الموضعين المبالغة ومدحه بالأفضل والأحسن.   1 دلاص: درع فأذالها: جعل لها ذيلا. 2 يمدح به قيس بن معد يكرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ومن الصحة: صحة المقابلة في المعاني وهو أن يضع مؤلف الكلام معاني يريد التوفيق بين بعضها وبعض والمخالفة فيأتي في الموافق بما يوافق وفي المخالف بما يخالف على الصحة والأصل في هذه المناسبة فإن لها تأثيراً قوياً في الحسن ومن أمثله ذلك في النظم قول الطرماح: أسرناهم وأنعمنا عليهم ... وأسقينا دماءهم الترابا فما صبروا لبأس عند حرب ... ولا ادوا لحسن يد ثوابا وهذه مقابلة صحيحة ومن ذلك أيضاً قول الآخر: جزى الله خيراً ذات بعل تصدقت ... على عزب حتى يكون له أهل فإنا سنجزيها بمثل فعالها ... إذا ما تزوجنا وليس لها بعل وهذه أيضاً مقابلة صحيحة. لأنه جعل في مقابلة أن تكون المرأة ذات بعل وهو لا زوج له أن يكون هو ذا زوج وهي لا بعل لها وقابل حاجته وهو عزب بحاجتها وهي عزبة. ومن أمثلة ذلك في النثر قول أبي إسحاق الصابي: وأن يخلد في بطون الصحائف غلطنا وغلطك في إحساننا وإساءتك وحفظنا وإضاعتك وكتب بعضهم في كتاب له: ولو أن الأقدار إذ رمت بك من المراتب إلى أعلاهنا بلغت من أفعال السؤدد إلى ما وازاها فوازيت بمساعيك مراقيك وعادلت النعمة بك بالنعمة فيك ولكنك قابلت سمو الدرجة بدنو الهمة ورفيع الرتبة بوضيع الشيمة فعاد علوك بالاتفاق إلى حال دنوك بالاستحقاق وصار جناحك في الانتهاض إلى مثل ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 عليه قدرك في الانخفاض ولا لوم على القدر أذنت فيك وأناب وغلط فعاد إلى الصواب وهذا كلام معانيه متقابلة على الصحة ومن ذلك قول هند بنت النعمان: شكرتك يد نالتها خصاصة بعد نعمة ولا ملكتك يد نالت ثروة بعد فاقة. فأما فساد المقابلة فكقول أبي عدى القرشي: يا ابن خير الأخيار من عبد شمس ... أنت زين الدنا وغيث الجنود فليس غيث الجنود مقابلاً لزين الدنيا ولا موافقاً. ومن الصحة: صحة النسق والنظم وهو أن يستمر في المعنى الواحد وإذا أراد أن يستأنف معنى آخر أحسن التخلص إليه حتى يكون متعلقاً بالأول وغير منقطع عنه ومن هذا الباب خروج الشعراء من النسيب إلى المدح فإن المحدثين أجادوا التخلص حتى صار كلامهم في النسيب متعلقاً بكلامهم في المدح لا ينقطع عنه فأما العرب المتقدمون فلم يكونوا يسلكون هذه الطريقة وإنما كان أكثر خروجهم من النسيب إما منقطعاً وإما مبنياً على وصف الإبل التي ساروا إلى الممدوح عليها ومما يستحسن من خروج المحدثين قول أبي عبادة البحتري يصف الروض: شقائق يحملن الندى فكأنه ... دموع التصابي في خدود الخرائد كأن يد الفتح بن خاقان أرفلت ... تليها بتلك البارقات الرواعد1 وقوله: ولو أنني أعطيت فيهن المنى ... لسقيتهن بكف إبراهيما2   1 أرفلت: من الرفل وهو التبختر. 2 هو من قصيدة له في مدح إبراهيم بن الحسن بن سهل, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وقول محمد بن وهيب: ما زال يلثمني مراشفه ... ويعلني الإبريق والقدح1 حتى استرد الليل خلعته ... وبدا خلال سواده وضح وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح وقال الفرزدق: وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لهاترة من جذبها بالعصائب سروا يخبطون الليل هي تلفهم ... إلى شعب الأكوار من كل جانب إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب2 ومن الخروج إلى الذم قول إسحاق بن إبراهيم: فأما الخروج المنقطع فكقول أبي عبادة أيضاً: تأبى رباه أن تجيب ولم تكن ... مستخبر ليجيب حتى يفهما الله جار ابن المدبر كلما ... ذكر المكارم ما أعف وأكرما3 وقول أبي تمام:   1 يعلني من أعله: سقاه سقيا بعد سقي. 2 ترة: ثأرا والعصائب: جمع عصابة وهي ما عصب به من منديل وغيره والأكوار: جمع كور وهو الرحل وشعبها خشبها وخصرت أيديهم: آذاها البرد وغالب: هو أبو الفرزدق يصفه بالكرم. 3 البيتان من قصيدة له في مدح أحمد وإبراهيم ابني المدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 لو رأى الله أن في الشيب فضلا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا كل يوم تبدى صروف الليالي ... خلقاً من أبي سعيد غريبا وأمثال هذا للمتقدمين كثير. وأما إذا ابتدىء بالمديح أو بغيره من الأغراض فالأحسن أن يكون الابتداء دالاً على المعنى المقصود كما ابتدأ أبو الطيب المتنبي قصيدته التي مدح بها سيف الدولة واعتذر له عن ظفر الروم بجيشه وقتلهم وأسرهم جماعة منهم فقال: غيري بأكثر هذا الناس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا وحدثوا شجعوا فابتدأ بغرضه من أول القصيدة. ومن الصحة التفسير وهو أن يذكر مؤلف الكلام معنى يحتاج إلى تفسيره فيأتي به على الصحة من غير زيادة ولا نقص كقول الفرزدق: لقد جئت قوماً لو لجأت إليهم ... طربد دم أو حاملا ثقل مغرم لألفيت فيهم معطيا ومطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيج المقوم1 وهذا تفسير للأول موافق. فأما فساد التفسير فكقول بعضهم: وفيا أيها الحيران في ظلم الدجى ... ومن خاف أن يلقاه بغى من العدى تعال إليه تلق من نور وجهه ... ضياء ومن كفيه بحراً من الندى   1 الوشيج: شجر الرماح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فإن هذا الشاعر لما قدم في البيت الأول الظلم وبغى العدى كان الوجه في التفسير أن يأتي في البيت الثاني بما يليق به فأتى بالضياء بإزاء الظلم وذلك صواب وكان يجب أن يأتي بازاء بغى العدى بالنصرة أو العصمة أو ما جرى مجرى ذلك فلما جعل مكانه ذكر الندى كان التفسير فاسداً. وأما كمال المعنى: وهو أن تستوفي الأحوال التي تتم بها صحته وتكمل جودته وذلك مثل قول نافع بن خليفة الغنوي: رجال إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه لاذوا بالسيوف القواضب فتمم المعنى بقوله: ويعطوه لأنه لو اقتصر على قوله إذا لم يقبل الحق منهم عاذوا بالسيوف كان المعنى ناقصاً. ومن أمثلة ذلك في النثر قول بعضهم: فحلقت به أسباب الجلالة غير مستشعر فيها النخوة وترامت به أحوال الصرامة غير مستعمل معها السطوة هذا مع دماثة في غير حصر ولين جانب من غير خور. فكمل المعنى في هذا الكلام لأن من كمال الجلالة أن تزول عنها النخوة وكمال الصرامة أن تسلم من السطوة وتمام الدماثة أن تكون بغير حصر ولين الجانب أن يكون من غير خور ومن هذا الجنس قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الوالي: يجب أن يكون معه شدة في غير عنف ولين في غير ضعف. وأما المبالغة في المعنى والغلو: فإن الناس مختلفون في حمد الغلو وذمه فمنهم من يختاره ويقول أحسن الشعر أكذبه ويستدل بقول النابغة وقد سئل من أشعر الناس فقال: من استجيد كذبه وأضحك رديئة. وهذا هو مذهب اليونانيين في شعرهم. ومنهم من يكره الغلو والمبالغة التي تخرج إلى الإحالة ويختار ما قارب الحقيقة ودانى الصحة ويعيب قول أبي نواس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق لما في ذلك من الغلو والإفراط الخارج عن الحقيقة والذي أذهب إليه المذهب الأول في حمد المبالغة والغلو لأن الشعر مبنى على الجواز والتسمح لكن أرى أن يستعمل في ذلك كاد وما جرى في معناها ليكون الكلام أقرب إلى حيز الصحة كما قال أبو عبادة: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما وقال أبو الطيب: يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع فهذان البيتان تضمنا غلواً لكن لما جاءت فيهما كاد قربتهما إلى الصحة. وأما المبالغة بغير كاد فكقول أبي العلاء وأحمد بن عبد الله بن سليمان: ونبالة من بحتر لو تعمدوا ... بليل أناسي النواظر لم يخطوا1 وقول النمر يصف السيف: تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي2 وقول النابغة: تقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقدن بالصفاح نار الحباحب3   1 نبالة: رامون بالنبال ولم يخطوا: لم يخطئوا. 2 الهادي: العنق. 3 السلوقي: درع ينسب إلى سلوقمن بلاد الروم أو اليمن والمضاعف: المنسوج حلقتين والصفاح: حجارة عراض والحباحب: ذباب له شعاع بالليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وقول ابن هاني الأندلسي: أمديرها من حيث دار لشد ما ... زاحمت تحت ركابه جبريلا وأما استعمال الغلو الخارج إلى الإحالة في النثر فقليل وأكثر ما يستعمل فيه المبالغة التي تقارب الحقيقة كقول بعضهم: لهم جود كرام استعت أحوالها وبأس ليوث تتبعها أشبالها وهمم ملوك انفسحت آمالها وفخر صميم شرفت أعمامها وأخوالها فبالع لما جعل لهم جود الكرام مع اتساع الحال وبأس الليوث مع اتباع الأشبال وكذلك ما بعده من الكلام. ومن المبالغة قول النابغة الذبياني: وإنما كان هذا الاستثناء من المبالغة في المدح لأنه قد دل به على أنه لو كان فيهم عيب غيره لذكره وأنه لم يقصد إلا وصفهم بما فيهم على الحقيقة. ومنه أيضاً قول أبي هفان: ولا عيب فينا غير أن سماحنا ... أضر بنا والبأس من كل جانب فأفنى الردى أعمارنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عائب أبونا أب لو كان للناس كلهم ... أباً واحداً أغناهم بالمناقب ومنه قول النابغة الجعدي: فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا وأما التحزر مما يوجب الطعن: فأن يأتي بكلام لو استمر عليه لكان فيه طعن فيأتي بما يتحرز به من ذلك الطعن كقول طرفة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمى1 فلو لم يقل: غير مفسدها لظن به أنه يريد توالي المطر عليها وفي ذلك فساد للديار ومحو لرسومها كما عابوا قول ذي الرمة: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر وقالوا: إذا لم يزل القطر منهلا عليها عفى آثارها ودرس معالمها فاحترز طرفة بقوله: غير ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولأجل هذا الغرض قال الرضى رحمه الله في وصف المطر المستسقى به القبر وذكر السحابة: تجرى وذاك الرمس غير مروع ... منها وذاك الترب غير مثار واستقبح قول أبي الطيب المتنبي في مثله: لساحيه على الأجداث حفش ... كأيدي الخيل أبصرت المخالي2 ومن الاحتراز أيضاً قول عبد الله بن المعتز بالله في صفة الخيل: صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل فإنه لو يقل: ظالمين لكان للمعترض عليه أن يقول: إنما   1 هذا البيت من قصيدة له في مدح قتادة بن مسلمة الحنفي وكان أصاب قومه جدب فبذل لهم وصوب الربيع: مطره والديمة: المطر الدائم. 2 الساحي: الذي يقشر الأرض بشدة انصبابه والأجداث: القبور وحفش: وقع شديد والمخالي: التي وضع فيها الشعير للخيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ضربت هذه الخيل لبطئها كما عابوا قول امرئ القيس: فللزجر الهوب وللساق درة ... وللسوط منها وقع أخرج مهذب1 وقالوا: إذا أحوج إلى هذا كله فليس بسريع فقال عبد الله: ظالمين تحرزاً من هذا الطعن. ومن هذا أيضا قول أبي عبادة: أقمنا أكلنا أكل استلاب ... هناك وشربنا شرب بدار وكأنه خاف أن يقال هذا الذي فعلتم سخف فقال: وأما الاستدلال بالتمثيل: فإن يزيد في الكلام مغنى يدل على صحته بذكر مثال له نحو قول أبي العلاء: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر فدل على أن الزيادة فيما يطلب ربما كانت سبباً للامتناع منه بتمثيل ذلك بالماء الذي لا يشرب لفرط برده وإن كان البرد فيه مطلوباً محمودا. ومنه أيضاً قول أبي تمام: أخرجتموه بكره من سجيته ... والنار قد تنتضي من ناضر السلم   1 الهوب: زجر بالسوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وقوله: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت ... أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود وقوله: وكنا نرجيه على السخط والرضا ... وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع وقول أبي عبادة: ويحسن دلها والموت فيه ... وقد يستحسن السيف الصقيل وقوله: مواهب ما تكلفنا السؤال لها ... إن الغمام قليب ليس يحتفر1. وأما قول أبى عبادة أيضاً: ورجال جاروا خلائقك الغر ... وليست يلامق من دروع2 فليس بتمثيل جيد لأن السبق في الجري لا يليق تمثيله بتفضيل الدروع على اليلامق وغنما كان يحسن ذلك لو قال: ورجال جاروك في كونهم عصمة لي أو جنة دوني أو ما جرى هذا المجرى. فيكون تمثيل ذلك بالدروع واليلامق موافقاً فأما على الوجه الذي ذكره فإن ذلك من رديء الاستدلال بالتمثيل:   1 القليب: البئر قبل أن تبنى بالحجارة. 2 يلامق: جمع يلمق وهو القباء وهو لفظ فارسي معرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ومن الاستدلال بالتمثيل على الوجه الصحيح قول النابغة الذبياني يخاطب النعمان: ولكنني كنت امرأ لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب ملوك وإخوان إذا ما لقيتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا فاستدل النابغة على أنه لا يستحق اللوم بمدحه آل جفنة وقد أحسنوا إليه بما مثله من القوم الذين أنعم النعمان عليهم فلما مدحوه لم يكونوا عنده ملومين. وأما الاستدلال بالتعليل فكقول أبي الحسن التهامي: لو لم يكن ريقته خمرة ... لما تثنى عطفه وهو صاح وقوله: لو لم يكن اقحواناً ثغر مبسمها ... ما كان يزداد طيباً ساعة السحر وقول أبي عبادة: ولو لم تكن ساخطاً لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا وقول ابن هانئ الأندلس: ولو لم تصافح رجلها صفحة الثرى ... لما كنت أدرى علة للتيمم وقول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1 جار هذا المجرى.   1 سورة الأنبياء آية 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فهذا مبلغ ما نقوله في المعاني مما يستدل به على غيره لأن حصرها مما لا سبيل إليه على ما بيناه وقد قدمنا ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فصل في ذكر الأقوال الفاسدة في نقد الكلام ذهب قوم من الرواة وأهل اللغة إلى تفضيل أشعار العرب المتقدمين على شعر كافة المحدثين ولم يجيزوا أن يلحقوا أحداً ممن تأخر زمانه بتلك الطبقة وإن كان عندهم محسنا واختلفوا في علة ذلك. فزعمت طائفة من جهالهم أن العلة فيه هي مجرد التقدم في الزمان واستمر في الترتيب فجعلوا الشعراء طبقات بحسب تواريخ أعصارهم. وقال قوم منهم: السبب في ذلك أن المتقدمين سبقوا إلى المعاني في أكثر الألفاظ المؤلفة وفتحوا طريق الشعر وسلك الناس فيه بعدهم وجروا على آثارهم فلهم فضيلة السبق التي لا توازيها فضيلة ولا توازنها مرتبة وإذا كان غيرهم قد استفاد منهم وأخذ ألفاظهم وأكثر معانيهم فلن يكون في الرتبة لأعقابهم وإذا كان مقصراً عنهم فشعره دون أشعارهم. وقالت طائفة أخرى: إن العلة في تفضيل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين أن هذه الأشعار المتقدمة كانت تقع من قائلها بالطبع من غير تكلف ولا تصنع والأشعار المحدثة تقع بتكلف وتعمل وما وقع بالطبع أفضل مما صدر عن التكلف. قالوا: ولهذه العلة استدل بأشعار المتقدمين دون أشعار المحدثين واحتاج هؤلاء كلهم في نقد الشعر إلى معرفة قائله قبل أن يظهر لهم مذهب فيه حتى رووا عن ابن الأعرابي انه أنشد أرجوزة أبي تمام التي أولها: وعاذل عذلته في عذله ... فظن أني جاهل من جهله على إنها لبعض العرب فاستحسنها وأمر بعض أصحابه أن يكتبها له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فلما فعل قال إنها لأبي تمام. فقال: خرق خرق فخرقها. وعن لأصمعي أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنشد: هل إلى نظرة إليك سبيل ... فيروى الصدى ويشفى الغليل إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن يحب القليل فقال له الأصمعي: لمن تنشدني فقال لبعض الأعراب فقال هذا والله هو الديباج الخسرواني قال: فإنهما لليلتهما قال: لا حرم والله إن آثار الصنعة والتكلف بين عليهما. وذهب غير هؤلاء من أهل العلم بالشعر فقال: إن الطرق في نقد الشعر ما قدمناه من نعوت الألفاظ والمعاني فأما قائله وتقدم زمانه أو تأخره فلا تأثير له في ذلك لأن القديم كان محدثاً والمحدث سيصير قديما والتأليف على ما هو عليه لا يتغير وفي المحدثين من هو أشعر من جماعة من المتقدمين وفي المتقدمين من هو أشعر من جماعة من المحدثين. وإلى هذا كان يذهب أبو عثمان الجاحظ وأبو العباس المبرد وأبو عبادة البحتري وأبو العلاء بن سليمان آنفاً وهو الصحيح الذي لا يعترض العاقل فيه شك ولا شبهة وسنتكلم على ما تعلقت به تلك الطائفة من الشبه الفاسدة. أما من ذهب إلى تفضيل المتقدم بمجرد تقدم زمانه فإنه لم يذهب في ذلك إلى علة غير مجرد الدعوى فلو قال له قائل: شعر المحدثين أفضل لتأخر زمانهم لم يكن بين القولين فرق ثم يقال له: ما عندك في امرئ القيس أهو عندك في الطبقة الأولى من الشعراء أم ليس في الطبقة الأولى فإن قال هو في الطبقة الأولى قيل له ولم وقد كان قبله جماعة من الشعراء معروفين أحدهم ابن حذام الذي قيل إنه أول من بكى على الديار وذكره امرؤ القيس في شعره فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 عوجا على الطلل المحيل لعلنا ... تبكى الديار كما بكى ابن خذام1 وإذا كان زمان امرئ القيس قد تأخر عن زمان جماعة من الشعراء فيجب تفضيلهم عليه لأنك قلت إنما يفضل بتقدم الزمان فقط. فإن قال ليس امرؤ القيس في الطبقة الأولى بل من كان قبله أشعر وأحق بالتقدم قيل أولاً إن هذا خلاف لكافة من يفضل أشعار المتقدمين على المحدثين لأنهم ما اختلفوا في أن امرأ في الطبقة الأولى. ثم خبرنا عن الطبقة التي امرؤ القيس منها أعرفت أن مواليدهم في وقت واحد حتى قطعت على أنهم طبقة لنساويهم في زمان الوجود فاق قال نعم! كذب لأن في تلك الطبقة قوماً لم يلحق أحد منهم زمان الآخر وقد جعل الأعشى فيهم وهو بعد امرئ القيس بمدة طويلة وإن قال لا يراعى في تفضيل المتقدمين على المحدثين قليل الزمان وإنما المؤثر في ذلك الزمان الكثير. قيل له: فحبرن عن من بينه وبين الأعشى من الزمان مثل ما بين الأعشى وامرئ القيس أيجوز أن يجعل شعره في طبقة شعر الأعشى. فإن قال: لا قيل له ولم وأنت قد ألحقت الأعشى بامرئ القيس وبينهما مثل ذلك من الزمان واعتللت بأنه لا يؤثر. فكيف صار بعد الأعشى مؤثراً في إلحاق من بعده به. وإن قال: يجوز أن يجعل في طبقة الأعشى من كان بعده بمثل الزمان الذي بينه وبين امرؤ القيس. قيل: أيجوز أن يجعل في طبقة هذا الشاعر من كان بعده بمثل الزمان الذي بين الشاعر الأول والأعشى فإن قال لا يسأل عن السبب في ذلك. وقيل له ما قيل في الشاعر الأول ولا سبيل له إلى الفرق وإن قال نعم ألزم أن يكون شعر بعض شعرائنا اليوم في طبقة امرئ القيس بهذا الترتيب والنسق وأن يجعل الشعر في طبقة ما   1 عوجا: ميلا والمحيل: المتغير. وابن خذام بالخاء أو الحاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 هو قبله والأول في طبقة طبقة ما هو قبله حتى يكون بعض شعرائنا اليوم وامرؤ القيس في طبقة واحدة هذا خلاف ما يذهبون إليه. ويقال له: خبرنا عنك لو أنك في زمان امرئ القيس ووقفت على شعره أكان رأيك فيه هو رأيك اليوم فإن قال نعم قيل له ولم وأنت إنما تختاره اليوم وتفضله بقدمه فإن كان في ذلك الوقت محدثاً عندك فحكمه حكم المحدث اليوم. وإن قال: بل كنت أذهب فيه إلى غير ما أذهب اليوم قيل له فهل تأليفه على ما كان عليه أم تغير عما كان عليه. فإن قال: تغير قيل فهو إذاً غير ما ألفه امرؤ القيس وهذا ما لا يقوله أحد وإن قال بل هو بحاله في الأكثر. قيل له: فيجب أن يكون بحاله على صفة ثم يصير هو بحاله على صفة أخرى من غير أن يزيد شيئاً ولا يعقل فيه غير ما يوجب ذلك وهذا خارج عن المعقول ومعدود في كلام أهل الوسواس. وأما من ذهب إلى تفضيل أشعار المتقدمين من حيث سبقوا إلى المعاني والألفاظ ونزل الناس بعد على سكناتهم1 فإنه يقال له: هذا لو ثبت لدل على فضل المتقدمين على المحدثين ولم يدل على فضل شعر هؤلاء على هؤلاء لأنه ليس كل من كان أفضل وجب أن يكون شعره أحسن وهذا الخليل هو الغاية في الذكاء والفطنة بعلوم العرب وشعره في إنزال طبقة وكذلك غيره من العلماء بهذه اللغة والأمر في هذا واضح لا يحتاج إلى دليل. ثم يقال له: ما تريد بالمعاني التي سبقوا إليها أتريد جميع معاني أشعار المحدثين أو بعضها فإن قال: جميعها قيل هذا جحد العيان لأن الأمر في تفرد المحدثين بمعان استبطوها لم تخطر للعرب المتقدمين على   1 جمع: سكنة وهي ما يسكن فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 بال أظهر من كل ظاهر وإن قال بعض المعاني. قيل: إن تلك المعاني التي سبق المتقدمون إليها وأخذها منهم المحدثون لا يخلو الأمر فيها من أن يكونوا نظموها بحالها أو زادوا عليها أو نقصوا منها فإن كانوا زادوا فلهم فضيلة الزيادة كما كان لاؤلئك فضيلة السبق وإن كانوا نقصوا فالمتقدمون في تلك المعاني خاصة أفضل منهم وإن كانوا نقلوها بحالها فتلك هي معاني المتقدمين لا يستحق المحدثون عليها حمداً ولا ذماً أكثر مما يجب في الأخذ والنقل. وهذا كله يرجع إلى الشعراء دون نفس الشعر لأن المعنى في نفسه لا يؤثر فيه أن يكون غريباً مخترعاً ولا منقولاً متداولاً ولا يغيره حال ناظمه المبتدئ المبتدع أو المحتذى المتبع وإنما هذا شئ يرجع إلى تفضيل السابق إلى المعنى على من أخذ منه. فأما الألفاظ فإن كان يريد الألفاظ المفردة فتلك ليست لأحد والمحدث فيها والمتقدم واحد وإن كان يريد الألفاظ المؤلفة فإن المحدثين إذا أخذوا ألفاظاً قد ألفها ناظم قبلهم لم يؤثر فيها أخذهم لها حتى يقال إنها في شعر الأول أحسن منها في شعر الآخر بل تكون بمنزلة قصيدة شاعر ينتحلها آخر فلا يقال إن الانتحال أثر فيها. فإن كان هذا واضحاً فمن أين يدل سبق المتقدمين إلى بعض المعاني على فضل أشعارهم على أشعار المحدثين الذين سبقوا إلى أضعاف تلك المعاني لولا عدم التوفيق وفرط الجهل. وأما من ذهب إلى تفضيل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين من حيث كانوا لم يتكلفوا أشعارهم وإنما نظموها بالطبع والمحدثون بخلاف ذلك فإنه يقال له: ما الدليل على أن أشعار المتقدمين كانت تقع من غير تكلف. فإن قال بهذا جاءت الروايات عنهم قيل: الأمر بخلاف ذلك والمروى عن زهير بن أبي سلمى أنه عمل سبع قصائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 في سبع سنين وكان يسميها الحوليات ويقول خير الشعر الحولي المحكك والرواة كلهم مجمعون على هذا غير مختلفين فيه وإذا فضلوا شعر زهير قالوا: كان يختار الألفاظ ويجتهد في إحكام الصنعة. وإذا وصفوا الحطيئة شبهوا طريقته في الشعر بطريقة زهير ويروون زهيراً كان يعمل نصف البيت ويتعذر عليه كماله فيتمه كعب ابنه. وهذا كله بمعزل عن الطبع وسهولة النظم ولو لم يدل على ذلك إلا قلة أشعارهم - فإن ديوان بعض هؤلاء المحدثين مثل أشعار جماعة من المتقدمين في الكثرة - لكفى ذلك في تكلفهم للشعر ونصبهم فيه. ثم يقال له: خبرنا عن هذا التكلف الذي ذكرته أهو ببن موجود في الشعر أو غير بين موجود فيه فإن قال: ليس بموجود فيه قيل: فلا تفضل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين بشئ غير موجود فيها وإن قال بل هو موجود في أشعار المحدثين دون المتقدمين. قيل: أتذهب إلى أن التكلف موجود في جميع أشعارهم أو في بعضها فإن قال في جميعها كابر لأن من يزعم أن جميع أشعار المحدثين مع السهولة في أكثرها والتيسر متكلفة وجميع أشعار المتقدمين مع التوعر في أكثرها غير متكلفة فهو جاحد للضرورة لا تحسن مناظرته وإن قال: بعض أشعار المحدثين متكلفة وبعضها غير متكلف قيل: وكذلك أشعار المتقدمين فقد تساووا عندك في هذه القضية وبطل تفرد المحدثين بالتكلف الذي ذكرته. فأما الاستشهاد بأشعار هؤلاء المتقدمين فقد بينا فيما مضى من هذا الكتاب سببه وقلنا أن تقدم الزمان غير موجب لذلك وإنما موجبه أن العرب الذين يتكلمون باللغة العربية ولا يخالطون أحداً ممن يتكلم بغير لغتهم هم الذين أقوالهم حجة في اللغة والعرب الذين خالطوا غيرهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 العجم وفسدت لغاتهم بالمخالطة لا يستدل بكلامهم فلما كان العرب المتقدمون قبل الإسلام وفي الصدر الأول منه لا يخالطون في الأكثر غيرهم كانت أقوالهم في اللغة حجة ولما صاروا بالملك والدولة يخالطون غيرهم ويحضرون ويسكنون المدن لم يستدل بلغتهم. ولهذا السبب كان أبو عمرو بن العلاء يعيب جريراً والفرزدق بطول مقامهما في الحضر وأبطل الرواة الاحتجاج بشعر الكميت بن زيد والطرماح لأنهما كانا حضريين على هذا فلوم فرضنا اليوم أن في بعض القفار النائية عن العمارة قوماً من العرب لا يخالطون غيرهم وكانوا قد أخذوا اللغة عن مثلهم وكذلك إلى حين ابتداء الوضع لوجب أن يكون قولهم حجة كأقوال المتقدمين وإن كانوا محدثين. وإذا كان هذا مفهوماً فليس يوجب صحة الكلام بالعربية حسن النظم لأن ذلك لو وجب لكان كل عربي شاعراً والأمر بخلاف ذلك والشعراء من العرب المتقدمين بالإضافة إلى من ليس بشاعر جزء من ألوف ألوف. وقد ذكرت في نقد الكلام أن لا يكون المعنى فاحشاً وعيب شعر أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج بنا تضمنه من فحش المعاني وليس الأمر عندي على ذلك لأن صناعة التأليف في المعنى الفاحش مثل الصناعة في المعنى الجميل ويطلب في كل واحد منها صحة الغرض وسلامة الألفاظ على حد واحد وليس لكون المعنى في نفسه فاحشاً أو جميلا تأثير في الصناعة ولهذا ذهب قوم إلى استحسان المعنى الغريب وليس للأختراع في المعنى نفسه تأثير إلا كما للمتداول وقد أومأنا إلى هذا فيما تقدم وبينا أنه شئ لا يرجع إلى الشعراء دون المعاني والشبهة في مثل هذا ضعيفة جداً. وذهب قوم أيضاً إلى حسن الترديد وهو أن يعلق الشاعر لفظة في البيت بمعنى ثم يرددها فيه بعينها ويعلقها بمعنى آخر كما قال زهير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة منه والندي خلقاً وقال أبو نواس: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء وهذا عندي لا تعلق له بالنقد لأن التأليف في هذا الترديد كسائر التأليف في الألفاظ التي لا يستحق به حمداً ولا ذماً ولا يكسبها حسناً ولا قبحا. وقد صنف قوم في نقد الشعر رسائل ذكروا فيها أبواباً من الصناعة لا تخرج عما ذكرناه في كتابنا هذا إلا أنهم ربما جعلوا للمعنى الواحد عدة أسماء كالترصيع الذي يسمونة ترصيعاً وموازنة وتسميطا وتسجيعاً وهو كله يرجع إلى شئ واحد وإذا وقف على ما صنفوه في هذا الباب وجد الأمر فيما قلنا ظاهراً والتكرير بينا واضحا. وقد يذهب كثير ممن يختار الشعر إلى تفضيل ما يوافق طباعه وغرضه ويذهب قوم إلى اختيار ما لم يتداول منه حتى يكون للوحشي الذي لم يشتهر مزية عندهم على المعروف المحفوظ ويخالفهم آخرون فيختارون ساير الشعر على خاملة ومشهورة على مجهولة ويستحسن قوم الشعر لأجل قائله فيختارون أشعاره السادات والشارف ورؤساء الحروب ومن يوافقهم في النحلة والمذهب ويمت إليهم بالمودة أو النسب وهذه كلها أقوال صادرة عن الهوى ومقصورة على محض الدعوى من غير دليل يعضدها ولا حجة تنصرها والطريق الذي يؤدى إلى المقصود من معرفة المختار الألفاظ والمعاني هو ما ذكرناه ونبهنا عليه ومن تأمله علم الإصابة فيه بمشيئة الله وعونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فصل في ذكر الفرق بين المنظوم والمنثور وما يقال في تفضيل أحدهما على الآخر . أما حد النثر: فهو حد الكلام الذي ذكرناه في هذا الكتاب وأما حد الشعر فهو كلام موزون مقفى يدل على معنى وقلنا: كلام ليدل على جنسه. وقلنا: موزون لنفرق بينه وبين الكلام المنثور الذي ليس بموزون وقلنا: مقفى لنفرق بينه وبين المؤلف الموزون الذي لا قوافي له. وقلنا: يدل على معنى لنحترز من المؤلف بالقوافي الموزون الذي لا يدل على معنى. وسمى شعراً من قولهم شعرت بمعنى فطنت والشعر الفطنة كأن الشاعر عندهم قد فطن لتأليف الكلام وإذا كان هذا مفهوماً ما فأ قل ما يقع عليه اسم الشعر بيتان لأن التقفية لا تمكن في أقل منهما ولا تصح في البيت الواحد لأنها مأخذوة من قفوت الشيء إذا تلوته وقد ذهب العروضيون إلى أن أقل ما يطلق عليه اسم الشعر ثلاث أبيات وليس الأمر على ما ذهبوا إليه لأن الحد الصحيح قد ذكرناه وهو يدل على أن البيتين شعر فأما اعتلال بعضهم بأن البيتين قد يتفقان في كلام لا يقصده قائله الشعر ولا يتفق ثلاثة أبيات فيما لا يقصد مؤلفه الشعر فاعتلال فاسد لأنه إن كان يريد بالبيتين مثل قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما سنجته من جنوب وشمأل1   1 سقط اللوى: منقطع الرمل حيث يستدق من طرفة والدخول وحومل وتوضح والمقراة: مواضع ولم يغف رسمها: لم يمدح أثرها والجنوب والشمال: ريحان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فذلك لا يتفق إلا في كلام يقصد به الشعر وإن كان يريد بالبيتين مثل ما استشهد به من قول العامة: زمارة مليحة بقطعة صحيحة فقد يتفق من هذا الجنس ثلاثة أبيات في كلام لا يقصد به الشعر فالذي ذكره دعوى لا دليل عليها. وإذا كان هذا بيناً فالفرق بين الشعر والنثر بالوزن على كل حال وبالتفقية إن لم يكن المنثور مسجوعاً على طريق القوافي الشعرية والوزن هو التأليف الذي يشهد الذوق بصحته أو العروض. أما الذوق فلأمر يرجع إلى الحس وأما العروض فلأنه قد حصر فيه جميع ما عملت العرب عليه من الأوزان فمتى عمل شاعر شيئاً لا يشهد بصحته الذوق وكانت العرب قد عملت مثله جاز له ذلك كما ساغ له أن يتكلم بلغتهم. فأما إذا خرج عن الحسن وأوزان العرب فليس بصحيح ولا جائز لأنه لا يرجع إلى أمر يسوغه والذوق مقدم على العروض فكل ما صح فيه لم يلتفت إلى العروض في جوازه ولكن قد يفسد فيه بعض ما يصح بالعروض على المعنى الذي ذكرناه كالزحافات المروية في أشعار العرب المذكورة في كتب العروض وهو الأصل الذي عملت العرب الأول عليه. وإنما العروض استقراء للأوزان حدث بعد ذلك بزمان طويل. وأما التفضيل بين النظم والنثر فالذي يصلح أن يقوله من يفضل النظم أن الوزن يحسن الشعر ويحصل للكلام به من الرونق ما لا يكون للكلام المنثور ويحدث عليه من الطرب في إمكان التلحين والغناء به ما لا يكون للكلام المنثور ولهذه العلة ساغ حفظه أكثر من حفظ المنثور حتى لو اعتبرت أكثر الناس لم تجد فيهم من يحفظ فصلاً من رسالة غير القليل ولا يجد فيهم من لا يحفظ البيت أو القطعة إلا اليسير ولولا ما انفرد به من الوزن الذي تميل إليه النفوس بالطبع لم يكن لذلك وجه ولا سبب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ونقول إن الشعر يدخل في جميع الأغراض كالنسيب والمديح والذم والوصف والعتب والنثر لا يدخل في جميع ذلك فإن التشبيب لا يحسن في غير الشعر وكذلك غيره من الأغراض وما صلح لجميع ضروب الكلام وصنوفه أفضل مما اقتصر على بعضه. وأما الذي نقوله من تفضيل النثر على النظم: فهو أن النثر يعلم فيه أمور لا تعلم في النظم كالمعرفة بالمخاطبات وبينة الكتب والعهود والتقليدات وأمور تقع بين الرؤساء والملوك يعرف بها الكاتب أمورهم ويطلع على خفي أسرارهم وأن الحاجة إلى صناعة الكتابة ماسة والانتفاع بها في الأغراض ظاهر. والشعر فضل يستغنى عنه ولا تقود ضرورة إليه وأن منزلة الشاعر إذا زادت وتسامت لم ينل بها قدراً عالياً ولا ذكراً جميلان والكاتب ينال بالكتابة الوزارة فما دونها من رتب الرياسة وصناعة تبلغ بها إلى الدرجة الرفيعة أشرف من صناعة لا توصل صاحبها إلى ذلك وأن أكثر النظم إذا كشف وجد لا يعبر عن جد ولا يترجم عن حق وإنما الحذق فيه الإفراط في الكذب والغلو في المبالغة وأكثر النثر شرح أمور متيقنة وأحوال مشاهدة وكثر فيه الجد والتحقيق أفضل مما كثر فيه المحال والتقريب وقد يتسع الكلام فيما لا يخرج عن هذا الفن وهذه الجملة كافية في مثل هذا الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 فصل فيما يحتاج مؤلف الكلام إلى معرفته الذي يحتاج مؤلف الكلام إليه من معرفة اللغة التي هي لغة العرب قدر ما يعرف كل شئ باسمه الذي وضعته له. ويجب أن يكون ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الاسم أفصح أسمائه إن كانت له عدة أسماء وقد بينا الطريق إلى معرفة الفصيح فيما مضى من كتابنا هذا فإذا عرف ما ذكرته من اللغة احتاج إلى معرفة ما يتصرف ذلك الاسم عليه من جمع وتثنية وتذكير وتأنيث وتصغير وترخيم ليورده على جميع ما يتصرف فيه صحيحا غير فاسد ولهذا افتقر إلى علم النحو وسأذكر قدر ما يحتاج منه فإذا علم ما أشرت إليه افتقر إلى معرفة عدة أسماء لما يقع استعماله في النظم والنثر كثيراً ليجد إذا ضاق به موضع أو حظر عليه وزن إيراد اسم العدول إلى غيره. ويحتاج في علم النحو إلى معرفة أعراب ما يقع له في التأليف حتى لا يذكر لفظة إلا موضوعة حيث وضعتها العرب من إعراب أو بناء على حسب ما وردت عنهم وليس لأحد أن يظن أن هذا هو معرفة النحو كله والاشتمال على جميع علمه لأن الكثير من النحو علم تقدير مسائل لا تقع اتفاقا في النظم ولا في النثر وكذلك التصرف من علم النحو لا يكاد مؤلف الكلام يحتاج إلا إلى الشئ اليسير منه فأما أن يكثر منه حتى يسوغ له أن يبنى من الدال في قد مثل عصفور وغير ذلك من مسائل قد وضعت في هذا الجبس فما لا أرى النحوي يفتقر إلى معرفته فضلا عن غيره. ويحتاج الشاعر خاصة إلى معرفة الخمسة عشر بحرا التي ذكرها الخليل ابن أحمد وما يجوز فيها من الزحاف ولست أوجب عليه المعرفة بها ولينظم بعلمه فإن النظم مبنى على الذوق ولو نظم بتقطيع الأفاعيل جاء شعره متكلفاً غير مرضى وإنما أريد له معرفة ما ذكرته من العروض لأن الذوق ينبو عن بعض الزحافات وهو جائز في العروض وقد ورد للعرب مثله فلولا علم العروض لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وبين ما لا يجوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 يفتقر أيضاً من العلم بالقوافي إلى معرفة الحروف والحركات التي يلزم إعادتها وما يصلح أن يكون روياً أو ردفاً مما لا يصح. ويحتاج أيضاً إلى معرفة المشهور من أخبار العرب وأحاديثها وأنسابها وأمثالها ومنازلها وسيرها وصفة الحروب التي كانت لها وما له قصة مشهورة وحديث مأثور فإنه قد يفتقر في النظم إلى ذكر شئ منه ويكون للمعنى به تعلق شديد وإذا ورد استحسن. ويحتاج الكاتب إلى جميع هذا أيضاً ويختص بما يفتقر إليه من معرفة المخاطبات وفنون المكاتبات والتوقيعات ورسوم التقليدات مع الاطلاع على كتاب الله تعالى وشريعته وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فإنه مدفوع إلى تقليد الولاة وعهود القضاة والتوقيعات في المظالم والمكاتبة في ضروب الحوادث. وبالجملة أن مؤلف الكلام لو عرف حقيقة كل علم واطلع على كل صناعة لأثر ذلك في تأليفه ومعانيه وألفاظه لأنه يدفع إلى أشياء يصفها فإذا خبر كل شئ وتحققه كان وصفه له أسهل ونعته أمكن إلا أن المقصود في هذا الموضع بيان ما لا يسعه جهله دون ما إذا علمه أثر عنده علمه فإن ذلك لا يقف على غاية. والوصية لهما لهما ترك التكلف والاسترسال مع الطبع وفرط التحرز وسوء الظن بالنفس ومشاورة أهل المعرفة وبغض الإكثار والإطالة وتجنب الإسهاب في فن واحد من فنون الصناعة فإن كلام الإنسان ترجمان عقله ومعيار فهمه وعنوان حسه والدليل على كل أمر لولاه لخفي منه وبحسب ذلك يحتاج إلى فضل التثقيف واجتماع اللب عند النظم والتأليف. وإذ قد انتهى بنا القول إلى هذا الموضع فالواجب أن نختم الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 لأنا قد وفينا بجميع ما شرطناه في أوله وقد كنا عزمنا على أن نصله بقطعة مختارة من النظم والنثر يتدرب بالوقوف عليها في فهم ما ذكرناه من أحكام البلاغة وكشفناه من أسرار الفصاحة لكنا فرقنا من الإطالة والتثقيل على الناظر فيه بالملل والسآمة فعد لنا إلى وضع ذلك في كتاب مفرد. ونحن تستغفر الله من خطل القول كما تستغفر من خطأ العمل ونسأله أن يمن علينا بالهداية والعصمة والسلامة في الدنيا والآخرة أنه سميع مجيب. وكان الفراغ من تأليفه يوم الأحد الثاني من شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة- 454هـ. تم الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291