الكتاب: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه المؤلف: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر المحقق: - الناشر: مكتبة دار القلم والكتاب، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى 1416هـ/ 1996م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر الكتاب: زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه المؤلف: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر المحقق: - الناشر: مكتبة دار القلم والكتاب، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى 1416هـ/ 1996م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه بقلم: عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ال مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 3. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى   1 سورة آل عمران، الآية: 102 2 سورة النساء، الآية: 1. 3 سورة الأحزاب، الآيتان:70-71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد، فإن مباحث الإيمان ومسائله هي أهم المسائل على الإطلاق، لأنها أهم مباحث الدين وأعظم أصول الحق واليقين، بل إن كل خير في الدنيا والآخرة متوقف على الإيمان الصحيح. وكم للإيمان الصحيح من الفوائد المغدقة، والثمار اليانعة، والجنى اللذيذ، والأكل الدائم، والخير المستمر، أمور لا تحصى، وفوائد لا تستقصى عاجلة وآجلة.- وبالإيمان يحيى العبد حياة طيبة في الدارين، وينجو من المكاره والشرور والشدائد، ويدرك جميع الغايات والمطالب، وينال ثواب الآخرة فيدخل جنة عرضها كعرض السماء والأرض، فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وينجو من نار عذابها شديد وقعرها بعيد، وأعظم من ذلك كله أن يفوز برضى الرب سبحانه فلا يسخط عليه أبداً، ويتلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم، وما ثمة مطلقاً نعيم أعظم ولا أكمل من هذا النعيم. وبالجملة فالخير كله فرع عن الإيمان ومترتب عليه، والهلاك والدمار والشر كله إنما يكون بفقد الإيمان ونقصه. فلا غرو إذن أن تكون مباحثه أهم المباحث وأعظمها وأولاها بالعناية والاهتمام، وأجدرها بصرف الهمم والأوقات، وشرف العلم من شرف معلومه، وليس هناك أشرف من الإيمان وعلومه، التي يتحقق بتحققها كل خير ويصرف كل شر، بل لا صلاح للعباد ولا فلاح ولا حياة طيبة ولا سعادة في الدارين، ولا نجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة إلا بالإيمان الصحيح علماً وتطبيقاً، فالعلم والإيمان هما أفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 هبات الرحمن وأجل عطياته. قال ابن القيم رحمه الله: "أفضل ما اكتسبته النفوس، وحصلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، هو العلم والإيمان، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} 1، وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 2. وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه، والمؤهلون للمراتب العالية، ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقتهما، حتى إن كل طائفة تظن أن ما معها من العلم والإيمان هو الذي به تنال السعادة، وليس كذلك، بل أكثرهم ليس معهم إيمان ينجى ولا علم يرفع، بل قد سدوا على نفوسهم طرق العلم والإيمان اللذين جاء بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليهما الأمة، وكان عليهما هو وأصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم ... "3. ولو ذهبنا نتتبع المفاهيم الخاطئة، والاعتقادات المنحرفة في كلمتي علم وإيمان لطال المقام ولوقفنا على العجب العجاب، إذ إن كل صاحب هوى وبدعة، وكل صاحب طريقة ونحلة يدعي أن ما عنده هو العلم النافع والإيمان الصحيح، والحق أن الإيمان وراء هذه الدعاوى والتخرصات، وفوق هذه الأباطيل والادعاءات فلا علم ولا إيمان إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما سوى ذلك فهذيان مزوق وبهتان مبهرج4   1 سورة الروم، الآية: 56. 2 سورة المجادلة، الآية: 11. 3 الفوائد (ص 191) . ولكلامه تتمة مهمة، تركتها خشية الإطالة، فلتراجع. 4 قال شيخ الإسلام: "العلم شيئان: إما نقل مصدق، أو بحث محقق، وما سوى ذلك فهذيان مزوق". انظر الرد على البكري (ص375) . وانظر أيضاً الفتاوى (13/329) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1. فلما كان أمر الإيمان بهذه المنزلة، وحاله بين أهله على هذا الوصف، صار واجباً على أهل العلم وطلابه أن يبينوا الإيمان الصحيح لذويه وأهله، ويوضحوا الحق المبين لراغبيه وطلابه، حتى يظهر الحق ويرتفع سنامه، وينقمع الباطل وتتهدم أركانه، {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 2، {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 3، فتقام الحجة وتتضح المحجة ويستبين السبيل، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} 4. ولما من الله عليّ وأكرمني بالتوجه لطلب العلم الشرعي وسلوك طريقه، ومواصلة التلقي والدراسة في رياض هذه الجامعة المباركة- إن شاء الله- وكان لازماً على كل طالب في مرحلتها العالمية العالية أن يقدم- بحثاً علمياً في مجال تخصصه، رأيت أن يكون بحثي حول بعض مسائل الإيمان المهمة، فوقع اختياري على مسألتين هما من كبار مسائل الإيمان ومن أهم مباحثه ألا وهما مسألتا "زيادة الإيمان ونقصانه "و"حكم الاستثناء فيه"، ويرجع اختياري لهاتين المسألتين دون غيرهما من مسائل الإيمان إلى أسباب عديدة أهمها ما يلي:   1 سورة النور، الآيتان: 39-40. 2 سورة الشورى، الآية: 24. 3 سورة الأنفال، الآية: 8. 4 سورة الأنفال، الآية: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 أولاً: أنهما من أهم وأكبر مسائل الإيمان، وبخاصة مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وقد رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية يصفها بأنها مسألة كبيرة تحتاج إلى البسط والإطناب1، وهذا مما يدل على أهميتها وأهمية البحث فيها. ثانياً: أن هاتين المسألتين لم تفردا ببحوث علمية مستقلة، تستوفي أطرافهما وتجمع شتاتهما، وإن كانتا قد كتب فيهما ضمناً في ثنايا الكتب، وألف فيهما رسائل صغيرة مفردة لكنها لا تفي بالمقصود2، وهي بالرغم من ذلك في حكم المفقود، وفي هذا أعظم دافع لإفرادهما ببحث مستقل. ثالثاً: أن للسلف في هذين الموضوعين أقوالاً كثيرة نافعة، وهي متناثرة في بطون الكتب، فمن الجدير حقاً أن تجمع ويعتنى بها وتنسق وتصنف في مكان واحد ليتم الانتفاع بها، وتتسنى الاستفادة التامة منها. رابعاً: أن هذين الموضوعين متعلقان بأهم مطلب وأعظم غاية وهو الإيمان، الذي فيه عزة الأمة ورفعتها وكمالها وسؤددها،   1 انظر الفتاوى (6/ 479، 481) بل لقد أفردها وبسطها رحمه الله في مجلد، ذكر ذلك ابن القيم في كتابه اأسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية ا (ص 23) حيث عدّ من مؤلفاته: "رسالة في الإيمان هل يزيد وينقص "وذكر أنها في مجلد. 2 وقفت من خلال كتب التراجم علي رسالتين في زيادة الإيمان ونقصانه، الأولى: لعلي بن محمد بن أبي سعد بن وضاح الشهراياني الحنبلي ت 672 هـ. انظر (ص 334) من هذه الرسالة، والأخرى: لجلال الدين التباني الحنفي ت 793 هـ. انظر (ص 336) من هذه الرسالة، ولا أعرف عن وجودهما شيئاً. وفي مسألة الاستثناء وقفت على ذكر رسالة واحدة لتقي الدين السبكي ت 756 هـ. ذكر ملخصها الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2/278) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ومتى ما تخلت عنه وضعف فيها هانت وذلت، وتكالبت عليها الشرور، وأشرفت على المهالك، وتداعى عليها الأعداء من كل جانب، ومن تدبر حال الأمة في هذه الأزمان ورأى ضعفها وهوانها علم ذلك، فلا بد من بيان الإيمان الذي هو سبب العزة وإيضاحه، ولا بد من بيان أسباب زيادته وقوته ونمائه، وأسباب ضعفه ونقصه وزواله، تبصيراً للأمة وتحذيراً. خامساً: أن المبتدعة أهل الأهواء المخالفين لأهل السنة في مسألتينا كثر، ولهم دلائل مختلفة وشبه متنوعة، يخالفون بها الحق ويثيرون الشكوك حوله، فيجب تعريتها وبيان زيفها، وكشف باطلها، لئلا يلتبس الحق بالباطل، وإن من الصدقات المبرورة والأعمال المقبولة إماطة أنواع الأذى الحسية والمعنوية عن جادة المسلمين وسابلتهم. لهذه الأسباب ولغيرها فضلت الكتابة حول هاتين المسألتين المهمتين، وإني لأرجو الله الكريم أن يكون ما كتبته وافياً نافعاً محققاً للمنشود. هذا وقد قسمت بحثي هذا إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة: أما المقدمة: فهي هذه وقد بينت فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره وخطة السير فيه. وأما التمهيد: فجعلت فيه مبحثين: المبحث الأول: في تعريف الإيمان لغة وشرعاً وأقوال الطوائف فيه. المبحث الثاني: في تعريف الزيادة والنقصان من حيث اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وأمّا الباب الأول: فتحدثت فيه عن قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص. وهو يتكون من أربعة فصول: الفصل الأول: في أدلتهم من الكتاب والسنة ونقل بعض أقوالهم. وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: أدلتهم من القرآن الكريم. المبحث الثاني: أدلتهم من السنة النبوية. المبحث الثالث: ذكر بعض النقول عنهم في ذلك. الفصل الثاني: أوجه زيادة الإيمان ونقصانه. الفصل الثالث: أسباب زيادة الإيمان ونقصانه. وفيه مبحثان: المبحث الأول: أسباب زيادة الإيمان. المبحث الثاني: أسباب نقصان الإيمان. الفصل الرابع: في الكلام على الإسلام عندهم هل يزيد وينقص. وأمّا الباب الثاني: فتحدثت فيه عن الأقوال المخالفة لقول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه. وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان. الفصل الثاني: قول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الفصل الثالث: قول من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في ذكر القائلين بهذا القول. المبحث الثاني: في ذكر أدلتهم وشبههم والرد عليهم. المبحث الثالث: في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه. الفصل الرابع: في سبب الخلاف في هذه المسألة ونشأته وهل هو حقيقي أو لفظي. وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة. المبحث الثاني: في الكلام على الخلاف في هذه المسألة هل هو عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أو لا. المبحث الثالث: في بيان هل الخلاف في هذه المسألة لفظي أو حقيقي. أما الباب الثالث: فتحدثت فيه عن حكم الاستثناء في الإيمان. وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في بيان مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة. وفيه أربعة مباحث. المبحث الأول: بيان قول أهل السنة والجماعة في الاستثناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه. المبحث الثاني: نقل أقوالهم في الاستثناء مع التوفيق بينها. المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ "أمؤمن أنت". المبحث الرابع: في حكم الاستثناء في الإسلام. الفصل الثاني: في بيان قول من قال بوجوب الاستثناء وذكر أدلتهم والرد عليها. الفصل الثالث: في بيان قول من قال بعدم جواز الاستثناء وذكر أدلتهم والرد عليها. أما الخاتمة: فقد تحدثت فيها عن خلاصة هذا البحث وأبرز النقاط التي توصلت إليها فيه. ثم إني في الختام لأشكر الله العلي القدير على توفيقه وامتنانه وجوده وإحسانه حيث يسر لي إتمام هذا البحث، وأسأله سبحانه أن يجعله لوجهه خالصاً ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم موافقاً ولعباده نافعاً إنه جواد كريم. ثم أشكر جميع من أسهم معي في هذا البحث بالرأي والمشورة والنصح والتوجيه. وأخص بالذكر والدي الكريم حفظه الله ورعاه الشيخ عبد المحسن العباد فقد قرأت عليه هذا البحث واستفدت من توجيهاته القيمة وإرشاداته السديدة المفيدة، فجزاه الله عني خير الجزاء ورفع مكانته وأجزل مثوبته وأعلى في الجنة درجته إن ربي لسميع الدعاء. ثم أشكر شيخي الفاضل الأستاذ على بن ناصر فقيهي على ما بذله لي من نصح وحسن توجيه ورحابة صدر طيلة مدة الإشراف على هذه الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلاة الله وسلامه على نبيه الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين. وكتبه عبد الرزاق البدر في 23/5/1411هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 تمهيد وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريف الإيمان لغة وشرعاً وأقوال الطوائف فيه. المبحث الثاني: تعريف الزيادة والنقصان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المبحث الأول: تعريف الإيمان لغة وشرعاً وأقوال الطوائف فيه الإيمان لغة: مصدر آمن يؤمن إيماناً فهو مؤمن1، وأصل آمن أأمن بهمزتين لينت الثانية2، وهو من الأمن ضد الخوف3. قال الراغب: "أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف "4. وقال شيخ الإسلام: ".. فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والإنقياد5. وقد عرف الإيمان في اللغة بعدة تعريفات: فقيل هو التصديق، وقيل هو الثقة، وقيل هو الطمأنينة، وقيل هو الإقرار. وقد اختار شيخ الإسلام في تعريف الإيمان اللغوي أنه بمعنى الإقرار، لأنه رأى لفظة أقر أصدق في الدلالة على معنى الإيمان من غيرها من الألفاظ التي فسر بها الإيمان، لأمور وأسباب ذكرها رحمه الله   1 تهذيب اللغة للأزهري (15/ 513) . 2 الصحاح للجوهري (5/2071) . 3 الصحاح للجوهري (5/ 2071) والقاموس المحيط للفيروز أبادي (ص 1518) . 4 المفردات (ص 35) . 5 الصارم المسلول (ص 519) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 يأتي الإشارة لبعضها. ثم إنه ناقش باستفاضة وافية وبتحقيق متين قول من ادعى أن الإيمان مرادف للتصديق، وذكر فروقاً بين التصديق والإيمان تمنع دعوى الترادف بينهما، ثم خلص من ذلك إلى أن أولى تفسير لغوي للإيمان هو الإقرار. ويمكن أن نجمل الأمور التي ذكرها شيخ الإسلام في- دفع دعوى الترادف بين الإيمان والتصديق في النقاط التالية: ا- أن لفظة آمن تختلف عن لفظة صدق من جهة التعدي، حيث إن آمن لا تتعدى إلا بحرف إما الباء أو اللام كما في قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} 1، وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} 2. فيقال آمن به وآمن له، ولا يقال آمنه، بخلاف لفظة صدق فانه يصح تعديتها بنفسها فيقال صدقه. 2- أنه ليس بينهما ترادف في المعنى، فإن الإيمان لا يستخدم إلا في الأمور التي يؤتمن فيها المخبر مثل الأمور الغيبية، لأنه مشتق من الأمن، أما الأمور المشاهدة المحسوسة فهذه لا يصلح أن يقال فيها آمن وإنما يقال صدق، لأن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة صدقت كما يقال كذبت، أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب. 3- أن لفظة إيمان في اللغة لا تقابل بالتكذيب، فإذا لم يصدق المخبر في خبره يقال كذبت، وإذا صدق يقال صدقت فيقال:   1 سورة العنكبوت، الآية: 26. 2 سورة البقرة، الآية: 285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 صدقناه: أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر آمنا له أو كذبناه، ولا يقال أنت مؤمن له أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك، لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط. 4- أن الإيمان في اللغة مشتق من الأمن الذي هو ضد الخوف، فآمن أي صار داخلاً في الأمن، فهو متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق، ولهذا قال إخوة يوسف لأبيهم {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي لا تقر بخبرنا ولا تثق به ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين، لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك، فلو صدقوا لم يأمن لهم. أما التصديق فلا يتضمن شيئاً من ذلك. فهذه الأمور تدفع دعوى الترادف بين الإيمان والتصديق، كما يظنه طائفة من الناس، وبناء عليها فالإيمان ليس هو التصديق فحسب، وإنما هو تصديق وأمن أو تصديق وطمأنينة، وهو متضمن للالتزام بالمؤمن به سواء كان خبراً أو إنشاء، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر غيره بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر لا يقال فيه آمن له بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمناً للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، فإن صدقه دون التزام بطاعته، فهذا يسمى تصديقاَ ولا يسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 إيماناً1. ولهذا فإن اللفظ المطابق لآمن من جهة اللغة هو لفظ أقر، لتوافقه مع لفظ آمن في الأمور المتقدمة، فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من يقر، وهو قريب من آمن يؤمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره والكاذب بخلاف ذلك كما يقال الصدق طمأنينة، والكذب ريبة، فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام ثم إنه يكون على وجهين: أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما، وهذا الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار. والثاني: إنشاء الالتزام كما في قوله تعالى: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 2 وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبارٌ وإنشاءٌ والتزامٌ بخلاف لفظ التصديق المجرد3. ولذا فالإيمان لغة هو الإقرار، لأن التصديق إنما يطابق الخبر فقط، وأما الإقرار فيطابق الخبر والأمر ولأن قر وآمن متقاربان، فالإيمان دخول   1 انظر الفتاوى (7/ 290- 293) و (7/ 529- 534) . 2 سورة آل عمران، الآية:80. 3 انظر الفتاوى (7/ 530، 531) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 في الأمن، والإقرار دخول في القرار1. لهذه الأسباب ولغيرها رأى شيخ الإسلام رحمه الله أن أصلح تعريف للإيمان من جهة اللغة هو الإقرار. قال رحمه الله: "ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق وعمل القلب الذي هو الانقياد) 2. وقال رحمه الله: " ... فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق، مع أن بينهما فرقاً"3. فالمختار إذا أن لفظة آمن لغة بمعنى أقر، والإيمان لغة هو الإقرار القلبي، وهذا الإقرار مشتمل على أمرين: 1- اعتقاد القلب وهو تصديقه بالأخبار. 2- عمل القلب وهو إذعانه وانقياده للأوامر. هذا من جهة اللغة. أما شرعاً: فهو عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض بيانه لعقيدة أهل السنة والجماعة وأصولهم التي اتفقوا عليها: "ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان،- وعمل القلب واللسان والجوارح4.   1 انظر الفتاوى (7/ 637) . 2 الفتاوى (7/ 638) . 3 الفتاوى (7/ 291) . 4 العقيدة الواسطية لابن تيمية (ص 161) بشرح الهراس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فهذه خمسة أمور اشتمل عليها مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول القلب، وعمله، وقول اللسان، وعمله، وعمل الجوارح. والأدلة على دخول هذه الأمور في مسمى الإيمان كثيرة وفيرة وفيما يلي ذكر بعضها: أولاً: قول القلب، وهو تصديقه وإيقانه، قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} 1 وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} 2 وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 3 وقال تعالى في المرتابين الشاكين {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 4. وفي حديث الشفاعة "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة"5، وغير ذلك من الأدلة. ثانياً: قول اللسان وهو النطق بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بلوازمهما، قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى   1 سورة الزمر، الآيتان: 33- 34. 2 سورة الأنعام، الآية: 75. 3 سورة الحجرات، الآية: 15. 4 سورة آل عمران، الآية: 167. 5 رواه البخاري (13/ 473) ومسلم (1/ 177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1، وقال تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ} 2، وقال تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} 3، وقال تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 4، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 5، وقال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأنى رسول الله.. "6 وما في معنى هذا من النصوص. ثالثاً: عمل القلب، وهو النية والإخلاص والمحبة والإنقياد والإقبال على الله عز وجل والتوكل عليه ولوازم ذلك وتوابعه، قال الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} 7 وقال: {مَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} 8، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 9،   1 سورة البقرة، الآية: 136. 2 سورة القصص، الآية: 53. 3 سورة الشورى، الآية: 15. 4 سورة الزخرف، الآية: 86. 5 سورة الاحقاف، الآية: 13. 6 رواه البخاري (الفتح 1/ 75) ومسلم (1/ 53) . 7 سورة الأنعام، الآية: 52. 8 سورة الليل، الآية: 20. 9 سورة الأنفال، الآية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} 1، وغير ذلك من النصوص الدالة على وجوب التوكل والخوف والرجاء والخشية والخضوع والإنابة وغير ذلك من أعمال القلوب، وهي كثيرة جداً في الكتاب والسنة. رابعاً: عمل اللسان، وهو العمل الذي لا يؤدى إلا به كتلاوة القرآن وسائر الأذكار من التسبيح والتحميد والتكبير والدعاء والاستغفار وغير ذلك من الأعمال التي تؤدى باللسان، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} 2، وقال: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} 3، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 4. وقال: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5. وغير ذلك من نصوص الشرع الدالة على أعمال اللسان والطاعات التي تؤدى به. خامساً: عمل الجوارح، وهو العمل الذي لا يؤدى إلا بها مثل القيام والركوع والسجود والمشي في مرضاة الله كنقل الخطا إلى المساجد وإلى الحج والجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من الأعمال التي تؤدى بالجوارح، قال الله   1 سورة المؤمنون، الآية: 60. 2 سورة فاطر، الآية: 29. 3 سورة الكهف، الآية: 27. 4 سورة الأحزاب، الآية: 41. 5 سورة المزمل، الآية: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 1، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} 2، وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً* وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} 3، والنصوص في هذا كثيرة جداً4. قال محمد بن حسين الآجري في باب "القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمناً إلا أن يجتمع فيه هذه الخصال الثلاث "قال: "اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح. ثم اعلموا أنه لا تجزىء المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزىء معرفة القلب ونطق اللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمناً، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين.."5. ثم ساق من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية ما يدل على ذلك ويؤيده.   1 سورة البقرة، الآية: 238. 2 سورة الحج، الآيتان: 77- 78. 3 سورة الفرقان، الآيتان: 63- 64. 4 انظر معارج القبول للشيخ حافظ حكمي (2/17 وما بعدها) . 5 الشريعة للآجري (ص119) وانظر شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي (4/ 832) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 هذا هو تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة، أما الطوائف الأخرى فيمكن تقسيم قولهم في الإيمان إلى قسمين: قسم يدخلون العمل في الإيمان ويجعلونه شرطاً في صحة الإيمان، وقسم يخرجون العمل من الإيمان وهم أقسام ويجمعهم وصف الإرجاء. أما أهل القسم الأول فهم الخوارج والمعتزلة، يقولون: إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، لكن الإيمان عندهم كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله فمن أخل بالأعمال ذهب إيمانه باتفاق الطائفتين، وهو كافر عند الخوارج وفي منزلة بين المنزلتين عند المعتزلة1. وفساد هذا القول ظاهر، فإن نصوص الكتاب والسنة الدالة على تبعض الإيمان وتفاضله وزيادته ونقصانه كثيرة جداً، وسيأتي بسطها إن شاء الله في هذا البحث. وأما أهل القسم الثاني وهم المرجئة، فهؤلاء ثلاثة أصناف: 1- صنف يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر المرجئة، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه. 2- وصنف يقولون: هو مجرد قول اللسان وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. 3- وصنف يقولون: هو تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم 2.   1 انظر الفتاوى لابن تيمية (13/48) . 2 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 195) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وأخبث هذه الأقوال وأكثرها فساداً قول جهم ومن اتبعه أن الإيمان مجرد المعرفة القلبية فإن لازم هذا القول أن يكون إبليس وفرعون وغيرهما من رءوس الضلال مؤمنين كاملي الإيمان، ثم يليه في الفساد قول الكرامية أن الإيمان هو قول اللسان فقط، ويلي هذا القول قول مرجئة الفقهاء أن الإيمان اعتقاد في القلب وقول باللسان. وجميع هذه الأقوال مباينة للحق مخالفة للصواب الوارد في الكتاب والسنة، والمنقول عن سلف الأمة في تعريف الإيمان وأنه شامل للأقوال والاعتقادات والأعمال، وقد ذكرت من أدلتهم على ذلك آنفاً ما يكفي في بيان المقصود ويفي ببيان المنشود، فإذا علم أن قولهم هو الحق الذي لا ريب فيه يعلم أن قول غيرهم هو الباطل الذي لا ريب فيه، وبطلانه وفساده يكون بحسب بعده عن الحق الوارد في الكتاب والسنة. ثم ليعلم في ختام هذا القول المقتضب في أقوال الناس في تعريف الإيمان أن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ولا كالخطأ في غيره من الأسماء، لأن أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان والإسلام والكفر والنفاق1، وهذا يؤكد وجوب فهم الإيمان فهماً صحيحاً مستمداًً من الكتاب والسنة دون إفراط أو تفريط، وقد أثبت فيما سبق أنه لا صواب في ذلك غير قول أهل السنة والجماعة، وبالله التوفيق.   1 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 395) ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/430) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 المبحث الثاني: تعريف الزيادة والنقصان قبل الشروع في ذكر ما يتعلق بزيادة الإيمان ونقصانه من أقوال وأدلة يحسن أن أعرف بمعناهما من حيث اللغة، فأقول: الزيادة: هي مصدر زاد يزيد زيداً وزيادة، فازداد. يقولون: زدته أزيده زيداً وزيادة، فازداد. وهو أصل يدل على: الفضل، وقيل: النمو وهو الزيادة على الشيء من جنسه، أي أن ينضم إلى ما عليه الشيء في نفسه شيء آخر، وهي نوعان: زيادة محمودة: كزيادة العلم والإيمان والصحة ومنه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 1، وقوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} 2 أي أعطاه من العلم والجسم قدراً زائداً على ما أعطى أهل زمانه. وزيادة مذمومة: كالزيادة على الكفاية، كالزائد على الكفاية كزائد الأصابع، والزوائد في قوائم الدابة، وزيادة الكبد، ومن هذا النوع قول الله تعالى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} 3، وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ   1 سورة يونس، الآية: 26. 2 سورة البقرة، الآية: 243. 3 سورة البقرة، الآية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} 1، فهذه زيادة فيما لا خير فيه فهي مذمومة2. النقصان: هو مصدر نقص ينقص نقصاً ونقصاناً، والنون والقاف والصاد كلمة واحدة يراد بها خلاف الزيادة، أو الخسران في الحظ. والنقصان يكون مصدراً، ويكون قدر الشيء الذاهب من المنقوص، وهو اسم له. فتقول: نقصان الشيء، كذا، أي: قدر الذاهب منه. مما جاء في التنزيل من هذه المادة، قوله تعالى: {وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَاْلأَنْفُسِ} 3، وقوله: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} 4، أي: وافياً كاملاً5. التفاضل: سترد هذه الكلمة كثيراً في هذا البحث فمن المناسب تعريفها هنا فالتفاضل: هو مصدر: فضل يفضل فضلاً، والفاء والضاد   1 سورة التوبة، الآية: 125. 2 انظر: الصحاح للجوهري (2/481) ومعجم مقييس اللغة لابن فارس (3/40) ، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (ص 216) ، وبصائر ذوي التمييز للفيررز آبادي (3/150) ، وفتح البيان في مقاصد القران لصديق حسن خان (4/220) . 3 سورة البقرة، الآية: 155. 4 سورة هود، الآية: 109. 5 انظر الصحاح للجوهري (3/ 1059) ، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس (5/ 470) والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (ص 503) وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي (5/ 114) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 والنون أصل صحيح يدل على زيادة في شيء وهو ضد النقص. وهو ضربان: محمود كفضل العلم والحلم، ومذموم كفضل الغضب على ما يجب أن يكون عليه، والفضل في المحمود أكثر استعمالاً، والفضول في المذموم. وتفاضل: اسم مفاعلة من فضل، ومعناه حصول الشيء وتزايده تدريجاً1.   1 انظر الصحاح للجوهري (5/1791) ، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس (4/508) والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (صلى الله عليه وسلم 381) وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي (4/196) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الباب الأول: في قول أهل السنة والجماعة إن الإيمان يزيد وينقص الفصل الأول: أدلتهم من الكتاب والسنة على زيادة الإيمان ونقصانه ونقل بعض أقوالهم في ذلك المبحث الأول: أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب ... المبحث الأول أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب لقد جاء في كتاب الله عز وجل نصوص كثيرة تدل على زيادة الإيمان ونقصانه وأن أهله متفاضلون فيه بعضهم أكمل إيماناً من بعفر، منهم السابق بالخيرات، ومنهم المقتصد، ومنهم الظالم لنفسه، منهم المحسن، ومنهم المؤمن، ومنهم المسلم، ليسوا في الدين سواء في مرتبة واحدة، بل فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم فوق بعض درجات. وقبل الشروع في ذكر هذه الأدلة القرآنية الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه أودّ التنبيه على نقطة هامة، وهي: أن كل دليل دلّ على زيادة الإيمان فهو يدل على نقصانه، وكذا العكس، فما دل على نقصان الإيمان فهو يدل على زيادته، فالآيات التي أوردها هنا وظاهرها الدلالة على زيادة الإيمان فقط، فهي تدل على نقص الإيمان باللزوم، وذلك لأن الزيادة تستلزم النقص، ولأن ما جاز عليه الزيادة جاز عليه النقص، ولأن الزيادة لا تكون إلا عن نقص. ولهذا فإنا نجد أهل العلم كثيراً ما يستشهدون بأدلة زيادة الإيمان على نقصانه وكذا العكس للأسباب المتقدمة، وتأمل- مثالاً على ذلك- صنيع البخاري في صحيحه فقد أورد بعض الآيات المصرحة بزيادة الإيمان في باب زيادة الإيمان ونقصانه مستدلاً بها على الزيادة والنقصان معاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قال ابن حجر في شرحه لهذا الباب:".. ثم شرع المصنف يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة"1. وقال في موضع آخر مبيناً أن الزيادة مستلزمة للنقص"والاستدلال بهما- أي: الآيتين في الباب- نص في الزيادة وهو يستلزم النقص2. وقال الكرماني مجيباً على ما قد يستشكل من: استدلال البخاري بالآيات على الزيادة والنقصان معاً مع أنها نص في الزيادة فقط:".. فإن قلت: هذه الآيات دلّت على الزيادة فقط، والمقصود بيان الزيادة والنقصان كليهما، قلت: كل ما قبل الزيادة لا بد وأن يكون قابلاً للنقصان ضرورة"3. أما النقول عن أهل العلم في هذا فكثيرة. قال الإمام أحمد رحمه الله:"إن كان قبل زيادته- أي الإيمان- تاماً فكما يزيد كذا ينقص"4. وقال أبو محمد بن حزم في فِصَله: (فإذ قد وضح وجود الزيادة في الإيمان ... فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورة ولا بد، لأن معنى الزيادة إنما هي عدد مضاف إلى عدد، وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقص عند عدم الزيادة   1 فتح الباري (1/ 47) وذكر نحوه القسطلاني في شرحه للصحيح (1/ 111) . 2 فتح الباري (1/ 104) . 3 شرح صحيح البخاري للكرماني (1/ 71) ، ونقله عنه العيني في شرحه للبخاري (1/111) . 4 رواه الخلال في السنة (2/688، ح1030) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فيه.."1. وقال ابن بطال في شرحه لبعض الآيات الدالة على زيادة الإيمان نصاً: "فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص"2. وقال البيهقي بعد أن ذكر جملة من الآيات المصرحة بزيادة الإيمان:"فثبت بهذه الآيات أن الإيمان قابل للزيادة، وإذا كان قابلاً للزيادة فعدمت الزيادة كان عدمها نقصاناً"3. وقال:"وإذا قبل الزيادة قبل النقص"4. وقال أبو الفضل التميمي5 في رسالته التي أملاها في ذكر معتقد الإمام أحمد6. وإن كان قد غلط في مواضع منها فيما نسبه للإمام. قال:" ... وما جاز عليه الزيادة جاز عليه النقص"7. وقال البغدادي بعد أن ذكر الآيات المصرحة بزيادة الإيمان:".. ففي هذه الآيات الست تصريح بأن الإيمان يزيد، وإذا صحت الزيادة   1 الفصل (3/ 237) . 2 نقله عنه النووي في شرح مسلم (1/146) . 3 شعب الإيمان (1/ 160) . 4 الاعتقاد (ص 116) . 5 هر الإمام الفقيه أبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمي البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 410 هـ انظر ترجمته في السير للذهبي (17/ 273) . 6 طبعت في آخر طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 291-307) ، وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الرسالة في درء التعارض (2/17) والفتاوى (6/53) 7 آخر طبقات الحنابلة (2/ 302) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فيه كان الذي زاد إيمانه قبل الازدياد أنقص إيماناً منه في حال الازدياد"1. ومن علماء عصرنا يقول العلامة الشيخ محمد العثيمين حفظه الله: "وكل نص يدل على زيادة الإيمان فإنه يتضمن الدلالة على نقصه وبالعكس، لأن الزيادة والنقص متلازمان لا يعقل أحدهما بدون الآخر"2. وبهذا يعلم أن كل دليل أورده هنا وهو نص في زيادة الإيمان، يعد دليلاً على الزيادة والنقصان معاً لزوماً وكذا العكس وبالله التوفيق. وفيما يلي أسوق بعض ما جاء في كتاب الله من أدلة على زيادة الإيمان ونقصانه مع بيانها، وبيان وجه دلالتها على المقصود، وهي على أنواع: أولاً- آيات فيها التصريح بزيادة الإيمان: جاء في كتاب الله في ستة مواضع منه، التصريح بزيادة الإيمان، وذلك في قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 3، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 4، وقوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ   1 أصول الدين (ص 253) . 2 فتح رب البرية بتلخيص الحموية (ص 63) . 3 سورة آل عمران، الآية: 173. 4 سورة الأنفال، الآية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 يَسْتَبْشِرُونَ} 1، وقوله: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} 2، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} 3، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 4. فهذه ستة مواضع من كتاب الله عز وجل صرح فيها سبحانه بزيادة الإيمان، وهذا من أوضح الأدلة وأظهرها على زيادة الإيمان، بل لا أدل منه على ذلك. وقد استدل بهذه الآيات على زيادة الإيمان ونقصانه علماء المسلمين من أهل السنة والجماعة. قيل لسفيان بن عيينة الإيمان يزيد وينقص قال: أليس تقرأون: {فزادهم إيماناً} 5، {وزدناهم هدى} 6 في غير موضع، قيل: فينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص7. وعقد البخاري في صحيحه باباً في زيادة الإيمان ونقصانه أورد فيه   1 سورة التوبة، الآية: 124. 2 سورة الأحزاب، الآية: 22. 3 سورة الفتح، الآية: 4. 4 سورة المدثر، الآية: ا 3. 5 سورة آل عمران، الآية: 173. 6 سورة الكهف، الآية: 13. 7 رواه الآجري في الشريعة (ص 117) ، وابن بطة في الإبانة (برقم: 1142) ورواه الخلال بنحوه في السنة (برقم: 1042) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 بعض هذه الآيات1. قال ابن بطال عند شرحها:"مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري من الآيات أي المصرحة بزيادة الإيمان ثم قال: فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص"2. وقال ابن كثير عند تفسير للآية الثانية من سورة الأنفال:".. وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري"3. وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً ... } 4"وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء"5. وممن استدل بهذه الآيات من أهل العلم الآجري في الشريعة حيث عقد باباً في ذكر ما دل على زيادة الإيمان ونقصانه أورد فيه جملة من الأحاديث والآثار الدالة على ذلك ثم قال:"كل هذه الآثار تدل على   1 صحيح البخاري مع الفتح (1/103) . 2 نقله النووي في شرح صحيح مسلم (1/146) . 3 تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/285) . 4 سورة التوبة، الآية: 124. 5 تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/402) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 زيادة الإيمان ونقصه، وسنذكر من القرآن ما يدل على ما قلنا.، وهذا طريق من أراد الله الكريم به خيراً ... فذكر جملة من هذه الآيات ثم قال: وهذا في القرآن كثير"1. وعقد اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة باباً في سياق ما جاء في القرآن والسنة من أدلة على زيادة الإيمان ونقصانه أورد فيه جملة من هذه الآيات2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 3، وهذه زيادة إذا تُليت عليهم الآيات أي: وقت تُليت ليس هو تصديقهم بها عند النزول، وهذا أمر يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات زاد في قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانيه من علم الإيمان ما لم يكن، حتى كأنه لم يسمع الآية إلا حينئذ، ويحصل في قلبه من الركبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن، فزاد علمه بالله ومحبته لطاعته، وهذه زيادة الإيمان، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 4، فهذه الزيادة عند تخويفهم بالعدو لم تكن عند آية نزلت فازدادوا يقيناً وتوكلاً على الله، وثباتاً على الجهاد وتوحيداً بألا يخافوا المخلوق، بل يخافون الخالق وحده، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً   1 الشريعة للآجري (116) . 2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (3/18) . 3 سورة الأنفال، الآية: 2. 4 سورة آل عمران، الآية: 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} 1، وهذه الزيادة ليس مجرد التصديق بأن الله أنزلها بل زادتهم إيماناً بحسب مقتضاها، فإن كانت أمراً بالجهاد أو غيره ازدادوا رغبة، وإن كانت نهيا عن شيء انتهوا عنه فكرهوه، ولهذا قال: {وهم يستبشرون} والاستبشار غير مجرد التصديق ... وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 2، وهذه نزلت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية فجعل السكينة موجبة لزيادة الإيمان، والسكينة طمأنينة في القلب غير علم القلب وتصديقه.."3. وقال ابن سعدى عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 4، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصه كما قاله السلف الصالح ويدل عليه قوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 5، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 6، ويدل عليه أيضاً الواقع فإن الإيمان قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، والمؤمنون متفاوتون في هذه الأمور أعظم تفاوت"7. وقال الألوسي عند تفسيره لقوله تعالى: {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ،"وهذا   1 سورة التوبة، الآيتان: 125- 126. 2 سورة الفتح، الآية: 4. 3 الإيمان (ص 215، 216) . 4 سورة مريم، الآية: 76. 5 سورة المدثر، الآية: 31. 6 سورة الأنفال، الآية: 2. 7 تفسير ابن سعدي (5/ 33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وبه أقول، لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلاً، بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل أيضاً، وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام واللازم باطل فكذا الملزوم"1. ثانياً- آيات فيها التصريح بزيادة الهدى: والهدى من الإيمان وقد جاء ذلك في القرآن في ثلاثة مواضع، وهي: قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} 2. وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 3، وقوله في أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 4. فهذه الآيات فيها تصريح الحق سبحانه بزيادة الهدى، والهدى من الإيمان كما دل على ذلك كتاب الله في نحو قوله سبحانه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} 5، وقوله: {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} 6، وقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح   1 روح المعاني (9/ 165) . 2 سورة مريم، الآية: 76. 3 سورة محمد، الآية: 17. 4 سورة الكهف، الآية: 13. 5 سورة البقرة، الآية: 137. 6 سورة عمران، الآية: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 صدره للإسلام} 1 وغيرها من الآيات. فإخبار الله سبحانه بزيادة الهدى دليل على زيادة الإيمان، ولهذا استدل أهل العلم بهذه الآيات على زيادة الإيمان ونقصانه. كما قال ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 2:"واستدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص"3. وهذه الآيات الدالة على زيادة الهدى هي نظير الآيات المتقدمة الدالة على زيادة الإيمان، قال ابن جرير الطبري عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 4:"يقول تعالى ذكره: ويزيد الله من سلك قصد المحجة واهتدى لسبيل الرشد، فآمن بربه، وصدق بآياته، فعمل بما أمره به، وانتهى عما نهاه عنه، هدي بما يتجدد له من الإيمان بالفرائض التي يفرضها عليه، ويقر بلزوم فرضها إياه ويعمل بها، فذلك زيادة من الله في اهتدائه بآياته هدى على هداه، وذلك نظير قوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 5"6. ثالثاً- إخباره سبحانه بزيادة الخشوع: وذلك في موضع واحد من كتابه، وهو قوله تعالى في وصف الذين   1 سورة الأنعام، الآية: 125. 2 سورة الكهف، الآية: 13. 3 تفسير ابن كثير (3/ 74) . 4 سورة مريم، الآية: 76. 5 سورة التوبة، الآية: 124. 6 جامع البيان (9/ 119) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أوتوا العلم من أهل الكتاب: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} 1. فإخبار سبحانه بزيادة الخشوع دليل على زيادة الإيمان، لأن الخشوع من الإيمان كما دلّ عليه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} 2، وقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} 3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أأعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله، وخشية الله تعالى ورجاؤه، ونحو ذلك، هي كلها من الإيمان، كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف، وهذا يتفاضل الناس فيه تفاضلاً عظيماً"4. قال ابن جرير في بيان معنى {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} 5"أي: ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعاً، يعني خضوعاً لأمر الله وطاعته، واستكانة له"6. وقال ابن كثير:"أي: إيماناً وتسليماً كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} " 7.   1 سورة الإسراء، الآية: 109. 2 سورة المؤمنون، الآيتان: 1- 2. 3 سورة الحديد، الآية: 16. 4 الإيمان (ص 222) . 5 سورة الإسراء، الآية: 109. 6 جامع البيان (9/ 181) . 7 تفسير ابن كثير (3/68) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 رابعاً- إخباره سبحانه بتفضيله بعض المؤمنين على بعض: كما في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 1، وقوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2، وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 4، ونحوها من الآيات. فهذه من أوضح الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه فبعضهم أقوى إيماناً من بعض، وتفضيل الله لهم وتمييزه بينهم إنما هو بإيمانهم وطاعتهم له لا بحسن صورهم أو كثرة أموالهم أو غير ذلك مما قد يكون معياراً للتفضيل عند الناس. قال ابن بطة رحمه الله في إبانته بعد أن ذكر بعض هذه الآيات: (فقد علم أهل العلم والعقل أن السابق أفضل من المسبوق والتابع دون   1 سورة النساء، الآيتان: 95- 96. 2 سورة الحديد، الآية: 10. 3 سورة النمل، الآية: 15. 4 سورة التوبة، الآية: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 المتبوع، وأن الله عز وجل لم يفضل الناس بعضهم على بعض برشاقة الأجسام ولا بصباحة الوجه، ولا بحسن الزي وكثرة الأموال، ولو كانوا بذلك متفاضلين لما كانوا به عنده ممدوحين، لأن ذلك ليس هو بهم ولا من فعلهم فعلمنا أن العلو في الدرجات والتفاضل في المنازل إنما هو بفضل الإيمان وقوة اليقين والمسابقة إليه بالأعمال الزاكية والنيات الصادقة من القلوب الطاهرة.. فهذا وأشباهه في كتاب الله يدل على زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل المؤمنين بعضهم على بعض وعلوهم في الدرجات.. ولو كان الإيمان كله واحداً لا نقصان له ولا زيادة لم يكن لأحد على أحد فضل"1. ثم قال رحمه الله:"وبذلك فضل الله أوائل هذه الأمة على أواخرها ولو لم يكن للسابقين بالإيمان فضل على المسبوقين للحق آخر هذه الأمة أولها في الفضل ولتقدمهم، إذ لم يكن لمن سبق إلى الله فضل على من أبطأ عنه، ولكن بدرجات الإيمان قدم السابقون، وبالإبطاء عن الإيمان أخّر المقصرون.. إلى أن قال: ألا ترى يا أخي رحمك الله كيف ندب الله المؤمنين إلى الاستباق إليه فقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 2 الآية وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} 3 الآية، فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجاتهم في السبق ثم ثنى بالأنصار على سبقهم ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان فوضع كل قوم على درجاتهم ومنازلهم عنده.. إلى أن قال: فهذه درجات الإيمان ومنازله تفاضل الناس بها عند الله واستبقوا إليه بالطاعة بها فالإيمان هو الطاعة، وبذلك فضل الله   1 الإبانة لابن بطة (2/ 836) . 2 سورة الحديد، الآية: 21. 3 سورة التوبة، الآية: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 المهاجرين والأنصار، لأنهم أطاعوا الله ورسوله.. إلى أن قال: فالإيمان يا أخي -رحمك الله- هو القول والعمل هو الطاعة، والقول تبع للطاعة والعمل، والناس يتفاضلون فيه على حسب مقادير عقولهم ومعرفتهم بربهم وشدة اجتهادهم في السبق بالأعمال الصالحة إليه"1. وقال أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين:"ومن قول أهل السنة أن الإيمان درجات ومنازل يتم ويزيد وينقص، ولولا ذلك استوى الناس فيه ولم يكن للسابق فضل على المسبوق، وبرحمة الله وبتمام الإيمان يدخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة يتفاضلون في الدرجات: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} 2، ومثل هذا في القرآن كثير"3. والآيات المتقدمة في صدر هذا النوع دلّت بمنطوقها على تفاضل أهل الإيمان فيه، وليس فيها تصريح بزيادة الإيمان ونقصانه فوجه دلالة الآيات على زيادة الإيمان ونقصانه يؤخذ من مفهوم الآيات دون منطوقها إذ إن فيها إخباراً بتفاضل أهل الإيمان فيه، وقد سبق بيان أن تفاضلهم إنما يكون بالإيمان دون غيره، فيفهم من هذا أن الإيمان بزيد وينقص، فمن زاده الله إيماناً أفضل ممن هو دونه في الإيمان، فالتفاضل بينهم في الإيمان حصل لكون إيمانهم يزيد وينقص والله أعلم. قال ابن عبد البر: (الإيمان مراتب بعضها فوق بعض، فليس الناقص فيه كالكامل) 4.   1 الإبانة لابن بطة (2/ 837- 0 84) . 2 سورة الإسراء، الآية: 21. 3 أصول السنة لابن أبي زمنين (2/ 776) . 4 التمهيد (9/ 244) وانظر الفتاوى لابن تيمية (12/ 474) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 خامساً- إخباره سبحانه بتفاضل درجات المؤمنين في الجنة: فهذا مما يدل على زيادة الإيمان، فتفاضلهم في درجات الجنة سببه تفاضلهم في الإيمان، فمن كان إيمانه أشد وأقوى كان أعلى درجة وأرفع من غيره، قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 1، وقال: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} 2، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 3، وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 4 وذكر بعض أوصافهما، ثم قال: {َمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} 5، وذكر بعض أوصافهما، وذكر سبحانه نحو هذا في سورة الواقعة، وجاء في السنة نحو هذا كثير، فهذا وأشباهه من أعظم الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه، وقد ميز الله بين درجات الجنة، وجعلها درجات بعضها أرفع من بعض، لأن المؤمنين ليسوا سواء في إيمانهم بالله، بل بعضهم أعظم وأشد وأقوى إيماناً من بعض، قال ابن حبان رحمه الله:"فمن أتى بالإقرار الذي هو أعلى شعب الإيمان، ولم يدرك العمل ثم مات أدخل الجنة، ومن أتى بعد الإقرار من الأعمال قل أو كثر أدخل الجنة، جنة فوق تلك الجنة، لأن من كثر عمله علت درجاته وارتفعت، لا أن الكل من المسلمين يدخلون جنة واحدة، وإن تفاوتت أعمالهم وتباينت، لأنها   1 سورة الأنفال، الآية: 4. 2 سورة الإسراء، الآية: 21. 3 سورة المجادلة، الآية: 11. 4 سورة الرحمن، الآية: 46. 5 سورة الرحمن، الآية: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 جنان كثيرة، لا جنة واحدة"1. وقال شيخ الإسلام:"فدرجة المؤمن القوي في الجنة أعلى وإن كان كل منهم كمل ما وجب عليه"2. وقال الشيخ حافظ حكمي في معارج القبول:"وكما أخبر الله تبارك وتعالى عن تفاوتهم في الإيمان في دار التكليف كذلك جعل الجنة التي هي دار الثواب متفاوتة الدرجات مع كون كل منهم فيها.. إلى أن قال: وأهل الجنة متفاوتون في الدرجات حتى إنهم يتراءون أهل عليين يرون غرفهم من فوقهم كما يرى الكوكب في الأفق الشرقي أو الغربي، ومتفاوتون في الأزواج، ومتفاوتون في الفواكه من المطعوم والمشروب، ومتفاوتون في الفرش والملبوسات ومتفاوتون في الملك، ومتفاوتون في الحسن والجمال والنور، ومتفاوتون في قربهم من الله عز وجل، ومتفاوتون في تكثير زيارتهم إياه، ومفاوتون في مقاعدهم يوم المزيد، ومتفاوتون تفاوتاً لا يعلمه إلا الله عز وجل ... "3. وما هذا التفاوت بينهم إلا لأنهم متفاوتون في الإيمان والتوحيد قوة وضعفاً زيادة ونقصاً. سادساً- إخباره سبحانه بإكمال الدين: وذلك في قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} 4.   1 انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (1/ 211) . 2 الإيمان لابن تيمية (ص 321) . 3 معارج القبول (2/ 409، 410) . 4 سورة المائدة، الآية: 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فهذه الآية تعد دليلاً واضحاً على زيادة الإيمان ونقصانه، وذلك لأن فيها التنصيص على إكمال الدين، وترك شيء من الكمال يعد نقصاً، وإذا ثبت النقص، فالنقص يستلزم حصول الزيادة.. وممن استدل بهذه الآية على زيادة الإيمان ونقصانه البخاري في صحيحه حيث عقد رحمه الله باباً في زيادة الأيمان ونقصانه أورد تحته ثلاث آيات منها هذه الآية، ثم أعقبها بقوله:"فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص"1. قال ابن حجر:".. وأما الكمال فليس نصاً في الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله للزيادة"2 وبهذا يظهر وجه استدلال البخاري بها. وقد وقع لسفيان ابن عيينة من قبل الاستدلال بهذه الآية بنظير ما أشار إليه البخاري رحمهما الله، فقد قال رجل لسفيان: يا أبا محمد ما تقول الإيمان يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله وينقص حتى لا يبقى معك منه شيء، وعقد بثلاثة أصابع وحلق بالإبهام والسبابة، فقال الرجل: فإن قوماً يقولون الإيمان كلام، قال: قد كان القول قولهم قبل أن تنزل أحكام الإيمان وحدوده، بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس أن يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.. فذكر بقية الأركان، الصلاة والزكاة والحج ثم قال: فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض ومثولهم لها، قال له: قل لهم:   1 صحيح البخاري مع الفتح (103/1) . 2 فتح الباري (1/ 104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} 1، فمن ترك شيئاً من ذلك كسلاً أو مجوناً أدبناه عليه، وكان عندنا ناقص الإيمان ومن تركها عامداً كان بها كافراً، هذه السنة أبلغ عني من سألك من المسلمين"2. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه نظير هذا الاستدلال بالآية، فقد أخرج الطبري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 3 أنه قال:"إن الله جل ثناؤه بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بشهادة ألا إله إلا الله فلما صدقوا بها زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} 4، فأوثق إيمان أهل الأرض وأهل السموات وأصدقه وأكمله شهادة ألا إله إلا الله، 5 إلا أن في إسناد هذا الأثر انقطاعاً، لأنه من رواية علي بن أبي طلحة6 عن   1 سورة المائدة، الآية: 3. 2 رواه أبو نعيم في الحلية (7/ 295، 296) ونقله عنه الحافظ في الفتح (1/103) وذكره الحليمي في المنهاج (1/ 84) من طريق عمرو بن عثمان الرقي، وهو ضعيف كما في التقريب. 3 سورة الفتح، الآية: 4. 4 سورة المائدة، الآية: 3. 5 تفسير الطبري (13/72) ، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/255 رقم:13028) ، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/351 رقم 353) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/23 رقم: 1602) وأخرجه أيضاً ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في دلائل النبوة كما في الدر المنثور (7/ 514) كلهم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. 6 هو علي بن أبي طلحة مولى بني العباس، سكن حمص صدوق قد يخطىء أرسل عن ابن عباس ولم يره مات سنة ثلاث وأربعبن ومائة، قال فيه الإمام أحمد: له أشياء منكرات، وقال دحيم: لم يسمع التفسير من ابن عباس، وقال أبو حاتم: على ابن أبي طلحة عن ابن عباس مرسل، وذكره الذهبي في الضعفاء. انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/ 191) والمراسيل له (ص 140) وجامع التحصيل للعلائي (ص 294) ، وتقريب التهذيب لابن حجر (2/39) ، والمغني في الضعفاء للذهبي (2/18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ابن عباس، وعلى هذا لم ير ابن عباس فروايته عنه مرسله وضعفه جماعه من أهل العلم. واستدل بهذه الآية أيضاً أبو عبيد في كتاب الإيمان فقال:"فذكر الله جل ثناؤه إكمال الدين في هذه الآية، وإنما نزلت فيما يروى قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى وثمانين ليلة.. فلو كان الإيمان كاملاً بالإقرار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أول النبوة.. ما كان للكمال معنى، وكيف يكمل شيئاً قد استوعبه وأتى على آخره"1. وقال محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة بعد أن ذكر هذه الآية:"فأخبر الله تبارك أنه أكمل للمؤمنين دينهم في ذلك اليوم، ولو كان قبل ذلك اليوم مكملاً تاماً لم يكن لإكمال ما كمل وتم معنى"2. قال ابن بطال:"هذه الآية حجة في زيادة الإيمان ونقصانه: لأنها نزلت يوم كملت الفرائض والسنن واستقر الدين، وأراد الله عز وجل قبض نبيه فدلت هذه الآية أن كمال الدين إنما يحصل بتمام الشريعة فتصور كماله يقتضي تصور نقصانه"3.   1 الإيمان لأبي عبيد (ص 62) ، وأشار إليه الحافظ في الفتح (1/ 103) . 2 تعظيم قدر الصلاة (1/ 349) . 3 نقله العيني في عمدة القاري (1/258) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"فأكمل الله الدين بإيجابه لما أوجبه من الواجبات التي آخرها الحج، وتحريمه للمحرمات المذكورة في هذه الآية، هذا من جهة شرعه، ومن جهة الفعل الذي هو تقويته وإعانته ونصره، يئس الذين كفروا من ديننا، وحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الإسلام، فلما أكملوا الدين قال عقب ذلك: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} إلى قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1 فكان إحلاله الطيبات يوم أكمل الدين، فأكمله تحريماً وتحليلاً لمَّا أكملوه امتثالاً"2. وظاهر كلام شيخ الإسلام يدل على أنه يرى أن الآية دليل على تفاضل الإيمان في قلوب المؤمنين، يظهر هذا من قوله:"فلما أكملوا الدين"وقوله:"لما أكملوه امتثالاً"، والإكمال كما هو معلوم لا يكون إلا عن نقص، والنقص يقتضي قبول الزيادة. وقال في شرحه للعقيدة الأصفهانية:"إن الإيمان الذي أوجبه الله تعالى يزيد شيئاً فشيئاً كما إن القرآن كان ينزل شيئاً فشيئاً، والدين يظهر شيئاً فشيئاً حتى أنزل الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } 3. فالآية ظاهرة الدلالة على زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه، وقد اعترض على استدلال البخاري المتقدم بهذه الآية بأنه يلزم منه أن من مات من الصحابة قبل نزول الآية كان إيمانه ناقصاً.   1 سورة المائدة، الآية: 3. 2 الفتاوى (20/152،153) وانظر مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (3/342) . 3 شرح العقيدة الأصفهانية (ص 139) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فأجاب عن هذا الاعتراض القاضي أبو بكر ابن العربي، ونقله عنه الحافظ ابن حجر: (بأن النقص أمر نسبي، لكن منه ما يترتب عليه الذم ومنه ما لا يترتب، فالأول ما نقصه بالاختيار كمن علم وظائف الدين ثم تركها عمداً، والثاني ما نقصه بغير اختيار كمن لم يعلم أو لم يكلف، فهذا لا يذم بل يحمد من جهة إن كان قلبه مطمئناً بأنه لو زيد لقبل ولو كلف لعمل وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض"1. قال ابن حجر:"ومحصله أن النقص بالنسبة إليهم صوري نسبي، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى، وهذا نظير قول من يقول إن شرع محمد أكمل من شرع موسى وعيسى لاشتماله من الأحكام على ما لم يقع في الكتب التي قبله، ومع هذا فشرع موسى في زمانه كان كاملاً، وتجدد في شرع عيسى بعده ما تجدد، فالأكملية أمر نسبي كما تقرر"2. وقال البيهقي: (وأما قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وما ورد في معناه، فإنه لا يمنع من قولنا بزيادة الإيمان ونقصانه، لأن معنى قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي: أكملت لكم وضعه، فلا أفرض عليكم من بعد ما لم أفرض عليكم إلى اليوم، ولا أضع عنكم بعد اليوم ما قد فرضته قبل اليوم، فلا تغليظ من الآن ولا تخفيف ولا نسخ ولا تبديل، وليس معناه أنه أكمل لنا ديننا من قبل أفعالنا، لأن ذلك لو كان كذلك لسقط عن المخاطبين بالآية الدوام على الإيمان، لأن الدين قد كمل وليس بعد الكمال شيء، فإذا كان الدوام على الإيمان مستقبلاً وهو إيمان فكذلك الطاعات الباقية التي تجب شيئاً فشيئاً كلها إيمان، والكمال راجع   1 فتح الباري (1/104) . 2 فتح الباري (1/104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 إلى إكمال الشرع والوضع لا إلى إكمال أداء المؤدين له وقيام القائمين به والله أعلم"1. وبما تقدم تعلم أن دلالة الآية على زيادة الإيمان ونقصانه ظاهرة ظهوراً واضحاً لا خفاء فيه، ومع هذا فقد تعقب السندي في حاشيته على سنن النسائي على استدلال النسائي بها على زيادة الإيمان ونقصانه فقال:"وفيه نسبة الإكمال للدين، وأخذ منه المصنف القول بزيادة الإيمان وفيه خفاء لا يخفى"2. قلت: بل هو ظاهر لا خفاء فيه، وما تقدم كاف في الإجابة على هذا الاعتراض. سابعاً- إخباره عن طلب نبيه إبراهيم عليه السلام اطمئنان القلب: وهذا زيادة في الإيمان، وذلك في قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ... } 3. قال ابن بطة رحمه الله:"يريد لازداد إيماناًً إلى إيماني، بذلك جاء التفسير"4.   1 شعب الإيمان للبيهقي (1/170) وقوله: (أي أكملت لكم وضعه ... إلخ) هو من كلام الحليمي في المنهاج (1/62) وكثيراً ما ينقل عنه البيهقى في شعب الإيمان. 2 حاشية السندي على"سنن النسائي (8/ 114) ،. 3 سورة البقرة، الآية: 260. 4 الإبانة لابن بطة (2/833) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 قال سعيد بن جبير: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 1:"ليزداد إيماني". وفي رواية:"أي: ازداد إيماناً مع إيماني"وفي رواية:"أي ليزداد يقيني"وهي ألفاظ متقاربة المعنى2. وقال مجاهد في تفسيرها:"أي: أزداد إيماناً إلى إيماني"3وروى ابن جرير رحمه الله نحو هذا التفسير للآية عن جماعة من السلف منهم: الضحاك، وقتادة، والربيع بن أنس، وإبراهيم النخعي4. ولهذا احتج البخاري بها في صحيحه على زيادة الإيمان ونقصانه، فأوردها في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بني الإسلام على خمس" وهو قول وعمل ويزيد وينقص. قال الحافظ ابن حجر في الشرح."أشار إلي تفسير سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما لهذه الآية، فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال: قوله: {ليطمئن قلبي} ، أي: يزداد يقيني، وعن مجاهد قال لأزداد إيماناً إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم عليه السلام مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أمر باتباع ملته، كأنه ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك"5. وقال الحليمي في المنهاج مبيناً وجه دلالة الآية على زيادة الإيمان   1 سورة البقرة، الآية: 260. 2 رواه عنه بهذه الألفاظ وببعضها: ابن جرير في تفسيره (3/ 50، 51) وعبد الله في السنة (1/369) ، والآجري في الشريعة (ص 118) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (5/ 24 رقم: 1603) وابن بطة في الإبانة (برقم 1120) وصحح اسناده الحافظ في الفتح (1/47) . 3 رواه ابن جرير في تفسيره (3/51) والبيهقي في الشعب (1/198) . 4 انظر تفسير الطبري (3/ 50، 51) .- 5 فتح الباري (1/47) وانظر شرح الكرماني لصحيح البخاري (1/73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ونقصانه:"ومعلوم أن طمأنينة القلب بصدق وعْد الله، أو بقدرته على ما أخبر أنه فاعله إيمان فإنما يسأل الله تعالى ما يزيده إيماناً على إيمان، فثبت بذلك أن الإيمان قابل للزيادة"1. وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (وأما قوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ... } فمن أعظم الأدلة على تفاوت الإيمان ومراتبه حتى الأنبياء فهذا طلب الطمأنينة مع كونه مؤمناً، فإذا كان محتاجاً إلى الأدلة التي توجب له الطمأنينة فكيف بغيره"2. ثامناً- أمره سبحانه المؤمنين بالإيمان: كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ... } 3 الآية. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ... } 4 الآية. فهذا ظاهر في الدلالة على أن الإيمان يزيد، فالله سبحانه أمرهم بالإيمان بعد أن وصفهم به، ومراده سبحانه بذلك أن يستكثروا من الأعمال الصالحة ويزدادوا إيماناً وإخلاصاً ويقيناً. قال ابن بطة في إبانته بعد أن أورد الآية دليلاً على زيادة الإيمان ونقصانه:"فلو لم يكونوا مؤمنين لما قال لهم يا أيها الذين آمنوا، وإنما أراد بقوله دوموا على أيمانكم وازدادوا إيماناً بالته وطاعته واستكثروا من   1 المنهاج في شعب الإيمان للحليمي (1/ 76) . 2 مجموع مؤلفات الشيخ قسم الفتاوى (ص 73) . 3 سورة النساء، الآية: 136. 4 سورة الحديد، الآية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الأعمال الصالحة التي تزيد في إيمانكم وازدادوا يقيناً وبصيرة ومعرفة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وقد يقول الناس بعضهم لبعض مثل ذلك في كل فعل يمتد ويحتمل الازدياد فيه، كقولك لرجل يأكل: كل تريد زد أكلك، ولرجل يمشي: امش تريد أسرع في مشيك، ولرجل يصلي أو يقرأ: صل أو أقرأ تريد زد في صلاتك. ولما كان الإيمان له بداية بغير نهاية، والأعمال الصالحة والأقوال الخالصة تزيد المؤمن إيماناً جاز أن يقال: يا أيها المؤمن آمن، أي: ازدد في إيمانك، ولا يجوز أن يقال ذلك في الأفعال المتناهية التي لا زيادة على نهايتها، كما لا تقول للقائم قم، ولا لرجل رأيته جالساً اجلس، لأن ذلك فعل قد تناهى فلا مستزاد فيه فهذا يدل على زيادة الإيمان لأنه كلما ازداد بالله علماً وله طاعة ومنه خوفاً كان ذلك زائداً في إيمانه"1: وقال أبو عبيد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... } 2:"فلولا أن هناك موضع مزيد، ما كان لأمره بالإيمان معنى"3. وقال ابن كثير في تفسيره:"يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه كما يقول المؤمن في كل صلاة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: بصرنا فيه   1 الإبانة لابن بطة (2/834) . 2 سورة النساء، الآية: 136. 3 الإيمان لأبي عبيد (ص 65) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وزدنا هدى وثبتنا عليه"1. قلت: وهذا يوضح ما جاء عن السلف قولهم:"تعالوا بنا نؤمن ساعة"أي: نردد إيماناً، وسيأتي قريباً إن شاء الله. وقال ابن سعدي في تفسيره:"اعلم أن الأمر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه، فهذا يكون أمراً له في الدخول فيه وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} 2 الآية. وإما أن يوجه إلي من دخل في الشيء، فهذا يكون أمره ليصحح ما وجده منه ويحصل ما لم يوجد، ومنه ما ذكره في هذه الآية3 من أمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات، ويقتضي أبضاً الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله، فإنه كلما وصل إليه نص وفهم معناه واعتقده فإن ذلك من المأمور به، وكذلك سائر الأعمال الظاهرة والباطنة، كلها من الإيمان كما دلّت على ذلك النصوص الكثيرة وأجمع عليه سلف الأمة.. إلى أن قال: وأمره هنا بالإيمان به وبرسله وبالقرآن وبالكتب المتقدمة، فهذا كله من الإيمان الواجب الذي لا يكون العبد مؤمناً إلا به، إجمالاً فيما لم يصل إليه تفصيله، وتفصيلاً فيما علم من ذلك بالتفصيل، فمن آمن هذا الإيمان   1 تفسير ابن كثير (1/566) . 2 سورة النساء، الآية: 47. 3 أي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، سورة النساء، الآية: 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 المأمور به فقد اهتدى وأنجح"1. تاسعاً- تقسيمه سبحانه المؤمنين إلى ثلاث طبقات: وذلك في قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} 2، ثم أخبر أنهم جميعاً في الجنة فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} 3. فهذا فيه دلالة ظاهرة على زيادة الإيمان ونقصانه، قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدى رحمه الله:"ومن زيادته ونقصانه. أي: الإيمان: أن قسم المؤمنين إلى ثلاث طبقات: سابقون بالخيرات، وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات فهؤلاء هم المقربون، ومقتصدون وهم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات وظالمون لأنفسهم وهم الدين تجرأوا على بعضي المحرمات وقصروا في بعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم فهذا منا أكبر البراهين على زيادة الإيمان ونقصه، فما أعظم التفاوت بين! هؤلاء الطبقات"4.   1 تفسير ابن سعدي (2/ 193، 194) ، وكلامه رحمه الله كلام محرر نفيس فتأمله. 2 سورة فاطر، الآية: 32. 3 سورة فاطر، الآية: 33. 4 التنبيهات اللطيفة (ص 50) وانظر المثل الذي ضربه ابن رجب في كتابه شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم (ص 44) وما بعدها في بيان انقسام الناس في إجابتهم لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقسام ثلاثة: سابق، ومقتصد، وظالم ولولا خشية الإطالة لنقلته لجودته وأهميته، وانظر أيضاً الفتاوى لابن تيمية (5/10 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقال شارح العقيدة الواسطية:"ومن الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه أن الله فسم المؤمنين ثلاث طبقات فقال سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} فالسابقون بالخيرات هم الذين أدوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات، وهؤلاء هم المقربون والمقتصدون هم الذين اقتصروا على أداء الواجبات وترك المحرمات، والظالمون لأنفسهم هم الذين اجترأوا على بعض المحرمات وقصروا في بعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم"1. وقد اختلف أهل التفسير في الظالم لنفسه هل هو من هذه الأمة أو لا؟ وأصح ما قيل أنه منهم ومن المصطفين علي ما فيه من تقصير، قال ابن كثير بعد أن أشار إلى هذا الخلاف:"والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهذا اختيار ابن جرير، كما هو ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً"2 ثم ذكر ما تيسر من الأحاديث والآثار الدالة على ذلك. قلت: لكنه قد يعاقب على ظلمه وتقصيره وتفريطه بخلاف السابق بالخيرات والمقتصد فإنهما لا يعاقبان. قال شيخ الإسلام:"والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه"3.   1 شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص 149) وانظر معارج القبول للحكمي (2/408) . 2 تفسير ابن كثير (3/555) . 3 الفتاوى (7/10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 عاشراً- أمره سبحانه بامتحان المؤمنات المهاجرات:. وذلك في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} 1الآية. استدل بهذه الآية على زيادة الإيمان ونقصانه أبو عبيد في كتابه الإيمان، فقال: ومما يبين لك تفاضله في القلب قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} . ألست ترى أن ها هنا منزلاً دون منزل {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 2. حادي عشر- إثباته سبحانه في القرآن إسلاماً بلا إيمان: وذلك في قوله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 3. فهؤلاء الأعراب مسلمون، إلا أنهم لم يصلوا إلى درجة ما ادعوه وهو الإيمان، فلهذا نفاه الله عنهم وأثبت لهم الإسلام وحده. قال شيخ الإسلام:"لم يأتوا بالإيمان الواجب، فنفى عنهم لذلك وإن كانوا مسلمين، معهم من الإيمان ما يثابون عليه"4. وقال ابن رجب:"وأما إذا نفي الإيمان عن أحد وأثبت له الإسلام   1 سورة الممتحنة، الآية: 10. 2 الإيمان لأبي عبيد (ص 65) . 3 سورة الحجرات، الآية: 14. 4 الإيمان (ص 230) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 كالأعراب الذين أخبر الله عنهم، فإنه ينتفي رسوخ الإيمان في القلب، وتثبت لهم المشاركة في أعمال الإسلام الظاهرة مع نوع إيمان يصحح لهم العمل، إذ لولا هذا القدر من الإيمان لم يكونوا مسلمين، وإنما نفى عنهم الإيمان لانتفاء ذوق حقائقه ونقص بعض واجباته وهذا مبني على أن التصديق القائم بالقلوب يتفاضل وهذا هو الصحيح ... "1. فالآية فيها دليل على أن الإيمان مراتب وأنه يتفاضل، فإذا كان كذلك فهو يزيد وينقص، ويزيد المسلم فيه حتى يبلغ أعلى درجات الدين، وينقص حتى لا يبقى منه شيء، والله أعلم. ثاني عشر- إخباره سبحانه بأن الذنوب تذهب الإيمان شيئاً فشيئاً حتى يطبع على القلب ويختم عليه من كثرة الذنوب. كما في قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2 وبهذا جاء التفسير لهذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن المؤمن إذا أذنب ذنباً نكت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها قلبه، فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال الله عز وجل: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3.   1 جامع العلوم والحكم (ص 28) . 2 سورة المطففين، الآية: 14. 3 رواه الترمذي (5/ 434) وابن ماجه؛ (2/ 1418) وأحمد (2/ 297) وابن جرير الطبري (15/ 98) والحاكم (2/ 517) والآجري في الشريعة (ص 111) وابن بطة في الإبانة (برقم: 1107) ، وعبد بن حميد وابن حبان وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب كما في الدر المنثور (8/445) من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة. وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح" وقال الحاكم:"هذا حديت صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. قلت: إلا أن ابن عجلان هذا حسن الحديث، وإنما أخرج له مسلم متابعة، ولهذا فالحديث حسن فقط، ولهذا اكتفى الألباني بتحسينه كما في صحيح الترمذي (3/ 127) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقد جاء تفسير الآية بذلك عن جمع من السلف: منهم حذيفة بن اليمان، وابن عمر، ومجاهد، والحسن، وإبراهيم التيمي، وقتادة، وغيرهم1. قال حذيفة رضي الله عنه:"القلب هكذا مثل الكف فيذنب الذنب فينقبض منه ثم يذنب الذنب فينقبض منه حتى يختم عليه فيسمع الخير فلا يجد له مساغاً.. يجمع فإذا اجتمع طبع عليه، فإذا سمع خيراً دخل في أذنيه حتى يأتي القلب فلا يجد فيه مدخلاً فذلك قوله: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 2. وقال مجاهد: كانوا يرون القلب مثل الكف، وذكر مثله3. وقال أيضاً في قوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ... } قال:"العبد يعمل بالذنوب فتحيط بالقلب ثم ترتفع، حتى تغشى القلب"4. وقال الحسن في الآية"الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت"5.   1 انظر تفسير الطبري (15/ 98-100) والدر المنثور (8/ 446- 448) . 2 أخرجه الفريابي والبيهقي (كما في الدر المنثور 8/ 446) . 3 أخرجه ابن جرير الطبري (15/ 99) وابن بطة في الإبانة (برقم:110) . 4 أخرجه ابن جرير (15/98) . 5 أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (8/447) ومن طريقه ابن جرير في تفسيره (5/98) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وقال إبراهيم التيمي في الآية:"إذا عمل الرجل الذنب نكت في قلبه نكتة سوداء ثم يعمل الذنب بعد ذلك فينكت في قلبه نكتة سوداء، ثم كذلك حتى يسود عليه.."1. ويشبه هذه الآية سواء قول الله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2. ولهذا قال مجاهد:"وهي مثل الآية التي في سورة البقرة فذكرها"3: قلت: ويؤيد هذا المعنى المتقدم للآية من حيث الجملة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب هواه" 4. وهذا الحديث ذكره شيخ الإسلام في كتابه الإيمان محتجاً به على زيادة الإيمان ونقصانه5.   1 أخرجه ابن المنذر كما في الدر المنثور (8/ 446) . 2 سورة البقرة، الآية:81. 3 تفسير ابن جرير (15/100) . 4 أخرجه مسلم 21/ 71 نووي) ومعنى أشربها أي: (دخلت فيه، والصفا هو: الحجر الأملس، والمرباد: هو شدة البياض في سواد، ومجخيا أي مائلا وراجع شرح النووي للحديث. 5 الإيمان (ص 213) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المبحث الثاني أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من السنة لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها دلالة ظاهرة على زيادة الإيمان ونقصانه، بل إن بعضها فيه التصريح بذلك. وفي هذا المبحث أورد بعض ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم مما يدل على ذلك إما تصريحاً أو تضمناً، مع بيان وجه دلالته، وأتبع ذلك بذكر بعض أقوال أهل العلم ممن احتج بهذه الأحاديث على الزيادة والنقصان. وليعلم قبل مطالعة هذه الأدلة أن كل دليل على زيادة الإيمان فهو دليل على نقصانه، وكذا العكس، لأن الزيادة تستلزم النقص ولأن قبول الشيء للزيادة دليل على قبوله للنقص، وقد سبق التنبيه على هذا في صدر المبحث الأول بأوسع من هنا فليراجع. وفيما يلي أورد أدلة من السنة على زيادة الإيمان ونقصانه مستمداً العون من الله وحده: 1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن) 1.   1 أخرجه البخاري (5/119، 10/ 30، 12/58، 12/ 14 فتح) ، ومسلم (2/41 نووي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فالمراد بهذا الحديث نفي كمال الإيمان الواجب عمن اقترف هذه المعاصي وأنه"لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، ومما يدل على هذا التأويل حديث أبي ذر وغيره:"من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق" 1، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على ألا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا، إلى آخره، ثم قال:"فمن وفى فأجره على الله ومن فعل شيئاً من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه" 2. فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولاً، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة"4.   1 رواه البخاري (10/283 فتح) ومسلم (1/95) . 2 رواه البخاري (1/ 64 فتح) ومسلم (3/1333) . 3 سورة النساء، الآيتان: 48، 116. 4 شرح مسلم للنووي (2/41) بتصرف يسير، وانظر شعب الإيمان للبيهقي (1/179) ومنهاج السنة لابن تيمية (5/297) والفتاوى (11/653، 654) ، ومجموعة الرسائل والمسائل (3/ 342) ، والرد على الأخنائي (ص 316) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قال ابن عبد البر1 بعد أن ذكر حديث أبي هريرة:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وبين أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وهو مؤمن: أي مستكمل الإيمان، قال:"ولم يرد نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك، بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام من قرابتهم المؤمنين الذين آمنوا بتلك الأحوال. وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم أوضح الدلائل على صحة قولنا: إن مرتكب الذنوب ناقص الإيمان بفعله ذلك، وليس بكافر كما زعمت الخوارج في تكفيرهم المذنبين"2. ودلالة الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه ظاهرة مما- تقدم، فالمؤمن قد يرتكب هذه المعاصي فينقص إيمانه فيكون مؤمناً ناقص الإيمان، معه مطلق الإيمان وانتفى عنه الإيمان المطلق، فإذا تاب وأقلع عن هذه المعاصي زاد إيمانه. وقد احتج جماعة من أهل العلم بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه، منهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله. قال إسحاق بن إبراهيم3: سألت أبا عبد الله عن الإيمان ونقصانه   1 هو الإمام العلامة حافظ المغرب شيخ الإسلام أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الأندلسي القرطبي المالكي صاحب التصانيف الفائقة توفي سنة ثلاث وستين وأربع مائة انظر ترجمته في السير للذهبي (18/153) . 2 التمهيد لابن عبد البر (9/243) وانظر تهذيب الآثار للطبري السفر الثاني (ص 650) وجامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 27) . 3 هو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم النيسابوري، خدم الإمام أحمد وهو ابن تسع سنين، وكان ديناً ورعاً، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة توفي في بغداد سنة خمس وسبعين ومائتين انظر طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/108) وسير أعلام النبلاء للذهبي (13/19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قال: نقصانه قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن" 1. وقال المروذي2: سمعت أبا عبد الله يقول:."الإيمان قول وعمل يزبد وينقص وقال: الزيادة من العمل، وذكر النقصان إذا زنى وسرق3. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي رحمه الله وسئل عن الإرجاء فقال: نحن نقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص إذا زنى وضرب الخمر نقص إيمانه4. وممن احتج به أبو داود فقد خرّجه في سننه في باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه5 وقال ابن القيم رحمه الله في تهذيبه للسنن بعد أن أضاف إلى هذا الحديث جملة من الأحاديث الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه:"وكل هذه النصوص صحيحة صريحة لا تحتمل التأويل في أن   1 رواه الخلال في السنة (برقم: 1545) وابن هاني في مسائله (2/ 164) ، وأما الحديث فقد تقدم تخريجه. 2 هو الإمام المحدث شيخ الإسلام أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي، صاحب الإمام أحمد كان إماماً في السنة شديد الإتباع، له جلالة عجيبة ببغداد، روى عن الإمام أحمد مسائل كنيرة توفي سنة خمس وسبعين ومائتين انظر سير أعلام النبلاء (13/ 175) . 3 رواه الخلال في السنة (برقم: 1035) وابن بطة في الإنابة (برقم: 1045) . 4 السنة لعبد الله (1/307) . 5 سنن أبي داود (4/ 221) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 نفس الإيمان القائم بالقلب يقبل الزيادة والنقصان"1. واحتج به البيهقي فقد أخرجه في باب القول في زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهل الإيمان في إيمانهم من كتابه الشعب ثم قال بعده:"وإنما أراد- والله تعالى أعلم-"وهو مؤمن"مطلق الإيمان، لكنه ناقص الإيمان بما ارتكب من الكبيرة، وترك الانزجار عنها، ولا يوجب ذلك تكفيراً بالله عز وجل.."2واحتج به الخلال3 والآجري4 وابن بطة5 وابن مندة6 وغيرهم من أهل العلم. 2- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" 7. ففي هذا الحديث"بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أعلى وأدنى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق- بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جملة أجزائها، كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها"8.   1 تهذيب السنن لابن القيم (7/ 55، 56) بهامش مختصر السنن للمنذري. 2 شعب الإيمان للبيهقي (1/179) . 3 في السنة (2/693) . 4 في الشريعة (ص 113) . 5 في الإبانة (2/ 741) . 6 في الإيمان (2/ 574) . 7 أخرجه البخاري (1/ 51 فتح) ومسلم (2/ 6 نوري) وهذا لفظ مسلم. 8 معالم السنن لخطابي (7/43،44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وهذه الشعب متفاوتة ليست على درجة واحدة في الفضل، بل بعضها أفضل من بعض، كما هو ظاهر لفظ الحديث في قوله:"أعلاها "وقوله:"أدناها"، فشعب الإيمان منها ما يزول الإيمان بزوالها إجماعاً كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعاً كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً منها ما يقرب من شعبة الشهادتين، ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى"1. وجميع هذه الشعب والخصال متفرعة، إما عن أعمال القلب، أو أعمال اللسان أو أعمال الجوارح، ونصيب العبد من الإيمان بحسب نصيبه من هذه الشعب قلة وكثرة، قوة وضعفاً، تكميلاً وتقصيراً، تماماً ونقصاً، ولا شك أن الناس متفاوتون في ذلك تفاوتاً عظيماً فقيامهم بهذه الشعب والخصال ليس على درجة واحدة، بل بعضهم أكمل من بعض، فمنهم المحسن ومنهم المسيء، فهذا من أوضح الدلائل على زيادة الإيمان ونقصانه، وتفاضل أهله فيه. وقد استدل به الترمذي على زيادة الإيمان ونقصانه، فخرجه في باب"ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه"، من سننه2. وبوب له ابن حبان في صحيحه بقوله:"ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص"3ثم ذكر حديث أبي هريرة. وقال ابن مندة بعد ذكره لحديث الشعب في كتابه الإيمان:"والعباد   1 شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص 322) . 2 السنن (5/10) . 3 انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان (1/ 194) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 يتفاضلون في الإيمان على قدر تعظيم الله في القلوب والإجلال له والمراقبة لله في السر والعلانية، وترك اعتقاد المعاصي، فمنها قيل الإيمان يزيد وينقص"1. وقال الخطابي:"وفي هذا الباب إثبات التفاضل في الإيمان، وتباين المؤمنين في درجاته"2. وقال صديق حسن خان بعد أن ذكر حديث الشعب:"وفي هذا دليل على أن الإيمان فيه أعلى وأدنى وإذا كان كذلك كان قابلاً للزيادة والنقصان"3. وقال الشيخ العلامة ابن سعدي بعد ذكره لحديث أبي هريرة:"وهذا صريح في أن الإيمان يزيد وينقص بحسب زيادة هذه الشرائع والشعب، واتصاف العبد بها أو عدمه، ومن المعلوم أن الناس يتفاوتون فيها تفاوتاً كثيراً، فمن زعم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فقد خالف الحس، مع مخالفته لنصوص الشرع كما ترى"4. وقال الشيخ الهراس في شرحه للواسطية:"ومن ذهب إلى أن الإيمان غير قابل للزيادة أو النقصان فهو محجوج بقوله صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" فالإيمان المطلق مركب من الأقوال والأعمال والاعتقادات، فهي ليست كلها بدرجة   1 الإيمان (1/ 300) . 2 معالم السنن (7/ 44) وانظر أعلام الحديث له (1/ 144) والإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان (1/ 192) . 3 فتح البيان في مقاصد القرآن (4/ 6) . 4 التوضيح والبيان لشجرة الإيمان (ص 14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 واحدة"1. ثم إن في الحديث دلالة أخرى على زيادة الإيمان ونقصانه، وذلك بجعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، الحياء من الإيمان، ومن المعلوم المسلم به عظم اختلاف الناس في القيام بهذه الخصلة وتفاوتهم فيها، لذا قال ابن حبان في صحيحه بعد أن ذكر الحديث:" ... فمن الناس من يكثر ذلك فيه"أي الحياء"، ومنهم من يقل ذلك فيه، وهذا دليل صحيح على زيادة الإيمان ونقصانه، لأن الناس ليسوا كلهم على مرتبة واحدة في الحياء، فلما استحال استواؤهم على مرتبة واحدة فيه صح أن من وجد فيه أكثر كان إيمانه أزيد، ومن وجد فيه منه أقل كان إيمانه أنقص"2. ومما يدل على تفاضل الناس في الحياء قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر "الحياء من الإيمان وأحيا أمتى عثمان" 3. قلت: وفي هذا أيضاً أبين دلالة على أن الزيادة والنقصان في الإيمان كما أنها شاملة لأعمال الجوارح الظاهرة فهي كذلك شاملة لأعمال القلوب الباطنة. 3- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا إيمان لمن لا أمانة له" 4.   1 شرح العقيدة الواسطية (ص 149) بتصرف. 2 انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان (1/ 194، 195) . 3 أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في الجامع الصغير للسيوطي (153/1) وصححه الألباني انظر السلسلة الصحيحة (4/ 442) . 4 أخرجه أحمد في المسند (3/ 135) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (11/11) وفي الإيمان (ص 5) وابن حبان في صحيحه (1/ 208 الإحسان) والبغوي في شرح السنة (1/ 75) وقال البغوي:"هذا حديث حسن وصححه الألباني في تحقيقه للإيمان لابن أبي شيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فهذا الحديث دليل على أن من لا أمانة له، فقد نقص فيه شيء من واجبات هذا الدين، فيذهب عنه كمال الإيمان الواجب وتمامه، ويكون بذلك مؤمناً ناقص الإيمان1. يوضح الاستدلال بهذا الحديث ويبينه ما جاء عن عروة بن الزبير رحمه الله أنه قال:"ما نقصت أمانة عبد قط إلا نقص إيمانه"2، فنقص الأمانة في العبد دليل على نقص الإيمان وضعفه فيه ولهذا لما سئل الإمام أحمد رحمه الله مرة عن نقصان الإيمان احتج بهذا، قال الفضل بن زياد3 سمعت أبا عبد الله وسئل عن نقص الإيمان فقال: حدثنا وكيع عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه قال:"ما انتقصت أمانة رجل إلا نقص إيمانه"4. وقاد الشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله:"إذا عرفت أن كلاً من الأعمال الظاهرة والباطنة من مسمى الإيمان شرعاً، فكل ما نقص من الأعمال التي لا يخرج نقصها   1 انظر الفتاوى (11/653) . 2 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 12) وفي الإيمان (ص 6) ، وعبد الله في السنة (1/368) والخلال في السنة (ق 159/ ب) والآجري في الشريعة (ص 118) والبيهقي في الشعب (1/197) وابن بطة في الإبانة (برقم:1147) . 3 هو أبو العباس الفضل بن زياد القطان البغدادي، كان من المتقدمين عند أبي عبد الله، وكان أبو عبد الله يعرف قدره ويكرمه روى عن الإمام مسائل كثيرة جياد، وحدث عنه جماعة انظر طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/251) . 4 رواه الخلال في السنة (برقم: 789) والآجري في الشريعة (ص 118) وابن بطة في الإبانة (برقم 1148) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 من الإسلام فهو نقص قي كمال الإيمان الواجب كما في قوله صلى الله عليه وسلم "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" فالمنفي في هذا الحديث كمال الإيمان الواجب، فلا يطلق الإيمان على مثل أهل هذه الأعمال إلا مقيداً بالمعصية أو بالفسوق، فيقال مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته"1. 4- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير وبخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير" 2. فهذا الحديث، ومثله حديث الشفاعة الطويل3 ونحوهما من الأحاديث الدالة على أن القائلين"لا إله إلا الله"متفاوتون في إيمانهم، وأن منهم من يدخل النار بتفريطه وتقصيره في الطاعة إلا أنه لا يخلد فيها لوجود أصل الإيمان معه، فيها دلالة واضحة على زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهل الإيمان فيه. فلا يسوى في الإيمان بين من منعه إيمانه من دخول النار كلية، وبين من لم يمنعه إيمانه من دخولها لتفريطه وكثرة معاصيه، وكذلك لا يسوى بين من استوجبت له معاصيه أن يمكث فترة قصيرة في النار، وبين من استوجبت له أن يمكث فترة أطول.   1 الدرر السنية (1/ 162، 163) ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية (2/ 3، 4) بتصرف. 2 أخرجه البخاري (1/ 153 فتح) ومسلم (3/ 59 نووي) . 3 أخرجه البخاري (13/ 473 فتح) ومسلم (1/182) عن أنى بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فالحديث من أظهر الأدلة وأوضحها على زيادة الإيمان ونقصانه، وهو أحد أدلة أهل السنة والجماعة الكثيرة على زيادة الإيمان ونقصانه. قال أبو بكر الأثرم1: قيل لأبي عبد الله: فنقول الإيمان يزيد وينقص فقال:"حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك قوله"أخرجوا من في قلبه كذا، أخرجوا من كان في قلبه"فهذا يدل على ذلك"2. وقال عبد الملك بن عبد الحميد3 سمعت أبا عبد الله: ذكر نقصان الإيمان واستدل له بحديث:" يخرج من النار من في قلبه حبة" وحديث:"لا يزنى الزاني" 4. وقد احتج البخاري في جامعه الصحيح بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه، فخرجه في"باب زيادة الإيمان ونقصانه من كتاب الإيمان5.   1 هو الإمام الجليل الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن هانىء الطائي الأثرم الاسكافي، نقل مسائل كثيرة عن الإمام أحمد وبوبها ورتبها، توفي في سنة إحدى وستين ومائتين أو في حدودها انظر ترجمته في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 66) والعبر للذهبي (1/374) . 2 رواه الخلال في السنة (برقم: 1041) وذكره شيخ الإسلام في كتابه الإيمان (ص 242) . 3 هو الإمام العلامة الحافظ الفقيه أبو الحسن عبد الملك بن عبد الحميد بن شيخ الجزيرة ميمون بن مهران الميموني الرقي، تلميذ الإمام أحمد، ومن كبار الأئمة، كان عالم الرقة ومفتيها في زمانه، توفي سنة أربع وسبعين ومائتين. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (13/89) . 4 رواه الخلال في السنة (برقم: 1046) ونقلته منه بمعناه. 5 صحيح البخاري (1/103 فتح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وكذلك احتج به ابن خزيمة في كتابه التوحيد حيث قال:"باب ذكر الأخبار المصرحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما يخرج من النار من كان في قلبه في الدنيا إيمان دون من لم يكن في قلبه في الدنيا إيمان ممن كان يقر بلسانه بالتوحيد خالياً من الإيمان مع البيان الواضح أن الناس يتفاضلون في إيمان القلب، ضد قول من زعم من غالية المرجئة أن الإيمان لا يكون في القلب، وخلاف قول من زعم من غير المرجئة أن الناس إنما يتفاضلون في إيمان الجوارح الذي هو كسب الأبدان فإنهم زعموا أنهم متساوون في إيمان القلب الذي هو التصديق وإيمان اللسان الذي هو الإقرار ... "1. ثم أورد بعض الأحاديث في الباب، منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال البيهقي بعد أن ذكر الحديث وغيره محتجاً بها على زيادة الإيمان ونقصانه:"والأحاديث في ... أن الإيمان يزيد وينقص سوى ما ذكرنا كثيرة"2. وقال أبو حامد الغزالي"وقد ظهر أن ما قاله السلف من زيادة الإيمان ونقصانه حق، وكيف لا وفي الأخبار"أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"وفي بعض المواضع في خبر آخر"مثقال دينار"فأي معنى لاختلاف مقاديره إن كان ما في القلب لا يتفاوت"3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:" ... وأما الصحابة وأهل السنة والحديث فقالوا: إنه يزيد وينقص، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يخرج من النار   1 التوحيد (ص 293، 294) . 2 الاعتقاد (ص 119) . 3 الاحياء (1/213) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان" 1. واحتج به الذهبي في السير2 وابن القيم كما في تهذيبه لسنن أبي داود3. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم بعد هذا الحديث:"وفي هذا الحديث دلالة لمذهب السلف وأهل السنة ومن وافقهم من المتكلمين في أن الإيمان يزيد وينقص، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة"4. وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:"قوله سبحانه في الحديث"أخرجوا من النار من في قلبه مثقال ذرة"إلى آخره، يوافق ما ذكرناه5 فإن الإيمان أعلى من الإسلام، فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر، فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام الذي ينفعه وإن كان ناقصاً"6. 5- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً" 7.   1 منهاج السنة النبوية (5/ 205) وانظر الفتاوى (11/654) . 2 انظر سير أعلام النبلاء (11/363) . 3 تهذيب السنن (7/ 55) . 4 شرح صحيح مسلم (3/63) ، وانظر شرح صحيح البخاري للنووي (ص 224) . 5 يقصد تفريقه بين الإسلام والإيمان. 6 الدرر السنية (1/117) ومجموع مؤلفاته" قسم السيرة والفتاوى" (ص 57) . 7 رواه أحمد (2/250/ 472) وابن أبي شيبة في المصنف (11/27) وفي الإيمان (ص 8) وأبو داود (4/220) والترمذي (3/ 466) والآجري في الشريعة (ص 115) وابن حبان في صحيحه (475 موارد) وعبد الله في السنة (1/350) وابن أبي زمنين في أصول السنة (2/784) والحاكم في المستدرك (1/3) وأبو نعيم في الحلية (9/248) وابن عبد البر في التمهيد (9/237) والبيهقي في الشعب (1/161) وفي الاعتقاد (ص 118) والذهبي في السير (12/206) من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم والذهبي، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/511) ، وله شواهد كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فهذا الحديث فيه دلالة على أن حسن الخلق من الإيمان، وأن المسلم كلما ازداد منه زاد إيمانه وارتقى إلى الكمال، وأن النقص منه نقص من الإيمان، فهو يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بحسن الخلق وينقص بنقصه، كما أنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. قال ابن عبد البر:"ومعلوم أنه لا يكون هذا أكمل، حتى يكون غيره أنقص"1. وقد احتج بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه أبو داود، فخرجه في"باب زيادة الإيمان ونقصانه". والترمذي فخرجه في"باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه"، من سننهما. وقال الحليمي2:"فدل هذا القول على أن حسن الخلق إيمان، وأن عدمه نقصان إيمان، وأن المؤمنين متفاوتون في إيمانهم، فبعضهم أكمل إيماناً من بعض"3. وقال شيخ الإسلام:"والإيمان عندهم- أي أهل السنة- يتفاضل،   1التمهيد لابن عبد البر (9/245) . 2هو القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي، له مصنفات عديدة من أشهرها"المنهاج" توفي سنة ثلاث وأربعمائة، انظر السير للذهبي (17/231) . 3المنهاج (1/61) ، ونقله عنه البيهقي في الشعب (1/161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 لأن الترك هنا تكليف، وإن كانت مع ذلك توصف بنقص الدين. وليس المراد هنا بوصف النساء بنقص الدين تثريبهن ولومهن على ذلك، لأن هذا من أصل الخلقة، وإنما المراد بذلك هو التنبيه على ذلك تحذيراً من الافتتان بهن، ولهذا رتب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره لا على النقص1. وهذا الحديث هو أحد الدلائل القوية لأهل السنة والجماعة على زيادة الإيمان ونقصانه، إذ فيه التصريح بنقص الدين، وأما الزيادة فمصرح بها في القرآن، كما تقدم. ولهذا فقد احتج به غير واحد من أهل العلم على ذلك. فقد خرجه أبو داود في سننه في،"باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه"2، وخرجه الترمذي في"باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه"3. قال البغوي مبيناً عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان:"وقالوا إن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء"4 يشير إلى حديثنا هذا. وقال أبو محمد بن حزم:"وقد جاء النص بذكر النقص وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور المنقول نقل الكواف أنه قال للنساء (ما رأيت من   1 انظر فتح الباري لابن حجر (1/ 456) . 2 سنن أبي داود (4/ 219) . 3 سنن الترمذي (5/ 10) . 4 شرح السنة (1/39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الخازم منكن" 1. وبوب له النووي في شرحه لمسلم"باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات ... ) 2، وقال:"وفيه بيان زيادة الإيمان ونقصانه"3. وقال الحليمي في المنهاج"ومما يدل على أن الإيمان يزيد وينقص قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء أإنكن ناقصات عقل ودين ... " ... "4. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية"والقرآن نطق بالزيادة في غير. موضع، ودلت النصوص على نقصه كقوله"لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن"لكن لم يعرف اللفظ إلا في قوله في النساء"ناقصات عقل ودين"وجعل من نقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وبهذا استدل غير واحد على أنه ينقص"5. 7- حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَن أحبّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان" 6.   1 الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/237) . 2 شرح صحيح مسلم (2/65) . 3 المصدر نفسه (2/ 67) . 4 المنهاج (1/ 63) . 5 الفتاوى (13/51) وانظر الفتاوى (7/233) . 6 رواه أبو داود (4/ 220) وابن أبي الدنيا في الاخوان (ص 102) والطبراني في الكبير (برقم: 7737) وابن بطة في الإبانة (2/658) والبغوي في شرح السنة (13/ 54) والبيهقي في الاعتقاد (ص 118) . وحسن الألباني إسناده وله شاهد عن حديث سهل بن معاذ عن أبيه رواه الترمذي (4/ 670) وأحمد (3/ 445) والبيهقي في الشعب (1/128) وحسن الألباني إسناده، ثم قال:"فالحديث بمجموع الطريقين صحيح". انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/657) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ففي هذا الحديث بيان أن المسلم"إذا كان حبه لله ومنعه لله وهما عمل قلبه، وعطاؤه لله ومنعه لله وهما عمل بدنه، دل على كمال محبته لله، ودل ذلك على كمال الإيمان، وذلك أن كمال الإيمان أن يكون الدين كله لله، وذلك بعبادة الله وحده لا شريك له، والعبادة تتضمن كمال الحب وكمال الذل، والحب مبدأ جميع الحركات الإرادية، ولا بد لك من حب وبغض، فإذا كانت محبته لمن يحبه الله، وبغضه لمن يبغضه الله، دل ذلك على صحة الإيمان في قلبه، لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها، الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس، فإذا كان حبه لله وعطاؤه لله ومنعه لله، دلّ على كمال الإيمان باطناً وظاهراً"1. فالحديث بهذا من أوضح الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه، لتفاوت الناس في عمل القلب وعمل الجوارح المذكورين في الحديث تفاوتاً عظيماً، بل إن الفرد المسلم تختلف أحواله من وقت لآخر من جهة القيام بهذه الأعمال. ثم إن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:"فقد استكمل الإيمان" ظاهر الدلالة على زيادة الإيمان ونقصانه، لأن الاستكمال لا يكون إلا عن نقص، وإذا ثبت النقص فإنه مستلزم للزيادة. فالإيمان يزيد حتى يصل إلى درجة الكمال، وينقص حتى لا يبقى منه شيء. وقد احتج أبو داود في سننه بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه فخرجه في"باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه"، وكذا البيهقي في   1 الفتاوى لابن تيمية (10/ 754) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 كتاب الاعتقاد ثم قال بعد أن ذكره مع غيره من الأحاديث الدالة على ذلك:"والأحاديث في ... أن الإيمان يزيد وينقص سوى ما ذكرنا كثيرة، وفيما ذكرنا هنا كفاية) 1. 8- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول: (إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا) 2. فقد أفاد هذا الحديث أن الناس متفاضلون في معرفة الله وتقواه وهما من أعظم أعمال الإيمان، وأن أفضل الناس وأتقاهم لله عز وجل وأعظمهم معرفة به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودلالة الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه واضحة، لأن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله وتقوى له ازداد إيماناً. قال ابن حجر في شرحه للحديث:"وفيه دليل على زيادة الإيمان ونقصانه، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله" ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم منه في أعلى الدرجات، والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك فهذا هو الإيمان حقاً"3. وقد بوب البخاري لهذا الحديث في كتاب الإيمان من صحيحه بـ"باب قول النبي صلى الله عليه وسلم"وأنا أعلمكم بالله"وأن المعرفة فعل القلب". واستدل لذلك بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ   1 الاعتقاد للبيهقي (ص 118) . 2 أخرجه البخاري (1/ 70 فتح) . 3 فتح الباري (1/70) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قُلُوبُكُمْ} 1، ومراده من هذا أن يبرهن على أن الإيمان لا يتم بالقول وحده، بل لا بد من ضم الاعتقاد إليه، والإعتقاد فعل القلب2. وهذا فيه دلالة على أن التقوى ومعرفة الله من الإيمان، والحديث دل على تفاضل الناس فيهما، فأعمال القلوب إذن متفاضلة والإيمان فيها يزيد وينقص. ومثل هذا الحديث في الدلالة حديث أبي ذر رضي لله عنه القدسي الطويل وفيه قال الله تعالى "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً" 3 .... الحديث. فهو يدل على أن الناس يتفاضلون في التقوى والله أعلم. 9- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 4. بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مراتب إنكار المنكر، وأنه حسب الاستطاعة فإما أن يغير باليد أو باللسان أو بالقلب، بمعنى يكرهه بقلبه، وهذه المراتب الثلاث للإنكار يقوم بها المكلف على قدر استطاعته، ولا شك أن المرتبة الأخيرة باستطاعة جميع المكلفين، فمن رأى المنكر ولم يكرهه بقلبه وهو يعلم أنه منكر فإن هذا يكون علامة على ضعف إيمانه.   1 سورة البقرة، الآية: 225. 2 انظر فتح الباري (1/70) . 3 أخرجه مسلم (4/ 1994) . 4 رواه مسلم (2/ 22 نووي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وما من شك في أن المكلفين متفاضلون في القيام بهذه المراتب، فمنهم من ينكر بيده، ومنهم من ينكر بلسانه، ومنهم من ينكر بقلبه، فمن أنكر بيده فهو أفضل ممن أنكر بلسانه، ومن أنكر بلسانه فهو أفضل ممن أنكر بقلبه فقط. فالناس إذا يتفاضلون في الإيمان، فبعضهم يزداد إيمانه حتى ينكر المنكر بيده وبعضهم يضعف إيمانه فلا ينكر المنكر إلا بقلبه، فالحديث بهذا من أوضح الدلائل وأبينها على زيادة الإيمان ونقصانه. ثم إن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:"وذلك أضعف الإيمان"تصريح بأن الإيمان يضعف، وضعفه نقصان، فالإيمان ينقص بنقص الطاعة وارتكاب المعصية، كما أنه يزيد بفعل الطاعة والبعد عن المعصية. وقد احتج بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه النسائيُ في سننه فبوب له بـ"باب تفاضل أهل الإيمان"1. وابن منده في كتابه الإيمان فقال:"ذكر خبر يدل على أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالأركان يزيد وينقص"2 ثم ذكر حديث أبي سعيد رضي الله عنه. وبوب له النووي في شرحه لمسلم بـ"باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص ... "3. ومثل هذا الحديث في الدلالة حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف   1 سنن النسائي (8/11) . 2 الإيمان لابن منده (2/341) . 3 شرح صحيح مسلم للنووي (2/21) وانظر مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (3/343) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 1. فدلالة هذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه ظاهرة كسابقه، إذ فيه ذكر مراتب الإنكار الثلاث، وأن أضعفها مرتبة الإنكار بالقلب التي ليس وراءها من الإيمان حبة خردل. قال ابن منده:"ذكر خبر يدل على أن الإيمان ينقص حتى لا يبقى في قلب العبد مثقال حبة خردل، وأن المجاهدة بالقلب واللسان واليد من الإيمان"2 ثم ذكر هذا الحديث. وفي الحديث فائدتان ليستا في الذي قبله: إحداهفا: تصريحه بأن هذه المراتب الثلاث للإنكار من الإيمان، والثانية: إخباره بأنه ليس وراء المرتبة الأخيرة من الإنكار حبة خردل من إيمان. وقول النبي صلى الله عليه وسلم "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" المراد به أنه لم يبق بعد هذه المراتب الثلاث للإنكار ما يكون داخلاً في مسمى الإيمان حتى يقوم به المؤمن، بل إن الإنكار القلبي هو آخر حدود الإيمان، وليس المراد نفى أصل الإيمان عن من لم ينكر المنكر، ولهذا قال في الحديث "ليس وراء ذلك"؛"أي: ليس وراء هذه الثلاث ما هو من الإيمان، ولا قدر حبة خردل. والمعنى: هذا آخر حدود الإيمان، ما بقي بعد هذا من الإيمان شيء، ليس مراده أنه من لم يفعل ذلك لم يبق معه من الإيمان شيء"3.   1 رواه مسلم (1/ 70) . 2 الإيمان لابن منده (2/ 345) . 3 انظر الفتاوى (7/ 52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المؤمنين ثلاث طبقات، وكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه، لكن الأول لما كان أقدرهم كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاني، وكان ما يجب على الثاني أكمل مما يجب على الآخر، وعلم بذلك أن الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم1. لكن قد يرد على هذا سؤال: وهو إذا كان ذلك حسب الاستطاعة فمن لم يستطع لا بيده ولا بلسانه فعمل حسب استطاعته وهو الإنكار بقلبه، فكيف يقال إن إيمانه ناقص، وهذا الذي فعله هو الذي في استطاعته؟. والجواب على هذا، أن يقال: إن إيمان هذا الأخير عُد ناقصاً من جهة نقص عمله عن الآخرين إذ هما قاما من أمر الدين بعمل أكمل منه فعد إيمانه من هذه الجهة ناقصاً، وأما هذا النقص الذي عنده فلا يحاسب عليه لأنه خارج عن استطاعته والله عز وجل لا يكلف النفس إلا وسعها وما تطيقه، بل قال شيخ الإسلام"ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة، وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل"2. وذلك من فضل الله وسعة رحمته لأنه سبحانه لم يكلف الناس إلاّ بما يطيقون. ومن هذا الجنس المرأة الحائض التي تترك الصوم والصلاة وقت حيضتها تعد ناقصة إيمان من هذه الجهة إذ إن الرجل لا ينقطع عن الصلاة بمانع مثلها فهو أكمل منها بهذا الاعتبار، وإن كانت لا تحاسب على هذا   1 الأيمان لابن تيمية (ص 409، 410) . 2 الفتاوى (28/ 131) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 النقص، لأنها مكلفة به على ما سيأتي شرحه قريباً إن شاء الله. 10- حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من اقتنى كلباً إلا كلب حاشية أو ضارياً1 نقص من عمله كل يوم قيراطان" 2. فهذا الحديث فيه دلالة على نقص العمل بارتكاب المعاصي، فاقتناء الكلب لغير ما جاء في الشرع جواز اقتنائه له معصية تنقص الأجر، ومن ثم تضعف الإيمان. قال ابن حجر:"وفي الحديث الحث على تكثير الأعمال الصالحة، والتحذير من العمل بما ينقصها، والتنبيه على أسباب الزيادة فيها والنقص منها، لتجتنب أو ترتكب ... "3. فالحديث دلالته ظاهرة على زيادة الإيمان ونقصانه، وأن الإيمان يزيد بالأعمال الصالحة، وينقص بالمعاصي. ولهذا احتج به ابن أبي زمنين على ذلك فخرجه في"باب زيادة الإيمان ونقصانه"من كتابه أصول السنة4. 11- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليَّ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض على عمر بن الخطاب   1 جمع ضوار، وهو الكلب المعلم المدرب للصيد، يقال: ضرا الكلب وأضراه صاحبه أي عوده وأغراه بالصيد، انظر فتح الباري لابن حجر (9/ 609) . 2 أخرجه البخاري (9/ 608 فتح) ومسلم (10/ 239 نووي) . 3 فتح الباري (5/ 7) . 4 أصول السنة (2/778) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله قال: الدين" 1. "المراد بالناس في هذا الحديث المؤمنون، لتأويله القمص بالدين، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص على امتثال الأوامر واجتناب المناهي، والنكتة في القميص أن لابسه إذا اختار نزعه وإذا اختار بقاءه، فلما ألبس الله المؤمنين لباس الإيمان واتصفوا به كان الكامل في ذلك سابغ الثوب ومن لا فلا، وقد يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان، وقد يكون بسبب نقص العلم"2. فالحديث يدل على أن الناس يتفاوتون في الدين، قوة وضعفاً، زيادة ونقصاً. وقد خرج البخاري الحديث في صحيحه في"باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال"قال ابن حجر مبيناً مطابقة الحديث للترجمة:"ومطابقته للترجمة ظاهرة من جهة تأويل القميص بالدين، وقد ذكر أنهم متفاضلون في لبسها فدل على أنهم متفاضلون في الإيمان"3. وخرجه النسائي في"باب زيادة الإيمان"4 من سننه، ومطابقته للترجمة ظاهرة مما تقدم، والله أعلم. 12- حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنه قال:"أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فترك رجلاً هو أعجبهم إليَّ فقلت: يا   1 أخرجه البخاري (1/ 73، 7/ 43، 12/ 395، 396 فتح) ومسلم (5 1/159نووي) . 2 فتح الباري لابن حجر (12/ 396) باختصار، وهو من كلام ابن أبي جمرة. 3 فتح الباري (1/ 74) . 4 سنن النسائي (8/ 112) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 رسول الله مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً. فقال أو مسلماً، فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت: مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يكبه الله في النار" 1. فسعد رضي الله عنه"رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي ناساً ويترك من هو أفضل منهم في الدين، وظن أن العطاء يكون بحسب الفضائل في الدين، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم حال هذا الإنسان المتروك فأعلمه به وحلف أنه يعلمه مؤمناً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلماً فلم يفهم منه النهي عن الشفاعة فيه مرة أخرى فسكت، ثم رآه يعطى من هو دونه بكثير فغلبه ما يعلم من حسن حال ذلك الإنسان فقال: يا رسول الله مالك عن فلان تذكيراً وجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هم بعطائه من المرة الأولى ثم نسيه فأراد تذكيره، وهكذا المرة الثالثة إلى أن أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن العطاء ليس هو على حسب الفضائل في الدين ... "2. قال ابن رجب:"وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال له"لم تعط فلاناً وهو مؤمن"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم"أو مسلم"يشير إلى أنه لم يتحقق مقام الإيمان فإنما هو مقام الإسلام الظاهر، ولا ريب أنه متى ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة أيضاً"3. فدل الحديث على أن الدين مراتب متفاوتة ومقامات مختلفة وأن الناس متفاضلون فيه، فمنهم المؤمن ومنهم المسلم، وما هذا التفاضل   1 أخرجه البخاري (1/ 79، 3/340 فتح) ومسلم (2/ 180، 7/ 149 نووي) . 2 شرح صحيح مسلم للنووي (7/148) . 3 جامع العلوم والحكم (ص 27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 بينهم فيه إلا لأنه يزيد وينقص. وقد خرّج أبو داود هذا الحديث في سننه في"باب زيادة الإيمان ونقصانه"1 محتجاً به، ودلالته على الترجمة ظاهرة لما دلّ عليه من التفاوت في مراتب الدين، وكل هذا يرجع إلى زيادة الإيمان ونقصانه، وقوته وضعفه. 13- حديث علي وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ملىء عمار إيماناً إلى مشاشه" 2.   1 سنن أبي داود (4/ 220) . 2 أخرجه النسائي (8/ 111) والحاكم (3/ 392) وابن عساكر في تاريخ دمشق (12/621) في ترجمة عمار من طرق عن عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي عمار عن عمرو بن شرحبيل عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي-صلى الله عليه وسلم- فذكره. قال الحاكم:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، قال الألباني- كما في حاشيته على كتاب الإيمان لابن أبي شيبة (ص 31) :" وفيه نظر، فإن أبا عمار لم يخرجاه، فهو صحيح فقط، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (7/ 92) . وسمى الحاكم هذا الصحابي المبهم في رواية له (عبد الله) يعني ابن مسعود وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (11/22) وفي كتاب الإيمان (ص 31) من هذا الطريق، إلا أنه مرسل وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 22) وفي كتاب الإيمان (ص 31) وابن ماجة (1/ 52) وأبو نعيم في الحلية (1/139) وابن عساكر في تاريخ دمشق (12/ 621) ، من طريق عثام بن علي عن الأعمش عن أبي إسحاق عن هانىء بن هانىء، قال: دخل عمار على عليّ بن أبي طالب فقال مرحباً بالطيب المطيب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن عماراً ملىء إيماناً إلى مشاشه" قال الألباني:"ورجاله ثقات رجال البخاري، غير هانىء بن هانىء وهو مستور كما في التقريب، سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/466) . وأخرجه البزار كما في مجمع الزوائد (9/295) وفتح الباري (7/ 92) بنحوه، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً، قال الهيثمي"رجاله رجال الصحيح" وقال الحافظ ابن حجر:"وإسناده صحيح". والمشاشة: هي رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها، انظر جامع الأصول لابن الأثير (9/ 46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لعمار بأنه ملىء إيماناً، يدل على أن الإيمان يزيد حتى يمتلىء المسلم به، ويدل أيضاً على أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان فمن امتلأ بالإيمان خير ممن كان إيمانه ناقصاً ضعيفاً ... فالحديث فيه حجة لما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، في أن في الإيمان يزيد وبنقص، وأن أهله متفاضلون فيه. وقد احتج به النسائي في سننه على تفاضل المؤمنين فأخرجه في"باب تفاضل أهل الإيمان"ومطابقته للترجمة ظاهرة مما تقدم. 14- حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، قالوا: من هم يا رسول الله، قال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" 1. هذا الحديث دليل قوي لما ذهب إليه أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه يزيد وينقص. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" ... وفي حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة كفاية فإنه من أعظم الأدلة على زيادة   1 أخرجه مسلم (1/198) ورواه الشيخان بنحوه من حديث ابن عاص رضي الله عنهما. البخاري (11/ 405 فتح) ومسلم (1/ 199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الإيمان ونقصانه، لأنه وصفهم بقوة الإيمان وزيادته في تلك الخصال التي تدل على قوة إيمانهم وتوكلهم على الله في أمورهم كلها"1. 15- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" 2. قال النووي:"والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد وأسرع خروجاً إليه وذهاباً في طلبه وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات وأنشط طلباً لها ومحافظة عليها ونحو ذلك. وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"وفي كلى خير" فمعناه في كل من القوي والضعيف خير لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات"3 فمن قام بأوامر الله وامتثلها، وكمّل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكمل غيره بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فهو المؤمن القوي الذي حاز أعلى مراتب الإيمان، ومن لم يصل إلى هذه المرتبة فهو المؤمن الضعيف.   1 الإيمان لابن تيمية (ص 213) . 2 رواه مسلم (16/ 215 نووي) . 3 شرح صحيح مسلم (16/215) وانظر مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (3/343) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 قال ابن سعدي بعد أن بين هذا المعنى المتقدم:"وهذا من أدلة السلف على أن الإيمان يزيد وينقص، وذلك بحسب علوم الإيمان ومعارفه، وبحسب أعماله، وهذا الأصل قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع كثيرة"1. 16- حديث حنظلة الأسدي رضي الله عنه قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال: أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات" 2. فقول حنظلة رضي الله عنه"نافق حنظلة"لا يلزم منه وقوع النفاق فيه، لأن ذلك وقع منه على سبيل المبالغة والورع والتقوى وقوة المراقبة وشدة الخوف، كما هو شأن باقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن أبي مليكة3 رحمه الله:"أدركت ثلاثين من أصحاب   1 بهجة قلوب الأبرار (ص 33) . 2 أخرجه مسلم (17/ 66، 67 نوري) . 3 هو الإمام الحجة الحافظ أبو بكر عبد الله بن عبيد الله بن أبي ميكة زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي المكي، ولد في خلاقة علي أو قبلها، حدث عن بعض الصحابة، وكان عالما مفتياً صاحب حديث وإتقان، مات سنة سبع عشرة ومائة، انظر السير للذهبي (5/ 88) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 النبي صلى الله عليه وسلم وكلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل"1. وإنما معنى كلامه هو أنه خاف من النفاق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر مع شدة المراقبة والتفكر والإقبال على الآخرة وهذا زيادة في الإيمان، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، فيكون إيمانه في هذه الحالة أضعف مما هو عليه عندما يكون في مجلس الذكر. وهذا نقص في الإيمان، فهو رضي الله عنه حسب أن هذا نفاق2، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس نفاقاً وأنه لا يستطيع أن يداوم على درجة واحدة من الإيمان، لأن الإيمان يتفاوت فيزيد إذا حصلت أسباب الزيادة وينقص إذا حصلت أسباب النقص3.   1 رواه البخاري في صحيحه تعليقاً (1/109 فتح) ووصله في التاريخ الكبير (3/1/137) والخلال في السنة (برقم: 1081) وابن حجر في تغليق التعليق (2/53) من طريق يحيى بن يمان عن سفيان عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة به. ورواه المروزي من طريق أخرى في تعظيم قدر الصلاة (2/ 634 ح 688) بلفظ: أدركت زيادة على خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه، ورواه ابن أبي خيثمة في تاريخه كما في الفتح (1/ 110) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 955 ح 1733) بنحوه ولكن أبهم العدد. 2 وقد تأول بحض أهل البدع خوف السلف هذا بأن المراد به أنهم كانوا يخافون أن يبتلوا بالنفاق تجل أن يموتوا، وقد سئل الأوزاعي عن نحو هذا فقال:"هذا قول أهل البدع" انظر شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي (5/ 983) . 3 وانظر ما كتبه ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/358) حول خشية الصحابة من النفاق وخوفهم منه لعلمهم بدقه وجله، مع أن قلوبهم كانت ممتلئة إيماناً بخلاف غيرهم ممن لا يجاوز الإيمان حناجرهم، ويظنون أنهم أكمل الناس إيماناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 كما قال عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه:"الإيمان يزيد وينقص، قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا، فذلك نقصانه"1. وبهذا يتبين وجه دلالة الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه، والله أعلم. 17- حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 2. فقد أطلق الشارع الحكيم هنا على قتال المسلم كفراً، مع أن الاقتتال بين المسلمين لا يخرج من الملة، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ... } 3، وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} 4. ففي الآية الأولى وصف الله الطائفتين بالإيمان حال اقتتالهما، وسمى في الآية الثانية القاتل أخاً للمقتول والمراد الأخوة الإيمانية، فدل ذلك على أن القتل وإن سماه الشارع كفراً فإنه لا يخرج من الملة، فهو كفر دون كفر5.   1 سيأتي تخريجه (ص 116) . 2 أخرجه البخاري (1/ 110، 10/ 464، 13/ 26 فتح) ومسلم (1/ 81) . 3 سورة الحجرات، الآية: 9. 4 سورة البقرة الآية: 178. 5 انظر تيسير العزيز الحميد (ص 514) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وما من شك في أن القاتل لأخيه قد ارتكب إثماً عظيماً، وعرض نفسه لوعيد شديد، بيّنه الله في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} 1. فإذا تبين عظم هذا الذنب وشدة خطره، ثم هو مع ذلك لا يخرج فاعله من الدين، تبين أن فاعله قد نقص أجره بهذا العمل وضعف دينه فأصبح بذلك مؤمناً ناقص الإيمان، ومن هنا يتبين وجه دلالة الحديث على زيادة الأيمان ونقصانه. وفي الحديث وجه آخر يدل على زيادة الإيمان ونقصانه، في قوله صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق"، حيث أن سب المسلم جرم يفسق به صاحبه، والفسق نقص في الإيمان. ولهذا قال المناوي في شرحه للحديث."وفيه.. أن الإيمان ينقص ويزيد لأن الساب إذا فسق نقص إيمانه وخرج عن الطاعة فضره ذنبه.."2. وروى اللالكائي في شرح الاعتقاد عن زبيد بن الحارث قال:"لما ظهرت المرجئة آتيت أبا وائل فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 3. 18- حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:"أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" 4.   1 سورة النساء، الآية: 93. 2 فيض القدير (4/ 84) . 3 انظر شرح الاعتقاد (5/ 1001) . 4 أخرجه أحمد (1/286) وابن أبي شيبة في المصنف (11/ 41) وفي الإيمان (ص 36) والطيالسي (ح 747) وابن أبي الدنيا في الإخوان (ص 86) . قال الهيثمي"وفيه ليث بن أبي سليم وضعفه الأكثر" مجمع الزوائد (1/90) . وله شاهد من حديث أبي ذر أخرجه احمد (5/ 46 1) وأبو داود (4/198) بلفظ" أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله" قال المنذري:"وفي إسناده يزبد بن أبي زياد الكوفي ولا يحتج بحديثه، وقد أخرج له مسلم متابعة، وفيه أيضاً رجل مجهول""مختصر السنن" (5/7) . وله شاهد ثان من حديت معاذ بن جبل أخرجه أحمد (5/247) والبيهقي في الشعب (1/ 339) وفيه عد الله بن لهيعة وزبان بن فائد ضعيفان. وله شواهد أخرى. قال الألباني بعد أن ذكر بعض طرقه:" فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل والله اعلم""سلسلة الأحاديث الصحيحة" (4/307) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فهذا الحديث يدل على أن الإيمان مراتب بعضها أوثق من بعض وأن أوثق مراتبه الحب في الله والبغض في الله. قال ابن عبد البر بعد أن ساق هذا الحديث".. وهو يدل على أن بعض الإيمان أوثق عروة وأكمل من بعض"1. فإذا كان الإيمان كذلك له مراتب بعضها أوثق من بعض، فهو يتفاضل ويزيد وينقص لتفاوت الناس بالقيام بها. 19- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان على رأعه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه" 2.   1 التمهيد (9/ 245) بتصرف. 2 رواه الترمذي تعليقاً (5/ 15) وأخرجه موصولاً أبو داود (4/ 222) والطبري في تهذيب الآثار (برقم: 910) والحاكم (1/ 22) وابن منده في الإيمان (2/ 579) من طريق سعيد بن أبي مريم أنبأ نافع بن يزيد، ثنا ابن الهاد أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وقال الحاكم"حديت صحيح على شريط الشيخين" ووافقه الذهبي، وقال الألباني:"وهو كما قالا إلا في نافع فإنما أخرج له البخاري تعليقاً فهو على شرط مسلم وحده""سلسلة الأحاديث الصحيحة" (2/ 22) ، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (12/ 61) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 قد يتوهم بعض من قرأ هذا الحديث أن فيه دلالة على أن مرتكب الكبيرة يكفر، ويخرج من الدين، ويسلب الإيمان بالكلية، ويظن أن هذا هو الظاهر والمتبادر من الحديث. فينحى بفهمه هذا منحى الخوارج والمعتزلة في إخراجهم مرتكب الكبيرة من الدين، وتخليده في النار. مع أن الحديث لا دلالة فيه على هذا بل إن ظاهر الحديث المتبادر لا يدل عليه قال شيخ الإسلام:".. ولا هو أيضاً ظاهر الحديث، لأن قوله:"خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة"دليل على أن الإيمان لا يفارقه بالكلية فإن الظلة تظلل صاحبها وهي متعلقة ومرتبطة به نوع ارتباط"1. وقال صاحب مرعاة المفاتيح:"وفيه إشارة إلى أنه وإن خالف حكم الإيمان فإنه تحت ظله، لا يزول عنه حكم الإيمان ولا يرتفع عنه اسمه"2. ولهذا فإن من الأمور المتقررة في عقيدة أهل السنة والجماعة أن من زنى أو ارتكب أي كبيرة من الكبائر لا يسلب منه اسم الإيمان المطلق، ولا يعطى أيضاً اسم الإيمان المطلق، بل يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويقال: ليس بمؤمن حقاً، أو   1 الفتاوى (7/ 673) . 2 مرعاة المفاتيح (1/ 138) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ليس بصادق الإيمان. أما تكفير مرتكب الكبيرة وإخراجه من الدين فهذا ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة في شيء، بل ليس في ظواهر نصوص الكتاب والسنة ما يدل على هذا القول ويؤيده، ومن فهم من النصوص شيئاً من ذلك فقد أتي من سوء فهمه وجهله. فالحديث ليس فيه أي دليل لما ذهب إليه هؤلاء، بل هو دليل لما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من أن المعاصي تنقص الإيمان وتضعفه، فالزاني لم يعدم الإيمان الذي به يستحق ألا يخلد في النار، وبه ترجى له الشفاعة والمغفرة، وبه يستحق المناكحة والموارثة، لكن عَدِم الإيمان الذي به يستحق النجاة من العذاب ويستحق به تكفير السيئات وقبول الطاعات وكرامة الله ومثوبته، وبه يستحق أن يكون محموداً مرضياً"1 وهذا هو ظاهر الحديث الذي يليق به. ولهذا أخرجه أبو داود في باب زيادة الإيمان ونقصانه من سننه، محتجاً به على ذلك، والحجة فيه ظاهرة. 20- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم" 2.   1 انظر الفتاوى (7/ 673- 676) . 2 أخرجه الحاكم (1/ 4) من طريق ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن ميسرة عن أبي هانىء الخولاني حميد بن هانىء عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره وقال:"رواته مصريون ثقات". ووافقه الذهبي. ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (1/ 52) وقال الهيثمي:"إسناده حسن". والحديث صححه الألباني. انظر صحيح الجامع (2/ 56) والسلسلة الصحيحة (4/113) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فهدا من أوضح الدلائل على أن الإيمان يزبد وينقص ويقوى ويضعف في قلب المرء المسلم، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، أي: يبلى ويضعف ويدخله النقص من جراء ما قد يقع فيه المرء من معاص وآثام تذهب جدة الإيمان وحيويته وقوته، لهذا أرشد عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث إلى تعاهد الإيمان والعمل على تقويته وسؤال الله تعالى دائماً الإيمان والثبات عليه، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 1. ففي هدا أببن دلالة على أن الإيمان الذي في القلب يقبل التفاوت ويزيد تارة ويقص أخرى، والأعمال الظاهرة تبع له فإن زاد زادت وإن نقص نقصت، فهل يقال- بعد هذا- إن الإيمان على هيئة واحدة لا يقبل زيادة ولا نقصاناً. هذا، ولم أقف- فيما اطلعت عليه من كتب أهل العلم- على من احتج بهذا الحديث على زيادة الأيمان ونقصانه رغم صحته ووضوح دلالته على المقصود، والله الموافق.- ثم في ختام ذكر هذه النصوص النبوية الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه أود الإشارة إلى أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث بلفظ"الإيمان يزيد وينقص"وما روي من ذلك مرفوعاً إليه فلا يصح كما بين ذلك أهل العلم   1 سورة الحجرات، الآية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 بالحديث1، بل قد قال ابن القيم رحمه الله في مناره المنيف:"وهذا كلام صحيح، وهو إجماع السلف، ولكن اللفظ كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. قلت: وفي النصوص الصحيحة الثابتة وإجماع سلف الأمة غنية وكفاية، ولله الحمد. وما أحسن وأجود ما قاله ابن القيم رحمه الله في سياق آخر بعد أن ذكر الحديث الذي رواه ابن ماجة في سننه من حديث عبد السلام بن صالح3 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان" 4 حيث قال:"في الحق ما يغني عن الباطل، ولو كنا ممن يحتج بالباطل ويستحله لروجنا هذا الحديث وذكرنا بعض من أثنى على عبد السلام، ولكن نعوذ بالله من هذه الطريقة، كما نعوذ به من طريقة تضعيف الحديث الثابت وتعليله إذا خالف قول إمام معين، وبالله التوفيق"5. ومثل هدا القول قول إمام الأئمة ابن خزيمة في كتابه التوحيد:" ... وقد أعلمت ما لا أحصي من مرة أني لا أستحل أن أموه على طلاب العلم بالاحتجاج بالخبر الواهي، وإني خائف من خالقي جل وعلا إذا موهت على طلاب العلم بالاحتجاج بالأخبار الواهية وإن كانت الأخبار   1 راجع: الموضوعات لابن الجوزي (1/ 128) ، والميزان للذهبي (4/ 144) واللآلىء المصنوعة للسيوطي (1/ 36) وتنزيه الشريعة لابن عراق (1/ 150) . 2 المنار المنيف (ص 119) . 3 هو أبو الصلت الهروي، مولى قريش، نزل نيسابور، صدوق له مناكير، وأفرط العقيلي، فقال: كذاب، تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 506) . وقال الذهبي: واه شيعي متهم مع صلاحه. الكاشف (2/ 172) . 4 سنن ابن ماجه (1/ 25، 26) . 5 تهذيب السنن (7/ 59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 حجة لمذهبي"1. فشتان بين هؤلاء الأئمة وبين أهل الأهواء والبدع على اختلاف مشاربهم وتباين طرائفهم الذين تعج أقوالهم وتمتلىء كتبهم بالتلبيس والتمويه والزخرفة والمخرقة والكذب ببن مقل ومستكثر2.   1 التوحيد (ص 215) . 2 وانظر شرح الاعتقاد للالكائي (1/180) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 المبحث الثالث: أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصانه ... المبحث الثالث أقوال السلف الصالح في زيادة الإيمان ونقصانه لقد جاء عن السلف الصالح آثار كثيرة قرروا فيها ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من حجج ودلالات على زيادة الإيمان ونقصانه، فبينوا رحمهم الله أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وكثرة العبادة والمداومة عليها، وينقص باللهو والغفلة والمعصية والتقصير في فعل الطاعة، بل لقد حكى إجماعهم واتفاقهم على ذلك غير واحد من أهل العلم. قال يحيى بن سعيد القطان:"ما أدركت أحداً من أصحابنا، إلا على سنتنا في الإيمان، ويقولون: الإيمان يزيد وينقص"1. وقال الإمام عبد الرزاق الصنعاني رحمه الله:"لقيت اثنين وستين شيخاً، ... فذكر عدداً منهم ثم قال: كلهم يقولون:"الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"2. وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام:"هذه تسمية من كان يقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ... فسمى أكثر من مائة وثلاثين رجلاً من أهل العلم من الصحابة وغيرهم.. ثم قال: هؤلاء كلهم   1 رواه ابن هاني في مسائل الإمام أحمد (2/ 162) وذكر نحوه الذهبي في السير (9/179) في ترجمة يحيى بن سعيد. 2 رواه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (5/ 958 ح 1737) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 يقولون الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو قول أهل السنة، والمعمول به عندنا"1. وقال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله:"أجمع سبعون رجلاً من التابعين وأئمة المسلمين وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكر أموراً منها: الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية"2. وقال أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله:"لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص"3. وقال أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي 4:"الإيمان عندنا أهل السنة الإخلاص لله بالقلوب والألسنة، والجوارح، وهو قول وعمل، يزيد وينقص، على ذلك وجدنا كل من أدركنا من عصرنا بمكة والمدينة   1 رواه ابن بطة في الإبانة (2/ 814 برقم:1117) وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان (ص 293- 295) . 2 رواه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (ص 228) وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/ 130) بلفظ أجمع تسعون ... إلخ. 3 ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 47) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2/ 256) وعزواه للالكائي في السنة، وصححا إسناده، قلت: وهو في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي"المطبوع" (5/ 889 رقم:1597) بنحوه، وليس فيه"ويزيد وينقص، فلعل هذه اللفظة سقطت من المطبوع، أو أن الحافظ والزبيدي اطلعا على نسخة اشتملت على ما حكياه. وانظر (ص 418) من هذه الرسالة. 4 هو الإمام الحافظ الحجة الرحال، محدث إقليم فارس أبو يوسف يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي، من أهل فسا، له تاريخ كبير، توفي سنة سبع وسبعين ومائتين، انظر ترجمته في السير للذهبي (13/180) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 والشام والبصرة والكوفة،. ثم ذكر منهم بعضاً وثلاثين"1. وقال سهل بن المتوكل الشيباني2:"أدركت ألف استاذ وأكثر كلهم يقولون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ... "3. وقال ابن جرير الطبري:"وأما القول في الإيمان هل قول وعمل يزيد وينقص، أم لا زيادة فيه ولا نقصان؟ فإن الصواب فيه قول من قال: هو قول وعمل يزيد وينقص، وبه جاء الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل"4. وقال أبو عمر بن عبد البر:"أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"5. وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله:"وأجمعوا على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وليس نقصانه عندنا شك فيما أمرنا بالتصديق به، ولا جهل به، لأن ذلك كفر، وإنما هو نقصان في مرتبة العلم وزيادة البيان كما يختلف وزن طاعتنا وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كنا جميعاً مؤديين للواجب علينا"6.   1 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 963 ح 1753) . 2 هر سهل بن المتوكل بن حجر أبو عصمة البخاري من بني شيبان، يروى عن أبي الوليد الطيالسي وأهل العراق، روى عنه أهل بلده. انظر الثقات لابن حبان (294/8) . 3 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 964 ح 1754) . 4 صريح السنة (ص 25) . 5 التمهيد (9/ 238) ، ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية انظر الفتاوى (7/330) . 6 رسالة إلى أهل الثغر (ص 272) قلت: وقول أبي الحسن هذا وكذا قوله المماثل له في كتابه مقالات الإسلاميين (ص 290) إنما كان منه بعد رجوعه لمعتقد أهل السنة والجماعة وهو المعتقد الذي استقر عليه قدمه آخر عمره بعد تنقل طويل في الاعتزال أولا ثم الكلابية ثانياً ثم عقيدة أهل السنة والجماعة، إلا أن اتباعه الاشاعرة أصروا إلى يومنا هذا على البقاء على المعتقد الذي تبين لإمامهم فساده وبطلانه. وقوله:"وإن كنا جميعاً مؤديين للواجب علينا" فيه نظر سيأتي بيانه (ص 368) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وقال ابن أبي زيد القيرواني في كتابه المفرد في السنة:"فصل فيما أجمعت عليه الأمة من أمور الديانة ومن السنن التي خلافها بدعة وضلالة.. فذكر أموراً منها: أن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد ذلك بالطاعة وينقص بالمعصية نقصاً عن حقائق الكمال لا محبط للإيمان، ولا قول إلا بعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة"1. وقال ابن بطال المالكي:"مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الأيمان قول وعمل، يزيد وينقص"2. وقال الحافظ عبد الغني المقدسي في عقيدته:"اعلم وفقنا الله وإياك.. أن صالح السلف وخيار الخلف وسادات الأئمة وعلماء الأمة اتفقت أقوالهم وتطابقت آراؤهم فذكر أموراً ثم قال: والإيمان بأن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"ثم   1 نقله عنه ابن القيم في اجتماع الجيوش (ص 150-152) . 2 نقله عنه النووي في شرحه لمسلم (1/146) والكرماني في شرحه للبخاري (1/76) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أورد بعض النصوص الدالة على ذلك1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"وأجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"2. وقال ابن القيم:".. فإنه بإجماع السلف: يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية"3. وقد تقدم معنا قول ابن كثير رحمه الله: وهذا"مذهب جمهور الأمة، بل حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد"4. وقال السفاريني:"والذي اعتمده أئمة الأثر وعلماء السلف: أن الإيمان: تصديق بالجنان وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان"5. وبعد هذه النقول السابقة المبينة لإجماع أهل السنة والجماعة على زيادة الإيمان ونقصانه، وأنهم متضافرون على قول واحد فيه، أذكر جملة من النقول عن بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن نقل عنه ذلك، ذاكراً أقوال الصحابة أولاً، فالتابعين، فمن بعدهم، مرتباً لهم حسب وفياتهم عدا الصحابة فلم أراع في ترتيبهم ذلك: 1- كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه:"هلموا   1 عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي ضمن"المجموعة العلمية السعودية" جمع الشيخ العلامة عبد الله بن حميد رحمه الله (ص 30- 49) . 2 الفتاوى (7/ 672) . 3 مدارج السالكين (1/ 421) . 4 تفسير ابن كثير (2/285) 5 شرح ثلاثيات المسند (2/ 218) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 نزداد إيماناً"وفي لفظ:"تعالوا نزداد إيماناً"1. 2- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"اجلسوا بنا نزداد إيماناً"2 وكان يقول في دعائه:"اللهم زدني إيماناً ويقيناً وفقهاً"3. 3- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول:"اجلسوا بنا نؤمن ساعة"4   1 أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (11/26) وفي الإيمان (ص 36) والخلال في السنة (ق 108/أ، ح 1122) والآجري في الشريعة (ص 112) وابن بطة في الإبانة (2/847 ح 1134) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 941ح 0 170) والبيهقي في الشعب (ص 86) ، من طرق عن محمد بن طلحة عن زبيد اليامي عن زر بن حبيش، قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه، فذكره. وزاد الآجري في روايته (فيذكرون الله عز وجل) وإسناده صحيح. 2 أخرجه البيهقي في الشعب (ص 91) من طريق محمد بن فضيل عن أبيه عن شباك الضبي عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه. 3 أخرجه عبد الله في السنة (1/368 ح 797) والخلال في السنة (ق 108/أ، ح 1120) والآجري في الشريعة (ص 112) وابن بطة في الإبانة (2/846 ح 1132) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 942 ح 1704) والبيهقي في الشعب (ص ا 9) من طرق عن شريك عن هلال بن حميد عن عبد الله بن عكيم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عه. قال الحافظ في الفتح (1/48) :"وإسناده صحيح". 4 رواه البخاري في صحيحه تعليقاً (1/45 فتح) ووصله أبو عبيد في الإيمان (ص 72) وابن أبي شيبة في المصنف (11/25، 26) وفي الإيمان (صر 35) وعبد الله في السنة (1/368 ح 796، 1/378 ح 823) وأبو بكر الخلال في السنة (ق 108/أ، ح 1121) وأبو نعيم في الحلية (1/ 235) وابن بطة في الإبانة (2/847 ح 1135) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/943 ح 1706 و 1707) والبيهقي في الشعب (ص90) . من طرق عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال المحاربي قال: قال معاذ فذكره، بألفاظ متقاربة في بعضها" اجلس" بالإفراد، وبعضها"اجلسوا" بالجمع، وبعضها بزيادة"أي: نذكر الله" وزيادة:"فيجلسان يتذاكران الله ويحمدانه". وصحح الحافظ إسناده في الفتح (1/ 48) والألباني في تعليقه على الإيمان لابن أبي شيبة (ص 3) والإيمان لأبي عبيد (ص 72) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قال ابن حجر مبيناً وجه دلالته على زيادة الإيمان ونقصانه:"ووجه الدلالة منه ظاهرة، لأنه لا يحمل على أصل الإيمان لكونه كان مؤمناً وأي مؤمن، وإنما يحمل على إرادة أنه يزداد إيماناً بذكر الله تعالى"1. أما قول ابن العربي عنه:"لا تعلق فيه للزيادة"معلالاً ذلك:"بأن معاذاً إنما أراد تجديد الإيمان، لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضاً، ثم يكون أبداً مجدداً كلما نظر أو فكر"2. فغير صحيح، لأن الإيمان الذي ينجم عن النظر والتفكر بعد تحقق أصل الإيمان، يعد في الحقيقة زيادة إيمان، فما سماه ابن العربي هنا تجدد إيمان هو في واقع أمره زياد إيمان وإن سمي بغير اسمه. ولذا تعقبه الحافظ بقوله:"وما نفاه أولاً أثبته آخراً، لأن تجدد الإيمان إيمان"3. 4- وكان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول:"تعالوا نؤمن ساعة، تعالوا فلنذكر الله ونزدد   1 فتح الباري (1/ 48) . 2 نقله عنه الحافظ في الفتح (1/48) . 3 فتح الباري (1/ 48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 إيماناً بطاعته، لعله يذكرنا بمغفرته"1. 5- وعن أبي الدرداء عويمر الأنصاري رضي الله عنه أنه قال:"الإيمان يزداد وينقص"2.   1 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/43) وفي الإيمان (ص 38) من طريق موسى بن مسلم عن ابن سابط قال"كان عبد الله بن رواحة يأخذ.." وإسناده ضعيف لأن سابط هذا لم يدرك عبد الله بن رواحة. وله طريق أخرى من رواية أحمد بن يونس عن شيخ من أهل المدينة عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن رواحة قال لصاحب له: فذكره بنحوه. أخرجه البيهقي في الشعب (1/ 192) . وإسناده ضعيف، لإبهام شيخ أحمد بن يونس، ولأن عطاء لم يدرك عبد الله بن رواحة. وله طريق ثالث يرويه عبد الله بن المبارك عن سعيد بن عبد العزيز عن بلال بن سعد أن أبا الدرداء قال:" كان ابن رواحة يأخذني بيدي فيقول: تعال نؤمن ساعة إن القلب أسرع تقلياً من القدر إذا استجمعت غلياً". أخرجه ابن بطة في الإبانة (2/ 848 ح 1137) ورواية بلال عن أبي الدرداء مرسلة، انظر جامع التحصيل (ص 179) . وله طريق رابع يرويه عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب بنحوه مرسلاً، أخرجه ابن أبي زمنين في أصول السنة (2/ 790) . وله طريق خامس يرويه أحمد بن حنبل عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن عمارة عن زياد النميري عن أنس بن مالك قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول: تعال نؤمن بربنا ساعة.. فذكره بسياق آخر. أخرجه ابن عساكر في تاريخه (9/ 201) . وهذا إسناد ضعيف فزياد هو ابن عبد الله ضعيف كما في التقرب (1/269) . فالأثر بمجموع هذه الطرق حسن إن شاء الله. 2 رواه عبد الله في السنة (1/ 314ح 623) والخلال في السنة (ق 110/أ، ح1161) وابن بطة في الإبانة (2/843 ح 1126) و (2/848 ح 1138 واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/944 ح 1709) والبيهقي في الشعب (ص 97) ، من طريق إسماعيل بن عياش عن حريز بن عثمان عن أبي حبيب الحارث بن مخمر عن أبي الدرداء رضي الله عنه. ورجاله ثقات، فإسماعيل بن عياش ثقة في روايته عن الشاميين، وهذا منها، انظر الكاشف للذهبي (1/ 76) . وحريز بن عثمان، ثقة ثبت، وهو حمصي. انظر التقريب (1/ 159) . والحارث بن مخمر ثقة. وثقة الإمام أحمد وغيره، وقد لقي أبا الدرداء، انظر تاريخ دمشق لابن عساكر (4/ 125) . تنبيه: وقع عدة تصحيفات في إسناد هذا الأثر في بعض مصادره المتقدمة، وصوابه ما أثبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وروى عنه رضي الله عنه أنه قال:"من فقه العبد أن يعلم أمزداد هو أو منتقص، وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه"1. 6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"الإيمان يزداد وينقص"2.   1 رواه ابن بطة في الإبانة (2/849 ح 1140) من طريق حريز بن عثمان عن بعض أشياخه عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وذكره شيخ الإسلام في كتاب الإيمان (ص 211) وإسناده ضعيف لإبهام شيخ حريز. 2 رواه عبد الله في السنة (1/ 314 ح 622) والخلال في السنة (ق 58 1/ أ، ح 1118) والآجري في الشريعة (ص 111) وابن بطة في الإبانة (2/ 844 ح 1127،1128) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 945 ح 1711) والبيهقي في الشعب (ص 98) من طرق عن إسماعيل بن عياش قال حدثني صفوان بن عمرو عن عبد الله بن ربيعة الحضرمي عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورجال إسناده ثقات، غير عبد الله بن ربيعة الحضرمي لم يوثقه إلا ابن حبان (5/27) ، وذكره البخاري في التاريخ (3/1/ 85) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 51) ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وروي عنه وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا:"الإيمان يزيد وينقص"1. 7- وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتياناً حزاورة فتعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً"2. 8- وعن عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه قال."الإيمان يزيد وينقص، فقيل: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا   1 رواه ابن ماجه (28/1 ح 75) والآجري في الشريعة (ص 111) وابن بطة في الإبانة (2/ 845 ح 1129، 1130) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 945 ح 1712) والبيهقي في الشعب (ص 97) من طرق عن إسماعيل بن عياش عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: فذكره. وإسناده ضعيف جداً، فيه عبد الوهاب بن مجاهد"متروك" التقريب (1/528) . وإسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وهذا منها. انظر التقريب (1/ 73) والكاشف (1/ 76) والأثر ضعفه البوصيري في زوائد ابن ماجه، وقال الألباني في ضعيف ابن ماجه (ص 8) "ضعيف جداً". 2 رواه ابن ماجه (1/23 ح61) وعبد الله في السنة (1/ 369 ح 799 و1/379 ح 825) والطبراني في الكبير (12/77 ح1678) وابن منده في الإيمان (2/370) وابن بطة في الإبانة (2/848 ح1136) من طرق عن حماد بن نجيح عن أبي عمران الجوني عن جندب رضي الله عنه وإسناده صحيح، ورجاله ثقات، وصحح إسناده البوصيري في زوائد ابن ماجه (1/ 12 مصباح الزجاجة) ، والألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ونسينا، فذلك نقصانه"1.   1 تفرد بروايته حماد بن سلمه عن أبي جعفر الخطمي، وأختلف فيه على حماد، فروي عنه من وجهين. أحدهما: حماد بن سلمة عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب الخطمي عن أبيه عن جده. والثاني: حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي عن جده، بإسقاط أبيه، رواه على الوجه الأول عن حماد: 1- عفان بن مسلم: أخرجه ابن سعد في الطبقات (4/381) وابن أبي شيبة في المصنف (11/13) وفي الإيمان (ص 17) وعبد الله في السنة (1/ 315 خ 324) . 2- أبو نصر التمار: أخرجه ابن بطة في الإبانة (2/845 ح1131) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 77 ح 1720) والبيهقي في الشعب (ص 98) والبغوي (كما في الاصابه 3/30) . 3- عبد الأعلى بن حماد النرسي: أخرجه عبد الله في السنة (1/ 331 ح 680) . 4- الحسن بن موسى الأشيب وعنه احمد بن حنبل، أخرجه الخلال في السنة (ق 109، ح 1141) والآجري في الشريعة (ص 112) وابن جرير الطبري في صريح السنة (ص 25) والصابوني في عقيدة السلف (ص 67) وابن أبي يعلى في الطبقات (1/ 307) . ورواه على الوجه الثاني عن حماد: 1- محمد بن الفضل: أخرجه الآجري في الشريعة (ص 111) . 2- يزيد بن هارون: أخرجه الحاكم في شعار أصحاب الحديث (ص 27) . 3- أسد بن موسى: أخرجه ابن أبي زمنين في أصول السنة (2/ 786) . 4- الحجاج بن المنهال ومحمد بن عبد الجبار الخزاعي وداود بن شبيب: أخرجه اللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 77 ح 1721) . 5- أبو سلمة موسى ابن إسماعيل: أخرجه الجورقانى فى الأباطيل محتجاً به (1/31) . فالأثر بهذا الوجه الأخير منقطع، لأن أبا جعفر الخطمي لم يدرك جده، إلا إن الوجه الأول ثابت عن حماد، فإن حماداً هو سبب الاختلاف فيه، فقد كان يرويه أولا عن أبي جعفر عن أبيه عن جده. ثم شك فيه قصار يسقط أبا أبي جعفر. نبه على هذا عفان بن مسلم أحد رواته عن حماد فقال بعد أن رواه عن حماد على الوجه الأول (.. ثم سمعت حماداً بعد يشك يقول عن عمير بن حبيب، فقلت: عن أبيه عن جده قال: أحسب أنه عن أبيه عن جده) . انظر طبقات ابن سعد (4/ 381) ، وحسبك بكلام عفان هذا، فإنه من أثبت الناس في حماد، قال يحيى بن معين:"من أراد أن يكتب حديث حماد بن سلمة فعليه بعفان بن مسلم) . انظر شرح علل الترمذي لابن رجب (517/2) . وعلى هذا فالأثر ليس فيه انقطاع. أما عمير بن حبيب فهو ابن حباشة بن جويبر الخطمي الأنصاري صحابي جليل عده ابن سعد في الصحابة الذين أسلموا قبل الفتح. الطبقات (4/ 381) وأما يزيد بن عمير: فلم أقف على من ترجمه. وأما عمير بن يزيد: فهو أبو جعفر الخطمي نزيل البصرة، ثقة، وثقه يحيى بن معين والنسائي والذهبي وغيرهم وروى له الجماعة عدا الشيخين. انظر تهذيب الكمال للمزي (2/ 1062) . والكاشف للذهبي (2/ 303) فالأثر إسناده فيه ضعف لجهالة حال يزيد بن عمير إلا أن عبد الرحمن بن مهدي قال:"كان أبو جعفر وأبوه وجده قوماً يتوارثون الصدق بعضهم عن بعض". انظر تهذيب الكمال للمزي (2/ 1062) فإن عد هذا توثيقاً فإسناده حسن، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قال ابن القيم رحمه الله:"وأقدم من روي عنه زيادة الإيمان ونقصانه من الصحابة عمير بن حبيب الخطمي"1. قلت: ولم يتبين لي وجه هذه الأقدمية، ولم أقف على تاريخ وفاة عمير رضي الله عنه، وإنما عد ممن أسلم قبل الفتح، وفي الذين نقل عنهم من الصحابة ذلك عبد الله بن رواحه وكان قد استشهد في غزوة مؤتة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم2.   1 تهذيب السنن (7/ 56) . 2 وقد وقعت غزوة مؤتة في أدنى البلقاء من أرض الشام في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، وقد عد ابن رواحة رضي الله عنه ممن استشهد فيها من الأنصار انظر السيرة النبوية لابن هشام (3/ 1200) وعيون الأثر لابن سيد الناس (2/165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 9- وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: إن الرجل ليتفضل بالإيمان كما يتفضل ثوب المرأة"1. قلت: ولعل التشبيه بثوب المرأة هو لكونه ضافياً وافياً، وقد تقدم معنا الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:"بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قمص.." الحديث، ثم فسر القمص بالدين. 10- وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال:"ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من النفس، وبذل السلام للعالم"2.   1 رواه عبد الله في السنة (1/334 ح 694) وابن بطة في الإبانة (716/2 ح 969) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 947 ح 1716) . 2 رواه بهذا اللفظ موقوفاً على عمار البخاري في صحيحه (1/ 82 فتح) تعليقاً، ووصله ابن أبي شيبة من الإيمان (ص 44) وعبد الرزاق في المصنف (10/386) والبيهقي في الشعب (1/191) من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر عن عمار رضي الله عنه. ورواه يعقوب بن شيبة في مسنده (كما في الفتح 1/ 82) من طريق شعبة عن أبي إسحاق به. ورواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (5/945 ح 1713) من طريق فطر عن أبي إسحاق به كلهما بلفظ"ثلاث من كان فيه فقد استكمل الإيمان ... " قال شيخ الإسلام:"وصح عن عمار بن ياسر أنه قال: ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان" الفتاوى (7/ 225) . قلت: وقد روي هذا الأثر من طريق عبد الرزاق مرفوعاً ولكنه ضعيف الإسناد، ضعفه الحافظ في الفتح ثم قال:"إلا أن مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع" الفتح (1/83) وقد أفرد فيه الحافظ ابن ناصر الدين جزءاً سماه:"الإتحاف بحديث فضل الإنصاف" وهو مطبوع، وقد جمع فيه طرقه وذكر بعض الفوائد المتعلقة به، فليراجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 11- وعن علقمة بن قيس النخعي1 رحمه الله أنه كان يقول لأصحابه:"امشوا بنا نزدد إيماناً"2. 12- وكتب عمر بن عبد العزيز3 إلى عدي بن عدي4 أحد عماله على الجزيرة:"أما بعد: فإن للإيمان حدوداً وشرائع وفرائض، من استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان"5.   1 هو فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها الإمام الحافظ أبو شبل علقمة بن قيس النخغي، ولد في أيام الرسالة المحمدية، وعداده في المخضرمين، هاجر في طلب العلم والجهاد، ونزل الكوفة ولازم ابن مسعود رضي الله عنه حتى رأس في العلم والعمل، وتفقه به العلماء، وبعد صيته، حدت عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، توفي بعد الستين من الهجرة النبوية، انظر ترجمته في السير للذهبي (4/53) . 2 أخرجه ابن أبي شيبة، في مصنفه (11/ 25) وفي الإيمان (ص 34) وأبو نعيم في الحلية (2/ 99) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 952 ح1730) عن شباك عن إبراهيم عن علقمة. وحسن الألباني إسناده في حاشيته على الإيمان لابن أبي شيبة. 3 هو أمير المؤمنين الإمام الحافظ الزاهد أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي المدني، وأمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، كان رحمه الله ثقة مأموناً له فقه وعلم وورع، وروى حديثاً كثيراً، كان إمام عدل، توفي سنة إحدى ومائة رحمه الله. انظر ترجمته في السير (5/ 114) . 4 هو الإمام الفقيه الناسك أبو فروة عدي بن عدي بن عميرة، لأبيه صحبة، وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز على الجزيرة توفي سنة عشرين ومائة انظر ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 480) ، والجرح والتعديل (7/ 3) ، والعبر للذهبي (1/116) . 5 رواه البخاري تعليقاً (1/ 45 فتح) ووصله ابن أبي شيبة في المصنف (11/48) ، وفي الإيمان (ص 45) والخلال في السنة (ق 110/ ب) وابن بطة في الإبانة (2/ 859 ح 1166) واللالكائي في شرح الاعتقاد (4/ 844 ح 1572) والبيهقي في الشعب (1/197) والبغوي في شرح السنة (1/ 40) كلهم من طريق جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم عن عدي، وصحح الألباني إسناده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 علقه البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه، وقال ابن حجر مبيناً سبب ذكر البخاري له:"والغرض من هذا الأثر أن عمر بن عبد العزيز كان ممن يقول بأن الإيمان يزيد وينقص، حيث قال: استكمل ولم يستكمل"1. 13- وعن مجاهد بن جبر2 قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص3.   1 فتح الباري (1/ 47) . 2 هو شيخ القراء والمفسرين الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي الأسود، روى عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم. توفي سنة أربع ومائة. انظر ترجمته في السير (4/449) . 3 رواه عبد الله في السنة (1/ 311 ح 611) وابن بطة في الإبانة (859/2 ح1167) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 952 ح 1728) والبيهقي في الشعب (ص 100) من طريق عبد الصمد بن حسان عن صفيان الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد. وإسناده ضعيف فيه يزيد بن أبي زياد ضعيف. التقريب (2 /365) وله طريق أخرى من رواية سويد بن سعيد عن يحيى بن سليم عن ابن مجاهد عن أبيه، أخرجه عبد الله في السنة (1/ 335 ح 695) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 951 ح 1727) . وهو أشد ضعفاً من سابقه ففيه ابن مجاهد وهو عبد الوهاب متروك الحديث وكذبه الثوري. التقريب (1/528) فالأثر إسناده ضعيف لكن يشهد له تفسير مجاهد لقوله تعالى: {بلى ولكن ليطمئن قلبي} أي يزداد إيماني، وقد تقدم ذكره (ص57) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 14- وقال عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي1: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص فمن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فاحذروه فإنه مبتدع"2. وسئل رحمه الله عن الإيمان أيزيد؟ قال: نعم حتى يكون كالجبال. قيل: فينقض؟ قال: نعم حتى لا يبقى منه شيء"3. 15- وقال سفيان الثوري4:"الإيمان يزيد وينقص"5.   1 هو شيخ الإسلام، وعالم الشام، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، كان يسكن بمحلة الأوزاعي، بدمشق، كان واسع العلم كثير الاجتهاد في العبادة، توفي سنة سبع وخمسين ومائة. انظر ترجمته في السير (7/107) . 2 رواه الآجري في الشريعة (ص 117) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 958 ح 1739) من طريق فديك بن سليمان قال سمعت الأوزاعي يقول: فذكره وفديك قال فيه الحافظ: مقبول التقريب (2/107) أي حيث يتابع وإلا فلين الحديث. ويشهد لأوله الآتي بعده في المتن. 3 رواه اللالكائي في السنة (5/ 959 ح 1340) . 4 هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العاملين في زمانه أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، كان ينوّه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه وحفظه، وحدث وهو شاب قال يحيى بن معين: لا يقدم على سفيان أحداً في زمانه في الفقه والحديث والزهد وكل شيء توفي رحمه الله سنة إحدى وستين ومائة، انظر ترجمته في السير (7/ 229) . 5 رواه عبد الله في السنة (1/ 310 ح 604) وابن بطة في الإبانة (2/ 852 ح 1149) من طريق أحمد بن حنبل عن أبي نعيم قال سمعت سفيان يقول: فذكره. وإسناده صحيح، وله طريق ثاني من رواية محمد بن يحيى الذهلي عن أبي أحمد الزبيري قال: سمعت سفيان- يعني الثوري- غير مرة يقول: فذكره. أخرجه اللالكائي في شرح الاعتقاد (5/958 ح 1738) وله طريق ثالث من رواية يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال سمعت محمد بن القاسم الأسدي قال سمعت سفيان الثوري يقول: فذكره. أخرجه الآجري في الشريعة (ص 117) وابن بطة في الإبانة (2/ 850 ح 1143) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 16- وكتب حماد بن زيد1 إلى جرير بن عبد الحميد:"بلغني أنك تقول في الإيمان بالزيادة، وأهل الكوفة يقولون بغير ذلك، أثبت على ذلك ثبتك الله"2. 17- وثبت عن الإمام مالك رحمه الله القول بزيادة الإيمان ونقصانه من طرق متعددة يأتي ذكرها في مبحث مستقل. 18- وقال عبد الله بن المبارك 3:"الإيمان قول وعمل، والإيمان يتفاضل"4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وبعضهم أي: السلف عدل عن لفظ الزيادة والنقصان إلى لفظ التفاضل. فقال أقول: الإيمان يتفاضل ويتفاوت، ويروى هذا عن ابن المبارك، وكان مقصوده الإعراض عن لفظ وقع فيه النزاع إلى معنى لا ريب في ثبوته"5.   1 هو العلامة الحافظ الثبت أبو إسماعيل حماد بن زيد بن درهم الأزدي، مولى آل جرير بن حازم البصري، توفي سنة تسع وسبعين ومائة انظر ترجمته في السير للذهبي (7/456) . 2 رواه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/177) ، ومن طريقه اللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 961 ح 1746) بإسناد حسن. 3 هو الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه، وأمير الأتقياء في وقته أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح، عولاهم التركي ثم المروزي، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة رحمه الله انظر ترجمته في السير للذهبي (8/378) . 4 رواه عبد الله في السنة (1/316 ح 631) ، والخلال في السنة (ق110/ ب، ح1163) ، واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 961 ح 1747) بإسناد صحيح، وسئل الإمام أحمد عن قول ابن المبارك في الإيمان فقال:" كان يقول الإيمان يتفاضل" رواه الخلال في السنة (2/ 682 ح 1018) بإسناد صحيح. 5 الفتاوى (7/ 506، 507) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 قلت: ولا ريب كذلك في ثبوت لفظ الزيادة والنقصان عند السلف؛ فالزيادة مصرح بها في القرآن والنقصان مصرح به في السنة، كما تقدم بيانه، ولعل سبب عدول ابن البارك رحمه الله عن لفظ الزيادة والنقصان هو استحسانه لكلمة"التفاضل"، لا لسبب آخر، كما إنه روي ذلك عن بعض السلف، فقد ساق الخلال بسنده إلى محمد بن أبان1 قال قلت لعبد الرحمن بن مهدي2: الإيمان قول وعمل؟ قال: نعم. قلت: يزيد وينقص؟ قال يتفاضل كلمة أحسن من كلمة3. فهذا هو وجه عدول ابن مهدي عن كلمة الزيادة والنقصان كما هو منصوصه على ذلك، فلعل ذلك أيضاً هو سبب عدول ابن المبارك عن هذه الكلمة، والله أعلم. وقد كان من السلف من ينكر على من عدل عن لفظة الزيادة والنقصان لثبوتها، كما قد روى ذلك عبد الرحمن بن مهدي نفسه رحمه الله قال:"أنا أقول الإيمان يتفاضل، وكان الأوزاعي يقول: ليس هذا زمان تعلم، هذا زمان تمسك"4. ثم وقفت على أثر عن الإمام أحمد- رحمه الله- قد يفهم منه سبب   1 هو الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن أبان بن وزير البلخي المستملي، مستملي وكيع مدة طويلة نحو بضع عشرة سنة، توفي سنة ارتع وأربعين ومائتين ببلخ، انظر ترجمته في السير (11/117) . 2 هو الإمام الناقد المجود الحافظ أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري وقيل الأزدي، مولاهم البصري كان إماماً حجة قدوة في العلم والعمل، توفي بالبصرة سنة ثمان وتسعين ومائة، انظر ترجمته في السير (9/192) . 3 السنة (2/677 ح 1005) . 4 رواه عبد الله في السنة (1/333 ح 688) ، وابن بطة في الإبانة (2/848 ح 1137) بإسناد صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 اختيار ابن المبارك للفظة"يتفاضل"فقد قال ابن هاني في مسائله:"سمعت أبا عبد الله سأل ابن أبي رزمة ما كان أبوك يقول عن عبد الله بن المبارك في الإيمان؟ قال: كان يقول: الإيمان يتفاضل. قال أبو عبد الله:"يا عجباه، إن قال لكم بزيد وينقص رجمتموه، وإن قال يتفاضل تركتموه، وهل شيء يتفاضل إلا وفيه الزيادة والنقصان"1. وعلى كل فابن المبارك عدل عن ذلك، وصار يصرح بزيادة الإيمان لكونها منصوصاً عليها في القرآن، قال رحمه الله:"م أجد بداً من الإقرار بزيادة الإيمان إزاء كتاب الله". ذكر ذلك لما قال له المستملي: يا أبا عبد الرحمن: إن ها هنا قوماً يقولون: الإيمان لا يزيد، فسكت عبد الله، حتى سأله ثلاثاً. فأجابه، فقال: لا تعجبني هذه الكلمة منكم أن ها هنا قوماً، ينبغي أن يكون أمركم جمعاً، ثم ساق ابن المبارك بسنده قول عمر بن الخطاب:"لو وزن إيمان أبي بكر الصديق بإيمان أهل الأرض لرجحهم"ثم قال: بلى إن الإيمان يزيد، بلى إن الإيمان يزيد ثلاثاً، وقال:"لم أجد بداً من الإقرار بزيادة الإيمان إزاء كتاب الله"2. وقال له شيبان بن فروخ: ما تقول فيمن يزنى ويشرب الخمر ونحو هذا أمؤمن هو؟ قال ابن المبارك: لا أخرجه من الإيمان. فقال شيبان: على كبر السن صرت مرجئاً؟ فقال له ابن البارك: يا أبا عبد الله إن المرجئة لا تقبلني أنا أقول الإيمان يزيد والمرجئة لا تقول ذلك، والمرجئة تقول: حسناتنا متقبلة وأنا لا أعلم تقبلت مني حسنة3.   1 مسائل الإمام أحمد لابن هاني (2/127) . 2 رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (3/ 671) . 3 رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (3/ 670) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 بل قد وجد في كلامه رحمه الله التصريح بنقصان الإيمان. كما روى ذلك النجاد عن علي بن الحسن بن شقيق قال سمعت عبد الله بن المبارك يقول:"الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"1. وروى إسحاق بن راهويه في مسنده عن محمد بن أعين قال: قال ابن المبارك وذكر له الإيمان فقال: قوم يقولون إيماناً مثل جبريل وميكائيل. أما فيه زيادة أما فيه نقصان، هو مثله سواء، وجبريل ربما صار مثل الوضع من خوف الله تعالى. وذكر أشباه ذلك2. قلت: أي ذكر أشباه ذلك من أساليب الإنكار على المرجئة القائلين بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، وأن أهله فيه سواء، وبهذا يعلم أن ابن المبارك رحمه الله كان يقول بزيادة الإيمان ونقصانه كغيره من أئمة أهل السنة والجماعة، رحم الله الجميع. 19- وقال خالد بن الحارث3:"الإيمان قول وعمل، يزيد وبنقص"4. 20- وقال جرير بن عبد الحميد5:"الإيمان قول وعمل، يزيد   1 الرد على من يقول القرآن مخلوق للنجاد (ص 54) . 2 مسند إسحاق (3/ 670) . 3 هو الحافظ الحجة الإمام أبو عثمان خالد بن الحارث بن عبيد الهجمي البصري، كان من أوعية العلم، كثير التحري، مليح الاتقان، متين الديانة، توفي سنة ست وثمانين ومائة.. انظر ترجمته في السير (9/ 128) . 4 رواه عبد الله في السنة (1/ 336 ح 699) بسند صحيح. 5 هو الإمام الحافظ القاضي أبو عبد الله جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي، ولد سنة عشرة من الهجرة، توفي سنة ثمان وثمانين ومائة ... انظر ترجمته في السير (9/9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وبنقص1. 21- وقال وكيع بن الجراح2:"الإيمان يزبد وينقص"3. 22- وحسن يحيى بن سعيد القطان4: الزيادة والنقصان ورآه5. قاله الإمام أحمد. وتقدم في صدر هذا المبحث قول يحيى:"ما أدركت أحداً من أصحابنا، إلا على سنتنا في الإيمان ويقولون: الإيمان يزيد وينقص".   1 رواه أبو داود في مسائل الأمام أحمد (ص 273) وعبد الله في السنة (1/ 315 ح 626) والخلال في السنة (ق 110/ أ، ح 1163) والآجري في الشريعة (ص 132) ، واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 961 ح 1747) كلهم من طريق أحمد بن حبل عن إبراهيم بن شماس قال سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: فذكره، وإسناده صحيح. 2 هو الإمام الحافظ محدث العراق أبو سفيان وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي الرؤسي الكوفي، كان من بحور العلم وأئمة الحفظ، توفي سنة سبع وتسعين ومائة.. انظر ترجمته في السير (9/ 140) . 3 رواه أبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص 272) وعبد الله في السنة (1/ 310/ ح 606) والخلال في السنة (ق 113/أ، ح 1178) وابن بطة في الإبانة (2/ 851ح1146) ، واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 962 ح 1749) كلهم من طريق الإمام احمد رحمه الله تعالى. 4 هو الإمام الكبير أمير المؤمنين في الحديث أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان التميمي مولاهم البصري توفي سنة ثمان وتسعين ومائة.. انظر ترجمته في السير (9/175) . 5 رواه أبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص 272) وعبد الله في السنة (1/ 310 ح 605) والخلال في السنة (2/ 682 ح 1015) ، وإسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 23- وقال ابن عيينة1"الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم ابن عيينة2 يا أبا محمد لا تقولن يزيد وينقص فغضب وقال: اسكت يا صبي بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء"3. وقيل له: هل الإيمان يزيد وينقص؟ قال: فأي شيء إذن؟ 4. وسئل أيضاً عن الإيمان فقال:"قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد ما شاء الله، وينقص حتى ما يبقى منه شيء مثل هذه وأشار بيده"5. 24- وقال النضر بن شميل6:"الإيمان قول وعمل، والإيمان يتفاضل"7.   1 هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران مولى محمد بن مزاحم، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة ... انظر ترجمته في السير (8/454) . 2 هو أبو إسحاق إبراهيم بن عيينة أخو سفيان، ولد سنة عشرين ومائة، توفي سنة تسع وتسعين ومائة ... انظر ترجمته في السير (8/475) . 3 رواه الحميدي في رسالته أصول السنة (2/546) "آخر مسنده" ومن طريقه العدني في الإيمان (ص 94) ، والآجري في الشريعة (ص 117) ، وابن بطة في الإبانة (2/ 855 ح1155) ، واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 0 96 ح 1745) ، والصابوني في عقيدة السلف (ص 69) ، وابن عبد البر في التمهيد (9/ 254) وقد جاء لفظه في بعض المصادر"لا تقولن ينقص". 4 رواه الآجري في الشريعة (ص 116) ، وابن بطة في الإبانة (2/ 855 ح 1157) . 5 رواه ابن بطة في الإبانة (2/ 855 ح 1156) ، ورواه بنحوه أبو نعيم في الحلية (7/290) . 6 هو العلامة الإمام الحافظ أبو الحسن النضر بن شميل بن خرشة المازني البصري، توفي آخر يوم من ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، ودفن بمرو ... انظر ترجمته في السير (9/328) . 7 رواه عبد الله في السنة (6/316 ح 632) عن أبيه عن إبراهيم بن شماس عن النضر، وهذا إسناد صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 25- وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي:"الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"1. وروي أن اثنين تناظرا عند الشافعي في هذه المسألة فذهب أحدهما إلى القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، فحمي الشافعي وتقلد المسألة على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص2. 26- وقال عبد الرزاق الصنعاني3:"سمعت معمراً وسفيان الثوري ومالك بن أنس، وابن جريج، وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"4.   1 رواه أبو نعيم في الحلية (10/115) ، والحاكم في مناقب الشافعي (كما في الفتح 1/ 47) وابن عبد الير في الانتقاء (ص 81) ، والبيهقي في الشعب (1/81) وفي الاعتقاد (ص 120) وفي مناقب الشافعي (1/ 385) من طريق الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي يقول: فذكره. وذكره النووي في تهذيب الأسماء واللغات (1/ 66) ، والذهبي في السير (10/ 32) ، وابن حجر في الفتح (1/47) . 2 روى ذلك ابن أبي حاتم في آداب الشافعي (ص 192) ، وأبو نعيم في الحلية (10/115) ، واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/962 ح 1751) ، والبيهقي في مناقب الشافعي (1/ 387) . 3 هو الحافظ الكبير عالم اليمن أبو بكر عبد الرزاق بن همام، بن نافع الحميري مولاهم الصنعاني كان عنده تشيع، توفي سنة إحدى عشرة ومائتين، انظر ترجمته في السير (9/563) . 4 رواه عبد الله في السنة (1/ 342) والآجري في الشريعة (ص 132) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/957- 1735) ، وابن عبد البر في التمهيد (9/ 252) ، وذكره الذهبي في السير (8/108) من طرق عن مسلمة بن شبيب عن عبد الرزاق، وإسناده صحيح. ورواه الأجري في الشريعة (ص 117) 5 واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 957 ح 1736) ، والجورقاني في الأباطيل (1/ 32) ، من طريق ابن زنجويه عن عبد الرزاق، وأسقط منه مالكاً وابن عيينة. ورواه ابن عبد البر في التمهيد (9/253) من طريق محمد بن يزيد عن عبد الرزاق وزاد فيه عبد الله بن عمر والأوزاعي. ورواه ابن عد البر في الانتقاء (ص 34) من طريق مؤمل بن إهاب عن عبد الرزاق، فذكره بتقديم وتأخير في ذكر الأسماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وفي رواية أن عبد الرزاق قال:"وأنا أقول ذلك، الإيمان قول وعمل، والإيمان يزيد وينقص، فإن خالفتهم فقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين"1. 27- وقال عبد الله بن الزبير الحميدي2: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل ولا قول إلا بنية، ولا قول وعمل بنية إلا بسنة"3. 28- وقال إسحاق بن راهويه4:"الإيمان يزيد وينقص حتى لا يبقى منه شيء"5.   1 هذه الزيادة عند عبد الله في السنة، وعند ابن عبد البر في التمهيد. 2 هو الإمام الحافظ الفقيه شيخ الحرم أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الأسدي الحميدي المكي صاحب المسند، توفى سنة تسع عشرة ومائتين انظر ترجمته في السير (10/ 616) . 3 أصول السنة له، طبعت في آخر مسنده (2/546) . 4 هو الإمام الكير شيخ المشرق سيد الحفاظ أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن راهويه التميمي ثم الحنظلي المروزي نزيل نيسابور، توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين انظر ترجمته في السير (11/358) . 5 رواه الخلال في السنة (2/680 ح1011) و (2/694 ح 1048) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 29- وأما أقوال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في زيادة الإيمان ونقصانه فكثيرة جداً. قال رحمه الله:"الإيمان بعضه أفضل من بعض، يزيد وينقص، وزيادته في العمل، ونقصانه في ترك العمل، لأن القول هو مقر به"1. وقال:"الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، إذا عملت الخير زاد، وإذا ضيعت نقص"2. وسئل رحمه الله عن زيادة الإيمان ونقصانه فقال:"يزيد حتى يبلغ أعلى السموات السبع وينقص حتى يصير إلى أسفل السافلين السبع"3 وأقواله غير ما ذكرت كثيرة يطول ذكرها4. 30- وقال أبو زرعة الرازي5:"الإيمان عندنا قول وعمل، يزيد   1 رواه الخلال في السنة (2/678 ح 1008) . 2 رواه الخلال في السنة (2/680 ح 1013) . 3 رواه ابن أبي يعلى في الطبقات (1/259) . 4 أنظرها في السنة للخلال (5/655 ح 957 و 676 ح 1004 و680 ح 1010، و683 ح 1020 و 689 ح 1032) ومسائل الإمام أحمد لأبى داود (ص 272) ، ومسائل الإمام احمد لابن هانىء (2/162، 164، 156، 162) والشريعة للآجري (ص 132 و117) ، والإبانة لابن بطة (2/ 851ح 1146) و (2/ 875 ح 1199) ، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/24، 25، 130، 131، 295، 313، 343) ، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 201) ، وغيرها مما يطول ذكره. 5 هو الإمام سيد الخفاظ أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد الرازي محدث الري، مولده بعد نيف ومائتين، توفي سنة أريع وستين ومائتين انظر ترجمته في السير (13/65) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وينقص، ومن قال غير ذلك فهو مبتدع مرجىء"1. 31- وقال أبو حاتم الرازي2:"مذهبنا واختيارنا وما نعتقده وندين الله به ونسأله السلامة في الدين والدنيا: أن الإيمان قول وعمل.. يزيد وينقص"3. هذه بعض أقوال السلف الصالح أهل السنة والجماعة في زيادة الإيمان ونقصانه، والأمر كما قال شيخ الإسلام:"والآثار في هذا كثيرة، رواها المصنفون في هذا الباب عن الصحابة والتابعين في كتب كثيرة معروفة"4. وقد قال بهذا القول غير من تقدم خلق كثير من أهل السنة يطول ذكرهم، يمكن مطالعة أقوالهم في الكتب التي تعني بنقل أقوال السلف والآثار الواردة عنهم في ذلك أمثال: الإيمان لأبي عبيد، والإيمان لابن أبي شيبة، والمصنف له، والمصنف لعبد الرزاق، والسنة لعبد الله، والسنة للخلال، والشريعة للآجري، وتهذيب الآثار للطبري، والتفسير له، والإيمان لابن مندة، والإبانة لابن بطة، وأصول السنة لابن أبي زمنين، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، والتمهيد لابن عبد البر، وشعب الإيمان للبيهقي، والاعتقاد له، وغيرها وهؤلاء العلماء المشار إلى مصنفاتهم آنفاً كلهم قالوا بهذا القول، ولهذا ذكروه في   1 رواه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/203) . 2 هو الإمام الحافظ الناقد شيخ المحدثين أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الرازي الحنظلي، كان من بحور العلم، توفي سنة سبع وسبعين ومائتين. انظر ترجمته في السير (13/147) . 3 رواه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/286) . 4 الفتاوى (7/225) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مصنفاتهم، واحتجوا له بنصوص الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة. وقال بهذا القول بعدهم خلق كثير، ممن نهج منهج السلف الصالح، أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وابن رجب، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، والصنعاني، والشوكاني وغيرهم كثير مما يصعب حصره، ويطول ذكره، ولو تقصيت أقوالهم في ذلك، ودونتها، لطال المقام، وأفضى إلى الإملال. والمقصود بيان أن قول أهل السنة والجماعة بلا ريب، أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، لا قول لهم غيره، بل هم مجمعون عليه ومن نسب إليهم خلاف ذلك فقد جهل مذهبهم ونسب إليهم ما لم يقولوه. ثم إني بعد ذلك لأعجب أشد العجب ممن يعد هذه المسألة من مسائل الخلاف بين أهل السنة ثم يقول: وجمهور أهل السنة على أنه يزيد وينقص، وذلك لأنه رأى البعض شذ في هذا، وأتى بقول ليس عليه دليل لا من كتاب ولا سنة ولا عقل، بل الكتاب والسنة والعقل على خلافه. فهل كل من شذ في مثل هذا عد شذوذه معتبراً، وعد الأمر المجمع عليه خلافياً؟! وهل كل من خالف النور الأبلج والحق المبين، عد ما خالف فيه من الأمور المتنازع فيها؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الفصل الثاني أوجه زيادة الإيمان ونقصانه أوضحت في الفصل الذي سبق، قول أهل السنة والجماعة في زيادة الإيمان ونقصانه، وبسطت أدلتهم عليه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم اتبعت الأدلة بنقل جملة من أقوالهم الصالحة في ذلك. أما هذا الفصل فهو لبيان الأوجه التي يكون فيها زيادة الإيمان ونقصانه، إذ إن الإيمان الذي أمر الله به عباده، والذي يكون من عباده المؤمنين يزيد وينقص من أوجه متعددة، فهو يزيد وينقص من جهة معرفة القلب وتصديقه وأعماله، ومن جهة أقوال اللسان وأعماله، ومن جهة الأعمال الظاهرة، ومن أوجه أخرى غيرها، وفي هذه الأوجه أبلغ رد على من أنكر زيادة الإيمان ونقصانه إجمالاً، أو أنكر ذلك في بعض جوانبه، كتصديق القلب أو معرفته أو غير ذلك. وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الإيمان هذه الأوجه بسطاً وافياً وأحسن في بيانها وذكر أدلتها1 فسأذكر في هذا الفصل الأوجه التي ذكرها شيخ الإسلام مع شيء من التصرف في العبارة، وزيادة بيان في بعض المواضع، وزيادة في بعض الأدلة، وذلك   1 انظرها في الفتاوى لشيخ الإسلام (7/232- 237، و 562- 584، و 672) ونقلها عنه السفاريني في لوامع الأنوار (1/413- 416) واختصر بعضها ابن أبي العز في شرحه لعقيدة الإمام الطحاوي (ص 317 و 318) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 حسب ما يقتضيه المقام وتدعو إليه الحاجة وفيما يلي ذكر هذه الأوجه مجملة ثم يأتي بعد ذلك تفصيلها. ا- أن الإيمان يزيد وينقص من جهة الإجمال والتفصيل فيما أمروا به. 2- أنه يزيد وينقص من جهة الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم. 3- أنه يزيد وينقص من جهة علم القلب وتصديقه. 4- أنه يزيد وينقص من جهة المعرفة القلبية وهي دون التصديق. 5- إنه يزيد وينقص من جهة عمل القلب كالمحبة والخوف والرجاء وغيرها. 6- أنه يزيد وينقص من جهة أعمال الجوارح الظاهرة. 7- أنه يزيد وينقص من جهة استحضار الإنسان لأوامر الدين الحنيف وعدم الغفلة عنها والثبات والدوام عليها. 8- أنه يزيد وينقص من جهة أن الإنسان قد يكون منكراً ومكذباً بأمور، لا يعلم أنها من الإيمان، ثم يتبين له بعد أنها منه، فيزداد بذلك إيمانه. 9- أنه يزيد وينقص في هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها. فهذه أوجه زيادة الإيمان ونقصانه على وجه الإجمال، أما التفصيل لها فكما يلي: الوجه الأول: الإجمال والتفصيل فيما أمروا به، فإنه وإن وجب على جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الخلق الإيمان بالله ورسوله، ووجب على كل أمة التزام ما يأمرهم به رسولهم، فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله وإتمام الشرع، ولا يجب على كل عبد أن يؤمن إيماناً مفصلاً بكل ما أخبر به الرسول إن لم يبلغه تفاصيل ذلك، فمن بلغه وجب عليه أن يؤمن به إيماناً مفصلاً، فإن من عرف القرآن والسنن ومعانيها لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لا يلزم غيره. فلو آمن رجل بالله وبالرسول باطناً وظاهراً، ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين، مات مؤمناً بما وجب عليه من الإيمان، وليس ما وجب عليه ولا ما وقع منه مثل إيمان من عرف الشرائع بتفاصيلها فآمن بها وعمل بها، بل إيمان هذا الأخير أكمل وجوباً ووقوعاً، لأن ما وجب عليه من الإيمان أكمل وكذلك ما وقع منه أكمل، وبهذا يعلم أنه ليس من التزم طاعة الرسول مجملاً، ومات قبل أن يعرف تفصيل ما أمره به، كمن عاش حتى عرف ذلك مفصلاً وأطاعه فيه، فليس إيمان من آمن بالرسول مجملاً من غير معرفة منه بتفاصيل أخباره، كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته، والجنة والنار والأمم، وآمن به في ذلك كله، فشتان ما بين هذا وذاك. وقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } 1 المراد به إكمال التشريع بالأمر والنهي، وليس المراد به أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة، وأنه فعل ذلك، بل لقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف النساء بأنهن ناقصات عقل ودين2، وجعل نقصان عقلها أن شهادة امرأتين شهادة رجل واحد، ونقصان دينها أنها إذا   1 سورة المائدة، الآية: 3. 2 تقدم تخريجه (ص 81) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 حاضت لا تصوم ولا تصلي، وهذا النقصان ليس هو نقصاً مما أمرت به، فلهذا لا تعاقب عليه لأنها لم تؤمر به، لكن من أمر بالصلاة والصوم ففعله كان دينه كاملاً بالنسبة إلى هذه الناقصة الدين، والتي تترك الصلاة والصوم حال حيضها، وإن كانت مأمورة بهذا الترك، فذاك إيمانه أكمل من هذه للتفاوت بينهما في المأمور به. فهدا وجه من أوجه الزيادة، والنقصان في الإيمان. وذكر شيخ الإسلام نحو ما تقدم في شرحه للعقيدة الأصفهانية ثم قال: "فصار النقص في الدين والإيمان نوعين نوعاً لا يذم العبد عليه لكونه لم يجب عليه لعجزه عنه حساً أو شرعاً، وإما لكونه مستحباً ليس بواجب، ونوعاً يذم عليه وهو ترك الواجبات"1 قلت. أي دون عذر. الإجمالي والتفصيل فيما وقع منهم، فإن الناس وإن تساووا في وجوب الإيمان عليهم جميعاً، فهم متفاوتون في القيام به: 1- فمنهم من يطلب علم ما أمر به وما وجب عليه فيتعلمه ويعمل به، فيجمع بين العلم والعمل. 2- ومنهم من يطلب علم ما أمر به فيتعلمه ويؤمن به ويصدق، ولكن لا يعمل به. 3- ومنهم من يؤمن بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقاً ولا يكذبه قط، لكنه يعرض عن معرفة أمره ونهيه ويعرض عن طلب   1 شرح العقيدة الأصفهانية (ص 139) . قلت: وقوله: "لعجزه عنه حساً"، كالمرض، وقوله: "أو شرعاً"كالحيض، وانظر الفتاوى (7/ 196) وفتح رب البرية لابن عثيمين (ص 66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 العلم الواجب عليه بل يتبع هواه فلا يتعلم الواجب عليه ولا يعمل به. فهؤلاء الثلاثة وإن اشتركوا في الوجوب، فإنهم متفاوتون في الإيمان تفاوتاً عظيماً فالأول منهم وهو الذي طلب علم التفصيل وعمل به إيمانه أكمل من إيمان الثاني الذي عرف ما يجب عليه والتزمه وأقرّ به، لكنه لم يعمل به وهو خائف من عقوبة ربه على ترك العمل معترف بذنبه، وهذا الثاني إيمانه أكمل من إيمان الثالث الذي لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه مقر بنبوته باطناً وظاهراً. وهذا التفاوت بينهم في الإيمان إنما هو فيما وقع منهم، لا في ما أمروا به لأنهم متساوون في وجوبه عليهم جميعاً، وبهذا يتبين أن الإيمان يزيد وينقص من جهة قيام المؤمنين به ووقوعه منهم، فكلما علم القلب ما أخبر به الرسول فصدقه، وما أمر به فالتزمه، كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإن كان معه التزام عام وإقرار عام، وكذلك من عرف أسماء الله ومعانيها، فآمن بها، كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء بل آمن بها إيماناً مجملاً، أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله وصفاته وآياته، كان إيمانه به أكمل. وبالجملة فإنه كلما ازداد المسلم قياماً بأوامر هذا الدين والتزاماً لأحكامه، زاد إيمانه بذلك، وكان أكمل من غيره ممن لم يقم بذلك، وهذه الزيادة في الإيمان إنما وقعت من جهة قيام المؤمنين به ووقوعه منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الوجه الثالث: أن العلم والتصديق نفسه يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت وأبعد عن الشك والريب، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، فإن الإنسان يجد في نفسه أن علمه بمعلومه يتفاضل حاله فيه، كما يتفاضل حاله في سمعه لمسموعه، ورؤيته لمريئه، وحبه لمحبوبه، وكراهيته لمكروهه، ورضاه بمرضيه، وبغضه لبغيضه، ولا ينكر التفاضل في هذه أحد، بل من أنكر التفاضل فيها كان مسفسطاً مكذباً للأمور المسلمات. فالعلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت كما يتفاضل سائر صفات الحي من القدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، بل سائر الأعراض من الحركة والسواد والبياض ونحو ذلك، فإذا كانت القدرة على الشيء تتفاوت فكذلك الإخبار عنه يتفاوت، وإذا قال القائل العلم بالشيء الواحد لا يتفاضل كان بمنزلة قوله القدرة على المقدور الواحد لا تتفاضل، وقوله ورؤية الشيء الواحد لا تتفاضل. ومن المعلوم أن الهلال المرئي يتفاضل الناس في رؤيته، فهم وإن اشتركوا فيها، فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض، وكذلك سمع الصوت الواحد يتفاضلون في إدراكه، وكذلك الكلمة الواحد يتكلم بها الشخصان ويتفاضلان في النطق بها وكذلك شم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام يتفاضل الشخصان فيه، فما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته وحركاته، بل وغير صفات الحي، إلا وهي تقل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر، وهذا مما لا يختلف فيه اثنان. فإذا كان ذلك كذلك فإن علم القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من هذا بكثير، فالمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه، يتفاضل الناس في معرفتها، أعظم من تفاضلهم فني معرفة غيرها، وهكذا سائر أمور الإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ومما يوضح هذا الوجه في التفاضل في تصديق القلب، أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله1، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فمن آمن وصدق بأن الله حق، ورسوله حق، والجنة حق، والنار حق، وأوجب له هذا التصديق محبة الله وخشيته والرغبة في الجنة، والهرب من النار، فإيمان هذا أكمل ممن آمن وصدق بهذه الأمور إلا أن إيمانه لم يوجب له ذلك. قال النووي بعد أن ذكر قول من قال إن التصديق لا يزيد ولا ينقص وإنه متى قبل الزيادة كان شكا وكفراً، قال: "والأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره ... "2. وقال النووي أيضاً. "والناس يتفاضلون في تصديق القلب على قدر علمهم ومعاينتهم فمن زيادته بالعلم قوله تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} ومن المعاينة قوله تعالى: {لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} فجعل له مزية على علم اليقين والله أعلم "3.   1 وقد جعل شيخ الإسلام هذا وجهاً مستقلاً، لكن يبدو أنه مرتبط بالذي قبله، وأنه بمثابة التوضيح له. 2 شرح صحيح مسلم للنووي (1/148، 149) ، وانظر أيضا نحو هذا في فتاويه المسماة بـ"المسائل المنثورة" (ص 194) . 3 شروح البخاري (1/ 226) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ونقله عنه الحافظ في الفتح ثم قال: "ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها"1. وقال شيخ الإسلام: "إن التصديق نفسه يتفاضل كنهه، فليس ما أثنى عليه2 البرهان بل تشهد له الأعيان، وأميط عنه كل أذى وحسبان، حتى بلغ أعلى درجات الإيقان، كتصديق زعزعته الشبهات، وصدفته الشهوات، ولعب به التقليد، ويضعف لشبه المعاند العنيد، وهذا أمر يجده من نفسه كل منصف رشيد"3. وقال ابن رجب: "والتصديق القائم بالقلوب يتفاضل، وهذا هو الصحيح، وهو أصح الروايتين عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل، فإن إيمان الصديقين الذي يتجلى الغيب لقلوبهم حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك والارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لا يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شكك لدخله الشك ... "4. قلت: لم أقف على نقل عن الإمام أحمد رأى فيه أن التصديق لا يتفاضل، وإنما الذي نقل عن الإمام فيه روايتان فيما أطلعت عليه هو: "المعرفة القلبية"كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكما سيأتي في الوجه التالي، فلعل الحافظ ابن رجب قصد بالروايتين عنه   1 فتح الباري (1/ 46) . 2 أي: فليس التصديق الذي أثنى ... إلخ. 3 الفتاوى (6/480، 481) ، وانظر تهذيب السنن لابن القيم (7/ 56) . 4 جامع العلوم والحكم (ص 28) ، بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 في التصديق ما جاء عنه في المعرفة والله أعلم. وقال الكرخي: "إن نفس التصديق يقبل القوة، وهي التي عبر عنها بالزيادة، للفرق المميز بين يقين الأنبياء ويقين آحاد الأمة وكذا من قام عليه دليل واحد ومن قامت عليه أدلة كثيرة، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه"1. فبهذا البيان والنقول يتضح بما لا مجال للشك في، أن التصديق نفسه يقبل الزيادة والنقصان، فتأمل هذا الوجه جيداً فقد اشتمل على أوضح رد وأجلى بيان لبطلان قول من قال إن التصديق لا يزيد ولا ينقص، وإن نقصانه يقتضي الشك والكفر، وسيأتي مزيد بيان لذلك، وذكر من قال به وإبطاله في مبحث قادم إن شاء الله تعالى. الوجه الرابع: إن المعرفة القلبية- وهي دون التصديق2- يتفاضل الناس فيها، فهي تختلف من حيث الإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، ودوام الحضور والغفلة فليست المعرفة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها كالمجملة التي غفل عنها صاحبها، وإذا حصل له ما يريبه فيها ارتاب ثم رغب إلى الله في كف الريب. قال شيخ الإسلام: "وكذلك المعرفة التي في القلوب تقبل التفاضل   1 نقله عنه أبو السعود في تفسيره (3/4) وصديق حسن خان في كتابه فتح البيان (4/ 6) والنقل بتصرف. 2 لمعرفة الفرق بين المعرفة والتصديق انظر رسالة الإمام أحمد للجوزجاني ضمن السنة للخلال (ق 105/أ) وانظرها وشرح شيخ الإسلام لها في الفتاوى (7/ 390، وما بعدها) ، قال شيخ الإسلام في شرحها (7/ 395) : "وأحمد فرق بين المعرفة التي في القلب وبين التصديق الذي في القلب.. ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 على الصحيح عند أهل السنة، وفي هذا نزاع، فطائفة من المنتسبين إلى السنة تنكر التفاضل في هذا كله كما يختار ذلك القاضي أبو بكر وابن عقيل وغيرهما، وقد حكي عن أحمد في التفاضل في المعرفة روايتان "1. وقال شيخ الإسلام: "وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك عن أحمد روايتين، 2. قلت: وكلتا الروايتين ثابتتان عن الإمام رحمه الله بسند صحيح، أما الرواية الأولى فقد خرّجها الخلال في السنة من طريق أبي بكر محمد بن علي أن يعقوب بن بختان حدّثهم قال: سألت أبا عبد الله عن المعرفة والقول تزيد وتنقص؟ قال: لا، قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل3. وأما الرواية الثانية فخرجها أيضاً الخلال في السنة من طريق المروذي قال: قلت لأبي عبد الله في معرفة الله عز وجل في القلب يتفاضل فيه؟ قال: نعم، قلت: ويزيده قال: نعم4.   1 الفتاوى (7/408) وانظر الفتاوى (0 1/ 722) وانظر كذلك شرح الكوكب المنير لأن البقاء الفتوحي (ص 18) فقد نقل عن شيخ الإسلام أنه قال:" ... والصحيح أن جميع الصفات المشروطة بالحياة تقبل التزايد، وعن أحمد رضي الله عنه في المعرفة الحاصلة في القلب من الإيمان: هل تقبل التزايد والنقص؟ روايتان، والصحيح من مذهبنا ومذهب جمهور أهل السنة إمكان الزيادة في جميع ذلك..". 2 درء التعارض (7/451) قلت: ذكر القاضي أبو يعلى هاتين الروايتين عن الإمام في كتابه الروايتين والوجهين (ق 251/ ب) . 3 السنة للخلال (2/ 677) . 4 السنة للخلال (2/ 676) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قلت: ولا تعارض عندي بين هاتين الروايتين عن الإمام، فهو رحمه الله جزم في الرواية الأولى بالإتيان بالمعرفة والقول، وهذا مما لا يجوز لمسلم أن يرتاب فيه إذ إن من شك في إتيانه بالمعرفة والقول يكفر، لكن المعرفة تختلف من شخص لآخر قرة وضعفاً بحسب قوة الأدلة وكثرة النظر، وهذا ما بينّه رحمه الله في الرواية الثانية، حيث بين أن الناس يتفاضلون في المعرفة ث أنها تزيد، وهذا لا يتنافى مع الجزم بالإتيان بالمعرفة، لأن القدر الواجب من المعرفة يجزم به المسلم، ولا يمكن أن يجزم بأنه بلغ أعلى درجات المعرفة، لأن المعرفة درجات والناس متفاضلون فيها، والله أعلم. ثم بعد كتابتي هذا التوفيق بين الروايتين، وقفت على كلام نحوه للقاضي أبي يعلى في التوفيق بينهما، حيث قال رحمه الله بعد أن أشار إلى هاتين الروايتين "وعندي أن المسألة ليست على روايتين وإنما هي على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال لا تزيد ولا تنقص يعني به نفس المعرفة، لأن المعرفة هي: معرفة المعلوم على ما هو به، وذلك لا يختلف بحال.. والموضع الذي قال: تزيد وتنقص يعني بالزيادة في معرفة الأدلة وذلك قد يزيد وينقص، فمنهم من يعرف الشيء من جهة واحدة، ومنهم من يعرفه من جهات كثيرة"1. ثم إن مما يوضح لنا هذا الوجه. أعني التفاضل في المعرفة ويبينه أن معرفة الإنسان بالشيء إن عاينه تختلف عن معرفته به إن لم يعاينه وإن كان جازماً بصدق من أخبره.   1 الروايتين والوجهين (ق 251/ ب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة" 1 فإن موسى لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل، لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المُخْبَر وإن جزم بصدق المُخْبِر، فقد لا يتصور المُخْبَر به في نفسه كما يتصوره إذا عاينه، بل يكون قلبه مشغولاً عن تصور المخبر به، وإن كان مصدقاً به، ومعلوم أنه عند المعاينة يحصل له من تصور المخبر به ما لم يكن عند الخبر2. فالزيادة والنقصان في الإيمان شاملة لمعرفة القلوب لتفاضل الناس فيها، من جهة الإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، والذكر والغفلة، فمعرفة الله وأسمائه وصفاته، وأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غفور رحيم، عزيز حكيم، شديد العقاب، إلى غير ذلك من صفاته، كل ذلك داخل في الإيمان، إذ لا يمكن لمسلم أن يقول إنه ليس من الإيمان، ومعلوم أن الناس متفاوتون في معرفتها وغير متماثلين، بل لا يمكن لأحد أن يدعي تماثل الناس في ذلك3. ثم من المعلوم أيضاً أن الناس يتفاضلون في معرفة الملائكة وصفاتهم، ويتفاضلون في معرفة الروح وصفاتها، وفي معرفة الجن وصفاتهم، وفي معرفة الآخرة وما بها من نعيم وعذاب، بل ويتفاضلون   1 رواه أحمد (1/271) وابن حبان (كما في الإحسان 8/ 32) وأبو الشيخ في الأمثال (ص 25) والحاكم (2/321) من طرق عن سريج بن يونس عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً وإسناده صحيح، صححه ابن حبان، وقال الحاكم "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع (5/ 87) . 2 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 243) . 3 انظر المرجع السابق (7/ 414) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 في معرفة أبدانهم وصفاتها وصحتها ومرضها وما يتبع ذلك، فإن كانوا متفاضلين في ذلك كله، فتفاضلهم في معرفة الله أعظم وأعظم1. قال شيخ الإسلام: "ولا ريب أن المؤمنين يعرفون ربّهم في الدنيا، ويتفاوتون في درجات العرفان، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالله وقد قال: "لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" 2 وهذا يتعلق بمعرفة زيادة المعرفة ونقصها المتعلقة بمسألة زيادة الإيمان ونقصه "3. وقال ابن قاضي الجبل4 في أصوله: "الأصح التفاوت، فإنا نجد بالضرورة الفرق بين كون الواحد نصف الاثنين، وبين ما علمناه من جهة التواتر مع كون اليقين حاصل فيهما"5. قال السبكي في رسالة له ألّفها في الاستثناء نقل أكثرها الزبيدي في الإتحاف: "والمعرفة يتفاوت الناس فيها تفاوتا كثيراً ... وأعلى الخلق معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأنبياء والملائكة على مراتبهم وأدنى المراتب الواجب الذي لا بد منه في النجاة من النار وفي عصمة الدم، وبين ذلك وسائط كثيرة منها واجب ومنها ما ليس بواجب وكل ذلك داخل في اسم الإيمان ... "6. وبهذا يتبين أن المعرفة القلبية تقبل الزيادة والنقصان وبالله التوفيق.   1 انظر المرجع السابق (7/ 569) . 2 جزء من حديث، أخرجه مسلم (1/352) عن عائشة رضي الله عنها. 3 الفتاوى (6/ 479) . 4 هو احمد بن الحسن بن عبد الله المعروف بابن قاضي الجبل ت 771 هـ. انظر ترجمته في ذيل الطبقات لابن رجب (2/453) . 5 نقله عنه الفتوحي في شرح الكوكب المنير (ص 18) . 6 إتحاف السادة المتقين (2/280) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فائدة جليلة: تنازع الناس في المعرفة القلبية هل حصلت بالشرع أو بالعمل؟ قال شيخ الإسلام بعد أن نقل الخلاف في ذلك "وحقيقة المسألة: أن المعرفة منها ما يحصل بالعقل، ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع، فالإقرار الفطري، كالإقرار الذي أخبر الله به عن الكفار، قد يحمل بالعقل كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1. وأما ما في القلوب من الإيمان المشار إليه في قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} 2 فلا يحصل إلا بالوحي.. "3. الوجه الخامس: إن أعمال القلوب كالمحبة والخشية والخشوع والذل والإنابة والتوكل والحياة والرغبة والرهبة والخوف والرجاء وغيرها. يتفاضل الناس فيها تفاضلاً عظيماً. وهي جميعها من أعمال الإيمان كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق سلف هذه الأمة. فالمحبة مثلاً الناس متفاوتون فيها، ما بين أفضل الخلق محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام وهما خليلا الله وأشد الناس محبة له، إلى أدنى الناس درجة في الإيمان كمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وبين هذين الحدين من الدرجات ما لا يحصيه إلا رب الأرض   1 سورة لقمان، الآية: 25. 2 سورة الشورى، الآية: 52. 3 درء التعارض (7/ 458) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 والسموات، فإنه ليس في أجناس المخلوقات ما يتفاضل بعضه على البعض كبني آدم. بل إن هذا التفاضل في المحبة يعلمه كل إنسان من نفسه بحسب الحب الذي قام في قلبه لأي محبوب كان، سواء كان حباً لولده أو لامرأته أو لرياسته أو لصديقه أو غير ذلك، فإن حبه لهذه الأشياء على درجات، فالحب أوله علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب نحوه، ثم غرام للزومه القلب كما يلزم الغريم غريمه، إلى غير ذلك من درجات الحب وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، فإذا علم تفاضل الناس في حب هذه الأشياء من محبوباتهم، فتفاضلهم في حب الله أعظم. وقد دل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على تفاضل الناس فيها قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ... } 1. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. فهاتان الآيتان فيهما دلالة على تفاضل الناس في المحبة، ففي قوله: {أَشَدُّ حُبّاً} في الآية الأولى وقوله: {أَحَبَّ} في الآية الثانية أعظم دلالة على ذلك، لاستخدام أفعل التفضيل فيهما الدال صراحة على   1 سورة البقرة الآية: 165. 2 سورة التوبة، الآية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 التفاضل. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" 1. وفيهما عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدهم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " 2. وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر" 3. فهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيها أوضح دلالة على تفاضل الناس في المحبة. فقد ذكر فيها كلمة "أحب" الدالة على التفاضل تصريحاً. فمن أنكر ذلك وقال بخلافه، فقد خالف الكتاب والسنة، بل وخالف اللغة والعقل والحس. وكما أن الناس يتفاضلون في المحبة كما سبق، وهي عمل قلبي،   1 البخاري (1/260 و0 1/ 463 و 12/ 315 فتح) ومسلم (1/ 66) .. 2 البخاري (1/58 فتح) ومسلم (1/67) . 3 البخاري (11/523 فتح) وهذا الحديث من أفراد البخاري، ولم يشر إلى ذلك الحافظ في الفتح كما هي عادته في نهاية شرحه لكل كتاب من صحيح البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فهم كذلك يتفاضلون في سائر أعمال القلوب من خشية وإنابة وتوكل ورجاء وخوف وحياء وغير ذلك، فهذه كلها يتفاضل الناس فيها تفاضلاً عظيماً، وهذا من الأمور المعلومة الظاهرة، والأدلة عليها في الكتاب والسنة كثيرة منها: قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1. وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 2. وقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 3. وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 4. وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 5. وقوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 6. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ   1 سورة فاطر، الآية: 28. 2 سورة الأنفال، الآية: 2. 3 سورة الحديد، الآية: 16. 4 سورة الرعد، الآية: 28. 5 سورة الإسراء، الآية: 57. 6 سورة النجم، الآية: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فُرْقَاناً ... } 1. وقوله: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 2 وغيرها من الآيات. ومن السنة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير" 3 الحديث. وحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" 4. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والحياء شعبة من الإيمان" 5. وحديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" 6. وغيرها من الأحاديث ففي هذه النصوص أوضح دلالة على تفاضل الناس في أعمال القلوب وتفاوتهم فيها.   1 سورة الأنفال، الآية ت 29. 2 سورة الزمر، الآية: 10. 3 تقدم تخريجه (ص 76) . 4 تقدم تخريجه (ص 83) . 5 تقدم تخريجه (ص 71) . 6 تقدم تخريجه (ص 85) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ثم إن النصوص الواردة في ذلك كثيرة، ولو تتبعتها وذكرت كل عمل من الأعمال القلبية بأدلته كما فعلت في المحبة، لطال المقام، والأمر لا يحتاج إلى ذلك، لأن كل إنسان يحس ذلك ويلمسه في نفسه، فإن الإنسان يجد نفسه في وقت أشد حياء منه في الوقت الآخر، وفي وقت أشد خوفاً منه في الوقت الآخر، وهكذا سائر أعمال القلب، فإن الإنسان يحس في نفسه تفاوته من وقت لآخر فيها. قال شيخ الإسلام: "فإنه من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن، أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء والكبر والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق والنصح لهم.. ثم ذكر بعض نصوص الكتاب والسنة الدالة على ذلك، ثم قال: وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه، فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة"1. وبين في موضع آخر أن هذا هو قول أهل السنة والجماعة، فقال: "والذي مضى عليه سلف الأمة وأئمتها أن نفس الإيمان الذي في القلوب يتفاضل ... "2. وقال الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وأما كون الذي في القلب والذي في الجوارح يزيد وينقص فذاك شيء معلوم، والسلف كانوا يخافون على الإنسان إذا كان ضعيف الإيمان   1 الفتاوى (7/ 563، 564) . 2 الفتاوى (6/ 479) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 النفاق أو سلب الإيمان كله"1. الوجه السادس: إن الأعمال الظاهرة يتفاضل الناس فيها وتزيد وتنقص وهذا شامل لأعمال اللسان، كالتسبيح والتكبير والاستغفار والذكر وقراءة القرآن وغيرها، وشامل لأعمال الجوارح، كالصلاة والحج والجهاد والصدقة وغيرها. فهذه الأعمال الظاهرة هي من الإيمان، وداخله في مسماه، والتفاضل يقع فيها كما يقع في الأعمال الباطنة. قال شيخ الإسلام: "وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان ... "2. وقال: "وأما زيادة العمل الصالح الذي على الجوارح ونقصانه فمتفق عليه وان كان في دخوله في مطلق الإيمان نزاع، والذي عليه أهل السنة والحديث أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"3. أما الأدلة على تفاضل الناس في الأعمال الظاهرة: أعمال اللسان، وأعمال الجوارح فكثيرة جداً. فمن أدلة تفاضل الناس في أعمال اللسان: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 4.   1 الدرر السنية (1/ 106) ومجموع مؤلفات الشيخ "قسم الفتاوى" (ص 51) . 2 الفتاوى (7/ 562) . 3 الفتاوى (6/ 479) باختصار. 4 سورة الأحزاب، الآيتان: 41- 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} 1. وقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 2. وقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 3. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} 4. وقوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} 5. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربّه مثل الحي والميت" 6. وفي الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن إقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها" 7.   1 سورة آل عمران، الآية: 41. 2 سورة آل عمران، الآية: 191. 3 سورة الأحزاب، الآية: 35. 4 سورة فاطر، الآية: 29. 5 سورة مريم، الآية: 58. 6 البخاري (11/ 208 فتح) ومسلم (1/ 539) واللفظ للبخاري. 7 الترمذي (5/177) ورواه أبو داود (2/ 73) وأحمد (2/192) وابن حبان (2/ 71 الإحسان) والحاكم (1/ 553) والبغوي (4/435) وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"وصححه ابن حبان والحاكم وسكت عنه الذهبي وصححه الألباني انظر صحيح الجامع (6/349) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فهذه النصوص فيها أوضح دلالة على تفاضل الناس في أعمال اللسان، إذ هم ليسوا سواء في القيام بأعماله، بل متفاوتون. ومن أدلة تفاضل الناس في أعمال الجوارح: قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 1. وقوله: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً} 2. وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3. وتقدم حديث الشعب، وفيه جعل النبي صلى الله عليه وسلم إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ... " الحديث. فهذه النصوص فيها ذكر جملة من الأعمال الإيمانية كالصلاة والزكاة، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وتغيير المنكر باليد على حسب   1 سورة البقرة الآية: 238. 2 سورة إبراهيم، الآية: 31. 3 سورة المؤمنون، الآيات: 1- 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الاستطاعة، وإماطة الأذى عن الطريق فهذه كلها من الأعمال الإيمانية التي تكون بالجوارح، وما من شك في أن الناس متفاضلون في هذه الأعمال أداء لها ومحافظة عيها وقياماً بها، فهم ليسوا في ذلك على درجة واحدة، بل بينهم فيها تفاوت عظيم. الوجه السابع: إن الإيمان يتفاضل ويزيد وينقص من جهة استحضار الإنسان بقلبه لأمور الإيمان، وذكره لها، ودوامه وثباته عليها، بحيث لا يكون غافلاً عنها، فإن من كان كذلك أكمل إيماناً ممن صدق بالمأمور به وغفل عنه. وذلك لأن الغفلة تضاد كمال العلم والتصديق والذكر، وأما دوام الاستحضار وعدم الغفلة فإنه يكمل العلم واليقين ويقوي الإيمان، فالعالم بالشيء في حالة غفلته عنه دون العالم بالشيء حال ذكره له، والعلم وإن كان في القلب فالغفلة تنافي تحققه. فالغفلة وعدم استحضار الأوامر، لها أثر في نقص كمال الإيمان وضعفه ولهذا قال عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه: "إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضعينا فذلك نقصناه"1. وكان معاذ بن جبل يقول لأصحابه "اجلسوا بنا نؤمن ساعة"2. وهذا يدلنا على أن الحذر من الغفلة، واستحضار الإيمان سبب لزيادة الإيمان، وعدم ذلك سبب لنقصه. ولهذا فإن الله الكريم نبّه في مواضع كثيرة من كتابه على أهمية الذكرى وعظم شأنها، وخطر الغفلة وشدة ضررها، ومن ذلك قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ   1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الْمُؤْمِنِينَ} 1. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 2 ومعنى شهيد أي: حاضر القلب وليس بغافل. وقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} 3. وقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} 4. وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} 5 وغيرها من الآيات. الوجه الثامن: إن الإنسان قد يكون مكذباً ومنكراً لأمور لا يعلم أنها من الإيمان، ولو كان عالماً بأنها منه لم يكذب ولم ينكر، فإذا تبين له بعد أنها من الإيمان، وظهر له ذلك بوجه من الوجوه، فإنه يصدق بما كان مكذباً به، ويعرف ما كان منكراً له، وهذا تصديق جديد، وإيمان جديد، ازداد به إيمانه، وهو لم يكن قبل ذلك كافراً بل جاهلاً. وهذا يحصل لكثير من الناس ولاسيما أهل العلوم والعبادات، فإنه يقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا يعرفون أنها تخالف، فإذا عرفوا رجعوا. وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه، أو عمل عملاً أخطأ فيه،   1 سورة الذاريات، الآية: 55. 2 سورة ق، الآية: 37. 3 سورة الأعلى، الآيتان: 10- 11. 4 سورة الكهف، الآية: 28. 5 سورة الأعراف، الآية: 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وهو مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم مصدق بما جاء به ثم عرف ما قاله وآمن به وترك ما كان عليه من خطأ، فهو من هذا الباب، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب، فمن علم ما جاء به الرسول وعمل به، أكمل ممن أخطأ ذلك ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به أكمل ممن لم يكن كذلك. فهذا أحد أوجه زيادة الإيمان ونقصانه، وهو وإن أشبه الوجه الأول وهو المجمل والمفصل من جهة أنه تجدد عند هذا وهذا شيء من معارف الإيمان وعلومه مما لم يكن قبل عندهما، إلا أنهما مختلفان من جهة أن صاحب الوجه الأول كان قلبه خالياً من تكذيب وتصديق لشيء من التفاصيل وعن معرفة وإنكار لشيء من ذلك، أما صاحب هذا الوجه فهو مكذب بشيء من التفاصيل منكر لها لجهله أنها من الإيمان وبهذا يظهر الفرق بين الوجهين. الوجه التاسع: إن التفاضل يحصل من هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها، فمن كان مستنداً في تصديقه ومحبته على أدلة توجب اليقين ولا تدع مجالاً للشبه العارضة، بل تدحضها وتبين فسادها، فهو ليس بمنزلة من كان تصديقه لأسباب دون ذلك، فإن تصديقه قد يتزعزع ويداخله الشك والريب لضعف أسباب التصديق عنده وكذلك من جعل له علوماً ضرورية قوي تمكنها في نفسه بحيث لا يمكنه دفعها عن نفسه، لم يكن بمنزلة من تعارضه الشبه ويريد إزالتها بالنظر والبحث وقد لا يستطيع. ولا يستريب عاقل أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها، وبفساد الشبه المعارضة لذلك وبطلانها ليس كالعلم الذي هو مستند على دليل واحد أو دليلين من غير معرفة بالشبه المعارضة له، وفسادها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فالشيء كلما قويت أسبابه وتعددت وانقطعت موانعه واضمحلت كان أوجب لكماله وقوته وتمامه، والعكس بالعكس. فهذه الأوجه التسعة تبين تفاضل الناس فيما يقوم بالقلب واللسان والجوارح، وبالتأمل قد يظهر غيرها. ثم إن هذه الأوجه التسعة تتلخص في وجهين اثنين هما: ا- إن الإيمان يتفاضل من جهة أمر الرب. 2- إن الإيمان بتفاضل من جهة فعل العبد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وذلك أن أصل أهل السنة أن الإيمان يتفاضل من وجهين: من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد. أما الأول فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص، فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان، ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك، وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به كالقبلة، فكان الإيمان في أول الأمر الإيمان بوجوب استقبال بيت المقدس، ثم صار من الإيمان تحريم استقباله ووجوب استقبال الكعبة، فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة. وأيضاً فمن وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل، وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 والنوع الثاني: هو تفاضل الناس في الإتيان به مع استوائهم في الواجب، وهذا الذي يظن أنه محل النزاع وكلاهما محل النزاع. وهذا أيضاً يتفاضلون فيه فليس إيمان السارق والزاني والشارب كإيمان غيرهم، ولا إيمان من أدى الواجبات كإيمان من أخل ببعضها، كما أنه ليس دين هذا وبره وتقواه مثل دين هذا وبره وتقواه، بل هذا أفضل ديناً وبراً وتقوى فهو كذلك أفضل إيماناً ... "1. قلت: وهذه الأوجه ينبغي تأملها وحسن فهمها ليعلم من خلالها مدى مفارقة الطوائف لأهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، ومقدار مفارقتهم للحق وبعدهم عنه، لأن منهم من يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص من أفي وجه، ومنهم من يرى أنه يزيد وينقص من وجه دون وجه، وليس أحد يرى أن الإيمان يزيد وينقص من كافة الأوجه المتقدمة غير أهل السنة والجماعة. وبه أيضاً يعلم فضل علمهم على علم غيرهم، والفرق بينهم وبين غيرهم، وقوة موافقتهم للحق وإصابتهم له؛ لاعتصامهم بحبل الله وتمسكهم بكتابه واهتدائهم بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلافاً لأهل الأهواء الذين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان السلف أكمل علماً وإيماناً والموفق من وفق لأتباعهم.   1 الفتاوى (13/51-55) ، وانظر أيضاً الفتاوى (18/ 277، 278) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الفصل الثالث أسباب زيادة الإيمان ونقصانه لقد تقدم في الفصلين السابقين بيان أن الإيمان يزيد وينقص، وذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، وبيان أن زيادة الإيمان ونقصانه تكون من وجوه متعددة. أما الحديث في هذا الفصل فسيكون عن أسباب زيادة الإيمان ونقصانه، إذ إن هناك أسباباً كثيرة إذا حصلت من العبد زاد بها إيمانه ونمى وسار في طريق الكمال، وهناك أسباب أخرى إذا فعلها العبد نقص إيمانه وضعف وهوى نحو طريق الكفر والضلال. وفي معرفة هذه الأسباب فوائد عظيمة ومنافع جمة، بل الضرورة ماسة إلى معرفتها والعناية بها، معرفة واتصافاً، وذلك لأن الإيمان هو كمال العبد وسبيل فلاحه وسعادته، وبه ترتفع درجاته في الدنيا والآخرة، وهو السبب والطريق لكل خير عاجل وآجل، ولا يحصل، ولا يقوى ولا يتم إلا بمعرفة طرقه وأسبابه. فجدير بالعبد المسلم الناصح لنفسه أن يجتهد في معرفة هذه الأسباب، ويتأملها ثم يطبقها في حياته، ليزيد إيمانه ويقوى يقينه، وأن يبعد نفسه عن أسباب نقص الإيمان، ويحصنها من الوقوع فيها، ليسلم من عواقبها الوخيمة ومغبتها الأليمة. ومن وفق لذلك فقد وفق للخير كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 "فالعبد المؤمن الموفق لا يزال يسعى في أمرين: أحدهما: تحقيق الإيمان وفروعه والتحقق بها علماً وعملاً، حالاً. والثاني: السعي في دفع ما ينافيها وينقضها أو ينقصها من الفتن الظاهرة والباطنة. ويداوي ما قصر من الأول، وما تجرأ عليه من الثاني بالتوبة النصوح، وتدارك الأمر قبل فواته"1. فتحقيق الإيمان وتقويته، يكون بمعرفة أسباب زيادة الإيمان، والقيام بها. وأما السعي في دفع ما ينافيه ويضاده، فبكون بمعرفة أسباب نقصه والحذر من الوقوع فيها. ولذا فالكلام على هذا سيكون في مبحثين: المبحث الأول: في أسباب زيادة الإيمان. المبحث الثاني: في أسباب نقص الإيمان. ونسأل الله العون والتوفيق.   1 التوضيح والبيان لشجرة الإيمان لابن سعدى (ص 38) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 المبحث الأول أسباب زيادة الإيمان لقد جعل الله سبحانه لكل مرغوب ومطلوب سبباً وطريقاً يوصل إليه، وإن أهم وأعظم المطالب وأعمها نفعاً هو الإيمان، وقد جعل الله له مواد كثيرة تجلبه وتقويه، وأسباباً عديدة تزيده وتنميه، إذا فعلها العباد قوى يقينهم وزاد إيمانهم، بينها الله في كتابه وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته. ولعل أهم هذه الأسباب ما يلي: أولاً- تعلم العلم النافع: إن أهم وأنفع أسباب زيادة الإيمان تعلم العلم النافع علم الشريعة المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم1. قال ابن رجب معرفاً بهذا العلم:"فالعلم النافع هو ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف، وغير ذلك والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولاً، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانياً، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم   1 فائدة قال شيخ الإسلام:"وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين، مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه عنه، فإن هذا فرض على الأعيان" الفتاوى (28/80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 النافع عُني واشتغل ... "1. وقال ابن حجر:"والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد ما يجب على المكلف من أمر دينه في عبادته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه"2. قلت: فمن وفق لهذا العلم، فقد وفق، عظم أسباب زيادة الإيمان، ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة علم ذلك: قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} 4. وقال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} 5. وقال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ   1 فضل علم السلف على علم الخلف (ص 45) . 2 فتح الباري (1/ 141) . 3 سورة آل عمران، الآية: 18. 4 سورة النساء، الآية: 162. 5 سورة الإسراء، الآيتان: 107- 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 مُسْتَقِيمٍ} 1. وقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 2. وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} 3. وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 4. وفي الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيراً يفقه في الدين" 5. وفي المسند وغيره من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" 6.   1 سورة الحج، الآية: 54. 2 سورة سبأ، الآية: 6. 3 سورة فاطر، الآية: 28. 4 سورة المجادلة، الآية: 11. 5 أخرجه البخاري (1/ 164، 6/ 217، 12/ 293 فتح) ومسلم (3/ 1524) . 6 المسند (5/ 196) ورواه أبو داود (3/ 317) والترمذي (5/ 49) وابن ماجه (1/ 81) والدرامي (1/ 98) وابن حبان (1/ 152 الإحسان) ، وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع (5/ 302) وقد شرحه ابن رجب في جزء مفرد فليراجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وفي الترمذي وغيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله عز وجل وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" 1. فهذه النصوص المذكورة فيها بيان منزلة العلم ومكانته، وعظم شأنه وأهميته، وما يترتب عليه من آثار حميدة وخصال كريمة في الدنيا والآخر، وما ينتج عنه من خضوع وانقياد لشرع الله، وإذعان وامتثال لأمره، فالعالم عرت ربه، وعرف نبيه، وعرف أوامر الله وحدوده، وميز بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يكرهه ويأباه، فهو يعمل بأمر الله فيما يأتي ويذر، هذا إن وفق للعمل بما علم وإلا فعلمه وبال عليه. قال الآجري في مقدمة كتابه أخلاق العلماء:"إن الله عز وجل وتقدست أسماؤه اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم فعلمهم الكتاب والحكمة وفقههم في الدين وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح، فضلهم عظيم وخطرهم جزيل، ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء، الحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في   1 رواه الترمذي (5/ 50) وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 101) ونقل عن الترمذي انه قال:" حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني، انظر صحيح الترمذي (2/ 343) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 القيامة بعد الأنبياء تشفع، مجالسهم تفيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة، هم أفضل من العُبَّاد، وأعلى درجة من الزهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكرون الغافل، ويعلمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائله، بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون، جميع الخلق إلى علمهم محتاج ... إلى أن قال: فهم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ مثلهم في الأرض كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انتطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا"1. ثم ساق من نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم ما يؤيد ما ذكر. فالعلم له منزلة عالية، ومكانة سامقة، ومن أعظم ما يبين لنا فضله وعظم شأنه، قول الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 2. قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم، ورفعة الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب وبها ترتفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت، والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة3.   1 أخلاق العلماء (ص 13، 14. 2 سورة المجادلة، الآية: 11. 3 فتح الباري لابن حجر (1/141) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وكذلك قول الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} 1، ودلالة هذه الآية على فضل العلم ظاهرة، لأن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، لما يترتب عليه من زيادة الإيمان والثبات عليه، قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} 2. وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} 3. وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 4. وهذه الآية الأخيرة كتب فيها ابن القيم رحمه الله بحثاً حافلاً بين فيه دلالتها على فضل العلم من وجوه كثيرة جداً، تربوا على مائة وخمسين وجهاً، في كتابه القيم مفتاح دار السعادة 5. وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" من أعظم ما يبين فضل العلم وأهله، وأن من وفق له فقد وفق للخير كله، يدلنا على ذلك تنكير لفظة"خير"في الحديث ليعم الخير كله ويشمل القليل منه والكثير، وهذا كله من فضل الله وكرمه وعظيم إحسانه على من وفق للعلم، وعلى العكس من ذلك من حرم العلم فقد حرم الخير، بدلالة الحديث نفسه.   1 سورة طه، الآية: 114. 2 سورة آل عمران، الآية: 7. 3 سورة النساء، الآية: 162. 4 سورة آل عمران، الآية: 18. 5 انظر (ص 52 وما بمدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 قال ابن القيم:"وهذا يدل على أن من لم يفقهه في دينه لم يرد به خيراً، كما أن من أراد به خيراً فقهه في دينه، ومن فقهه في دينه فقد أراد به خيراً، إذا أريد بالفقه العلم المستلزم للعمل، وأما إن أريد به مجرد العلم فلا يدل على أن من فقه في الدين فقد أريد به خيراً، فإن الفقه حينئذ يكون شرطاً لإرادة الخير وعلى الأول يكون موجباً والله أعلم"1. وقال ابن حجر:"ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي: لم يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع فقد حرم الخير.. لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهاً ولا طالب فقه فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم"2. وإنما نال العلم هذه المكانة العظيمة، لأنه وسيلة لأعظم الغايات وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له والقيام بتوحيده على الوجه المطلوب. فالعلم ليس مقصوداً لذاته وإنما هو مقصود لغيره وهو العمل، فكل علم شرعي فطلب الشرع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، ويدل على ذلك أمور: أحدها: أن الشرع إنما جاء بالتعبد، وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} 3. وقوله: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلا   1 مفتاح دار السعادة (ص 65) ، وانظر الفتاوى (28/80) . 2 فتح الباري (1/ 165) . 3 سورة البقرة، الآية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} 1. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3. وما أشبه ذلك من الآيات التي لا تكاد تحصى إلا بكلفة كلها دالة على أن المقصود من العلم هو التعبد لله عز وجل، وصرف جميع أنواع العبادات والطاعات له. الثاني: ما جاء من الأدلة الدالة على أن روح العلم هو العمل، وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به. فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 4. وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} 5. فهذه الأدلة وغيرها تدل على أن العلم وسيلة من الوسائل، ليس مقصوداً لنفسه من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل، وكل ما ورد في فضل العلم إنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به.   1 سورة هود، الآية: 1-2. 2 سورة الأنبياء، الآية: 25. 3 سورة الزمر، الآيتان: 2- 3. 4 سورة فاطر، الآية: 28. 5 سورة الزمر، الآية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ومن المعلوم أن أفضل العلوم هو العلم بالله عز وجل، ومع هذا لا تصح به فضيلة لصاحبه حتى يصدق بمقتضاه وهو الإيمان بالله1. الثالث: ما ثبت في نصوص الشرع من التهديد الشديد، والتغليظ والوعيد لمن لم يعمل بعلمه، وأن العالم يسأل عن علمه ماذا عمل به، وأن من لم يعمل بعلمه يكون علمه وبالاً عليه وحسرة وندامة. قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 2. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} 3. وقال تعالى حكاية عن شعيب عيه السلام أنه قال لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 4. وغيرها من النصوص، وقد جاء عن السلف في هذا آثار كثيرة عظيمة النفع، جليلة القدر تناقلها العلماء في مؤلفاتهم 5. وقال شيخ الإسلام:" ... ولهذا يقال: العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان   1 انظر الموافقات للشاطبي (1/60- 65) . 2 سورة البقرة، الآية: 44. 3 سورة الصف، الآيتان: 2، 3. 4 سورة هود، الآية: 88. 5 انظر بعضها في رسالة الخطيب البغدادي"اقتضاء العلم العمل" ورسالة الحافظ ابن عساكر"ذم من لا يعمل بعلمه" وكلاهما مطبوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 هو حجة الله على عباده1.. فالفقيه الذي تفقه قلبه، غير الخطيب الذي يخطب بلسانه، وقد يحصل للقلب من الفقه والعلم أمور عظيمة، ولا يكون صاحبه مخاطباً بذلك لغيره، وقد يخاطب غيره بأمور كثيرة من معارف القلوب وأحوالها، وهو عار عن ذلك، فارغ منه"2. وبما تقدم يعرف قدر العلم ومكانته، وعظم منافعه وعوائده، وقوة أثره على قوة الإيمان وثباته، وأنه أعظم أسباب زيادته ونمائه وقوته، وذلك لمن عمل به. بل إن الأعمال إنما تتفاوت في زيادتها ونقصها، وقبولها وردها من جهة موافقتها للعلم ومطابقتها له، كما قال ابن القيم رحمه الله:"والأعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له، فالعمل الموافق للعلم هو المقبول، والمخالف له هو المردود فالعلم هو الميزان، وهو المحك"3. وقال:"وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان قوة فمدخول ... "4. وزيادة الإيمان الحاصلة من جهة العلم تكون من وجوه متعددة: من جهة خروج أهله في طلب العلم، وجلوسهم في حلق الذكر، ومذاكرة بعضهم بعضاً في مسائل العلم، وزيادة معرفتهم بالله وشرعه، وتطبيقهم لما تعلموه، وفيمن تعلم منهم العلم لهم فيه أجر، فهذه جوانب متعددة يزداد به الإيمان بسبب العلم وتحصيله.   1 هذا من كلام الحسن البصري رحمه أخرجه الدارمي (1/ 102) وغيره وذكره شيخ الإسلام في الفتاوى وعزاه للحسن انظر (7/23) . 2 درء التعارض (7/453، 454) . 3 مفتاح دار السعادة (ص 89) . 4 الفوائد (ص 162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 قال ابن رجب:"فمتى كان العلم نافعاً ووقر في القلب فقد خشع القلب لله وانكسر له وذل هيبة وإجلالاً وخشية ومحبة وتعظيماً، ومتى خشع القلب لله وذل وانكسر له قنعت النفس بيسير الحلال في الدنيا وشبعت به فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدنيا ... وأوجب له علمه المسارعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه"1وهذا زيادة إيمان. أما أبواب العلم الشرعي التي يحصل بها زيادة الإيمان فكثيرة جداً، أجمل بعضها فيما يلي: الأول- قراءة القرآن الكريم وتدبره: فإن هذا من أعظم أبواب العلم المؤدية إلى زيادة الإيمان وثباته وقوته، فقد أنزل الله كتابه المبين على عباده هدى ورحمة وضياء ونوراً وبشرى وذكرى للذاكرين. قال الله تعالى" {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} 2. وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3. وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 4.   1 فضل علم السلف على علم الخلف (ص 46) بتقديم وتأخير في النقل. 2 سورة الأنعام، الآية: 92. 3 سورة الأنعام، الآية: 155. 4 سورة الأعراف، الآية: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 1. وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} 2. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} 3. وتال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَاراً} 4. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 5. فهذه الآيات الكريمات فيها فضل القرآن الكريم كتاب رب العالمين، وأن الله جعله مباركاً وهدى للعالمين، وجعل فيه شفاء من الأسقام سيما أسقام القلوب وأمراضها من شبهات وشهوات، وجعله بشرى ورحمة للعالمين وذكرى للذاكرين، وجعله يهدي للتي هي أقوم، وصرف فيه من الآيات والوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرى. فالذي يقرأ كناب الله ويتدبر آياته ويتأملها، يجد فيه من العلوم والمعارف ما يقوي إيمانه ويزيده وينميه، ذلك أنه يجد في خطاب القرآن   1 سورة النحل، الآية: 89. 2 سورة ص، الآية 29. 3 سورة الإسراء، الآية: 9. 4 سورة الإسراء، الآية: 82. 5 سورة ق، الآية: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ملكاً له الملك كله، وله الحمد كله أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه، مستوياً على عرشه، لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالماً بما في نفوس عبيده، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهن، ويخلق ويرزق، ويميت ويحي، ويقدر ويقضي ويدبر، ويدعو عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه، فيذكرهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء. ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم، وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيء أعمالهم، وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وإنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته. ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فاسدهم، والدافع عنهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجى لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، ونصيرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير. فلا يزال العبد يستفيد من هذا التدبر لكتاب الله، ويشهد قلبه فيه من العلوم ما يزيد في إيمانه ويقويه، وكيف لا؟ وهو يجد في القرآن ملكاً عظيماً رحيماً جواداً جميلاً هذا شأنه، فكيف لا يحبه وينافس في القرب منه، وينفق أنفاسه في التودد إليه، وكيف لا يكون أحب إليه مما سواه، وكيف لا يؤثر رضاه عن رضى كل من سواه، وكيف لا يلهج بذكره، ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤه وقوته ودواؤه، بحيث إن فقد ذلك فسد وهلك، ولم ينتفع بحياته1. قال الآجرى رحمه الله"ومن تدبر كلامه عرف الرب عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر مما حذره مولاه الكريم، فرغب فيما رغبه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره كان القرآن له شفاءً فاستغنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وأنس مما يستوحش منه غيره، وكان همه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها متى أتعظ بما أتلو، ولم يكن مراده متى أختم السورة، وإنما مراده متى اعقل عن الله الخطاب، متى ازدجر متى اعتبر لأن تلاوة القرآن عبادة، لا تكون بغفلة، والله الموفق لذلك"2. ولهذا فإن الله الكريم أمر عباده وحثهم على تدبر القران فقال   1 انظر الفوائد لابن القيم (ص 58- 60) . 2 أخلاق حملة القرآن للآجري (ص 10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 1. وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 2. وأخبر سبحانه أنه إنما أنزله لتتدبر آياته، فقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} 3. وبين سبحانه أن سبب عدم هداية من أضل عن الصراط المستقيم، هو تركه لتدبر القرآن واستكباره عن سماعه، فقال: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} 4. وأخبر سبحانه عن القرآن أنه يزيد المؤمنين إيماناً إذا قرأوه وتدبروا آياته، فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 5. وأخبر عن صالح أهل الكتاب أن القرآن إذا تلي عليهم يخرون للأذقان سجداً يبكون ويزيدهم خشوعاً وإيماناً وتسليماً، فقال سبحانه: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا   1 سورة النساء، الآية: 82. 2 سورة محمد، الآية: 24. 3 سورة ص، الآية: 29. 4 سورة المؤمنون، الآيتان: 67- 68. 5 سورة الأنفال، الآية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} 1. وأخبر سبحانه أنه لو أنزل القرآن الكريم على جبل لخشع وتصدع من خشية الله عز وجل، وجعل هذا مثلاً للناس يبين لهم عظمة القرآن، فقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2. ووصفه بأنه أحسن الحديث، وأنه ثنى فيه من الآيات وردد القول فيه ليفهم، وأن جلود الأبرار عند سماعه تقشعر خشية وخوفاً، فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 3. وعاتب سبحانه المؤمنين على عدم خشوعهم عند سماع القرآن، وحذرهم من مشابهة الكفار في ذلك، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 4. فهذه الآيات المتقدمة فيها أوضح دلالة على أهمية القرآن ولزوم العناية به وعلى قوة أثره على القلوب، وأنه أعظم شيء يزيد الإيمان، سيما إذا كانت القراءة بتدبر وتأمل ومحاولة لفهم معانيه. قال ابن القيم رحمه الله"وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة   1 سورة الإسراء، الآيات: 107، 108، 109. 2 سورة الحشر، الآية: 21. 3 سورة الزمر، الآية: 23. 4 سورة الحديد، الآية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن ... "1. وقال محمد رشيد رضا:"واعلم أن قوة الدين وكمال الإيمان واليقين لا يحصلان إلا بكثرة قراءة القرآن واستماعه مع التدبر بنية الاهتداء به والعمل بأمره ونهيه. فالإيمان الإذعاني الصحيح يزداد ويقوى وينمي وتترتب عليه آثاره من الأعمال الصالحة وترك المعاصي والفساد بقدر تدبر القرآن، وينقص ويضعف على هذه النسبة من ترك تدبره وما آمن أكثر العرب إلا بسماعه وفهمه، ولا فتحوا الأقطار ومصروا الأمصار، واتسع عمرانهم، وعظم سلطانهم، إلا بتأثير هدايته، وما كان الجاحدون المعاندون من زعماء مكة يجاهدون النبي ويصدونه عن تبليغ دعوة ربه إلا بمنعه من قراءة القرآن على الناس، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 2.   1 مفتاح دار السعادة (ص 204) . 2 سورة فصلت، الآية: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وما ضعف الإسلام مند القرون الوسطى حتى زال أكثر ملكه إلا بهجر تدبر القرآن وتلاوته والعمل به"1. فالقرآن الكريم هو من أعظم مقويات الإيمان، وانفع دواعي زيادته، وهو يزيد إيمان العبد من وجوه متعددة. قال ابن سعدي:"ويقويه من وجوه كثيرة، فالمؤمن بمجرد ما يتلو آيات الله، ويعرف ما ركب عليه من الأخبار الصادقة والأحكام الحسنة يحصل له من أمور الإيمان خير كير، فكيف إذا أحسن تأمله، وفهم مقاصده وأسراره"2. لكن ينبغي أن يعلم أن زيادة الإيمان التي تكون بقراءة القرآن لا تكون إلا لمن اعتنى بفهم القرآن وتطبيقه والعمل به، لا أن يقرأه قراءة مجردة دون فهم أو تدبر وإلا فكم قارئ، للقرآن والقرآن حجيجه وخصيمه يوم القيامة. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوماً ويضع آخرين" 3. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ... والقرآن حجة لك أو عيك" 4. فهو حجة لك ويزيد في إيمانك إن عملت به، وحجة علبك وينقص إيمانك إن فرطت به وأهملت حدوده.   1 مختصر تفسير المنار (3/ 170) . 2 التوضيح والبيان لشجرة الإيمان (ص 27) . 3 رواه مسلم (1/ 559) . 4 رواه مسلم (1/ 203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 قال قنادة"لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان"1. وقال الحسن البصري مبيناً معنى تدبر القرآن" ... أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن احدهم ليقول: لقد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفاً، وقد والله أسقطه كله ما يُرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نفس والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، متى كانت القراء مثل هذا لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء"2. قلت: يرحم الله الحسن، وما عساه قائل لو رأى قراء زماننا هذا، الذين فتنوا بالألحان وإقامة الحروف وتزويقها، مع إهمال الحدود وتضييعها، بل وانصرفت أسماع الناس معهم عند سماع القرآن إلى إقامة الحروف وتلحينها، مع إهمال الإنصات والتدبر لكلام الله، وبكل حال لا اعتراض على تجويد القرآن وترتيله والتغني به وتحسين أدائه، وإنما الاعتراض على التكلف في إقامة الحروف والتنطع في ذلك، دون اهتمام أو مبالاة بإقامة الأوامر التي أنزل من أجلها القرآن، حتى إنك لا ترى في كثير من هؤلاء الورع القائم بحدود الله، بل ولا ترى فيهم القيام بالقرآن لا في خلق ولا في عمل.   1 رواه ابن المبارك في الزهد (ص 272) ، والآجري في أخلاق حملة القرآن (ص 73) ، والمرزوي في قيام الليل (ص 77 مختصره) ، وذكره البغوي في تفسيره (3/ 133) . 2 رواه عبد الرزاق في مصنفه (3/363) وابن المبارك في الزهد (ص 274) والآجري في أخلاق حملة القرآن (41) والمرزوي في قيام الليل (عر 76 مختصره) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فتجد القارئ منهم الحافظ للقرآن المحسن في إقامة حروفه يحلق لحيته أو يطيل مئزره، بل ويهمل الصلاة إما كلية أو مع الجماعة، إلى غير ذلك من المنكرات حتى إن أحد هؤلاء والله المستعان افتتح بآيات من القرآن الكريم حفلاً غنائياً لمرأة فاجرة، فقرأ بين يدي أغنيتها آيات من القرآن الكريم، جل كلام ربنا أن يدنسه مثل هؤلاء، وحسبي أن أقول مثل ما قال الحسن رحمه الله: متى كانت القراء مثل هذا لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء. وقال ابن العربي واصفاً قراء زمانه بانشغلهم بإقامة حروف القرآن مع إهمال حدوده، واتخاذهم لهذا العمل صناعة مع أن القرآن إنما أنزل ليعمل به قال:" ... ولكن لما صارت هذه القراءة صناعة، رفرفوا عليها وناضلوا عنها، وأفنوا أعمارهم- من غير حاجة إليهم- فيها، فيموت أحدهم وقد أقام القرآن كما يقام القدح لفظاً، وكسر معانيه كسر الإناء، فلم يلتئم عليه منها معنى"1. فينبغي للمسلم قبل أن يقرأ القرآن أن يتعلم كيفية الاستفادة منه حتى يتم له الانتفاع به وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في هذا قاعدة جليلة القدر عظيمة النفع وهي:"إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه"2. قلت: فمن طبق هذه القاعدة وسار على هذا المنهج عند تلاوته   1 العواصم من القواصم (2/ 486) ضمن كتاب آراء أبي بكر بن الحربي الكلامية لعمار الطالبي، وانظر ما كتبه الذهبي عن أمثال هؤلاء القراء في كتابه زغل العلم (ص 25- 27) ولولا خشية الإطالة لنقلته لأهميته. 2 الفوائد (ص 5) وانظر الفتاوى لابن تيمية (6 1/ 48- 1 5) و (7/ 236- 237) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 للقرآن أو سماعه إياه ظفر بالعلم والعمل معاً، وزاد إيمانه وثبت ثبوت الجبال الشوامخ والله المسئول أن يوفقنا لذلك، ولكل خير. ثم إن التفكر والتدبر في آيات الله على نوعين:"تفكر فيه ليقع على مراد الرب منه، وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه، فالأول تفكر في الدليل القرآني، والثاني تفكر في الدليل العياني، الأول تفكر في آياته المسموعة، والثاني تفكر في آياته المشهودة"1 قاله ابن القيم. قلت: والكلام الذي ذكرته هنا هو عن التفكر في آيات الله المسموعة، أما التفكر في آياته المرئية المشهودة فسيأتي الكلام عليه قريباً إن شاء الله. الثاني- معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى: فإن معرفة أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة، والتي تدل على كمال الله المطلق من كافة الوجوه، لمن أعظم أبواب العلم التي يحصل بها زيادة الإيمان، والاشتغال بمعرفتها وفهمها والبحث التام عنها مشتمل على فوائد كثيرة وعظيمة، منها: 1- أن علم توحيد الأسماء والصفات أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، فالاشتعال بفهمه والبحث عنه اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب. 2- أن معرفة الله تدعو إلى محبته وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته والتفقه في فهم معانيها.   1 مفتاح دار السعادة (ص 204) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 3- أن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه، وهذا هو الغاية المطلوبة منهم، فالاشتغال بذلك اشتغال بما خلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له، وقبيح بعبد لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم من كل وجه أن يكون جاهلاً بربه معرضاً عن معرفته. 4- أن أحد أركان الإيمان، بل أفضلها وأصلها الإيمان بالله، وليس الإيمان مجرد قوله آمنت بالله من غير معرفته بربه، بل حقيقة الإيمان أن يعرف الذي يؤمن به ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب معرفته بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه، ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك تدبر صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى. 5- أن العلم به تعالى أصل الأشياء كلها، حتى إن العارف به حقيقة المعرفة، يستدل بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام، لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل والحكمة، ولذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه عدل وحكمة1. ومن هذه الفوائد أن معرفة الأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والخضوع، فلكل صفة عبودية خاصة هي من مقتضياتها، وموجبات العلم بها، والتحقق بمعرفتها، وهذا مطرد في   1 انظر تفسير ابن سعدى (1/ 24-26) وخلاصة تفسيره (ص 15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح. وبيان ذلك أن العبد إذا علم بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة فإن ذلك يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً. وإذا علم بأن الله سميع بصير عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فإن هذا يثمر له حفظ اللسان والجوارح وخطرات القلب عن كل ما لا يرضى الله، وأن يجعل تعلقات هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه. وإذا علم بأن الله غني كريم بر رحيم واسع الإحسان فإن هذا يوجب له قوة الرجاء، والرجاء يثمر أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وإذا علم بكمال الله وجماله أوجب له هذا محبة خاصة وشوقاً عظيماً إلى لقاء الله، وهذا يثمر أنواعاً كثيرة من العبادة. وبهذا يُعلم أن العبودية كلها راجعة إلى مقتضيات الأسماء والصفات1. فإذا عرف العبد ربه المعرفة الحقيقية المطلوبة السالمة من طرق أهل الزيغ في معرفة الله والتي تبنى على تحريف الأسماء والصفات أو تعطليها أو تكييفها أو تشبيهها، فمن سلم من هذه المناهج الكلامية   1 انظر مفتاح دار السعادة لابن القيم (ص 424، 425) وانظر نحوه بأوسع منه في الفوائد له (ص 128- 131) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الباطلة، التي هي في الحقيقة أعظم ما يحول بين العبد وبين معرفة ربه وأعظم ما ينقص الإيمان ويضعفه، وعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى التي تعرف بها إلى خلقه والتي وردت في الكتاب والسنة وفهمها على منهج السلف الصالح، فقد وفق لأعظم أسباب زيادة الإيمان. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الخبر أن لله تسعة وتسعين أسماً من أحصاها كانت سبباً في دخوله الجنة. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحدة، من أحصاها دخل الجنة" 1. "وليس المراد بالإحصاء عدها فقط، لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العمل بها"2. فلا بد من فهم الأسماء والصفات ومعرفه ما تدل عليه من معاني حتى يتسنى الاستفادة التامة بها. قال أبو عمر الطلمنكي:"من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعرفة بالأسماء والصفات وما تتضمن من الفوائد وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالماً لمعاني الأسماء ولا مستفيداً بذكرها ما تدل عليه من المعاني"3. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله لإحصائها ثلاث مراتب:   1 أخرجه البخاري (5/4 35، 11/ 214، 12/ 377 فتح) ، ومسلم (4/2063) . 2 فتح الباري (11/ 226) وهو من كلام الأصيلي. 3 فتح الباري (11/ 226) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها. المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولاتها. المرتبة الثالثة: دعاء الله بها، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة 1. وقال ابن سعدي مبيناً معنى"أحصاها"الواردة في حديث أبي هريرة المتقدم: (أي: من حفظها وفهم معانيها واعتقدها وتعبد الله بها دخل الجنة، والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون فعلم أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته، ومعرفة الأسماء الحسنى هي أصل الإيمان والإيمان يرجع إليها"2. فمن عرف الله هذه المعرفة كان من أقوى الناس إيماناً وأشدهم طاعة وتعبداً لله، وأعظمهم خوفاً ومراقبة له سبحانه. قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 3. قال ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآية"يقول تعالى ذكره: إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العلماء بقدرته على ما يشاء من شيء وأنه يفعل ما يريد، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه"4. وقال ابن كثير:"أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم العليم الموصوف بصفات الكمال   1 بدائع الفوائد (1/ 164) . 2 التوضيح والبيان (ص 26) . 3 سورة فاطر، الآية: 28. 4 تفسير الطبري (12/ 132) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر"1. وقد جمع هدا المعنى أحد السلف في عبارة مختصرة، فقال:"من كان بالله أعرف كان له أخوف"2. وقال ابن القيم رحمه الله:"وليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة باريها وفاطرها، ومحبته وذكره والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه والزلفى عنده ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف وله أطلب وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل وإليه أكره ومنه أبعد، والله ينزل العبد من نفسه حيث ينزله الجد من نفسه.."، 3. فمعرفة الله عز وجل تقوي جانب الخوف والمراقبة، وتعظم الرجاء في القلب، وتزيد في إيمان العبد، وتثمر أنواعاً كثيرة من العبادة، ولا سبيل إلى هذه المعرفة ولا طريق إليها إلا تدبر كتاب الله وما تعرف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نزه نفسه عنه مما لا يبغي له ولا يليق به سبحانه وتدبر أيامه وأفعاله في أوليائه وأعدائه التي قصها على عباده وأشهدهم إياها ليستدلوا بها على أنه إلههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ويستدلوا بها على أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم، وأنه شديد العقاب وأنه غفور رحيم وأنه العزيز الحكيم، وأنه الفعال لم يريد وأنه الذي وسع كل شيء   1 تفسير ابن كثير (3/553) . 2 الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري (ص 141) ، والقائل هو أبو عبد الله أحمد بن عاصم الأنطاكي، انظر ترجمته في السير (11/ 409) . 3 الكافية الشافية (ص 3، 4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 رحمة وعلماً وأن أفعاله كلها دائرة ببن الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة لا يخرج شيء منها عن ذلك، وهذه الثمرة لا سبيل إلى تحصيلها إلا بتدبر كلامه والنظر في آثار أفعاله1. أما من خالف هذه الجادة، وتنكب هدا الصراط، وسلك طرق أهل الزيغ في معرفة الله، فما أبعده عن معرفة ربه وخالقه، بل إنه يكون أضعف الناس معرفة بالله، وأقلهم خوفاً وخشية منه. قال ابن القيم رحمه الله بعد أن بين أن تفاوت الناس في معرفة الله يرجع إلى تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها، والعلم بفساد الشبه المخالفة لحقائقها، قال:"وتجد أضعف الناس بصيرة أهل الكلام الباطل المذموم الذي ذمه السلف، لجهلهم بالنصوص ومعانيها، وتمكن الشبه الباطلة من قلوبهم". ثم بيّن أن العوام أحسن حالاً من هؤلاء وأقوى معرفة بربهم منهم فقال:"وإذا تأملت حال العامة- الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم- رأيتهم أتم بصيرة منهم، وأقوى إيماناً، وأعظم تسليماً للوحي، وانقياداً للحق"2. وقد كان رحمه الله نبه قبل هذا على أهمة البصيرة في توحيد الأسماء والصفات وفقهها، وفهمها على نهج السلف الصالح، وعلى أهمية الحذر من شبه أهل الكلام الباطل المفسد لهذا التوحيد.   1 انظر مفتاح دار السعادة لابن القيم (ص 202) . 2 مدارج السالكين (1/ 125) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ثم ذكر كلاماً نافعاً جامعاً مؤدياً إلى هذه البصيرة، فقال:"وعقد هذا: أن يشهد قلبك الرب تبارك وتعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، سميعاً لأصواتهم، رقيباً على ضمائرهم وأسرارهم، وأمر الممالك تحت تدبيره، نازل من عنده وصاعد إليه، وأملاكه بين يديه تنفذ أوامره في أقطار الممالك، موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الجلال، منزهاً عن العيوب والنقائص والمثال، هو كما وصف نفسه في كتابه، وفوق ما يصفه به خلقه، حي لا يموت، قيوم لا ينام، عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، بصير يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، سميع يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، تمت كلماته صدقاً وعدلاً، وجلت صفاته أن تقاس بصفات خلقه شبهاً ومثلاً، وتعالت ذاته أن تشبه شيئاً من الذوات أصلاً، ووسعت الخليقة أفعاله عدلاً، وحكمة ورحمة وإحساناً وفضلاً، له الخلق والأمر، وله النعمة والفضل، وله الملك والحمد، وله الثناء والمجد، أول ليس قبله شيء، آخر ليس بعده شيء، ظاهر ليس فوقه شيء، باطن ليس دونه شيء، أسماؤه كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد، ولذلك كانت حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، ونعوته كلها نعوت جلال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل، كل شيء من مخلوقاته دال عليه، ومرشد لمن رآه بعين البصيرة إليه، لم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، ولا ترك الإنسان سدى عاطلاً، بل خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته، وأسبغ عليهم نعمه ليتوسلوا بشكرها إلى زيادة كرامته، تعرف إلى عباده بأنواع التعرفات، وصرف لهم الآيات، ونوع لهم الدلالات، ودعاهم إلى محبته من جميع الأبواب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ومد بينه وبينهم من عهده أقوى الأسباب، فأتم عليهم نعمه السبغة، وأقام عليهم حجته البالغة، أفاض عيهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه"1. فمن كانت معرفته لله كذلك، وتفقه في هذه البصيرة، كان من أقوى الناس إيماناً، وأحسنهم إجلالاً وتعظيماً ومراقبة لله عز وجل، وأكثرهم طاعة وتقرباً إليه، والناس في ذلك متفاوتون فمقل ومستكثر. الثالث- تأمل سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: فإن من أسباب زيادة الإيمان النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ودراستها وتأمل ما ذكر فيها من نعوته الطيبة، وخصاله الكريمة، وشمائله الحميدة، فهو أمين الله على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله الله رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين، أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعته وتعزيره، وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسد دون الجنة الطرق فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خلف أمره بل ولا سبيل لأحد جاء بعده في نيل السعادة في الدنيا والآخرة إلا باتباعه وطاعته والسير على نهجه. قال ابن القيم رحمه الله:"ومن ها هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته   1 مدارج السالكين (1/124، 125) ، وانظر أيضاً المدارج (3/252، 253) والوابل الصيب لابن القيم (ص 125- 129) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضي الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير. وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين، فسد قلبك وصار كالحوت إذا فارق الماء، ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي، وما لجرح بميت إيلام1. وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها، أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل، ومستكثر، ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم"2. ولهذا فإن من درس السنة وتأمل في نعوت وصفات النبي صلى الله عليه وسلم التي   1 عجز بيت للمتنبي وأوله:"من يهن يسهل الهوان عليه" من قصيدة يمدح بها أبا الحسين علي بن أحمد المري. أنظر ديوان المتنبي (ص/ 164) ط دار بيروت. 2 زاد المعاد (1/ 69، 70) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 جاء ذكرها في الكتاب والسنة وكتب السير، فقد استكثر لنفسه من الخير، وازداد حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأورثته هذه المحبة المتابعة له في القول والعمل،"وأصل الأصول العلم، وأنفع العلوم النظر في سيرة الرسول وأصحابه"1. فمن تأمل مثلاً قول الله تعالى في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2. وقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 3. وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ... } 4 الآية وغيرها من الآيات. وتأمل في السنة ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم في نعت النبي صلى الله عليه وسلم مثل: حديث عائشة رضي الله عنها قالت:"ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، ألا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإذا كان إثماً كان ابعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله بها"5. وحديث انس بن مالك رضي الله عنه قال:"خدمنه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فوالله ما قال لي أفٍّ قط، ولا قال لشيء فعلته لِمَ فعلت كذا، ولا لشيء   1 صيد الخاطر لابن الجوزي (ص 66) . 2 سورة التوبة، الآية: 128. 3 سورة القلم، الآية: 4. 4 سورة آل عمران، الآية: 159. 5 أخرجه البخاري (6/ 566 فتح) وملم (4/ 1813) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 لَمْ أفعله، ألا فعلت كذا"1. وقال رضي الله عنه""كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجمل الناس، وأشجع الناس"2. وقال رضي الله عنه:"كان رسول صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً"3. وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، وأنه كان يقول:"خياركم أحسنكم أخلاقاً" 4. وحديث أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه"5. وغيرها مما يطول ذكره. فإن من تأمل ذلك انتفع به غاية الانتفاع، ثم إن هذا من أعظم ما يقوي المحبة في قلب المسلم لنبيه صلى الله عليه وسلم، وزيادةُ المحبة له صلى الله عليه وسلم زيادة في الإيمان، تورث المتابعة والعمل الصالح، وهذا من أعظم أبواب وسبل الهداية. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله، أن للهداية أسباباً متعددة وطرقاً متنوعة، وهذا من لطف الله بعباده، لتفاوت عقولهم وأذهانهم وبصائرهم، وذكر من هذه الأسباب تأمل حال وأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا سبب لهداية بعض الناس.   1 أخرجه البخاري (10/ 456 فتح) ومسلم (4/ 1805) . 2 أخرجه البخاري (6/ 95 فتح) ومسلم (4/ 1802) . 3 أخرجه مسلم (3/ 1692) . 4 أخرجه البخاري (10/ 456 فتح) ومسلم (4/ 1810) . 5 أخرجه البخاري (6/ 566 فتح) ومسلم (4/1809) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قال رحمه الله:"ومنهم من يهتدي بمعرفته بحاله صلى الله عليه وسلم وما فطر عليه من كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال، وأن عادة الله أن لا يخزي من قامت به تلك الأوصاف والأفعال، لعلمه بالله ومعرفته به، وأنه لا يخزي من كان بهذه المثابة، كما قالت آم المؤمنين خديجة رضي الله عنها له صلى الله عليه وسلم:"أبشر فوالله لن يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق"1"2. وقال ابن سعدي رحمه الله:"ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة، فإن من عرفه حق المعرفة لم يرتب في صدقه وصدق ما جاء به من الكتاب والسنة، والدين الحق، كما قال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} 3، أي: فمعرفته صلى الله عليه وسلم توجب للعبد المبادرة للإيمان ممن لم يؤمن، وزيادة الإيمان ممن آمن به. وقال تعالى حاثاً لهم على تدبر أحوال الرسول الداعية للإيمان: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} 4. وأقسم تعالى بكمال هذا الرسول وعظمة أخلاقه، وأنه أكمل مخلوق بقوله {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ* مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ* وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ* وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 5.   1 رواه البخاري (1/ 23 فتح) ومسلم (1/ 141) وهو جزء من حديث طويل. 2 مفتاح دار السعادة (ص/340) وانظره أيضاً (ص/ 323) . 3 سورة المؤمنون، الآية: 69. 4 سورة سبأ، الآية: 46. 5 سورة القلم، الآيات: 1- 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 فهو صلى الله عليه وسلم أكبر داع للإيمان في أوصافه الحميدة، وشمائله الجميلة، وأقواله الصادقة، وأفعاله الرشيدة، فهو الإمام الأعظم والقدوة الأكمل {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 1، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 2. وقد ذكر الله عن أولي الألباب الذين هم خواص الخلق أنهم قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً} 3 وهو هذا الرسول الكريم {يُنَادِي لِلإِيمَانِ} بقوله وخلقه، وعمله ودينه، وجميع أحواله {فَآمَنَّا} أي: إيماناً لا يدخله ريب ... إلى أن قال:"ولهذا كان الرجل المنصف الذي ليس له إرادة إلا اتباع الحق، بمجرد ما يراه ويسمع كلامه يبادر إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم، ولا يرتاب في رسالته، بل كثير منهم بمجرد ما يرى وجهه الكريم يعرف أنه ليس بوجه كذاب ... "4. الرابع- تأمل محاسن الدين الإسلامي: فإن الدين الإسلامي كله محاسن، عقائده أصح العقائد وأصدقها وأنفعها، وأخلاقه أحمد الأخلاق وأجملها، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها. وبهذا النظر الجليل، والتأمل الجميل في محاسن هذا الدين، يزين الله الإيمان في قلب العبد، ويحببه إليه كما امتن به على خيار خلقه   1 سورة الأحزاب، الآية: 21. 2 سورة الحشر، الآية: 7. 3 سورة آل عمران، الآية: 193. 4 التوضيح والبيان (ص/ 29، 30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 بقوله {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} 1 فيكون الإيمان في القلب أعظم المحبوبات، وأجمل الأشياء، وبهذا يذوق العبد حلاوة الإيمان، ويجدها في قلبه، فيتجمل الباطن بأصول الإيمان وحقائقه، وتتجمل الجوارح بأعمال الإيمان2. قال ابن القيم رحمه الله:"وإذا تأملت الحكمة الباهرة في هذا الدين القويم والملة الحنيفية والشريعة المحمدية التي لا تنال العبارة كمالها ولا يدرك الوصف حسنها ولا تقترح عقول العقلاء ولو اجتمعت وكانت على أكمل عقل رجل منهم فوقها، وحسب العقول الكاملة الفاضلة أن أدركت حسنها وشهدت بفضلها، وأنه ما طرق العالمَ شريعةٌ أكمل ولا أجل ولا أعظم منها، فهي نفسها الشاهد والمشهود له، والحجة والمحتج له، والدعوى والبرهان ولو لم يأت الرسول ببرهان عليها لكفى بها برهاناً وآية وشاهداً على أنها من عند الله"3. ولهذا فإن تأمل محاسن هدا الدين، والنظر فيما جاء فيه من أوامر ونواه، وشرائع وأحكام، وأخلاق وآداب، لمن أعظم الدواعي والدوافع للدخول فيه لمن لم يؤمن، وللإزدياد منه لمن آمن، بل إن من قوي تأمله لمحاسن هذا الدين، ورسخت قدمه في معرفته ومعرفة حسنه وكماله، وقبح ما خالفه، كان من أقوى الناس إيماناً وأحسنهم ثباتاً عليه، وتمسكاً به. ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله:"والمقصود أن خواص الأمة،   1 سورة الحجرات، الآية: 7. 2 انظر التوضيح والبيان لابن سعدي (ص/ 32، 33) . 3 مفتاح دار السعادة (ص 324) ، وانظر أيضاً (ص 328 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ولبابها، لما شهدت عقولهم حسن هذا الدين وجلالته وكماله، وشهدت قبح ما خالفه ونقصه ورداءته خالط الاسمان به ومحبته بشاشة القلوب، فلو خير بين أن يلقى في النار وبين أن يختار ديناً غيره، لاختار أن يقذف في النار وتقطع أعضاؤه ولا يختار ديناً غيره، وهذا الضرب من الناس هم الذين استقرت أقدامهم في الإيمان، وهم أبعد الناس عن الارتداد عنه وأحقهم بالثبات عليه إلى يوم لقاء الله"1. قلت: ويشهد لما قاله ابن القيم هنا، حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"2. فهذا الذي ذاق حلاوة الإيمان وخالطت بشاشته سويداء قلبه، وأضاء نوراً به، واطمأن بذلك أشد الإطمئنان، لا يكاد بعد ذلك يرجع إلى الكفر والضلال، واتباع الأهواء والظنون الكاذبة بل إنه يكون من أرسخ الناس إيماناً وأشدهم تمسكاً وثباتاً، وأقواهم تعلقاً بربه وخالقه، لأنه دخل الإسلام عن علم وقناعة ومعرفة، فعرف حسن الإسلام وبهاءه، وجودته ونقاءه، وتميزه عن غيره من الأديان، فرضيه ديناً لنفسه، وأنس به أشد الأنس، فكيف يبغي بعد ذلك غيره بدلاً، أو يطلب عنه مصرفاً، أو يروم عنه انتقالاً أو تحويلاً. ولهذا فإن من الفوائد الجليلة المستنبطة من هذا الحديث أنه يعد   1 مفتاح دار السعادة (ص/ 340، 341) . 2 أخرجه البخاري (1/60 فتح) ومسلم (1/ 66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 دليلاً من أدلة أهل السنة والجماعة الكثيرة على زيادة الإيمان ونقصانه، وتفاضل أهله فيه. كما قال الوالد حفظه الله:"ومن فقه الحديث وما يستنبط منه ... فذكر أموراً منها: أن في الحديث دليلاً على تفاضل الناس في الإيمان، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وذلك أن من وجدت فيه الخصال الثلاث وجد حلاوة الإيمان بخلاف غيره"1. الخامس – قراءة سيرة سلف هذه الأمة: فإن سلف هذه الأمة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم بإحسان، أهل الصدر الأول من الإصلام، هم خير القرون، وحماة الإسلام، وهداة الأنام، وليوث الصدام، وأهل المشاهد والمواقف العظام، وهم حملة هذا الدين ونقلته لمن جاء بعدهم من العالمين، أقوى الناس إيماناً وأرسخهم علماً وأبرهم قلوباً وأزكاهم نفوساً، وخص منهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين خصهم الله برؤية نبيه صلى الله عليه وسلم ومتعهم بالنظر إلى طلعته، وأكرمهم بسماع صوته والأنس بحديثه، فأخذوا الدين منه غضاً طرياً، فاستحكمت به قلوبهم، واطمأنت به نفوسهم، وثبتوا عليه ثبوت الجبال. ويكفي في بيان فضلهم أن الله خاطبهم بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2 والمعنى: أنهم خير الأمم، وأنفع الناس للناس. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ... " 3.   1 عشرون حديثاً من صحيح البخاري دراسة أسانيدها وشرح متونها للوالد الكريم الشيخ عبد المحسن العباد. (ص 168) . 2 سورة آل عمران، الآية: 110. 3 مسلم (4/ 1964) وأخرجاه في الصحيحين من حديث عمران بن حصين بلفظ: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم..) البخاري (7/3 فتح) ومسلم (4/1964) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فمن تأمل حال هؤلاء الأخبار، وقرأ سيرهم، وعرفَ محاسنهم، وتأمل ما كانوا عليه من خلق عظيم، وتأسٍ بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتعهد للإيمان، وخوفٍ من الذنوب والمعاصي، وحذر من الرياء والنفاق، وإقبالٍ على الطاعة، وتنافسٍ في فعل الخير، وتبصرَ في حالهم وقوة إيمانهم، وشدة تعبدهم لله، وحرصِهم على طاعته، وإعراضهم عن الدنيا الفانية، وإقبالِهم على الآخرة الباقية، فإنه سيقف من خلال هذا التأمل والنظر على جمل من المحاسن وكثيرٍ من النعوت والخلال ما يدعوه إلى صدق التأسي بهم، ومحبة التحلي بنعوتهم، فذكرهم يُذكر بالله، وتأمل أحوالهم يقوى الإيمان ويجلو الفؤاد، وما أحسن ما قيل: كرر على حدثهم يا حادي ... فحديثهم يجلي الفؤاد الصادي وموضع التأمل والبحث في سير وأخبار هؤلاء الأخيار: كتب التاريخ، والسير والزهد، والرقائق، والورع، وغيرها، والاستفادة مما صح منها، فهذا التأمل والنظر يورث صاحبه حسن التشبه بهؤلاء، وكما يقول شيخ الإسلام:"ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل"1، ومن تشبه بقوم فهو منهم. فهذه الأمور المتقدمة جميعها تزيد في الإيمان وتقويه، وهي مندرجة تحت العلم الشرعي المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف هذه الأمة.   1 العبودية (ص/ 94) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ثم إن العلوم الأخرى غير العلم الشرعي كعلم الطب والهندسة وعلم الفلك والحساب وعلم النبات، وغيرها من العلوم التي توسع الناس فيها حديثاً وأعطيت من العناية والإتمام أكثر من حقها، حتى شغلت الكثير ممن اعتنى بها عن تعلم بدائيات الدين، والأمور المعلومة منه بالضرورة فهذه العلوم أيضاً لها أثر بالغ في زيادة إيمان من اشتغل بها واعتنى بتحصيلها، إن أخلص القصد، وأراد الحق، وتجرد من الهوى. وكم من رجل آمن وازداد إيمانه بسبب اشتغاله بالطب، ووقوفه على إعجاز الله ودقة صنعه في خلق الإنسان، وما ركبه فيه من عجائب الخلق ودقة الصنع ما يبهر العقول ويحير الألباب. قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} 1. وقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 2. وقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 3. وكذلك الاشتغال بباقي العلوم الأخرى يزيد في إيمان الإنسان بحسب تفكره وتأمله وتحريه لنيل الحق، والأمر أولاً وأخيراً بيد الله سبحانه فهو يهدي من شاء إلى صراط مستقيم. ثم إن هذه العلوم لا تؤدي إلى زيادة الإيمان، إلا إذا صحبها تفكر وتأمل في آيات الله الباهرة وحججه الظاهر، فإن عدمت ذلك عدمت هذه الفائدة الجليلة والثمرة العظيمة ولم تنفع صاحبها هذا النفع العائد على   1سورة التين، الآية: 4. 2 سورة التغابن، الآية: 3. 3 سورة الذاريات، الآية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 إيمانه بالزيادة والقوة والثبات. وهذا يبين أهمية التفكر والتأمل في آيات الله ومخلوقاته، وهو السبب الثاني من أسباب زيادة الإيمان، وهو موضوع البحث التالي. ثانياً- التأمل في آيات الله الكونية: فإن التأمل فيها، والنظر في مخلوقات الله المتنوعة العجيبة، من سماء وأرض، وشمس وقمر، وكواكب ونجوم، وليل ونهار، وجبال وأشجار، وبحار وأنهار، وغير ذلك من مخلوقات الله التي لا تعد ولا تحصى، لمن أعظم دواعي الإيمان، وأنفع أسباب تقويته. فتأمل خلق السماء وارجع البصر فيها كرة بعد كرة كيف تراها من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها، وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علواً كالنار ولا تهبط نازلة كالأجسام الثقيلة، ولا عمد تحتها، ولا علاقة فوقها، بل هي ممسوكة بقدرة الله، ثم تأمل استواءها واعتدالها، فلا صدع فيها ولا فطر ولا شق، ولا أمت ولا عوج. ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان، وأشدها موافقة للبصر وتقوية له. وتأمل خلق الأرض وكيف أبدعت، تراها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقها سبحانه فراشاً ومهاداً، وذللها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم، وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم، وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتاداً تحفظها لئلا تميد بهم، ووسع أكنافها ودحاها، فمدها وبسطها وطحاها فوسعها من جوانبها، وجعلها كفاتاً للأحياء تضمهم على ظهرها ما داموا أحياء، وكفاتاً للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا، فظهرها وطن للأحياء وبطنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وطن للأموات. ثم أنظر إليها وهي ميتة هامدة خاشعة فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت، فارتفعت واخضرت وأنبتت من كل زوج بهيج، فأخرجت عجائب النبات في المنظر والمخبر، بهيج للناظرين كريم للمتناولين. ثم تأمل كيف أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب وكيف نصبها فأحسن نصبها. وكيف رفعها وجعلها أصلب أجزاء الأرض، لئلا تضمحل على تطاول السنين، وترادف الأمطار والرياح، بل أتقن صنعها وأحكما وضعها، وأودعها من المنافع والمعادن والعيون ما أودعها. ثم تأمل هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يدرك بحس اللمس عند هبوبه، يدرك جسمه ولا يرى شخصه فهو يجري بين السماء والأرض والطير محلقة فيه سابحة بأجنحتها كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه، وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحار. ثم تأمل كيف ينشء سبحانه بهذا الريح السحاب المسخر بين السماء والأرض فتثيره كسفاً ثم يؤلف بينه ويضم بعضه إلى بعض ثم تلقحه الريح وهي التي سماها سبحانه لواقح ثم يسوقه على متونها إلى الأرض المحتاجة إليه، فإذا علاها واستوى عليها اهراق ماءه عليها فيرسل سبحانه عليه الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه أقلع عنها وفارقها فهي روايا الأرض محمولة على ظهور الرياح. ثم تأمل هذه البحار المكتنفة للأقطار التي هي خلجان من البحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 المحيط الأعظم بجميع الأرض حتى أن المكشوف من الأرض والجبال والمدن بالنسبة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مغمورة بالماء، ولولا إمساك الرب تبارك وتعالى له بقدرته ومشيئته وحبسه الماء لطفح على الأرض وعلاها كلها. وتأمل الليل والنهار وهما من أعجب آيات الله كيف جعل الليل سكناً ولباساً يغشى العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم النفوس وتستريح من كد السعي والتعب حتى إذا أخذت منها النفوس راحتها وسباتها وتطلعت إلى معايشها وتصرفها جاء فالق الإصباح سبحانه وتعالى بالنهار يقدم جيشه بشير الصباح، فهزم تلك الظلمة ومزقها كل ممزق وكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون، فانتشر الحيوان وتصرف في معاشه ومصالحه، وخرجت الطيور من أوكارها، فيا له من معاد ونشأة دال على قدرة الله سبحانه على المعاد الأكبر. وتأمل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما لإقامة دولتي الليل والنهار، ولولا طلوعهما لبطل أمر العالم، وكيف كان الناس يسعون في معاشهم، ويتصرفون في أمورهم، والدنيا مظلمة عليهم وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقد النور فـ {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} 1. وتأمل خلق الحيوانات على اختلاف صفاته وأجناسه وأشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودعة فيه، فمنه الماشي على بطنه ومنه الماشي 1 سورة الفرقان، الآيتان: 61- 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 على رجليه، ومنه الماشي على أربع، ومنه ما جعل سلاحه في رجليه وهو ذو المخالب، ومنه ما جعل سلاحه المناقير كالنسر والرخم والغراب، ومنه ما جعل سلاحه الأسنان، ومنه ما جعل سلاحه القرون يدافع عن نفسه. وتأمل وخذ العبرة عموماً من وضع هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على أحسن نظام وأدله على كمال قدرة خالقه وكمال علمه، وكمال حكمته وكمال لطفه، فإنك إذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه وكل ما يحتاج إليه، فالسماء سقفه المرفوع عليه، والأرض مهاده بساط وفراش ومستقر للساكن، والشمس والقمر سراجان يزهران فيه، والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمتنقل في طرق هذه الدار والجواهر والمعادن مخزونة فيه، كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه فمنها الركوب ومنها الحلوب ومنها الغذاء ومنها اللباس والأمتعة والآلات، ومنها الحرس، وجعل الإنسان كالملك المخول في ذلك المحكم فيه، المتصرف بفعله وأمره ففي هذا أعظم دلالة وأقوى برهان على الخالق العليم الحكيم الخبير، الذي قدر خلقه أحسن تقدير، ونظمه أحسن تنظيم. بل وتأمل وخذ العبرة على وجه الخصوص من خلق الله لك أيها الإنسان وتأمل في مبدأ خلقك ووسطه وآخره، فانظر بعين البصيرة، إلى أول خلقك من نطفة من ماء مهين مستقذر كيف استخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته، على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها، وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قراراً مكيناً لا يناله هواء يفسده ولا برد يجمده ولا عارض يصل إليه، ثم قلب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعلها عظاماً مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيئتها وقدرها وملمسها ولونها، وهكذا تتدرج أطوار خلق الإنسان إلى أن يخرج بهذه الصور التي صوره الله عليها فشق له السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ ومد اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسم الأصابع بالأنامل، وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه1 فسبحان الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى القائل: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 2. "فجميع المخلوقات من الذرة إلى العرش سبل متصلة إلى معرفته- تعالى- وحجج بالغة على أزليته، والكون جميعه ألسن ناطقة بوحدانيته، والعالم كله كتاب يقرأ حروف أشخاصه المتبصرون على قدر   1 انظر مفتاح دار السعادة لابن القيم (ص 205-226) فجميع ما تقدم بدءَ من (ص 206) منقول منه شيء من التصرف. وانظر التبيان في أقسام القرآن (ص 295 وما بعدها) وشفاء العليل (66 وما بعدها) وكلاهما لابن القيم. وانظر أيضاً العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (1/ 209 وما بعدها) إلى أواخر المجلد الأول من قوله: باب الأمر بالتفكر في آيات الله عز وجل وقدرته وملكه وسلطانه وعظمته ووحدانيته. 2 سورة الذاريات، الآية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 بصائرهم"1. فتأمل هذه الآيات وغيرها مما خلق الله في السموات والأرض وتدبرها وإمعان النظر وإجالة الفكر فيها من أعظم ما يعود على الإنسان بالنفع في تقوية إيمانه وتثبيته، لأنه يعرف من خلالها وحدانية خالقه ومليكه، وكماله سبحانه وتعالى، فيزداد حبه وتعظيمه وإجلاله له، وتزداد طاعته وانقياده وخضوعه له، وهذه من أعظم ثمرات هذا النظر. قال ابن القيم رحمه الله:"وإذا تأملت ما دعى الله سبحانه في كتابه عباده إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى، وبوحدانيته، وصفات كماله، ونعوت جلاله، من عموم قدرته وعلمه، وكمال حكته ورحمته، وإحسانه وبره ولطفه وعدله ورضاه وغضبه وثوابه وعقابه فبهذا تعرف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته"2. وقال ابن سعدي رحمه الله:"ومن أسباب الإيمان ودواعيه، التفكر في الكون في خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات فإن ذلك داع قوي للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام والإحكام الذي يحير الألباب، الدال على سعة علم الله وشمول حكمته وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله وجوده وبره، وذلك كله يدعوا إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره واللهج 1 انظر ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (1/ 307) وهو من كلام عثمان بن مرزوق القرشي. 2 مفتاح دار السعادة لابن القيم (ص 204) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 بذكره وإخلاص الدين له وهذا هو روح الإيمان وسره"1. ولهذا فإن الله الكريم سجانه ندب عباده في كتاب إلى تأمل هذه الآيات والدلالات، وإلى النظر والتفكر في مواضع كثيرة منه، وذلك لكثرة منافعها للعباد وعظم عوائدها عليهم. قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2. وقال تعالى. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} 3 والآيات بعدها. وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} 4. وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 5. وغيرها من الآيات، وهي كثيرة في القرآن، يدعو فيها عباده إلى النظر في آياته ومفعولاته التي هي أعظم دليل على توحده وتفرده وعلى   1 التوضيح والبيان (ص31) ، وانظر الرياض الناضرة له (ص 258- 280) . 2 سورة البقرة، الآية: 164. 3 سورة الروم، الآية:. 2. 4 سورة الشورى، الآية: 29. 5 سورة الغاشية، الآيات: 17، 18، 19، 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 قدرته ومشيئته وعلمه سبحانه وتعالى، وعلى بره ولطفه وكرمه، وهدا أعظم داع للعباد إلى محبة الله وشكره وتعظيمه وطاعته وملازمة ذكره، وبهذا يتبين أن النظر في الكون والتأمل فيه من أعظم أسباب الإيمان وأنفع دواعيه. ثالثاً- ومن أسباب زيادة الإيمان وتقويته: أن يجتهد المسلم في القيام بالأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى وأن يكثر منها، ويداوم عليها. فإن كل عمل يقوم به المسلم مما شرعه الله ويخلص نيته فيه يزيد في إيمانه، لأن الإيمان يزيد بزيادة الطاعات وكثرة العبادات. ثم إن العبودية التي شرعها الله لعباده وطلب منهم القيام بها، فرضها ونفلها منقسمة على القلب واللسان والجوارح وعلى كل منها عبودية تخصه. فمن عبودية القلب التي تخصه: الإخلاص والمحبة والتوكل والإنابة والرجاء والخوف والخشية والرهبة والرضى والصبر وغيرها من الأعمال القلبية. ومن عبودية اللسان التي تخصه: قراءة القرآن، والتكبير والتسبيح والتهليل والاستغفار، وحمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله وغيرها من الأعمال التي لا تكون إلا باللسان. ومن عبودية الجوارح التي تخصها: الصدقة والحج والصلاة والوضوء والخُطا إلى المسجد ونحوها من الأعمال التي تكون بالجوارح. فهذه الأعمال القلبية والتي باللسان والتي بالجوارح كلها من الإيمان وداخلة في مسماه فالقيام بها والإكثار منها زيادة في الإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وإهمالها وإنقاصها نقص في الإيمان. أما أعمال القلب: فهي في الحقيقة أصل الدين ورأس الأمر وأهم المطالب، بل إن الأعمال الظاهرة لا تقبل إن خلت من الأعمال القلبية. لأن الأعمال كلها يشترط في قبولها الإخلاص بها لله عز وجل، والإخلاص عمل قلبي، ولهذا كانت الأعمال القلبية واجبة على كل أحد لا يكون تركها محموداً في حال من الأحوال. والناس في القيام بها على ثلاث درجات كما هم في أعمال البدن على ثلاث درجات: منهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات1. ولذا لزم كل مسلم أن يبدأ بتطهير قلبه وإصلاحه والعناية به، قبل أن يعتني بإصلاح ظاهره، إذ لا عبرة بصلاح الظاهر مع فساد الباطن ومتى ما أصلح المسلم قلبه بالأعمال الزاكية والإخلاص والصدق والمحبة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم استقامت جوارحه وصلح ظاهره، كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"..ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" 2. فهذا الحديث فيه أعظم إشارة إلى أن صلاح حركات العبد الظاهرة بحسب صلاح حركة قلبه وباطنه، فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات جوارحه كلها، بخلاف ما إذا كان قلبه فاسداً قد استولى   1 انظر الفتاوى (10/ 6) . 2 البخاري (1/ 126 فتح) ومسلم (3/ 1220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 عليه حب الهوى واتباع الشهوات وتقديم حظوظ النفس فإن من كان كذلك فسدت حركات جوارحه كلها. ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المشابهة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 1. والقلب السليم هو: السالم من الآفات والمكروهات كلها وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وخشية ما يباعد منه2. قال شيخ الإسلام:"ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب ... فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق"3. ولهذا فإن من أعظم ما يزيد في إيمان الشخص الظاهر والباطن أن يجاهد نفسه مجاهدة تامة على إصلاح قلبه وعمارته بمحبة الله عز وجل ومحبة ما يحبه الله من الأقوال والأعمال. قال ابن رجب:" ... فلا صلاح للقلوب حتى تستقر فيها   1 سورة الشعراء، الآيتان: 88- 89. 2 انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 71) . 3 الفتاوى (7/ 187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه ويمتلىء من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد وهو معنى لا إله إلا الله، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو إله واحد لا شريك له، ولو كان في السموات والأرض إله يؤله سوى الله لفسدت بذلك السموات والأرض، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1 فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معاً حتى تكون حركات أهلها كلها لله، وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله فسد، وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب"2. وقد سبق أن مر معنا قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" 3. "ومعنى هذا أن كل حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان العبد بذلك باطناً وظاهراً، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكفت عما يكرهه وعما يخشى أن يكون مما يكره وإن لم يتيقن ذلك"4. فمتى ما صلحت القلوب بالإيمان والصدق والإخلاص والمحبة ولم   1 سورة الأنبياء، الآية: 22. 2 جامع العلوم والحكم (ص 71) وانظر الوابل الصيب لابن القيم (ص 12) . 3 راجع (ص 83) . 4 جامع العلوم والحكم (ص 72) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 يبق فيها إرادة لغير الله، صلحت جميع الجوارح فلم تتحرك إلا لله عز وجل وبما فيه مرضاته. والقلب لا يخلو بحال من الفكر إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة. وجماع إصلاح القلب أن تشغله بالفكر بما فيه صلاحه وفلاحه المحقق، ففي باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه. وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها، وفي باب الإرادات والعزوم تشغله بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته1. وإن أعظم عون للعبد على ذلك هو تكثير الشواهد النافعة في القلب، لتقوى صلته بالله، ولأن الأعمال الصالحة إنما تكون بحسب قيام هذه الشواهد في القلب وكثرتها. قال ابن القيم رحمه الله:"ونحن نشير بعون الله وتوفيقه إلى الشواهد إشارة يعلم بها حقيقة الأمر: فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة، أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها، وقلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها، وسرعة انقضائها ... فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها، ترحل قلبه عنها، وسافر في طلب الدار الآخرة، وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الآخرة ودوامها، وأنها هي الحيوان حقاً، فأهلها لا يرتحلون منها، ولا يظعنون عنها بل هي دار القرار، ومحط الرحال ومنتهى السير.. ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها واضطرامها، ويعد قعرها، وشدة حرها وعظيم عذاب   1 انظر الفوائد لابن القيم (ص 310، 311) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 أهلها، فيشاهدهم وقد سبقوا إليها سود الوجوه زرق العيون والسلاسل والأغلال في أعناقهم فلما انتهوا إليها فتحت في وجوههم أبوابها فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع، وقد تقطعت قلوبهم حسرة وأسفاً ... فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات، ولبس ثياب الخوف والحذر ... وعلى حسب قوة هذا الشاهد يكون بعده من المعاصي والمخالفات، فيذيب هذا الشاهد من قلبه الفضلات والمواد المهلكة، وينضجها نم يخرجها، فيجد القلب لذة العافية وسرورها. فيقوم به بعد ذلك شاهد الجنة، وما أعد الله لأهلها فيها، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فضلاً عما وصفه الله لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصل، الكفيل بأعلى أنواع اللذة، من المطاعم والمشارب والملابس والصور، والبهجة والسرور. فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم المقيم بحذافبره فيها، تربتها المسك، وحصباؤها الدر، وبناؤها لبن الذهب والفضة، وقصب اللؤلؤ، وشرابها أحلى من العسل وأطيب رائحة من المسك، وأبرد من الكافور وألذ من الزنجبيل، ونساؤها لو برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون، وشرابهم عليه خمرة لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون، وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متكئون، وفي تلك الرياض يحبرون، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فيها خالدون. فإذا انضم إلى هذا الشاهد: شاهد يوم المزيد، والنظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع كلامه، منه بلا واسطة ... فإذا انضم هذا الشاهد إلى الشواهد التي قبله فهناك سير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابها فلا يلتفت في طريقه يميناً ولا شمالاً ... "1. فإذا قامت مثل هذه الشواهد في قلب العبد وأعمل فكره فيها، كانت أعظم عون له على تطهير قلبه وتنزيهه من الأوصاف المذمومة والإرادات السافلة، وعلى تخليته وتفريغه من التعلق بغير الله سبحانه، وكانت أعظم باعث له على العبادة والمحبة والخشية والإنابة والافتقار لله تعالى. والمقصود أن أعظم باعث للإيمان، وأنفع مقوياته وأهم أسباب زيادته ونمائه هو إصلاح القلب بالإيمان وبالحب لله ولرسوله ولما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتطهيره مما يخالف هذا ويناقضه. والله الموفق. وأما أعمال اللسان: كذكر الله عز وجل وحمده والثناء عليه وقراءة كتابه والصلاة والسلام على رسول الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتسبيح والاستغفار والدعاء وغير ذلك من الأعمال التي تكون باللسان، فلا شك أن القيام بها والمداومة عليها والإكثار منها من أعظم أسباب زيادة الإيمان. قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله:"ومن أسباب دواعي الإيمان الإكثار من ذكر الله كل وقت، ومن الدعاء الذي هو مخ العبادة.   1 مدارج السالكين (3/ 250- 252) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فإن الذكر لله يغرس شجرة الإيمان في القلب، ويغذيها وينميها، وكلما ازداد العبد ذكراً لله قوي إيمانه، كما أن الإيمان يدعو إلى كثرة الذكر، فمن أحب الله أكثر من ذكره، ومحبة الله هي الإيمان بل هي روحه"1. وقد ذكر ابن القيم في كتابه الوابل الصيب أن للذكر مائة فائدة، عدد منها ثلاثاً وسبعين فائدة2: منها أنه يطرد الشيطان، ويرضي الرحمن، ويزيل الهم والغم، ويجلب الفرح والسرور، ويقوي القلب والبدن، وينور الوجه والقلب، ويجلب الرزق، وغير ذلك مما ذكره رحمه الله من الفوائد العظيمة التي تنال بذكر الله عز وجل ولا شك أن أعظم فوائد ذكر الله وأنفعها أنه يزيد في الإيمان ويقويه ويثبته ولهذا فقد ورد في الكتاب والسنة نصوص كثيرة في الأمر به والحث على الإكثار منه، وبيان فضله وأهميته: قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3. وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 4. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 5 الآية. وقال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 6.   1 التوضيح والبيان (ص 32) . 2 انظر الوابل الصيب (ص 84 وما بعدها) . 3 سورة الجمعة، الآية: 10. 4 سورة الأحزاب، الآية: 35. 5 سورة الأنفال، الآية: 2. 6 سورة الرعد، الآية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له جُمدان، فقال: سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون، قيل: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات" 1. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأرضاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذاك؟ يا رسول الله. قال: ذكر الله" 2. وذكر عبد الله بن بسر أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإيمان قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال:"لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله تعالى" 3.   1 مسلم (4/ 2062) . 2 رواه أحمد (5/ 195) وابن ماجه (2/ 1245) والترمذي (5/ 459) والطبراني في الدعاء (3/ 1636) والحاكم (1/ 496) وأبو نعيم في الحلية (2/ 12) والبغوي في شرح السنة (5/ 15) وذكر. المنذري في الترغيب والترهيب (2/395) من طرق عن زياد بن أبي زياد عن أبي بحرية عن ابي الدرداء مرفوعاً وقال الحاكم:"وهذا حديت صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر:"وهذا يروى مسنداً من طرق جيدة" التمهيد (6/57) وحسن إسناده البغوي والمنذري. 3 رواه ابن أبي شيبة (10/ 301) و (13/ 457) والترمذي (5/ 458) وابن ماجة (2/ 1246) والحاكم (1/ 195) عن زيد بن حباب عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس عن عبد الله بن بسر وقال الترمذي:"حديت حسن غريب من هذا الوجه"، وقال الحاكم"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"ووافقه الذهبي. ورواه أحمد في المسند (4/190) وفي الزهد (ص/ 62) وأبو نعيم في الحلية (9/ 51) عن عبد الرحمن بن مهدي. ورواه ابن حبان (2/ 92 الإحسان) عن عبد الله بن وهب. ورواه البيهقي في سننه (3/ 371) عن) أبي صالح كاتب الليث. كلهم عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس الكندي. قلت: رجال إسناده ثقات، غير معاوية بن صالح: صدوق له أوهام كما في التقريب (2/ 259) وأخرج له مسلم، رقد توبع عليه. فرواه أحمد (4/188) من طريق علي بن عياش عن حسان بن نوح عن عمرو بن قيس به. ورواه ابن المبارك في الزهد (ص 328) من طريق إسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس به. ورواه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 416) من طريق أيوب بن سعيد السكوني عن عمرو بن قيس به. وفي الباب عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفيه أنه السائل عن ذلك أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 12) وابن حبان (2/ 93 الإحسان) والطبراني في الكبير (20/ 106) من طريق الوليد بن مسلم عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال:"أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله" ورواه البزار من طريق ابن ثوبان به (4/ 3 كشف الأستار) بلفظ أخبرني بأفضل الأعمال وأقربها إلى الله قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 74) :"وإسناد حسن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يقول الله تبارك وتعالى:"أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم.." 1 الحديث. وغيرها من النصوص، الدالة على فضل الذكر وأهميته، وفضل   1 رواه البخاري (13/ 384 فتح) ومسلم (4/ 2061) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ألاشتغال به. فإن أعرض الإنسان عن هذا كله ولم يشغل لسانه بذكر الله عز وجل اشتغل لسانه بغير ذلك من الغيبة والنميمة والسخرية والكذب والفحش، لأن العبد لا بد له أن يتكلم، فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى وذكر أوامره تكلم بهذه الأمور. قال ابن القيم:"فإن اللسان لا يسكت البتة، فإما لسان ذاكر، وإما لسان لاغ، ولا بد من أحدهما، فهي النفس إن لم تشغلها بالحق، شغلتك بالباطل، وهو القلب، إن لم تسكنه محبة الله عز وجل، سكنته محبة المخلوقين ولا بد، وهو اللسان، إن لم تشغله بالذكر، شغلك باللغو، وهو عليك ولا بد، فاختر لنفسك إحدى الخطتين، وأنزلها في إحدى المنزلتين"1. وأما أعمال الجوارح: من صلاة وصيام وحج وصدقة وجهاد وغير ذلك من الطاعات، فهي كذلك من أسباب زيادة الإيمان، فالاجتهاد في القيام بالطاعات التي افترضها الله على عباده، وبالقربات التي ندب عباده إليها، والإتيان بها على أحسن الوجوه وأكملها من أعظم أسباب قوة الإيمان وزيادته. قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ   1 الوابل الصيب (ص 166، 167) ، وانظر أيضاً (ص 87) منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 هُمُ الْوَارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. فهذه الصفات الثمان، كل واحدة منها تثمر الإيمان وتنميه، كما أنها من صفات الإيمان وداخلة في تفسيره. فحضور القلب في الصلاة، وكون المصلى يجاهد نفسه في استحضار ما يقوله ويفعله من القراءة والذكر والدعاء فيها، ومن القيام والقعود، والركوع والسجود من أسباب زيادة الإيمان ونموه. وقد سمى الله الصلاة إيماناً بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 2 وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} 3 فهي أكبرناه عن كل فحشاء ومنكر ينافى الإيمان، كما أنها تحتوي على ذكر الله الذي يغذي الإيمان وينميه، لقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . والزكاة كذلك تنمى الإيمان وتزيده، وهي فرضها ونفلها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"والصدقة برهان" 4 أي: على إيمان صاحبها، فهي دليل الإيمان وتغذيه وتنميه. والإعراض عن اللغو الذي هو كل كلام لا خير فيه، وكل فعل لا خير فيه، بل يقولون الخير ويفعلونه، ويتركون الشر قولا وفعلا، لا شك أنه من الإيمان ويزداد به الإيمان، ويثمر الإيمان.   1 سورة المؤمنون، الآيات: 1- 11. 2 سورة البقرة، الآية: 143. 3 سورة العنكبوت، الآية: 45. 4 جزء من حديث أخرجه مسلم (1/203) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إذا وجدوا غفلة أو تشعث إيمانهم، يقول بعضهم لبعض:"اجلس بنا نؤمن ساعة"1. فيذكرون الله، ويذكرون نعمه الدينية والدنيوية، فيتجدد بذلك إيمانهم. وكذلك العفة عن الفواحش خصوصاً فاحشة الزنا، لا ريب أن هذا من أكبر علامات الإيمان ومنمياته، فالمؤمن لخوفه مقامه بين يدي ربه {نهى النفس عن الهوى} إجابة لداعي الإيمان وتغذية لما معه من الإيمان. ورعاية الأمانات والعهود وحفظها من علائم الإيمان، وفي الحديث "لا إيمان لمن لا أمانة له" 2 وإذا أردت أن تعرف إيمان العبد ودينه، فانظر حاله هل يرعى الأمانات كلها حالية أو قولية، أو أمانات الحقوق؟ وهل يرعى الحقوق والعهود والعقود التي بينه وبين الله والتي بينه وبين العباد؟ فإن كان كذلك فهو صاحب دين وإيمان، وإن لم يكن كذلك نقص من دينه وإيمانه بمقدار ما انتقص من ذلك. وختمها بالمحافظة على الصلوات على حدودها وحقوقها. وأوقاتها، لأن المحافظة على ذلك بمنزلة الماء الذي يجري على بستان الإيمان، فيسقيه وينميه، ويؤتي أكله كل حين. وشجرة الإيمان محتاجة إلى تعاهدها كل وقت بالسقي وهو   1 تقدم تخريج مثل هذا القول بلفظه وبمعناه عن بعض الصحابة مثل: عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم في مبحث أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصانه، فليراجع. 2 تقدم تخريجه، وهو من حديث أنس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 المحافظة على أعمال اليوم والليلة من الطاعات والعبادات وإلى إزالة ما يضرها من الصخور والنوابت الغريبة الضارة، وهو العفة عن المحرمات قولا وفعلا فمتى تمت هذه الأمور حيي هذا البستان وزها، وأخرج الثمار المتنوعة"1. وبهذا البيان يتضح لنا شدة أثر الأعمال الصالحة في زيادة الإيمان، وأن القيام بها والإكثار منها سبب عظيم من أسباب زيادته. قال شيخ الإسلام:"وكمال الإيمان هو فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، فإذا ترك بعض المأمور وعوض عنه ببعض المحظور كان في ذلك من نقص الإيمان بقدر ذلك"2. فالصلاة إيمان، والحج إيمان، والصدقة إيمان، والجهاد إيمان الطاعات التي أمر الله بها عباده إيمان، فإذا فعلها الصد ازداد عنده الإيمان، وكان فعله لها سببا في زيادة إيمانه، بشرط الإخلاص والمتابعة. قال الشيخ محمد العثيمين حفظه الله:"ولزيادة الإيمان أسباب منها ... - فعل الطاعة فإن الإيمان يزداد به بحسب حسن العمل، وجنسه، وكثرته، فكلما كان العمل أحسن كانت زيادة الإيمان به أعظم، وحسن العمل يكون بحسب الإخلاص والمتابعة، وأما جنس العمل فإن الواجب أفضل من المسنون وبعض الطاعات أوكد وأفضل من البعض الآخر وكلما كانت الطاعة أفضل كانت زيادة الإيمان بها أعظم، وأما كثرة العمل فإن الإيمان يزداد بها لأن العمل من الإيمان فلا جرم أن يزيد   1 التوضيح والبيان لابن سعدي (34- 36) بتصرف يسير. 2 الفتاوى لابن تيمية (27/ 172) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 بزيادته"1. وقد سبق نقل إجماع السلف في الإيمان أنه قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وسبق ذكر جملة من أقوالهم في ذلك في مبحث مستقل فأغنى عن إعادته. ثم إن من أعظم الأعمال الصالحة التي تزيد في الإيمان- غير ما تقدم-: الدعوة إلى الله، ومجالسة أهل الخير، ولأهمية هذين الأمرين ولعظم نفعهما في زيادة الإيمان لزم الحديث عنهما هنا. أما الدعوة إلى الله تعالى والى دينه، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى التزام شرائعه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح للمسلمين فإن ذلك من دواعي الإيمان وأسبابه، وبه يكمل العبد نفسه، ويكمل غيره، كما أقسم تعالى بالعصر أن جنس الإنسان- لفي خسر، إلا من اتصف بصفات أربع: الإيمان والعمل الصالح اللذين بهما تكميل النفس، والتواصي بالحق الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والدين الحق، وبالصبر على ذلك كله، وبهما يكمل غيره. وذلك أن نفس الدعوة إلى الله والنصيحة لعباده، من أكبر مقويات الإيمان، وصاحب الدعوة لا بد أن يسعى بنصر هذه الدعوة، ويقيم الأدلة والبراهين على تحقيقها، ويأتي الأمور من أبوابها، ويتوسل إلى الأمور من طرقها، وهذه الأمور من طرق الإيمان وأبوابه. قال شيخ الإسلام:"وسبب الإيمان وشعبه يكون تارة من العبد، وتارة من غيره، مثل من يقيض له من يدعوه إلى الإيمان، ومن يأمره   1 فتح رب البرية (ص 65) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 بالخير، وينهاه عن الشر، ويبين له علامات الدين وحججه وبراهينه وما يعتبره وينزل به ويتعظ به، وغير ذلك من الأسباب"1. وأيضاً فإن الجزاء من جنس العمل، فكما سعى إلى تكميل العباد ونصحهم وتوصيتهم بالحق، وصبر على ذلك لا بد أن يجازيه الله من جنس عمله، ويؤيده بنور منه وروح وقوة وإيمان، وقوة التوكل فإن الإيمان وقوة التوكل على الله يحصل به النصر على الأعداء من شياطين الإنس وشياطين الجن، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 2. وأيضاً فإنه متصد لنصر الحق، ومن تصدى لشيء فلا بد أن يفتح عليه فيه من الفتوحات العلمية والإيمانية بمقدار صدقه وإخلاصه3. فينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يلتزم بالصدق والإخلاص في أمره ونهيه، حتى يؤتي أكله، ويثمر الإيمان الخالص فيه وفي المدعوين، وأن يلتزم في دعوته بالحكمة والرفق، والصبر على المدعوين، والعلم بما يدعوهم إليه4 فإن تحققت فيه هذه الأوصاف أثمرت دعوته ونفعت بإذن الله، وكانت سبباً لقوة إيمانه وقوة إيمان المدعوين. أما مجالسة أهل الخير وملازمتهم ومرافقتهم والحرص على الاستفادة منهم، فهو سبب عظيم من أسباب زيادة الإيمان، لما يكون في تلك   1 الفتاوى (7/650) . 2 سورة النحل، الآية: 99. 3 انظر التوضيح والبيان لابن سعدي (36، 37) . 4 انظر الفتاوى (28/ 137) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 المجالس من التذكير بالله والتخويف منه سبحانه ومن عذابه والترغيب والترهيب وغير ذلك من الأمور التي هي من أعظم أسباب زيادة الإيمان، كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 1 وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} 2. فهذا يدل على أن أصحاب القلوب المؤمنة تستفيد من التذكير وتستفيد من مجالس الذكرى أعظم الاستفادة ويحدث لهم ذلك نشاطا وهمة، ويوجب لهم الانتفاع والارتفاع، بخلاف مجالس اللهو والغفلة فإنها من أعظم أسباب نقص الإيمان واضمحلاله. ولهذا كان سلفنا الصالح أشد الناس عناية بمجالس الذكر، وأشدهم بعدًا عن مجالس اللهو والغفلة، وقد مر معنا من أقوالهم ما يدل على ذلك الشيء الكثير مثل أثر عمير بن حبيب الخطمي ومعاذ بن جبل- رضي الله عنهما- وغيرهما. وسبب أخير نختم به هذه الأسباب ينبغي العناية به وعدم اغفاله وهو أن يعود المسلم نفسه ويوطنها على مقاومة جميع ما من شأنه إنقاص الإيمان أو إضعافه أو الذهاب به"فإنه كما أنه لا بد في الإيمان من فعل جميع الأسباب المقوية المنمية له فلا بد مع ذلك من دفع الموانع والعوائق وهي الإقلاع عن المعاصي والتوبة مما يقع منها، وحفظ الجوارح كلها عن المحرمات، ومقاومة فتن الشبهات المضعفة لإرادات الإيمان التي أصلها الرغبة في الخير ومحبته، والسعي فيه لا تتم إلا بترك إرادات ما ينافيها من رغبة النفس في الشر ومقاومة النفس الأمارة بالسوء، فمتى حفظ العبد من   1سورة الذاريات، الآية: 55. 2 سورة الأعلى، الآيات: 9-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الوقوع في فتن الشبهات، وفتن الشهوات ثم إيمانه وقوي يقينه"1.   1 التوضيح والبيان لابن سعدي (صلى الله عليه وسلم 37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 المبحث الثاني أسباب نقص الإيمان كان الحديث في المبحث السابق عن أسباب زيادة الإيمان، أما الحديث هنا فسيكون عن أسباب نقصه، إذ إن الإيمان كما أن له أسباباً تزيده وتنميه، فكذلك له أسباب تنقصه وتضعفه، وكما أن المسلم مطالب بمعرفة أسباب زيادة الإيمان ليطبقها، فهو كذلك مطالب بمعرفة أسباب نقصه ليحذرها، من باب: عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الشر من الناس يقع فيه وقد ثبت في الصحيحين عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال:"كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"1. وقال ابن الجوزي:"فإن في تعريف الشر تحذيرا عن الوقوع فيه"2. فتعلم أسباب نقص الإيمان، ومعرفة عوامل ضعفه، وطرق الوقاية منها أمر مطلوب لا بد من العناية به، بل إن تعلمها لا يقل أهمية عن تعلم أسباب زيادة الإيمان.   1 البخاري (8/ 93) ومسلم (3/1475) . 2 تلبيس إبليس (ص 4) وانظر الفتاوى لابن تيمية (10/301 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وقبل الشروع في ذكر أسباب نقص الإيمان وبيانها، أود أن أشير إلى أن عدم تعاهد أسباب زيادة الإيمان، وإهمال تقويته، وترك العناية بذلك، يعد سبباً من أسباب نقص الإيمان، فإهمال الأمور التي سبقت الإشارة إليها في المبحث السابق، وعدم الاعتناء بها، يضعف الإيمان وينقصه، فكما أن المحافظة عليها سبب في الزيادة، فإهمالها سبب في النقص. قال الشيخ محمد العثيمين:"وأما نقص الإيمان فله أسباب ... فذكر أموراً منها: ترك الطاعة فإن الإيمان ينقص به، والنقص به على حسب تأكد الطاعة، فكلما كانت الطاعة أوكد كان نقص الإيمان بتركها أعظم، وربما فقد الإيمان كله كترك الصلاة"1 يدل على ذلك قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2. فهذا النص القرآني الكريم يدل على أهمية الطاعة والمحافظة عليها، وأن هذا من أعظم أسباب تزكية النفس، ويدل أيضاً بالمقابل على خطورة إهمال الطاعة، والوقوع في المعصية، وأن هذا من أعظم أسباب الخيبة والخسران. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره: قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} يقول:"قد أفلح من زكى نفسه، فكثر تطهيرها من الكفر والمعاصي، وأصلحها بالصالحات من الأعمال ... ". ثم روى عن السلف من الآثار ما يؤيد ذلك: فروى عن قتادة أنه قال:"من عمل خيراً زكاها بطاعة الله".   1 فتح رب البرية (66) . 2 سورة الشمس، الآيتان: 9- 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وروى عنه أيضاً أنه قال:"قد أفلح من زكى نفسه بعمل صالح". وروى عن ابن زيد أنه قال:"قد أفلح من زكى الله نفسه". وروى عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} ، قالوا: من أصلحها"1. ونقل ابن القيم عن الحسن البصري أنه قال:"قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله تعالى، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله تعالى". ونقل عن ابن قتيبة أنه قال:"يريد: أفلح من زكى نفسه، أي نماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدق، واصطناع المعروف"2. أما قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} فيقول ابن جرير في تفسيرها:"يقول تعالى ذكره: وقد خاب في طلبته، فلم يدرك ما طلب والتمس لنفسه من الصلاح من دساها، يعني من دسس الله نفسه فأخملها، ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله ... ثم نقل عن مجاهد أنه قال: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي أغواها، وعن سعيد بن جبير أنه قال: أي أضلها، وعن قتادة أنه قال: أي أثمها وأفجرها"3. وقال ابن القيم رحمه الله:"أي: نقصها وأخفاها بترك عمل البر   1 تفسير الطبري (15/ 311، 212) . 2 إغاثة اللهفان (1/ 65) . 3 تفسير الطبري (15/ 212، 213) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وركوب المعاصي، والفاجر أبداً خفي المكان، زمن المروءة، غامض الشخص، ناكس الرأس، فمرتكب الفواحش قد دس نفسه وقمعها"1. فمن زكى نفسه بفعل الأوامر واجتناب النواهي فقد فاز وأفلح، ومن دس نفسه بترك الأوامر وفعل النواهي فقد خسر وخاب. أما أسباب نقص الإيمان، وعوامل ضعفه فكثيرة ومتنوعة، إلا أنها في جملتها تنقسم إلى قسمين: أسباب داخلية، وأسباب خارجية، وتحت كل قسم منها عدة عوامل:   1 إغاثة اللهفان (1/65) وانظر التبيان في أقسام القرآن لابن القيم (ص21) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 أما القسم الأولى فهو الأسباب الداخلية أو العوامل الذاتية التي لها تأثير في الإيمان بالنقض. وهي عدة عوامل: أولاً- الجهل وهو ضد العلم: فهذا من أعظم أسباب نقص الإيمان، كما أن العلم من أعظم أسباب زيادته، فالمسلم العالم لا يؤثر محبة وفعل ما يضره ويشقى به ويتألم به على ما فيه نفعه وفلاحه وصلاحه، أما الجاهل فإنه لفرط جهله وقلة علمه فإنه قد يؤثر مثل هذه الأشياء على ما فيه فلاحه وصلاحه، وذلك لانقلاب الموازين عنده ولضعف التصور فيه، فالعلم أصل لكل خير، والجهل أصل لكل شر. ومحبة الظلم والعدوان وارتكاب الفواحش واقتراف المناهي سببه الأول هو الجهل وفساد العلم، أو فساد القصد، وفساد القصد من فساد العلم، فالجهل وفساد العلم هو السبب الرئيس والأول في فساد الأعمال ونقص الإيمان. قال ابن القيم:"وقد قيل: إن فساد القصد من فساد العلم وإلا فلو علم ما في الضار من المضرة ولوازمها حقيقة العلم لما آثره، ولهذا من علم من طعام شهي لذيذ أنه مسموم فإنه لا يقدم عليه، فضعف علمه بما في الضار من وجوه المضرة، وضعف عزمه عن اجتناب ما يوقعه في ارتكابه، ولهذا كان الإيمان بحسب ذلك، فإن المؤمن بالنار حقيقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الإيمان حتى كأنه يراها، لا يسلك طريقها الموصلة إليها، فضلاً عن أن يسعى فيها بجهده، والمؤمن بالجنة حقيقة الإيمان لا تطاوعه نفسه أن يقعد عن طلبها، وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه فيما يسعى فيه في الدنيا من المنافع، أو التخلص منه من المضار"1. فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها لجهلها بمضرته ولهذا فإن من يتأمل القران الكريم، يجد فيه أعظم إشارة إلى أن الجهل هو سبب الذنوب والمعاصي. قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 2. وقال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 3. وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 4. وقال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 5. وغيرها من النصوص الدالة على أن ما وقع فيه الناس من شرك وكفر وفجور وارتكاب للمعاصي أعظم أسبابه الجهل بالله وبأسمائه وصفاته وبثوابه وعقابه.   1 إغاثة اللهفان (2/133) . 2 سورة الأعراف، الآية: 38. 3 سورة النمل، الآيتان: 54- 55. 4 سورة الزمر، الآية: 64. 5 سورة الأحزاب، الآية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ولهذا فإن كل من عصى الله واقترف شيئاً من الذنوب فهو جاهل، كما جاء ذلك عن السلف الصالح في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} 1 وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 3. ومعنى قوله بجهالة في الآيات أي جهالة من فاعلها بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه وجهل منه لنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تأول منه من نقص الإيمان أو عدمه، فكل عاص لله فهو جاهل بهذا الاعتبار، وإن كان عالما بالتحريم، بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقباً عليها4. وبنحو هذا التفسير للآية قال جماعة من السلف، وروى جملة منها الطبري في تفسيره: فروى عن أبي العالية أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم، كانوا يقولون:"كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة". وعن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره وعن مجاهد قال:"كل من   1 سورة النساء، الآية: 17. 2 سورة الأنعام، الآية:54. 3 سورة النحل، الآية: 119. 4 تفسير ابن سعدي (2/ 39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 عصى ربه فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته"وقال أيضاً:"كل من عمل بمعصية الله فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه". وقال السدي:"ما دام يعصى الله فهو جاهل". وقال ابن زيد:"كل امرئ عمل شيئا من معاصي الله فهو جاهل أبداً حتى ينزع عنها"1. قال شيخ الإسلام:"وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعف القلب عن مقاومة ما يعارضه، وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فيصير جهلا بهذا الاعتبار ... "2. فالجهل بالله داء خطير، ومرض فتاك، يجر على صاحبه من الويلات والعواقب الوخيمة الشيء الكثير، فمن تمكن منه هذا الداء وسيطر عليه، فلا تسأل عن هلكته، فهو هاو في ظلمة المعاصي والذنوب، متنكب عن صراط الله المستقيم، مستسلم لدواعي الشبهات والشهوات، إلا أن تتداركه رحمة الله بغياث القلوب ونور الأبصار ومفتاح الخير العلم النافع المثمر للعمل الصالح، إذ ليس هناك دواء لهذا الداء غير العلم، ولا ينفك هذا الداء عن صاحبه إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد الله به الخير علمه ما ينفعه، وفقهه في دينه وبصره بما فيه فلاحه وسعادته، فخرج به عن الجهل ومتى لم يرد به خيرا أبقاه على جهله، والله المسئول أن يغيث قلوبنا بالعلم والإيمان،   1 انظر هذه الآثار وغيرها في تفسير الطبري (3/ 299، 5/209) وانظر تفسير البغوي (1/407) والفتاوى لابن تيمية (7/ 22) وتفسير ابن كثير (1/ 463) . 2 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ويعيذنا من الجهل والعدوان. ثانياً- الغفلة والإعراض والنسيان: فإن هذه الأمور الثلاثة سبب عظيم من أسباب نقص الإيمان، فمن اعترته الغفلة، وشغله النسيان، وحصل منه الإعراض، نقص إيمانه وضعف بحسب توافر هذه الأمور الثلاثة فيه أو بعضها، وأوجبت له مرض القلب أو موته باستيلاء الشهوات والشبهات عليه. أما الغفلة فقد ذمها الله في كتابه وأخبر أنها خلق ذميم من أخلاق الكافرين والمنافقين، وحذر منها سبحانه أشد التحذير: قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2. وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} 3. وقال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 4.   1 سورة الأعراف، الآية: 179. 2 سورة يونس، الآيتان: 7-8. 3 سورة يونس، الآية: 92. 4 سورة الروم، الآية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} 1. فالغفلة- وهي: سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ2- داء خطير إذا اعترى الإنسان وتمكن منه لم يشغل بطاعة الله وذكره وعبادته، بل يشتغل بالأمور الملهية المبعدة عن ذكر الله، وإن عمل أعمالاً في طاعته تأتي منه على حال سيئة ووضع غير حسن فتكون أعمال عارية من الخشوع والخضوع والإنابة والخشية والطمأنينة والصدق والإخلاص، فهذه بعض آثار الغفلة السيئة على الإيمان. أما الأعراض، فقد أخبر الله في القران الكريم أن له آثاراً سيئة كثيرة وعواقب ونتائج وخيمة: منها: أن الله وصف المعرض بأنه لا أحد أظلم منه، ووصفه بأنه من المجرمين كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} 3. ومنها: إخبار الله أن المعرض يجعل الله على قلبه أكنة وأقفالا فلا يفقه ولا يهتدي أبدا كما في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} 4. ومنها: أن إعراضه يسبب له عيشه الضنك والضيق دنيا وآخرة، كما   1 سورة الأعراف، الآية: 205. 2 بصائر ذوي التمييز للفيروز أبادي (4/140) . 3 سورة السجدة، الآية: 22. 4 سورة الكهف، الآية: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 في قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ... } 1. ومنها: إخبار الله سبحانه أن المعرض عن ذكر الله يقيض له القرناء من الشياطين فيفسدون عليه دينه، كما في قوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 2. ومنها: إخبار الله بأن المعرض يحمل يوم القيامة وزرا، وأنه يسلك العذاب الصعد كما في قوله: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} 3. وقوله: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} 4. وغيرها من الآيات التي يخبر فيها سبحانه وتعالى عن أخطار الإعراض وأضراره، والتي من أخطرها وأشنعها أنه مانع من الإيمان وحائل دونه لمن لم يؤمن، وموهن ومضعف لإيمان من آمن، وبحسب إعراض الإنسان يكن له نصيب من هذه النتائج والأخطار. وأما النسيان- وهو: ترك الإنسان ضبط ما استودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد حتى يرتفع عن القلب ذكره5- فله أثر بالغ في الإيمان، فهو سبب من أسباب ضعفه، وبوجوده تقل الطاعات، وتكثر المعاصي.   1 سورة طه، الآية: 124. 2 سورة الزخرف، الآية: 36. 3 سورة طه، الآية: 99-100. 4 سورة الجن، الآية: 17، ومعنى صعدا، أي: شديدا شاقاً. 5 بصائر ذوي التمييز للفيروز أبادي (5/ 49) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 والنسيان الذي جاء ذكره في القران الكريم على نوعين: نوع: لا يعذر فيه الإنسان وهو ما كان أصله عن تعمد منه، مثل قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} 1. ونوع: يعذر فيه وهو ما لم يكن سببه منه كما في قوله تعالي: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 2 وقد جاء في الحديث أن الله تعالى قال:"فعلت" 3. والمسلم مطالب بمجاهدة نفسه وإبعادها عن الوقوع فيه، حتى لا يتضرر في دينه وإيمانه. ثالثاً- فعل المعاصي، وارتكاب الذنوب: فإن هذا لا يخفى ما به من الضرر وسوء الأثر على الإيمان، فالإيمان كما قال غير واحد من السلف:"يزيد بالطاعة، وينقص بالمعاصي"، فكما أن فعل ما أمر الله به من واجب ومندوب يزيد في الإيمان، فكذلك فعل ما نهى الله عنه من محرم ومكروه ينقص الإيمان. إلا أن الذنوب متفاوتة في درجاتها ومفاسدها وشدة ضررها تفاوتا عظيماً، كما قال ابن القيم رحمه الله:"ولا ريب أن الكفر والفسوق والمعاصي درجات، كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات، كما قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} 4.وقال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا   1 سورة الحشر، الآية: 19. 2 سورة البقرة، الآية: 286. 3 رواه مسلم (1/ 116) من حديت ابن عباس رضي الله عنه. 4 سورة آل عمران، الآية: 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 1، وقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 2، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ... } 3، ونظائره في القرآن كثير"4. وقد دل القران والسنة على أن من الذنوب كبائر وصغائر، قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} 5 وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} 6. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" 7. وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور" 8. وفيهما عنه- صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الذنب أكبر عند الله؟ قال:"أن تدعو لله ندا وهو خلقك، قيل ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن   1 سورة الأنعام، الآية: 132. 2 سورة التوبة، الآية: 37. 3 سورة التوبة، الآيتان: 124- 125. 4 إغاثة اللهفان (2/ 142) . 5 سورة النساء، الآية: 31. 6 سورة النجم، غلاية: 32. 7 صحيح مسلم (1/209) . 8 البخاري (10/ 405 فتح) ومسلم (1/ 91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 يطعم معك، قيل ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك"1. وغيرها من النصوص الدالة على تفاوت الذنوب وانقسامها إلى كبائر وصغائر. ثم إن هذه الذنوب تنقسم من جهة أخرى إلى أربعة أقسام: ملكية، وشيطانية، وسبعية، وبهيمية، ولا تخرج عن ذلك. فالذنوب الملكية: أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية كالعظمة والكبرياء والجبروت والقهر والعلو واستعباد الخلق ونحو ذلك وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب. وأما الشيطانية: فالتشبه بالشيطان في الحسد، والبغي والغش والغل والخداع والمكر والأمر بمعاصي الله وتحسينها، والنهي عن طاعته وتهجينها، والابتداع في دينه، والدعوة إلى البدع والضلال. وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة، وإن كانت مفسدته دونه. وأما السبعية: فذنوب العدوان والغضب وسفك الدماء والتوثب على الضعفاء والعاجزين، ويتولد منها أنواع أذى النوع الإنساني، والجرأة على الظلم والعدوان. وأما الذنوب البهيمية: فمثل الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنها يتولد   1 البخاري (12/187 فتح) ومسلم (1/ 91) . من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الزنى والسرقة وأكل أموال اليتامى، والبخل والشح والجبن والهلع والجزع وغير ذلك. وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية، ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام، فهو يجرهم إليها بالزمام، فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية، ثم إلى الشيطانية، ثم إلى منازعة الربوبية والشرك في الوحدانية1. وعلى كل فهذا وغيره يدلنا على أن الذنوب متفاوتة في تأثيرها على الإيمان وفي إنقاصها منه وإضعافها له. وهذا التفاوت فيها وفي تأثيرها علي الإيمان يعود لاعتبارات متعددة: منها: جنس الذنب، وقدره، وشدة مفسدته، ومكانه، وزمانه، وبحسب الفاعل له، ولغير ذلك من الاعتبارات. قال ابن القيم رحمه الله:"وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتة بحسب مفاسدها فالمتخذ خدنا من النساء، والمتخذة خدنا من الرجال أقل شراً من المسافح والمسافحة مع كل أحد، والمستخفي بما يرتكبه أقل إثما من المجاهر المستعلن، والكاتم له أقل إثماً من المخبر المحدث للناس به، فهذا بعيد من عافية الله تعالى وعفوه ... وكذلك الزنا بالمرأة التي لا زوج لها أيسر إثماً من الزنا بذات الزوج، لما فيه من ظلم الزوج والعدوان عليه، وإفساد فراشه عليه، وقد يكون إثم هذا أعظم من إثم مجرد الزنا، أو دونه، والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا ببعيدة الدار لما أقترن بذلك من أذى الجار، وعدم حفظ وصية الله تعالى   1 انظر الجواب الكافي لابن القيم (ص147) والفتاوى (13/ 83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ورسوله به. وكذلك الزنا بامرأة الغازي في سبيل الله أعظم إثماً عند الله من الزنا بغيرها ... وكما تختلف درجاته بحسب المزني بها، فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان والأحوال، وبحسب الفاعل. فالزنا في رمضان ليلاً أو نهاراً أعظم إثماً منه في غيره، وكذلك في البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم إثماً منه فيما سواها. وأما تفاوته بحسب الفاعل فالزنا من الحر أقبح منه من العبد، ولهذا كان حده على النصف من حده، ومن المحصن أقبح منه من البكر، ومن الشيخ أقبح منه من الشاب،.. ومن العالم أقبح منه من الجاهل لعلمه بقبحه وما يترتب عليه، وإقدامه على بصيرة، ومن القادر على الإستغناء عنه أقبح من الفقير العاجز. بل قد يقترن بالأيسر إثماً ما يجعله أعظم إثماً مما هو فوقه، كأن يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب بالمعشوق وتأليهه له وتعظيمه والخضوع له، والذل له، وتقديم طاعته، وما يأمر به على طاعة الله تعالى ورسوله وأمره فيقترن بمحبة خدنه وتعظيمه وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، ومحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه ما قد يكون أعظم ضررا على صاحبه من مجرد ركوب الفاحشة"1. وقال الشيخ محمد العثيمين:"وأما نقص الإيمان فله أسباب ... 3- فعل المعصية فينقص الإيمان بحسب جنسها وقدرها والتهاون بها وقوة الداعي إليها أو ضعفه.   1 إغاثة اللهفان (2/ 143،144) باختصار وانظر الجامع لشعب الإيمان للبيهقي (2/78 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فأما جنسها وقدرها: فإن نقص الإيمان بالكبائر أعظم من نقصه بالصغائر، ونقص الإيمان بقتل النفس المحرمة أعظم من نقصه بأخذ مال محترم، ونقصه بمعصيتين أعظم من نقصه بمعصية واحدة، وهكذا. وأما التهاون بها: فإن المعصية إذا صدرت من قلب متهاون بمن عصاه ضعيف الخوف منه كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت من قلب معظم لله تعالى شديد الخوف منه، لكن فرطت منه المعصية. وأما قوة الداعي إليها: فإن المعصية إذا صدرت ممن ضعفت منه دواعيها كان نقص الإيمان بها أعظم من نقصه إذا صدرت ممن قويت منه دواعيها، ولذلك كان استكبار الفقير، وزنى الشيخ أعظم إثماً من استكبار الغنى وزنى الشاب كما في الحديث:"ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" 1. وذكر منهم:   1 أخرجه الطبراني في الكبير (2/351) قال حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا سعيد بن عمرو الأشعثي ننا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبع إلا بيمينه". ورواه البيهقي في الشعب (4/220) من طريق سعيد بن عمرو به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 78) :"رجاله رجال الصحيح" وأورده الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد باب ما جاء في كثرة الحلف وقال:"رواه الطبراني بسند صحيح" وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع (3/ 74) . قلت: ويشهد لقوله"أشيمط زان وعائل مستكبر" ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" صحيح مسلم (1/103) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 "الأشميط الزني، والعائل المستكبر"؛ لقلة دواعي تلك المعصية فيهما"1. ومما تقدم يتلخص أن الذنوب تنقص الإيمان وأنها تتفاوت في إنقاصها له بحسب اعتبارات متعددة، منها: 1- جنس الذنب. 2- شدة مفسدته. 3- قدره. 4- زمانه ومكانه. 5- التهاون به. 6- وبحسب الفاعل له. على ما سبق بيانه وتفصيله، وبالله التوفيق. ومما يقي المرء من الذنوب، ويساعده على البعد عنها وعدم الوقوع فيها، معرفة أخطارها، وما يتولد منها، وسوء عواقبها، وشدة أضرارها. وقد ذكر في ذلك ابن القيم رحمه الله كلاماً وجيزاً إلا أنه واف بالمقصود فقال:"قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون االقلب ويضيعون الوقت،   1 فتح رب البرية (ص 65) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وطول الهم والغم، وضنك المعيشة، وكسف البال ... تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء، والإحراق عن النار، وأضداد هذه تتولد عن الطاعة"1. رابعا- النفس الأمارة بالسوء: وهي نفس مذمومة جعلها الله في الإنسان، تأمره بكل سوء، وتدعوه إلى المهالك، وتهديه إلى كل قبيح، هذا طبعها، وتلك سجيتها، إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله، كما قال تعالى حاكيا عن امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2، وقال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} 3 وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} 4 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم خطبة الحاجة:"الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له" 5 فالشر كامن في النفس وهو يوجب سيئات الأعمال، فإن خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها وما تقتضيه من سيئات الأعمال، وإن   1 الفوائد (ص 67) وانظر الجواب الكافي لابن القيم (ص 46 وما بعدها) . 2 سورة يوسف، الآية: 33. 3 سورة النور، الآية: 21. 4 سورة الإسراء، الآية: 74. 5 أخرج هذه الخطبة أبو داود (2/ 238) والنسائي (3/105) وغيرهما، وراجع رسالة الألباني (خطبة الحاجة) فقد جمع فيها طرق وألفاظ هذه الخطبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وفقه وأعانه نجاه من ذلك كله1. وقد جعل الله سبحانه للإنسان في مقابلة هذه النفس، نفساً مطمئنة، فإذا أمرته النفس الأمارة بالسوء، نهته عنه النفس المطمئنة، فهو يطيع هذه مرة، وهذه مرة، وهو للغالب عليه منهما2. قال ابن القيم رحمه الله:"وقد ركب الله سبحانه في الإنسان نفسين: نفسا أمارة، ونفسا مطمئنة، وهما متعاديتان، فكل ما خف على هذه ثقل على هذه، وكلى ما التذت به هذه تألمت به الأخرى، فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله، وإيثار رضاه على هواها، وليس لها أنفع منه. وليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله وما جاء به داعي الهوى، وليس عليها شيء أضر منه.. والحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلا أن يستوفى أجلها من الدنيا"3. فلا أضر على إيمان الشخص ودينه من نفسه الأمارة بالسوء، التي هذا شأنها، وهذا وصفها، فهي سبب رئيس، وعضو فعال في إضعاف الإيمان وزعزعته وتوهينه. ومن هنا لزم من أراد الحفاظ على إيمانه من النقص والضعف، أن يعنى بمحاسبة هذه النفس ومعاتبتها، وأن يكثر من لومها، حتى يسلم من مغبتها وعواقبها الوخيمة المردية. أما محاسبة النفس فنوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده.   1 انظر الروح لابن القيم (ص 226) . 2 انظر الوابل الصيب لابن القيم (ص 27) . 3 الجواب الكافي لابن القيم (ص 184، 185) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه. وأما النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل فهو ثلاثة أنواع: أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي. الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرا له من فعله. الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحا، أو أزاد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به. وأضر ما على العبد الإهمال، وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب، ويمشي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب، وأنس بها، وعسر عليه فطامها. وجماع ذلك: أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصا تداركه، إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله، ثم يحاسبها بما تكلم به، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشت يداه، أو سمعته أذناه: ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 أي وجه فعلته؟ ويعلم أنه لا بد أن ينشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لمن فعلته؟ وكيف فعلته؟ فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني سؤال عن المتابعة. فإذا كان العبد مسئولا ومحاسبا على كل شيء، على سمعه وبصره وقلبه، فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب، وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} 1. والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله2. قال ابن القيم رحمه الله:"فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء، فهي تحرى بطبعها في ميدان المخالفة. فالنعمة التي لا خطر لها: الخروج منها، والتخلص من رقها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها، ومقتاً لها"3. فنسأل الله أن يعيذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه جواد كريم.   1 سورة الحشر، الآية: 18. 2 انظر إغاثة اللهفان لابن القيم (1/97- 100) . 3 إغاثة اللهفان (1/ 103) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أما القسم الثاني فهو الأسباب الخارجية أو المؤثرات الخارجية التي تؤثر في الإيمان بالنقص، وهي ما كان سببها عائداً إلى تأثير غيره عليه. وهذه تتلخص في ثلاثة عوامل: أولاً- الشيطان: فإنه يعد سببا قوياً من الأسباب الخارجية التي تؤثر في الإيمان بالنقص، فالشيطان عدو لدود للمؤمنين، يتربص بهم الدوائر، لا هم له ولا غاية إلا زعزعة الإيمان في قلوب المؤمنين وإضعافه وإفساده، فممن استسلم لوساوس الشيطان، وانقاد لخطارته، ولم يلجأ إلى الله منه ضعف إيمانه ونقص بل ربما ذهب كلية، بحسب استجابة المسلم لتلك الوساوس والخطرات. ولهذا فإن الله تعالى حذرنا منه أشد التحذير وبين أخطاره، وعواقب اتباعه الوخيمة، وأنه عدو للمؤمنين، وأمرهم أن يتخذوه عدوا فيسلمون منه ومن وساوسه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ... } 1. وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ   1 سورة النور، الآية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1. وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 2. وقال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 3. قال ابن الجوزي:"فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن ادم عليه الصلاة والسلام، وقد بذل عمره ونفسه في فساد أحوال بن ادم، وقد أمر الله بالحذر منه ... فذكر جملة من هذه النصوص ثم قال: وفي القران من هذا كثير"4. وقال أبو محمد المقدسي في مقدمة كتابه ذم الوسواس:"أما بعد: فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان، يقعد له الصراط المستقيم، ويأتيه من كل جهة وسبيل، كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} 5. وحذرنا الله عز وجل من متابعته وأمرنا بمعاداته ومخالفته فقال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} 6 وقال: {أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} 7. وأخبر بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من   1 سورة فاطر، الآية: 6. 2 سورة يوسف، الآية: 5. 3 سورة المجادلة، الآية: 19. 4 تلبيس إبليس (ص 23) . 5 سورة الأعراف، الآية: 16. 6 سورة فاطر، الآية: 6. 7 سورة الأعراف، الآية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 طاعته، وقطعاً للعذر في متابعته، وأمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع الصراط المستقيم ... "1. فالشيطان عدو للإنسان همه إفساد العقائد وتخريب الإيمان، فمن لم يحصن نفسه منه بذكر الله واللجأ إليه والإستعاذة به صار مرتعاً للشيطان يسول له فعل المعاصي ويرغبه في ارتكاب المناهي ويؤزه لارتكاب الفواحش أزاء، فيا ضيعة دينه ويا فساد إيمانه إن استسلم له. قال ابن القيم رحمه الله:"وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك فسادا يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك"2. وضرب رحمه الله مثلا بديعا لذلك ينطبق عليه تمام الإنطباق فقال في موضع آخر من كتبه:"وإذا أردت لذلك مثالا مطابقاً فمثله مثل كلب جائع شديد الجوع، بينك وبينه لحم أو خبز، وهو يتأملك ويراك لا تقاومه وهو أقرب منك، فأنت تزجره وتصيح عليه، وهو يأبى إلا التحوم عليك، والغادرة على ما بين يديك"3. ومراده رحمه الله بهذا المثل أن يوضح مدى خطر الشيطان على الإنسان إذا لم يستعذ بالله منه ولم يلجأ إلى الله من شره بالدعوات النافعة والأذكار المباركة.   1 ذم الوسواس (ص 46) ، وانظر أيضاً مقدمة ابن القيم لكتابه إغاثة اللهفان (10/1) . 2 الفوائد (ص 309) . 3 التبيان في أقسام القرآن (ص 419) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فمن عشى عن ذلك وأعرض لازمه الشيطان تلك الملازمة يسول له ويملي حتى يذهب بإيمانه، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} 1. ثانياً- الدنيا وفتنها: فهذا ثاني الحوامل الخارجية التي تؤثر في إيمان الإنسان بالنقص. فإن من أسباب نقص الإيمان وضعفه الاشتغال بعرض الحياة الدنيا الزائل، وشغل الأوقات فيها والانهماك في طلبها، والجري خلف ملذاتها وفتنها ومغرياتها، فمتى عظمت رغبة العبد فيها وتعلق قلبه بها ضعفت الطاعة عنده ونقص الإيمان بحسب ذلك. قال ابن القيم رحمه الله:"وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة"2. ولهذا فإن الله الحكيم الخبير ذم في كتابه الدنيا وبين خستها وحقارتها في غير ما آية من القران الكريم. قال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ   1 سورة الزخرف، الآيات: 36، 37، 38. 2 الفوائد (ص 180) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} 1. وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} 2. وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ} 3. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُون * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 4. وفي هذه الآيات أعظم وعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آيات الله ولم يرج لقاءه. وقال تعالى ذاماً من رضي بالدنيا من المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} 5. وقال صلى الله عليه وسلم:"فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها،   1 سورة الحديد، الآية: 20. 2 سورة الكهف، الآيتان: 45- 46. 3 سورة الرعد، الآية: 26. 4 سورة يونس، الآية: 7. 5 سورة التوبة، الآية: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وتهلككم كما أهلكتهم"متفق عليه1 وفي لفظ لهما:"تلهيكم كما ألهتهم" 2. وغيرها من النصوص وهي كثيرة، فلا بد لمن أراد لإيمانه النمو والقوة والسلامة من الضعف والنقص أن يجاهد نفسه في البعد عن الدنيا وفتنها ومغرياتها وملهياتها وما أكثرها3. ولا يتم له ذلك ولا يتحقق إلا بعد النظر في أمرين: الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد. وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها. والثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه   1 البخاري (6/ 258، 7/320 فتح) ومسلم (4/ 2274) من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه. 2 البخاري (11/ 243 فتح) ومسلم (4/ 2274) . 3 وانظر لزاماً ما كتبه ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر (ص 25 وما بعدها) في بيان ما الذي يذم من الدنيا وما الذي لا يذم فإن نعيم الدنيا بحد ذاته لا يذم مطلقاً، فإن الله قد تمدح به في القرآن الكريم في غير موضع، وإنما الذي يذم منها هو فعل الجهال والعصيان والإشتغال بها عن الآخرة واستعمال نعيمها في غير مرضاة الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وبين ما ها هنا، فهي كما قال سبحانه: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1 فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة. فإذا تأمل في هذين الأمرين وأحسن النظر فيهما هداه ذلك لإيثار الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، وأكبر عون له في تحقيق ذلك النظر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته هو وأصحابه من نبذهم لها وراء ظهورهم، وصرفهم عنها قلوبهم، واطراحهم لها، فهم لم يألفوها، وهجروها ولم يميلوا إليها وعدوها سجناً لا جنة، فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوها منها كل محبوب، ولو صلوا منها إلى كل مرغوب، فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه، فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها، وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر، وأنها دار عبور لا دار سرور وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم حتى آذن بالرحيل2. كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} 3. وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 4. وقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} 5.   1 سورة الأعلى، الآية: 17. 2 انظر الفوائد لابن القيم (ص 176-178) . 3 سورة الشعراء، الآيات 205- 207. 4 سورة يونس، الآية: 45. 5 سورة الروم، الآية: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وغيرها من النصوص. فالله المسئول أن يغيث قلوبنا بالإيمان، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. ثالثاً- قرناء السوء: فهم أضر الناس على إيمان الشخص وسلوكه وأخلاقه، فمخالطتهم ومصاحبتهم سبب عظيم من أسباب نقص الإيمان وضعفه. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" 1.   1 أخرجه أبو داود. (13/179عون) والترمذي (4/589) وأحمد (2/ 303) وعبد بن حميد في"المنتخب من المسند" (ص 418) والحاكم (4/171) والخطابي في العزلة (ص 56) وابن بطة في الإبانة (2/431) والخطيب في تاريخه (4/115) والبغوي في شرح السنة (13/70) وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/236) والذهبي في السير (8/189) عن زهير بن محمد حدثنا موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره. وقال الترمذي والبغوي:"حسن غريب" وقال النووي في رياض الصالحين (ص 174) "إسناده صحيح". ونقل حكمه المناوي في فيض القدير (4/ 52) . قلت: وفي إسناده زهير بن محمد فيه ضعف كما في التقريب (1/ 264) .لكن للحديث طريق أخرى يتقوى بها، من رواية صدقة بن عبد الله عن إبراهيم بن محمد الأنصاري عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه به. أخرجه الحاكم (4/ 171) وابن عساكر في" المجلس الثالث والخمسين من الأمالي" كما في السلسلة الصحيحة للألباني (2/ 634) وقال الحاكم:"صحيح إن شاء الله" ووافقه الذهبي. قلت: فيه صدقة بن عبد الله ضعيف كما في التقريب (1/366) وإبراهيم بن محمد الأنصاري، ذو مناكير كما في الضعفاء للذهبي (1/60) . فالإسنادان كلاهما ضعيف، إلا أن ضعفهما ليس شديداً، فيكون الحديث حسناً بمجموعهما، وبهذا حسنه الألباني حفظه الله في سلسلته. وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/363) بعد أن أشار إلى بعض من خرجه:"وقد تساهل ابن الجوزي فأورده في الموضوعات ومن ثم خطأه الزركشي، وتبعه في الدرر، وقال الحافظ في اللآلىء:"والقول ما قال الترمذي"، يعني أن الحديث حسن" ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 قال ابن عبد البر"وهذا معناه والله أعلم أن المرء يعتاد ما يراه من أفعال من صحبه، والدين العادة فلهذا أمر ألا يصحب إلا من يرى منه ما يحل ويجمل فإن الخير عادة. وفي معنى هذا الحديث قول عدي بن زيد: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتدى وقول أبي العتاهية: من ذا الذي يخفى عليك ... إذا نظرت إلى خدينه وهذا كثير جدا، والمعنى في ذلك ألا يخالط الإنسان من يحمله على غير ما يحمد من الأفعال والمذاهب، وأما من يؤمن منه ذلك فلا حرج فيه صحبته"1. وقال أبو سليمان الخطابي"قوله:"المرء على دين خليله" لا معناه لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانته، فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه، ولا تغرر بدينك ولا تخاطر بنفسك فتخالل من ليس مرضياً في دينه ومذهبه. قال سفيان بن عيينة: وقد روى في هذا الحديث انظروا إلى فرعون   1 بهجة المجالس (2/751) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 معه هامان، انظروا إلى الحجاج معه يزيد بن أبي مسلم شر منه، انظروا إلى سليمان بن عبد الملك صحبه رجاء بن حيوة فقومه وسدده. ويقال: إن الخلة مأخوذة من تخلل المودة القلب وتمكنها منه: وهي أعلى درج الإخاء، وذلك أن الناس في الأصل أجانب، فإذا تعارفوا ائتلفوا فهم أوداء، وإذا تشاكلوا فهم أحباء، فإذا تأكدت المحبة صارت خلة"1. وقد قيل:"الناس كأسراب القطا"لما جبلوا عليه من تشبه بعضهم ببعض ومحاكات بعضهم لأفعال بعض. ولهذا كان المبتديء بالخير وبالشر له مثل، من تبعه من الأجر والوزر2. قال بعض الحكماء:"عمادة المودة المشاكلة، ركل ود عن غير تشاكل فهو سريع التصرم"3. قلت: وإنما جاء النهي عن مخالطة قرناء السوء والتحذير من مجالستهم، لأن طباع الإنسان مجبولة على الإقتداء والتشبه بمن يقارن، فمجالسة طلاب العلم تحرك في النفس الحرص على طلب العلم، ومجالسة الزهاد تزهد في الدنيا، ومجالسة المبتدعة وأهل الأهواء تردي في مهاوي البدع، ومجالسة الحريص على الدنيا تحرك في النفس الحرص على الدنيا، وهكذا. فلهذا لزم المرء أن يختار من القرناء والخلطاء من يكون له في خلطتهم خير ونفع، وأن يحذر أشد الحذر من قرناء السوء.   1 العزلة (ص 56) . 2 انظر الاستقامة لابن تيمية (2/255) . 3 العزلة للخطابي (ص 62) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ومن تأمل حال السلف وتدبر سيرهم علم ذلك، ورأى شدة حذرهم وتحذيرهم من رفقاء السوء من فساق ومبتدعة وغيرهم1. قال أبو الدرداء:"من فقه الرجل مدخله وممشاه وألفه"ثم قال أبو قلابة: بعد أن روى هذا الأثر عن أبي الدرداء: ألا ترى إلى قول الشاعر: عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي2 وقال الأصمعي عن هذا البيت:"لم أر بيتا أشبه بالسنة منه"3. وجاء عن عبد الله بن مسعود أنه قال:"اعتبروا الناس بأخدانهم فإن المرء لا يخادن إلا من يعجبه". وعن الأعمش قال:"كانوا لا يسألون عن الرجل بعد ثلاث: ممشاه ومدخله وألفه من الناس". وقال سفيان:"ليس شيء أبلغ في فساد رجل وصلاحه من صاحب" وقال قتادة:"إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله فصاحبوا الصالحين من عباد الله لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم". وقال الفضيل:"ليس للمؤمن أن يقعد مع كل من   1 انظر في ذلك على سبيل المثال العزلة للخطابي (ص،5 وما بعدها) والإبانة الابن بطة (2/431 وما بعدها) ، وغيرهما. 2 رواه ابن الأعرابي في معجمه (برقم: 1277) ومن طريقه الخطابي في العزلة (ص 59) . ورواه ابن بطة في الإبانة (2/437، 439) بلفظ مقارب. 3 الإبانة لابن بطة (2/440) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 شاء ... "1. والآثار في هذا كثيرة جدا يطول ذكرها، وإنما انتقيت منها ما فيه البلغة والكفاية، فمن تأمل هذه الآثار المذكورة وغيرها عرف ما في مقارنة أهل السوء والفسق والفجور من الخطر على الدين والخلق، فأنت قد ترى الرجل مستقيما عفيفا صالحاً، فإذا قارن وخالط أهل السوء والفسق وصحبهم أصبح فاسقاً فاجراً مثلهم، وهذه سنة الله في خلقه. فخلطة الفساق وأهل السوء من أعظم أسباب نقص الإيمان وضعفه بل وربما اضمحلاله وتلاشيه، وذلك بحسب حال هؤلاء في السوء وبحسب خلطته لهم.   1 روى هذه الآثار ابن بطة في الإبانة (2/ 439، 452، 476، 480، 481) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الفصل الرابع في الإسلام هل يزيد وينقص؟ قبل الشروع في المراد، لا بد أولاً من تعريف الإسلام، ثم على ضوء التعريف يتم بيان هذه المسألة. فالإسلام لغة: الانقياد والإذعان. وأما في الشرع: فلإطلاقه حالتان: الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله، كقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام} 1 وقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} 2 وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 3 وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} 4 ونحو ذلك من الآيات. الحالة الثانية: أن يطلق مقترنا بالإيمان، فهو حينئذ يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة، كقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ   1 سورة آل عمران، الآية: 19. 2 سورة المائدة، الآية: 3. 3 سورة آل عمران، الآية: 85. 4 سورة البقرة، الآية: 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 1 الآية، وكقوله صلى الله عليه وسلم لما قال له سعد رضي الله عنه: مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً فقال صلى الله عليه وسلم"أو مسلماً"2 يعني أنك لم تطلع على إيمانه وإنما اطلعت على إسلامه من الأعمال الظاهرة، وغير ذلك من الآيات والأحاديث3. ووجه هذا الجمع والتفريق بين الإسلام والإيمان حال الاجتماع والافتراق يتضح بتقرير أصل عظيم وهو"أن من الأسماء ما يكون شاملاً لمسميمات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالا على بعض تلك المسميات والاسم المقرون به دال على باقيها"4. فبناء على هذا الأصل يقال: إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق. وعليه فهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فاجتماعهما في الذكر يقتضي افترقهما في المعنى وافترقهما في الذكر يعنى اجتماعهما فى المعنى. "والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته، والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل، ومن هنا قال المحققون من العلماء كل مؤمن مسلم فإن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح في أعمال الإسلام، وليس كل مسلم مؤمناً، فإنه قد يكون   1 سورة الحجرات، الآية: 14. 2 تقدم تخريجه (ص 92) . 3 انظر معارج القبول لحافظ حكمي (2/ 24، 25) . 4 جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الإيمان ضعيفاً فلا يتحقق القلب به تحققاً تاماً مع عمل جوارحه أعمال الإسلام، فيكون مسلمًا، وليس بمؤمن الإيمان التام"1. فالإسلام على ضوء هذا التعريف المتقدم يزيد كما يزيد الإيمان وينقص كما ينقص، أما على الإطلاق الأول فظاهر، لأنه أصبح مرادفاً للإيمان فله حكمه تمامًا من حيث قبول الزيادة والنقصان، وأما على الإطلاق الثاني حال اجتماعه مع الإيمان حيث يكون المراد بالإسلام الأعمال الظاهرة، فالزيادة والنقصان في هذا لا إشكال فيهما ألبتة، لأن الأعمال تزيد وتنقص وتقل وتكثر وتتفاضل، وهذا الأمر ظاهر لكل أحد عياناً بياناً. ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" 2 فالألف واللام في قوله:"المسلم"للكمال، نحو زيدٌ الرجل أي الكامل في الرجولية، وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلام العرب3. قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم:" ... قالوا: معناه المسلم الكامل، وليس المراد نفي أصل الإسلام عن من لم يكن بهذه الصفة، بل هذا كما يقال: العلم ما نفع أو العالم زيد أي الكامل أو المحبوب، وكما يقال الناس العرب والمال الإبل، فكله على التفضيل لا للحصر، ويدل على ما ذكرناه من معنى الحديث قوله أي المسلمين خير قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده" 4.   1 جامع العلوم والحكم (ص 26، 27) باختصار. 2 رواه البخاري (1/ 53 فتح) ومسلم (1/ 65) . 3 انظر فتح الباري لابن حجر (1/53) . 4 شرح صحيح مسلم (2/10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وقد بوب النووي لهذا الحديث في صحيح مسلم بـ"باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل". ودلالة الحديث للباب ظاهرة. وأورد في الباب نفسه حديث عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال:"تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" 1. فإطعام الطعام، وبذل السلام الواردان في هذا االحديث، وكف الأذى الوارد في الحديث الذي قبله كلها من أعمال الإسلام ومن خصاله الواجبة والإسلام يزيد بزيادتها وينقص بنقصها، فهذا ونحوه مما يدل على أن الإسلام يزيد وينقص. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان" 2 يدل على تفاضل الإسلام، فإن من وفى بهذه الأعمال وأتى بها على الوجه أكمل كمل إيمانه، ومن نقص منها شيئاً نقص إيمانه، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في مناقشته لمحمد بن نصر المروزي فيما ادعاه من ترادف الإسلام والإيمان في كل حال: "وأما ما ذكره من أن الإسلام ينقص كما ينقص الإيمان فهذا أيضاً حق كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فإن من نقص من الصلاة والزكاة أو الصوم أو الحج شيئاً فقد نقص من إسلامه بحسب ذلك"3. وبالمقابل من كمل هذه الأمور وأتى بها على وجهها زاد إسلامه   1 أخرجه البخاري (1/ 55 فتح) ومسلم (1/ 65) . 2 أخرجه البخاري (1/ 49 فتح) ومسلم (1/ 45) . 3 الفتاوى (7/ 414) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وكمل. والكلام المتقدم مبني على أعدل الأقوال وأصوبها في تعريف الإسلام وإلا فالناس في مسمى الإسلام صاروا إلى ثلاثة أقوال. 1- طائفة جعلت الإسلام هو الكلمة. 2- وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام فجعلوا الإسلام الأعمال الظاهرة، والإيمان الاعتقادات الباطنة. 3- وطائفة جعلوا الإسلام مرادفاً للإيمان1. والقول بزيادة الإسلام ونقصانه بناء على التعريفين الثاني والثالث للإسلام ظاهر، وإن كانت دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان غير صحيحة. لكن على قول من قال إن الإسلام هو الكلمة، وهذا منقول عن الزهري رحمه الله حيث قال:"فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل"وقال بقوله هذا من العلماء حماد بن زيد، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، وأحمد بن حنبل رحمهم الله2 فعلى هذا القول الإسلام لا يقبل الزيادة والنقصان، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله"فالإسلام الذي لا يستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنها لا تزيد ولا تنقص فلا استثناء فيها"3. لكن ينبغي التنبه إلى أن الزهري رحمه الله- وكذلك من قال بقوله- لم يرد بذلك أن الإسلام الواجب هو الكلمة وحدها فإنه أجل   1 انظر الفتاوى (7/259) وشرح العقيدة الطحاوية (2/488) . 2 انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (4/ 812) . 3 الفتاوى (7/ 259) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 من أن يرى ذلك، وإنما قال ما قال؛ لأن كل من أتى بالشهادتين صار مسلماً متميزاً عن اليهود والنصارى تجزي عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين. ولهذا فإن من أخذ قول الزهري هذا ليحتج به على أن الإسلام لا يقبل الزيادة والنقصان فهو غالط في قوله مخطىء في قصده. قال شيخ الإسلام:"ومن قال إن الإسلام هو الكلمة فقط وأراد بذلك أنه لا يزيد ولا ينقص فقوله خطأ" بل هو أشبه بأقوال المرجئة القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وخلاصة القول في هذه المسألة أن الإسلام يقبل الزيادة والنقصان، ويتفاضل الناس فيه كتفاضلهم في الإيمان سواء والله أعلم.   انظر الفتاوى (7/ 415) . الفتاوى (7/ 414) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الباب الثاني: في الأقوال المخالفة لقول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه * الفصل الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان ... الفصل الأول قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان لقد جاء عن الإمام مالك رحمه الله تعالى في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه روايتان، قال في إحداهما: إن الإيمان يزيد أما النقصان فتوقف فيه وطلب من السائل أن يكف عن السؤال عنه، لأنه لم يجد عليه دليلاً من كتاب الله. أما الرواية الأخرى: فقد جاءت عنه من طرق متعددة صحيحة، قال فيها: إن الإيمان يزيد وينقص، كقول أهل السنة والجماعة سواء. ولهذا خصصت هذا الفصل لدراسة الرواية الواردة عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان، وذكر ما قاله أهل العلم من تعليلات لقوله هذا، وبيان الصواب منها، مع ذكر الروايات الأخرى الثابتة عنه في أن الإيمان يزيد وينقص. ولنبدأ أولاً بالرواية الأولى التي فيها قوله أن الإيمان يزيد وتوقف في النقصان، فهذه الرواية جاءت عنه من ثلاث طرق: الأولى- من طريق عبد الله بن وهب قال: سئل مالك بن أنس عن الإيمان؟ فقال: قول وعمل، قلت أيزيد وينقص؟ قال: قد ذكر الله سبحانه في غير آي من القران أن الإيمان يزيد، فقلت له: أينقص؟ قال: دع الكلام في نقصانه وكف عنه. فقلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 بعضه أفضل من بعض؟ قال: نعم1. الثانية- من طريق ابن القاسم2: قال ابن عبد البر:"وقد يزيد، روى ابن القاسم عن مالك أن الإيمان ووقف في نقصانه"3. ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية4. وقال القاضي عياض:"قال ابن القاسم: كان مالك يقول: الإيمان يزيد، وتوقف عن النقصان، وقال: ذكر الله زيادته في غير موضع فدع الكلام في نقصانه وكف عنه"5.   1 ذكر هذه الرواية ابن عبد البر في الانتقاء (ص 33) قال:- قال"الدولابي" وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قال: نا ابن وهب ... فذكره. وهذا إسناد صحيح. فالدولابي: هو الإمام الحافظ البارع أبو بشر محمد بن حماد بن سعيد بن مسلم الأنصاري الدولابي، ت310 هـ السير (14/309) ، قال ابن كثير: أحد الأئمة من حفاظ الحديث، البداية والنهاية (11/145) . ويونس بن عبد الأعلى: هو أبو موسى الصدفى المصري، ثقة من صغار العاشرة مات سنة أربع وستين ومائتين، وهو من رجال مسلم، التقريب (2/385) . وابن وهب: هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري، ثقه حافظ عابد، من التاسعة، مات سنة سبع وتسعين ومائتين، أخرج له الشيخان وأصحاب السنن التقريب (1/460) والتهذيب (6/65) . 2 هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي أبو عبد الله البصري، الفقيه صاحب مالك، ثقة من كبار العاشرة، مات سنة 291 هـ. التقريب (1/ 495) . 3 التمهيد (9/252) . 4 الفتاوى (7/331) . 5 ترتيب المدارك (2/43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ونقله عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء1. الثالثة- من طريق إسماعيل بن أبي أويس2: قال: سئل مالك عن الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: يزيد (وينقص) 3 وذلك في كتاب الله، فقيل له: وينقص يا أبا عبد الله؟ قال: ولا أزيد أن أبلغ هذا4. فهذا ما وقفت عليه مما نقل عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان، ولم أقف فيما أطلعت عليه من روايات عن الإمام أنه جزم بعدم نقص الإيمان، وإنما الذي ورد عنه في بعض الروايات التوقف في القول بنقص الإيمان، وفرقٌ بين الجزم بنفي الشيء، وبين التوقف فيه. وبهذا يتبين خطأ قول الزبيدي عندما أورد قول مالك هذا (أي: توقفه في النقصان) ثم أورد بعده ما روي عن أبي حنيفة من طريق غسان وجماعة من أصحابه أنه قال:"الإيمان يزيد ولا ينقص". ثم قال الزبيدي:"وهو بعينه قول مالك"5. قلت: فهذا خطأ بين إذ إن مالكاً رحمه الله إنما جاء عنه التوقف   1 السير (8/102) . 2 هو إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أبي أويس الإمام الحافظ أبو عبد الله الأصبحي المدني،: كان عالم أهل المدينة ومحدثهم في زمانه على نقص في حفظه وإتقانه ت 226 هـ السير (10/391) . 3 هكذا في المخطوط، والذي يبدو لي أنها زائدة، كما يظهر ذلك من السياق. 4 ذكر هذه الرواية ابن عبد الهادي في ارشاد السالك (ص 51) فقال: قال ابن الأخضر قال محمد بن سعد حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال سئل مالك ... فذكره. 5 اتحاف السادة المتقين (2/256) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 بالنقصان لا الجزم بعدمه، والفرق بين الأمرين ظاهر. فهو رحمه الله كان متوقفاً في القول بنقص الإيمان لعدم بلوغ النص إليه، ثم لما بلغه ذلك جزم بنقص الإيمان، كما هو ثابت عنه من طرق متعددة. أما توقفه في النقصان في هذه الرواية فقد ذكر له أهل بعض التعليلات: ا- فقيل إنه توقف في بعض الروايات عن القول بالنقصان، لأن التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا ينقص؟ إذ لا يجوز نقصان التصديق، لأنه إذا نقص صار شكاً وخرج عن اسم الإيمان، قاله ابن بطال1. وقال بعض أهل العلم: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب2. 3- وقيل: إنه توقف في ذلك لأنه وجد ذكر الزيادة في القرآن ولم يجد ذكر النقص. قال شيخ الإسلام:"وكان بعض الفقهاء من أتباع التابعين لم يوافقوا في إطلاق النقصان عليه. لأنهم وجدوا ذكر الزيادة في القران، ولم يجدوا ذكر النقص، وهذا إحدى الروايتين عن مالك"3.   1 نقله النووي في شرحه لصحيح مسلم (1/146) . 2 شرح صحيح مسلم للنووي (1/146) وانظر الجامع لابن أبي زيد القيرواني (ص 122) . 3 الفتاوى (7/ 506) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فهذا جملة ما وقفت عليه من تعليلات لهذه الرواية، والذي أراه صواباً من هذه التعليلات الثالث منها، وهو أنه توقف عن القول بالنقص لعدم وقوفه على النص، لأمور: أولاً: أن هذا هو اللائق به رحمه الله والأنسب لمقامه، فما وجده في الكتاب والسنة قال به، وما لم يجده لم يقل به، وهذا هو شأن العلماء المحققين من أهل السنة والجماعة لا يصدرون في أقوالهم وأعمالهم إلا عن كتاب أو سنة، وكثيراً ما كان يتمثل رحمه الله بقول الشاعر: وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع1 ثانياً: أن هذا هو منصوصه رحمه الله، فقد نص في جميع الروايات المتقدمة أنه إنما قال بالزيادة لوجودها في القرآن، ولما لم يجد للنقص ذكراً توقف عنه. ففي رواية ابن وهب قال:"قد ذكر الله سبحانه في غير آي من القران أن الإيمان يزيد". وفي رواية ابن القاسم قال:"قد ذكر الله زيادته في غير موضع، فدع الكلام في نقصانه وكف عنه". وفي رواية ابن أبي أويس قال:"وذلك في كتاب الله". فظاهر من هذه الروايات أنه إنما قال بالزيادة لورود النص فيها، أما النقص فتوقف عن القول به لعدم وقوفه على نص فيه. ثالثاً: يؤكد ذلك أنه ورد عنه روايات متعددة صحيحة يأتي ذكرها   1 الانتقاء لابن عبد البر (ص 37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 قريباً فيها القول بزيادة الإيمان ونقصانه، فلعل هذا بعد أن تبين له النص في النقص كحديث:"ما رأيت من ناقصات عقل ودين" أو وقف على بعض الآثار الكثيرة عن الصحابة والتابعين، والتي فيها التصريح بالزيادة والنقصان، أو غير ذلك، فصار يقول به لوقوفه على النص فيه. رابعاً: أن هذا ما رآه شيخ الإسلام ابن تيمية ذو الفهم الثاقب، والإطلاع الواسع والعناية الفائقة بأقوال السلف، فهو من أعلم الناس بأقوالهم وأفهمهم لها، وإن النفس لتطمئن كثيراً وغالباً لما يختاره ويراه لدقة فهمه وشدة تحريه، وقد تقدم من قوله رحمه الله تعليل رواية مالك هذه بأنه توقف لأنه لم يجد التنصيص على النقصان في القران. أما التعليل الأول والثاني فأرى أنهما غير سديدين. أما الأول: وهو أنه توقف في النقص لأن التصديق لا ينقص فغير صحيح بل باطل، لأن التصديق يعتريه النقص كما تعتريه الزيادة، وقد سبق أن ذكرت في أوجه زيادة الإيمان ونقصانه أن الإيمان يزيد وينقص من جهة التصديق، ودللت على ذلك، ونقلت عن أهل العلم كالنووي وابن تيمية وابن حجر وغيرهم ما يؤيده، فأغنى عن إعادته هنا. فقول أن نقصان التصديق شك ليس من قول أهل السنة والجماعة في شيء، فغير لائق أن يتأول قول مالك رحمه الله على هذا القول الباطل، ويترك السبب الذي جاء عنه هو في تعليل تركه للقول بنقصان الإيمان. أما الثاني: وهو أنه توقف حتى لا يفهم منه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب، فبعيد جداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 لأن القول بنقص الإيمان لا يفهم منه البتة كفر من نقص إيمانه إلا على مذهب الخوارج وغيرهم من القائلين بأن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وهو قول باطل بلا ريب ترده نصوص الكتاب والسنة. أما أهل السنة والجماعة فالإيمان عندهم له أجزاء وأبعاض وشعب والناس متفاوتون في القيام بها، فهو يزيد بزيادتها وينقص بنقصها، فإماطة الأذى عن الطريق إيمان كما في حديث الشعب، وترك إماطته نقص في كمال الإيمان المستحب ولا يقال إن فعله هذا كفر لتركه شيئاً من أمور الإيمان، ولا يفهم هذا منه. ثم لو فهم هذا ممن انحرفت فطرهم وسادت فيهم البدع والخرافات، فلا يليق أن ينسب إليه رحمه الله أنه ترك ما جاء الدليل مصرحاً به حتى لا يفهم كلامه على غير مراده، فلو كان ذلك كذلك وطرد هذا الأمر على بقية أمور الإعتقاد لضاع الدين. فهل يترك القول بأن الله سميع بصير عليم خبير وأنه مستو على عرشه وأن له يداً وقدماً وغير ذلك من أوصاف كماله سبحانه وتعالى حتى لا يقال مجسمة؟! أو يترك العناية بالأحاديث وتتبع الآثار والتنقيب عنها وفهمها حتى لا يقال حشوية؟! أو يترك الاستثناء في الإيمان بأن يقول أنا مؤمن أو أنا مؤمن حقاً حتى لا يقال شكاكاً؟! وغير ذلك مما يطول ذكره. وهل لا نروي قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم كذا" في أحاديث كثيرة حتى لا يفهم من ذلك أنا نرى ما يراه الخوارج وغيرهم من خروج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 مرتكب الكبيرة من الإيمان؟! ولقد فهم المبتدعة من كلام الله في كتابه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في الثابت عنه ما يوافق مذاهبهم، وليس العيب في النص تنزه كلام الله ورسوله عن ذلك، بل العيب في فهمهم على حد قول الشاعر: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيمٍ ولم يمنع فهمهم من نص شرعي موافقة مذهبهم أن يتلى النص ويبلغ ويتداول. وعليه فإني أرى أنه ليس من اللائق أبداً أن يؤول قول الإمام على ذلك وأن يفهم من قوله هذا الفهم الفاسد، ولو كان رحمه الله يخشى ما فهمه هؤلاء لقال بما جاء به النص:"الإيمان يزيد وينقص"ثم بيّن للسائل أنه لا يلزم من القول بنقصه أنه يكفر، إذ لا تلازم بينهما، أو نحو هذا مما يبين السبيل ويزيل الإشكال إن وجد. والله أعلم. وعلى كل فالإمام رحمه الله نص على أنه ترك القول بالنقص لعدم ورود النص، فلا حاجة بنا بعد إلى مثل هذه التعليلات. وأيضاً فالإمام ثبت عنه القول بزيادة الإيمان ونقصانه وترك قوله الأول، بل إن قوله الأخير هو المعروف عنه عند أهل العلم كما قال أحمد بن القاسم تذاكرنا من قال الإيمان يزيد وينقص فعد الإمام أحمد غير واحد ثم قال: ومالك بن أنس يقول: يزيد وينقص، فقلت له إن مالكاً يحكون عنه أنه قال: يزيد ولا ينقص1.   1 قلت: لم يرد عن مالك رحمه الله أنه قال إن الإيمان يزيد ولا ينقص وإنما الذي ورد عنه هو التوقف في النقصان لا نفيه، فلعل هذا الحاكي فهم من النصوص الواردة عنه في أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان أنه يقول بعدم النقصان، وهذا ليس بلازم كما هو معلوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فقال: بلى قد روي عنه يزيد وينقص كان ابن نافع يحكيه عن مالك، فقلت له: ابن نافع يحكيه عن مالك؟ قال: نعم1. والروايات الواردة عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة، وفيما يلي أسوق ما وقفت عليه منها: أولاً- رواية عبد الرزاق: قال عبد الرزاق:"سمعت معمراً وسفيان الثوري ومالك بن أنس، وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"2. وقال:"لقيت اثنين وستين شيخاً منهم معمر .... ومالك بن أنس ... كلهم يقولون:"الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"3. ثانياً- رواية إسحاق بن محمد الفروى4: قال:"كنت عند مالك بن أنس فسمعت حماد بن أبي حنيفة يقول لمالك يا أبا عبد الله إن لنا رأياً نعرضه عليك فإن رأيته غير ذلك كففنا   1 رواه الخلال في السنة (2/693 ح 1043) وتصرفت في نقله. 2 تقدم تخريجه (ص 128) . 3 تقدم تخريجه (ص 106) . 4 هو إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي فروة الفروى، المدني الأموي مولاهم صدوق، كف فساء حفظه، مات سنة 226 هـ التقريب (1/60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 عنه، قال: رما هو؟ قال يا أبا عبد الله لا نكفر أحداً بذنب، الناس كلهم مسلمون عندنا. قال: ما أحسن هذا، ما بهذا بأس. فقام إليه داود بن أبي زنبر وإبراهيم بن حبيب وأصحاب له فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عبد الله إن هذا يقول بالإرجاء، قال ديني مثل دين جبريل وميكائيل والملائكة المقربين، قال: لا والله: الإيمان يزيد وينقص {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 1 وقال إبراهيم {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 2 فطمأنينة قلبه زيادة في إيمانه"3. ثالثاً- رواية ابن نافع: قال: كان مالك بن أنس يقول:"الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"4. رابعاً- رواية معن بن عيسى5:   1 سورة الفتح، الآية: 4. 2 سورة البقرة، الآية: 260. 3 أخرجه اللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 960 ح 1743) قال أخبرنا محمد بن الحسن بن محمد الوراق قال نا أحمد بن خلف قال: نا أبو إسماعيل يعني الترمذي قال سمعت إسحاق بن محمد يقول.. فذكره. وذكره بنحو القاضي عياض في ترتيب المدارك (2/ 48) . 4 رواه عبد الله في السنة (1/ 317 ح 636) ، والخلال في السنة (ح 1082) ، وأبو نعيم في الحلية (6/327) ، والآجري في الشريعة (ص 118) واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 959 ح 1742) والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق (ص71) . وابن عبد البر في الانتقاء (ص 36) من طرق عن أبي الحسن سريج بن النعمان، قال حدثنا عبد الله بن نافع.. فذكره. وهذا إسناد صحيح. 5 هو أبو يحيى معن بن عيسى بن يحيى الأشجعي مولاهم المدني القزاز، ثقة ثبت، قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك من كبار العاشرة ت سنة 198 هـ روى عنه الجماعة، التقريب (2/267) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 أشار إليها ابن عبد البر في التمهيد1 ونقلها عنه شيخ الإسلام2، ولم أقف عليها مسندة. خامساً- رواية أبي عثمان سعيد بن داود بن أبي زنبر الزنبري3: قال كان مالك يقول:"الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"4. سادساً- رواية سويد بن سعيد بن سهل الهروي: قال:"سمعت مالك بن أنس وحماد بن زيد.. وجميع من حملت عنهم العلم يقولون: الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ... "5. فالقول بأن الإيمان يزيد وينقص ثابت عنه رحمه الله من طرق متعددة، ولذا قال ابن عبد البر في التمهيد بعد أن أشار إلى رواية ابن القاسم عنه في أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان، قال:"وروى عنه عبد الرزاق، ومعن بن عيسى، وابن نافع، وابن وهب أنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وعلى هذا مذهب الجماعة من أهل الحديث والحمد لله"6.   (9/252) وتصحف فيه معن إلى معمر وهو خطأ. 2 الفتاوى (7/331) . 3 سعيد بن داود بن أبي زنبر، صدوق له مناكير عن مالك، ويقال اختلط عليه بعض حديثه، وكذبه عبد الله بن نافع في دعواه أنه سمع من لفظ مالك، من العاشرة مات في حدود سنة 220 هـ التقريب (1/294) . 4 رواه الخلال في السنة (ح 1014) قال أخبرني عبد الملك قال سمعت الزنبري أبا عثمان صاحب مالك قال: فذكره. وقد تصحف"الزنبري" إلى"الزبيري" في المتن والهامش في المطبوعة من كتاب السنة للخلال. 5 رواه البيهقي في السنن (10/206) . 6 التمهيد (9/ 252) ، قلت: والذي وقفت عليه من رواية ابن وهب عن مالك القول بأن الإيمان يزيد وتوقف في النقصان كما تقدم وقد رواه ابن عبد البر، فلعله وهم هنا، أو أن لابن وهب رواية أخرى غير المتقدمة وإليها يشير ابن عبد البر هنا، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وقال القاضي عياض:"قال غير واحد: سمعت مالكاً يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وبعضه أفضل من بعض"1. وخلاصة الكلام في هذا الفصل أن مالكاً رحمه الله كان يقول إن الإيمان يزيد ولا يقول ينقص متوقفاً في ذلك لا منكراً له، ثم بان له بعد ذلك وظهر من خلال تأمله للنصوص وإعادة النظر فيها أنه ينقص، مستدلاً على ذلك بنصوص القرآن المصرحة بالزيادة نفسها، إذ إن ما دل على الزيادة تصريحاً يدل على النقصان لزوما. قال ابن رشد:"وقد روي عن مالك رحمه الله أنه كان يطلق القول بزيادة الإيمان وكف عن إطلاق نقصانه، إذ لم ينص الله تعالى إلا على زيادته، فروي عنه أنه قال عند موته لابن نافع وقد سأله عن ذلك: قد أبرمتموني إني تدبرت هذا الأمر فما من شيء يزيد إلا وينقص، وهو الصحيح والله سبحانه وتعالى أعلم"2. قلت: وقول ابن رشد هذا فيه تحرير جيد لموقف مالك من هذه المسألة، ألا أن قوله عنه أنه قال ذلك عند موته فيه نظر عندي، إذ إن الروايات المتقدمة عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد وينقص من طريق غير واحد من أصحابه لا تفيد ذلك وليس فيها تصريح به، سيما رواية ابن نافع المعينة هنا وقد تقدمت معنا ولفظها:"كان مالك يقول   1 ترتيب المدارك (2/ 43) . 2 المقدمات (1/ 37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الإيمان يزيد وينقص"فليس فيها ما يفيد أن ذلك إنما كان عند موته رحمه الله، ثم إن تعدد الروايات عنه في ذلك من طريق عبد الرزاق ومعمر وابن نافع وغيرهم من أصحابه تفيد أن قوله إن الإيمان يزيد وينقص لم يكن قال به عند موته فقط بل قبل ذلك، فلست أدري على ماذا أستند ابن رشد في قوله هذا؟ والذي أراه أنه لا مستند له، فجميع الذين رووه من طريق نافع ممن تقدم ذكرهم في التخريج لم يذكر أحد منهم ما أشار إليه ابن رشد، ثم إن الروايات الأخرى عنه في أن الإيمان يزيد وينقص تدل على عدم صحة هذا كما هو ظاهر مما تقدم، والله أعلم. وعلى كل فهذا القول أعني قول مالك رحمه الله:"الإيمان يزيد وينقص، هو الأخير من أقواله وهو المشهور عنه عند أصحابه وغيرهم لا الأول، أما قول الزبيدي: "وتوقف مالك عن القول بنقصانه، هذا هو المشهور من مذهبه"1. فغير صحيح، إلا إن كان يعني بالشهرة شهرته عند أهل البدع فنعم، فهم يتتبعون ما وافق أهواءهم من النصوص وأقوال أهل العلم ويأخذون به ويعدونه صحيحاً مشهوراً ويدعون ما سواه. فالمشهور عن مالك هو القول بأن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا لما عدد الإمام أحمد من قال الإيمان يزيد وينقص من أهل العلم عد منهم مالكاً رحمه الله مع علمه أنه روي عنه القول بأن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان.   1 إتحاف السادة المتقين (2/256) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ولما عدد عبد الرزاق رحمه الله القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص عد منهم مالكاً رحمه الله، وهكذا صنع أبو عبيد وغيرهم من أهل العلم، وما ذاك إلا لأنه المشهور عن مالك رحمه الله. ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن أشار إلى توقف مالك في النقصان:"والرواية الأخرى عنه، وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم أنه يزيد وينقص". رواية غريبة: وقد ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك رواية غريبة عن مالك في ذلك فقال:"قال زهير بن عباد: قلت لمالك ما قولك في صنفين عندنا بالشام اختلفوا في الإيمان فقالوا: يزيد وينقص؟ قال بئس ما قالوا ... "إلى آخر سياق هذه الرواية وهو طويل. قلت: وهذا غريب جدا، بل لا يثبت عن مالك رحمه الله لاسيما أن القاضي عياض ذكره مرسلاً هكذا. ولم يذكر من خرجه ولم يذكر له سندا، فعلى هذا لا يكون صحيحاً، ولا تصح نسبته إليه، كيف وهو مخالف للصحيح الثابت عنه رحمه الله، اللهم إلا أن يكون في الرواية تحريف أو سقط، والله أعلم.   الفتاوى (7/506) . هو زهير بن عباد بن مليح بن زهير الرؤاسي الكوفي ابن عم وكيع بن الجراح ت 238 هـ. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر (3/297) . ترتيب المدارك (2/42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الفصل الثاني قول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه لقد كان الحديث في الفصل السابق عمن قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان، أما الحديث في هذا الفصل فسيكون إن شاء الله عمن خالف قول أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، فقال: إن الإيمان يزيد ولا ينقص. وجملة من وقفت على أنه قال بذلك بعد التتبع والنظر في كتب الفرق والمقالات وغيرها، مما تيسر لي الوقوف عليه هم: ا- طائفة من الأشاعرة. 2- رواية عن أبي حنيفة. 3- الغسانية. 4- النجارية. 5- الإباضية. وتفصيل ذلك كما يلي: أما قول الطائفة من الأشاعرة فقد أشار إليه البغدادي في "أصول الدين"فقال: "وأما من قال: إنه التصديق1 بالقلب فقد منعوا من النقصان فيه، واختلفوا في زيادته فمنهم من منعها ومنهم من أجازها"2.   1 أي الإيمان وهم الأشاعرة. 2 أصول الدين (ص 252) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وذكر نحو قوله هذا العيني في عمدة القارئ1. وقال البيجوري في شرحه لقول اللقاني في جوهرة التوحيد: ورجحت زيادة الإيمان ... بما تزيد طاعة الإنسان ونقصه بنقصها وقيل لا ... وقيل لا خلف كذا قد نقلا قال في الشرح: "ويحتمل في أن يكون النفي في كلام المصنف راجعاً إلى أقرب مذكور وهو قوله: "ونقصه بنقصها"فكأنه قال: وقيل لا ينقص فيكون مراده بهذا القيل أن الإيمان يزيد ولا ينقص ... "2. فمن خلال ما تقدم يظهر أن بعض الأشاعرة ذهبوا إلى أن الإيمان يقبل الزيادة دون النقصان، ولهم على ذلك أدلة يأتي ذكرها ونقضها قريباً. وأما الرواية عن أبي حنيفة أن الإيمان يزيد ولا ينقص، فقد ذكرها غير واحد ممن كتب في المقالات، من طريق غسان وغيره عن أبي حنيفة رحمه الله. قال الأشعري: "فأما غسان وأكثر أصحاب أبي حنيفة فإنهم يحكون عن أسلافهم أن الإيمان هو الإقرار والمحبة لله والتعظيم له والهيبة منه وترك الاستخفاف بحقه وأنه يزيد ولا ينقص"3. وقال الزبيدي: "وحكى غسان وجماعة من أصحاب أبي حنيفة أنه   (1/107) . 2 تحفة المريد (ص 51) . وانظر جوهرة التوحيد ضمن مجموعة مهمات المتون (ص12) . 3 مقالات الإسلاميين (ص 139) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 يزيد ولا ينقص"1. ونقله عن الكشميري الحنفي في "فيض الباري"2، ونقل نحوه الكاندهلوي الحنفي في "تحفة القارئ"وقال: "وروى عن أبي حنيفة ومالك يزيد ولا ينقص"3. قلت: سبق أن بينت أن مالكاً لم يقل إن الإيمان يزيد ولا ينقص، وإنما قال: يزيد وتوقف في النقصان، وفرقٌ بين الأمرين. ثم إن الكشميري والكندهلوي لما ذكرا نسبة هذا القول لأبي حنيفةلم يتكلما بشيء حول عدم صحة هذه النسبة إليه، بل إن الأول منهما أخذ يوجه هذا القول، فكأن هذا إقرار منه بصحة النسبة.! وعلى كل ففي صحة نسبة هذا القول لأبي حنيفة نظر. فقد ذكر البغدادي عن الغسانية، وهم اتباع غسان المرجئ أن من أقوالهم أن الإيمان يزيد ولا ينقص، ثم قال: "وزعم غسان هذا في كتابه أن قوله في هذا الكتاب كقول أبي حنيفة"4. ثم خطأه في ذلك فقال: "وهذا غلط منه عليه، لأن أبا حنيفة قال: إن الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله تعالى ورسله وبما جاء من الله تعالى ورسله في الجملة دون التفصيل، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه، وغسان قد قال: بأنه يزيد ولا ينقص"5.   1 إتحاف السادة المتقين (2/ 256) . (1/67) . (ص 51) . 4 الفرق بين الفرق (ص 203) . 5 الفرق بين الفرق (ص 203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فالبغدادي يرى أن نسبة هذا القول لأبي حنيفة غلط عليه، وهذا ظاهر لأن المشهور والمعروف عنه نفي الزيادة والنقصان معاً. لذا قال الإسفرايني: "كان يقول أي غسان الإيمان إقرار بالله ومحبة لله تعالى وتعظيم له، وهو يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان على خلاف ما قاله أبو حنيفة رحمه الله حيث قال: لا يزيد ولا ينقص"1. قلت: فلعل الغسانية نسبة هذا القول لأبي حنيفة ترويجاً لمذهبهم، وإشهاراً له، ولا غرابة في هذا، فإن هذا سجية لأهل البدع وطبيعة لهم ينحلون الأئمة ما لم يقولوه ليروج باطلهم وينتشر وخصوصاً أبا حنيفة، فقد نحل رحمه الله من عقائد الجهمية والمعتزلة والماتريدية وغيرهم شيء كثير لم يقل به وإنما نسبه إليه أهل الباطل باطلاً2. هذا بشكل عام، أما قول أبي حنيفة في هذه المسألة بخصوص فهو أشد من قول هؤلاء، وأكثر بعداً عن الصواب، إذ إن المشهور عنه رحمه الله، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك قريبا، هو نفي الزيادة والنقصان كليهما وسيأتي الكلام على مذهبه هذا موسعاً في الفصل القادم إن شاء الله، وإنما الذي قصدت بيانه هنا هو عدم صحة نسبة هذا القول - أعني أن الإيمان يزيد ولا ينقص- إليه. وأما الغسانية فالقول بأن الإيمان يزيد ولا ينقص مشتهر عنهم، وقد   1 التبصير في الدين (ص 101) . 2 وقد أبان هذا بما لا مزيد عليه الأخ الفاضل شمس الدين بن محمد أشرف في رسالته "الماتريدية، وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات" في مواضع متعددة منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 نسبه إليهم غير واحد ممن كتب في المقالات والفرق1. وأما النجارية2، فلهم أصول باطلة جانبوا فيها الحق وفارقوه منها: قولهم إن الاسمان يزيد ولا ينقص، وقد حكى ذلك عنهم غير واحد ممن كتب في مقالات الفرق كالأشعري والأسفرايني والبغدادي وغيرهم3. وأما الإباضيه4، فلم أقف على قولهم إن الإيمان يزيد ولا ينقص في كتب المقالات وإنما ذكر أبو محمد عبد الله بن حميد السالمي من الاباضية5 في كتابه مشارق أنوار العقول: "الإيمان بالمعنى الشرعي الذي هو أداء الواجبات مطلقاً ليس ينقص نظراً إلى إيمان كل مؤمن فإنه   1 انظر مقالات الإسلاميين للأشعري (ص 139) والتبصير في الدين للأسفرايني (ص 98) والفرق بين الفرق للبغدادي (ص 203) . 2 وهم أتباع أبي عبد الله حسين بن محمد بن عبد الله النجار، عده ابن النديم من متكلمة المجبرة، وعده الذهبي من المعتزلة، وعده الأشعري من المرجئة، قلت: فلعل مذهبه خليط من عدة مذاهب. وانظر الفهرست لابن النديم (ص 254) ، والسير للذهبي (10/ 554) ومقالات الإسلاميين للأشعري (ص 137) . 3 انظر مقالات الإسلاميين (ص 136) والتبصير في الدين (ص 101) ، والفرق بين الفرق (ص 208) والفتاوى لابن تيمية (7/ 546) . 4 وهم فرقة من الخوارج- وإن تنصلوا من هذه النسبة- وقد كشفت كتبهم الأخيرة حقيقة مذهبهم وجليته وصلته الوثيقة بمذهب الخوارج، بل وبمذهب المعتزلة، فمن قرأ كتاب "الحق الدامغ " للخليلي، أو "السيف الحاد" للقنوبي، أو "ارشاد الساري في نفي رؤية الباري" للراشدي أو غيرها مما كتبه الإباضية المعاصرون علم ذلك علم يقين، ومن عقائدهم الباطلة: إنكار رؤية الله يوم القيامة، والقول بخلق القرآن، وتخليد مرتكب الكبيرة في النار، وإنكار حجية أخبار الآحاد في العقيدة وغير ذلك. 5 انظر ترجمته في الأعلام للزركلي (4/84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 في ذاته غير متفاوت بالنسبة إلى إيمان غيره"1. فقال المعلق على الكتاب وهو من الإباضية المعاصرين: "ذهب أصحابنا رحمهم الله إلى أن الإيمان يزيد ولا ينقص، وهذا المذهب إذا تؤمل له أصالته في العقيدة سواء حملنا الإيمان على حقيقته اللغوية أو حقيقته الشرعية.. إلى أن قال: وإذا اعتقد ما لزمه اعتقاده ولم يحضره فرض قولي أو عملي كان مؤمناً كامل الإيمان، وإذا وجب عليه شيء من الأقوال أو الأفعال وأداه كما وجب عليه ازداد إيمانه وإذا أخل بهذا الواجب انهدم إيمانه كله"2. وكما ترى قد وافق هذا أسلافه الخوارج بقوله: "وإذا أخل بهذا الواجب انهدم إيمانه كله". فهم يخرجون من أخل بشيء من الأعمال عن الإيمان، لأن الإيمان عندهم كل لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وهذه الشبهة هي التي أفسدت على هؤلاء وعلى غيرهم عقيدتهم في الإيمان، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذه الشبهة والله أعلم امتنع من امتنع من أئمة الفقهاء أن يقول بنقصه، كأنه ظن إذا قال ذلك يلزم ذهابه كله بخلاف ما إذا زاد"3. قلت: وهذه الشبهة باطلة معلومة الفساد، وسيأتي نقضها في الفصل القادم.   1 مشارق الأنوار (ص 35- 36) . 2 المصدر السابق. 3 الفتاوى (7/511) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 فهذا ما تيسر لي الوقوف عليه ممن قال بهذا القول، ولهؤلاء أدلة يحتجون بها، فيما يلي أسوقها، ثم أتبع ذلك بمناقشتها وبيان بطلانها: أدلتهم: 1- بنوا قولهم هذا على تعريفهم للإيمان: فالإيمان عندهم هو التصديق، والتصديق عندهم لا يقبل النقص لأنه إذا قبله صار شكاً، لكنه يقبل الزيادة بناء على أن الشخص يؤمن إجمالاً ثم يزيد تصديقه بالتفاصيل1. وقد تقدم معنا قول البغدادي: "وأما من قال إنه التصديق بالقلب فقد منعوا من النقصان فيه ". وقال العيني: "وقال اخررن إنه لا يقبل النقصان لأنه لو نقص لا يبقى إيماناً، ولكن يقبل الزيادة لقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 2 ونحوها من الآيات"3. 2- احتجوا بحديث الإسلام يزيد ولا ينقص: قال الكشميري "وروي عن إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى أن الإيمان يزيد ولا ينقص، وكأنه مأخوذ مما روي عند أبي داود في كتاب الفرائض عن معاذ بن جبل: "أنه ورث المسلم عن الكافر ولم يورثه من المسلم وقال الإسلام يزيد ولا ينقص"قيل في شرحه أي يعلو ولا   1 انظر أصول الدين للبغدادي (ص 252) ، والنبراس شرح العقائد (ص 402) ، وعمدة القاري (1/ 107) . 2 سورة الأنفال، الآية: 2. 3 عمدة القاري (1/ 107) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 يعلى"1. وقال الفرهاري في النبراس: "ومن العجب أن بعضهم استدل بما روى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يورث المسلم من الكافر ولا يورث الكافر من المسلم ويقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإيمان يزيد ولا ينقص" وخفي عليهم أن هذه الزيادة والنقصان معنى آخر على نحو الإسلام يعلو ولا يعلى"2. 3- واحتجوا بأن المعاصي لا تحبط الطاعات وإذا لم تحبطها فلا نقصان يلحق الإيمان: قال الحليمي: "ومن ذهب إلى أن الإيمان يزيد ولا ينقص فإنه يقول أصله يتكثر بفروعه، وفروعه تتكثر بعضها، والمعاصي لا تحبط الطاعات، وإذا لم تحبطها فلا نقصان يلحق الإيمان. والدليل على صحة ذلك أن فروع الإيمان متأيدة بأصلها، فما لا يحبط أصلها لا يحبطها، لأن الفروع لا تتميز عن أصلها، فإذا لم يجز وجود الكفر مع الإيمان، لم يجز وجود فروعه مع الإيمان، ولأن طاعات المؤمن إنما كانت فروع الإيمان لوجودها في الإيمان المحرك عليها، كذلك معاصي الكافر فروع للكفر لأن كفره هو المحرك له عليها، وقد علمنا أن الأفعال الحسنة في أنفسها إذا وجدت من الكافر لم تكن فروع الإيمان، ولأن طاعات المؤمن لما كانت فروع الإيمان كانت إيمانا، فلو كانت سيئاته فروع الكفر فلتكن كفراً"3.   1 فيض الباري (1/ 137) . 2 النبراس (ص 402) . 3 المنهاج في شعب الإيمان (1/69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فهذا ما وقفت عليه من أدلة لهؤلاء، ولهم شبه أخرى يوافقون فيها من قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فيأتي ذكرها ونقضها هناك. والرد على هذه الأدلة من وجهين مجمل ومفصل: أما المجمل: 1- فيقال: إن زيادة الإيمان ثابتة في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وهم يقولون بها، فإذا ثبتت الزيادة، فالنقصان ثابت باللزوم، لأن الزيادة تستلزم النقص، ولأن قبول الشيء للزيادة يستدعى قبوله للنقص، ولأن الزيادة لا تكون إلا عن نقص، وسبق أن نقلت عن أهل العلم الإمام أحمد وابن حزم وابن بطال والبيهقي وأبن حجر وغيرهم ما يؤيد هذا، فأغنى عن إعادته هنا1. فالزيادة إن كانت ثابتة من نص القرآن منطوقاً فهي ثابتة من نصه مفهوماً، بل إن بعض أهل العلم يرى أنها ثابتة من نصه منطوقاً. ولهذا لما قال الكشميري "وليعلم أن القرآن لا يدل بمنطوقه إلا على زيادة الإيمان، أما على نقصانه فلا، إلا أن يؤخذ عنه بالزوم، ويقال إن الإيمان إذا ثبتت فيه الزيادة أمكن فيه النقصان أيضاً"2. تعقبه الشيخ ابن عبد الحق النورفوري بقوله: "إن دلالة اللفظ على ما وضع له، أو جزئه، أو لازمه المتأخر عبارة إن سيق له، وإلا فإشارة، وعلى لازمه المتقدم اقتضاء، ولا ريب أن هذه الثلاث من المنطوق. قال في إرشاد الفحول في الباب الثامن من المقصد الرابع منه:   1 انظر صدر المبحث الأول من الفصل الأول من هذه الرسالة. 2 فيض الباري (1/ 66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 "والحاصل أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها، فتارة تستفاد منها من جهة النطق تصريحاً، وتارة من جهته تلويحاً، فالأول المنطوق، والثاني المفهوم، والمنطوق ينقسم إلى قسمين: الأول: ما لا يحتمل التأويل، وهو النص. والثاني: ما يحتمله، وهو الظاهر. والأول أيضاً ينقسم إلى قسمين، صريح إن دلل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن، وغير صريح إن دل عليه بالالتزام، وغير الصريح ينقسم إلى دلالة اقتضاء وإيماء وإشارة، فدلالة الاقتضاء هي إذا توقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه مع كون ذلك مقصود التكلم ... إلخ"1. والاستثناء في قوله- أي الكشميري-: "أما على نقصانه فلا إلا أن يؤخذ عنه باللزوم"متصل، فظهر أن القرآن يدل على النقصان بمنطوقه، كما يدل على الزيادة بمنطوقه، إلا أن دلالته على الزيادة من قبيل العبارة، وعلى النقصان من باب الاقتضاء أو الإشارة، فالحق أن الإيمان إذا ثبت فيه الزيادة ثبت فيه النقصان البتة لا كما قال: أمكن فيه النقصان"2. قلت: وهذا تعقب محرر جداً، ورجه آخر في الرد وهو ما جاء عن ابن عيينة رحمه الله تعالى قال: "نطق القرآن بزيادة الإيمان ونقصانه، قوله تعالى: {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وقوله تعالى:   1 إرشاد الفحول (ص 156) . 2 إرشاد القاري (1/ 374) مخطوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رجسهم} فهذا نقصان الإيمان"1. والمقصود أن القرآن الكريم كما أنه دل على زيادة الإيمان فهو يدل على نقصه، ومن أخذ بدلالته على الزيادة وترك دلالته على النقص فقد عطل القران عن دلالاته، وتناقض فيما يأتي ويذر. قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد أن ذكر جملة من الآيات المصرحة بزيادة الإيمان: "وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أن الإيمان يزيد مفهوم منها أنه ينقصه أيضاً، كما استدل بها البخاري رحمه الله على ذلك، وهي تدل عليه دلالة صريحة لا شك فيها، فلا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى، والعلم عند الله"2. 2- ويقال أيضاً إن النقص مصرح به في السنة، كما في الحديث الصحيح الثابت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" 3. فهذا الحديث نص في نقصان الإيمان، فالحديث حجة قاصمة لظهر كل من قال إنه لا ينقص وشجاً في حلقه إلا أن يدع قوله، قال ابن حزم: "وقد جاء النص بذكر النقص، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور المنقول نقل الكواف أنه قال للنساء: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم منكن" 4.   1 رواه الجورقاني في ألأباطيل (1/34) . 2 أضواء البيان (4/29) . 3 تقدم تخريجه (ص 81) . 4 الفصل (3/ 237) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وأيضاً: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 1. فقوله صلى الله عليه وسلم: "وذلك أضعف الإيمان "صريح أن الإيمان يضعف وضعفه نقصان بلا ريب؛ ولذا احتج به أهل العلم على زيادة الإيمان ونقصانه كما سبق بيانه. قلت: فلا مجال بعد قوله صلى الله عليه وسلم لعقل ولا رأي إلا القبول ع والتسليم، لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فهو صلى الله عليه وسلم يخبر بصريح العبارة أن الإيمان يضعف وينقص، فلا يجوز لمن كأن يؤمن به أن يقول لا ينقص، معارضاً برأيه قول رسول الله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. 3- وأيضاً يقال: إن القول بزيادة الإيمان ونقصانه هو قول أهل السنة والجماعة الصحابة وتابعيهم بإحسان، وقد نقلت فيما سبق عن غير واحد منهم التصريح بأن الإيمان يزيد وينقص، فمن الصحابة عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن رواحة وأبي الدرداء وأبي هريرة وجندب بن عبد الله البجلي وعمير بن حبيب الخطمي وغيرهم رضي الله عن الصحابة أجمعين، ومن السلف عموماً عن علقمة بن قيس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد بن جبر والأوزاعي والثوري وحماد بن زيد ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم خلق كثير لا يحصون، هذا هو الثابت عنهم لا قول لهم غيره، وهذا هو السبيل الذي يعضده الدليل من الكتاب والسنة، والله يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ   1 تقدم تخريجه (ص 86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ... } 1. وكان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: "من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول"2. بلى لقد جاء عن بعض السلف عد هذا القول من أقوال المرجئة المذمومة، كما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عمن قال الإيمان قول بلا عمل وهو يزيد ولا ينقص قال هذا قول المرجئة. وسئل ما المرجئة؟ قال الذين يقولون الإيمان قول، قيل: فالذي يقول الإيمان يزيد ولا ينقص قال ما أدري ما هذا. قلت: أي أنه قول منكر لم يعهد عن أحد من علماء السنة. وهذان الأثران عن الإمام رحمه الله رواهما عنه الخلال في السنة في باب الرد على المرجئة قولهم إن الإيمان يزيد ولا ينقص3. فعلم من جميع ما تقدم أن القول بأن الإيمان يزيد ولا ينقص قول محدث لا دليل عليه من الكتاب والسنة ولم يقل به أحد من سلف هذه الأمة، فمن قال به وترك قول أهل السنة فقد فارق السبيل وترك الجادة التي عليها أئمة الهدى ومصابيح الدجى الذين هم أعلم وأحكم بمسائل العلم والدين. ويحسن أن أنقل هنا ما نقله شيخ الإسلام عن الشافعي رحمه الله في سياق آخر قال: "وما أحسن ما قاله الشافعي رضي الله عنه في رسالته   1 سورة النساء، الآية: 115. 2 مفتاح السعادة لابن القيم (ص90) . 3 السنة للخلال (3/569) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 "هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا"1. فإذا كانوا بهذه المثابة والمنزلة وهم كذلك، وقد اتفقوا على أن الإيمان يزيد وينقص، ومستندهم في ذلك الكتاب والسنة، فلا يجوز لأحد أن يعدل عن قولهم لشبه عقلية وخيالات وهمية2، ما هي إلا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} ، هذا على سبيل الإجمال. أما التفصيل، فهو في نقد حججهم السالفة الذكر، ونقضها شبهة شبهة. أولاً - قولهم: إن الإيمان لا ينقص: لأنه هو التصديق، والتصديق إذا صار شكاً، لكنه يزيد. قلت: وهذا قول باطل مناقض للحق والواقع، أما الحق: فقد بينت في مبحث أوجه زيادة الإيمان ونقصانه أن الحق الذي لا ريب فيه في التصديق أنه يزيد وينقص ويقوى ويضعف، ولا يلزم من ضعفه أن يكون شكاً أو كفراً حاشا وكلا، بل يضعف تصديق الشخص عن درجة اليقين الكامل إلى درجة أضعف دون أن يكون ذاهب التصديق كلية، أو مرتاباً   1 نقض المنطق (ص 130) . 2 قلت: ولم يكتف بعض أهل البدع بالعدول عن مذهب أهل السنة فحسب، بل، صاروا يلمزونهم ويشنعون عليهم ويصفونه بـ "النقصانية"؛ لقولهم بنقص الإيمان، وبـ"المخالفة"؛ لمخالفتهم ما عليه أهل البدع. ولهذا يقول أبو حاتم الرازي وهو يعدد بعض علامات أهل البدع: " ... تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية.." انظر شرح الاعتقاد للالكائي (1/ 179، 3/ 533) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 في الأمر شاكاً فيه. وإبراهيم الخليل عليه السلام لما قال: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} وأراه الله، زاد تصديقه وإيمانه، وبلغ درجة الاطمئنان ولم يكن شاكاً قبل ذلك حاشاه عليه السلام فلا تلازم بين الشك والنقص، فقد يوجد أحدهما دون أن يلزم من ذلك وجود الآخر، وقد نقلت فيما سبق عن أهل العلم ما يدل على أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان دون أن يقتضي ذلك الشك والريب فليراجع في محله1. وأما مناقضته للواقع: فإن الواقع يشهد لبطلان ذلك، فإن من الناس من يكون تصديقه قوياً معتمداً على الحجج والبراهين، بالغاً أعلى درجات اليقين، لا تزعزعه الشبهات ولا تصرفه، ومنهم من يكون تصديقه ضعيفاً بحيث تزعزعه الشبه وتصرفه، فإن سلم منها بقي على تصديقه الضعيف ولا يعد شاكاً، فشتان بين هذا وذاك. ثم إن هذا أمر يحسه كل أحد من نفسه، فإن المرء أحياناً يكون تصديقه قوياً، وأحياناً يكون ضعيفاً، وهو في كلا الحالين مصدق، وما ذاك إلا لأن التصديق يقبل التفاضل والزيادة والنقصان في الشخص الواحد، وكذلك يتفاضل من شخص لآخر، فمن كان تصديقه أكمل فهو أفضل من الآخر الذي تصديقه أنقص، والمقصود أن التصديق كما أنه يزيد فهو ينقص بلا ريب. أقول ما تقدم جدلاً على فرض أن الإيمان هو التصديق، أما الإيمان فهو وراء ذلك، بل هو التصديق والقول والعمل كما هو مقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة، فالإيمان ينقص بنقص العمل وبفعل   1 في مبحث أوجه زيادة الإيمان ونقصانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 المعاصي وبغير ذلك، ولا يلزم من نقصه في ذلك أن يكون شكاً أو كفراً، بل بحسب المعصية فإن كانت المعصية المرتكبة كفراً كفر، وإن كانت كبيرة نقص كمال إيمانه الواجب، وإن كانت مستحباً تَرْكُها نقص كمال إيمانه المستحب، فلا يلزم من ارتكاب المعصية كفر المرتكب، إلا على مذهب الخوارج؟. ثم يقال لهؤلاء إن كان التصديق على قولكم يقبل الزيادة ولا يقبل النقصان أخبرونا عن حاله قبل حصول الزيادة أكان ناقصاً أو كاملاً؟ فإن كان كاملاً فما وجه الزيادة فيه وهو كامل، وإن كان ناقصا وهو كذلك خصمتم، وبهذا يظهر تناقضهم، وتهافت قولهم، وبالله التوفيق. ثانيا- أما إحتجاجهم بحديث الإسلام يزيد ولا ينقص: فمنتقص من وجهين: الأول: أن الحديث ضعيف لا يحتج به، فقد أخرجه أبو داود وأحمد والطيالسي والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن، والجورقاني في الأباطيل1 كلهم من طريق عمرو بن حكيم عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي عن معاذ بن جبل أنه أتي في ميراث يهودي وارثه مسلم، فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام يزيد ولا ينقص" فورثه منهم.   1 انظر سنن أبي داود (3/ 126) ، والمسند (5/23، 636) ، ومسند الطيالسي (ص 77) ، والمستدرك (4/345) وسنن البيهقي (6/205، 254) والأباطيل (2/157) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال الألباني حفظه الله: "لكنه معلول بالانقطاع، فقد أخرجه أبو داود من طريق عبد الوارث عن عمرو بن أبي حكيم الواسطي: ثنا عبد الله بن بريدة أن أخوين اختصما إلى يحيى بن يعمر: يهودي ومسلم، فورث المسلم منهما وقال: حدثني أبو الأسود أن رجلاً حدثه أن معاذاً حدثه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره، فورث المسلم. فهذا يدل على أن أبا الأسود لم يسمعه من معاذ، بينهما رجل لم يسم، فهو مجهول، فهو علة الحديث، وبه أعله البيهقي، فقال بعد أن ساقه من طريق أبي داود: "وهذا رجل مجهود، فهو منقطع"، وقال الحافظ في الفتح (12/43) بعد ما ذكر تصحيح الحاكم له: "وتعقب بالانقطاع بين الأسود ومعاذ، لكن سماعه منه ممكن، وزعم الجورقاني أنه باطل، وهي مجازفة". قلت: الذي يبدو لي أن حكم الجورقاني عليه بأنه باطل، إنما هو باعتبار ما فيه من توريث المسلم من اليهودي الكافر، فإن الأحاديث الصحيحة على خلاف ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين شتى"وهو مخرج مع غيره مما في معناه في كتابي إرواء الغليل"اهـ1. والحديث أعله المناوي بالانقطاع2. وأخرجه الجورقاني في الأباطيل3 من طريق أخرى عن محمد بن المهاجر البغدادي قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا حماد بن سلمة   1 سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/ 252، 253) ، وانظر الإرواء (5/ 106) . 2 انظر التيسير للمناوي (1/424) ، وفيض القدير له (3/ 179) . (2/156) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 عن خالد الحذاء عن عمرو بن كردي عن يحيى بن يعمر عن معاذ بن جبل: فذكره. قال الجورقاني: هذا باطل. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات1، واتهم بوضعه محمد بن المهاجر، وقال: قال ابن حبان: كان يضع الحديث، وقد رواه فغير إسناده ولفظه. ونازعه في ذلك السيوطي في اللآلىء2، وذكر طريقه المتقدمة وطريقاً أخرى وليس فيهما محمد بن المهاجر. وعلى كل فالحديث ضعيف لا يحتج به. الوجه الثاني: وعلى فرض صحته، فإن الحديث معناه على غير ما فهمه هؤلاء من أنه يدل على أن الإيمان يزيد ولا ينقص، وإنما هو في باب آخر غير هذا، كما هو واضح من بيان أهل العلم للحديث. فقد قيل في معناه: "أي: أن حكم الإسلام يغلب ومن تغليبه أن يحكم للولد بالإسلام بإسلام أحد أبويه"3 قاله عبد الوارث بن سعيد. وقال البيهقي"وإن صح الخبر فتأويله غير ما ذهب إليه- يعني: معاذ في توريثه للمسلم من الكافر محتجاً لذلك بهذا الحديث- إنما أراد أن الإسلام في زيادة ولا ينقص بالردة"4.   (3/230) . (2/442) . 3 انظر سنن البيهقي (6/205) . 4 انظر سنن البيهقي (6/255) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وقيل "أي: يزيد بما يفتح من البلاد، ولا ينقص بما غلب عليه الكفرة منها"1. أما ما فهمه معاذ رضي الله عنه من الحديث على فرض صحته من أنه يدل على أن المسلم يرث من الكافر من غير عكس فهو معارض بالأحاديث الصحيحة الثابتة في أنه لا يتوارث أهل ملتين فلا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر. ففي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" 2. وما ذهب إليه بعض أهل العلم: أنا نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، كما يحل النكاح فيهم ولا يحل لهم، وبه قال مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وإسحاق. فمردود بأنه قياس في معارضة النص وهو صريح في المراد ولا قياس مع وجوده، بهذا أجاب الجمهور. وعلى كل فالحديث ليس نصاً في المراد بل هو محمول على أنه يفضل غيره من الأديان، ولا تعلق له بالإرث3. فالحديث لا يدل على توريث المسلم من الكافر، ولا يدل على أن الإيمان يزيد ولا ينقص على المعنى الذي فهمه هؤلاء، بل المراد به أن الإسلام له الغلبة دائما وأنه يعلو ولا يعلى.   1 انظر عون المعبود (8/123) . 2 البخاري (12/50 فتح) ، ومسلم (3/1233) . 3 انظر فتح الباري (12/50،51) ، وشرح مسلم للنووي (11/52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وهذه اللفظة "الإسلام يعلو ولا يعلى"ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما بين ذلك الألباني في الإرواء فقد استوفى طرق الحديث ثم قال: "وجملة القول أن الحديث حسن مرفوعاً بمجموع طريقي عائذ ومعاذ، وصحيح موقوفاً، والله أعلم"1. قلت: فعلى هذا المعنى يحمل حديث معاذ إن صح، والله أعلم. وبهذا ينتقض احتجاجهم به. ولله الحمد. ثالثاً- احتجاجهم بأن المعاصي لا تحبط الطاعات وإذا لم تحبطها فلا نقصان يلحق الإيمان..الخ. وقولهم هذا باطل، فهو في جملته يعارض الحق الثابت في الكتاب والسنة في الإيمان وأنه يقبل النقصان كما يقبل الزيادة، ومفاد هذه التعليلات إبطال ذلك وتقرير أن الإيمان يقبل الزيادة فقط دون النقصان. وهذا تحكم في نصوص الشرع، وإدلاء بالعقل في مقابل النص! فهل تكفي مثل هذه التعليلات العقلية حجة في أمر يناقض الكتاب والسنة ويخالفهما؟؟ ثم إن قولهم هذا متضمن في ثناياه أموراً باطلة عدة منها: قولهم: "المعاصي لا تحبط الطاعات"فهذا القول هكذا ليس على إطلاقه فإن من المعاصي الشرك الأكبر وهو يحبط الطاعات بيقين، والمعصية إذا أطلقت تشمل الكفر وغيره، والله لم يجعل شيئا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، فكان ينبغي أن يستثنى الشرك الأكبر من هذا   1 إرواء الغليل (5/106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الإطلاق. ثم أمر آخر وهو أن هناك من المعاصي ما هو دون الشرك إلا أنه ببطل بعض الطاعات كالذي يتبع صدقاته بالمن والأذى كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ... } . قال ابن كثير: "فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى كما تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله ... ". فالصدقة طاعة والمن والأذى معصية، والذي يتبع صدقاته بالمن والأذى تبطل طاعته، فالمعصية إذن قد تبطل بعض الطاعات، ولهذا فإن قولهم المتقدم ليس على إطلاقه وتحريره أن يقال: "المعاصي التي دون الشرك لا تحبط جميع الطاعات"فإذا تبين لك فساد مقدمتهم علمت فساد نتيجتها. وكذلك قولهم: "إذا لم تحبطها فلا نقصان يلحق الإيمان". قلت: فهذه نتيجة باطلة مبنية على مقدمة فاسدة، ثم إنه لا تلازم بين الأمرين فإن المعاصي وإن لم تحبط الطاعات فقد تؤثر على الإيمان بالنقص كما هو معلوم. وعلى كل فنقصان الإيمان ثابت شرعاً واقع عرفاً ولا سبيل إلى رده بمثل هذه التخرصات والشبه التي لا تغني من الحق شيئاً.   سورة البقرة، الآية: 264. تفسير ابن كثير (1/318) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الفصل الثالث: قول من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص سيكون الحديث في هذا الفصل، بعون الله عن القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص مع ذكر من قال بذلك وعرض أدلتهم ومناقشتها، وبيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، وأختم ذلك بوقفات مع بعض المتأخرين من القائلين بهذا القول، وقد جعلت هذا في ثلاثة مباحث وهي: المبحث الأول: في ذكر القائلين بهذا القول. المبحث الثاني: في ذكر أدلتهم وشبههم، والرد عليهم. المبحث الثالث: في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 المبحث الأول ذكر القائلين بهذا القول لقد قاد بهذا القول طوائف كثيرة من أهل الكلام والإرجاء1، والتجهم، وطلباً للاختصار فإني سأكتفي بعرض أشهر من قال بذلك. أولاً- أبو حنيفة وأصحابه: لقد اشتهر عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وغفر له أنه يقول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واستفاض هذا عنه، بحيث لا يدع مجالاً للشك أو التردد في نسبته إليه، ويمكن أن أبرز أهم الأسباب المؤكدة لصحة نسبة هذا القول إليه في النقاط التالية: 1- إن عامة كتب الفرق والمقالات تنسب هذا القول إليه، كالمقالات لأبي الحسن الأشعري، والفَرْق بين الفِرَق   1 بل إن إيمان المرجئة صار مضرب مثل لما لا يزيد ولا يقص، كما ذكر ذلك الثعالبي حيث قال: "إيمان المرجىء: يضرب به المثل لما لا يزيد ولا ينقص، لأن المرجئة يقولون: إن الإيمان قول فرد لا يزيد ولا ينقص، فيشبه بإيمانهم ما يكون بهذه الصفة". انظر ثمار القلوب في المضاف والمنسوب للثعالبي (ص 173) . قلت: ومع هذا فليعلم أن إيمان المرجىء نفسه يزيد وينقص بحسب قيامه بأمور الإيمان أو إخلاله بها، والقول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص هو مجرد دعوى من المرجئة يعوزها الدليل وتفتقر لبرهان، والأدلة والبراهين على ضدها كما تقرر، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 للبغدادي، والمِلَلْ والنِحَلْ للشهرستاني، وغيرها. يقول الأشعري في مقالاته: "وزعم أن الإيمان لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه"1. ويقول البغدادي عن أبي حنيفة أنه قال في الإيمان: "أنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه"2. ويقول الشهرستاني: "وعده كثير من أصحاب المقالات من جملة المرجئة ولعل السبب فيه أنه لما كان يقول الإيمان هو التصديق بالقلب وهو لا يزيد ولا ينقص، ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان"3. ولم أقف مع هذا على قول لأحد ممن كتب في المقالات حاول فيه تبرئة أبي حنيفة من هذا القول، أو نفاه عنه. 2- إن الكتب المؤلفة في العقيدة والمنسوبة إلى أبي حنيفة رحمه الله تذكر هذا القول، كالفقه الأكبر، وكتاب العالم والمتعلم، والوسيطين الصغير والكبير والوصية ورسالته إلى البتي4. وهذه الكتب إن لم يصح نسبتها جميعاً إليه، فلا بد أن يصح نسبة بعضها أو واحد منها على أقل تقدير إليه، وعلى كل إن لم يصح لا هذا ولا ذاك فإن هذه الكتب مطبوعة متداولة، وقد احتفى بها الأحناف شرحاً ونشراً ونقلاً، فهي عند عامتهم مسلم بما فيها، وقد شرح بعضها شروحاً   1 المقالات (ص 139) . 2 الفَرْق بين الفِرَق (ص 203) ، ونقله عنه الزبيدي في الإتحاف (2/265) . 3 الملل والنحل (1/141) . 4 انظر فيض الباري للكشميري (1/59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 مطولة عديدة، ونقل منها نقولٌ متكاثرة، واعتمد على ما فيها من عقائد. وفيما يلي أنقل أقواله في هذه المسألة من بعض الكتب المشار إليها آنفاً وأبداً أولاً بأبرز هذه الكتب وأشهرها نسبة إليه وهو كتاب الفقه الأكبر. (أ) قال في الفقه الأكبر: "والإيمان هو الإقرار والتصديق، وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به، ويزيد وينقص من جهة اليقين، والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد، متفاضلون في الأعمال"1. هكذا وجدت كلامه في بعض النسخ من الفقه الأكبر، وغير خاف ما في هذا الكلام من تناقض وتعارض، ففيه أن الإيمان يزيد وينقص من جهة اليقين، ثم فيه بعد ذلك أن أهل الإيمان مستوون في الإيمان والتوحيد، وأن التفاضل بينهم إنما هو في الأعمال التي هي عندهم خارجة من مسمى الإيمان. ومن المعلوم أيضا أنهم لا يقولون بزيادة التصديق ونقصانه لما يقتضيه في نظرهم من الشك في الإيمان، وإنما يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه من جهة المؤمن به فحسب، والكلام هنا على خلاف ذلك وبعكسه. والذي يظهر أن كلام أبي حنيفة هنا حصل فيه قلب من قبل بعض نساخ الكتاب فكان أصل كلامه هكذا: "وإيمان أهل السماء والأرض يزيد وينقص من جهة المؤمن به، ولا يزيد ولا ينقص من جهة اليقين   1 انظر الفقه الأكبر بشرح الماتريدي (ص 149، 150) وبشرح علي القاري طبع دار الكتب العلمية (ص 126) وبشرح أبي المنتهي (ص 33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 والتصديق ... "ثم قلب من بعض النساخ بتقديم وتأخير، فأصبح كما ترى متناقضاً متعارضاً مخالفاً للمشهور عن أبي حنيفة أن التصديق لا يقبل الزيادة والنقصان. ويدل على ذلك عدة أمور: أحدها: أن نص العبارة ذكر في بعض نسخ الفقه الأكبر هكذا: "وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص"1 بدون ذكر للمؤمن به أو التصديق، وهذا يرجح أن هذا الموضع دخله تحريف من قبل نساخ الكتاب إما بحذف أو تقديم وتأخير. الثاني: أن شارح الفقه الأكبر على القارىء تال في شرح هذه العبارة: "أي: من جهة المؤمن به نفسه، لأن التصديق إذا لم يكن على جهة التحقيق يكون في مرتبة الظن والترديد، والظن غير مفيد في مقام الاعتقاد عند أرباب التأييد"2. وهذا يدل على أن مفهوم عبارة أبي حنيفة عنده أنها تدل على عدم زيادة الإيمان ونقصانه من جهة التصديق، خلافاً للنص المتقدم عن أبي حنيفة في أن الإيمان يزيد وينقص من جهة التصديق. الثالث: أن الملا حسين الحنفي شارح الوصية لأبي حنيفة نقل نص العبارة المتقدمة من الفقه الأكبر هكذا: "إيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص والمؤمنون مستوون في درجة   1 الففه الأكبر لشرح علي القاري طبع دار الكتب العربية (ص 77) ، وطبع دار قديمي كتب خانه (ص 87) ، وبشرح علي بن محمد بن الحسين (ق 33/أ) . 2 شرح الفقه الأكبر (ص 87) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الإيمان والتوحيد متفاضلون في الأعمال"1. وهذا يؤكد ما سبق ذكره في رقم واحد من أن هذا الموضع اعتراه بعض التغيير من قبل نساخ الكتاب. الرابع: أن الملا حسين الحنفي ذكر في شرحه للوصية ما أورد عليهم مثل قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً} مما يدل على زيادة الإيمان، ثم قال: "أجيب عن ذلك بأن ذلك في حق الصحابة رضي الله عنهم لأن القرآن كان ينزل في كل وقت فيؤمنون به فيكون زيادة على الأول، وأما في حقنا فلا لإنقطاع الوحي. وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما وأبي حنيفة رحمه الله: أنهم كانوا آمنوا بالجملة ثم يأتي فرض بعد فرض فيؤمنون بكل فرض خاص فزادهم إيماناً بالتفصيل مع إيمانهم بالجملة، فيكون زيادة الإيمان باعتبار المؤمن به لا في أصل التصديق"2. وهذا فيه التصريح أنه الزيادة إنما هي باعتبار المؤمن به فحسب، لا باعتبار التصديق. الخامس: ما ذكره شيخ الإسلام عن المرجئة الذين قالوا إن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، ومنهم أبو حنيفة رحمه الله، أنهم قالوا: "نحن نسلم أن الإيمان يزيد بمعنى أنه كلما أنزل الله آية وجب التصديق بها،   1 الجوهرة المنيفة (ص3) . 2 انظر الجوهرة المنيفة (ص 4) ، وانظر معه شرح العقائد للتفتازاني (صلى الله عليه وسلم 142) ، وكتاب البداية من الكفاية لنور الدين الصابوني (ص 155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 فانضم هذا التصديق إلى الذي كان قبله، لكن بعد كمال ما أنزل الله ما بقي الإيمان يتفاضل عندهم، بل إيمان الناس كلهم سواء إيمان السابقين الأولين كأبي بكر وعمر، وإيمان أفجر الناس كالحجاج وأبي مسلم الخرساني وغيرهما"1. فالزيادة التي قالوا بها هنا هي باعتبار زيادة المؤمن به فحسب، فلما كمل التشريع وتم لم يعد هناك مجال لزيادة الإيمان عندهم، وهذا خلاف النص المتقدم عن أبي حنيفة الذي فيه أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به. السادس: سيأتي في النقول الأخرى عن كتب أبي حنيفة ما يؤكد ذلك ويؤيده. فمما تتقدم يتبين أن أبا حنيفة رحمه الله يرى ن الإيمان لا يزيد ولا ينقص من جهة التصديق واليقين، ويزيد وينقص من جهة المؤمن به، ثم بعد كال التشريع لم يعد هناك مجال لزيادته أو نقصانه. (ب) وفي الفقه الأبسط قال أبو مطيع: "قال أبو حنيفة رحمه الله ينبغي أن يقول أنا مؤمن حقاً لأنه لا يشك في إيمانه، قلت: أيكون إيمانه كإيمان الملائكة؟ قال: نعم"2. (ج) وقال في رسالته إلى عثمان البتي: "ومما يعرف به اختلافهما- أي الإيمان والعمل- أن الناس يختلفون في التصديق ولا يتفاضلون فيه، وقد يتفاضلون في العمل وتختلف فرائضهم، ودين أهل السماء ودين   1 الفتاوى (7/195) ، وانظر في الرد على ذلك الفتاوى (13/52) . 2 الفقه الأبسط (ص46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الرسل واحد"1. (د) وفي كتاب الجوهرة المنيفة في شرح وصية الإمام أبي حنيفة لمؤلفه الملا حسين الحنفي يقول: "قال المصنف أبو حنيفة رضي الله عنه: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص"أقول: هذا عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم، وقال رحمه الله: "لأنه لا يتصور نقصانه إلا بزيادة الكفر، ولا يتصور زيادته إلا بنقصان الكفر، وكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمناً وكافراً" استدل الإمام رضي الله عنه على هذا بأن زيادة الإيمان لا يتصور إلا بنقصان الكفر، ونقصانه لا يتصور إلا بزيادة الكفر، واجتماعهما في ذات واحدة في حالة واحدة محال، وهذا لأن الكفر ضد الإيمان، وهو تكذيب وجحود"2. فجميع هذه النقول المتقدمه عنه رحمه الله تتفق في الدلالة على أنه يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأنه لا يتفاضل. 3- إن عامة كتب الأحناف المؤلفة في العقيدة تذكر هذا القول، وتنسبه إلى أبي حنيفة رحمه الله، ولم أقف على قول لأحدهم يبرىء فيه أبا حنيفة من هذا القول، سوى محاولة ضعيفة من الكشميري صاحب فيض الباري خرج منها بأن تأكد من صحة نسبة هذا لأبي حنيفة، وعلى حد تعبيره، قال: "وكيف ما كان سلمت القول المذكور"3.   1 رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي (ص 33) . 2 الجوهرة المنيفة (ص 3) والشبهة المذكورة سيأتي جوابها مفصلاً في المبحث القادم إن شاء الله. 3 فيض الباري (1/60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وفيما يلي أشير إلى بعض من نسب هذا القول لأبي حنيفة من علماء الأحناف. قال ابن الهمام في المسايرة "قال أبو حنيفة وأصحابه لا يزيد الإيمان ولا ينقص ... "1. وقال الفرهاري: "مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله والمتكلمين من أهل السنة لا يزيد ولا ينقص.."2. وقال الزبيدي: "وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يزيد ولا ينقص.. "3. قلت: ولم يكتف هؤلاء بتسليم صحة القول لأبي حنيفة رحمه الله فحسب، بل جهدوا في تأويل نصوص الشرع المصرحة بزيادة الإيمان، وتعسفوا في صرفها عن ظاهرها لأجله. ولهذا يقول محمد رشيد رضا: "فمن العجب بعد هذا أن تنقل هفوة لبعض العلماء أنكر فيها زيادة الإيمان بالمعنى المصدري لشبهة نظرية، ويجعل مذهباً يقلد صاحبه فيه تقليداً، وتؤول غلايات والأحاديث لأجله تأويلاً"4. ويقول: "وهذه المسألة من أغرب مسائل عصبيات المذاهب عند النظار الجدليين ومقلديهم، وما كان ينبغي لمسلم أن يجعل هذا موضع خلاف لبحث بعض من ينتسب إليهم في مفهوم لفظ الإيمان الذي يتحقق   1 انظر المسامرة شرح المسايرة (ص 367) . 2 النبراس شرح العقائد (ص 402) وانظر (ص 406) . 3 إتحاف السادة المتقين (2/ 256) . 4 تفسير المنار (9/ 592) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 باعتقاده الدخول في الملة هل يقبل الزيادة والنقصان في ذاته؟.. "1. 4- أنه سيق في بعض كتب السنة روايات مسندة في بعضها تصريح من بعض علماء السنة بأن أبا حنيفة يقول بذلك، وفي بعضها ما يدل عليه. فمنها: (أ) ما رواه الخطيب بسنده إلى شريك القاضي قال: " ... أبو حنيفة أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص"2. قلت: وشريك معاصر لأبي حنيفة رحمهما الله. (ب) وساق عبد الله بن الإمام أحمد في السنة بسنده إلى أبي إسحاق الفزاري قال: "كان أبو حنيفة يقول: إيمان إبليس وإيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه واحد، قال أبو بكر: يا رب، وقال: إبليس: يا رب "3. ثم قال أبو إسحاق: ومن كان من المرجئة ثم لم يقل هذا، انكسر عليه قوله. قلت: ولعل هذا ليس قولاً لأبي حنيفة وإنما هو لازم قوله كما يفيد   1 تفسير المنار (11/86) . 2 تاريخ بغداد (13/ 372) . 3 السنة (1/219) ورواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (برقم: 1832) والخطيب في التاريخ (13/ 373) وقال محقق السنة لعبد الله: إسناده صحيح، وقال معلقاً على الأثر: ل"لعل مراده بذلك: التصديق القلبي. ومعلوم أنه لا يكفي وحده"، قلت: سبحان الله ولو كان يكفي وحده فهل يصح أن يقال تصديق أبي بكر القلبي كتصديق إبليس!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ذلك قول أبي إسحاق. (ج) وساق بسنده إلى أبي عبد الرحمن المقرىء قال: "كان والله أبو حنيفة مرجئاً، ودعاني إلى الرجاء فأبيت عليه"1. (د) وساق بسنده إلى يحيى بن معين قال: "كان أبو حنيفة مرجئاً، وكان من الدعاة.. "2. (هـ) وساق الخطيب بسنده إلى يحيى بن ادم قال: "ذكر لأبي حنيفة هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: "الوضوء نصف الإيمان" 3. قال: لتتوضأ مرتين حتى تستكمل الإيمان"4. وهذه الروايات تدل على أنه رحمه الله كان من أهل الإرجاء، وهو التأخير لأنه كان يخرج العمل من مسمى الإيمان، وتدل أيضاً على أنه يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل. قلت: وهو رحمه الله قد تأثر في هذا بقول شيخه حماد بن أبي سليمان، فقد نقل عن حماد إنكار دخول العمل في الإيمان، وإنكار تفاضله، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأنكر حماد بن أبي سليمان ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئه الفقهاء، وأما إبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة شيخ حماد بن أبي   1 السنة (1/223) . 2 السنة (1/226) . 3 أخرجه بهذا اللفظ أحمد (5/365) ، وأخرجه مسلم (1/203) بلفظ "الطهور شطر الإيمان". 4 رواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/435) ، والبغدادي في تاريخ بغداد (13/388) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 سليمان، وأمثاله ومن قبله من أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود فكانوا من أشد الناس مخالفة للمرجئة، وكانوا يستثنون في الإيمان، لكن حماد بن أبي سليمان خالف سلفه، واتبعه من اتبعه ودخل نجي هذا طائف من أهل الكوفة ومن بعدهم"1. وشيخ الإسلام في اجر كلامه يشير إلى أبي حنيفة وغيره من علماء الكوفة ممن نحا منحى حماد في هذه المسألة، ونص شيخ الإسلام في موضع آخر أن أبا حنيفة تابعٌ في مقالته في الإيمان لشيخه حماد بن أبي سليمان2. 5- لم أقف في حدود ما اطلعت عليه من مؤلفات تعرضت لهذا الموضوع على كلام لأحد الأحناف أو غيرهم يبرئ فيه أبا حنيفة من هذا القول وينفيه عنه، سوى محاولة الكشميري متقدمة الذكر، وقد خبرت نتيجتها. وبكل الإنصاف في هذا والحق يقال: أن هذه تعد فهوة لأبي حنيفة رحمه الله وغفر له وزلة قدم، وليس هو بالمعصوم، ولكنها مغمورة إن شاء الله في بحر علمه وورعه وتحريه للخير والصواب. فهذا هو الحق إذا ما وزنت الأمور بميزان الكتاب والسنة، وابتعد عن العواطف الجياشة، والعصبيات المطغية، والأهواء المضلة، عصمنا الله من ذلك وحمانا بمنه وكرمه. ثم إن أقوال أبي حنيفة رحمه الله مبنية على اجتهاد وتحر للصواب ولا يخفى أن المجتهد عرضةٌ للخطأ والزلل، فإن أخطأ فما ينبغي لأتباعه   1 الفتاوى (7/ 507) 2 الفتاوى (7/119) و (18/271) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أن يتعصبوا لخطئه، ويعرضوا عن نصوص الوحي المخالفة له؛ لأن المحقق والباحث عن الصواب لا يهوله اسم معظم عن الحق المحتم، فالحق لا يعرف بالرجال، بل من عرف الحق عرف أهله. والأمر كما قال شيخ الإسلام: "كل قائل إنما يحتج لقوله لا به، إلا الله ورسوله"1. سيما والأئمة أنفسهم قد حذروا أتباعهم ومن تأثر بهم من التقليد الأعمى والتعصب المقيت، حتى أبي حنيفة رحمه الله فقد أثر عنه في هذا الشيء الكثير. يقول الألباني حفظه الله ونفع بعلمه: "وقد روى عنه أصحابه أقوالاً شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد، وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة له: 1- "إذا صح الحديث فهو مذهبي". 2- "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه"وفي رواية: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي"زاد في رواية) فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً (وفي أخرى) ويحك يا يعقوب (هو أبو يوسف) لا تكتب كل ما تسمع مني، فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غداً، وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد". 3- إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا   1 انظر الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية للبزار (ص 29) وانظر لزاماً الفتاوى (26/202) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 قولي"1. قلت: يرحمك الله فهذا عين العدل والإنصاف، ولكن أين عقول أقوام من فهم هذا وقبوله؟! فإن قول أبي حنيفة في مسألتنا هذه- زيادة الإيمان ونقصانه- مخالفٌ للنص قطعاً وعلى الضد له تماماً، فإن نصوص الكتاب والسنة صريحة في أن الإيمان يزيد وينقص، وأن أهله متفاضلون فيه، وأنهم ليسوا فيه سواء على درجة واحدة، وأما أقوال أبي حنيفة المأثورة عنه في هذا فصريحة بعكس ذلك. ثم هو رحمه الله لم يتعمد الخطأ فيما أخطأ فيه، ولم يتعمد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا، وإنما هذا ما أداه إليه اجتهاده وبلغ إليه علمه، كيف وقد قيل له أتخالف النبي صلى الله عليه وسلم؟. فقال: "لعن الله من يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم به أكرمنا الله وبه استنقذنا"2. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم وتكلم إما بظن وإما بهوى، ... وقد بينا هذا في رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، وبينا أن أحداً من أئمة الإسلام لا يخالف حديثاً صحيحاً بغير عذر، بل لهم نحو من عشرين عذراً ... "3.   1 انظر تخريجاً مفصلاً لهذه الروايات في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (ص 24-26) . 2 الانتقاء لابن عبد البر (ص 78) ، وانظر الفتاوى لابن تيمية (20/232) . 3 الفتاوى (20/ 304) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ولهذا كان ينبغي على الراغب في الخير والمتحري للحق أن يترك قول أبي حنيفة هذا ويعرض عنه، اتباعاً لأبي حنيفة في قوله المتقدم:"إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي". بل قد ورد في بعض الروايات عن أبي حنيفة ما يشعر أنه رجع عن قوله هذا وتركه تسليماً منه بما جاء في النصوص الصريحة المخالفة لقوله. فقد روى ابن عبد البر في التمهيد بسنده إلى حماد بن زيد قال كلمت أبا حنيفة في الإرجاء فجعك يقول وأقول. ثم روى له حماد حديث: "أي الإسلام أفضل؟ "إلى أخره وقال له: ألا تراه يقول: أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان، قال: فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ قال: لا أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم1. قلت: وهذا هو موقف الأئمة جميعهم من النصوص، أبي حنيفة وغيره، القبول والرضى والتسليم التام، ولعل في هذه القصة ما يدل على تراجع الإمام أبي حنيفة رحمه الله عما قال. فليترك قوله هذا المخالف للنصوص، والذي يحتمل أنه قد رجع عنه، وليتمسك بما جاء في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فهذا الذي يدعو إليه أبو حنيفة وغيره من الأئمة يرحمهم الله. ومع هذا لم يفتأ أقوام من تعصب مقيت وغلو مفرط لقول أبي حنيفة هذا، بدت آثاره في جوانب مختلفة وفي مواقف متعددة، وهي بحق تدعو   1 التمهيد (9/247) ونقل القصة ابن أبي العز في شرح الطحاوية (2/ 494) حكاية عن الطحاوي رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 للعجب والإستغراب. ولعلي أعرض هنا بعض ما وقفت عليه من مظاهر الغلو في هذه المسألة على الخصوص إذ هي محل بحثنا، وإن كانت مظاهر الغلو قد تكاثرت في مجالات أخرى عديدة. 1- عد بعض المتعصبة في بعض الكتب الفقهية من الأمور المكفرة التي يكفر قائلها القول بأن الإيمان يزيد وينقص، كما فعل ذلك ابن نجيم الحنفي في كتابه البحر الرائق، فقد عدّ من الأمور التي يرتد المسلم بقولها القول بزيادة الإيمان ونقصانه1. ولهذا يقول السندي- وهو حنفي- بعد أن بين الحق في هذه المسألة وهو أن الإيمان يزيد وينقص بدلالة الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة: "وبهذا ظهر أن ما وقع في بعض كتب الفقه من عد القول بالزيادة والنقصان من كلمات الكفر هفوة عظيمة نسأل الله العفو والعافية"2. فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه هو صريح الكتاب والسنة وليس مفهومهما فحسب، ومع هذا عد كفراً!! 2- وأعظم من هذا، وأشد غلوا، وأوغل في الإفراط أن بعض هؤلاء كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها التصريح بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، وأن زيادته كفر ونقصانه شرك، وأن من قال إنه يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله، وأنهم براء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منهم، وأنهم أعداء الرحمن وفارقوا الدين، وأن من يقول إنه يزيد وينقص ولم يتب تضرب عنقه بالسيف، إلى غير ذلك من   1 انظر البحر الرائق (5/131) . 2 شرح سنن ابن ماجة للسندي (1/38) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الهراء السمج، والقول البغيض، والكذب الفاضح والذي لا تنفثه إلا نفوس رديئة وقلوب مريضة. وستقف على هذه الأحاديث في موضعها من هذا البحث إن شاء الله1. 3- عدّ بعض هؤلاء من يقول بزيادة الإيمان ونقصانه مبتدعاً، مع أن القائلين بذلك هم الصحابة وتابعوهم بإحسان، خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم، بل هو بإجماعهم كما سبق نقل ذلك وبيانه. يقول ابن الحكيم السمرقندي: "ينبغي أن يعلم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأن من يرى الزيادة والنقصان في الإيمان فهو مبتدع ... إلى أن قال: ولم يقل أحد من العلماء والصالحين أن الإيمان يزيد وينقص.."2. وتأمل كيف أوغل في الخطأ، فجمع في كلامه هذا بين تبديع السلف من جهة، وتجاهل أقوالهم من جهة أخرى، فالله المستعان. ثم كرر قوله هذا مرة أخرى فقال: "واعلم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ومن قال يزيد وينقص فهو مبتدع وهذا كفاية للعاقل"3 إضافة إلى هذا فقد احتج ببعض الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وعدّ من علامة السواد الأعظم الذين هم عنده أهل السنة والجماعة أن يكون متصفاً باثنين وستين خصلة، منها: "أن يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص"4. 4- من يطالع غالب كتبهم المؤلفة في العقيدة عند الكلام على هذه   1 انظر (ص 383 وما بعدها) من هذه الرسالة. 2 السواد الأعظم (ص 33) . 3 السواد الأعظم (ص 34) . 4 السواد الأعظم (ص 4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 المسألة، يجد فيها من التأويلات المستكرهة والتعطيل الصريح لنصوص الوحي الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه الشيء الكثير، فهم يوردون النصوص لا للاستدلال بها، وإنما لتعطيلهما وتأويلها على ما يوافق ما رأوه وما أثر عن أسلافهم، فتجدهم عندما يوردون النصوص المخالفة لأقوالهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيفما كان، وبأي صورة وطريقة كانت، بخلاف منهج السلف أهل السنة والجماعة القائم على الاعتصام بالكتاب والسنة في كل حال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمقصود هنا أن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان، فلما حدث في الأمة ما حدث من التفرق والاختلاف صار أهل الفرق شيعاً، صار هؤلاء عمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان، ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم، عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك، ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به، وما خالفها تأولوه، فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقران والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما، ولم يستقصوا ما في القرآن من ذلك المعنى، إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر على غير ذالك، والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن، ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول، بل أن يدفع منازعه عن الاحتجاج بها"1. قلت: ومن يتأمل كلام شيخ الإسلام هذا ويسبر غوره ويتعمق في مكنونه مريداً للخير طالباً للحق يسلم من الوقوع في هوة سحيقة ومزلة عميقة تردى بها كثيرون من أهل التفرق والاختلاف وحادوا عن الجادة السوية والطريقة المرضية، ولهذا فإنك عندما تقرأ كتب أهل الأهواء   1 الفتاوى (13/ 58، 59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 المؤلفة في الاعتقاد تستغرب عندما لا تجد فيها ذكر الأدلة من الكتاب والسنة إلا النادر القليل، ثم هذا النادر القليل ذكر لا ليحتج به وإنما ذكر للشروع في تعطيله وتأويله. ثم قال شيخ الإسلام: "والمقصود أن كثيراً من المتأخرين لم يصيروا يعتمدون في دينهم لا على القرآن، ولا على الإيمان الذي جاء به الرسول، بخلاف السلف، فلهذا كان السلف أكمل علماً وإيماناً، وخطؤهم أخف وصوابهم أكثر"1. قلت: هم القدوة وأهل السلامة الذين جمع الله لهم بين كمال العلم وقوة الإيمان وفقنا الله لإتباعهم، وألحقنا بهم، حشرنا في زمرتهم، وهدى ضال المسلمين للتأسي بهم، والسير على نهجهم. 5- ومن طريف تعصبهم أن أحدهم حلف بطلاق زوجته، إن كان الإيمان يزيد وينقص، وذلك في زمن المعتصم، فسئل عن ذلك كمال الدين أبو الحسين بن أبي بكر الشهراياني البغدادي، فأفتى بوقوع طلاقه، وبسط الكلام في هذه المسألة في جزء مفرد2. وما تقدم هو قول من تعصب منهم وغلا، وغير خاف أن كثيراً من هؤلاء انحرفوا أيضاً عن بقية أقوال إمامهم الأخرى الصحيحة كإثبات العلو وإثبات الصفات وغير ذلك إلى التجهم والإعتزال والتصوف والتشيع وغيرها3. أما من أنصف منهم في هذه المسألة فله موقف آخر وطريق ثان يتسم   1 الفتاوى (13/ 60) . 2 انظر ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2/ 284) . 3 انظر الفتاوى (20/ 186، 187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 بالعدل والإنصاف وتحري الحق المطابق للكتاب والسنة وإن خالف رأى الإمام، واختصاراً اكتفي بذكر أربعة أمثلة لأهل هذا الموقف: 1- فمن هؤلاء أحمد بن عمران الليموسكي الإستراباذي الحنفي المتوفي سنة 331 هـ. فقد ذكر في ترجمته أنه يقول: "الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص"1. قال السمعاني في الأنساب: " ... وكان على اعتقاد أهل السنة مجانباً لأهل البدع"2. 2- ومنهم الإمام القاضي علي بن علي بن محمد أبي العز الدمشقي الحنفي المتوفى سنة 792 هـ 3 صاحب الكتاب العظيم والمؤلف القيم "شرح العقيدة الطحاوية"والذي نهج فيه منهج أهل السنة والجماعة، مقرراً الحق بدليله، بأسلوب بليغ، وعبارات جامعة، تشهد للمؤلف بحسن إلمامه وسعة إطلاعه وجوده تصنيفه. فقد خالف أبا حنيفة في هذه المسألة، وأورد النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه. قال رحمه الله: "والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً.. فأورد جملة منها ثم قال: وفي هذا   1 الجواهر المضية في طبقات الحنفية (1/ 225) . 2 الأنساب (5/ 153) . 3 انظر ترجمته في الدرر الكامنة لابن حجر (3/87) ، وشذرات الذهب لابن العماد (6/326) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 المقادر كفاية، وبالله التوفيق"1. 3- ومنهم جلال الدين بن أحمد بن يوسف التبريزي المعروف بالتباني الحنفي المتوفى سنة 793 هـ2 وصف بحب السنة، وحسن العقيدة، وبغض البدع والمبتدعة. قال ابن حجر: "برع في العلوم مع الدين والخير.. وكان محياً في السنة (كذا) حسن العقيدة شديداً على الإتحادية والمبتدعة"3. وقال الشوكاني: "كان محباً للحديث، حسن الاعتقاد، شديداً على الاتحادية والمبتدعة، وانتهت إليه رئاسة الحنفية"4. فقد ذكر أن له رسالة في زيادة الإيمان ونقصانه5، ولم أقف عليها، إلا أن عنوانها يشعر أنها مؤلفة للتدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والاحتجاج لذلك بالسنن والآثار، ثم تأكد لي ذلك لما رأيت ابن حجر والشوكاني ذكرا في ترجمته أن له تصنيفاً في أن الإيمان يزيد وينقص، ففي كلامهما التنصيص على أنها مؤلفة في أن الإيمان يزيد وينقص، فإذا انضم لهذا ما ذكر عنه أنه حسن الاعتقاد محب للسنة يتحقق من ذلك أنه إنما ألف رسالته لبيان أن الإيمان يزيد وينقص، وللرد على من قال بخلاف   1 شرح العقيدة الطحاوية (ص 324- 327) . 2 انظر ترجمته في الدرر الكامنة (1/ 545) ، وإنباء الغمر (1/ 424) كلاهما لابن حجر، والبدر الطالع للشوكاني (1/168) ، والنجوم الزاهرة لابن تغزي بردي (12/122) . 3 الدرر الكامنة (1/ 545) . 4 البدر الطالع (1/ 186) . 5 كشف الظنون لحاجي خليفة (1/554) ، وقد وقع فيه خطأ في اسم المصنف وتاريخ وفاته، فليصحح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ذلك من أصحابه وغيرهم. 4- ومنهم أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي الحنفي الشهير بـ (الألوسي الكبير) ، المتوفى سنة 1270 هـ 1 صاحب التفسير المشهور الموسوم بـ "روح المعاني في تفسير القران والسبع المثاني ". فقد ذهب إلى القول بزيادة الإيمان ونقصانه؛ لأنه رأى نصوص الكتاب والسنة صريحة بذلك. قال في تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 2 ".. وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلاً، بل قد احتج يعضهم بالعقل أيضاً، وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، واللازم باطل فكذا الملزوم"3. وألمح في موضع آخر من تفسيره إلى أنه يقول بهذا القول وإن كان القائل بخلافه إمام يعتد بقوله وكلامه. قال: "وقبول التصديق نفسه الزيادة والنقص والشدة والضعف مما   1 انظر ترجمته في فهرس الفهارس للكتاني (1/97) ، والأعلام للزركلي (7/ 176) ، ومعجم المؤلفين لكحالة (12/175) . 2 سورة الأنفال، الآية: 2. 3 روح المعاني (9/165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 قال به جمع من المحققين وبه أقول لظواهر الآيات والأخبار ... ومن لم يقبل قبوله للزيادة ولم يدخل الأعمال في الإيمان قال: إن زيادته بزيادة متعلقه والمؤمن به ... وفيه نظر وإن قاله من تعقد عليه الخناصر وتعتقد بكلامه الضمائر"1. بل وصرح أنه خالف في هذه المسألة إمامه أبا حنيفة لأنه وجد الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه لا تحصى. قال: "وما عليَّ إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى فالحق أحق بالإتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام"2. قلت: صدق والله، وإنما يوفق لمثل هذا من ابتعد عن العواطف والأهواء، واحتكم إلى الوحيين الكتاب والسنة، عملاً بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 3 وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 4. فمن كان كذلك هدي ولم يضل، ومن لم يكن كذلك فقد تنكب الصراط وحاد عن الجادة وتلقفته الأهواء، ولا تسأل عن هلكته، والله الهادي والموفق.   1 روح المعاني (11/50) ، وانظر (26/92-94) . 2 روح المعاني (9/ 167) . 3 سورة النساء، الآية: 59. 4 سورة الأحزاب، الآية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ثانياً- الجهمية: ومن القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص إن لم يكونوا أصل نشأته ومبدأ حدوثه- الجهمية أتباع الجهم بن صفوان أس الضلالة وركيزة الانحراف ورأس الابتداع، الذي تلقى عقيدته وأخذ دينه عن الجعد بن درهم، وجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فأصل مقالات الجهمية وأساس نشأتهم مرتبط باليهود1. ولا أدل من هذا على خبث هذه الفرقة وتأصل الشر والفساد فيها، ولهذا كان ذم السلف للجهمية من أعظم الذم بل نصوا على زندقتهم وكفرهم وأنهم ليسوا من أهل القبلة قال أبو سعيد الدارمي رحمه الله: "ناظرني رجل ببغداد منافحاً عن هؤلاء الجهمية فقال: بأية حجة تكفرون هؤلاء الجهمية وقد نهي عن إكفار أهل القبلة؟ بكتاب ناطق تكفرونهم، أم بأثر، أم بإجماع؟ فقلت: ما الجهمية عندنا من أهل القبلة، وما نكفرهم إلا بكتاب مسطور، وأثر مأثور، وكفر مشهور.."2. ثم ساق من نصوص الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة ما يدل على كفرهم وخروجهم من ملة الإسلام. وكان ابن المبارك رحمه الله لا يعدهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم3، ويرى   1 انظر الفتاوى (5/20) ، والبداية والنهاية لابن كثير (9/350) ، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 23) . 2 الرد على الجهمية للدارمي (ص171 وما بعدها) . 3 الإبانة لابن بطة (1/385) ، وانظر درء التعارض لابن تيمية (7/110) ومجموعة الرسائل والمسائل له (3/ 343) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 أن كلامهم شر من كلام اليهود والنصارى، يقول: "لأن أحكي كلام اليهود والنصارى أحب إلى من أن أحكي كلام الجهمية"1. قال الدارمي: "وصدق ابن المبارك إن من كلامهم ... ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى"2. وقال الإمام البخاري رحمه الله مبيناً كفر الجهمية وخبث أقوالهم: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت أضل في كفره منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم"3. ومن مقولاتهم الفاسدة وآرائهم المنحرفة زعمهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل أهله فيه. قال الأشعري: "وزعمت الجهمية.. أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه"4. وقال الشهرستاني: "قال أي الجهم: والإيمان لا يتبعض أي لا ينقسم إلى عقد وقول وعمل، قال: ولا يتفاضل أهله فيه، فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد، إذ المعارف لا تتفاضل "5. وقال ابن القيم في نونيته6 حاكياً بعض عقائد هؤلاء:   1 خلق أفعال العباد للبخاري (ص 15) والرد على الجهمية للدارمي (ص25) . 2 الرد على الجهمية للدارمي (ص 25) . 3 خلق أفعال العباد (ص19) . 4 المقالات (ص 132) . 5 الملل والنحل (1/88) . 6 الكافية الشافية (ص13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 قالوا وإقرار العباد بأنه ... خلاقهم هو منتهى الإيمان والناس في الإيمان شيء واحد ... كالمشط عند تماثل الأسنان وجهم وأتباعه إنما قالوا بهذا القول لأن الإيمان عندهم مجرد التصديق، فمن صدق بقلبه فهو عندهم مؤمن كامل الإيمان وإن تكلم بالكفر، وسب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وسخر بالدين، وأحل المحرمات، وفعل غير ذلك من الأمور التي هي كفر بواح. والتصديق عندهم يتساوى فيه العباد، ولا يقبل الزيادة والنقصان فهو إما أن يعدم وإما أن يوجد، ولا يقبل التبعض، فإذا ذهب بعضه ذهب كله، ولا يتفاضل الناس فيه، فإيمان الملائكة والأنبياء والصديقين وإيمان فساق الأمة وأهل الخنا والفجور سواء1. وقولهم هذا فاسد ظاهر البطلان وفساده معلوم من دين الله بالاضطرار ويظهر هذا من وجوه متعددة: أحدها: أنهم أخرجوا ما في القلب من حب الله وخشيته والإنابة إليه والتوكل عليه ونحو ذلك من الأعمال القلبية من أن يكون من نفس الإيمان. ثانيها: أنهم جعلوا ما علم أن صاحبه كافر، مثل إبليس وفرعون واليهود وأبي طالب وغيرهم، أنه إنما كان كافراً لأن ذلك مستلزم لعدم تصديقه في الباطن وهذا مكابرة للعقل والحس، وكذلك جعلوا من يبغض الرسول ويحسده كراهة دينه مستلزماً لعدم العلم بأنه صادق ونحو ذلك.   1 انظر الفتاوى (7/ 582) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ثالثها: أنهم جعلوا ما يوجد من التكلم بالكفر من سب الله ورسوله والتثليث وغير ذلك قد يكون مجامعاً لحقيقة الإيمان الذي في القلب، ويكون صاحب ذلك مؤمنا عند الله حقيقة، سعيداً في الدار الآخرة، وهذا يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام. رابعها: أنهم جعلوا من لا يتكلم بالإيمان قط، مع قدرته على ذلك، ولا أطاع الله طاعة ظاهرة مع وجوب ذلك عليه وقدرته، يكون مؤمناً بالله تام الإيمان سعيداً في الدار الآخرة. خامسها: أنهم قالوا: إن العبد قد يكون مؤمناً تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء والصديقين ولو لم يعمل خيرا لا صلاة ولا صلة ولا صدق حديث، ولم يدع كبيرة إلا ركبها فيكون الرجل عندهم إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أئتمن خان، وهو مصر على دوام الكذب والخيانة ونقض العهود لا يسجد لله سجدة، ولا يحسن إلى أحد حسنة، ولا يؤدي أمانة، ولا يدع ما يقدر عليه من كذب وظلم وفاحشة إلا فعلها، وهو مع ذلك مؤمن تام الإيمان، مثل إيمان الأنبياء. سادسها: أنه يلزمهم أن من سجد للصليب والأوثان طوعا، وألقى المصحف في الحش عمدا، وقتل النفس بغير الحق، وقتل كل من رآه يصلي، وسفك دم كل من يراه يحج البيت، وفعل ما فعلته القرامطة بالمسلمين، يجوز أن يكون مع ذلك مؤمناً ولياً لله، إيمانه مثل إيمان النبيين والصديقين؛ لأن الإيمان الباطن إما أن يكون منافياً لهذه الأمور، وإما أن لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 يكون منافياً، فإن لم يكن منافياً أمكن وجودها معه فلا يكون وجودها إلا مع عدم الإيمان الباطن. وإن كان منافياً للأيمان الباطن كان ترك هذه من موجب الإيمان ومقتضاه ولازمه، فلا يكون مؤمناً في الباطن الإيمان الواجب إلا من ترك هذه الأمور فمن لم يتركها دل ذلك على فساد إيمانه الباطن، وإذا كانت الأعمال والتروك الظاهرة لازمه للإيمان الباطن كانت من موجبه ومقتضاه، وكان من المعلوم أنها تقوى بقوته، وتزيد بزيادته، وتنقص بنقصانه، فإن الشيء المعلوم لا يزيد إلا بزيادة موجبه ومقتضيه، ولا ينقص إلا بنقصان ذلك، فإذا جعل العمل الظاهر موجب الباطن ومقتضاه لزم أن تكون زيادته لزيادة الباطن فيكون دليلاً على نقص الباطن، وهو المطلوب. وهذه الأمور، كلها إذا تدبرها المؤمن بعقله تبين له أن مذهب السلف هو المذهب الحق الذي لا عدول عنه، وأن من خالفهم لزمه فساد معلوم بصريح المعقول وصحيح المنقول كسائر ما يلزم الأقوال المخالفة لأقوال السلف والله أعلم1. ثم إن سلفنا الصالح قد نقل عنهم أقوال كثيرة في رد مقولة هؤلاء الخبيثة، وبيان فسادها وشدة ضررها على الإسلام وأهله، وفيما يلي أسواق بعض ما نقل عنهم في ذلك: 1- قيل لعبد الله بن أبي مليكة: يا أبا محمد إن ناساً يجالسونك يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل، فغضب ابن أبي مليكة، فقال: والله ما رضي الله لجبريل حتى فضله بالثناء عدى محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ   1 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 582- 585) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 بِمَجْنُونٍ} 1 يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. أفأجعل إيمان جبريل وميكائيل كإيمان فهدان، لا والله ولا كرامة. قال نافع راوي الأثر: وقد رأيت فهدان كان رجلا لا يصحو من الشراب2. قال الآجري معلقاً على هذا الأثر بعد روايته له.: "من قال هذا فلقد أعظم الفرية على الله، وأتى بضد الحق، وبما ينكره جميع العلماء لأن قائل هذه المقالة يزعم أن من قال: لا إله إلا الله لم تضره الكبائر أن يعملها، ولا الفواحش أن يرتكبها، وأن عنده أن البار التقي الذي لا يباشر من ذلك شيئاً والفاجر يكونان سواء، هذا منكر قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 3، وقال عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 4. فقل لقائل هذه المقالة المنكرة: يا ضال يا مضل إن الله عز وجل لم يسو بين الطائفتين من المؤمنين في أعمال الصالحات حتى فضل بعضهم على بعض درجات، قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاَّ   1 سورة التكوير، الآية: 20. 2 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 70) ، والآجري في الشريعة (ص 147) ، وابن بطة في الإبانة (برقم: 1256) ، وانظر تعليق أبو عبيد عليه بعد روايته له. 3 سورة الجاثية، الآية: 21. 4 سورة ص، الآية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 1 فوعدهم الله كلهم الحسنى بعد أن فضل بعضهم على بعض وقال عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} ثم قال {وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 2 وكيف يجوز لهذا الملحد في الدين أن يسوي بين إيمانه وإيمان جبريل وميكائيل، ويزعم أنه مؤمن حقاً"3. 2- وقال ابن أبي مليكة: إن فهدان يزعم أنه يشرب الخمر، ويزعمون أن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل4. 3- ومر ميمون بن مهران بجويرية وهي تضرب بالدف وهي تقول: وهل عليَّ من قول قلته من كنود. فقال: أترون إيمان هذه كإيمان مريم بنت عمران؟ قال: والخيبة لمن يقول إيمانه كإيمان جبريل5. 4- وقال الوليد بن مسلم: سمعت أبا عمرو الأوزاعي ومالكاً وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى هو في زيادة أبداً، ويقولون على من يقول أنه مستكمل الإيمان وأنه إيمانه كإيمان جبريل، قال الوليد قال سعيد بن عبد العزيز: هو أن يكون إذا أقدم على هذه المقالة إيمانه كإيمان إبليس لأنه أقر بالربوبية وكفر بالعمل، فهو أقرب إلى ذلك   1 سورة الحديد، الآية: 10. 2 سورة النساء، الآية: 95. 3 الشريعة (ص 147، 148) . 4 رواه عبد الله في السنة (1/ 371) ، وابن بطة في الإبانة (برقم: 1257) ورواه بنحوه إسحاق بن راهوية في مسنده (3/670) . 5 رواه ابن بطة في الإبانة (برقم: 1258) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 من أن يكون إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام1. 5- وقال الأوزاعي: "من آمن وعصى إيمانه بإيمان إبليس أشبه منه بإيمان جبريل، لأن جبريل آمن وأطاع، وإبليس آمن وعصى"2. 6- وقال سفيان الثوري: اتقوا هذه الأهواء، قيل له: بين لنا رحمك الله فقال سفيان: أما المرجئة فيقولون: الإيمان كلام بلا عمل، من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فهو مؤمن مستكمل الإيمان، إيمانه على إيمان جبريل والملائكة وإن قتل كذا وكذا مؤمن، وإن ترك الغسل من الجنابة، وإن ترك الصلاة3. 7- وقال ابن بطة العكبري:"احذروا رحمكم الله من يقول أنا مؤمن عند الله، وأنا مؤمن كامل الإيمان، ومن يقول إيماني كإيمان جبريل وميكائيل فإن هؤلاء مرجئة أهلُ ضلال وزغ وعدول عن الملة"4. 8- وكان عون بن عبد الله5 من آدب أهل المدينة وأفقههم وكان مرجئاً فرجع عن ذلك وأنشأ يقول: لأول من تفارق غير شك ... تفارق ما يقول المرجئونا وقالوا مؤمن من أهل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا وقالوا مؤمن دمه حلال ... وقد حرمت دماء المؤمنين6   1 رواه ابن بطة في الإبانة (برقم 1259) وروى أوله عبد الله في السنة (1/ 333) . 2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (برقم: 1836) . 3 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (برقم: 1834) . 4 الإبانة لابن بطة (2/899) . 5 انظر ترجمته في السير للذهبي (5/103) . 6 رواه ابن بطة في الإبانة (برقم:1273) ن واللالكائي في شرح الاعتقاد (برقم:1850) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 9- وقال سليم بن منصور بن عمار1: أيها القائل إني مؤمن ... إنما الإيمان قول وعمل إنما الإرجاء دين محدث ... سنه جهم بن صفوان انتحل إن دين الله دين قيّم ... فيه صوم وصلاة تعتمل وزكاة وجهاد لإمرىء ... حارب الدين اعتدى وقتل ليس بالمستكمل الإيمان من ... إن رأى صلى وإلا لم يصل أو أتى يوما على قاذورة ... ترك الغسل مجوناً أو كسل اسم هذا مؤمن الإقرار لا ... مؤمن حقاً وحقاً لم يقل لست بالمرجىء ولا الخرمي لا ... ولا أرى برأي المعتزل إن رأيي رأي سفيان وما ... كان سفيان على رأي فضل2   1 انظر ترجمته في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/216) وتاريخ بغداد (9/232) . 2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (برقم: 1852) وذكر الأبيات أبو يعلى في كتابه الإيمان (ص 275) لكن اسم الناظم تصحف عنده من "سليم" إلى "سلمان " ووقع بينهما فروق أخرى قليلة في مفردات النظم وكذلك تصحف اسم الناظم في المطبوعة من شرح الاعتقاد من " ... ابن عمار" إلى " ... ابن عامر"، وقد وقع في شرح الاعتقاد في البيت قبل الأخير "الحربي" بدل "الخرمي"، فعدت إلى كتب المقالات فوجدت فيها فرقة من الشيعة يقال لهم الحربية نسبة إلى عبد الله بن عمرو بن حرب، ووجدت فرقة أخرى يقال لهم الخرمية نسبة إلى بابك الخرمي الذي ظهر في جبل البدين بناحية أذربيجان في عهد المأمون. انظر المقالات للأشعري (ص 22) والفرق بين الفرق للبغدادي (ص 266) والأقرب إلى سياق النظم أن المراد "الخرمية" لما ذكر عنهم من الإباحية والاستحلال للمحرمات والقتل والأذى للمسلمين حتى إنهم بنوا مساجد للمسلمين ليؤذوهم فيها، وهم يعلمون أولادهم القرآن لكنهم لا يصلون في السر ولا يصومون ولا يرون جهاد الكفرة. قلت: وهذه غاية ومؤدى مذهب المرجئة الذي سيق النظم لذمه وبيان شناعته وقبحه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وفي هذا كفاية. ثالثاً- الخوارج والمعتزلة: لقد ذهبت الخوارج والمعتزلة مذهب أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان من حيث أنه شامل للأعمال والأقوال والاعتقادات، إلا أنهم فارقوا أهل السنة والجماعة بقولهم إن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وأنه لا يقبل التبعض. ومن هنا كان الإخلال بالأعمال وارتكاب الكبائر عندهم مخرجاً من الإيمان كلية، على خلاف بينهم في تسميته كافراً، فالخوارج قطعوا بكفره، ونازعهم المعتزلة في الاسم وقالوا نحن لا نسميه مؤمناً ولا كافراً، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين أي: بين منزلة الإيمان والكفر، وإن كانوا قد اتفقوا جميعاً أنه يوم القيامة خالد مخلد في نار جهنم1. قال شيخ الإسلام: "قالت الخوارج والمعتزلة قد علمنا يقيناً أن الأعمال من الإيمان فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه؛ لأن الإيمان لا يتبعض ولا يكون في العبد إيمان ونفاق، فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء"2. وأصل غلط هؤلاء ومنشأ ضلالهم كما قال شيخ الإسلام: "أنهم   1 انظر الفتاوى (7/ 223، 257) وشرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية (ص 137) . 2 الفتاوى (13/ 48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ظنوا أن الشخص الواحد لا يكون مستحقاً للثواب والعقاب والوعد والوعيد والحمد والذم، بل إما لهذا وإما لهذا فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها، وقالوا: "الإيمان هو الطاعة فيزول بزوال بعض الطاعة، ثم تنازعوا هل يخلفه الكفر على القولين ووافقتهم المرجئة والجهمية على أن الإيمان يزول كله بزوال شيء منه، وأنه لا يتبعض ولا يتفاضل فلا يزيد ولا ينقص وقالوا إن إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والمؤمنين"1. فهذه الشبهة هي التي أفسدت على هؤلاء قولهم، بل وعلى جميع المرجئة، كما قال شيخ الإسلام: "وإنما أوقع هؤلاء كلهم أي المرجئة بأقسامهم- ما أوقع الخوارج والمعتزلة في ظنهم أن الإيمان لا يتبعض بل إذا ذهب بعضه ذهب كلة، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يتبعض وأنه ينقص ولا يزول جميعه"2. وقال شيخ الإسلام: "وجماع شبهتهم في ذلك أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة، وكذلك الأجسام كالسكنجبين3 إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبين، قالوا فإذا كان الإيمان مركباً من أقوال وأعمال ظاهرة وباطنة لزم زواله بزوال بعضها"4.   1 شرح العقيدة الأصفهانية (ص 137، 138) ، وانظر الفتاوى (7/404) . 2 شرح العقيدة الأصفهانية (ص143، 144) . 3 السكنجبين: شراب مركب من حامض وحلوا- معرب- فارسيته: سركا انكبين انظر المعجم الوسيط (1/440) . 4 الفتاوى (7/511) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 والجواب عن هذه الشبهة من وجوه: أحدها: أن الحقيقة الجامعة لأمور سواء كانت في الأعيان والأعراض. إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها. الثاني: أن ما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر، لكن أكثر ما يقولون زالت الهيئة الاجتماعية، وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب كما يزول اسم العشرة والسكنجبين. الثالث: أن كون الشيء المركب لم يبق على تركيبه بعد زوال شيء من أجزائه منه لا نزاع فيه بين العقلاء، ولا يدعي عاقل أن الإيمان أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور والمشتملة على أجزاء أنه إذا زال بعضها بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد أن الشجرة أو الدار إذا زال بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض أعضائه بقي مجموعاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 من جدعاء" 1، فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء، فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال بعضه الآخر ليس بصواب، وإن كان يسلم لهم أنه ما بقي إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت. الرابع: أن المركبات في ذلك على وجهين: أحدهما: ما يكون التركيب شرطاً في الإطلاق الاسم عليه. ثانيهما: ما لا يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم عليه. ومثال الأول: السكنجبين والعشرة، فإن هذا النوع يزول عنه اسمه عند زوال بعض أجزائه منه، ولا يطلق الاسم إلا على الهيئة المركبة مجتمعة. ومثال الثاني: جميع المركبات المتشابهة الأجزاء، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء.. ونحو ذلك. وكذلك لفظ العبادة والطاعة والخير والحسنة والإحسان والصدقة والعلم نحو ذلك مما يدخل فيه أمور كثيرة يطلق الاسم على قليلها وكثيرها وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض الأجزاء، وكذلك لفظ القرآن فيقال على جميعه وعلى بعضه، ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمي قرآناً، وكذلك لفظ الذكر والدعاء يقال للقليل والكثير وكذلك لفظ الجبل والنهر والبحر والدار والقرية ونحو ذلك يقال على الجملة المجتمعة، ثم   1 رواه البخاري (2/ 97) ، ومسلم (4/2047) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ينقص كثير من أجزائها والاسم باق. فإذا كانت المركبات على نوعين، بل غالبها من هذا النوع لم يصح قولهم، أنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم. الخامس: أن هذا القول مخالف لنصوص الوحي الدالة على أن للإيمان أجزاء وأبعاضاً. مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" 1 ومن المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان"2 فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة. السادس: أن ما يجب على العباد من شرائع وأحكام يختلف باختلاف حال نزول الوحي من السماء وبحال المكلف في البلاغ وعدمه، وهذا مما يتنوع به نفس التصديق، ويختلف حاله باختلاف القدرة والعجز وغير ذلك من أسباب الوجوب، وهذه يختلف بها العمل أيضاً. ومعلوم أن الواجب على كل من هؤلاء لا يماثل الواجب على الآخر. فإذا كان نفس ما وجب من الإيمان في الشريعة الواحدة يختلف ويتفاضل، وإن كان بين جميع هذه الأنواع قدر مشترك موجود في الجميع كالإقرار بالخالق،   1 تقدم تخريجه (ص 71) . 2 تقدم تخريجه (ص 76) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وإخلاص الدين له والإقرار برسله واليوم الآخر على وجه الإجمال. فمن المعلوم أن بعض الناس إذا أتى ببعض ما يجب عليه دون بعض كان قد تبعض ما أتى فيه من الإيمان، كتبعض سائر الواجبات. لكن بقي أن يقال: إن هذا البعض الآخر الزائل إما أن يكون شرطاً في ذلك البعض وقد لا يكون شرطاً فيه، فالشرط كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه، أو ببعض الرسل وكفر ببعضهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} 1. وقد يكون البعض المتروك ليس شرطاً في وجود الآخر ولا قبوله كفعل بعض الكبائر وترك بعض الواجبات فيما دون الكفر. وحينئذ فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق، وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر. السابع: أن كون الإنسان قد يجتمع فيه إيمان ونفاق وإيمان وبعض شعب الكفر دلت عليه نصوص صحيحة صريحة. كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا   1 سورة النساء، الآية: 150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 خاصم فجر" 1. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق" 2. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 3. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" 4. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن رمى رجلاً بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا رجع عليه" 5. وغيرها من النصوص مما قد يطول ذكره. الثامن: أن أجزاء الإيمان مختلفة متفاوتة، فمنها ما يزول الإيمان كلية بزوالها كفعل أمر كفري ناقض للإيمان، ومنها ما يزول كمال الإيمان الواجب بزولها كفعل كبيرة من الكبائر،   1 البخاري (الفتح 1/ 89) ، ومسلم (1/ 79) . 2 رواه مسلم (3/ 1517) . 3 تقدم تخريجه (ص 98) . 4 مسلم (1/ 82) . وانظر إيضاحاً وبياناً وافياً لهذا الحديث في اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (ص 70) . 5 البخاري (الفتح 6/ 539) ، ومسلم (1/ 79) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ومنها ما يزول كمال الإيمان المستحب بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق. مثل الصلاة فإن فيها أجزاء تنقص بزوالها عن كمال الاستحباب، وفيها أجزاء واجبة تنقض بزوالها عن الكمال الواجب مع الصحة في مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك، وفيها ماله أجزاء إذا زالت جبر نقصها بسجود السهو، وأمور ليست كذلك، فقد رأيت أجزاء الشيء تختلف أحكامها شرعاً وطبعاً. التاسع: أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة، ولا تتلازم عند الضعف فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} 1، وقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 2. وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فيكون ذنبا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} 3.   1 سورة المائدة، الآية: 81. 2 سورة المجادلة، الآية: 22. 3 سورة الممتحنة، الآية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك. فقال لسعد بن معاذ: كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على قتله، قالت عائشة وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية1، ولهذه الشبهة سمى عمر حاطباً منافقاً فقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال: "إنه شهد بدراً"2 فكان عمر متأولاً في تسميته منافقاً للشبهة التي فعلها. وكذلك قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه، إنما أنت منافق، تجادل عن المنافقين3 هو من هذا الباب، وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم: منافق4، وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين. ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق. وبهذا يعلم فساد شبهتهم وزعمهم أن الإيمان كل واحد لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وأنه كرقم عشرة إذا زال بعض أجزائه زال الاسم عنه، وأنه لا يجتمع في القلب إيمان ونفاق وإيمان وبعض شعب الكفر5.   1 رواه البخاري (الفتح 7/ 433) ، ومسلم (4/2134) . 2 رواه البخاري (الفتح 8/ 633) . 3 جزء من حديث الإفك المتقدم تخريجه. 4 رواه البخاري (الفتح 1/ 519) ، ومسلم (1/ 456) . 5 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 514- 524) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ثم إنه مما تقدم تبين لنا أن قول الخوارج والمعتزلة في الإيمان هو أنه لا يزيد ولا ينقص، فإما أن يوجد كاملاً أو يذهب كاملاً للأصل الفاسد الذي سبق مناقشته. ولذا فإنهم يتأولون النصوص الواردة المصرحة بزيادة الإيمان على أن المراد بالزيادة فيها زيادة الألطاف أو الأدلة أو الثواب أو غير ذلك من التأويلات. ومن الأمثلة على هذا قول القاضي عبد الجبار المعتزلي عند قوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 1:"والمراد عندنا بذلك أنه زادهم لطفاً وأدلة على جهة التأكيد لكي يكونوا إلى الثبات على الإيمان أقرب"2. وقوله أيضاً "فأما قوله تعالى من قبل: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 3 فقد بينا أنه لا ظاهر له، وأنه يتأول على زيادة الألطاف والأدلة والبيان، أو على الثواب العظيم"4. فمن هذين النقلين يظهر أن قولهم في الإيمان هو عدم قبوله للزيادة والنقصان، وما ورد من النصوص دالاً على ذلك متأول عندهم على الألطاف أو الأدلة أو الثواب أو غير ذلك. فهذا هو قول الخوارج والمعتزلة في هذه المسألة كما هو ظاهر ولهذا لما ذكر القاضي أبو يعلى قول أهل السنة والجماعة في الإيمان وهو أنه يقبل الزيادة والنقصان قال: "وهو خلاف قول   1 سورة الكهف، الآية: 13. 2 متشابه القران (ص 471) . 3 سورة مريم، الآية: 76. 4 متشابه القرآن (ص 487) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 المعتزلة"1. أما قول ابن حزم: "وذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح، وأن كل طاعة وعمل خير فرضاً كان أو نافلة فهي إيمان، وكلما ازداد الإنسان خيراً زاد إيمانه، وكلما عصى نقص إيمانه"2. فغير محرر، لما تقدم. نعم قد جاء في بعض كتب المعتزلة التصريح بزيادة الإيمان ونقصانه، كما في متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار عند كلامه على قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 3. قال:"يدل على أشياء .... ومنها: أنه يدل على أن الإيمان يزيد وينقص على ما نقوله؛ لأنه إذا كان عبارة عن هذه الأمور التي يختلف التعبد فيها على المكلفين فيكون اللازم لبعضهم أكثر مما يلزم الغير، فتجب صحة الزيادة والنقصان، وإنما كان يمتنع ذلك لو كان الإيمان خصلة واحدة، وهو القول باللسان، أو اعتقادات مخصوصة بالقلب"4. وكما في كتابه المختصر في أصول الدين، قال: "فإن قال أفتقولون في الإيمان إنه يزيد وينقص؟   1 الإيمان (ص 397) . 2 الفصل (3/227) . 3 سورة الأنفال، الآية: 2. 4 متشابه القرآن (ص 312) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 قيل: نعم لأن الإيمان كل واجب يلزم المكلف القيام به، والواجب على بعض من المكلفين أكثر من الواجب على غيره، فهو يزيد وينقص من هذا الوجه"1. فتصريحهم هذا بزيادة الإيمان ونقصانه على هذا المعنى لا يعد في الحقيقة قولاً بزيادة الإيمان ونقصانه. وإنما هو من جنس تأويلاتهم المتقدمة، لحملهم الزيادة والنقصان هنا على الأمور التي يختلف التعبد فيها على المكلفين بأن يكون لازماً على بعض المكلفين من العبادات ما لا يكون لازماً على غيره، فلا عبرة إذن بالتصريح إذا كان المخبر هو التأويل والتعطيل. ثم إنا قد علمنا في مبحث أوجه زيادة الإيمان أن الإيمان عند أهل السنة يزيد من جهتين: من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد. وكلام المعتزلة هنا الذي فيه التصريح بزيادة الإيمان هو من جهة أمر الرب، أما جهة فعل العبد فهي لا تقبل الزيادة والنقصان عندهم قطعاً لمناقضتها لأصلهم الفاسد الذي سبق ذكره ونقضه. وسبق أن ذكرت عن أهل السنة والجماعة أن الإيمان عندهم يزيد من جهة الاعتقادات والأعمال ومن جهات أخرى عديدة، وهذا ما لا يقول به أحد من الفرق مطلقاً لا المعتزلة ولا غيرهم، فما وجد في بعض كتب الطوائف من تصريح بزيادة الإيمان ونقصانه، فهو محمول عندهم على منزلة مخصوصة ودرجة معينة، وبهذا تعلم أن جميع الطوائف مفارقة لأهل السنة والجماعة في مسألتنا هذه، حتى من صرح منهم بأنه يزيد وينقص.   1 المختصر في أصول الدين (ص 384) من مجموع رسائل العدد والتوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 رابعاً- الأشاعرة والماتريدية: لقد ذهب جمهور الأشاعرة وجميع الماتريدية إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لشبه عقلية وأدلة نظرية يأتي ذكرها ونقضها في المبحث القادم، وذهب بعض الأشاعرة إلى أن الإيمان يزيد وينقص1. قال الزبيدي: "وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يزيد الإيمان ولا ينقص واختاره أبو منصور الماتريدي ومن الأشاعرة إمام الحرمين وجمع كثير"2. وقال ابن أبي شريف الحنفي: "وهذا القول- أي أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص- اختاره من الأشاعرة أمام الحرمين وجمع كثير، وذهب عامتهم أي أكثر الأشاعرة إلى زيادته ونقصانه"3. وقال الفرهاري: "مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله والمتكلمين من أهل السنة أنه لا يزيد ولا ينقص"4. وقال البزدوي: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص عند أهل السنة   1 انظر شرح مسلم للنووي (1/148) ، وفتح الباري لابن حجر (1/ 46) ، وعمدة القاري للعيني (1/ 136) وتحفة القاري "للكاندهلري" (ص44) مجموع "شروح البخاري" (1/ 112) ، النبراس شرح العقائد (ص 402) ، المسامرة شرح المسايرة (ص 367) ،) أصول الدين للبغدادي (ص 252) ، وأصول الدين للبزدوي (ص 153) ، والاقتصاد للغزالي (ص 208) ، والمواقف للإيجي (ص 388) ، والإنصاف للباقلاني (ص 86) ، والإرشاد للجويني (ص 335) وغيرها. 2 إتحاف السادة المتقين (2/256) . 3 المسامرة (ص 367) . 4 النبراس شرح العقائد (ص 402) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 والجماعة، وقال أصحاب الحديث والشافعي إنه يزيد وينقص"1. فالماتريدية لهم قول واحد في المسألة وهو أن الإيمان غير قابل للزيادة والنقصان، وأما الأشاعرة فلهم في المسألة قولان: فجمهورهم على أنه لا يقبل الزيادة والنقصان، وذهب بعضهم إلى أنه يقبلهما، وقد علمت أن الأشاعرة يعرفون الإيمان بأنه التصديق وحده، فلا يدخل فيه القول والعمل، فبحثهم هنا هو في التصديق هل يقبل الزيادة والنقصان أو لا؟ فالذين قالوا لا يزيد ولا ينقص فبناء على أن الإيمان هو التصديق اليقيني الغير قابل للتفاوت، فإن نقص فنقصه شك وكفر، ولشبه أخرى تأتي إن شاء الله مع الرد عليها. ومن قال منهم يزيد وينقص فللقطع بأن تصديق أحاد الأمة ليس كتصديق النبي صلى الله عليه وسلم، واختاره النووي وعزاه التفتازاني في شرح العقائد لبعض المحققين وقال في المواقف إنه الحق2. قلت: وهو الحق الذي لا ريب فيه، وانظر الأدلة على ذلك المبطلة لقول من قال بخلافه في مبحث أوجه زيادة الإيمان ونقصانه المتقدم، لكن يبقى هؤلاء الأشاعرة مخالفين لأهل السنة والجماعة في دخول القول والعمل في مسمى الإيمان. ثم قبل أن أختم هذا المبحث أود أن أقف وقفة لا بد منها مع قول   1 أصول الدين (ص 153) . 2 انظر شرح مسلم للنووي (1/ 142) وشرح العقائد النسفية للتفتازاني (ص 126) والمواقف للأيجي (ص 388) وانظر إرشاد الساري للقسطلاني (1/112) ضمن مجموع شروح البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 البزدوي المتقدم: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص عند أهل السنة والجماعة، وقال أصحاب الحديث والشافعي إنه يزيد وينقص"، فإن فيه من الغلط ما يقتضي الوقوف عنده والتنبيه عليه لزوماً. فإنه كما ترى جعل أهل الحديث قسيماً لأهل السنة والجماعة وليسوا هم، وأن أهل السنة والجماعة إنما هم جماعته المتكلمون من أشاعرة وماتريدية، وكم في هذا الكلام من الغلط والجور على أئمة الدين وعلماء السلف الأولين، ومن الإجحاف حقاً وهضم الحقوق أن ينتزع هذا الاسم من أهله الذين هم أحق به وهم أهل الحديث، ويعطى لغيرهم ممن ليس لهم فيه حق. وهذه دعوى عريضة يدعيها دوماً أهل البدع والأهواء على حد قول القائل: وكل يدعي وصلاً لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك ومن هذا القبيل قول يوسف عبد الرزاق أحد علماء الأزهر في تحقيقه لكتاب إشارات المرام من عبارات الإمام بتقديم الكوثري: "إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية"1. وكذلك من جنسه زعم الصابوني المعاصر في مقاله المنشور في   1 حاشية إشارات المرام (ص 298) ومن هذا القبيل أيضاً تسمية بعض هؤلاء مؤلفاتهم في العقيدة بـ "عقيدة أهل السنة والجماعة" ونحو ذلك، ككتاب الماتريدي "تأويلات أهل السنة"، وكتاب الجكني الشنقيطي "إضاء الدجنة في عقيدة أهل السنة"، وكتاب محمد بن درويش البيروتي "رسائل في بيان عقائد أهل السنة والجماعة" وغيرها كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 مجلة المجتمع أن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة1. قلت: ولا ريب أن قولهم وادعاءهم هذا باطل غير صحيح، فإن الأشاعرة والماتريدية لا يصح إطلاق هذا اللقب الجليل عليهم فضلاً عن أن يكونوا أهله المختصين به. فإن المراد بالسنة الطريقة المحمدية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وتابعوهم بإحسان قبل ظهور البدع وفشوها، فمن تأثر بشيء من الأهواء واستمسك بها لم يصح إطلاق هذا الوصف الجليل عليه. فإنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقه كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث آخر أنه قال: "هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"2 صار المتمسكون بالإسلام الخالص من الشوائب والأهواء هم أهل السنة والجماعة ومن سواهم أهل البدعة والضلالة. قال شيخ الإسلام: "وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة، فإن أئمة السنة تضاف السنة إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت، وأئمة البدعة تضاف   1 انظر ما كتبه الشيخ سفر الحوالي رداً عليه في رسالته "منهج الأشاعرة في العقيدة" فقد أحسن فيها وأجاد وأفاد وفقه الله. 2 أخرجه الترمذي (5/26) ، والآجري في الشريعة (ص 16) ، واللالكائي في شرح لاعتقاد (1/ 100) ، والمروزي في السنة (ص 18) وغيرهم، وانظر في الكلام عن هذا الحديث مقال الشيخ عبد الكريم مراد بعنوان حديث تفترق الأمة في مجلة الجامعة الإسلامية عدد 59، ص 47، وانظر رسالة الشيخ سليم الهلالي نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق هذه الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت.."1. وبهذا يعلم أن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة، كيف ومذاهبهم مخالفة لأهل السنة والجماعة في أمور كثيرة خطيرة، فهم مخالفون لأهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وفي الإيمان وفي القدر وغير ذلك من كبار مسائل الاعتقاد، وإنما هم يعدون من مبتدعة أهل القبلة ومن محدثة المسلمين، وعندهم من الخير والموافقة لأهل السنة والجماعة في بعض المسائل ما كانوا به أقرب من غيرهم ممن توغل في الإحداث والابتداع كالجهمية والمعتزلة وغيرهم2 هدانا الله وإياهم وجميع المسلمين إلى الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ثم إن هذه المسألة على الخصوص جرى فيها مناظرة بين شيخ الإسلام ابن تيمية وبين خصومه الأشاعرة، حيث أنكروا عليه قوله في العقيدة الواسطية: "ومن أصول الفرقة الناجية: أن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح". قالوا: فإذا قيل إن هذا من أصول الفرقة الناجية، خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك مثل أصحابنا المتكلمين الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق، ومن يقول الإيمان هو التصديق والإقرار، وإذا لم يكونوا من الناجين لزم أن يكونوا هالكين.   1 درء التعارض (5/ 5، 6) . 2 انظر الفتاوى لابن تيمية (12/ 134) ورسالة الشيخ سفر الحوالي المشار إليها آنفاً كاملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 فأجابهم رحمه الله بقوله: "إن قولي اعتقاد الفرقة الناجية هي الفرقة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة، حيث قال: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي". فهذا الاعتقاد: هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية، فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال: الإيمان يزيد وينقص، وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه، وإذا خالفهم من بعدهم لم يضر في ذلك. ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية، والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً، وقد لا يكون ناجياً، كما يقال من صمت نجا"1. قلت: وفي كلام شيخ الإسلام هذا أبلغ جواب لما قد يستشكله الكثير في مسألة إخراج الأشاعرة أو غيرهم من أهل البدع من الفرقة الناجية ومن أهل السنة والجماعة، وأن ذلك يلزم منه أن يكونوا من أهل النار حتما ومن الهالكين يقيناً.   1 الفتاوى (3/ 179) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ولا تلازم بين الأمرين على ما بينه شيخ الإسلام هنا، إذ النص المتقدم ونحوه من نصوص الوعيد لا يدخل فيها من لم تبلغه الحجة ولم يتبين له السبيل مع إرادته للحق وتحريه له، وقد يكون معه حسنات ماحية أو يكون متأولاً أو يكون جاهلاً معذوراً أو نحو ذلك من الأعذار وعلى كل فحكمهم في الدنيا أنهم من أهل البدع والأهواء، وأما يوم القيامة فمرجعهم إلى الله يحكم فيهم بمقتضى عدله وحكمته، ولا يظلم ربك أحدا. ثم يقال لمعشر الأشاعرة على الخصوص، أمالكم أسوة بإمامكم وشيخكم ومؤسس مذهبكم، ومن تدعون أنكم أتباعه وعلى طريقته، فقد أبان الله له الجادة، وهداه إلى الحق، وترك ما أنتم عليه الآن إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وصرح بذلك وأنه بما قال به إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل قائل، فدونكم إن شئتم كتبه الثلاثة الأخيرة لتروا فيها رجوعه إلى الحق وتمسكه به1. قال رحمه الله وغفر له في كتابه الإبانة: "فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحلولية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولمن   1 قال ابن القيم في نونيته (ص 69) : وكذا علي الأشعري فإنه ... في كتبه قد جاء بالتبيان من موجز وإبانة ومقالة ... ورسائل للثغر ذات بيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفخم، وعلى جميع أئمة المسلمين"1. فيقال للأشاعرة هذا إمامكم المقدم وشيخكم المبجل يسجل لكم رجوعه إلى الحق وتمسكه به في ورق مسطر وكلام محرر، فهلا بكلام إمامكم اقتديتم وبما هدي إليه اهتديتم. ثم أني أسوق لكم قوله الأخير في مسألتنا التي هي محل بحثنا -زيادة الإيمان ونقصانه- حيث نص رحمه الله أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وحكى إجماع السلف على ذلك. فإليكم أقواله التي عليها نور الحق وقوة البرهان من كتبه الثلاثة التي ألفها آخر حياته ولقي عليها ربه وهي: الإبانة عن أصول الديانة، ورسالة إلى أهل الثغر، ومقالات الإسلاميين، لتكون لكم دليلاً ونبراساً يهديكم إلى السبيل. قال رحمه الله في كتابه الإبانة: "وجملة قولنا ... وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. وقال في رسالته إلى أهل الثغر: "وأجمعوا على أن الإيمان يزيد   1 الإبانة (ص 52) والأشعري هنا إنما نسب مذهب السلف للإمام أحمد رحمه الله لاشتهاره بذلك وإلا فسائر أئمة الدين سلكوا المسلك نفسه بلا إفراط ولا تفريط وانظر لوامع الأنوار للسفاريني (1/ 22) . 2 الإبانة (ص 59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 بالطاعة وينقص بالمعصية، وليس نقصانه عندنا شك فيما أمرنا بالتصديق به ولا جهل به؛ لأن ذلك كفر، وإنما هو نقصان في مرتبة العلم، وزيادة البيان كما يختلف وزن طاعتنا وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كنا جميعا مؤدين للواجب علينا"1. قلت: وقول أبي الحسن: " ... وإن كنا جميعا مؤدين للواجب علينا"متعقب بأن القائم بطاعة الله قد يكون قيامه بها تاماً كاملاً حيناً وقد يكون ناقصاً ضعيفاً مخلاً ببعض الواجبات حيناً آخر فلا يقال لهذا الأخير أنه أدى الواجب عليه من الإيمان وإنما يكون إيمانه ناقصاً بحسب ما قد ترك من واجبات الدين. وقال في كتابه مقالات الإسلاميين: "جملة ما عليه أهل الحديث والسنة.. فذكر أموراً ثم قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص..إلى أن قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل، وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير"2. وبهذه النقول الجميلة والأقوال الجليلة نعلم أن أبا الحسن الأشعري صار سنياً سلفياً بعد أن كان من أهل الأهواء، وإلا فما الذي صار إليه إن لم يكن ما تركه هوى وابتداعاً3.   1 رسالة إلى أهل الثغر (ص 272) . 2 مقالات الإسلاميين (ص 290- 297) . 3 انظر ما ذكره ابن كنير في كتابه طبقات الشافعية في ترجمة أبي الحسن الأشعري أنه تقلب في ثلاثة أطوار: الاعتزال ثم الكلابية ثم عقيدة أهل السنة، وانظر إتحاف السادة المتقين (2/ 4) وانظر الفتاوى لابن تيمية (3/ 228) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وبه نعلم أيضاً أن من قال من الأشاعرة بكتاب الإبانة وكتاب رسالة إلى أهل الثغر وكتاب مقالات الإسلاميين يعد من أهل السنة والجماعة على دخل في بعض المواضع من تلك الكتب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لاسيما وأنه بذلك يوهم حسناً بكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب شر"1. وأما من لم يقل منهم بذلك فهو باق على الهوى الذي تركه إمامه ورجع عنه، وكان الواجب على هذا المقلد أن يتابع إمامه في رجوعه إن كان قلده دينه حقاً. أما أن يتابعه في الباطل دون الحق فهذا هوى بلا ريب. قال الشيخ محمد العثيمين حفظه الله: "وعلى هذا فتمام تقليده إتباع ما كان عليه أخيراً وهو التزام مذهب أهل الحديث والسنة لأنه المذهب الصحيح الواجب الإتباع الذي التزم به أبو الحسن نفسه"2. لكن الواقع أن الأشاعرة لا لإمامهم اتبعوا ولا للحق هدوا، والله المستعان، والهادي إلى سواء السبيل. بقي أن أشير في ختام هذا المبحث إلى أن هناك قولاً آخر في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه غير الأقوال المتقدمة، ينسب للخطابي رحمه الله   1 انظر الفتاوى (6/ 359، 360) ، وانظر الصفات الإلهية للشيخ محمد أمان (ص 171) . 2 القواعد المثلى (ص 85) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وهو أنه قال: "الإيمان الكامل ثلاثة أمور: قول وهو لا يزيد ولا ينقص، وعمل وهو يزيد وينقص؟ واعتقاد وهو يزيد ولا ينقص وإن نقص ذهب"1. وكون القول لا يزيد ولا ينقص ظاهر لأن المراد به النطق بالشهادتين باللسان وهذه لا تزيد ولا تنقص، 2 وكون العمل يزيد وينقص ظاهر، وكون الاعتقاد يزيد ولا ينقص، متعقب على ما سيأتي تفصيله في الرد على من قال بعدم نقصان التصديق، ولهذا تُعقب بأنه إذا زاد ثم عاد إلى ما كان فقد نقص ولم يذهب3.   1 ذكره الباجوري في تحفة المريد على جوهرة التوحيد (ص33) ، والألوسي في تفسيره (26/93) ، ولم أقف عليه فيما أطلعت عليه من مؤلفات الخطابي. 2 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 259) . 3 روح المعاني للألوسي (26/ 93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 المبحث الثاني: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها لقد تعلق أهل هذا القول بشبه نظرية وحجج عقلية، احتكموا إليها في هذه المسألة وردوا النزاع إليها، وهي في الحقيقة حجج إذا تدبرها العاقل بحق وجدها دعاوى لا تقوم على دليل، وحججاً لا تعتمد على برهان، وإنما تعتمد أولاً وآخراً على رأيهم القاصر، وعلى ما تأولوه بفهمهم للغة العرب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذه طريقة أهل البدع، ولهذا كان الإمام أحمد يقول أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل والقياس. ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم وما تأولوه من اللغة، ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم"1. قلت: ومن يتأمل كلام شيخ الإسلام السالف يجد أنه رحمه الله يحكي ترجمة حرفية لواقع أهل البدع في مجال الحجج والبراهين،   1 الفتاوى (7/ 118، 119) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ويكشف حال هؤلاء كشفاً دقيقاُ، وهو واقع يشمل عامة أهل البدع بدون استثناء؛ لأن من جاء بباطل فليس في القرآن أو السنة ما يدل على باطله أو يؤيده، إذاً فلا حجة له إلا رأيه السقيم وفهمه القاصر للغة. وجميع ما وقفت عليه من حجج لهؤلاء في هذه المسألة لا يخرج عما ذكره شيخ الإسلام- رحمه الله- غير أن بعضهم تكايس فأضاف في الاستدلال بعض ما وقف عليه من أحاديث موضوعة ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً. أما كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة فلا حجة لهم فيهما؛ لأنهما يدلان صراحة على زيادة الإيمان ونقصانه، فهم على هذا بين خيارين: إما أن يدعوا قولهم ويتركوا رأيهم إتباعاً لما جاء في الكتاب والسنة، فيصيبوا الحق بهذا ويوافقوه، أو أن يعتمدوا على عقولهم ويستمسكوا برأيهم، فيفارقوا الحق ويجانبوه، ويكون بعدهم عن الحق بقدر بعدهم عما جاء في الكتاب والسنة. وبهذا تعتبر في قلة أخطاء السلف الصالح وكثرة موافقتهم للحق والصواب في مسائل الشرع والدين، وكثرة أخطاء من بعدهم ممن لم يكن على نهجهم، لاعتصام السلف بالكتاب والسنة وتمسكهم بهما، ولاعتماد الخلف على العقول الكاسدة والآراء الفاسدة ولجوئهم إليها، وشتان بين الفريقين. وبعد هذا التمهيد الذي لا بد منه، أعرض هم شبه هؤلاء وأبرز دلائلهم في هذه المسألة، ثم أتبع كل شبهة بما يبين بطلانها ويكشف زيفها، مستمداً العون والتوفيق من الله وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الشبهة الأولى: وهي عمدة جميع من قال بهذا القول من مرجئة وخوارج ومعتزلة وغيرهم، وهي: قولهم إن الإيمان كلٌ واحدٌ لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله، وعليه فهو لا يزيد ولا ينقص. إلا إن الفرق بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة مع اتفاق الجميع على القول بهذه الشبهة، هو أن الخوارج والمعتزلة قالوا إن فعل الواجبات وترك المحرمات من الإيمان، فإذا ذهب بعض ذلك ذهب الإيمان كله، فلا يكون مع الفاسق إيمان أصلاً بحال، ويكون يوم القيامة مخلداً في النار. وأما المرجئة، فقالوا: إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان، لاعتقادهم أن الإيمان لا يتبعض، فقالوا كل فاسق فهو كامل الإيمان، وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال1. قلت: وقد سبق ذكر هذه الشبهة عند حكاية قول المعتزلة والخوارج، لاقتضاء المقام ذلك، وقد ذكر هنا أوجه عديدة وردود سديدة تكشف زيف هذه الشبهة وتبين بطلانها2 وفيه كفاية إن شاء الله. الشبهة الثانية: قولهم إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأنه التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان حتى إن من   1 انظر الفتاوى (18/ 270) . 2 انظر (ص 348 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 حصل له حقيقة التصديق فسواء أتى بالطاعات وارتكب المعاصي فتصديقه باق على حاله لا تغيير فيه أصلاً1. والجواب عن هذه الشبهة من وجوه: أحدها: جعلهم الإيمان الشرعي هو التصديق القلبي فقط والعمل خارج عن مسماه قول باطل، وقد تقدم الكلام في بيان بطلانه ونقضه من خلال اللغة والشرع في صدر هذه الرسالة ثانيها: لو فرض أن الإيمان هو التصديق وحده، فإنه يكون تصديقاً مخصوصاً، بمعنى أنه يشمل تصديق القلب واللسان والجوارح، إذ إن أفعال الجوارح تسمى تصديقاً كما دل على ذلك الشرع، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتب على ابن ادم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه" 2. وجاء عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال"3.   1 انظر شرح العقائد النسفية (ص 125) ، والمسامرة شرح المسايرة (ص 369) ، والنبراس شرح العقائد (ص 402) . 2 البخاري (11/ 36 فتح) ، ومسلم (4/ 2047) ، واللفظ له. 3 رواه ابن أبي شيبة في الإيمان (ص 31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيماناً؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم وقد ذكر شيخ الإسلام أنه قال بهذا القول أي: أن أفعال الجوارح تسمى تصديقاً أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف، وأطال في شرح ذلك وبيانه1. قال شيخ الإسلام: "واعلم أن الإيمان وإن قيل هو التصديق، فالقلب يصدق بالحق، والقول يصدق في القلب، والعمل يصدق القول ... "2. فإذا علم هذا، وعلم معه أنه لا خلاف بين أهل السنة والمرجئة في أن الأعمال تتفاضل وتزيد وتنقص، تبين من ذلك وجه هذا الرد ووجا هته. ثالثها: قولهم: "وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان"غير صحيح، بل باطل؛ لأن الزيادة والنقصان فيه متصورة عقلاً ثابتة شرعاً واقعة عرفاً؛ لأن كل مصدق بشيء يجد في نفسه تفاوتاً في التصديق من وقت لآخر بحسب تعدد الأدلة وقوة البراهين، وقد سبق الكلام على هذا والاحتجاج له في مبحث أوجه زيادة الإيمان ونقصانه وبين هناك أن الإيمان يزيد وينقص عند أهل السنة والجماعة من جهة التصديق، وذكر ما يدل على ذلك من نصوص الشرع ومن أقوال أهل العلم.   1 انظر الفتاوى (7/ 293 وما بعدها) ، وانظر شرح العقيدة الطحاوية (2/ 478) . 2 الصارم المسلول (ص 524) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 رابعها: أن محققي هؤلاء تعقبوا هذا القول، ونبهوا على غلطه وذلك للقطع عندهم بأن تصديق آحاد الأمة ليس كتصديق النبي صلى الله عليه وسلم أو كتصديق جبريل عليه السلام أو كتصديق الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وقد اختار هذا القول النووي1، وعزاه التفتازاني لبعض المحققين2، وقال الإيجي في المواقف إنه الحق وذكر أن ذلك يتبين من وجهين: الأول: القوة والضعف وعدم القول بالتفاوت يقتضي أن يكون إيمان النبي وآحاد الأمة سواء، وهذا باطل إجماعاً. الثاني: التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال، والنصوص دالة على قبوله لهما3. خامسها: أن يقال ما المانع من تفاوت التصديق وقبوله للزيادة والنقصان كما هو الشأن في تفاوت الناس في الأمور الأخرى غير التصديق، وقد نطر أهل العلم له بقوة البصر وضعفه، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه فمنهم الأخفش والأعشى ومن يرى الخط الثخين دون الرفيع إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة وآخر بضده4.   1 انظر شرح مسلم للنووي (1/ 142) . 2 انظر شرح العقائد النسفية (ص 126) . 3 انظر المواقف في علم الكلام (ص 388) . 4 انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/463) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ومثل هذا التفاوت في الإبصار بين الناس التفاوت في التصديق بينهم، بل إن تفاوتهم في التصديق أعظم من تفاوتهم في أي شيء آخر1. سادسها: أن يقال لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم السلام. واللازم باطل فكذا الملزوم، رقد تقدمت الإشارة إلى هذا القول عند ذكر قول محققي هؤلاء في هذه المسألة2. سابعها: أن يقال إن تفاوت التصديق في القلوب أمر يعلمه كل إنسان من نفسه فكل أحد يعلم أن ما قام في قلبه من التصديق واليقين في حين أقوى منه في بعض الأحيان، ومن ثم كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه ولا يتزلزل إيمانهم بعارض بل لا تزال قلوبهم منشرحة مستنيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة وما قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس3. وفي هذه الأوجه كفاية، وليطالع معها ما سبق ذكره في مبحث أوجه زيادة الإيمان ونقصانه من تدليل ونقول عن السلف في ذلك.   1 انظر الفتاوى (7/ 569) . 2 وانظر روح المعاني للألوسي (9/ 165) . 3 انظر شرح صحيح البخاري للنووي (1/ 112) ضمن مجموع شروح البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الشبهة الثالثة: قولهم إن الزيادة والنقصان لا يدخلان إلا في شيء مخلوق، فمن قال إن الإيمان يزيد ويقص فالإيمان إذاً عنده مخلوق1. والجواب عن هذه الشبهة أن يقال: سبق بيان أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة يتفاضل من جهتين من جهة أمر الرب ومن جهة فعل العبد، وسبق التدليل على ذلك2. ولم يقل أحد ممن يعتد بكلامه أو يعتبر بقوله إنه يلزم من إثبات الزيادة والنقصان أن يكون الإيمان مخلوقاً ولم يقل أحد إنه يلزم من ذلك أن يكون غير مخلوق، وإنما طرح هذا من ابتلي ببعض الأهواء وأشرب ببعض البدع، ومن السؤالات التي طرحها أهل البدع قديماً على السنة والجماعة قولهم هل الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ وأشفى جواب في ذلك وأوفاه هو ما نقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن ذلك فأجاب بقوله: "أما ما كان من مسموع فهو غير مخلوق، وأما كان من عمل الجوارح فهو مخلوق"3. فبالتفصيل يستبين السبيل، فإن الإيمان يقصد به أمران: أمر الرب وفعل العبد، فما كان منه من أمر الرب فهو غير مخلوق بل صفة من صفات الخالق اللائقة بجلاله وكماله سبحانه، وأما ما كان منه من فعل العبد كالحركات فهو مخلوق.   1 انظر السواد الأعظم لابن الحكيم السمرقندي (ص 33) . 2 وانظر الفتاوى لابن تيمية (13/51 وما بعدها) . 3 طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/94) ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/446) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 قال شيخ الإسلام: "وإذا قال الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ قيل له: ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئاً من صفات الله وكلامه كقوله: "لا إله إلا الله"وإيمانه الذي دل عليه اسمه المؤمن، فهو غير مخلوق، أو تريد شيئاً من أفعال العباد وصفاتهم فالعباد كلهم مخلوقون وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة ولا يكون للعبد المحدث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة ولا يقول هذا من يتصور ما يقول، فإذا حصل الاستفسار: والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل"1. وقال الذهبي: "لا يجوز أن يقال الإيمان والإقرار والقراءة والتلفظ بالقران غير مخلوق فإن الله خلق العباد وأعمالهم والإيمان قول وعمل والقراءة والتلفظ من كسب القاريء، والمقروء الملفوظ هو كلام الله ووحيه وتنزيله وهو غير مخلوق، وكذلك كلمة الإيمان وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله داخلة في القرآن وما كان من القرآن فليس بمخلوق، والتكلم بها من فعلنا وأفعالنا مخلوقة"2. وعليه عن قال إن الإيمان مخلوق أر قال غير مخلوق فهو مبتدع في كلا الحالين، إلا أن يفصل القول، ويعطي كل ذي حق حقه. ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: "من قال الإيمان مخلوق فهو كافر ومن قال قديم فهو مبتدع". قال الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله موضحاً هذا القول: "وإنما كفر من قال بخلقه؛ لأن الصلاة من الإيمان، وهي تشتمل على   1 الفتاوى (7/ 664) . 2 السير (14/ 39، 40) ، وانظر السير أيضاً (12/ 630) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 قراءة وتسبيح وذكر الله عز وجل1 ومن قال بخلق ذلك كفر، وتشتمل على قيام وقعود وحركة وسكون، ومن قال بقدم ذلك ابتدع"ئ2. قلت: وبهذا البيان والتفصيل تزول شبهة هذا الملبس والله المستعان. الشبهة الرابعة: قولهم إن الإيمان إنما يزيد بغلبته على ضده وينقص بغلبة ضده عليه، قالوا والإيمان لا يحصل إلا بعد الغلبة على الكفر فلا يضامه حتى يقال إنه يغلب عليه3. قلت: وهذه الشبهة مبنية على أن الإيمان عندهم لا يجتمع مع شيء من الكفر أو النفاق في القلب الواحد، فإن وجد الإيمان فلا وجود لشيء من الكفر في القلب، وكذلك لا وجود لشيء من النفاق، ولهذا قالوا هنا: إنه إنما يزيد بغلبته على ضده وهو الكفر وينقص بغلبة ضده وهو الكفر- عليه، أما أن يضامه ويجتمعان فمحال. قال شيخ الإسلام: "ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم- أي المرجئة- في هذا اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين، كما ذكر ذلك أبو الحسن وغيره، فلأجل اعتقادهم هذا   1 مراده بالقراءة والتسبيح والذكر الملفوظ وليس المراد فعل العبد الذي هو التلفظ كما سبق بيان ذلك في كلام الذهبي قريباً. 2 انظر ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2/ 34) ، وانظر أيضاً مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (3/ 395) . 3 انظر الذريعة إلى مكارم الشريعة للأصفهاني (ص 130) ، وانظر شرح الفقه الأكبر لفخر الإسلام علي بن محمد بن حسين (ق 33/أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماع السلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة"1. يقصد بذلك إجماع السلف على أن الإيمان يزيد وينقص وبقبل التفاضل ويتبعض كما هو ظاهر من دلالات النصوص. ولكن هؤلاء لما قالوا هذا القول المخالف للنص والإجماع، وتوهموا أن قولهم هذا مجمع عليه بين أهل العلم، وقعوا فيما وقعوا فيه من مخالفات لنصوص الشرع الصحيحة الصريحة في أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا الغلط الذي وقعوا فيه هو في الحقيقة سبب غلطهم في كثير من مسائل الشرع والدين، "يقول الإنسان قولاً مخالفاً للنص والإجماع القديم حقيقة، ويكون معتقداً أنه متمسك بالنص والإجماع"2. فإذا تبينت مخالفة هذا القول للنص والإجماع علم بطلانه3، ثم إن قولهم إن الإيمان لا يجتمع معه شيء من الكفر أو شيء من النفاق غلط بين، ومخالف لكثير من النصوص الدالة على إمكان اجتماع شيء من الكفر أو النفاق مع الإيمان. قال شيخ الإسلام في كلام له: "وحينئذ فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً،   1 الفتاوى (7/404) . 2 الفتاوى لابن تيمية (7/ 405) . 3 انظر ما تقدم ذكره في الفصل الأول من هذه الرسالة من أدلة ونقول عن السلف في بيان زيادة الإيمان ونقصانه ونقل إجماعهم على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا أئتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" 1. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق" 2 وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية"3 وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من أمر الجاهلية لن يدعوهن: الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والنياحة، والاستسقاء بالنجوم" 4 وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 5.."6. ثم أطال شيخ الإسلام رحمه الله في الاحتجاج لذلك، بما لا يدع مجالاً لمنصف وناشد حق أن يتردد في امكان اجتماع شيء من الكفر والنفاق مع الإيمان، فيكون بذلك مؤمناً ناقص الإيمان أو مؤمناً ضعيف الإيمان، فلا يقال إنه ذاهب الإيمان لوقوعه في بعض هذه الأعمال المنصوص في الشرع على أنها كفر، ومن قال بخلاف ذلك فقد حكم على جميع الأمة إلا النزر القليل بالكفر لكثرة الكذب وإخلاف الوعد وضعف الأمانة ووجود السباب والفجور، والطعن في الأنساب والنياحة على الميت وغير ذلك من الأعمال المنصوص في الشرع على أنها كفر، فدل ذلك على أن هذه الأعمال وإن سماها الشارع كفراً فهي كفر عملي لا تخرج صاحبها من الملة، ودل أيضاً على إمكان وجود هذه الأمور   1 تقدم تخريجه (ص 354) . 2 تقدم تخريجه (ص 354) . 3 رواه البخاري (1/ 84 فتح) ، ومسلم (3/1282) . 4 رواه مسلم (2/644) . 5 تقدم تخريجه (ص 98) . 6 الفتاوى (7/ 520) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 المنصوص على إنها كفر في المسلمين، وبهذا تنتقض شبهة هؤلاء، والله أعلم. ومما تنقض به هذه الشبهة قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} 1. فهؤلاء ليسوا مؤمنين كما أنهم ليسوا كفاراً، فهم مؤمنون ناقصوا الإيمان، وبهذه الآية احتج أيوب السختياني لنقض قول المرجئة هذا. فقد روى ابن بطة بإسناده إلى سلام بن أبي مطيع قال شهدت أيوب وعنده رجل من المرجئة فجعل يقول: إنما هو الكفر والإيمان قال: وأيوب ساكت، قال: فأقبل عليه أيوب، فقال: أرأيت قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أمؤمنون أم كفار؟ فسكت الرجل، فقال له أيوب: اذهب فاقرأ القران، فكل آية فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي2. الشبهة الخامسة: احتجاج بعضهم ببعض الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمحتجون بهذه الأحاديث صنفان: الأول: واضعوا هذه الأحاديث فجميعهم من المرجئة كما سيأتي بيان ذلك، وقد وضعوها للاحتجاج بها على مذهبهم الباطل. الثاني: أناس آخرون من المرجئة ليس عندهم تمييز بين الصحيح   1 سورة التوبة، الآية: 106. 2 الإبانة (2/ 754) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 والسقيم رأوا هذه الأحاديث واغتروا بها لموافقتها أهواءهم1. وجملة ما وقفت عليه في هذا من أحاديث ستة أحاديث، ويفرغ من أمرها بمعرفة كذبها على النبي صلى الله عليه وسلم واختلاقها عليه، وقد قمت بدراسة هذه الأحاديث ونقدها، وبينت أنها جميعها مكذوبة مفتراة على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بالنقل عن أئمة هذا الشأن من علماء الجرح والتعديل. ثم إني وجدت أن جميع واضعي هذه الروايات والذين تولوا كبرها وتحملوا وزرها من المرجئة القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقد نص أهل العلم على أنهم من الكذبة، وستأتي تراجمهم وأقوال علماء الجرح والتعديل فيهم عند ذكر روايتهم، وقد أوغل هؤلاء في الضلال حينما تجرأوا على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعماً لمذهبهم الباطل وتأييداً له، وتعرضوا بذلك لوعيد الله وأليم عقابه. وقد قال تعالى عن الكذب بعامة: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 2. وقال صلى الله عليه وسلم عن عاقبة الكذب عليه بخاصة، وأنه ليس ككذب على أي أحد: "إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار" 3. ولا نقول إلا قاتل الله الهوى فكم فعل بأهله من الأفاعيل، وكم   1 انظر السواد الأعظم لابن الحكيم السمرقندي (ص 34) ، والنبراس شرح العقائد (ص 402) ، وعمدة القاري (1/110) . 2 سورة النحل، الآية: 105. 3 أخرجه البخاري (3/ 160 فتح) ، ومسلم (1/ 10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 أدخلهم في مزالق ومعاطب مردية، حتى بلغ بهم إلى الكذب على خير الخلق عليه الصلاة والسلام نصرة لباطلهم وترويجاً له. ثم إليك تلك الروايات مسوقة مع كلام أهل العلم عليها: 1 - حديث مأمون بن أحمد السلمي، قال حدثنا أحمد بن عبد الله الجويباري، قال حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص" 1. موضوع مأمون والجويباري كذابان. فمأمون: قال عنه أبو نعيم: "خبيث وضاع يأتي عن الثقات مثل هشام بن عمار ودحيم بالموضوعات، مثله يستحق من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين اللعنة". وقال ابن حبان: "كان دجالاً من الدجاجلة، ظاهر أحواله مذهب الكرامية ... "وقال الذهبي:"له طامات وفضائح"2. وأحمد بن عبد الله الجويباري: قال عنه النسائي والدارقطني: "كذاب"، وقال الجوزجاني: "كان يضع الحديث، ما أدري حسب إيمانه"،   1 رواه الجورقاني في الأباطيل (1/17) ، وابن الجوزي في الموضوعات (1/132) ، وأبو الليث السمرقندي في تفسيره كما في شرح الطحاوية (ص 375) ، وذكره ابن حبان في المجروحين (1/ 142) ، والذهبي في الميزان (1/106) ، وابن حجر في اللسان (1/193) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2/262) . 2 انظر المجروحين لابن حبان (3/45) ، والضعفاء لأبي نعيم (ص 150) ، والضعفاء والمجروحين لابن الجوزي (3/ 32) ، والأباطيل للجورقاني (1/41) ، والمغني في الضعفاء للذهبي (2/141) ، وديوان الضعفاء له (ص 335) ، والميزان له (3/ 429) ، واللسان لابن حجر (5/ 7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وقال أبو حاتم: "دجال من الدجالين، كذاب يضع على الذين يروي عنهم ما لم يحدثوا به، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الجرح فيه"، وقال ابن عدي: "كان يضع الحديث لابن كرام على ما يريده "، وقال أبو سعيد النقاش: "لا نعرف أحداً أكثر وضعاً منه"، وقال الحاكم: "هذا كذاب خبيث لا تحل رواية حديثه بوجه"، وقال البيهقي: "أما الجويباري فإني أعرفه حق المعرفة بوضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وضع عليه أكثر من ألف حديث"، وقال الذهبي: "كذاب ممن يضرب المثل بكذبه"1. فحديثهما موضوع بيقين، قال ابن الجوزي: "هذا من موضوعات الجويباري والذي رواه عنه وهو مأمون فقد اسمه، وإنه أحد الوضاعين، ذكر أنه وضع مائة ألف حديث"2. وقد وضع مأمون هذا حديثاً في الإيمان فروى عن عبد الله بن مالك بن سليمان عن سفيان بن عيينة عن ابن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان قول والعمل شرائعه" 3. قال ابن حبان: "فمما وضع على الثقات أنه روى عن عبد الله بن   1 انظر الضعفاء للنسائي (ص22) ، وأحوال الرجال للجوزجاني (ص206) ، والمجروحين لابن حبان (1/ 142) ، والضعفاء والمتروكين للدار قطني (ص 114) ، والضعفاء والمجروحين لابن الجوزي (1/ 78) ، والمغني في الضعفاء للذهبي (1/83) ، وديوان الضعفاء له (ص 6) ، والميزان له (1/ 106) ، واللسان لابن حجر (1/ 193) . 2 الموضوعات (1/132) . 3 ذكره ابن حبان في المجروحين (3/45) وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 133) ، والذهبي في الميزان (3/ 429) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ما لك.."فذكره1. وقال ابن الجوزي: "وهذا من موضوعات مأمون بلا شك، وقد ذكرنا أنه من الكذابين"2. 2- حديث محمد بن كرام3، قال حدثنا أحمد بن عبد الله الشيباني قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري، عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص" 4. موضوع محمد بن كرام: ساقط الحديث، وأحمد بن عبد الله الشيباني هو الجويباري كذاب خبيث تقدم ذكره. قال الحافظ بن عدي: "كان يضع الأحاديث لابن كرام على ما   1 المجروحين (3/ 45) ونقله الذهبي في الميزان (3/ 429) . 2 الموضوعات (1/ 133) . 3 هو محدث مذهب الكرامية ومنشىء ضلالتهم، تبعه عليه عالم لا يحصون بنيسابور وهراة ونواحيها فيقال لكل واحد منهم كرامي، لم يحسن العلم ولا الأدب، وأكثر كتبه صنفها له مأمون بن أحمد السلمي الكذاب، وفي الحديث كثر من الرواية عن أحمد الجويباري ومحمد بن تميم السعدي وكانا كذابين. قال ابن حبان: "خذل حتى اختار من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها"، وقال الذهبي: "ساقط الحديث على بدعته " ت 255 هـ. انظر الأباطيل للجورقاني (1/ 292) ، والوافي بالوفيات للصفدي (4/ 375) ، واللباب لابن الأثير (3/ 32) ، والميزان للذهبي (4/21) ، واللسان لابن حجر (5/353) . 4 رواه الجورقاني في الأباطيل (1/18) ، وابن الجوزي في الموضوعات (1/131) ، وأورده ابن طاهر في تذكرة الموضوعات (ص 50) ، والذهبي في الميزان (1/156) ، وابن حجر في اللسان (1/193) ، وابن عراق في تنزيه الشريعة (ص 149) ، والسيوطي في اللآليء (1/ 39) ، وعزاه لابن عدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 يريده، وكان ابن كرام يضعها في كتبه عنه، ويسميه أحمد بن عبد الله الشيباني"1. وقال أبو العباس محمد بن إسحاق السراج: شهدت محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله ورفع إليه كتاب من محمد بن كرام يسأله عن أحاديث منها سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص". فكتب محمد بن إسماعيل البخاري على ظهر كتابه: "من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل"2. وقال الجورقاني بعد أن ساق الحديث بإسناده: "هذا حديث موضوع باطل، وليس له أصل، وهو من موضوعات أحمد بن عبد الله الجويباري، وأحمد بن عبد الله هذا كان خبيثاً دجالاً من الدجاجلة، كذاباً، يروي عن ابن عيينة ووكيع وأبي ضمرة وغيرهم من ثقات أصحاب الحديث ويضع عليهم ما لم يحدثوا، وقد روى عن هؤلاء الأئمة ألوف حديث ما حدثوا بشيء منها، كان يضعها عليهم، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الجرح فيه"3. 3- حديث أبي مطيع البلخي، قال حدثنا حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة: "أن وفد ثقيف جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن   1 رواه الجورقاني في الأباطيل (1/19) ، وابن الجوزي في الموضوعات (1/132) . 2 رواه الجورقاني في الأباطيل (1/19) ، وابن الجوزي في الموضوعات (1/132) ، والحاكم في تاريخه كما في اللآليء للسيوطي (11/39) ، وذكره الزركشي في التذكرة (ص 32) ، وفي المعتبر (ص 300) ونقله عنه جمع. 3 الأباطيل (1/ 18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الإيمان هل يزيد وينقص؟ فقال: لا، زيادته كفر ونقصانه شرك" 1. موضوع. فيه أبو مطيع البلخي وأبو المهزم وكلاهما متروك والمتهم فيه هو أبو مطيع. أما الأول وهو أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي فقد قال عنه أحمد: "لا ينبغي أن يروى عنه شيء"، وقال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال أبو داود: "تركوا حديثه"، وقال البخاري: "ضعيف صاحب رأي"، وقال ابن حبان: "كان من رؤساء المرجئة ممن يبغض السنن ومنتحليها"، وقال أبو حاتم: "كان مرجئاً كذاباً"، وقال الفلاس والدارقطني: "ضعيف"، وقال الجورقاني: "كان أبو مطيع من رؤساء المرجئة ممن يضع الحديث"2. وأما الأخر: وهو أبو المهزم بتشديد الزاي المكسورة التميمي البصري فقد قال عنه ابن معين: "ضعيف"، وقال مرة: "لا شيء"، وقال أبو زرعة: "ليس بقوي شعبة يوهنه"، وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث"،   1 رواه الجورقاني في الأباطيل (1/20) ، وابن الجوزي في الموضوعات (1/130) ، والحاكم في تاريخه كما في اللآليء للسيوطي (ص 38) ، وذكره ابن حبان في المجروحين (1/250) ، وأورده ابن طاهر في تذكرة الموضوعات (ص 45) وقال: فيه الحكم بن عبد الله وهو وضعه، وأورده الذهبي في الميزان (3/44) وابن حجر في اللسان (2/335) ، وابن عراق في تنزيه الشريعة (ص 149) ، وقال: والمتهم بوضعه أبو مطيع. 2 انظر التاريخ الكبير للبخاري (4/ 574) ، والضعفاء للنسائي (ص 113) ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 121) ، والمجروحين لابن حبان (1/250) ، والكامل في الضعفاء لابن عدي (2/631) ، والضعفاء والمجروحين لابن الجوزي (1/ 227) ، والميزان للذهبي (1/ 574) ، واللسان لابن حجر (2/335) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وقال النسائي: "متروك"، وقال مسلم بن إبراهيم عن شعبة: "رأيت أبا المهزم ولو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً"، وفي رواية عنه: "لوضع"، وقال علي بن الجنيد: "شبه المتروك"، وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه ينكر عندهم"، وقال ابن حجر: "متروك"1. وواضع الحديث هو أبو مطيع كما تقدم. قال الحاكم: "إسناده فيه ظلمات، والحديث باطل، والذي تولى كبره أبو مطيع"2. وقال الجورقاني: "هذا حديث موضوع باطل لا أصل له، وهو من موضوعات أبي مطيع البلخي"3. وقال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع باطل بلا شك، وهو من وضع أبي مطيع"4. وقال الذهبي: "فهذا وضعه أبو مطيع على حماد"5. 4- حديث عثمان بن عبد الله الأموي، قال حدثنا حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال:   1 انظر التاريخ الكبير للبخاري (8/339) ، والضعفاء الصغير له (ص121) ، والضعفاء للنسائي (ص 111) ، والمجروحين لابن حبان (3/ 99) ، والميزان للذهبي (4/426) ، والكاشف له (3/337) ، وتهذيب التهذيب لابن حجر (12/248) ، وتقريب التهذيب له (2/478) . 2 ذكره ابن حجر في اللسان (4/146) ، والسيوطي في اللآليء (ص 38) . 3 الأباطيل (1/21) . 4 الموضوعات (1/131) . 5 الميزان (3/ 42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 "قدم وفد من ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله جئناك نسألك عن الإيمان، أيزيد أو ينقص؟ قال: الإيمان مثبت في القلوب كالجبال الرواسي وزيادته ونقصانه كفر" 1. موضوع فيه عثمان الأموي، وأبو المهزم. أما أبو المهزم فتقدم ذكره. وأما عثمان بن عبد الله الأموي فقال عنه الأزدي: "لا يحتج بحديثه"، وقال ابن عدي: "حدث بمناكير عن الثقات وله أحاديث موضوعات "، وقال ابن حبان: "يضع الحديث على الثقات لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً"، وقال الدارقطني: "متروك الحديث"، وقال مرة: "يضع الأباطيل على الشيوخ الثقات"2. قلت: أما واضع هذا الحديث فهو أبو مطيع البلخي المتقدم في الحديث الذي قبله، فسرقه عثمان بن عبد الله هذا منه فحدث به. قال ابن حبان: "هذا شيء وضعه أبو مطيع البلخي فسرقه هذا الشيخ   1 رواه الجورقاني في الأباطيل (1/22) ، وذكره ابن حبان في المجروحين (2/103) ، وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 131) ، وابن طاهر في تذكرة الموضوعات (ص 50) ، وقال: فيه عثمان بن عبد الله وهو كذاب، وذكره الذهبي في الميزان (3/ 42) ، وابن حجر في اللسان (4/ 146) . 2 انظر المجروحين لابن حبان (2/103) ، والكامل في الضعفاء لابن عدي (5/ 1823) ، والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/170) ، والمغني في الضعفاء للذهبي (1/603) ، والميزان له (3/41) ، واللسان لابن حجر (4/143) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وحدث عنه"1 وقال الجورقاني بعد أن روى الحديث: "هذا حدث لا يرجع منه إلى الصحة، وليس هذا الحديث أصل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعثمان بن عبد الله هذا كذاب، فسرق هذا الحديث عن أبي مطيع البلخي، فرواه عن حماد ابن سلمة، وهذا شيء وضعه أبو مطيع البلخي عن حماد بن سلمة"2. وقال ابن الجوزي: "وقد سرق هذا الحديث من أبي مطيع، أبو عمرو عثمان بن عبد الله بن عمرو.. وغير لفظه، فرواه عن حماد عن أبي المهزم عن أبي هريرة.."ثم ساق لفظه3. وقال الذهبي: "فهذا وضعه أبو مطيع على حماد، فسرقه هذا الشيخ منه4. 5 - حديث محمد بن القاسم الطايكاني: عن عبد العزيز بن خالد عن سفيان الثوري عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نفاق، ونقصانه كفر، فإن تابوا والإ فاضربوا أعناقهم بالسيف، أولئك أعداء الرحمن، فارقوا دين الله، وانتحلوا الكفر، وخاصموا في الله، طهر الله الأرض منهم ألا ولا صلاة لهم، ألا ولا صوم لهم، ألا ولا زكاة لهم، ألا ولا حج لهم، ألا ولا بر لهم، هم براء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله برىء منهم" 5.   1 المجروحين (2/103) . 2 الأباطيل (1/ 23) . 3 الموضوعات (1/131) . 4 الميزان (3/ 42) . 5 رواه ابن حبان في المجروحين (2 / 311) ، والجورقاني في الأباطيل (1/ 23) ، وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 133) وأورده الذهبي في الميزان (4/ 12) ، وابن حجر في اللسان (5/ 344) ، والسيوطي في اللآلىء (1/40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 موضوع. فيه محمد بن القاسم الطايكاني كذاب وهو واضعه. قال ابن حبان: "روى عن أهل خراسان أشياء لا يحل ذكرها في الكتب"، وقال الحاكم: "من رؤوس المرجئة يضع الحديث على مذهبهم"، وقال: "حدث بأحاديث موضوعة"، وكذا قاله أبو نعيم، وقال الجورقاني: "كان يضع الحديث ويكذب"، وقال الذهبي: "كان يضع الحديث"1. قال الجورقاني وقد روى الحديث: "هذا حديث موضوع، وهو من موضوعات محمد بن القاسم الطايكاني، ومحمد بن القاسم هذا كان كذاباً خبيثاً"2. وقال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع، وهو من موضوعات محمد بن القاسم الطايكاني"3. وقال السيوطي: "موضوع آفته الطايكاني، كذاب خبيث من المرجئة، كان يضع الحديث لمذهبه"4. 6- حديث محمد بن تميم السعدي الفريا بي، من حديث أنس   1 انظر المجروحين لابن حبان (2/311) ، والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/93) ، والمغني في الضعفاء للذهبي (1/625) ، وديوان الضعفاء له (ص 285) ، والميزان له (4/11) ، واللسان لابن حجر (5/343) . 2 الأباطيل (1/24) . 3 الموضوعات (1/133) . 4 اللآليء (1/40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم. "من قال الإيمان يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله، ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله فليس له في الإسلام نصيب" 1. موضوع. وآفته محمد بن تميم، وهو واضعه. قال فيه ابن حبان: "كان يضع الحديث"، وقال الحاكم: "كذاب خبيث"، وقال النقاش: "وضع غير حديث"، وقال أبو نعيم "كذاب وضاع"2. قال ابن الجوزي: "وضعه ابن تميم"3. وقال ابن عراق: "وهو من وضع محمد بن تميم"4. قلت: فجميع الأحاديث المروية في أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص باطلة موضوعة بلا ريب. ولهذا قعد ذلك ابن القيم في مناره المنيف، فقال: "وكل حديث فيه   1 أورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 135) وابن عراق في تنزيه الشريعة (ص 150) ، والسيوطي في اللآليء (1/42) ، والشوكاني في الفوائد المجموعة (ص 453) . 2 انظر المجروحين لابن حبان (2/306) ،: والضعفاء لأبي نعيم (ص 145) ، والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/ 44) ، والمغني في الضعفاء للذهبي (2/170) ، والميزان له (3/ 494) ، واللسان لابن حجر (5/ 98) . 3 الموضوعات (1/135) وأقره السيوطي في اللآليء (1/42) وتصحفت فيه هذه الكلمة تصحفاً مشيناً فكتب بدلاً من "وضعه ابن تميم "، "وضعفه محمد بن تميم"؟ فصار بهذا التصحيف إماماً في الجرح بدل أن يكون وضاعاً. 4 تنزيه الشريعة (ص 150) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فكذب مختلق"1. ويكفي في بطلان تلك الروايات مصادمتها الصريحة لنصوص الكتاب والسنة المصرحة بزيادة الإيمان ونقصانه، فهي باطلة لا وجه لها من الصحة. ومع هذا فقد قال ملا علي القارىء بعد أن نقل هذه القاعدة عن ابن القيم: "ومعنى اللفظ الأول- أي: الإيمان لا يزيد ولا ينقص- صحيح عند المحققين من المتأخرين"2!! قلت: وأي صحة لما خالف وصادم نصوص الكتاب والسنة، فنصوص الكتاب والسنة صريحة بأنه يزيد وينقص، وهذه الأباطيل صريحة بأنه لا يزيد ولا ينقص، فهل من توفيق بين ضدين أو جمع بين نقيضين، لا ريب أن ذلك محال. شتان بين الحالتين فإن ترد ... جمعاً فما الضدان يجتمعان ثم إن من العجب حقاً أن يلتمس لتلك الأحاديث الأباطيل معنى من الصحة وقد افتراها أناس سمتهم الكذب وديدنهم الوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم والافتراء عليه، أو من كان كذلك يتطلب لأقواله وأحاديثه المفتراة معنى من الصحة. وقد أحسن عندما قيد تصحيح معناه بالمتأخرين، إذ إن المتقدمين من سلفنا الصالح أهل السنة والجماعة لا ريب عندهم في بطلان مثل هذا، ولهذا ضمنوا مؤلفاتهم في السنة باب زيادة الإيمان ونقصانه وأوردوا تحته الأدلة   1 المنار المنيف (ص 119) . 2 الأسرار المرفوعة (ص344) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الكثيرة عليه، المبطلة لما خالفه، أما المتأخرون فلا عبرة بأقوالهم ولا اعتداد بها ما خالفت النص، وهؤلاء الذين وصفهم القارىء بالمحققين جاءوا بما ناقض التحقيق، بل والعقول الرزينة والفطر السليمة، وكيف يوصف ما جاء على الضد تماماً لما في القرآن والسنة بأنه تحقيق؟ أما السلف الصالح أهل العلم والإيمان فعندهم أن هذا القول بدعة محدثة وليس من التحقيق في شيء كما سبق أن مر معنا في أقوال السلف، بل هو عندهم من الكذب والتلفيق؛ ولهذا يقول عبد الله بن إدريس: "كذاب من زعم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص"1. وبهذا نصل إلى ختام ذكر شبه هؤلاء مع الرد عليها، وبحق لو لم نقل في رد هذه الشبه وبيان زيفها إلا أنها مخالفة لصريح ما جاء في الكتاب والسنة لكفى وشفى، فكيف وقد أتبعت كل شبهة بما يبين بطلانها ويكشف فسادها وزيفها وينقضها من الأساس؟   1 رواه الخطيب في تاريخه (13/383) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 المبحث الثالث:في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم لقد ذكرت في صدر هذه الرسالة عند ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه نصوصاً كثيرة من الكتاب والسنة تدل بوضوح وجلاء على أن الإيمان يزيد وينقص، وضوحاً لا يقبل الرد أو التأويل، وذكرت هناك أن موقف أهل السنة والجماعة منها هو القبول والتسليم كما هم كذلك في جميع نصوص الشرع لا يقدمون بين يدي الله ورسوله رأياً ولا عقلاً ولا غير ذلك، لكن القائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وجدوا أن هذه النصوص تتعارض مع نتاج فكرهم وما توصلوا إليه بآرائهم فلم يجدوا بداً من تأويلها وصرفها عن ظاهرها الصريح إلى صنوف من التأويلات، وألوان عجيبة من التحريفات، حتى إن قارىء كتبهم والمطلع عليها ليلمس فيهم عند إيرادهم لنصوص الشرع أنهم إنما أوردوها ليشرعوا في ردها وتأويلها شروع من قصد ذلك أصلاً وابتداء وكيفما اتفق له ذلك الرد أو التأويل. ولا ريب في فساد هذا المنهج وبطلانه وانحرافه وبعده عن الجادة السوية المرضية، بل إن معظم الفساد العقدي والانحراف الديني الذي منيت به أكثر الفرق الإسلامية إنما كان بسبب ذلك وثمرة من ثمراته. وما من شك أن هذا الباب لو فتح- أعني باب التأويل- لولج كل مبطل بباطله، وادعى أن نصوص الوحي تدل عليه، ثم تأول النصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 لتتفق مع هواه وباطله، وليس هذا مجرد تصور، بل إن هذا هو ما حصل فعلا من عامة أهل البدع. قال شيخ الإسلام: "وأما أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة ونحوهم فهم لم يثبتوا الحق، بل أصلوا أصولاً تناقض الحق. فلم يكفهم أنهم لم يهتدوا ولم يدلوا على الحق حتى أصلوا أصولاً تناقض الحق، ورأوا أنها تناقض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموها على ما جاء به الرسول. ثم تارة يقولون: الرسول جاء بالتخييل، وتارة يقولون: جاء بالتأويل، وتارة يقولون: جاء بالتجهيل"1. فهم لا يقبلون من نصوص الوحي ما خالف آراءهم وأصولهم وقواعدهم، بل ينصرفون إلى رده بأي وجه. خلافاً لمنهج أهل الحق والسلامة والسنة والجماعة رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين فإنهم كلهم متفقون على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة على كل حال، فكلمتهم واحدة من أولهم إلى آخرهم لم يسوموها تأويلاً، ولم يحرفوها عن موضوعها تبديلاً، ولم يبدوا لشيء منها ابطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوا القرآن عضين. فالواجب لزوم منهج أهل السنة والجماعة، والبعد عن هذه المناهج المنحرفة، وأن يكون الرد في موضع النزاع والخلاف إلى الكتاب   1 الفتاوى (16/440) ، وانظر أيضاً الفتاوى (13/ 142) و (17/ 361) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 والسنة، وأن لا يقدم بين يدي الله ورسوله شيئاً من تلك التأويلات الفاسدة والآراء الباطلة، التي هي في الحقيقة زبالات الأذهان ونخالات الأفكار وعصارات الآراء ووساوس الصدور. ومما يبين لنا فساد هذا المنهج أن نعلم أن كل فساد وخراب حل بالعالم إنما نشأ بسبب ذلك، بسبب تقديم الرأي على الوحي، والهوى على النقل، وما استحكم هذا الأمر في قلب أحد إلا استحكم هلاكه، ولا في أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد1. كل ذلك وغيره يقتضي فساد التأويل الذي هو مطية أهل البدع، والذي من خلاله يتوصلون إلى تحقيق أهوائهم موهمين الأغمار والبسطاء أنهم يحتكمون إلى الكتاب والسنة، وما أبعدهم عنهما، وفيهم أناس مغرر بهم، غرهم بهرجة التأويل وحسن تزويقه، وهم قريبون إن وقفوا على الحق وصلحت النية، وفيهم آخرون دخلوا فيه عن حسن قصد وصلاح نية ولكن ليس كل من أراد الخير أصابه، والموفق من وفقه الله. وبعد، فإني ذاكرٌ ما وقفت عليه من تأويلات للقائلين بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص للنصوص المخالفة لقولهم، وهي عندهم تعد أجوبة على ما احتج به أهل السنة والجماعة على قولهم إن الإيمان يزيد وينقص، ثم اتبع ذكر ذلك بما يبين فساد تلك التأويلات، وإن كان فسادها معلوماً من خلال ما ذكر آنفاً في بيان فساد التأويل إجمالاً. 1- فمن أجوبتهم عن الآيات الدالة على زيادة الإيمان إدعاؤهم أنها محمولة على أنهم كانوا آمنوا في الجملة، ثم كانت تأتيهم الفروض   1 انظر لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فرض بعد فرضاً، فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص إلى أن تكاملت الفروض وكمل الدين، فكان الإيمان يزيد بزيادة المؤمن به. ثم لما كمل الشرع فلا مجال بعد ذلك لزيادة الإيمان إذ إن هذا لا يتصور في غير عصره صلى الله عليه وسلم1. والجواب عن هذا أن يقال: لا ريب في أن الإيمان الذي أوجبه الله على عباده وأمرهم به كان يزيد شيئاً فشيئاً كما أن القرآن الكريم كان يزيد شيئاً فشيئاً إلى أن أتم الله الدين وأكمله وأنزل في بيان ذلك قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} 2. والإكمال الذي نص عليه في الآية عائد إلى الإيمان الذي هو أمر الرب سبحانه وتعالى حيث إنه سبحانه أمر عباده بالتوحيد ثم الصلاة ثم الصيام ثم الحج، فلم يكن سبحانه قد أنزل تشريعه على عباده جملة واحدة، وإنما أنزله عليهم شيئاً فشيئاً حتى تكامل التشريع. وليس عائداً على أفعال المكلفين وقيامهم به إذ إن الآية ليس المراد بها أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب علي سائر الأمة وأنه فعل ذلك وقام به، وإنما المراد أن الله أكمل التشريع، فالإكمال المشار إليه في الآية عائد إلى المؤمن به. ولا يلزم من كمال الدين وتمامه من جهة المؤمن به أن يكون الناس متساوين فيما أمروا به من الإيمان، كما فهمه هؤلاء، فإن هذا من   1 انظر شرح العقائد النسفية (ص 124) ، والنبراس شرح العقائد (ص403) إتحاف السادة المتقين (2/261) ، تحفة القاري (ص 47) . 2 سورة المائدة، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 أصول غلطهم، فإنهم ظنوا أن الإيمان شيء واحد، وأنه يستوي فيه جميع المكلفين. وغلطهم في هذا ظاهر، لأن الإيمان الذي أوجبه الله على عباده يتنوع ويتفاضل، وهم يتباينون فيه تبايناً عظيماً، فيجب على الملائكة من الإيمان ما لا يجب على البشر. ويجب على الأنبياء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم، ويجب على العلماء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم، ويجب على الأمراء ما لا يجب على غيرهم، وليس المراد أنه يجب عليهم من العمل فقط، بل ومن التصديق والإقرار فإن الناس وإن كان يجب عليهم الإقرار المجمل بكل ما جاء به الرسول فأكثرهم لا يعرفون تفصيل كل ما أخبر به، وما لم يعلموه كيف يؤمرون بالإقرار به مفصلاً، وما لم يؤمر به العبد من الأعمال لا يجب عليه معرفته ومعرفة الأمر به، فمن أمر بحج وجب عليه معرفة ما أمر به من أعمال الحج والإيمان بها، فيجب عليه من الإيمان والعمل ما لا يجب على غيره، وكذلك من أمر بالزكاة يجب عليه معرفة ما أمر الله به من الزكاة ومن الإيمان بذلك والعمل به ما لا يجب على غيره، فيجب عليه من العمل والإيمان ما لا يجب على غيره إذا جعل العلم والعمل ليسا من الإيمان، وإن جعل جميع ذلك داخلا في مسمى الإيمان كان أبلغ فبكل حال قد وجب عليه من الإيمان ما لا يجب على غيره1. فكيف يقال بعد هذا إن زيادة الإيمان غير متصورة ولا مجال لها بعد عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل الإيمان المأمور به من وجب عليه الحج لوجود الاستطاعة كالإيمان المأمور به من لم يجب عليه الحج لعدم   1 انظر الفتاوى (13/ 52، 53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وجودها؟ وهل الإيمان المأمور به من وجبت عليه الزكاة لاكتمال النصاب، كالإيمان المأمور به من لم يكن عنده مال يبلغ النصاب؟ وهل الإيمان الواجب على من علم بتفاصيل الشريعة ودقائق مسائلها كإيمان من لم يبلغه من الأمر والنهي إلا الشيء اليسير؟ وهل إيمان من آمن بالرسول باطناً وظاهراً ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين كإيمان من عرف الشرائع بتفاصيلها فآمن بها وعمل بها؟ لذا يقول شيخ الإسلام: "فلا يمكن المنازعة أن الإيمان الذي أوجبه الله يتباين فيه أحوال الناس، ويتفاضلون في إيمانهم ودينهم بحسب ذلك"1. ولهذا فإن قولهم إن الزيادة غير ممكنة بعد اكتمال الشرع وغير متصورة بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم متعقب بما تقدم، بل إن الفرهاري شارح العقائد مع أنه من القائلين بعدم زيادة الإيمان ونقصانه قد تعقب هذا القول ونبه على غلطه، حيث قال بعد أن حكاه: "وفيه نظر لأن الإطلاع على تفاصيل الفرائض ممكن في غير عصر النبي صلى الله عليه وسلم فإن أحدنا لا يطلع على جميع الفرائض دفعة بل يطلع على بعضها فيؤمن به ثم على بعض آخر فيؤمن به، والإيمان يجب إجمالاً وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً"2. 2- ومن أجوبتهم قولهم: إن الإيمان له معنيان: أحدهما: تصديق الجنان بما لابد من تصديقه وهو قوله صلى الله عليه وسلم في   1 الفتاوى (13/ 54) . 2 النبراس شرح العقائد (ص 403) وانظر إرشاد الساري للقسطلاني (ص 122) ضمن مجموع شروح البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 جواب جبريل: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته.." الحديث فمن أتى بهذا التصديق صدقاً من قلبه حرمه الله تعالى عن النار الشديدة المؤبدة التي أعدها للكافرين وإن زنى وإن سرق وإن وإن أي: وإن عمل الكبائر. والمعنى الثاني: السكينة والطمأنينه التي تحصل للمقربين وهو قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 1، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 2 وقوله تعالى: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 3. وخلاصة هذا: أن الإيمان قد يطلق على ما هو الأساس في النجاة وقد يطلق على الكامل المنجي بلا خلاف، فمن قال: لا يزيد ولا ينقص فمراده القدر الذي هو الأصل في النجاة، ومن قال يزيد وينقص أراد به الكامل4. قلت: لقد سأل رجل الحسن البصري رحمه الله عن الإيمان فقال: "الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً..} 5 فوالله ما أدري أنا   1 سورة الفتح، الآية: 4. 2 سورة البقرة، الآية: 260. 3 سورة الحديد، الآية: 9. 4 انظر تحفة القاري (ص 44، 46) ، وإتحاف السادة المتقين (2/261) ، والنبراس شرح العقائد (ص 404) . 5 سورة الأنفال، الآية: 2-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 منهم أم لا"1. فبين رحمه الله أن للإيمان إطلاقين: أحدهما: أصل الإيمان الذي لا نجاة إلا بتحقيقه، والثاني كمال الإيمان الذي ما يحصل به النجاة المطلقة من نار جهنم والفوز بالدرجات العالية في الجنة. فتقسيم الإيمان على هذا النحو واضح لا إشكال فيه، لكن لا يلزم منه أن يكون القسم الأول منه غير قابل للزيادة والنقصان؛ لأنه لا ريب عند أهل العلم بالكتاب والسنة أن الناس يتفاوتون في تصديقهم بالله وملائكتة وكتبه ورسله وفي غير لك من أمور الإيمان بحسب قوة الأدلة وضعفها وقوة التصديق وضعفه، فليس تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بالله وملائكته وكتبه ورسله كتصديق آحاد الأمة، وليس تصديق الملائكة بذلك كتصديق آحاد الناس، بل بينهم من الفرق ما الله به عليم. ثم إن قيل إن أصل الإيمان الذي لا يتحقق الإيمان إلا به لا يقبل النقص، فما وجه عدم قبوله الزيادة، وكيف يكون قد بلغ الكامل المنجي إلا لكونه زاد، وبهذا يعلم تناقض قول هؤلاء. ومما يبين تناقضه أيضاً وصفهم للإيمان بالكامل إذ كيف يوصف بالكامل ما لا يقبل الزيادة ولا النقص، ولهذا تحرج بعضهم من إطلاق هذه العبارة لما تتضمنه من دلالة على قبول الإيمان للزيادة والنقصان. يقول الزبيدي في الإتحاف بعد أن حكى القول االمتقدم: "قلت: وهو حسن، ولكن ما أعجبني تسمية القسم الأخير بالكامل، فإنه يستدعي أن يكون مقابله ناقصاً، وهو وإن كان صحيحاً في نفس الأمر لكن التعبير   1 رواه البيهقي في الاعتقاد (ص 120) ، وفي الشعب (1/218) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 غير حسن، والأولى أن يعبر عنه بالإيمان الشرعي"1. فانظر لشدة التحرج من هذه الأسماء الشرعية "كمال الإيمان"، "نقصان الإيمان"، "زيادة الإيمان "واعجب لذلك. فلم يعجبه تسمية الإيمان التام الكامل بـ "الكامل"لمناقضته لأصولهم، وإن كان صحيحاً في نفس الأمر، والله المستعان. 3- ومنها تأويلهم للنصوص الواردة في الزيادة بأن المراد بها الثبات والدوام على الإيمان، أي أنه يزيد بزيادة الأزمان؛ لأن التصديق عرض، والأعراض لا تبقى إلا بتجدد الأمثال. وحاصل الجواب أنه ليس المراد بالزيادة في الآيات زيادة حقيقة التصديق في نفسه بل زيادة أعداده، وهذا بالاستمرار عليه وعدم الذهول عنه، فإن الاستمرار على التصديق يوجب تجدد الأمثال وحصول أعداد كثيرة من التصديق في كل وقت2. قلت: قولهم هذا مبني على أن التصديق عرض من الأعراض، والأعراض عندهم لا تقبل الزيادة والنقصان وإنما الذي يقبل الزيادة والنقصان الأجسام دون الأعراض3. والكلام على هذا يكون بعد معرفة حقيقة العرض ما هو: فالعرض: هو الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع أي محل يقوم به كاللون المحتاج إلى جسم يحله ويقوم هو   1 إتحاف السادة المتقين (2/ 261) . 2 انظر شرح العقائد النسفية للتفتازاني (ص 125) ، والإرشاد للجويني (ص 336) ، والمسامرة شرح المسايرة (ص 373) ، والبداية من الكفاية (ص 155) . 3 انظر الإيمان لأبي يعلى (ص 399) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 به1. بهذا عرفوا العرض، فالسواد والبياض وغيرهما من الألوان، والحركة والسكون وغيرهما أعراض لأنها تحتاج في وجودها إلى موضع تقوم به. ولا ريب أن هذه تقبل الزيادة والنقصان، ومن ذا الذي يستريب في أن هناك سواداً أشد من سواد وحركة أقوى من حركة وسكوناً أهدى من سكون، فقبول هذه الأمور الزيادة والنقصان أمر لا ريب فيه، فإذا كان ذلك كذلك، فالإيمان كذلك يقبل الزيادة والنقصان كسائر الأعراض لا فرق. قال شيخ الإسلام: "إن نفس العلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت كما يتفاضل سائر صفات الحي من القدرة والإرادة، والسمع والبصر والكلام، بل سائر الأعراض من الحركة والسواد والبياض ونحو ذلك ... فما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته وحركاته بل وغير صفات الحي إلا وهي تقبل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر"2. أما حملهم النصوص الواردة في الزيادة على الثبات والدوام على الإيمان فتأويل باطل؛ لأن "حقيقة الزيادة لا يعقل منها الثبوت على الشيء، وإنما يعقل منها الزيادة في ذاته"3. فالآيات الواردة المنصوص فيها على زيادة الإيمان المراد بها زيادة الإيمان نفسه علماً واعتقاداً وعملاً، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً   1 انظر التعريفات للجرجاني (ص 148) . 2 الفتاوى (7/ 564، 565) . 3 الإيمان لأبي يعلى (ص 403) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 1. أي زادتهم تصديقاً وإقراراً بما فيها ثم عملاً بذلك التصديق. قال ابن جرير: "فإن قيل: فكيف زادتهم السورة تصديقاً وإقراراً قيل: زادتهم إيماناً حين نزلت؛ لأنهم قبل أن تنزل السورة لم يكن لزمهم فرض الإقرار بها، والعمل بها بعينها إلا في جملة إيمانهم بأن كل ما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله فحق، فلما أنزل الله السورة لزمهم فرض الإقرار بأنها بعينها من عند الله، ووجب عليهم فرض الإيمان بما فيها من أحكام الله وحدوده وفرائضه، فكان ذلك هو الزيادة التي زادهم نزول السورة حين نزلت من الإيمان والتصديق بها، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل ... "2. وسبق أن نقلت جميع نصوص القرآن المصرحة بزيادة الإيمان، في مبحث سبق ونقلت هناك من أقوال السلف وكلامهم الاستدلال بها على زيادة الإيمان ونقصانه، بل نقلت حكاية إجماعهم على ذلك عن غير واحد من أهل العلم. ثم أيضاً قول هؤلاء إن المراد بالزيادة في الإيمان هو الثبات والدوام عليه، يلزم منه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما يفضل غيره بدوام إيمانه وثباته لا غير، وقد قالوا بهذا القول والتزموا هذا اللازم الفاسد. قال شيخ الإسلام بعد أن أشار إلى قولهم هذا: "فهذا هو الذي يفضل به النبي صلى الله عليه وسلم غيره في الإيمان عندهم، ومعلوم أن هذا في غاية الفساد من   1 سورة التوبة، الآية: 124. 2 تفسير ابن جرير (7/72) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وجوه كثيرة كما قد بسط في مواضع أخرى"1. 4- ومنها حملهم للنصوص الواردة في زيادة الإيمان بأن المراد بها زيادة إشراق نوره في القلب وزيادة ثمراته2. قلت: وهذا التأويل من جنس الذي قبله، مفاده صرف النص عن ظاهره الصريح إلى تأويلات بعيدة غير مرادة منه. وإلا فمن المعلوم أن ثمرات الإيمان أمر خارج عن الإيمان، ولا يقول عاقل إن الجزاء على فعل الطاعة والإثابة علبها هو الطاعة نفسها، بل كل عاقل يعلم أن الثواب على الطاعة غير الطاعة، بل أمر خارج عنها. ولهذا أجاب القاضي أبو يعلى عن الشبهة بقوله: "وثواب الإيمان ليس بإيمان"3. وقال أيضاً: "والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية نفسه وثوابه، خلافاً للمعتزلة في قولهم لا يزيد ولا ينقص لا ثوابه ولا نفسه، وخلافاً للأشعرية في قولهم يزيد وينقص ثوابه لا نفسه، والدلالة على ما ذكرنا قوله تعالى {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ   1 الفتاوى (7/ 153) . 2 انظر المسامرة شرح المسايرة (ص 373) ، وشرح العقائد النسفية للتفتازاني (ص 125) ، وإتحاف السادة المتقين (2/ 260) ، والنبراس شرح العقائد (ص 404) ، والسواد الأعظم (ص 38) ، والبداية من الكفاية (ص 155) . 3 الإيمان لأبي يعلى (ص 407) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً ... } 1. وتأويلهم هذا، والتأويل الذي قبله هو من جنس تأويلهم لنصوص الصفات سواء بسواء، فالباب في الجميع واحد، وهو صرف النصوص عن ظواهرها المرادة إلى معاني بعيدة غير مرادة من النصوص". وقد بين أهل العلم فساد منهج التأويل وقبحه وضرره على الدين، حتى قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الصواعق المرسلة: "والدين إذا أحيل على تأويلات المتأولين أنتقضت عراه كلها، ولا تشاء طائفة من طوائف أهل الضلال أن تتأول النصوص على مذاهبها إلا وجدت السبيل إليه"2، وكفى بذلك بياناً لقبح التأويل، ثم إنه رحمه الله قد استوفى الرد على أهل التأويل وبين فساد منهجهم هذا، في كتابه المذكور أنفاً ولاسيما في المجلد الأول منه. 5- ومنها قولهم إن النقصان والزيادة يرجع إلى أحد أمرين: إما أن يكون ذلك راجعاُ إلى القول والعمل، دون التصديق؛ لأن ذلك يتصور فيهما مع بقاء الإيمان فأما التصديق فمتى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان ... والأمر الثاني: في جواز إطلاق الزيادة والنقصان على الإيمان، يتصور أيضاً أن يكون من حيث الحكم لا من حيث الصورة، فيكون ذلك أيضاً في الجميع من التصديق والإقرار والعمل، ويكون المراد بذلك في الزيادة والنقصان راجعاً إلى الجزاء والثواب والمدح والثناء، دون نقص   1 المعتمد في أصول الدين لأبي يعلى (ص 189، 190) . 2 الصواعق المرسلة (1/156) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وزيادة في التصديق من حيث الصورة1. والجواب عن هذين الأمرين أن يقال: عن الأمر الأول وهو جعلهم الزيادة والنقصان راجعين إلى العمل والقول دون التصديق أن هذا تحكم في النص بلا دليل سوى تصور خاطىء وهو ظنهم أن التصديق متى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان، وقد سبق الجواب عن هذا بما يشفي ويكفي وذلك بالنقل عن أهل العلم المحققين في أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان دون أن يكون قبوله للنقصان يقتضي شكاً أو كفراً كما فهمه هؤلاء، بل إنه يكون تصديقاً دون تصديق وهذا أمر يحسه كل أحد من نفسه فإن تصديق المرء ببعض الأمور يختلف من وقت لآخر قوة وضعفاً بحسب قوة الأدلة والبراهين، فكيف يقال بعد ذلك إن التصديق متى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان؟. أما الجواب عن الأمر الثاني وهو حملهم معنى الزيادة والنقصان على أن ذلك إنما يكون من حيث الحكم لا من حيث الصورة أي أنه يرجع إلى الجزاء والثواب والمدح والثناء. فيقال هذا عين التأويل المتقدم في الشبه الثاني قبل هذه والجواب المتقدم هناك جواب على هذا. 6- ومنها: قول بعضهم الإيمان الشرعي معاهدة التزام الطاعة وعقد على التسليم والانقياد ظاهراً وباطناً، وهو أمر واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يقبل الزيادة والنقصان، ولكن هذا العهد والعقد ينسحب على العقائد والأخلاق والأعمال كلها فالعقد واحد والمعقود عليه متعدد فإن أتى بجميع ما التزمه وعقد عليه فعقده وعهده تام وكامل، وإلا فناقص، ومثاله النكاح   1 الإنصاف للباقلاني (ص 87، 88) ، ونقله عنه الكاندهلوي في تحفة القاري (ص 47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 فإنه عقد على التزام موجب الزوجية، وهو أمر بسيط لكنه يتضمن جميع حقوق الزوجية، فالنكاح لا يزيد ولا ينقص، وإنما الزيادة والنقصان في وفاء حقوقه، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} 1، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} 2، فكذلك الإيمان عهد واحد وميثاق بسيط لا زيادة فيه ولا نقصان، وإنما الزيادة والنقصان في الأمور المنطوية تحت هذا الميثاق3. قلت: وهذا الكلام مشتمل على تكلف زائد جهد قائله في إبطال دلالة النصوص على زيادة الإيمان ونقصانه حسبما فهمها السلف، وحملها على هذا المعنى المتوعر الذي لم يفقه قبله غيره. وكلامه مشتمل على أمور باطلة ودعاوى غير صحيحة أوضحها قوله عن الإيمان أنه أمر واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتقبل الزيادة والنقصان. ومعنى لا يتجزأ أي ليس له أجزاء، ويبطل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" الحديث. ومعنى لا يتبعض أي ليس له أبعاض فإذا ذهب بعضه ذهب كله، ويبطل هذا قوله صلى الله عليه وسلم "يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان" الحديث. وقد تقدم تخريج الحديثين وبيان دلالتهما على زيادة الإيمان ونقصانه بالنقل في ذلك عن أئمة أهل السنة والجماعة. وكذلك قوله: " ... فكذلك الإيمان عهد واحد وميثاق بسيط لا زيادة   1 سورة الرعد، الآية: 25. 2 سورة المائدة، الآية: 1. 3 تحفة القاري (ص 46، 47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 فيه ولا نقصان". فإن المراد بالبسيط عندهم ضد المركب وهو مالا أجزاء له1، وقد سبق التنبيه على ما في وصف الإيمان بأنه ليس له أجزاء من غلط وما فيه من مخالفة للأحاديث الصريحة الدالة على أن الإيمان له شعب وأجزاء يزيد الإيمان بزيادتها وينقص بنقصها. وقائل هذا الكلام بنى قوله بعدم زيادة الإيمان ونقصانه على مقدمة فاسدة وهي: وصف الإيمان بأنه بسيط أي غير مركب، فإذا علم فساد هذه المقدمة يعلم فساد نتيجتها. وكذلك قوله في ختام كلامه: "وإنما الزيادة والنقصان في الأمور المنطوية تحت هذا الميثاق". فإن الأمور المنطوية تحت ميثاق الإيمان وهي الأعمال الصالحة بأنواعها كلها داخلة في مسمى الإيمان بدلالة نصوص الكتاب والسنة على ذلك والإيمان يزيد بزيادتها وينقص بنقصها كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 2. فجعل الله سبحانه الصلاة والزكاة والتوكل من أعمال الإيمان الداخلة في مسماه، فإذا قام المسلم بتحقيقها والقيام بها على أكمل وجه زاد إيماناً، وارتقى إلى أن يصبح إيماناً حقاً.   1 التعريفات للجرجاني (ص 45) . 2 سورة الأنفال، الآية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 فإذا تبين هذا يعلم أن في قوله: إن الزيادة والنقصان في الأمور المنطوية تحت هذا الميثاق يعد رداً على قوله إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن الأمور المنطوية تحت الإيمان إيمان بدلالة الكتاب والسنة، وقد ذكر أنها تزيد وتنقص، وبالله التوفيق. وهذا آخر ما يتعلق بالفصل الثالث، وقد كان الحديث فيه عمن قال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وذكر شبههم ومواقفهم من نصوص الشرع المخالفة لقولهم مع الرد عليهم في ذلك كله. والذي أريد أن أقوله هنا: هو أن هذه الأفكار الباطلة، والأقوال الخاطئة، والتي منها الإرجاء وعدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه لا تزال موروثة إلى يومنا هذا، فالأمر كما قيل: لكل قوم وارث، ولكل أرض حارث. فليس الأمر كما يزعمه بعض الناس أنها أفكار ماتت بموت أهلها، وانقرضت بانقراضهم، ثم يجعل ذلك مدخلاً له ليعترض على البحث فيها، وفي تخطئة من قال بها. فالأمر ليس كما يزعمه هذا الزاعم، والمهون بقوله هذا من شأن العقيدة ونشرها، والدفاع عنها، وتنقيتها من الأفكار الدخيلة، فإنه يوجد من المعاصرين من يقول بتلك الأقوال، ويدافع عنها، وينتصر لها، ويسعى على قدم وساق في بثها ونشرها في الأمة. ولعلي أشير هنا إشارة سريعة إلى بعض من تأثر بهذه الأقوال من أهل عصرنا وانتصر لها، مع التنبيه على من رد عليهم إن وجد. ا- فمن هؤلاء محمد أنور الكشميري الديوبندي المتوفى سنة 1352 هـ، صاحب كتاب فيض الباري على صحيح البخاري، وليت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 صحيح البخاري سلم من فيض هذا الكشميري، فقد شحن كتابه بالمغالطات المكشوفة، والافتراءات الواضحة، والتأويلات البغيضة، والسباب لبعض أهل العلم، كل ذلك بعبارات مفككة، وأسلوب غث ضعيف. ومن مفضوح أكاذبيه وأوضح مغالطاته قوله عن الإمام المصلح، والداعية المجدد الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "أما محمد بن عبد الوهاب النجدي فإنه كان رجلاً بليداً قليل العلم فكان يتسارع إلى الحكم بالكفر، ولا ينبغي أن يقتحم في هذا الوادي إلا من يكون متيقظاً متقناً عارفاً بوجوه الكفر وأسبابه"1. قلت: ولا يقول هذا من يدري ما يقول، بل لا يقوله إلا حانق حاقد مريض القلب بالهوى. أما من عرف الشيخ وخبر سيرته وطالع مؤلفاته وتجنب الأهواء المضلة والدعايات الكاذبة لا يجد إلا سيرة عالم فذ، وإمام مجدد، ومصلح غيور، ولا تزال دعوته تؤتي أكلها- وان رغمت أنوف- بحمد الله تعالى. وقول الكشميري عن الشيخ إنه يتسارع في التكفير كذب على الشيخ وافتراء عليه تبرأ منه الشيخ نفسه، قال رحمه الله: "وأما ذكره الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة. فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله"2. ويقول حفيده الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: "والشيخ محمد رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى إنه   1 فيض الباري (1/ 170، 171) . 2 مجموع المؤلفات (5/25) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها"1. وقد أطال الكشميري في كتابه المتقدم الكلام على مسألة الإيمان على طريقة المرجئة، وقد قام بنقده والرد عليه الشيخ محمد أمين المصري في كتابه من هدي سورة الأنفال2، والشيخ ابن عبد الحق النورفوري في كتابه إرشاد القارىء في الرد على كتاب فيض الباري، والكتاب لا يزال مخطوطاً، وهو مشتمل على ردود جيدة وتتبعات دقيقة، إلا أن مؤلفه لم يكمله بعد، يسر الله له إكماله وطبعه. 2- ومنهم جهمي هذا العصر وحامل لواء التعطيل فيه محمد زاهد الكوثري المتوفى سنة 1371 هـ في كتابه تأنيب الخطيب وفي غيره من كتبه، وأكاذيب هذا الرجل لم تعد تخفى على أحد، وسوآته الفكرية تمتلىء بها كتب السنة التي قام بإخراجها وتحقيقها. وقد شفى وكفى في الرد عليه وبيان كذبه ومغالطاته الشيخ العلامة ذهبي هذا العصر عبد الرحمن المعلمي في كتابه الفذ "التنكيل بما في كتاب الكوثري من الأباطيل"3.   1 منهاج التأسيس والتقديس (ص 98، 99) . وانظر كتاب "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي" للشيخ صالح العبود (ص 206 وما بعدها) وكتاب: "دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقد" للشيخ عبد العزيز العبد اللطيف (ص 162 وما بعدها) . 2 انظره من (ص 104 وما بعدها) . 3 انظر رد المعلمي عليه فيما يتعلق بمسألة الإيمان في التنكيل (2/362 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 3- ومنهم مريد الكوثري والمتهالك في حبه عبد الفتاح أبو غدة، ودور هذا المريد ظاهر في حرثه لأفكار شيخه والإشادة بها، ووصف كلام شيخه بأنه تحقيق متين، وإطارئه دائماً بالعلامة والمحقق والإمام وغير ذلك. ولنشر هنا إلى بعض كلام أبي غدة فيما يتعلق بمسألة زيادة الإيمان ونقصانه ورأيه فيه. فقد نقل كعادته كلام شيخه محتفياً به رغم ما في كلام شيخه من ثلب للسلف بعامة، ولإمام المحدثين وأمير المؤمنين في الحديث أبي عبد الله البخاري بخاصة. واسمع ماذا نقل عن شيخه في الطعن بالإمام البخاري رحمه الله. قال- أي الكوثري-: "ومن الغريب أن بعض من يعدونه من أمراء المؤمنين في الحديث يتبجح قائلاً: إني لم أخرج في كتابي عمن لا يرى أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص مع أنه أخرج عن غلاة الخوارج ونحوهم في كتابه وهو يدري أن الحديث القائل بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص غير ثابت عند النقاد، ولا التفات إلى المتساهلين ممن لا يفرقون بين الشمال واليمين ... ". ومن شدة احتفاء هذا المريد بكلام شيخه المتقدم، رغم ما فيه من اساءات ومغالطات، فقد نقله في موضعين من مؤلفاته1 ثم وصفه بأنه بيان شافي!!   1 انظر هامش الرفع والتكميل للكنوي (ص 30) وهامش قواعد في علوم الحديث للتهانوي (ص 237) كلاهما بتحقيق أبي غدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 قلت: ولننبه على بعض ما في هذا البيان الشافي من مغالطات: أولاً: في وصفه للإمام البخاري بأنه "يعدونه من أمراء المؤمنين في الحديث"إشارة إلى أنه ليس معدوداً عندهم كذلك ولا يقول هذا إلا مكابر ممرض، والبخاري رحمه الله أمير المؤمنين في الحديث وإمامهم رغم بغض شانئيه، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم. ثانياً: وصفه للبخاري رحمه الله بأنه "يتبجح "وقد جاء في تهذيب اللغة للأزهري في مادة "بجح"عن الليث وغيره: فلان يتبجح بفلان ويتمجح إذا كان يهذي به إعجاباً1. قلت: فاختيار هذه الكلمة دون غيرها في وصف أمير المؤمنين في الحديث وقدوة الموحدين والمقدم على أضرابه وأقرانه يدل على قلة ورع قائله وسوء أدبه وبذائة أسلوبه وسلاطة لسانه مع العلماء وخاصة مع الأكابر منهم، وليس هذا بغريب من الكوثري فله قصب سبق في هذا المضمار، بل هو فارس هذا الميدان وحامل لوائه، وسبابه وشتائمه لأئمة الدين وهداة الإسلام لا تحصى إلا بكلفه، ومن ألقى نظرة عاجلة في بعض مؤلفاته أو تعليقاته علم ذلك2. ثالثاً: اعتراضه على البخاري في قوله بأنه لم يخرج في صحيحه   1 تهذيب اللغة (4/ 164) . 2 وانظر لزاماً التنكيل للمعلمي كاملاً، ورسالة براءة أهل السنة عن الوقيعة في علماء الأمة للشيخ بكر أبو زيد، وكتاب الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشيخ شمس الدين بن محمد أشرف (ص 137 وما بعدها) ففي هذه الكتب البيان الشافي والتحقيق الوافي لحال هذا الخبيث المارد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 عمن يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، مع أنه أخرج فيه عن غلاة الخوارج ونحوهم. قلت: روى قول البخاري المتقدم عنه وراقه محمد بن أبي حاتم قال سمعته- أي البخاري- يقول دخلت بلخ، فسألوني أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه حديثاً، فأمليت ألف حديث لألف رجل ممن كتبت عنهم. قال: وسمعته قبل موته بشهر يقول: كتبت عن ألف وثمانين رجلاً ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص1. قلت: وهذا الذي سماه الكوثري: "تبجحاً"يعد في معيار العدل والإنصاف ميزة ومنقبة لكتاب البخاري الصحيح؛ لأن عدم الرواية عن مثل هؤلاء وإن كانوا حفاظاً فيه إخماد لبدعتهم وإطفاء لنارها. قال بن دقيق العيد: "إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخماداً لبدعته وإطفاءاً لناره، وإن لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالتدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء ناره"2. إذن فماذا يضير البخاري رحمه الله إن ترك الرواية عن مثل هؤلاء وتمدح بفعله هذا ليكون في عمله هذا إخماداً لهذه البدعة وعدم نشر لها ولاسيما وأن تخريج البخاري لأي راو في صحيحه مقتض لعدالته عنده، فإن ترك البخاري رحمه الله الرواية عن مثل هؤلاء- على بحث عند أهل   1 سير أعلام النبلاء (12/ 395) . 2 التنكيل (1/49) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 العلم في جواز الرواية عنهم أو عدم جوازها1 سائغ لتيسر الرواية عنده عن غيرهم ممن شاركوهم في الرواية لتلك الأحاديث، وفارقوهم في عدم الابتداع، ولما في عمله هذا من مصلحة إخماد البدعة وعدم تقديم أهلها وإبرازهم. ولأمر آخر وهو أن أهل البدع كما سماهم السلف: "أصحاب أهواء"وأتباعهم لأهوائهم في الجملة ظاهر، فلربما يكذب ويتجرأ على الكذب لينتصر لهواه- كما سبق أن مر معنا عن بعض هؤلاء- ولهذا المعنى قال علي بن حرب الموصلي: "كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي"قال المعلمي معلقاً عليه "يريد والله أعلم أنهم مظنه ذلك فيحترس من أحدهم حتى يتبين براءته"2. وأمر آخر أيضاً وهو أن البخاري رحمه الله لم يخرج في صحيحه عمن كان داعية إلى بدعته، وإنما خرج عمن كان مستتراً بها غير مظهر لها، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا لم يخرج أهل الصحيح لمن كان داعية، ولكن رووا هم وسائر أهل العلم عن كثير ممن كان يرى في الباطن رأى القدرية والمرجئة والخوارج والشيعة"3. فترك البخاري الرواية عن أهل هذه البدعة لمثل هذه الأسباب المتقدمة يعد منقبة لصحيحه رحمه الله، وميزة له، وحق له أن يذكرها وإن كان في ذكره لها يقصد التأكيد على الحذر من أهل هذه الأهواء ومجانبتهم   1 طالع تفصيل هذه المسألة في: هدي الساري لابن حجر (ص 385) ، وفي التنكيل للمعلمي (1/ 42 وما بعدها) بحث جيد وتحرير واف لهذه المسألة فليطالع. 2 التنكيل (1/44) . 3 الفتاوى (7/ 368) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وعدم التلقي عنهم ليسلم للمرء دينه ومعتقده، فرحم الله البخاري على شدة تحريه وقوة حرصه على سلامة التوحيد والسنة، ولكن هذا كله يعد في ميزان الغوغائيه مذمة له والله المستعان. رابعا: قوله: "وهو يدري أن الحديث القائل بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص غير ثابت عند النقاد، ولا التفات إلى المتساهلين ممن لا يفرقون بين الشمال واليمين..". قلت: وصنيع الكوثري هنا خداع عجيب ومكر مفضوح فهو يوهم القارىء أن البخاري رحمه الله إنما اعتمد بقوله في زيادة الإيمان ونقصانه على هذا الحديث الضعيف الذي لا يثبت عند نقاد الحديث لكن البخاري- كما يرى هذا الزاعم- احتج به على قوله بل ولم يجد له حجة على قوله غيره. فيقال لهذا الكوثري المخادح: إنما أنت مفتر، فقد قرأت أدلة البخاري في كتابه الصحيح على هذه المسألة، نصوص بينة من كتاب الله، وأحاديث نيرة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقها رحمه الله مستدلاً بها على زيادة الإيمان ونقصانه قال رحمه الله: باب زيادة الإيمان ونقصانه، وقول الله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 1 وقال: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا} 2، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 3 فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص. ثم ساق بسنده حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار من   1 سورة الكهف، الآية: 13. 2 سورة المدثر، الآية: 31. 3 سورة المائدة، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير- الحديث "ثم أشار إلى لفظة أخرى للحديث فيها "من إيمان"لا مكان "من خير" 1. فهل البخاري رحمه الله احتج على قوله بأن الإيمان يزيد وينقص بذلك الحديث كما يزعمه الكوثري، أو أنه استدل على قوله بهذه الآيات البينات والحديث الواضح. أقول: لا شك أن الكوثري كان يعلم بماذا احتج البخاري على مذهبه، وبماذا استدل على قوله، ولكن من دأب على المكر والتدليس والتلبيس على الأغمار من شأنه أن يتجاهل تلك الاستدلالات، ويتغافل ويتعامى عنها، لينفذ بعد ذلك إلى ما يريد. وعلى كل فهذه التلبيسات المفضوحة والمغالطات المكشوفة سماها مريده أبو غدة بياناً شافياً، والأمر في الحقيقة لا يعدو كونه حباً مفرطاً في الشيخ وتعلقاً بأقواله وتعظيماً لها، لا أقل ولا أكثر، رغم أن تلك الأقوال لا تحمل علماً يذكر، فضلاً عما فيها من مغالطات وأكاذيب. 4- ومنهم الشيخ حسن أيوب وذلك في كتابه "تبسيط العقائد الإسلامية"فقد سلك فيه طريقة المرجئة في مسائل الإيمان، بالإضافة إلى ما فيه من انحرفات عقدية أخرى. وقد كتب الشيخ أبو تراب الظاهري في الرد عليه مقالاً نشر في جريدة المدينة2 بعنوان: "التحذير مما كتب الشيخ حسن أيوب في تبسيط العقائد الإسلامية ".   1 صحيح البخاري (1/ 103 فتح) . 2 جريدة المدينة عدد (6197) الخميس 13/5/1404 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ذكر في أوله أنه اطلع على هذا الكتاب الذي شاع وانتشر بين الناس ثم قال: "فراعني فيه أشياء تمس العقيدة الصحيحة فتنحرف بها عن جادة الصواب والحق، وأشفقت أن يعتنقها الشباب في هذا العصر غضة عقولهم فترسخ في أذهانهم فيتنكبوا السبيل الأقوم فبادرت إلى كتابه هذا الرد على ما كتبه الشيخ حسن أيوب ليتنبه له قراؤه ويلتزموا المسلك الصحيح وأول المآخذ على كتابه المذكور: أنه قرر مذهب المرجئة والجهمية في الإيمان، وصحح هذا المذهب ونسبه إلى الجمهور ... "ثم شرع في نقده والرد عليه. 5- ومنهم محمد إدريس الكاندهلوي كما في كتابه: "تحفة القارىء بحل مشكلات البخاري"1 وهو في كثير من المواضع فيه ينقل عن شيخه محمد أنور الكشميري، وقد تقدم الكلام على شيخه قريباً. هذا ولم أشأ الاستطراد بذكر جميع من وقفت على أنه قال بهذا القول من أهل عصرنا ولم أشأ كذلك تسمية المؤسسات العلمية القائمة عليه وإنما أردت فقط الإشارة إلى بعض الأفراد من القائلين بهذا القول، لأدل بهم على غيرهم، ولأنبه بهم على من سواهم، ولأبين كذب دعوى من قال إن هذه الأفكار قد ماتت ولم يين منها شيء في زماننا. ثم إن هؤلاء الخالفين الذين أشرت إلى بعضهم لم يأتوا بجديد في مجال الاستدلال غير تكرار شبه من سبقهم، وإعادة ترديدها، وهذا يفيدنا أن الردود التي ذكرت سابقاً في الرد على أسلافهم كافية في الرد عليهم.   1 تقدمت الإحالة على كلامه ني هذه المسألة في مواضع كثيرة من هذه الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 هذا والله أسأل أن يغيث قلوبنا بالإيمان الصحيح، والسنة القويمة، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الفصل الرابع: في سبب الخلاف في هذه المسألة ونشأته هل هو حقيقي أو لفظي * ... الفصل الرابع:في سبب الخلاف في هذه المسألة ونشأته وهل هو حقيقي أو لفظي بعد هذا العرض لأقوال الطوائف في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، بقي مباحث متفرقة في هذه المسألة حول الخلاف فيها ونشأته وهل هو جوهري أو لفظي؟ فقد آثرت أن أعقد لها هنا فصلاً مستقلاً لأستوفي فيه بحثها حسب المقدور، مستعيناً بالله. وعداد هذه المسائل المبحوثة هنا ثلاث، أفردت لكل مسألة منها مبحثاً مستقلاً وهي كما يلي: المبحث الأول: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة ز المبحث الثاني: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى تعريف الإيمان أو لا؟ المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 المبحث الأول: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة بعد طول العرض لأقوال الناس في هذه المسألة من قائل بزيادة الإيمان ونقصانه إلى قائل بالزيادة دون النقصان إلى قائل بعدم الزيادة والنقصان قد ينقدح في ذهن القارىء تساؤل يطلب جوابه، وهو ما الذي أثار هذه القضية بين المسلمين، وجعلها تبحث هذا البحث، ويدور حولها هذا الجدل الطويل العريض بين متجاذبين منهم المحق ومنهم المبطل؟ أما كان الناس زمن الصحابة رضي الله عنهم يقرأون القرآن الكريم ويسمعون السنة النبوية ويعلمون منهما أن الإيمان يزيد وينقص، ويحس بذلك كل واحد منهم في نفسه وفي إخوانه وجلسائه، ولأجله كانوا يجلسون مجال ذكر وإيمان يطلبون فيها زيادة الإيمان ويجانبون مجالس اللغو واللهو، ويحذرون منها خشية نقصان الإيمان، ولا يعرف في أزمانهم مخالف لهم في ذلك، بل إن ذلك يعد بمثابة الإجماع منهم. فما الذي جعل بعض من جاء بعدهم يتشكك في هذا الأمر، ويستريب منه، ويضع دونه شبهاً واستفهامات؟ وما الذي جعل البعض يدعي أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص رغم وضوح الأمر وبيانه وعدم خفائه حتى إنه ليقال فيه إنه أمر معلوم من الدين بالضرورة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وما الذي كان وراء نشوء هذه المسألة وحدوثها بعد أن لم تكن معروفة قبل؟ فهذا سؤال يطرح نفسه – كما يقولون -، والجواب عنه أن يقال: الأمر كما ذُكر لم يكن بين الصحابة رضي الله عنهم أي خلاف في هذا الأمر بل ولا في غيره من مسائل أصول الدين وأساسياته، وإنما الخلاف في ذلك نجم بعدهم، وذر قرنه في أواخر زمانهم، والصحابة رضي الله عنهم كانوا أقل فتناً من سائر من بعدهم فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف، ولهذا لم تحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهرة، فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان بدعة الخوارج المكفرين لعليّ، وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو إلاهيته. ثم لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية، ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة، والمشبهة الممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك"1. وهكذا بدأت الفتن تتتابع، ونار الأهواء تضطرم وتتفاقم فكثرت البدع في الأمة وفشت، وتزايدت الفرق وكثرت حتى تحقق في الأمة قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" 2. ولا شك أن وراء تلك الفتن أناس حاقدون على الإسلام وأهله يسوؤهم انتشار هذا الدين ويغيظهم كثرة أهله فجهدوا في إضرام تلك   1 منهاج السنة النبوية لابن تيمية (6/ 231) . 2 تقدم تخريحه (ص 363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 النار وتفانوا في إشعالها أمثال عبد الله بن سبأ اليهودي، والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان وغيرهم من رؤوس الضلال. فهذا سبب نشوء البدع بعموم، أما بدعة القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه خاصة فسبب نشأتها يرجع إلى بدعة الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة والحكم بخلوده يوم القيامة في نار جهنم، فإن هذه البدعة جرت وراءها بدعاً، وبيان ذلك أن الخوارج لما قالوا ببدعتهم احتجوا لها بنصوص الوعيد والتهديد، وأهملوا ما يقابلها من نصوص الرجاء والثواب والمغفرة، فقابلتهم طائفة ببدعة أخرى فقالت: إن المعاصي ليس لها تأثير في الإيمان فالإيمان لا يضر معه ذنب كما أن الكفر لا ينفع معه طاعة، واحتجوا لقولهم هذا بنصوص الوعد والرجاء، وأهملوا نصوص الوعيد كلها فقابلوا بدعة الخوارج ببدعة مثلها. فجاءت المعتزلة وتوسطوا في الأمر حسب ظنهم فقالوا: إن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان لكنه لا يدخل في الكفر بل يكون في منزلة بين المنزلتين، أي بين منزلة الكفر ومنزلة الإيمان في الدنيا فأحدثوا بذلك بدعة ثالثة مع موافقتهم للخوارج في الحكم عليه بالخلود في النار. فالمرجئة جعلوه في منزلة الإيمان الكامل، والخوارج جعلوه في منزلة الكفر الكامل والمعتزلة لم يجعلوه لا في الكفر ولا في الإيمان، فهذه ثلاث بدع. والحقيقة أن هذه البدع الثلاث عائدة إلى اعتقاد الجميع أي الخوارج والمعتزلة والمرجئة أنه لا يجتمع مع الإيمان شيء من شعب الكفر أو شعب النفاق فإن وجد شيء من ذلك انتفى الإيمان كله عند الجميع. قال شيخ الإسلام: "والأصل الذي منه نشأ النزاع اعتقاد من اعتقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 أن من كان مؤمناً لم يكن معه شيء من الكفر والنفاق، وظن بعضهم أن هذا إجماع كما ذكر الأشعري أن هذا إجماع فهذا كان أصل الإرجاء ... فلما كان هذا أصلهم صاروا حزبين. قالت الخوارج والمعتزلة قد علمنا يقيناً أن الأعمال من الإيمان فمن تركها فقد ترك بعض الإيمان، وإذا زال بعضه زال جميعه لأن الإيمان لا يتبعض، ولا يكون في العبد إيمان ونفاق فيكون أصحاب الذنوب مخلدين في النار إذ كان ليس معهم من الإيمان شيء.. إلى أن قال: فقالت الجهمية والمرجئة: قد علمنا أنه ليس يخلد في النار أي مرتكب الكبيرة- وأنه ليس كافراً مرتداً بل هو من المسلمين، وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمناً تام الإيمان، ليس معه بعض الإيمان لأن الإيمان عندهم لا يتبعض فاحتاجوا أن يجعلوا الإيمان شيئاً واحداً يشترك فيه جميع أهل القبلة"1. أما كون الإيمان لا يجتمع معه شيء من شعب الكفر أو النفاق، فقد سبق أن أبطلته مستدلاً على إبطاله بنصوص كثيرة2، وكذلك جعل الإيمان كلاً واحداً لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله سبق التنبيه على بطلانه3. وأما عن موقف أهل السنة والجماعة من هذه المواقف الثلاثة أي من موقف الخوارج والمعتزلة، والمرجئة فيتلخص في: "أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولى القصاص، ولا تجري الحدود في   1 الفتاوى (13/ 48، 55) . 2 انظر ما سبق في (ص 353 وما بعدها، وص 380 وما بعدها) . 3 انظر ما سبق في (ص 350 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الزنى والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين، كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضاً، إذ قد جعل الله متركب الكبيرة من المؤمنين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى أن قال: {بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} 1، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بينهما. إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 2. ومتفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب، كما وردت به النصوص، لا كما يقوله المرجئة، من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا ينفع مع الكفر طاعة. وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة، تبين لك فساد القولين. ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى"3. وكذلك نستفيد منه فائدة أخرى، وهي وضوح وسطية أهل السنة والجماعة الحقة بين الإفراط والتفريط، وذلك في جمعهم بين النصوص وتأليفهم بينها.   1 سورة البقرة، الآية: 178. 2 سورة الحجرات، الآية: 10. 3 شرح العقيدة الطحاوية (2/ 442، 444) باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وخلاصة قول أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة انه يعد مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمناً بإيمانه فاسقاً بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم بكبيرته1. ثم إن المرجئة والخوارج والمعتزلة يستدلون بنصوص ظاهرها أن المؤمنين لا يعذبون، ويستدل المعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرها أن مرتكب الكبيرة لا يبقى مؤمناً، ويستدل الخوارج بنصوص ظاهرها أن ارتكاب بعض الكبائر كفر. وأهل السنة يجيبون عن الأولين، بأن المراد الإيمان الكامل، وعن الثالث بأنه كفر دون كفر، فهو كفر يقتضي نقص الإيمان لا زواله، ويدفع المرجئة الجواب المذكور بقولهم: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من الإيمان2. فهذا تلخيص موجز لأصل نشوء الخلاف في هذه المسألة، وسبب حدوثه، ومن المعلوم أن البدع تتوالد، وأن بعضها ينشأ من بعض، ومن يطالع كتب المقالات والفرق يعلم ذلك. ولنشوء البدع عموماً ثلاثة أسباب بها أختم هذا المبحث: أحدها: أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم، فيفتي بغير علم فيضل ويضل. والثاني: اتباع الهوى، ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم   1 انظر العقيدة الواسطية لابن تيمية (ص 151) شرح الهراس وانظر الفتاوى (7/241) . 2 انظر التنكيل للمعلمي (2/364) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 اتبعوا أهواءهم، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الإفتقار إليها والتعويل عليها، بل قدموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم. ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك. والثالث: التصميم على اتباع العوائد، وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق. ذكر هذه الأسباب الشاطبي في كتابه "الاعتصام"مفصلة ثم قال: "وهذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد وهو: الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم، ألا ترى أن الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يعني- والله أعلم- أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم لأن الفهم راجع إلى القلب، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف فقط، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم"1. فالجهل بدين الله، وعدم البصيرة فيه، وترك التفقه في الكتاب والسنة، وعدم التعويل عليهما، والرجوع إليهما في مسائل الدين، أصل كل ضلال، وجميع ما مر بنا من بدع وأخطاء ومخالفات في مسائل الإيمان، وكذلك ما لم يمر فيه وفي غيره، مرجعه الرئيس وأساسه الأول، هو هذا.   1 الاعتصام (2/ 182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وما أجمل ما كان يردده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مناسبات عديدة إذ يقول: "من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول"1. وفقنا الله للتمسك بكتاب والاعتصام بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وحمانا بمنه وكرمه من البدع والأهواء المضلة.   1 مفتاح دار السعادة لابن القيم (ص 90) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 المبحث الثاني: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أو لا؟ ذهب جماعة من المتكلمين منهم الرازي والجويني وغيرهما إلى أن الخلاف في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أي أن من قال إن الإيمان إعتقاد وقول وعمل فالإيمان عنده يزيد ينقص باعتبار زيادة الأعمال ونقصانها، ومن أخرج العمل من مسمى الإيمان عنده لا يزيد ولا ينقص لعدم إمكان حصول الزيادة والنقصان في التصديق لما يقتضيه في رأيهم من الشك والريب1. قال الجويني: "فمن أطلق اسم الإيمان على الطاعات كلها يقول على مساق أصله، يزيد الإيمان بزيادة الطاعات وينقص بنقصها، ومن قال الإيمان هو التصديق فمن علم وعرف حقاً فلا يتفاوت التصديق بالأعمال زادت أو نقصت"2. قال البيهقي في باب "القول في زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل   1 انظر العقيدة النظامية للجويني (ص388) ، وشعب الإيمان للبيهقي (1/159) ، والمواقف للإيجي (ص388) ، وشرح العقائد النسفية للتفتازاني (ص125) ، والنبراس شرح العقائد للفرهاري (ص405) ، وروح المعاني للألوسي (9/116) ، وعمدة القاري للعيني (1/107) ، وفيض الباري للكشميري (1/62) ، والإيمان لمحمد نعيم ياسين (ص151) . 2 العقيدة النظامية للجويني (ص90) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 أهل الإيمان في إيمانهم"من شعبه: "وهذا يتفرع على قولنا في الطاعات أنها إيمان، وهو أنها إذا كانت إيماناً كان تكاملها تكامل الإيمان وتناقصها تناقص الإيمان، وكان المؤمنون متفاضلين في إيمانهم كما هم يتفاضلون في أعمالهم"1. وقال الإيجي: "قال الإمام الرازي وكثير من المتكلمين: هو فرع تفسير الإيمان، فإن قلنا هو التصديق فلا يقبلهما لأن الواجب هو اليقين وأنه لا يقبل التفاوت لأن التفاوت إنما هو لإحتمال النقيض وهو ولو بأبعد وجه ينافي اليقين، وإن قلنا هو الأعمال فيقبلهما وهو ظاهر"2. وجميع هؤلاء بنوا قولهم المذكور على أصل فاسد عندهم وهو أن التصديق لا يقبل الزيادة أو النقصان، وقد سبق أن رددت هذا القول وبينت فساده بالنقل عن العلماء المحققين في ذلك، بما لا يدع مجالاً للتردد في أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان دون أن يقتضي ذلك شكاً أو ريباً في الإيمان لكن أضيف إلى ما تقدم أمرين: الأول: ما ذكره السفاريني حول هذه المسألة على الخصوص حيث قال: "هل قبول الإيمان للزيادة والنقصان مختص بقول السلف ومن تبعهم إن الإيمان تدخل فيه الأعمال.. أو يعم القول بأن الإيمان التصديق أيضاً؟ الحق كما قاله النووي وجماعة محققون من علماء الكلام، أن الزيادة والنقصان تدخل الإيمان ولو قلنا: إنه التصديق والإذعان لأن التصديق القلبي يزيد وينقص أيضاً بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم   1 شعب الإيمان للبيهقي (1/159) . 2 المواقف للإجي (ص 388) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ذلك ... وما اعترض عليه به من أنه متى قبل ذلك كان شكاً، فمدفوع بأن مراتب اليقين متفاوته إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، مع أنها لا شك معها ... "1. ثم ذكر بعض النصوص المؤيدة لذلك. الثاني: ما ذكره الألوسي بعد أن أشار إلى القول المتقدم حيث قالا: "واعترض على هذا بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده، أما أولاً فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصاً، وأما ثانياً فلأن أحداً لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال، ونحن إنما نقول: إنها شرط كمال فيه، فلا يلزم عند الانتفاء إلا انتفاء الكمال، وهو غير قادح في أصل الإيمان"2. قلت: وإنما سقت الاعتراض مع الجواب عنه ليعلم فقط، لا لكونه متوجهاً.   1 لوامع الأنوار البهية (1/430، 431) ، من الأمثلة الموضحة لمراتب اليقين، اليقين بالموت، فإن كل أحد عنده علم اليقين بأنه يموت، فإذا عاين ملائكة الموت عند الحشرجة وقبل قبض الروح كان عين اليقين فإذا مات بالفعل وصل إلى درجة حق اليقين، انظر تفسير المنار (11/87) . 2 روح المعاني للألوسي (9/166،167) ، و (26/ 92، 93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ثم قال الألوسي: "والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه فما المانع من تفاوته قوة وضعفاً كما في التصديق بطلوع الشمس والتصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير ... "1. وقال: "قال النووي وجماعة محققون من علماء الكلام: إن التصديق القلبي يزيد وينقص أيضاً بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل واحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً منه في بعضها فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. واعترض بأنه متى قبل ذلك كان شكاً، ودفع بأن مراتب اليقين متفاوته إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، مع أنها لا شك معها، وممن وافق النوري على ما جزم به السعد في القسم الثاني من تهذيبه"2. قلت: وبهذا يعلم فساد حمل القول بزيادة الإيمان ونقصانه على القول بإدخال العمل في مسمى الإيمان، لكن أزيد الأمر بياناً وتأكيداً فأقول: إن القول بأن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه عائد إلى تعريف الإيمان متعقب من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: هو أن السلف وقد قالوا بدخول العمل في مسمى الإيمان لا يرون أن الزيادة والنقصان فيه متعلقة   1 المصدر السابق (9/ 167) . 2 المصدر السابق (26/ 93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بالأعمال فقط، وإنما هو يزيد وينقص عندهم باعتبارات متعددة وبأوجه مختلفة سبق ذكرها والتدليل عليها في مبحث مستقل. فعلى هذا فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه عند السلف ليس مبنياً على إدخال الأعمال في مسمى الإيمان. الثاني: أن بعض من اعتبر أن الإيمان هو التصديق فقط والعمل خارج من مسماه، يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه لكونهم يرون أن التصديق يزيد وينقص، وقد سبقت الإشارة إلى بعضهم. وعليه أيضاً فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه لا تعلق له عندهم في دخول العمل في مسمى الإيمان. الثالث: أن الخوارج والمعتزلة وقد قالوا بدخول العمل في مسمى الإيمان يرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، مع أن الأعمال داخلة فيه، كما سبق ذكر مذهبهم. فلا تأثير إذن لدخول الأعمال في مسمى الإيمان عندهم على زيادة الإيمان ونقصانه. بقي أن يقال إن المرجئة القائلين بأن الإيمان هو التصديق وحده، أو هو التصديق والقول، والعمل خارج من مسماه، والقائلين بأن التصديق لا يقبل الزيادة والنقصان مطلقاً، قد رأوا أن الأعمال تزيد وتنقص وتتفاضل لكنها خارجة من مسماه عندهم، فتوهموا أن من أدخل العمل في مسماه قال بزيادة الإيمان ونقصانه لذلك، وأن من أخرج العمل من مسماه قال بأنه لا يزيد ولا ينقص، وعليه رأوا أن الخلاف في المسألة يرجع إلى الخلاف في تعريف الإيمان ومن ثم أيضاً رأوا أن الخلاف في المسألة لفظي، فكل ذلك نتج بسبب ذاك التوهم ولقد انطبق عليهم في هذا قول القائل: "أناس مضوا تحت التوهم ظنوا أن الحق معهم وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الحق وراءهم1!!.   1 انظره في سير أعلام النبلاء (17/121) ، وقد تعقب الذهبي قائله بتعقب مليح، فليطالع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 المبحث الثالث: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي؟ كأن معالم هذا الموضوع والقول الفصل فيه بان واتضح في عطف المبحث السابق، لكن ذلك لا يمنع من أن نفرده هنا ليأخذ نصيبه من البحث والتجلية، وبخاصه أنني قد وقفت على كم هائل من أقوال للمتكلمين يزعمون فيها أن الخلاف في هذه المسألة لفظي وليس حقيقياً، وصوري وليس جوهرياً"1. وهذا القول منهم مبني على وهمهم السابق الذي تقدم التنبيه عليه وعلى غلطه. ولا أطيل بالنقل عن كل من وقفت على أنه قال بذلك، وإنما اكتفي بالإشارة إلى بعضهم فقط ولاسيما وأن دعوى الجميع واحدة وشبهتهم متكررة وهي: إعادتهم الخلاف في المسألة إلى الخلاف في تعريف الإيمان2.   1 انظر المسامرة شرح المسايرة (ص 373) ، والنبراس شرح العقائد (ص 405) ، واتحاف السادة المتقين (2/ 261) ، وحاشية الكستلي على النسفية (ص 158) ، وجوهرة التوحيد (ص 12) ، وفيض الباري (1/ 59، 63، 64) وتحفة القاريء (ص 48، 56) ، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي (ص 235) ، والإيمان لمحمد نعيم ياسين (ص 151) ، وغيرها. 2 مع أن الخلاف في تعريف الإيمان نفسه خلاف حقيقي جوهري كما سيأتي التنبيه عليه قريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 قال الكستلي في حاشيته على النسفية: "ولهذا ذهب الإمام الرازي وكثير من المتكلمين إلى أن هذا النزاع لفظي، راجع إلى تفسير الإيمان وهو التحقيق الذي يجب أن يعول عليه"1. وقال الفرهاري في النبراس شرح العقائد: "وملخص كلامهم أن النزاع لفظي لأنه فرع تفسير الإيمان، فإن قلنا الإيمان هو التصديق فلا يقبل التفاوت إنما هو في الظن، وإن قلنا الأعمال داخلة فيه فهو يقبله"2. وقال كمال بن أبي شريف: "فلا خلاف في المعنى بين القائلين بقبوله الزيادة والنقصان والنافين لذلك"3. وقال الزبيدي في الإتحاف: "وجدت بخط بعض المصلحين ما نصه: قال الإمام البحث في زيادة الإيمان ونقصانه لفظي لأنه إن كان المراد بالإيمان التصديق فلا يقبلهما، وإن كان الطاعات فيقبلهما، فالطاعات مكملة التصديق، فكلما قام من الدليل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان4 كان مصروفاً إلى أصل الإيمان الذي هو التصديق وكل ما دل على كون الإيمان يقبل الزيادة والنقصان فهو مصروف إلى الكامل وهو المقرون بالعمل"5.   1 حاشية الكستلي على النسفية (ص 158) . 2 النبراس (ص 405) . 3 المسامرة شرح المسايرة (ص 373) . 4 لم يقم أي دليل البتة على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لا شرعاً ولا عقلاً ولا عرفاً، خلا تلك الأحاديث الموضوعة، ولعلها المقصودة هنا!! 5 إتحاف السادة المتقين (2/ 261) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 فهكذا يزعم جميع هؤلاء وغيرهم أن الخلاف في المسألة لفظي، وإنني لأتساءل كيف يكون لفظياً وهو يناقض القرآن والسنة، ويخالفهما تماماً، وهو على الضد تماماً لما جاء فيهما، حتى أوقع أهله في مصادمات صريحة ومعارضات واضحة لنصوص الوحي المصرحة بزيادة الإيمان ونقصانه، مما أداهم إلى التكلف في تأويلها وصرفها عن ظاهرها، وعدم التسليم لها، كما سبق تفصيله وبيان ما ترتب عليه من فساد وشر في مبحث مستقل، فلو كان كما يقولون إنه لفظي فما الداعي إلى تلك التأويلات المتكلفة والتعسفات الواضحة في حمل النصوص على غير ظواهرها، أفلا أراحوا المسلمين من ذاك الغثاء إن كان الخلاف لفظياً؟ بل كيف يكون لفظياً والقولان متضادان تماماً ومتغايران، أحدهما ينفي، والآخر يثبت في شيء واحد فهل من جمع بين ضدين أو تأليف بين نقيضين، فلو قال أحد- على سبيل المثال- عن شيء هو موجود، وقال غيره هو غير موجود، هل يمكن أن يقال إن خلافهما لفظي، إلا بتفلسفات متعسفة أو منطقيات متكلفة، ما أنزل الله بها من سلطان. وكيف يكون الخلاف لفظياً وقولهم هذا يؤدي إلى إضعاف الإيمان، وعدم الاكتراث بأموره، والتهوين من شأن زيادته وقوته، فإن العلماء إذا قالوا للناس إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأهله متساوون فيه، وإيمان جبريل والأنبياء والإيمان أفجر الناس واحد، ولا تفاضل بين الناس في الإيمان فهل ينتظر بعد ذلك من الناس الإقبال على أمور الإيمان ومتطلباته علماً وعملاً، لا إخال ذلك يحصل البتة. ولهذا يقول المعلمي رحمه الله تعالى في رده على الكوثرى: "وهذا القول- أي أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 الإيمان- قد كان أبو حنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري إنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان عمل، ولا غرض في النظر في هذا وتتبع الروايات. بل أقول: تلك الموافقة التي يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة، أما من لم يعرف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح، وأما من عرف فيكفي لإنكار القول أنه مخالف للأدلة كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يقتدي بأبي حنيفة ولا يعلم قوله أن أهل المعاصي يعذبون فيغتر بذلك، وقد يبلغ بعضهم قولاه معاً فلا يلتفتون إلى الثاني بل يقولون: رأس الأمر الإيمان، فإذا كان إيمان الفجار مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب، وقد دلت النصوص على أن المؤمنين لا يعذبون؟! ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل، يقول أحدهم لم أعذب نفسي في الدنيا بما لا يزيد في إيماني شيئاً، حسبي أن إيماني مساو لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين، قائلين: أعظم ما عندهم الإيمان، وأفجر الفجار مساو لهم فيه! وإذا كان أبو حنيفة كما يقول الكوثري يرى أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فقد يبلغ هذا بعض الناس فيقول: إذا كنت لا أصير مؤمناً إلا بأن يكون يقيني مساوياً ليقين جبريل ومحمد عليهما السلام فهذا ما لا يكون، ففيم إذا أعذب نفسني بالأعمال فأجمع عليها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟ وبعد فيكفي مبرراً لإنكار ذاك القول مخالفته للنصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الشرعية"1 قلت: وليتأمل كلامه رحمه الله فهو يدل على علم جم، وفهم ثاقب، ومعالجات حكيمة، أسكن الله قائله فراديس جناته. ولهذا صرح بعض محققي هؤلاء بأن الخلاف في المسألة جوهري وليس لفظياً، كما سبق النقل عن بعضهم في ذلك، مثل النووي والألوسي وغيرهما، حتى إن الألوسي رحمه الله قال: "والحق أن الخلاف حقيقي، وأنا التصديق يقبل التفاوت.. وما علي إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه، للأدلة التي لا تكاد تحصى، فالحق أحق بالإتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام"2. ثم كيف يكون الخلاف لفظياً رقد كفر بعض هؤلاء من قال إن الإيمان يزيد وينقص وبدعوه، وحرموا تزويجه، وتجرأوا بذلك على صدر هذه الأمة من صحابة وتابعين الخيار العدول، فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه قولهم، والكتاب والسنة هو مستندهم فيه، فهل يجرؤ على تبديع هؤلاء فضلاً عن تكفيرهم إلا من سفه نفسه وحكم بغيها؟! ولئن عد الخلاف مع بعض هؤلاء لفظياً- تجوزاً- لخفة غلطهم عن غيرهم ممن زاد في الغلو وأوغل في الضلال، فإنه لا يعد كذلك بأي حال من الأحوال ولا أي وجه من الوجوه مع أولئك الذين أوغلوا في الضلال فكفروا من قال إن الإيمان يزيد وينقص وبدعوه، وكذبوا في ذلك أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقحموا أموراً عظاماً، ورزاياً جساماً،   1 التنكيل (2/ 365) . 2 روح المعاني (9/ 167) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وهم كثر. فإن البون بين هؤلاء وبين أهل السنة شاسع، والهوة عميقة، ولا مهاودة في الأمر، إلا أن يخوضوا في حديث غيره، ويعيدوا الأمر إلى نصابه. وتأكيداً لما أقرره هنا من أن الخلاف في المسألة جوهري حقيقي وليس لفظياً صورياً، أذكر نقلين مهمين عن عالمين جليلين، من فحول علماء عصرنا، هما سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، حفظهما الله وأمد في عمرهما على طاعته. قال الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله معلقاً على قول الطحاوي: "والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان" "هذا التعريف فيه نظر وقصور، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها فراجعها إن شئت، وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة، وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظياً، بل هو لفظي ومعنوى، ويترتب عليه أحكام كثيرة، يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة والله المستعان"1. وقال الشيخ الألباني حفظه الله معلقاً على الموضع نفسه: "قلت: هذا مذهب الحنفية والماتريدية، خلافاً للسلف وجماهير الأئمة كمالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وغيرهم، فإن هؤلاء زادوا على الإقرار والتصديق: العمل بالأركان وليس الخلاف بين المذهبين اختلافاً صورياً   1 انظر تعليقاته على الطحاوية (1/ 265) من مجموع فتاواه ومؤلفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 كما ذهب إليه الشارح رحمه الله تعالى، بحجة أنهم جميعا اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان، وأنه في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، فإن هذا الاتفاق وإن كان صحيحاً، فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير مخالفة حقيقية في إنكارهم أن العمل من الإيمان، لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادته بالطاعة، ونقصه بالمعصية، مع تضافر أدلة الكتاب والسنة والآثار السلفية على ذلك، وقد ذكر الشارح طائفة طيبة منها، ولكن الحنفية أصروا على القول بخلاف تلك الأدلة الصريحة في الزيادة والنقصان، وتكلفوا في تأويلها تكلفاً ظاهراً، بل باطلاً، ذكر الشارح نموذجاً منها. بل حكى عن أبي المعين النفسي أنه طعن في صحة حديث "الإيمان بضع وسبعون شعبة".. مع احتجاج كل أئمة الحديث به ومنهم البخاري ومسلم في "صحيحيهما"وهو مخرج في "الصحيحة""1769"وما ذلك إلا لأنه صريح في مخالفة مذهبهم! ثم كيف يصح أن يكون الخلاف المذكور صورياً، وهم يجيزون لأفجر واحد منهم أن يقول: إيماني كإيمان أبي بكر الصديق! بل كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليهم الصلاة والسلام! كيف وهم بناءاً على مذهبهم هذا لا يجيزون لأحدهم- مهما كان فاسقاً فاجراً- أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، بل يقول أنا مؤمن حقاً والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 1. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ   1 سورة الأنفال، الآية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 قِيلاً} 1 وبناءًا على ذلك كله اشتطوا في تعصبهم فذكروا أن من استثنى في إيمانه فقد كفر! وفرعوا عليه أنه لا يجوز للحنفي أن يتزوج بالمرأة الشافعية! وتسامح بعضهم- زعموا- فأجاز ذلك دون العكس، وعلل ذلك بقوله: تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب! وأعرف شخصاً من شيوخ الحنفية خطب ابنته رجل من شيوخ الشافعية فأبي قائلاً ... لولا أنك شافعي! فهل بعد هذا مجال للشك في أن الخلاف حقيقي؟ "2. وبهذا التحقيق الجيد، يعلم أن الخلاف في المسألة حقيقي جوهري، وبخاصة أنه قد أدى إلى ما أدى إليه ما انحراف ظاهر وضلال بين، وصار ذريعة إلى باع أهل الكلام وإلى ظهور الفسق والغلط في جوانب عديدة3. قال شيخ الإسلام "فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله ولاسيما وقد صار ذلك الخلاف ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الأرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق"4.   1 سورة النساء، الآية 22. 2 العقيدة الطحاوية شرح وتعليق الألباني (ص 42، 43) . 3 ولهذا كان ابن أبي العز حذراً في كلامه عندما أشار إلى أن الخلاف لفظي في هذه المسألة ما لم يؤدي إلى مثل هذه الأمور، حيث قال: "وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى أهل الكلام المذموم من بدع أهل الإرجاء ونحوهم " انظر شرح العقيدة الطحاوية (2/470) . قلت: كل ذلك حصل وأكثر، فهل لا يزال الخلاف لفظياً؟ 4 الفتاوى (7/294) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 ولهذا فإن سلفنا الصالح، اشتد نكيرهم على هذا القول من أول حدوثه، رغم خفته عما هو عليه الآن، فلما قال به حماد بن أبي سليمان وهو أول من قال به، ثم تبعه عليه من تبعه من أهل الكوفة وغيرهم، أنكر عليهم السلف أشد الإنكار وأغلظوا القول فيهم، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى حيث قال: "ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء وتبديعهم وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحداً منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك وقد نص أحمد أو غيره من الأئمة على عدم تكفير هؤلاء المرجئة، ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيراً لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم فقد غلط غلطاً عظيماً والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة وأمثال هؤلاء"1. ومرادي من هذا النقل التدليل على أن السلف الصالح اشتد نكيرهم وأغلظوا القول فيمن قال بالإرجاء، ولهذا سمى أبو عبيد القاسم بن سلام من قال بأن الإيمان يزيد وبنقص -وعدد الذين ذكرهم جاوز المائة والثلاثين رجلاً- ومرادهم بذلك إظهار المخالفة لمن قال بعدم الزيادة والنقصان "ذكر من الكوفيين من ذلك أكثر مما ذكر من غيرهم؛ لأن الإرجاء في أهل الكوفة كان أولاً فيهم أكثر، وكان أول من قاله حماد بن أبي سليمان، فاحتاج علماؤها أن يظهروا انكار ذلك، فكثر منهم من قال ذلك"2. ومثل هذا ما رواه اللالكائي بإسناده عن يعقوب بن سفيان أنه قال:   1 الفتاوى (7/ 507) . 2 الفتاوى (7/311) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 "الإيمان عند أهل السنة: الإخلاص لله بالقلوب والألسنة والجوارح، وهو قول وعمل يزيد وينقص، على ذلك وجدنا كل من أدركنا من عصرنا بمكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة". ثم سمى اثنين وثلاثين رجلاً منهم ثم قال: "كلهم بقولون: الإيمان القول والعمل، ويطعنون على المرجئة وينكرون قولهم"1. فإذا كان انكار السلف لهذا الأمر بهذه الشدة والكثرة، فهل يقال بعد ذلك إن هذا القول من بدع الألفاظ ومن المخالفات اللفظية فحسب، مع العلم أن النزاع في الأمور اللفظية ليس من دأب المحصلين فضلاً عن هؤلاء الجهابذة والأئمة من السلف الأولين. وهل يكون هذا القول من بدع الألفاظ، رغم أن السلف انكروه بتلك الشدة وامتلأت كتب السنة بالنقول الكثيرة عنهم وهم يصرحون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، حتى إنه ليحصى عدد من قال ذلك بالألوف، مظهرين بذلك النكير على من قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. فهل كل ذلك الإنكار، وكل تلك الشدة لأمر يعد من بدع الألفاظ. وعليه فإني أقطع بلا تردد بأن هذا القول بدعة محدثة، والبدع كلها ضلال، وأقطع بأن من خالف في ذلك فقد خالف في أمر جوهري أساسي، ينكر عليه، ولا يتهاود معه، حتى يعود إلى الحق والصواب، وهذا من النصيحة له، حتى تبقى رابطة الأخوة الإيمانية وعلائق المحبة الصادقة، المبنية على طاعة الله تعالى، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. وبهذه المناسبة أقول: إني لأعجب كثيراً من أناس في زماننا هذا   1 انظر شرح الاعتقاد للالكائي (5/ 963، 964) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 تصدوا للدعوة إلى الله، وبذلوا جهودهم وأوقاتهم لها، يقفون من أمور العقيدة ومسائلها مواقف مخذولة، فيميعون مسائلها ويهونون من شأن المخالفة فيها، ويعدون المخالفين لأهل السنة في أمور من صلب الاعتقاد وجوهره، مخالفين في أمور شكلية لفظية، طالما أنهم يشهدون بكلمة التوحيد ويقرون بالرسالة في الجملة بغض النظر عن التفاصيل. وليس هذا فحسب بل يقررون في ذلك قواعد كلية يبنون عليها مناهجهم ويحتكمون إليها في أمورهم، وأيم الله إنها لقواعد جائرة ما أنزل الله بها من سلطان، ومن هذه القواعد تلك القاعدة المشهورة، والتي تبنتها جماعة كبيرة متصدية للدعوة في عصرنا الحاضر، تلكم القاعدة هي قولهم: "نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ". والحق يقال: إن هذه القاعدة تحمل في طياتها خطراً عظيماً، وضرراً جسيماً ينبغي الحذر والتحذير منه، حيث أنها تعني السكوت عن أهل البدع والأهواء، وعدم مصارمتهم ومعاداتهم وبغضهم، بل تعني أنهم يحبون ويوالون ويجالسون ويعاملون معاملة أهل السنة سواء، فمواضع الخلاف بيننا وبينهم نعذرهم فيها على حد تعبير هذه القاعدة، ومن ثم لا نعلن النكير عليهم ولا ننبه المسلمين على خطرهم وضررهم. وعندئذ لا تسأل عن نشاط أهل البدع في نشر بدعهم وترويج باطلهم، إذ الطريق أمامهم سالكة، فليس هناك من ينكر أو يعكر عليهم نشاطهم، فينشرون باطلهم ويسعون في الأرض بالفساد، بكل راحة نفس وطمأنينة قلب، ونفوس أهل هذه القاعدة منشرحة لهم فيقابلون هؤلاء بطلاقة الوجه، ورحابة الصدر، وحسن المعاملة، ثم يزعمون أن فعلهم هذا من الحكمة في الدعوة إلى الله!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 "ومعاذ الله أن تكون الدعوة على سنن الإسلام مظلة يدخل تحتها أي من أهل البدع والأهواء، فيغض النظر عن بدعهم وأهوائهم على حساب الدعوة"1. والحق أن هؤلاء مكر الشيطان بهم بخفاء، ودبر أمرهم بدهاء، فأوقعهم في الإساءة من حيث أرادوا الإحسان، قال ابن القيم رحمه الله بعد أن بين أن هذا مدخل من مداخل الشيطان على أهل السنة والإيمان: " ... ومن ههنا وصى أطباء القلوب بالإعراض عن أهل البدع، وأن لا يسلم عليهم، ولا يريهم طلاقة وجهه، ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض"2. ثم إنه نتيجة لحكمة هؤلاء المزعومة، أطلَّ أهل الأهواء برؤوسهم، وشمخوا بأنوفهم، وصاروا يمكرون بالسنة وأهلها علناً وجهراً، من بعد ما كانوا يكيدون لها في السر والخفاء، مع الخوف والوجل، فكل هذا وغيره إنما حصل بسبب مثل هذه المواقف المخذولة، والآراء المهزوزة والله وحده المستعان.   1 حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية للشيخ بكر أبو زيد (ص 153) . 2 إغاثة اللهفان (1/140) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 الباب الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان تمهيد: كان الكلام في البابين السابقين عن مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، أما الكلام هنا فسيكون عن مسألة مهمة من مسائل الإيمان هي مسألة الاستثناء في الإيمان؟ وذلك بأن يجيب من يسأل هل هو مؤمن؟ بصيغة من إحدى صيغ متعددة تشعر بعدم القطع كأن يقول: أرجو، أو إن شاء الله، أو آمنت بالله، أو نحو ذلك من الصيغ. ومسألتنا هذه ذات ارتباط وثيق وعلاقة وطيدة بمسألتنا السابقة وذلك لأن من كان مذهبه أن الإيمان يزيد وينقص وأن أهله يتفاضلون فيه يرى الاستثناء في الإيمان على اعتبار أنه لا يقطع بتكميل الإيمان وبالإتيان به على الدرجة العالية المطلوبة، بخلاف من يرى أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يزيد ولا ينقص وأن أهله فيه سواء فصاحب هذا القول يرى عدم جواز الاستثناء في الإيمان ويقطع بإيمانه، بل ويعد من استثنى في إيمانه شاكًا. وبهذا يعلم مدى صلة هذه المسألة بمسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وإن كان الجميع يعد من مسائل الإيمان ومباحثه المهمة. ومما يوضح قوة صلة هذه المسألة بسابقتها أن هذه المسألة تبحث دائماً في كتب العقيدة تلو مسألة زيادة الإيمان ونقصانه للارتباط بين المسألتين ولتعلق نتائج كل بنتائج الأخرى، وهذا يعلم بمطالعة كتب العقيدة. ثم بين المسألتين ارتباط من جهة أخرى وهي أن كلتا المسألتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 حدث الخوض فيهما بسبب الإرجاء الذي نشأ في الأمة بفعل أهل الأهواء، ولهذا ذم سلف الأمة الإرجاء وما يشتمل عليه من عقائد منحرفة، منها عدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه ومنها القطع بالإيمان عند الله وبكمال الإيمان. يقول محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: "احذروا رحمكم الله قول من يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، ومن يقول: أنا مؤمن عند الله، وأنا مؤمن مستكمل الإيمان، هذا كله مذهب أهل الإرجاء"1. ثم ساق بسنده إلى الأوزاعي أنه قال: "ثلاث هن بدعة: أنا مؤمن مستكمل الإيمان، وأنا مؤمن حقاً، وأنا مؤمن عند الله تعالى"2. وأول الخوض في مسألة الاستثناء هذه وسببه هم المرجئة، بل إن أصل الإرجاء وأس نشأته هو ترك الاستثناء في الإيمان، كما قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "إذا ترك الاستثناء فهو أصل الإرجاء"3، وفي لفظ آخر له "أول الإرجاء ترك الاستثناء"4، وفي لفظ ثالث له: "أصل الإرجاء من قال إني مؤمن"5. ولهذا كان أئمة السلف كالإمام أحمد وغيره يكرهون سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب عن ذلك؛ لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر،   1 الشريعة للآجري (ص 146) . 2 المصدر السابق. 3 رواه الآجري في الشريعة (ص 136) ، وابن بطة في الإبانة (2/871) . 4 رواه الخلال في السنة (3/598) . 5 رواه الطبري في تهذيب الآثار برقم (1023) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 بل يجد قلبه مصدقاً بما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق، لأنه يجزم بأنه مؤمن، ولا يجزم بأنه فعل كما أمر به. فلما علم السلف مقصدهم ذلك صاروا يكرهون الجواب أو يفضلون فيه1 بل ويعدون السؤال هذا بدعة محدثة، وما أروع ما قاله الأوزاعي في هذا، وذلك حينما سئل عن الرجل يسأل الرجل أمؤمن أنت؟ فأجاب رحمه الله: "إن المسألة عما تسأل عنه بدعة والشهادة به تعمق لم نكلفه في ديننا، ولم يشرعه نبينا، ليس لمن يسأل عن ذلك فيه إمام، القول به جدل والمنازعة فيه حدث. ولعمري ما شهادتك لنفسك بالتي توجب لك تلك الحقيقة إن لم تكن كذلك، وما تركك الشهادة لنفسك بها بالتي تخرجك من الإيمان إن كنت كذلك، وإن الذي يسألك عن إيمانك ليس يشك في ذلك منك، ولكنه يريد ينازع الله تبارك وتعالى علمه في ذلك حتى تزعم أن علمه وعلم الله في ذلك سواء فاصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا وكف عما كفوا واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم، وقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعدما ورد عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم فأشربها قلوب طوائف منهم واستحلتها ألسنتهم وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف. ولست بآيس أن يدفع الله عز وجل شر هذه البدعة إلى أن يصيروا إخوانا في دينهم ولا قوة إلا بالله.   1 الفتاوى لابن تيمية (7/448) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ثم قال: لو كان هذا خيراً ما خصصتم به دون أسلافكم فإنه لم يدخر عنهم شيء خبيء لكم دونهم لفضل عندكم، وهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله له وبعثه فيهم ووصفه بهم فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً..} 1، إلى آخر السورة2،ا. هـ. قلت: يرحمه الله ما أروع بيانه، وما أجود نصحه وتبيانه، ولا والله لا خير فيمن لم يسعه ما وسعهم فإنهم عن علم ثاقب وقفوا، وعن بصيرة نيرة كفوا، والخير كل الخير في اتباعهم. ثم إن الآثار المروية عن السلف يرحمهم الله في ذم الإرجاء بعامة، وفي ذم ترك الاستثناء وذم سؤال الناس عن إيمانهم بخاصة كثيرة جداً، وكذلك النصوص عنهم في تبديع أهل هذه المسائل كثيرة، وسيأتي شيء منها في بحث قادم إن شاء الله تعالى. ثم إنه لما خاض هؤلاء في هذه المسألة بباطل، وقلبوا فيها الأمور، وناقضوا الحقائق، لزم أهل الحق أن يتصدوا لهذا التيار وأن يجابهوا هذا الباطل بدحضه ورده وإحقاق الحق مكانه، لهذا كثر كلام أهل السنة في هذه المسألة وطال نقاشهم وردهم لهذا الباطل في كتبهم المفيدة ورسائلهم العديدة فنفع الله بها من شاء من خلقه. وإني لأرجو الله أن يكون ما أكتبه هنا خرزة في ذلك العقد المبارك، فيه تهذيب لقول من سلف ونصر له، وإبطال لقول من خلف ودحض له،   1 سورة الفتح، الآية: 29. 2 رواه ابن بطة في الإبانة (2/ 882) ، والآجري في الشريعة (ص 42 1) ، والخلال في السنة (3/568) ، وذكره الذهبي في السير (8/543) ووصفه بأنه فصل نافع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 على رسم أهل السنة ووفق منهجهم، إن ربي لسميع الدعاء. هذا، وإن أقوال الناس في مسألتنا هذه إجمالاً تنحصر في ثلاثة أقوال: 1- قول أنه يجب الاستثناء ومن لم يستثن كان مبتدعاً. 2- وقول أن الاستثناء محظور، فإنه يقتضي الشك في الإيمان. 3- والقول الثالث أوسطها وأعدلها أنه يجوز الاستثناء باعتبار وتركه باعتبار، وهذا أصح الأقوال، وهو قول أهل السنة والجماعة1. فهذه ثلاثة أقوال في المسألة سأجعل كل واحد منها -بحول الله- في فصل مستقل، وأبدأ أولاً بقول أهل السنة والجماعة تقديماً للحق، على غيره وبالله التوفيق.   1 انظر الفتاوى لابن تيمية (13/40) و (7/ 429 و 681) ، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/494) ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/432) وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 الفصل الأول: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الاستثناء في الإيمان يشتمل هذا الفصل المعقود لبيان مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الاستثناء في الإيمان على أربعة مباحث مهمة، أرجو أن تكون وافية بالمقصود محققة للمنشود، وهي: المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه . المبحث الثاني: نقل أقوالهم في الاستثناء مع التوفيق بينها. المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ "أمؤمن أنت". المبحث الرابع: حكم الاستثناء في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه إن مجمل قول أهل السنة والجماعة في هذه المسألة هو أن الاستثناء في الإيمان جائز مشروع؛ لأن الإيمان عندهم شامل للاعتقادات والأقوال والأعمال، فإذا سئل أحدهم هذا السؤال استثنى في إيمانه مخافة عدم تكميل الأعمال التي بكمالها يكمل الإيمان فيقول أحدهم إذا أجاب أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو أو نحو ذلك. وليس هذا منهم شكاً في أصل الإيمان معاذ الله. فهم أعلى وأرفع من ذلك، وإنما هو ترك لتزكية النفس والشهادة لها بتكميل الأعمال لهذا وقع منهم الاستثناء في الإيمان. ولهم على ذلك دلائل وشواهد كثيرة من الكتاب والسنة يأتي ذكرها قريباً وعلى هذا مضى مذهبهم واتفقت كلمتهم. قال يحيى بن سعيد القطان: "ما أدركت أحداً من أصحابنا ولا بلغنا إلا على الاستثناء"1. وقال الوليد بن مسلم: "سمعت أبا عمرو يعني الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز ينكرون أن يقول أنا مؤمن ويأذنون في   1 رواه الخلال في السنة (3/ 595) ، وعبد الله في السنة (9/310) ، والآجري في الشريعة (ص 138) ، وابن بطة في الإبانة (2/871) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 الاستثناء أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله"1. وقال البيهقي: "وقد روينا هذا - يعني الاستثناء في الإيمان- عن جماعة من الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما مذهب سلف أصحاب الحديث كابن مسعود وأصحابه والثوري وابن عيينة وأكثر علماء الكوفة ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء أهل البصرة، وأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة، فكانوا يستثنون في الإيمان، وهذا متواتر عنهم.. "3. وقال: "والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث وهو المنسوب إلى أهل السنة أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه"4. وقال: "الاستثناء في الإيمان سنة عند أصحابنا وأكثر أهل السنة"5، ومعنى قوله الاستثناء سنة أي: جائز، ردا على من نهى عنه وحرمه. وسيأتي في مبحث مستقل، إن شاء الله نقل أقوال السلف وعباراتهم الدالة على ذلك والمبينة أن مذهبهم في الاستثناء هو أنه جائز مشروع. وأما مأخذ السلف في الاستثناء، ووجه استثنائهم في الإيمان، فالمتأمل لأقوالهم الواردة في ذلك يجد أنهم عندما كانوا يستثنون   1 رواه عبد الله في السنة (1/ 347) ، وابن بطة في الإبانة (2/873) . 2 شعب الإيمان للبيهقي (1/212) . 3 الفتاوى (7 / 438، 439) . 4 الفتاوى (7/ 505) . 5 الفتاوى (7/ 666) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 يلحظون أموراً أربعة - وإن كان في بعضها نوع تداخل يأتي التنبيه عليه في محله إن شاء الله - وهي: 1- أن الإيمان المطلق شامل لكل ما أمر الله به والبعد عن كل ما ينهى عنه، ولا يدعي أحد إنه جاء بذلك كله على التمام والكمال. 2- أن الإيمان النافع هو المتقبل عند الله. 3- البعد عن تزكية النفس، وليس هناك تزكية لها أعظم من التزكية بالإيمان. 4- أن الاستثناء يكون في الأمور المتيقنة غير المشكوك فيها كما جاءت بذلك السنة. فهذا مجمل الأمور التي كان يستثني من أجلها السلف في إيمانهم، وتفصيل هذه الأمور كما يلي: 1- فالمأخذ الأول: للسلف في استثنائهم في الإيمان هو اعتبارهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل جميع ما أمروا به وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله1. ولا يدعي مسلم عاقل هذا لنفسه. لهذا كان السلف يستثنون مخافة واحتياطاً أن لا يكونوا كملوا الأعمال وأتوا بها على وجهها المطلوب، فقول أنا مؤمن عندهم كقول   1 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 446) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 أنا ولي أو أنا تقي، ولا يجزم أحد أنه كمل مراتب التقوى وأتم مراتب الولاية إلا من خسف عقله وقل خوفه، فكذلك لا يجزم أنه كمل مراتب الإيمان وأتم درجاته، فعندئذ لزمه الاستثناء في إيمانه مخافة واحتياطاً. فهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون في الإيمان لأن الإيمان عندهم قول وعمل؛ والقول كل يجزم أنه أتى به، وأما العمل فلا، إذ الناس متفاوتون في القيام به تفاوتاً عظيماً، وأقوال السلف في هذا كثيرة. قال الإمام أحمد: "أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان، لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل فقد جئنا بالقول ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل فيعجبني أن نستثني في الإيمان، بقول: أنا مؤمن إن شاء الله"1. وقال: "لو كان القول كما تقول المرجئة أن الإيمان قول ثم استثنى بعد على القول لكان هذا قبيحاً أن تقول لا إله إلا الله إن شاء الله ولكن الاستثناء على العمل"2. وقال: "لا نجد بداً من الاستثناء لأنه إذا قال أنا مؤمن فقد جاء بالقول، فإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول"3. وقال له رجل: قيل لي أمؤمن أنت؟ قلت: نعم. هل علي في ذلك شيء هل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب أحمد وقال: هذا كلام   1 رواه الخلال في السنة (3/600) ، وابن هانىء في مسائله (2/162) ، وذكره شيخ الإسلام، انظر الفتاوى (7/447) . 2 رواه الخلال في السنة (3/ 601) . 3 رواه الخلال في السنة (3/597) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الإرجاء، قال الله عز وجل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} 1 من هؤلاء؟ ثم قال أحمد: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ فقال الرجل: بلى، قال فجئنا بالعمل؟ قال: لا. قال: كيف نعيب أن تقول إن شاء الله وتستثني2؟ وعن الميموني أنه سأل أبا عبد الله عن قوله ورأيه في مزمن إن شاء الله. قال: أقول مؤمن إن شاء الله ومؤمن أرجو؛ لأنه لا يدري كيف أداؤه للأعمال على ما افترضت عليه أم لا3. وقال الإمام أحمد: "إنما نصير الاستثناء على العمل؛ لأن القول قد جئنا به"4. قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر طائفة من هذه النقول: "ومثل هذا كثير في كلام أحمد وأمثاله "5. وقال محمد بن حسين الآجري: ".. هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، عندهم إن الاستثناء في الأعمال، لا يكون في القول والتصديق بالقلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون به يتوارثون، وبه يتناكحون، وبه تجري أحكام ملة الإسلام ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه لك، وبينه العلماء من قبلنا. روي في هذا سنن   1 سورة التوبة، الآية: 106. 2 رواه الخلال في السنة (3/ 597) ، وأبو داود في مسائله (ص 273) ، وبنحوه الآجري في الشريعة (ص 137) . 3 رواه الخلال في السنة (3/601) وذكره شيخ الإسلام الفتاوى (7/ 448) ، وانظر تعليق شيخ الإسلام عليه. 4 رواه عبد الله في السنة (1/308) . 5 الفتاوى (7/ 448) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 كثيرة"1. 2- وأما المأخذ الثاني: فهو الاستثناء بالنظر إلى تقبل الأعمال من الله تعالى، إذ إن من قام بالعمل وأتى به لا يدري هل تقبل منه عمله أو لا؟ قال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} 2. وقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء فقالت: يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر، ويخاف أن يعذب؟ قال: "لا، يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه" 3. وهكذا كان دأب السلف الصالح من صحابة وتابعين، يقومون بالأعمال الكثيرة الجليلة، ثم يخافون ألا نكون قد تقلبت منهم. قال ابن بطة العكبري: "فهذه سبيل المؤمنين وطريق العقلاء من العلماء لزوم الاستثناء والخوف والرجاء لا يدرون كيف أحوالهم عند الله ولا كيف أعمالهم أمقبولة هي أم مرودة، قال الله عز وجل: {إنما   1 الشريعة للآجري (ص 136) . 2 سورة المؤمنون، الآية:60. 3 رواه الحميدي في مسنده (1/132) ، وأحمد (6/159، 205) ، والترمذي (5/ 327) ، وابن ماجه (2/1404) ، والحاكم (2/ 393) وقال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه الألباني انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/255) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} 1 وأخبر عن عبده الصالح سليمان عليه السلام في مسألته إياه {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} 2. أفلا تراه كيف يسأل الله الرضا منه بالعمل الصالح لأنه قد علم أن الأعمال ليست بنافعة وإن كانت في منظر العين صالحة إلا أن يكون الله: عز وجل قد رضيها وقبلها، فهل يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجزم أن أعماله الصالحة من أفعال الخير وأعمال البر كلها مرضية وعنده زكية ولديه مقبولة، هذا لا يقدر على حتمه وجزمه إلا جاهل مغتر بالله، نعوذ بالله من الغرة بالله والإصرار على معصية الله. أما ترون رحمكم الله إلى الرجل من المسلمين قد صلى الصلاة فأتمها وأكملها وربما كانت في جماعة وفي وقتها وعلى تمام طهارتها فيقال له: صليت فيقول: قد صليت إن قبلها الله، وكذلك القوم يصومون شهر رمضان فيقولون في آخره صمنا إن كان الله قد تقبله منا، وكذلك يقول من قدم من حجه بعد فراغه من حجه وعمرته، وقضاء جميع مناسكه إذا سئل عن حجه إنما يقول قد حججنا ما بقي غير القبول، وكذلك دعاء الناس لأنفسهم ودعاء بعضهم لبعض: اللهم تقبل صومنا وصلاتنا وزكاتنا، وبذلك يلقى الحاج فيقال له قبل الله حجك وزكى عملك، وكذا يتلاقى الناس عند انقضاء شهر رمضان فيقول بعضهم لبعض قبل الله منا ومنك. بهذا مضت سنة المسلمين وعليه جرت عادتهم وأخذه خلفهم عن   1 سورة المائدة، الآية: 27. 2 سورة النمل، الآية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 سلفهم فليس يخالف الاستثناء في الإيمان ويأبى قبوله إلا رجل خبيث مرجيء ضال قد استحوذ الشيطان على قلبه نعوذ بالله منه"1. وقال شيخ الإسلام: "وخوف من خاف من السلف أن لا يتقبل منه، لخوفه أن لا يكون أتى بالعمل على وجهه المأمور، وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان وفي أعمال الإيمان كقول أحدهم أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله، لخوف أن لا يكون أتى بالواجب على الوجه المأمور به، لا على جهة الشك فيما بقلبه من التصديق"2. وسئل ابن المبارك فقيل له. إن قوماً يقولون: إن سفيان الثوري حين كان يقول إن شاء الله كان ذاك منه شك، فقال ابن المبارك: أترى سفيان كان يسبقني في وحدانية الرب أو في محمد صلى الله عليه وسلم إنما كان استثناؤه في قبول إيمانه وما هو عند الله3. وقد نقل الإمام أحمد عن سليمان بن حرب أنه كان يستثني ويحمل هذا على التقبل يقول نحن نعمل، ولا ندري يتقبل منا أو لا4؟ فهذا وجه من أوجه الاستثناء عند السلف الصالح وهو النظر إلى التقبل، وهو في الحقيقة عند التأمل يعود إلى الوجه الأول، وهو النظر إلى الأعمال وتكميلها؟ لأن القبول متعلق بالإتيان بالأعمال على الوجه المطلوب، فمن كان عمله كذلك قبل منه.   1 الإبانة لابن بطة (2/ 872، 873) . 2 الفتاوى (7/ 496) ، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (1/ 257) . 3 رواه إسحاق بن راهوية في مسنده (3/670) . 4 رواه الخلال في السنة (3/ 597) ، وابن بطة في الإبانة (2/873) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 لذا يقول شيخ الإسلام عقب ذكره لأثر سليمان بن حرب المتقدم: "والقبول متعلق بفعله كما أمر. فكل من اتقى الله في عمله، ففعله كما أمر فقد تقبل منه لكن هو لا يجزم بالقبول، لعدم جزمه بكمال الفعل"1 ثم ذكر حديث عائشة المتقدم. 3- المأخذ الثالث: في الاستثناء عند السلف، هو البعد عن تزكية النفس2. وليس هناك تزكية للنفس وراء الشهادة لها بالإيمان، الذي قال الله في وصف أهله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 3. فمن قال عن نفسه إنه مؤمن فقد زكاها بأعظم تزكية ونعتها بأكمل الصفات وأجملها، والله قد نهى عن ذلك في محكم تنزيله، قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 4. قال الحسن في معنى الآية: "علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة، فلا تزكوا أنفسكم فلا تبرئوها عن الآثام ولا تمدحوها بحسن أعمالها"5.   1 الفتاوى (7/447) . 2 انظر الفتاوى (7/668) . 3 سورة الأنفال، الآية: 2، 3، 4. 4 سورة النجم، الآية: 32. 5 تفسير البغوي (4/253) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 فإذا علم أن الله قد نهى عباده عن الثناء على أنفسهم وتزكيتها، فأي وصف وثناء أبلغ من الثناء عليها بالإيمان وأي تزكية أعظم من هذا، يقول الخليل النحوي: "إذا قلت إني مؤمن فأي شيء بقي"1. ومن لطيف ما روي في هذا أن أعرابياً سئل أمؤمن أنت، فقال: "أزكي نفسي"2. وتأمل كيف وفق هذا الأعرابي بفطرته السليمة إلى هذا الفقه المسدد، الذي لا يتهيأ مثله لمن شغل أوقاته بالفلسفات الكلامية والآراء المنطقية، التي هي أشد ما يكون خطراً على الإيمان والفطر. فينبغي للعقلاء أهل الإيمان أن يتجنبوا قول ما فيه تزكية نفوسهم، كما قال ابن بطة رحمه الله في ذكر بعض أوصاف أهل الإيمان: "اعلموا رحمنا الله وإياكم أن من شأن المؤمنين وصفاتهم وجود الإيمان فيهم، ودوام الإشفاق على إيمانهم، وشدة الحذر على أديانهم، فقلوبهم وجلة من خوف السلب، قد أحاط بهم الوجل، لا يدرون ما الله صانع بهم في بقية أعمارهم، حذرين من التزكية، متبعين لما أمرهم به مولاهم الكريم حين يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 3 ... " 4. فهذا مأخذ ثالث للسلف في الاستثناء، يستثنون مخافة تزكية النفس، فكلمة مؤمن تعدل عندهم كلمة بر وتقي ومن أهل الجنة. قال شيخ الإسلام: "فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا   1 رواه الخلال في السنة (3/568) وعبد الله في السنة (1/ 316) ، واللالكائي في شرح الاعتقاد (5/ 961) . 2 رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (5/1007) من طريق الأصمعي وسليمان بن حرب عن حماد، وقال في آخره سليمان: "وكان حماد يعجبه قوله". 3 سورة النجم، الآية: 32. 4 الإبانة لابن بطه (2/ 862) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 يصبح جنباً يصوم؟ فقال: "إني لأفعل ذلك ثم أصوم " فقال: إنك لست مثلنا أنت قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، فقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله" 1 وهذا كثير وأشباهه على اليقين. ودخل عليه شيخ فسأله عن الإيمان فقال: قول وعمل، فقال له يزيد قال: يزيد وينقص. فقال له: أقول مؤمن إن شاء الله؟ قال نعم، فقال له: إنهم يقولون لي: إنك شاك. قال بئس ما قالوا. ثم خرج فقال: ردوه، فقال: أليس يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال: نعم. قال هؤلاء مستثنون، قال له: كيف يا أبا عبد الله؟ قال قل لهم زعمتم أن الإيمان قول وعمل، فالقول قد أتيتم به، والعمل فلم تأتوا به، فهذا الاستثناء لهذا العمل، فقيل له: فيستثنى في الإيمان قال: نعم أقول: أنا مؤمن إن الله شاء الله، استثني على اليقين لا على الشك، ثم قال: قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 2 فقد علم تبارك وتعالى أنهم داخلون المسجد الحرام3. قال شيخ الإسلام معلقاً على كلام أحمد هذا منبهاً على ما فيه من فوائد: "فقد بيّن أحمد في كلامه أنه يستثني مع تيقنه بما هو الآن موجود فيه، يقوله بلسانه وقلبه لا يشك في ذلك، ويستثنى لكون العمل من الإيمان وهو لا يتيقن أنه أكمله بل يشك في ذلك، فنفى الشك وأثبت اليقين فيما يتيقنه من نفسه وأثبت الشك فيما لا يعلم وجوده، وبين أن الاستثناء مستحب   1 رواه مسلم في صحيحه (2/779) عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه وهو صاحب المسألة. 2 سورة الفتح، الآية: 27. 3 رواه الخلال في السنة (3/ 595، 596) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 لهذا الثاني الذي لا يعلم هل أتى به أم لا، وهو جائز أيضاً لما يتيقنه، فلو استثنى لنفس الموجود في قلبه جاز كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله"وهذا أمر موجود في الحال ليس بمستقبل وهو أخشانا، فإنه لا يرجو أن يصير أخشانا لله، بل هو يرجو أن يكون حين هذا القول أخشانا لله، كما يرجو المؤمن إذا عمل عملاً أن يكون الله تقبله منه ويخاف أن لا يكون تقبله منه"1. وعن محمد بن الحسن بن هارون قال: سألت أبا عبد الله عن الاستثناء في الإيمان؟ فقال: نعم الاستثناء على غير معنى شك مخافةً واحتياطاً للعمل، وقد استثنى ابن مسعود وغيره وهو مذهب الثوري، قال الله عز وجل {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 2، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إني لأرجو أن كون أتقاكم لله" 3 وقال في البقيع: "عليه تبعث إن شاء الله" 4. قال شيخ الإسلام موضحاً كلام الأمام أحمد هذا: "فقد بين أحمد أنه يستثني مخافةً واحتياطاً للعمل، فإنه يخاف أن لا يكون قد كمل المأمور به، فيحتاط بالاستثناء وقال على غير معنى شك يعني من غير شك مما يعلمه الإنسان من نفسه، وإلا فهو يشك في تكميل العمل الذي خاف أن لا يكون كمله، فيخاف من نقصه ولا يشك في أصله"5.   1 الفتاوى (7/ 452) . 2 سورة الفتح، الآية: 27. 3 تقدم تخريجه قريباً. 4 رواه الخلال في السنة (3/593) ، وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/289) . 5 الفتاوى (7/ 450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وقال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله يقول إذا قال أني مؤمن إن شاء الله ليس هو بشاك، قيل له: إن شاء الله ليس هو شكاً؟ قال معاذ الله أليس قد قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وفي علمه أنهم يدخلون، وصاحب القبر إذ قال: "عليه تبعث إن شاء الله"فأي شك ها هنا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" 1. وقال حرب بن إسماعيل سمعت أحمد يقول في التسليم على أهل القبور أنه قال: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"2 قال: هذا حجة في الاستثناء في الإيمان؟ لأنه لابد من لحوقهم ليس فيه شك وقال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 3 وهذه حجة أيضاً لأنه لا بد داخلوه4. وقال أبو بكر الأثرم سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه؟ قال: أما أنا فلا أعيبه، قال أبو عبد الله إذا كان تقول أن الإيمان قول وعمل فاستثني مخافةً واحتياطاً، ليس كما يقولون على الشك، إنما يستثنى للعمل، قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 5 فهذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله عز وجل" 6 قال: هذا كله   1 رواه ابن بطة في الإبانة (2/ 874) ، والآجري في الشريعة (ص 138) . 2 تقدم تخريجه قريباً. 3 سورة الفتح، الآية: 27. 4 رواه الخلال في السنة (3/ 595) . 5 سورة الفتح، الآية: 27. 6 تقدم تخريجه قريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 تقوية للاستثناء في الإيمان1. وقال المروذي قيل لأبي عبد الله إن استثنيت في إيماني أكن شاكاً؟ قال: لا2. وقال حماد بن زيد: "يسموننا الشكاك والله ما شككنا في ديننا قط، ولكن جاءت أشياء، أليس ذكر أن اليسير من الرياء شرك، فأينا لم يراء؟ "3. فبهذه النقول الجليلة والأقوال الجميلة يندفع عن أهل السنة والجماعة شناعة المشنعين من أهل البدع والأهواء بأنهم شكاك، وحاشاهم رحمهم الله، بل هم أهل دين وورع وعلم ويقين. وبعد، فهذه وجوه أربعة من أجلها استثنى من استثنى من السلف في إيمانه وملخص هذه الوجوه ما ذكره شيخ الإسلام بقوله: "فإذا كان مقصوده - أي المستثنى في إيمانه - إني لا أعلم أني قائم بكل ما أوجب الله علي، وأنه يقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه فهذا استثناؤه حسن، وقصده أن لا يزكي نفسه، وأن لا يقطع بأنه عمل عملاً كما أمر فقبل منه، والذنوب كثيرة والنفاق مخوف على عامة الناس"4. فجمع رحمه الله في كلمته هذه الجامعة الوجوه الأربعة التي كان ليحظها السلف عند استثنائهم في الإيمان. وعلى كل فهذا ما كان يستثنى السلف لأجله في إيمانهم ولم يكن احد   1 رواه الآجري في الشريعة (ص 137) ، وذكره شيخ الإسلام في الفتاوى (7/254) 2 رواه ابن بطة في الإبانة (2/ 955) . 3 رواه عبد الله في السنة (1/347) . 4 الفتاوى (13/41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 من السلف يستثني في إيمانه بحسب الموافاة كما يظنه بعض أهل الأهواء بل هذا من الغلط عليهم، وفي بيان سبب هذا الغلط يقول شيخ الإسلام: "فهؤلاء لما اشتهر عندهم عن السلف أنهم يستثنون في الإيمان، ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا، فصاروا يحكون هذا عن السلف، وهذا القول لم يقل به أحد عن السلف، ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم، لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلا على هذا الأصل ... "1. وسيأتي مناقشة هؤلاء في قولهم عند ذكر مذهبهم إيجاب الاستثناء في الإيمان بحسب الموافاة، إذ المقصود هنا بيان قول السلف ومأخذهم في الإيمان.   1 الفتاوى (7/436) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها تقدم معنا أن الاستثناء سنة ماضية عند سلفنا الصالح رضي الله عنهم ورحمهم، وتقدم ذكر مأخذهم في الاستثناء وأدلتهم عليه، وفي هذا المبحث أنقل بعض عبارات السلف الواردة عنهم في ذلك، والتي تتضمن النكير على أهل الإرجاء الذين يقطعون بأنهم مؤمنون عند الله من غير استثناء في ذلك. والسلف لهم في الاستثناء صيغ متعددة، فمنهم من يستثني بقول: إن شاء الله أو أرجو، أو آمنت بالله ... ، أو لا إله إلا الله أو نحو ذلك من الصيغ، وجميع هذه الصيغ مؤداها واحد، وهو عدم القطع بالإيمان المطلق الكامل وتفويض ذلك إلى الله سبحانه. وفيما يلي أنقل بعض ما ورد عن السلف في ذلك، مصنفا أقوالهم حسب الصيغ الواردة عنهم في الاستثناء. 1- استثناؤهم بقول: "إن شاء الله ": (أ) عن عبد الرحمن بن عصمة قال: كنت عند عائشة رضي الله عنها فأتاها رسول معاوية رضي الله عنه بهدية فقال: أرسل بها إليك أمير المؤمنين، فقالت: أنتم المؤمنون إن شاء الله تعالى، وهو أميركم وقد قبلت هديته1.   1 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/28) ، وفي كتاب الإيمان (ص 9) ، وعبد الله في السنة (1/ 349) ولم أقف لابن عصمة على ترجمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 (ب) وعن أحمد بن حنبل قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا سئل أمؤمن أنت إن شاء لم يجبه، وسؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، وقال: إن شاء الله ليس يكره، وليس بداخل في الشك1. (ج) وقال جرير بن عبد الحميد: "كان الأعمش ومنصور ومغيرة وليث وعطاء بن السائب وإسماعيل بن خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وأبو يحيى صاحب الحسن وحمزة الزيات يقولون نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون من لم يستثن"2. (د) وسئل أحمد ما تقول في الاستثناء في الإيمان؟ قال: نحن نذهب إليه. قيل الرجل يقول أنا مؤمن إن شاء الله؟ قال نعم3. وسئل عن الرجل يقال له أمؤمن أنت قال: سؤاله إياك بدعة، يقول: إن شاء الله4. وسئل عن الرجل يسألني مؤمن أنت؟ قال: تقول نعم إن شاء   1 رواه عبد الله في السنة (1/310) ، والخلال في السنة (3/ 602) ، والآجري في الشريعة (ص138) ، وابن بطة في الإبانة (2/881) . 2 رواه عبد الله في السنة (1/ 335) ، والآجري في الشريعة (ص 139) ، وابن بطة في الإبانة (2/871) . 3 رواه الخلال في السنة (3/ 594) . 4 رواه الخلال في السنة (3/ 602) . ترجمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 الله1. 2- استثناؤهم بقول: أرجو: (أ) - عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عمر قال: قلت اغتسل من غسل الميت؟ قال: مؤمن هو؟ قلت: أرجو، قال: فتمسح بالمؤمن ولا تغتسل منه2. (ب) - عن إبراهيم النخعي قال: قال رجل لعلقمة أمؤمن أنت؟ قال: أرجو3. (ج) - وعن إبراهيم النخعي عن علقمة - وتكلم عنده رجل من الخوارج بكلام كرهه- فقال علقمة {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 4 فقال له الخارجي: أو منهم أنت؟ فقال: أرجو5. (د) - وعن الحسن بن عبيد الله قال: قال إبراهيم النخعي: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل أرجو6.   1 رواه الخلال في السنة (3/ 602) . 2 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/267) ، وعبد الله في السنة (1/321) . 3 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 68) ، وابن أبي شيبة في الإيمان (ص 9) ، وفي المصنف (11/15) ، وعبد الله في السنة (1/340) ، والآجري في الشريعة (ص136) . 4 سورة الأحزاب، الآية: 58. 5 رواه عبد الله في السنة (1/ 322) ، والآجري في الشريعة (ص 141) ، وأبن بطة في الإبانة (2/870) . 6 رواه عبد الله في السنة (1/340) ، والطبري في تهذيب الآثار (برقم 1000) ، والآجري في الشريعة (ص141) ، وابن بطة في الإبانة (2/879) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 (هـ) - وسئل أحمد بن حنبل عمن يقال له أنت مؤمن؟ فقال: سؤاله إياك بدعة، وقل أنا مؤمن أرجو1. 3 - استثناؤهم بقول: "آمنت بالله وملائكته..": (أ) - عن علقمة بن الأسود قال: قال رجل عند عبد الله: إني مؤمن. قال: قل إني في الجنة، ولكنا نقول: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله2. (ب) - وعن ابن طاووس عن أبيه أنه كان إذا قيل له أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا يزيد على هذا3. (ج) - وعن سفيان بن محل قال: قال لي إبراهيم: "إذا قيل لك أمؤمن أنت فقل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله"4. (د) وعن عبد الرحمن بن بكير السلمي قال: كنت عند محمد بن سيرين وعنده أيوب فقلت له: يا أبا بكر يقول لي: أمؤمن أنت؟ أقول: مؤمن، فانتهرني أيوب، فقال   1 رواه الخلال في السنة (3/ 602) . 2 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 67) ، وابن أبي شيبة في الإيمان (ص 9) ، وعبد الله في السنة (1/ 322) . 3 رواه عبد الله في السنة (1/ 23) ، والآجري في الشريعة (ص 142) ، وابن بطة في الإبانة (2/878) . 4 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 68) ، وعبد الله في السنة (1/320) ، والآجري في الشريعة (ص141) ، وابن بطة في الإبانة (2/878) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 محمد: وما عليك أن تقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله1. (هـ) وعن حبيب بن الشهيد قال: قال محمد بن سيرين: "إذا قيل لك أنت مؤمن فقل: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق"2. (و) وعن أحمد بن أصرم المزني أن أبا عبد الله قيل له إذا سألني الرجل أمؤمن أنت؟ فقال: سؤاله إياك بدعة لا نشك في إيماننا. قال المزني: وحفظي أن أبا عبد الله قال: أقول كما قال طاووس: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله3. 4- استثناؤهم بقول "لا إله إلا الله ": (أ) عن سوار بن شبيب قال جاء رجل إلى ابن عمر فقال إن هاهنا قوماً يشهدون علي بالكفر قال: "ألا تقول لا إله إلا الله فتكذبهم"4. (ب) وعن الحسن بن عمرو عن إبراهيم النخعي قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقال: لا إله إلا الله5.   1 رواه عبد الله في السنة (1/320) وابن بطة في الإبانة (2/878) . 2 رواه عبد الله في السنة (1/320) ، والآجري في الشريعة (ص 141) ، وابن بطة في الإبانة (2/ 879) . 3 رواه الخلال في السنة (3/601) . 4 رواه ابن أبي شيبة في الإيمان (ص 10) ، وفي المصنف (11/30) . 5 رواه عبد الله في السنة (1/321) ، والآجري في الشريعة (ص 141) ، وابن بطة في الإبانة (2/ 878) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 فجميع هذه النقول تدل بوضوح على أن الاستثناء في الإيمان سنة ماضية عند السلف الصالح بصيغ مختلفة مدارها على البعد عمت تزكية النفس والشهادة لها بتكميل الأعمال وإتمام الإيمان. ولا يشكل على هذا ما نقل عن بعض السلف أنه أجاب بأنه مؤمن دون استثناء مثل: 1- ما نقل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه خطبهم فقال: "أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة، والله إني لأطمع أن يكون عامة من تصيبون بفارس والروم في الجنة، فإن أحدهم يعمل الخير فيقول أحسنت بارك الله فيك أحسنت رحمك الله، والله يقول: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} 1 "2. فهذا الأثر خوطب فيه الجماعة ولم بعين به شخص، وفي آخره رجع إلى الاستثناء في دخول الجنة فقال:"إني لأطمع"3. 2- وعن ابن أبي كثير عن رجل لم يسمه عن أبيه: قال سمعت ابن مسعود يقول: أنا مؤمن4. وإسناد هذا الأثر ضعيف فالرجل الذي لم يسم وأبوه مجهولان. 3- وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال: "تسموا باسمكم الذي سماكم الله بالحنيفية والإسلام والإيمان"5.   1 سورة الشورى، الآية: (26) . 2 رواه الحاكم (2/ 444) ، والبيهقي في الشعب (1/ 213) ، وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 3 انظر شعب في الإيمان للبيهقي (1/ 214) . 4 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 29) ، وفي كتاب الإيمان (ص 10) . 5 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 30) ، وفي كتاب الإيمان (ص 10) ، وقال الألباني صحيح الإسناد موقوفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 4- وعن أبي عبد الرحمن الشيباني قال: لقيت عبد الله بن معقل فقلت له: إن أناساً من أهل الصلاح يعيبون عليَّ أن أقول: أنا مؤمن، فقال عبد الله: لقد خبت وخسرت إن لم تكن مؤمناً1. 5- وعن إبراهيم التميمي قال: "وما على أحدكم أن يقول: أنا مؤمن، فوالله لئن كان صادقاً لا يعذبه الله على صدقه، وإن كان كاذباً لما دخل عليه من الكفر أشد عليه من الكذب"2. ومراده بـ "أنا مؤمن"أصل الإيمان كما يدل على ذلك آخر كلامه قوله "لما دخل عليه من الكفر..". 6- وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: "إذا سئل أحدكم: أمؤمن أنت؟ فلا يشك في إيمانه"3. 7 - وعن يوسف بن ميمون قال: قلت لعطاء: "إنَّ قبلنا قوماً نعدهم من أهل الصلاح إن قلنا نحن مؤمنون عابوا ذلك علينا، قال: فقال عطاء: نحن المسلمون المؤمنون وكذلك أدركنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون"4.   1 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/29) ، وفي كتاب الإيمان (ص 10) وقد تصحف الاسم في كتاب الإيمان من ابن معقل إلى ابن مغفل. 2 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 15) ، وفي كتاب الإيمان (ص 23) وقال الألباني إن السند إلى إبراهيم صحيح. 3 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 29) وفي كتاب الإيمان (ص 9) . 4 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/35) وفي كتاب الإيمان (ص 16) ، وقال الألباني: إسناده ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 فهذه الآثار لا تشكل على ما ذكرته آنفاً من أن مذهب السلف هو جواز الاستثناء في الإيمان، لأنها لا تخلو من أحد أمور: 1- إما أن تكون ضعيفة الإسناد غير ثابتة عن الصحابي أو التابعي المروية عنه كما في بعض الآثار المتقدمة. 2 - أو أن يكون قاله على سبيل التعميم كما في الأثر الأول، وهذا لا إشكال فيه إذ أهل القبلة كلهم مؤمنون باعتبار الظاهر منهم، وبذلك يتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بالأخوة الإيمانية. 3- أو أن يكون قصد بذلك أصل الإيمان لإتمامه وكماله، بل هذا هو مقصودهم عند إطلاق القول "أنا مؤمن"أو "أنت مؤمن"لأن اسم الإيمان عند السلف على ضربين: مطلق ومقيد. فإذا استعمل مطلقاً شمل جميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الظاهرة والباطنة. وإذا استعمل مقيداً يكون متناولاً لأصل الإيمان وأساسه، وهو الإيمان الباطن بأركانه الستة الواردة في حديث جبريل المشهور. وللإيمان عندهم أصل وفرع؛ فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله، وفرعه الأعمال الظاهرة بأنواعها1. وعلى هذا فإن من استثنى من السلف في إيمانه قصد به الإيمان التام الكامل المقبول عند الله، ومن لم يستثن قصد الإيمان الباقي الذي هو أصل الإيمان وأساسه وهذا لا استثناء فيه. وعلى هذا ينبغي لمن سئل هل هو مؤمن أو، لا؟ أن يستفصل من السائل ماذا يريد بالإيمان؟ هل يريد بذلك الإيمان الكامل التام المقبول   1 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 642 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 عند الله الذي أهله يقينا في الجنة؟ أو يريد الإيمان المقيد الذي هو أصل الإيمان وأساسه؟ فإن أراد الأول فلا بد من الاستثناء، وإن أراد الثاني فلا استثناء، على ما سبق بيانه وشرحه. وتأكيداً لما ذكرت أنقل بعض أقوال السلف المؤكدة لذلك والمؤيدة له، والمبينة أن مقصودهم بترك الاستثناء في الإيمان أصله، وبالاستثناء فيه تمامه وكماله. فعن تمام بن نجيح قال سأل رجل الحسن البصري عن الإيمان فقال: "الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 1 فوالله ما أدري أنا منهم أم لا"2. قال البيهقي معلقاً: "فلم يتوقف الحسن في أصل إيمانه في الحال، وإنما توقف في كماله الذي وعد الله عز وجل لأهله الجنة بقوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} "3.   1 سورة الأنفال، الآيات: 3-4. 2 تقدم تخريجه (ص 404) . 3 الاعتقاد (120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وقال سفيان الثوري: "الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ونرجو أن يكونوا كذلك، ولا ندري ما حالنا عند الله عز وجل"1. وعن وكيع قال: "كان سفيان الثوري يقول أنا مؤمن وأهل القبلة كلهم مؤمنون في النكاح والدية والمواريث، ولا يقول مؤمن عند الله عز وجل"2. وعن قتيبة بن سعيد قال: "هذا قول الأئمة المأخوذ في الإسلام والسنة بقولهم ... ونقول: الناس عندنا مؤمنون بالاسم الذي سماهم الله في الإقرار والحدوث والمواريث، ولا نقول: حقاً، ولا نقول: عند الله ولا نقول: كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن إيمانهما متقبل"3. وعن إسماعيل بن سعيد قال: "سألت أحمد من قال: أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث ولا أعلم ما أنا عند الله عز وجل، قال: ليس هذا بمرجىء"4. فبهذه النقول يعلم ما سبق ذكره عن مذهب السلف أنهم يجوزون الاستثناء باعتبار ويمنعونه باعتبار حسب مراد القائل بكلمة الإيمان. ولهذا كان من السلف من يرى أن الاستثناء وتركه سواء على المعنى الذي أشرت إليه. قال الأوزاعي: "من قال أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن   1 رواه عبد الله في السنة (1/311) ، وأبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص 274) ، والآجري في الشريعة (ص 138) ، وابن بطة في الإبانة (2/ 872) . 2 رواه البيهقي في الشعب (1 / 219) . 3 رواه البيهقي في الشعب (1 / 219) . 4 رواه الخلال في السنة (3/ 574) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 شاء الله فحسن، لقول الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 1. وقد علم أنهم داخلون"2. ولا يتنافى هذا مع ما جاء عن بعضهم من كراهة ترك الاستثناء كما روي ذلك عن سفيان الثوري أنه ينكر ويكره أن يقول: أنا مؤمن3، وقد تقدم معنا عن جمع من السلف أنهم كانوا يعيبون من لا يستثني. قال أبو عبيد: "وإنما كراهتهم عندنا أن يثبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين"4. قلت: ولكن لما كان ترك الاستثناء شعاراً للمرجئة، ومتضمناً لتزكية النفس والثناء عليها وهذا منهي عنه شرعاً، فإني أرى أن لزوم الاستثناء أولى وأكمل، وأن لا يترك الاستثناء إلا إذا بين المقصود والمراد. ولهذا كان الإمام أحمد لا يعجبه ترك الاستثناء5، بل قال مرة لحسين بن منصور من قال من العلماء: أنا مؤمن؟ قلت: ما أعلم رجلاً أثق به. قال: لم تقل شيئاً لم يقله أحد من أهل العلم قبلنا6.   1 سورة الفتح، الآية: 27. 2 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 69) وبنحوه الخلال في السنة (3/ 598) . 3 رواه الآجري في الشريعة (ص 38 1) ، وابن بطة في الإبانة (2/871) . 4 الإيمان (ص 68) . 5 رواه الخلال في السنة (3/598) . 6 رواه الخلال في السنة (3/ 566) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 قال شيخ الإسلام: " ... ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقول: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك- أي أصل الإيمان- لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه"1. ولم يكن أحمد رحمه الله ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصده قصد المرجئة أن الإيمان مجرد القول، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله: فكأنك لا ترى بأساً أن لا يستثني، فقال: إذا كان ممن يقول: الإيمان قول وعمل فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبد الله: إن قوماً تضعف قلوبهم عن الاستثناء، فتعجب منهم2. فبهذا التفصيل المنقول عن السلف يستبين السبيل في مسألة الاستثناء في الإيمان، وتلتقي الأقوال، والله أعلم.   1 الفتاوى لابن تيمية (7/ 449) . 2 ذكره شيخ الإسلام في الفتاوى (7/ 225، 669) ، وانظر أيضاً (7/ 449) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ" أنت مؤمن" ... المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ "أمؤمن أنت" لما كان المرجئة هم أول من أثار مسألة الاستثناء في الإيمان؛ لحاجة في نفوسهم ولمقصد سيء في صدورهم، وهو دعم قولهم في الإيمان وأنه التصديق وحده وأن العمل خارج من مسماه، ولما أكثروا من طرح هذه المسألة بين الناس بغية تحقيق ذاك المقصد، أنكر عليهم السلف ذلك أشد الإنكار وحاربوا مقالتهم أقوى محاربة، ولهذا كثرت أقوالهم رحمهم الله المبينة للجواب الشرعي على هذه المسألة البدعية، ونصوا رحمهم الله على كراهة هذه المسألة وأنها من بدع المرجئة السيئة. وأقوالهم رحمهم الله في ذم هذه المسألة وتبديع قائلها كثيرة جداً، حتى إن بعض من صنف في العقيدة على رسم السنة أفرد باباً في مصنفه في هذا الموضوع على الخصوص كالآجري في الشريعة، فقد أفرد باباً "فيمن كره من العلماء لمن سأل غيره فيقول له: أنت مؤمن هذا عندهم مبتدع رجل سوء"1 وكذلك فعل ابن بطة في الإبانة فقد أفرد باباً بعنوان: "سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت وكيف الجواب له وكراهية العلماء هذا السؤال وتبديع السائل عن ذلك"2. وقد أوردا رحمهما الله في هذين البابين نصوصاً كثيرة عن السلف   1 الشريعة (ص 140) . 2 الإبانة (2/877) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 رحمهم الله في ذم المرجئة وتبديعهم في مقالتهم هذه صيانة منهم للمعتقد وحفاظاً على الديانة. قال ابن بطة رحمه الله في نهاية الباب المذكور: "فقد ذكرت في هذا الباب من كلام أئمة المسلمين وقول الفقهاء والتابعين ما إن عمل به المؤمن أراح به نفسه من خصومة المرجىء الضال، وأزاح به علته وكان لدينه بذلك صيانة ووقاية والله أعلم"1. ولما كان الأمر بهذه المثابة خصصت هذا الموضوع بهذا المبحث لأنقل فيه بعض ما ورد عن السلف في ذلك تحذيراً من هذه المقالة السيئة المبتدعة، وتبصيراً بالحق والسنة. 1- سأل رجل ميمون بن مهران قال: فقال لي: أمؤمن أنت؟ قال: قل: آمنت بالله وملائكته وكتبه، قال: لا يرضى مني بذلك، قال: فردها، فقال: لا يرضى، فردها عليه ثم ذره في غيظه يتردد2. 2- وعن إبراهيم النخعي قال: "سؤال الرجل الرجل أمؤمن أنت بدعة"3. وسأله رجل: أمؤمن أنت فقال: "ما أشك في إيماني وسؤالك إياي عن هذا بدعة"4. 3- وقال الإمام أحمد سمعت سفيان بن عيينة يقول: "إذا سئل أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، أو يقول: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك   1 الإبانة (2/883) . 2 رواه ابن بطة في الإبانة (2/877) . 3 رواه عبد الله في السنة (1/321) ، والآجري في الشريعة (ص 765) ، وابن بطة في الإبانة (2/880) . 4 رواه عبد الله في السنة (1/339) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 في إيماني"1. 4- وقيل له الرجل يقول: مؤمن أنت؟ فقال: "فقل: ما أشك في إيماني وسؤالك إياي بدعة، وتقول ما أدري أنا عند الله عز وجل شقي أم سعيد، مقبول العمل أم لا"2. 5- وسئل الإمام أحمد عن الرجل يقال له: أمؤمن أنت؟ قال: سؤاله إياك بدعة، ويقول: إن شاء الله3. 6- وقال الإمام محمد بن حسين الآجري:، إذا قال لك رجل: أنت مؤمن؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والموت والبعث من بعد الموت والجنة والنار، وإن أحببت أن لا تجيبه تقول له: سؤالك إياي بدعة، فلا أجيبك، وإن أجبته، فقلت: أنا مؤمن إن شاء الله على النعت الذي ذكرناه فلا بأس به، واحذر مناظرة مثل هذا، فإن هذا عند العلماء مذموم، واتبع من مضى من أئمة المسلمين تسلم إن شاء الله تعالى"4. وبهذه النقول الطيبة عن سلف الأمة يعلم أن من البدع الحوادث ومن الأقوال المبتدعة سؤال الرجل أخاه أمؤمن أنت؟ فالواجب على المسلم العاقل أن يحبس نفسه على السنة وأن يحذر من البدعة وأن يقف حيث وقف القوم ويقول فيما قالوا ويكف عما كفوا وسلك سبيل السلف الصالح رحمهم الله تعالى.   1 رواه عبد الله في السنة (1/310) ، والخلال في السنة (3/ 602) ، والاجري في الشريعة (ص 138) ، وابن بطة في الإبانة (3/881) . 2 رواه عبد الله في السنة (1/ 338) ، والآجري في الشريعة (ص 140) . 3 رواه الخلال في السنة (3/601) . 4 الشريعة (ص 140) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 المبحث الرابع: حكم الاستثناء في الإسلام لقد كان الحديث فيما سبق كله منصباً حول بيان حكم الاستثناء في الإيمان، وأما الحديث في هذا المبحث فسيكون عن بيان حكم الاستثناء في الإسلام، وقد علمنا فيما مضى أن هناك فرقا بين الإسلام والإيمان، وبين المسلم والمؤمن، وأن الناس في الدين طبقات منهم المحسن ومنهم المؤمن ومنهم المسلم، وأن أكملهم ديناً المحسن ثم المؤمن ثم المسلم. فالإسلام هو أقل هذه الدرجات، وليس وراءه إلا الكفر، فمن لم يكن مسلماً فهو كافر، وأما من لم يكن مؤمناً فقد يكون مسلماً، ولهذا لما ادعى بعض الأعراب درجة الإيمان التي لما يصلوا إليها وإنما كانوا مسلمين فقط، رد الله عليهم قولهم هذا بقوله سبحانه: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ... } 1 فهؤلاء الأعراب ليسوا منافقين، إذ لا يلزم من نفي الإيمان عنهم أن يكونوا منافقين من أهل الدرك الأسفل من النار، بل المراد أنهم لم يأتوا بالإيمان الواجب الذي يستحقون معه أن يوصفوا بالمؤمنين، فنفي عنهم الإيمان لذلك، وإن كانوا مسلمين معهم من الإيمان ما يثابون عليه2.   1 سورة الحجرات، الآية: 14. 2 انظر الفتاوى لابن تيمية (7/ 243) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 ولما تذكر درجات الدين هذه يراد بالإسلام من أتى بالأعمال الظاهرة مع شيء من الإيمان يصحح عمله كحال الأعراب المذكورين في الآية المتقدمة، وكحال الرجل الذي قال عنه سعد بن أبي وقاص إني لأراه مؤمناً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلماً. فمن دخل في هذا الدين ونطق بالشهادتين فهو المسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، فمثل هذا يقال عنه مسلم، وكل أحد يصح أن يعبر عن نفسه بذلك بدون أن يستثني كما أرشد لذلك النبي-صلى الله عليه وسلم- في حديث سعد، وكما أرشد إلى ذلك الأعراب كما تقدم في الآية. وبهذا يعلم أن الصحيح في مسألة حكم الاستثناء في الإسلام أن يقال: مسلم بدون استثناء، وهذا هو المشهور عن سلف الأمة في هذه المسألة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمشهور عند أهل الحديث أنه لا يستثنى في الإسلام، وهو المشهور عن أحمد رضي الله عنه، وقد روي عنه فيه الاستثناء"1. قلت: وإنما كان السلف لا يستثنون في الإسلام لأسباب أهمها أمران: الأول: ورد ما يرشد إلى ذلك في نصوص الشرع المطهر، كما في آية الحجرات، وحديث سعد وقد تقدما، وكما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2.   1 الفتاوى (7/43) ، وسيأتي قريباً توجيه رواية أحمد التي جوز فيها الاستثناء في الإسلام. 2 سورة فصلت، الآية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 فهذه النصوص فيها إشارة إلى جواز قول: مسلم بدون استثناء، وآية الحجرات واضحة صريحة في الدلالة على ذلك، ولهذا احتج بها على ذلك غير واحد من أهل العلم. قال شيخ الإسلام: "وهذه الآية - أي: آية الحجرات- مما احتج بها أحمد بن حنبل وغيره على أنه يستثنى في الإيمان دون الإسلام، وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام، قال الميموني: سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في أنا مؤمن إن شاء الله؟ فقال: أقول: مؤمن إن شاء الله، وأقول: مسلم ولا استثني، قال: قلت لأحمد؟ تفرق بين الإسلام والإيمان؟ فقال لي: نعم. فقلت له: بأي شيء تحتج؟ قال لي: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} وذكر أشياء"1. الأمر الثاني: أن كل من نطق بالشهادتين صار بذلك مسلماً له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ويكون متميزاً عن اليهود والنصارى تجري عليه أحكام الشرع الجارية على المسلمين، وهذا القدر كل أحد يجزم به بلا استثناء في ذلك. قال شيخ الإسلام: "ولما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلماً متميزاً عن اليهود والنصارى تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين، كان هذا مما يجزم به بلا استثناء فيه"2. لهذا كان المشهور عن السلف الصالح عدم الاستثناء في الإسلام   1 الفتاوى (7/ 253) وأثر الميموني عن أحمد رواه ابن مندة في الإيمان (1/311) ، وروى نحوه الخلال ض السنة (3/604 ح 1077) من رواية عبد الملك بن عبد الحميد. 2 الفتاوى (7/ 415) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 كما ذكر ذلك شيخ الإسلام فيما تقدم، ومما ورد عنهم في ذلك: - ما رواه هشام الأزدي عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين: أنهما كان يقولان مسلم ويهابان مؤمن1. وقال أبو بكر المروزي: قيل لأبي عبد الله نقول نحن المؤمنون؟ تال: نقول نحن المسلمون2. وقال أيضاً: قيل لأبي عبد الله نقول: إنا مؤمنون؟ قال: لا، ولكن نقول: إنا مسلمون3. وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فأما إذا قال أنا مسلم فلا يستثنى؟ فقال: لا يستثني إذا قال: أنا مسلم4. أما ما ذكره شيخ الإسلام عن أحمد بن حنبل أن له روايتين في المسألة: إحداهما بتجويز الاستثناء في الإسلام، فسببه عائد إلى أن للإمام أيضاً روايتين في تعريف الإسلام: إحداهما: أن الإسلام هو الكلمة، والأخرى: أنه أعمال الإسلام الظاهرة كاملة. فإن أريد به الكلمة فلا استثناء، وإن أريد به الأعمال الظاهرة كلها فلا بد من الاستثناء؟ لأن الجزم بفعلها وإتمامها كالجزم بالإيمان سواء. قال شيخ الإسلام: "وأحمد إنما منع الاستثناء فيه- أي الإسلام- على قول الزهري هو: الكلمة، هكذا نقل الأثرم والميموني وغيرهما   1 رواه عبد الله في السنة (1/322) والخلال في السنة (53/603 ح 1075) والآجري في الشريعة (ص 139) وابن بطة في الإبانة (2/874) واللالكائي في شرح الاعتقاد (4/815) . 2 رواه الخلال في السنة (3/602 ح 1073) ، والآجري في الشريعة (ص 139) . 3 رواه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (2/ 14) وهو والأثر الذي قبله ذكرهما شيخ الإسلام انظر الفتاوى (7/ 449) . 4 رواه ابن بطة في الإبانة (2/876) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 عنه. وأما على جوابه الآخر الذي لم يختر فيه قول من قال: الإسلام الكلمة فيستثني في الإسلام كما يستثني في الإيمان، فإن الإنسان لا يجزم بأنه فعل كل ما أمر به من الإسلام ... فإذا أريد بالإسلام الكلمة فلا استثناء فيه، كما نص عليه أحمد وغيره، وإذا أريد به من فعل الواجبات الظاهرة كلها، فالاستثناء فيه كالاستثناء في الإيمان. ولما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلماً متميزاً عن اليهود والنصارى تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين، كان هذا مما يجزم به ... "1. وقال: ".. لكن الإسلام الذي هو أداء الخمس كما أمر به يقبل الاستثناء، فالإسلام الذي لا يستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنها لا تزيد ولا تنقص فلا استثناء فيها"2.   1 الفتاوى (7/415) . 2 الفتاوى (7/259) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 الفصل الثاني: فيمن قال بوجوب الاستثناء إن أشهر من ذهب للقول بوجوب الاستثناء في الإيمان وانتصر له هم الكلابية والأشعرية1 حيث أن الإيمان عندهم هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً وكافراً باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وصاحب هذا هو عند الله كافر لعلمه بما يموت عليه، وهذا المأخذ هو مأخذ كثير من المتأخرين ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة من قولهم أنا مؤمن إن شاء الله2 فحسب هؤلاء أن استثناء السلف إنما هو باعتبار الموافاة. ومقصودهم بالموافاة: أن العبد يأتي موافياً به بأن يبقى عليه إلى الوفاة، فيكون متصفاً به إلى آخر حياته، إذ إن الإيمان لا يكون نافعاً معتبراً منجياً لصاحبه إلا إذا مات عليه. فلما كان هذا الإيمان هو المعتبر في النجاة صار هؤلاء إلى الاستثناء في الإيمان بهذا الاعتبار، فإذا قيل لأحدهم: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله وهو في ربطه هذا الإيمان بالمشيئة يلحظ أنه قد لا يموت   1 انظر المسامرة شرح المسايرة (ص 283) ، وإتحاف السادة المتقين (2/ 282) ، والروضة البهية (ص 8) . 2 الفتاوى (7/430) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 على هذا الإيمان ولا يثبت عليه إلى الوفاة1. ثم حمل هؤلاء جميع الآثار الواردة عن السلف في الاستثناء على هذا المحمل الذي هو أبعد ما يكون عن مراد السلف، ومقصودهم بالاستثناء. يقول الجويني: "فإن قيل: قد أثر عن سلفكم ربط الإيمان بالمشيئة، وكان إذا سئل الواحد منهم عن إيمانه قال إنه مؤمن إن شاء الله، فما محصول ذلك؟ قلنا: الإيمان ثابت في الحال قطعاً لا شك فيه ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا التشكك في الإيمان الناجز"2. فهكذا توهم هؤلاء أن ذلك الذي قالوا هو مراد السلف في الاستثناء بالإيمان بينما الواقع أن هذا الذي نسبوه للسلف ليس مراداً لهم ولا أحد منهم استثنى في إيمانه لهذا الاعتبار، كما قال شيخ الإسلام: "وأما الموافاة فما علمت أحداً من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثيراً من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري وأكثر أصحابه، لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث"3. فالسلف كانوا يستثنون في الإيمان وهذا متواتر عنهم لكن ليس في هؤلاء من قال: أنا استثني لأجل الموافاة، وأن الإيمان إنما هو اسم لما يوافي به العبد ربه، بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن   1 المسامرة (ص 383) وانظر المعتمد للقاضي أبي يعلى (ص 190) . 2 الإرشاد للجويني (ص 336) . 3 الفتاوى (7/ 439) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الإيمان يتضمن فعل الواجبات فلا يشهدون لأنفسهم بذلك كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا يعلمونه وهو تزكية لأنفسهم بلا علم، وقد سبق النقل عنهم من أقوالهم وألفاظهم ما يدل على ذلك ويؤيده. وأما سبب غلط هؤلاء في نسبة هذا القول للسلف مع أنهم لم يقولوه، فعائد إلى أنه: "لما اشتهر عند هؤلاء أن السلف يستثنون في الإيمان ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا فصاروا يحكون هذا عن السلف وهذا القول لم يقل به أحد من السلف ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلا على هذا الأصل وهم يدعون أن ما نصروه من أصل جهم في الإيمان هو قول المحققين والنظار من أصحاب الحديث، ومثل هذا يوجد كثيراً في مذاهب السلف التي خالفها بعض النظار وأظهر حجته في ذلك ولم يعرف حقيقة قول السلف فيقول من عرف حجة هؤلاء دون السلف أو من يعظمهم لما يراه من تميزهم عليه: هذا قول المحققين، وقال المحققون، ويكون ذلك من الأقوال الباطلة، المخالفة للعقل مع الشرع وهذا كثيراً ما يوجد في كلام بعض المبتدعين وبعض الملحدين. ومن أتاه الله علماً وإيماناً علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل، ومن كان له خبرة بالنظريات والعقليات وبالعمليات، علم أن مذهب الصحابة دائماً أرجح من قول من بعدهم وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ وكان الصواب قد سبق إليه من قبله"1.   1 الفتاوى (7/ 436) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 والمقصود: أن هؤلاء غلطوا على السلف من جهة حيث نسبوا إليهم شيئاً لم يقولوه، وضلوا عن الحق من جهة أخرى حيث أوجبوا الاستثناء في الإيمان على هذا الاعتبار الذي ابتدعوه. وقد احتج هؤلاء لقولهم ببعض الشبه والدلائل أذكر فيما يلي أهمها مع التنبيه على غلطهم فيما احتجوا به. فمن ذهب إلى هذا القول واحتج له القاضي أبو يعلى فقد قال في كتابه المعتمد في أصول الدين: "ولا يجوز أن يقول: أنا مؤمن حقاً بل يجب أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله خلافاً للمعتزلة1 في قولهم لا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله بل يجب أن يقول أنا مؤمن حقاً والدلالة عليه إجماع السلف، فروى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه قال: من زعم أنه مؤمن فهو كافر وعن الحسن أن رجلاً قال عند عبد الله بن مسعود إني مؤمن، فقيل لابن مسعود إن هذا يزعم أنه مؤمن، قال: فسلوه أفي الجنة هو أو في النار، فسألوه فقال: الله أعلم، فقال عبد الله فهلا وكلت الأولى كما وكلت الآخرة. وعن علقمة أنه كان بينه وبين رجل من الخوارج كلام فقال له علقمة: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا   1 قول المعتزلة في هذه المسألة هو خلاف ما ذكره القاضي أبو يعلى عنهم هنا فقد ذكر القاضي عبد الجبار في كتابه شرح الأصول الخمسة أنهم لا يجيزون غير الاستثناء قال: "ومن ذلك الكلام في أحدنا هل يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؟ والأصل فيه أنه يجوز بل لا يجوز خلافه". شرح الأصول الخمسة (ص 803) ، فهذا صريح في أن المعتزلة يوجبون الاستثناء فلو قال: خلافاً للجهمية لأصاب، وانظر هامش كتاب مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (ص 445) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 1. فقال له الرجل: ومؤمن أنت؟ قال: أرجو. ولأن المؤمن الحقيقي، والمؤمن عند الله- عز وجل- هو الذي يكون من أهل الجنة ولا يكون كذلك إلا بعد أن يوافي بالإيمان باتفاق، والواحد منا لا يعلم أنه يوافي بالإيمان أم بالكفر وإذا لم يعلم ذلك لم يعلم إنه مؤمن حقاً"2. فخلص لهم من هذا دليلان: الأول: بعض الآثار الواردة عن السلف ظنوا أن فيها حجة لهم. الثاني: قولهم إن الإيمان الحقيقي المنجي هو الإيمان الذي يوافي به العبد ربه وعلى هذا يجب أن يستثنى شكاً منه في المستقبل. قلت: أما استدلالهم الأول ببعض الآثار الواردة عن السلف في ذلك فالجواب عنه إجمالاً قد تقدم حيث ذكرت فيما سبق بالنقل عن شيخ الإسلام أن هذا لم يثبت عن أحد من السلف فضلاً عن أن يكونوا مجمعين عليه. ثم إن الآثار التي ذكرها القاضي محتجاً بها على وجوب الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة لا حجة له فيها إذ المراد بالإيمان فيها الإيمان التام الكامل الذي وصف الله أهله بأنهم هم المؤمنون حقاً لكونهم استوفوا أعمال الإيمان بصدق وإخلاص وتنافسوا في مستحباته فإنه إذا   1 سورة الأحزاب، الآية: 58. 2 المعتمد (ص190) ، قلت: وللقاضي أبي يعلى في هذه المسألة قول آخر يوافق ما جاء عن السلف، انظره في كتاب الإيمان له (ص 428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 قصد بالإيمان هذا القدر فالاستثناء في الإيمان واجب بعداً عن التزكية ومجانبة لادعاء الكمال. قال عمر من قال أنا مؤمن- أي كامل الإيمان- فهو كافر. وليس هذا من الكفر الاعتقادي المخرج من الملة بل من الكفر العملي الذي ينقص الإيمان ولا يخرج من الملة كقوله- صلى الله عليه وسلم- "اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت" 1. فيكون مراد عمر رضي الله عنه بقوله: من قال أنا مؤمن فهو كافر أي من ادعى لنفسه كمال الإيمان واستيفاء واجباته وأنه من الذين قال الله فيهم: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 2. فمن ادعى لنفسه هذه الأمور وهي لازمة لمن قال إني مؤمن لأن اسم الإيمان يشملها فمن ادعى ذلك يكون كافراً كفراً عملياً غير مخرج من الملة، ككفر من ناح على الميت، أو طعن في الأنساب فهو كفر دون وهذا أمر معلوم متقرر عند أهل السنة والجماعة وله نظائر كثيرة يطلق فيها الكفر ويراد الكفر العملي. والمقصود: أن أثر عمر الخطاب- رضي الله عنه- يحمل على هذا إن صح إذ في صحته نظر3.   1 تقدم تخريجه (ص 354) . 2 سورة الأنفال، الآية: 2، 3. 3 فقد رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده كما في المطالب العالية لابن حجر: (3/98) ، وابن بطة في الإبانة (2/868) من طريق قتادة عن عمر بن الخطاب إلا أن قتادة- وهو ابن دعامة السدوسي- لم يدرك عمر. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (8/ 315) . ولهذا أعله العراقي والبوصيري بالانقطاع. ورواه ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير (1/512) من طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر رضي الله عنه. وموسى بن عبيدة ضعيف. انظر التقريب (2/278) ، والمغني في الضعفاء للذهبي (2/335) . ورواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (5/975) قال أنا محمد بن أحمد البصير قال: أنا عثمان بن أحمد قال نا حنبل، قال: حدثني أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل قال: نا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال: قال عمر بن الخطاب فذكره. ولم أعرف شيخ اللالكائي ولا شيخ شيخه وبقية الإسناد رجاله ثقات وقد ذكر شيخ الإسلام هذا الأثر بصيغة التمريض مما يشير إلى أنه لم يثبت عنده حيت قال بعد أن ذكره: "يروى عن عمر بن الخطاب من وجوه مرسلاً من حديث قتادة ونعيم بن أبي هند وغيرهما". انظر الفتاوى (7/ 417) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 ولهذا أيضاً قال ابن مسعود لمن قال: إني مؤمن: "قل: إني في الجنة"؛ لأن من أتى بالإيمان الكامل في الدنيا كان من أهل الجنة يوم القيامة بلا حساب ولا عذاب ولا يقطع أحد لنفسه بذلك بل يرجو ويخاف. فالمراد إذاً بالمؤمن في أثر ابن مسعود أي: المؤمن المطلق الموعود بالجنة بلا نار إذا مات على إيمانه ومن شهد لنفسه بذلك فقد زكاها بأعظم تزكية. قال شيخ الإسلام بعد أن أشار إلى هذا المعنى: "ولهذا كان ابن مسعود وغيره من السلف يلزمون من شهد لنفسه بالإيمان أن يشهد لها بالجنة يعنون إذا مات على ذلك فإنه قد عرف أن الجنة لا يدخلها إلا من مات مؤمناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 فإذا قال الإنسان: أنا مؤمن قطعاً وأنا مؤمن عند الله قيل له: فاقطع بأنك تدخل الجنة بلا عذاب إذا مت على هذا الحال فإن الله أخبر أن المؤمنين في الجنة ... "1. فلهذا المعنى كان ابن مسعود- رضي الله عنه- ينكر على من يقطع بالإيمان ويأمر بالاستثناء فيه لا على المعنى الذي ظنه هؤلاء من أن ابن مسعود يأمر بالاستثناء نظراً للخاتمة. يقول شيخ الإسلام: "وابن مسعود- رضي الله عنه- لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمناً وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت فإن ابن مسعود أجل قدراً عن هذا، وإنما أراد سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟ فلما قال: الله اعلم قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد لنفسه أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك ... "2. وفد ذكر في بعض الروايات أن ابن مسعود- رضي الله عنه- رجع عن قوله وهذا بسبب سؤال أورده عليه بعضهم وهو: "أنشدك بالله أتعلم أن الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم- على ثلاثة أصناف: مؤمن السريرة مؤمن العلانية، وكافر السريرة كافر العلانية، ومؤمن العلانية كافر السريرة؟ "3.   1 الفتاوى (7/ 416) . 2 الفتاوى (7/ 417، 418) . 3 رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 14) وفي الإيمان (ص 23) والطبري في تهذيب الآثار (2/183) عن أبي قلابة قال حدثني الرسول الذي سأل عبد الله بن مسعود: فذكره. وهذا إسناد ضعيف لجهالة الرجل الذي سأل ابن مسعود، وبهذا أعله الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 وفي لفظ أنه قال له: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين1. وهذا الذي ذكر هنا غير ثابت عن ابن مسعود- رضي الله عنه- وقد أنكره غير واحد من أهل العلم، قال أبو عبيد: وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره ويطعن في إسناده لأن أصحاب عبد الله على خلافه2. وروى الخلال في السنة عن الحسن بن محمد بن الحارث أنه سأل الإمام أحمد هل يصح قول ابن عميرة أن ابن مسعود رجع عن الاستثناء؟ فقال لا يصح، وأنكر أحمد قولي رجع عن الاستثناء إنكاراً شديداً، وقال: كذلك أصحابه يقولون بالاستثناء3. ثم على فرض ثبوته فقوله إنه من المؤمنين محمول على أصل الإيمان ولهذا يقول أبو عبيد: "إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 4 ... "5. وبسبب هذا السؤال ظن كثير من المرجئة أن ابن مسعود- رضي الله عنه- رجع عن الاستثناء عندما نظر إلى الحال وأنه كان يقول بالاستثناء   1 رواه أبو عبيد في الإيمان (ص 69) . 2 الإيمان (ص 69) . 3 السنة (رقم 1062) ونقله شيخ الإسلام، انظر الفتاوى (7/ 417) . 4 سورة النجم، الآية: 32. 5 الإيمان (ص 69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 عندما كان ينظر إلى الخاتمة والمآل. - قال شيخ الإسلام: "ولهذا السؤال صار طائفة كثيرة يقولون: المؤمن هو من سبق في علم الله أنه يختم له بالإيمان، والكافر من سبق في علم الله أنه كافر وأنه لا اعتبار بما كان قبل ذلك، وعلى هذا يجعلون الاستثناء، وهذا أحد قولي الناس من أصحاب أحمد وغيرهم وهو قول أبي الحسن وأصحابه"1. أي: يجعلون الاستثناء بالنظر إلى الموافاة وقد سبق التنبيه إلى أن ابن مسعود أجل من أن يكون ذلك هو مراده ومقصوده بالاستثناء. وأما أثر علقمة وأنه كان بينه وبين رجل من الخوارج كلام وأن الخارجي قال له: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو. فليس في هذا ما يدل على أنه يرى وجوب الاستثناء، بل وليس فيه ما يدل على أنه يرى أن الاستثناء إنما يكون بحسب الموافاة. بل مقصوده بهذا الاستثناء النظر إلى الأعمال وتكميلها والبعد عن تزكية النفس كما هي طريقة السلف في هذه المسألة. وأما استدلالهم الثاني لمسألة الموافاة: بأن الإيمان الحقيقي المنجي هو الإيمان الذي يوافي به العبد ربه، وبناء على هذا يكون الاستثناء لأجل الموافاة لأن كل أحد يشك في مستقبله هل يثبت على الإيمان أولاً؟ فالجواب عنه من وجوه: الأول: أن هذا ليس هو مراد السلف بالاستثناء وليس مقصودهم ولا كان أحد منهم يستثنى في إيمانه لهذا السبب، لكن لما   1 الفتاوى (7/ 417) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 اشتهر عند هؤلاء أن السلف يستثنون في الإيمان ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه وهو ما يوافي به العبد ربه ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا وهذا غلط عليهم. الثاني: أن من لوازم هذا القول أن لا يقطع بقبول الله لتوبة التائبين وهم يلتزمونه، قال شيخ الإسلام: "ولهذا صار الذين لا يرون الاستثناء لأجل الحاضر بل للموافاة لا يقطعون بأن الله يقبل توبة التائب كما لا يقطعون بأن الله تعالى يعاقب مذنباً فإنهم لو قطعوا بقبول توبته لزمهم أن يقطعوا له بالجنة، وهم لا يقطعون لأحد من أهل القبلة لا بجنة ولا نار إلا من قطع له النص. وإذا قيل الجنة هي لمن أتى بالتوبة النصوح من جميع السيئات ولو مات على هذه التوبة لم يقطع له بالجنة وهم لا يستثنون في الأحوال بل يجزمون بأن المؤمن تام الإيمان ولكن عندهم الإيمان عند الله هو ما يوافي به فمن قطعوا له بأنه مات مؤمناً لا ذنب له قطعوا له بالجنة، فلهذا لا يقطعون بقبول التوبة لئلا يلزمهم أن يقطعوا بالجنة وأما أئمة السلف فإنما لم يقطعوا بالجنة لأنهم لا يقطعون بأنه فعل المأمور وترك المحظور، ولا أنه أتى بالتوبة النصوح وإلا فهم يقطعون بأن من تاب توبة نصوحاً قبل الله توبته"1. الثالث: أن من لوازم قولهم هذا أن يستثني في الكفر أيضاً وليس في الإيمان فقط، فيقول: لست كافراً إن شاء الله؟ لأن كل أحد لا يعلم من نفسه هل يثبت على الإيمان إلى أن   1 الفتاوى (7/ 418) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 يموت أولا، فإنَّ مما ذكروه مطرد فيهما، ولهذا فإن بعض محققيهم التزم هذا اللازم وقال به ولكن جماهير الأئمة على أنه لا يستثنى في الكفر والاستثناء فيه بدعة لم يعرف عن أحد من السلف1. الرابع: أن لهذه المسألة تعلقاً بمسألة الرضا والسخط هل هو قديم أو محدث بمعنى أن المؤمن الذي علم الله أنه يموت كافراً وبالعكس هل يتعلق رضا الله وسخطه ومحبته وبغضه بما هو عليه أو بما يوافي به؟ فهم يقولون: إن محبة الله ورضاه وسخطه وبغضه قديم ثم هل ذلك هو الإراده أم صفات أخرى؟ لهم في ذلك قولان. ويقولون: والله يحب في أزله من كان كافراً إذا علم أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين لله وإن كانوا قد عبدوا الأصنام مدة من الدهر، وإبليس ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد، وهذا المعنى تابع لعلم الله، فمن علم أنه يموت مؤمناً لم يزل ولياً لله محبوباً له لأنه لم يزل مريداً لإدخاله الجنة، ومن علم أنه يموت كافراً لم يزل عدواً لله لأنه لم يزل مريداً لإدخاله النار2. فالكفر الذي عند الأول وجوده كعدمه فلم يكن هذا كافرا عندهم أصلاً، والإيمان الذي كان عند الثاني وجوده كعدمه فلم يكن عندهم مؤمناً أصلاً لأن الإيمان هو ما يوافي به العبد ربه. أما جمهور أهل العلم فيقولون: الولاية والعداوة وإن تضمنت محبة الله ورضاه وبغضه وسخطه فهو سبحانه يرضى عن الإنسان ويحبه   1 انظر الفتاوى (7/431) . 2 انظر الفتاوى (7/430 و 667) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 بعد أن يؤمن ويعمل صالحاً، وإنما يسخط عليه ويغضب بعد أن يكفر كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} 1 فأخبر أن الأعمال أسخطته وكذلك قال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} 2 قال المفسرون: أغضبونا وكذلك قال تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} 3 وغير ذلك من النصوص الدالة على أن غضب الله وسخطه ورضا وحبه يكون بعد حصول ما يقتضي ذلك من العبد، فالله يبغض العبد إذا حصل منه الكفر ويحبه إذا حصل منه الإيمان. وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية أدلة هذه المسألة بسطاً وافياً في كتاب الإيمان وذكر أدلتها من الكتاب والسنة4. الخامس: أن هؤلاء لما عللوا الاستثناء في الإيمان بتلك العلة طرد أقوام تلك العلة في الأشياء التي لا يجوز الاستثناء فيها بإجماع المسلمين بناء على أن الأشياء الموجودة الآن إذا كانت في علم الله تتبدل أحوالها فيستثنى في صفاتها الموجودة في الحال ويقال: هذا صغير إن شاء الله لأن الله قد يجعله كبيراً، ويقال: هذا مجنون إن شاء الله لأن الله قد يجعله عاقلاً ويقال للمرتد هذا كافر إن شاء الله لإمكان أن يتوب وهؤلاء الذين استثنوا في الإيمان بناء على هذا المأخذ ظنوا هذا قول السلف5.   1 سورة محمد، الآية: 28. 2 سورة الزخرف، الآية: 55. 3 سورة الزمر، الآية: 7. 4 الفتاوى (7/ 442 وما بعدها) . 5 انظر الفتاوى (7/ 434) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 والمقصود أن بدعة هؤلاء ومأخذهم في الاستثناء جر إلى بدع أخرى عديدة. فإن بدعة هؤلاء كانت وراء نشوء بدعة المرازقة الذين ينتسبون إلى عثمان بن مرزوق1 فقد كانوا يستثنون في الإيمان اتباعاً للسلف واستثنوا أيضاً في الأعمال الصالحة كقول الرجل صليت إن شاء الله ونحو ذلك بمعنى القبول لما في ذلك من الآثار عن السلف ثم صار كثير من هؤلاء بآخره يستثنون في كل شيء، فيقول هذا ثوب إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله فإذا قيل لأحدهم: هذا لا شك فيه قال: نعم لا شك فيه، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره فيريدون بقولهم إن شاء الله جواز تغييره في المستقبل وإن كان في الحال لا شك فيه كأن الحقيقية عندهم التي لا يستثنى فيها ما لم تتبدل كما يقوله أولئك في الإيمان، إن الإيمان ما علم الله أنه لا يتبدل حتى يموت صاحبه عليه2 فبدعة أولئك جرت إلى بدعة هؤلاء، والبدع يتوالد بعضها من بعض. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- عن بدعة المرازقة هذه فأجاب بقوله: "إن جماعات ينتسبون إلى الشيخ عثمان بن مرزوق ويقولون أشياء مخالفة لما كان عليه. وهو منتسب إلى مذهب أحمد وهم ينتسبون إلى مذهب الشافعي ويقولون أقوالاً مخالفة لمذهب الشافعي وأحمد بل ولسائر الأئمة، وشيخهم هذا من شيوخ العلم والدين له أسوة أمثاله وإذا قال قولاً علم أن قول الشافعي وأحمد يخالفه وجب تقديم قولهما على   1 هو أبو عمرو عثمان بن مرزوق بن حميد بن سلام القرشي الحنبلي انتسب إليه جماعات: قالوا بأقوال مخالفة لما كان عليه توفي بمصر سنة 564 هـ. انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (1/306) . 2 انظر الفتاوى (7/ 432، 433) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 قوله مع دلالة الكتاب والسنة على قول الأئمة فكيف إذ كان القول مخالفاً لقوله ولقول الأئمة والكتاب والسنة. وذلك مثل قولهم: ولا نقول قطعاً، ونقول نشهد أن محمداً رسول الله ولا نقطع، ونقول: إن السماء فوقنا ولا نقطع ويروون أثراً عن علي وبعضهم يرفعه أنه قال: "لا تقل قطعاً"وهذا من الكذب المفترى باتفاق أهل العلم، ولم يكن شيخهم يقول هذا بل هذه بدعة أحدثها بعض أصحابه بعد موته.. إلى أن قال: والواجب موافقة جماعة المسلمين فإن قول القائل: قطعاً بذلك مثل قوله أشهد بذلك وأجزم بذلك وأعلم ذلك فإذا قال: أشهد ولا أقطع كان جاهلاً والجاهل عليه أن يرجع ولا يصر على جهله ولا يخالف ما عليه علماء المسلمين فإنه يكون بذلك مبتدعاً جاهلاً ضالاً ... "1. ومما قد يستدل به هؤلاء على بدعتهم المنكرة هذه ما روي مرفوعاً من حديث أبي هريرة: "إن من تمام إيمان العبد أن يستثنى في كل حديثه". قال الذهبي: "هذا الحديث باطل قد يحتج به المرازقة الذين لو قيل لأحدهم أنت مسيلمة الكذاب لقال إن شاء الله"2. فيظن أن نفيه لذلك نفي لقدرة الله وهذا جهل عظيم منه لأنه سئل عن حاله ولم يسأل عن قدرة الله على تغيير حاله فسوء الفهم وقلة العلم هو سبب انحراف هؤلاء. والمقصود: أن إيجاب الاستثناء وربطه بالموفاة ليس من نهج   1 الفتاوى (7/ 680- 682) . 2 الميزان (4/ 134) ، ونقله السيوطي في اللآليء (ص 42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 السلف ولا على طريقتهم، والواجب موافقتهم والسير على نهجهم، فهم أسعد بالدليل وأولى بالحق والسبيل، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 الفصل الثالث: فيمن قال بعدم جواز الاستثناء في الإيمان عرفنا في الفصل السابق أن الأشاعرة والكلابية ذهبوا إلى إيجاب الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة، وسبق بيان بطلان هذا القول وبعده عن الصواب، فعلى الضد لهؤلاء وفي المقابل لهم ذهبت الماتريدية بل والأحناف عموماً إلى عدم جواز الاستثناء في الإيمان لما يقتضيه في نظرهم من الشك في الإيمان1 وعدوا من يستثني شاكاً في إيمانه، وصار بعضهم يلمز السلف بأنهم شكاك، بل غلا بعضهم في ذلك فمنع تزويج أو أكل ذبيحة من يستثني في إيمانه. كما قال أبو بكر الفضلي: "من قال أنا مؤمن إن شاء الله فهو كافر لا تجوز المناكحة معه ". وقال أبو حفص السفكردري وبعض أئمة خوارزم من الحنفية: "لا ينبغي للحنفي أن يزوج بنته من رجل شافعي المذهب ولكن يتزوج من الشافعية تنزيلاً لهم منزلة أهل الكتاب بحجة أن الشافعية يرون جواز الاستثناء في الإيمان وهو كفر"2. وجاء في كتب يعضهم: "لا يصلى خلف شاك في إيمانه يقصدون بذلك من يستثني في إيمانه"3.   1 انظر التوحيد للماتريدي (ص 388) وتأويلات أهل السنة له (ص 265) ، وبحر الكلام (ص40) ، والنبراس (ص 418) ، والجوهرة المنيفة (ص 5) والبداية من الكفاية (ص 155) وتحفة القاري (ص 52) وغيرها. 2 انظر البحر الرائق (2/46) . 3 إتحاف السادة المتقين (2/278) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 قلت: وهذا التصرف المشين والغلو المفرط ليس عاماً في جميع الأحناف القائلين بهذا القول بل منهم من استنكره على قائله ووصفه بأنه جرأة عظيمة وتعصب لا يرضاه الله تعالى كما قال الفرهاري: "وقد بالغ بعض الحنفية في المنع حتى قال الفضلى: "لا يجوز نكاح المرأة الشافعية لأنهم كفروا بالإستثناء"وهذه جرأة عظيمة وتعصب لا يرضاه الحق سبحانه"1. ثم إن لأهل هذا القول أدلة عديدة وشبه متنوعة يعترضون بها على من أجاز الاستثناء وقال بمشروعيته. وفيما يلي عرض لأهم هذه الشبه مع بيان بطلانها: 1- قولهم إن الإيمان هو التصديق والإقرار، ومن قام به التصديق والإقرار فهو مؤمن حقاً لا يجوز أن يقول: أنا مؤمن إن شاه الله، كمن قامت به الحياة لا يجوز أن يقول: أنا حي إن شاء الله، وكذا يكون مؤمناً عند الله تعالى لقيام الإيمان به في الحال، وإن علم الله تعالى أنه يكفر بعد ذلك، كما يعلم الله الحي حياً لقيام الحياة به في الحال وإن علم أنه يموت بعد ذلك، وكذلك هو مثل قول الشاب: أنا شاب إن شاء الله باعتبار أنه لا يدوم على شبابه، ومن المعلوم أن هذا غير جائز فكذلك الاستثناء في الإيمان2. قلت: واعتراضهم هذا إنما يتوجه على قول الأشاعرة القائلين بوجوب الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة، أما على قول أهل السنة والجماعة المستثنين باعتبار الأعمال والبعد عن تزكية النفس فغير متوجه   1 النبراس شرح العقائد (ص 420) . 2 انظر البداية من الكفاية (ص 155) ، والنبراس شرح العقائد (ص 420) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ألبتة كما لا يخفى، ومع ذلك فقد أجاب الأشاعرة عن هذا الاعتراض الوارد على قولهم بأن قالوا: إن الاستثناء في الإيمان ليس مثل قول القائل أنا شاب إن شاء الله لأن الشباب ليس من الأفعال المكتسبة ولا مما يتصور عليه البقاء في العاقبة والمآل ولا مما يحصل به تزكية النفس والإعجاب، حاصل الجواب منع استواء الكلامين لأن في الإيمان ثلاثة أمور مصححة للاستثناء غير موجودة في الشباب: أحدها: أن الشباب ليس من الأفعال الاختيارية فلا يتصور في استثنائه تأدب، لأن التأدب ههنا هو ترك دعوى القدرة والكسب مع وجودهما، بخلاف الإيمان فإنه كسبي اختياري فيجوز فيه التأدب بترك الدعوى. ثانيها: أن الشباب لا يتصور استمراره على ما جرت به العادة الإلهية فلما لم يكن من الأمور التي تشك في بقائها عاقبة الأمر لم يحسن الاستثناء فيه على سبيل إبهام العاقبة بخلاف الإيمان، لأن العاقبة فيه مبهمة. ثالثها: أن الشباب ليس من الأعمال الصالحة فلا يتصور فيه الافتخار الذي يتصور في العمل الصالح، فلا يصح فيه، الاستثناء الدافع للافتخار بخلاف الإيمان فإنه رئيس الأعمال الصالحة بل الاستثناء في الإيمان مثل قولك أنا زاهد متق إن شاء الله تعالى؛ لأن الإيمان والزهد والتقوى أعمال: كسبية يتصور بقاؤها، ويكون دعواها مظنة فخر وإعجاب فكما أن الاستثناء يجوز في الزهد والتقوى إجماعاً فكذا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 الإيمان1. ولا شك أنه بهذا الجواب يندفع اعتراض هؤلاء بتسوية الإيمان والشباب في عدم جواز الاستثناء فيهما، وأوجه هذه الأجوبة وأصوبها عندي ثالثها وهو يتطابق مع مراد السلف ومقصودهم بالاستثناء في الإيمان إلا أنه لم ينص فيه على أن الأعمال من الإيمان. 2- ادعاؤهم أن الاستثناء فيه إيهام الشك في الإيمان فينبغي صون الكلام عنه2. ونقل عن أبي حنيفة أنه قال: المؤمن حقاً والكافر حقاً لا شك في الإيمان كما لا شك في الكفر، والاستثناء يدل على الشك، ولا يجوز الشك في الإيمان للإجماع على أن من قال: آمنت إن شاء الله أو آمنت بالملائكة أو بالكتب أو بالرسل إن شاء الله يكون كافراً. 3 قلت: والكلام على هذه الشبهة سبق مستوفى- بحمد الله- عند بيان مآخذ السلف في الاستثناء، وأن الاستثناء لا يقتضي الشك، وسبق هناك من نصوص الشرع وأقوال أهل العلم ما يكفي في دفع هذا، مثل قول الله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 4 وقوله صلى الله عليه وسلم في أصحاب القبور "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" 5 وغير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على أن الاستثناء قد يكون على اليقين ولا يقتضي   1 انظر النبراس شرح العقائد (ص 420، 421) . 2 انظر تحفة القاري (ص 52) . 3 انظر بحر الكلام (ص 40) والروضة البهية (ص 10) . 4 سورة الفتح، الآية: 27. 5 تقدم تخريجه (ص 473) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 شكاً ولا ريباً. ثم فرق بين قول الرجل: أنا مؤمن أو مؤمن حقا، وبين قوله: آمنت بالله، أو أشهد ألا إله إلا الله، أو أشهد أن محمداً رسول الله، لأن المراد بهذه الأمور الأخيرة أصل الإيمان وأساسه وهذا لا استثناء فيه، وأما المراد بأنا مؤمن حقاً كمال الإيمان وتمامه وهذا لا بد من الاستثناء فيه، وإلا يكون غير المستثني في هذا مزكياً لنفسه شاهداً بأنه في الجنة، وهذا لا يدعيه أحد. 3- قولهم: إن الاستثناء، تعليق والتعليق لا يتصور إلا فيما يتحقق بعد كما قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1. وأما إذا تحقق كالماضي والحال فيمتنع تعليقه. 4- وقولهم: إن الاستثناء يرفع العقود جميع العقود نحو الطلاق والعتاق والنكاح والبيع، فكذلك يرفع عقد الإيمان2. قلت: وقد ذكر شيخ الإسلام هاتين الشبهتين وأجاب عنهما جواباً وافياً كافياً ولأهمية كلامه رحمه الله فإني أسوقه بحروفه مع حذف شيء يسير منه، قال: "وقد علل تحريم الاستثناء فيه بأنه لا يصح تعليقه على الشرط؛ لأن المعلق على الشرط لا يوجد إلا عند وجوده، كما قالوا في قوله: أنت طالق إن شاء الله. فإذا علق الإيمان بالشرط كسائر المعلقات بالشرط لا يحصل إلا عند حصول الشرط. قالوا: وشرط المشيئة الذي يترجاه القائل لا يتحقق حصوله إلى يوم   1 سورة الكهف، الآية: 23. 2 انظر التوحيد لأبي منصور الماتريدي (ص 388) ، وبحر الكلام (ص40) ، والنبراس (ص 418) ، والجوهرة المنيفة (ص 5) ، والروضة البهية (ص10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 القيامة، فإذا علق العزم بالفعل على التصديق والإقرار فقد ظهرت المشيئة وصح العقد، فلا معنى للاستثناء؛ ولأن الاستثناء عقيب الكلام يرفع الكلام، فلا يبقى الإقرار بالإيمان والعقد مؤمناً، وربما يتوهم هذا القائل القارن بالاستثناء على الإيمان بقاء التصديق، وذلك يزيله. قلت: فتعليلهم في المسألة إنما يتوجه فيمن يعلق إنشاء الإيمان على المشيئة، كالذي يريد الدخول في الإسلام، فيقال له: آمن. فيقول: أن أومن إن شاء الله، أو آمنت أن شاء [الله] ، أو أسلمت إن شاء الله، أو أشهد إن شاء الله ألا إله إلا الله، وأشهد إن شاء الله أن محمداً رسول الله، والذين استثنوا من السلف والخلف لم يقصدوا في الإنشاء، وإنما كان استثناؤهم في إخباره عما قد حصل له من الإيمان، فاستثنوا؛ إما أن الإيمان المطلق يقتضي دخول الجنة وهم لا يعلمون الخاتمة، كأنه إذا قيل للرجل: أنت مؤمن. قيل له: أنت عند الله مؤمن من أهل الجنة، فيقول: أنا كذلك إن شاء الله أو لأنهم لا يعرفون أنهم أتوا بكمال الإيمان الواجب. ولهذا كان من جواب بعضهم إذا اقيل له أنت مؤمن: آمنت بالله وملائكته وكتبه، فيجزم بهذا ولا يعلقه، أو يقول: إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي ومالي فأنا مؤمن، وإن كنت تريد قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} 1 وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ   1 سورة الأنفال، الآية: 2-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 الصَّادِقُونَ} 1 فأنا مؤمن إن شاء الله، وأما الإنشاء فلم يستثن فيه أحد، ولا شرع الاستثناء فيه، بل كل من آمن وأسلم آمن وأسلم جزماً بلا تعليق. ولو قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله: ففيه نزاع مشهور، وقد رجحنا التفصيل، وهو أن الكلام يراد به شيئان، يراد به إيقاع الطلاق تارة، ويراد به منع إيقاعه تارة، فإن كان مراده أنت طالق بهذا اللفظ. فقوله: إن شاء الله مثل قوله بمشيئة الله، وقد شاء الله الطلاق حين أتى بالتطليق فيقع وإن كان قد علق لئلا يقع، أو علقه على مشيئة توجد بعد هذا لم يقع به الطلاق حتى يطلق بعد هذا، فإنه حينئذ شاء الله أن تطلق. وقول من قال المشيئة تنجزه ليس كما قال، بل نحن نعلم قطعاً أن الطلاق لا يقع إلا إذا طلقت المرأة بأن يطلقها الزوج أو من يقوم مقامه، من ولي أو وكيل، فإذا لم يوجد تطليق لم يقع طلاق قط، فإذا قال أنت طالق إن شاء الله وقصد حقيقة التعليق لم يقع إلا بتطليق بعد ذلك، وكذلك إذا قصد تعليقه لئلا يقع الآن. وأما إن قصد إيقاعه الآن وعلقه بالمشيئة توكيداً وتحقيقاً فهذا يقع به الطلاق. وما أعرف أحداً أنشأ الإيمان فعلقه على المشيئة، فإذا علقه فإن كان مقصوده أنا مؤمن إن شاء الله أنا أومن بعد ذلك فهذا لم يصر مؤمناً، مثل الذي يقال له: هل تصير من أهل دين الإسلام فقال: أصير إن شاء الله فهذا لم يسلم، بل هو باق على الكفر. وإن كان قصده أني قد آمنت وإيماني بمشيئة الله صار مؤمناً، لكن إطلاق اللفظ يحتمل هذا وهذا، فلا يجوز إطلاق مثل هذا اللفظ في الإنشاء، وأيضاً فإن الأصل أنه إنما يعلق   1 سورة الحجرات، الآية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 بالمشيئة ما كان مستقبلاً فأما الماضي والحاضر فلا يعلق بالمشيئة، والذين استثنوا لم يستثنوا في الإنشاء كما تقدم، كيف وقد أمروا أن يقولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} 1. وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 2 فأخبر أنهم آمنوا فوقع الإيمان منهم قطعاً بلا استثناء. وعلى كل أحد أن يقول: آمنا بالله وما أنزل إلينا كما أمر الله بلا استثناء، وهذا متفق عليه بين المسلمين ما استثنى أحد من السلف قط في مثل هذا، وإنما الكلام إذا أخبر عن نفسه بأنه مؤمن كما يخبر عن نفسه بأنه بر، تقي، فقول القائل له: أنت مؤمن هو عندهم كقوله: هل أنت بر تقي؟ فإذا قال: أنا بر تقي فقد زكى نفسه. فيقول: إن شاء الله، وأرجو أن أكون كذلك، وذلك: أن الإيمان التام يتعقبه قبول الله له، وجزاؤه عليه، وكتابة الملك له، فالاستثناء يعود إلى ذلك لا إلى ما علمه هو من نفسه وحصل واستقر: فإن هذا لا يصح تعليقه بالمشيئة، بل يقال هذا حاصل بمشيئة الله وفضله وإحسانه، وقوله فيه إن شاء الله بمعنى إذ شاء الله، وذلك تحقيق لا تعليق والرجل قد يقول: والله ليكونن كذا إن شاء الله وهو جازم بأنه يكون فالمعلق هو الفعل، كقوله {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} 3 والله عالم بأنهم سيدخلونه، وقد يقول الآدمي لأفعلن كذا إن شاء الله وهو لا يجزم بأنه يقع، لكن يرجوه فيقول:   1 سورة البقرة، الآية: 136. 2 سورة البقرة، الآية: 285. 3 سورة الفتح، الآية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 يكون إن شاء الله، ثم عزمه عليه قد يكون جازماً، ولكن لا يجزم بوقوع المعزوم عليه، وقد يكون العزم متردداً معلقاً بالمشيئة أيضاً، ولكن متى كان المعزوم عليه معلقاً لزم تعليق بقاء العزم فإنه بتقدير أن تعليق العزم ابتداءً أو دواماً في مثل ذلك. ولهذا لم يحنث المطلق المعلق وحرف "إن"لا يبقي العزم، فلا بد إذا دخل على الماضي صار مستقبلاً، تقول: إن جاء زيد كان كذلك {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} 1 وإذا أريد الماضي دخل حرف "إن"كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} 2 فيفرق بين قوله: أنا مؤمن إن شاء الله وبين قوله إن كان الله شاء إيماني"3. 5- ومما احتج به هؤلاء على قولهم حديث الحارث بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: كيف أصبحت يا حارث بن مالك؟ قال: أصبحت مؤمناً حقاً، قال: "إن لكل قول حقيقة فما حقيقة ذلك، قال أصبحت عزفت نفسي عن الدنيا وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي قد أبرز للحساب، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة، وكأني أسمع عواء أهل النار، قال: فقال له عبد نور الإيمان قي قلبه، إن عرفت فالزم" 4.   1 سورة البقرة، الآية: 137. 2 سورة آل عمران، الآية: 31. 3 الفتاوى (13/41-46) . 4 رواه ابن المبارك في الزهد (ص 106) عن معمر عن صالح بن مسمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا حارثة بن مالك كيف أصبحت قال الحافظ: "وهو معضل". ورواه عبد الرزاق في مصنفه (11/129) وابن الأعرابي في معجمه (برقم 205) من طريق معمر عن صالح بن مسمار، وجعفر بن برقان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (11/43) ، وفي الإيمان (ص 38) من طريق ابن نمير نا مالك بن مغول عن زبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. قال الألباني: "والحديث معضل فإن زبيداً من الطبقة السادسة التي لم تلق أحداً من الصحابة عند الحافظ في التقريب، وقد روي موصولاً عن الحارث بن مالك نفسه رواه عبد بن حميد والطبراني وأبو نعيم وغيرهم بسند ضعيف، ا. هـ. وللحديث طرق عديدة موصولة ومرسلة لكنها لا تخلو من ضعف وكلام، وقد فصل القول فيها الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة في ترجمة الحارث (1/ 289) فليراجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 قالوا: فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولكن قال لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ 1. قلت: وهذا الحديث لا حجة لهم فيه لأمرين: الأول: أن في ثبوته نظراً وقد تكلم فيه غير واحد من أهل العلم. الثاني: أنه إن صح فمحمول على أن المراد به أصل الإيمان، ومن المعلوم أنه إذا أريد به أصل الإيمان جاز اطلاقه كما سبق النقل في ذلك عن السلف، قال شيخ الإسلام: "وأما جواز اطلاق القول بأني مؤمن فيصح إذا عني أصل الإيمان دون كماله، والدخول فيه دون تمامه، كما يقول: أنا حاج وصائم لمن شرع في ذلك، وكما يطلقه في قوله: آمنت بالله ورسله، وفي قوله: إن كنت تعني كذا وكذا أن جواز إخباره بالفعل يقتضي جواز إخباره بالاسم مع القرينة وعلى هذا يخرج ما روي عن صاحب معاذ بن جبل، وما روي في حديث الحارث الذي قال: "أنا مؤمن حقاً"وفي حديث   1 انظر بحر الكلام في علم التوحيد (ص 41) والروضة البهجة (ص 10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 الوفد الذين قالوا: "نحن المؤمنون"وإن كان في الإسنادين نظراً"1. 6- واحتجوا أيضاً ببعض الآثار المروية عن السلف كمعاذ بن جبل وابن مسعود وعطاء وغيرهم فيها التصريح بالإيمان بدون استثناء2. قلت: وقد سبق ذكر هذه الآثار وتخريجها عند بيان مذهب السلف في مسألة الاستثناء3، وأنها لا تخلو من أحد أمور ثلاثة: إما أن تكون لا ضعيفة الإسناد، أو قيلت على سبيل التعميم نحو أنتم المؤمنون، أو يكون قصد بذلك أصل الإيمان. أما إذا أريد الإيمان التام الكامل فلا بد من الاستثناء، والله أعلم. هذا وقد ادعى بعضهم- كالسبكي في رسالته التي صنَّفها في مسألة الاستثناء، وأبي عذبة في كتابه الذي صنَّفه لبيان المسائل المختلف فيها بين الأشاعرة والماتريدية - أن الخلاف في هذه المسألة بين الأشاعرة القائلين بوجوب الاستثناء نظراً للموافاة، وبين الماتريدية القائلين بعدم جواز الاستثناء مطلقاً لما يقتضيه في نظرهم من الشك والريب في الإيمان لفظي وليس حقيقياً4. والحق أن الخلاف بين الطائفين جوهري حقيقي وليس لفظياً فقط، وذلك لأن الماتريدية لم يرتضوا ما ذهب إليه الأشاعرة من إيجاب للاستثناء باعتبار الموافاة، فالطائفتان وإن كان بينهما اتفاق في أنه لا يقال أنا   1 الفتاوى (7/ 669) . 2 انظر النبراس (ص 418) ، واتحاف السادة المتقين (2/481) . 3 انظر (484 وما بعدها) من هذه الرسالة وانظر أيضاً (ص 508) . 4 انظر إتحاف السادة المتقين للزبيدي (2/278) ، والروضة البهية لأبي عذبة (ص 9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 مؤمن إن شاء الله للشك في ثبوت الإيمان للحال، فإن بينهما خلافاً في جواز إطلاق هذا الاستثناء بالنظر إلى إيمان المآل والموافاة، فلم يجوزه الماتريدية وأوجبه الأشاعرة، وعلل الماتريدية عدم تجويزه "بأن النفس قد تعتاد التردد في إيمان الحال بسبب ترددها في ثبوت الإيمان واستمراره، وهذه مفسدة قد تجر آخر الحياة إلى الاعتياد به، خصوصاً والشيطان متبتل بالإنسان لا شغل له سواه، فيجب حينئذ تركه"1. فإيمان الموافاة الذي يوجب الأشاعرة الاستثناء نظراً إليه لا يجيز الماتريدية الاستثناء لأجله، فكيف يقال بعدئذ إن الخلاف بينهما لفظي، ومن المعلوم أيضاً أن بعض الماتريدية لا يجيز الصلاة خلف المستثني ولا أكل ذبيحته ويعدونه شاكاً في إيمانه دون تمييز منهم بين إيمان موافاة أو غيره. وعلى كل فسواء أكان الخلاف بينهما حقيقياً أو لفظياً فإن الطائفتين غالطتان فيما ذهبتا إليه، ولم تصب أي واحدة منهما الحق، وإنما الذي أصاب الحق في هذا وناله هم أهل السنة والجماعة، وقد سبق شرح مذهبهم وبيانه والتدليل عليه، وإبطال ما خالفه من الأقوال المحدثة، وبالله وحده التوفيق.   1 انظر المسامرة شرح المسايرة لابن أبي شريف (ص 386 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 الخاتمة الحمد لله أولاً وآخراً والشكر له ظاهراً وباطناً. وبعد: فقد تم في هذا البحث بتوفيق من الله وامتنان وفضل منه وإحسان -حديث مفصل عن مسألتين عظيمتين من مسائل الإيمان المهمة: الأولى: عن زيادة الإيمان ونقصانه، والثانية: عن حكم الاستثناء فيه، وإني لأرجو الله الكريم أن يجعل هذا الجهد مباركاً مقبولاً عنده، نافعاً للعباد وافياً بالمراد، وأن يغفر لي ما وقع فيه من خطأ وزلل إنه جواد كريم غفور رحيم. وفي نهاية هذا البحث وختامه أجمل باختصار أهم نتائجه وأبرزها في النقاط التالية: إن الإيمان عند أهل السنة والجماعة بإجماعهم قول وعمل يزيد وينقص، ولهم على ذلك أدلة كثيرة لا تحصى من الكتاب والسنة، وقد أتى هذا البحث على جملة مباركة منها موضحة مبينة، وللسلف في تقرير ذلك أقوال كثيرة جداً يؤصلون فيها هذه العقيدة الراسخة الصحيحة، ويردون بها على الأقوال المحدثة المبتدعة المخالفة لذلك من أقوال المرجئة وغيرهم. ثم إن زيادة الإيمان ونقصانه عند أهل السنة تكون من أوجه عديدة ذكر في هذا البحث تسعة منها، وهي في الجملة ترجع إلى وجهين اثنين هما: أن الإيمان يتفاضل من جهة أمر الرب ومن جهة فعل العبد، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 من الأصول المتقررة عند أهل السنة والجماعة وليس أحد من الفرق والطوائف يوافقهم في ذلك؛ لأن منهم من يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص من أي وجه، ومنهم من يرى إنه يزيد وينقص من وجه دون وجه وليس أحد يرى أنه يزيد وينقص من جميع هذه الوجوه غير أهل السنة والجماعة. وللإيمان أسباب كثيرة متنوعة تزيده وتنقيه، وأسباب أخرى متنوعة تضعفه وتنقصه وهي تعلم بالتدبر والتأمل للكتاب والسنة. وتحقيق الإيمان وتقويته إنما يكون بمعرفة هذه الأسباب وفهمها ثم بالقيام بأسباب الزيادة والبعد عن أسباب النقص. ومن أسباب زيادته العلم النافع، وتدبر القرآن الكريم، ومعرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وتأمل محاسن ديننا الحنيف، وسيرة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، وسير أصحابه، والتأمل والنظر في كون الله الفسيح وما فيه من دلالات باهرة وحجج ظاهرة، والقيام بطاعة الله عز وجل على الوجه المطلوب، فهذه من أنفع الأمور المقوية للإيمان والجالبة له. ومن أسباب نقصه وضعفه الجهل بدين الله والغفلة والإعراض والنسيان وفعل المعاصي، وارتكاب الذنوب، وطاعة النفس الأمارة بالسوء، ومقارنة أهل الفسق والفجور، واتباع الهوى والشيطان، والاغترار بالدنيا والافتتان بها، فهذه الأمور من أشد الأسباب المنقصة للإيمان والمضعفة له. ثم إن الإسلام عند أهل السنة يزيد وينقص ويقوى ويضعف كالإيمان سواء لأن الإسلام عندهم شامل للطاعات كلها، وتفاضل الناس في القيام بأعمال الإسلام وتفاوتهم في ذلك أمر معلوم متقرر، إلا إن قصد بالإسلام الكلمة كما ذهب إلى ذلك بعض السلف فالكلمة لا تزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 ولا تنقص. ثم إنه قد جاء عن الإمام مالك رحمه الله في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه روايتان إحداهما: أن الإيمان يزيد وتوقف في النقصان؛ لأنه لم يجد نصاً صريحاً في القرآن يدل على النقصان، ثم تبين له بعد أن الإيمان ينقص كما أنه يزيد فقال به، وهذه هي الرواية الأخرى، وقد جاءت عنه من طرق عديدة ثابتة عن غير واحد من أصحابه. وجاء عن بعض الأشاعرة والغسانية والنجارية والإباضية ونسب إلى أبي حنيفة أن الإيمان يزيد ولا ينقص، واحتجوا لذلك ببعض الشبه الواهيه والحجة الضعيفة وقد تم إيرادها وبيان بطلانها في هذا البحث بتوفيق الله. وقد ذهبت طوائف أخرى كثيرة من أهل الكلام والإرجاء والتجهم من الجهمية والمعتزلة والخوارج والأشاعرة والماتريدية وغيرهم إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقولهم هذا باطل شرعاً معلوم الفساد بالاضطرار من دين الله وليس عليه دليل لا من كتاب ولا سنة ولا عقل، بل إن صريح الكتاب وصحيح السنة والعقل بخلافه وعلى الضد له تماماً. ثم وإن كان من القائلين بهذا القول الإمام أبو حنيفة رحمه الله، فإن هذا لا يسوغ هذه العقيدة، بل إنه يعد هفوة منه رحمه الله وزلة قدم يرجى أن تغتفر في بحر علمه وفضله ولاسيما وقد جاء عنه ما يشعر برجوعه عن هذا القول وهو الحري به غفر الله له، ولهذا لا يجوز متابعته في ذلك لأن أقوال العلماء- كما هو متقرر- لا يحتج بها على الأدلة الشرعية بل يحتج لها بالأدلة الشرعية، فما كان منها مخالفاً لما جاء في الشرع طرح جانباً وتمسك فيما جاء بالشرع فقط وهذا أمر أوصى به الأئمة جميعهم أبو حنيفة وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 ولئن كان بعض الأحناف غلا في متابعة أبي حنيفة في غلطه هذا وتعصب له فيه تعصباً مقيتاً، فإن من الأحناف من اعتدل في الأمر ووزن الأمور بميزان الشرع فترحم على أبي حنيفة وترك متابعته في خطئه، وعد متابعته في ذلك من سنن العوام. لكن من العجيب حقاً أن بعض الذاهبين لهذا القول والمتعصبين له، لم يرعووا عن أمور ذميمة وخلال قبيحة، ركبوها تحسيناً منهم لباطلهم وترويجاً له، فكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث كثيرة، وحرّفوا نصوصاً شرعية عديدة بتأويلات مستكرهة بعيدة عن اللغة والشرع معاً، وضللوا وكفروا وبدعوا أهل الحق والاستقامة، فهؤلاء لا حيلة فيهم إلا كشف باطلهم وتعرية ضلالهم وفضحهم على رؤوس الأشهاد؛ ولهذا كانت مواقف علماء الإسلام وأئمة السنة من مثل هؤلاء قوية صارمة تتسم بالحزم وعدم التساهل، فأوصوا بهجرهم والبعد عنهم والحذر من باطلهم، صيانة للعقيدة، وحفاظاً على السنة. بينما نبتت في عصورنا المتأخرة وأزماننا الحاضرة مواقف مهزوزة وآراء مهلهلة، تدعوا إلى السكوت عن هؤلاء وعدم كشف باطلهم للتفرغ فقط للعدو الخارجي لدعوته أو صد عدوانه، فنجم عن هذه المواقف أن رفع أهل الباطل عقيرتهم، وأظهروا بدعهم، ونادوا بها في كل مجلس وناد، فاختلطت الأمور وتغيرت المفاهيم، وبات المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وصارت البدعة سنة والسنة بدعة، فضاع لكثير من المسلمين رأس مالهم وسبيل نجاتهم فضلاً عن أن تتحقق الأرباح لهم. بل وادعى بعض أهل هذه المواقف أن عقائد المرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم ماتت وانقرضت ولم تعد موجودة في هذا الزمان، والحق أن هذا القول يعد تلبيساً من قائله وتعمية منه عن الأمور البادية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 لكل مبصر، والظاهرة لكل متبصر، بل إن أهل هذه الأهواء في زماننا هذا- ولست مبالغاً في ذلك- أكثر منهم عن ذي قبل، فالبدع الأولى لا زالت موروثة، والضلالات القديمة لا زالت محروثة، غير أنه أضيف إليها في هذا الزمان أنواع أخرى من البدع والمحدثات، والله المستعان. ثم إني قد أوضحت في هذا البحث سبب نشوء الخلاف في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وقررت أن الخلاف الذي حصل فيها حقيقي جوهري، وليس لفظياً صورياً فقط، لأن قول المخالفين في هذه المسألة مضاد تماماً لقول أهل السنة والجماعة المستمد من الكتاب والسنة، إضافة إلى ما جره قولهم من بدع عديدة وضلالات متنوعة. ومن بدع هؤلاء تحريمهم الاستثناء في الإيمان ووصفهم المستثني في إيمانه بأنه شاك، حتى غلا بعضهم في ذلك فمنع من تزويج أو أكل ذبيحة من يستثني في إيمانه، رغم أن الاستثناء في الإيمان من معتقد أهل السنة والجماعة، المدعم بالأدلة النقلية الصحيحة، دون أن يكون مقتضياً للشك أو الريب كما يدعيه هؤلاء، بل إن الأمر في ذلك عائد إلى مقصود قائله، فإن قصد بقوله أنا مؤمن الشك في أصل الإيمان يكون عندئذ شاكاً في إيمانه. أما السلف فمقصودهم بالاستثناء هو البعد عن تزكية النفس، والخوف من عدم قبول الأعمال، وبعداً عن ادعاء القيام بالأعمال كلها، دون شك منهم في أصل الإيمان وأساسه، وحاشاهم ذلك. ولهذا جاء عن بعض السلف اطلاق القول، أنا مؤمن دون تقييد لذلك بالاستثناء، ومقصودهم بذلك أصل الإيمان، لأنه إذا قصد بأنا مؤمن أصل الإيمان فلا استثناء في ذلك، وإن قصد تمامه وكماله فلا بد من الاستثناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 لكن لما كان مقصود القائل لا يظهر إلا بقرينة تدل عليه صار متعيناً على كل أحد إذا قال أنا مؤمن أن يستثني، إلا إذا أظهر من كلامه ما يدل على إرادته أصل الإيمان، ليجانب بذلك تزكية نفسه وادعاء كمالها، لهذا كره الإمام أحمد رحمه الله إطلاق هذه الكلمة دون تقييد لها بالاستثناء. أما قول أنا مسلم فالمشهور عن أهل الحديث هو عدم الاستثناء فيه، لأنه لما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلماً متميزاً عن أهل الكفر تجري عليه حكام الإسلام التي تجري على المسلمين، كان هذا مما يجزم به بلا استثناء فيه. وقد خالف السلف في مسألة الاستثناء في الإيمان طائفتان: ذهبت إحداهما إلى إيجاب الاستثناء في الإيمان لأجل الموافاة، حيث إن قائل هذه الكلمة لا يعلم هل يوافي ربه بإيمانه، فيدوم عليه إلى أن يموت أولاً؟ لهذا أوجب هؤلاء الاستثناء في الإيمان، ومأخذهم هذا في الاستثناء لا يعلم عن أحد من أهل السنة والجماعة، كما جزم بذلك شيخ الإسلام رحمه الله. أما الطائفة الأخرى فذهبت إلى تحريم الاستثناء مطلقاً لما يقتضيه في نظرهم من الشك في الإيمان. ولا ريب في بطلان ما ذهبت إليه هاتان الطائفتان وبعده عن الحق والصواب إن كان هؤلاء قد تعلقوا ببعض الشبه والأدلة لنصرة قولهم، فإن ما تعلقوا به لا تقوم به حجة ولا ينهض به برهان، وقد أوردت في هذا البحث شبه كل طائفة وما تعلقت به من أدلة لنصرة مذهبها، وبينت بطلان تلك الشبه وفساد تلك الاستدلالات. ثم إن السلامة إنما تتحقق بالبعد عن أهل الأهواء والبدع وبمتابعة أهل السنة والجماعة، فهم دائماً أسعد بالدليل وأحظى بالحق والسبيل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 فالسلامة معهم وكذا العلم والإيمان، جعلنا الله من أتباعهم، وحشرنا في زمرتهم، وجنبنا الأهواء المضلة والفتن المطغية، إنه سميع الدعاء. فهذه بعض المعالم الرئيسة، والنقاط البارزة في هذا البحث، وإني في الختام لأستغفر الله من كل ذنب زلت به القدم، أو زلل طغى به القلم، والحمد لله رب العالمين، وصلاة الله وسلامه الأتمان الأكملان على نبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 الاعتبار1 فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لكان ينبغي له أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، ولا أحد يشهد لنفسه بالجنة فشهادته لنفسه بالإيمان كشهادته لنفسه بالجنة إذا مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون"2. 4- المأخذ الرابع: هو أن الاستثناء يجوز في الأمور المتيقنة التي لا شك فيها، وقد جاءت السنة بمثل هذا لما فيه من الحكمة3. قال الإمام أحمد: قول النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر فقال: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" 4 وقد نعيت إليه نفسه أنه صائر إلى الموت، وفي قصة صاحب القبر "عليه حييت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله" 5، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني اختبأت دعوتي وهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا" 6 وفي مسألة الرجل النبي صلى الله عليه وسلم أحدنا   1 أي باعتبار أن الإيمان المطلق يتضمن فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه. 2 الفتاوى (7/446) . 3 انظر الفتاوى (7/450) . 4 جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه (2/669) عن عائشة رضي الله عنها. 5 جزء من حديث أخرجه ابن ماجه (2/422) قال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح" وصححه الألباني انظر مشكاة المصابيح (1/50) ، وصحيح ابن ماجة (2/422) . 6 رواه أحمد (2/426) وابن ماجة (2/1440) ، والبيهقي في السنن (8/ 17) ، ورواه بنحوه مسلم (1/190) عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع - الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير، للحافظ أبي عبد الله الجورقاني، تحقيق د. عبد الرحمن الفريوائي، نشر إدارة البحوث الإسلامية والدعوة والإفتاء بالجامعة السلفية، بنارس، الأولى 1404هـ. - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، لأبن بطة العكبري، تحقيق رضا بن نعسان معطي دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض، الأولى 1409هـ. - الإبانة لأبي الحسن الأشعري، تقديم الشيخ حماد الأنصاري، من مطبوعات الجامعة الإسلامية، الثالثة 1407هـ. - الإتحاف بحديث فضل الإنصاف لابن ناصر الدين، تحقيق محمود الحداد، دار العاصمة الرياض، الأولى 1407هـ. - إتحاف السادة المتقين، للزبيدي دار الفكر. - اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم، تحقيق د. عواد بن عبد الله المعتق، مطابع الفرزدق التجارية بالرياض، الأولى 1408هـ. - الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، لعلاء الدين علي بن بلبان الفارسي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1407هـ. - أحوال الرجال، لأبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، تحقيق صبحي السامرائي مؤسسة الرسالة، بيروت، الأولى 1405هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 - إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، دار الكتاب العربي، بيروت. - أخلاق حملة القرآن للآجري، تحقيق د. عبد العزيز بن عبد الفتاح القاري، مكتبة الدار، المدينة، الأولى 1408هـ. - أخلاق العلماء للآجري، تحقيق بدر البدر، مكتبة الصحابة الإسلامية الكويت. - الإخوان، لابن أبي الدنيا، تحقيق محمد عبد الرحمن طوالبة، دار الاعتصام، القاهرة. - آداب الشافعي ومناقبه، لابن أبي حاتم الرازي، دار الكتب العلمية بيروت. - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لأبي المعالي الجويني، تحقيق أسعد تميم، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الأولى 1405هـ. - إرشاد الساري شرح صحيح البخاري، للقسطلاني ضمن مجموع شروح البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت. - إرشاد السالك في مناقب مالك، لابن عبد الهادي مصور عن نسخة خطية.. - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، مكتبة محمد صبحي، مصر. - إرشاد القاري في الرد على كتاب فيض الباري للشيخ ابن عبد الحق النورفوري، لم يطبع ولم يكمل بعد يسر الله لمؤلفه طبعه وإكماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1399. - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للملا علي القاري، تحقيق محمد زغلول، دار الكتب العلمية بيروت، الأولى 1405هـ. - الاستقامة لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، مطابع جامعة الإمام، الأولى 403! هـ. - إشارات المرام من عبارات الإمام لكمال الدين البياضي، تحقيق يوسف عبد الرزاق، الطبعة الأولى. - أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر البغدادي، دار الكتب العلمية بيروت، الثالثة 1401هـ. - أصول الدين، لأبي اليسر محمد البزدوي، تحقيق د. هانزبيتر لنس، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1383هـ. - أصول السنة، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي زمنين الإلبيري، تحقيق محمد إبراهيم محمد هارون، بحث ماجستير مقدم في الجامعة الإسلامية. - أصول السنة، للحميدي، طبع في آخر مسنده، وسيأتي. - الاعتصام، للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، دار المعرفة بيروت، 1405هـ. - الاعتقاد، للبيهقي، دار الكتب العلمية، ييروت، الأولى 1404هـ. - أعلام الحديث،- للإمام أبي سليمان الخطابي، تحقيق د. محمد سعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 آل سعود نشر جامعة أم القرى، الأولى 1409هـ. - الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، للحافظ عمر بن علي البزار، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة 1400هـ. - الأعلام، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت السادسة 1404هـ. - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم، تحقيق محمد كيلاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة. - الاقتصاد في الاعتقاد، للغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1403هـ. - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية، مطابع المجد التجارية، الرياض. - اقتضاء العلم العمل، للخطيب البغدادي، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي بيروت، الخامسة 1404هـ. - الأمثال، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق د. عبد العلي عبد الحميد، الدار السلفية الهند، الأولى 1402هـ. - إنباء الغمر بأبناء العمر لابن حجر، تحقيق د. حسن حبشي، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة 1389هـ. - الأنساب، لأبي سعد عبد الكريم السمعاني، تحقيق عبد الله عمر البارودي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1408هـ. - الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، لأبي بكر بن الطيب الباقلاني، تحقيق عماد الدين حيدر، عالم الكتب، بيروت، الأولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 1407هـ. - الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، لابن عبد البر النمري، دار الكتب العلمية، بيروت. - الإيمان، لأبي عبيد، تحقيق الألباني، نشر دار الأرقم، الكويت. - الإيمان، لابن تيمية، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة 1399هـ. - الإيمان، للحافظ محمد بن إسحاق بن مندة، تحقيق د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، نشر الجامعة الإسلامية، الأولى 1401هـ. - الإيمان، للحافظ محمد بن يحيى العدني، تحقيق حمد الجابري، الدار السلفية الكويت، الأولى 1407هـ. - الإيمان، للقاضي أبي يعلى، تحقيق سعود بن عبد العزيز الخلف، دار العاصمة الرياض، الأولى 1401هـ. - الإيمان لمحمد نعيم ياسين، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، الثالثة 1402هـ. - البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم المصري، طبع سعيد كمبني، كراتشي. - بحر الكلام في علم التوحيد، لأبي المعين النسفي طبع سنة 1340 هـ، ولم يذكر اسم الطابع ولا مكان الطبع. - بدائع الفوائد لابن القيم، دار العتاب العربي، بيروت. - براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة، للشيخ بكر أبو زيد، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، الثانية 1408هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 - البداية من الكفاية في الهداية في أصول الدين، لنور الدين الصابوني، تحقيق د. فتح الله خليف، دار المعارف، مصر 1389هـ. - البداية والنهاية لابن كثير مكتبة المعارف، بيروت، الثانية 1397. - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني، مطبعة السعادة، القاهرة، الأولى، 1348هـ. - بهجة قلوب الأبرار، للشيخ عبد الرحمن بن سعدى، نشر المكتبة السعيدية، طبع مطبعة الكيلاني، القاهرة. - بهجة المجالس وأنس المجال، لأبي عمر بن عبد البر، تحقيق محمد الخولي، دار الكتب العلمية، بيروت. - بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروز آبادي، تحقيق محمد علي النجار، المكتبة العلمية، بيروت. - تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي دار الكتاب العربي، بيروت. - تاريخ دمشق، للحافظ أبي القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر مصور لنسخة خطية اعتنى بنشره مكتبة الدار بالمدينة 1407هـ. - التاريخ الكبير، للإمام البخاري، مؤسسة دار الكتب الثقافية، بيروت. - تأويلات أهل السنة، لأبي منصور الماتريدي، تحقيق د. محمد مستفيض الرحمن، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1404هـ. - التبيان في أقسام القران، لابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 مطبعة حجازي مصر، الأولى 1352هـ. - التبصير في الدين، لأبي المظفر الإسفراييني، تحقيق كمال الحوت، عالم الكتب، بيروت، الأولى 1403هـ. - تحفة القاري بحل مشكلات البخاري، لمحمد إدريس الكاندهلوي، المكتبة العثمانية، باكستان. - تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد، لإبراهيم اللقاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1403هـ. - التذكرة في الأحاديث المشتهرة لبدر الدين الزركشي، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1406هـ. - تذكرة الموضوعات، لمحمد بن طاهر الهندي، نشر أمين دمج، بيروت. - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض السبتي، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب 1383هـ. - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لأبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله الصديق مكتبة القاهرة، الأولى. - الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، تحقيق مصطفى محمد عمارة، مطابع قطر الوطنية، قطر. - التعريفات لعلي بن محمد الجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1403هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 - تعظيم قدر الصلاة، للإمام محمد بن نصر المروزي، تحقيق د. عبد الرحمن الفريوائي، نشر مكتبة الدار، المدينة، الأولى 1406هـ. - تغليق التعليق على صحيح البخاري للحافظ ابن حجر، تحقيق سعيد القزقي، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1405هـ. - تفسير أبي السعود المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم دار المصاحف. - تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل، تحقيق خالد العك ومروان سوار، دار المعرفة، بيروت، الأولى 1406هـ. - تفسير القران العظيم لابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1388هـ. - تفسير المنار "تفسير القرآن الحكيم "، لمحمد رشيد رضا، دار المنار القاهرة، 1373هـ. - تقريب التهذيب لابن حجر، تحقيق عبد الرهاب عبد اللطيف دار المعرفة، بيروت، الثانية 1395هـ. - تلبيس إبليس لابن الجوزي، المطبعة المنيرية، مصر، الثانية 1368هـ. - تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، لأبي بكر الباقلاني، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الأولى 1407هـ. - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر، مطبعة فضالة المحمدية 1387هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 - التنبهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة، للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، تحقيق عبد الرحمن بن رويشد وسليمان حماد، مطبعة البيان بيروت، الأولى. - التنكيل بما في كتب الكوثري من الأباطيل، للشيخ عبد الرحمن المعلمي، تحقيق الألباني، نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، الثانية 1403هـ. - تهذيب الآثار، لابن جرير الطبري، تحقيق د. ناصر الرشيد وعبد القيوم عبد رب النبي، مطابع الصفا، مكة 1402هـ. - تهذيب الآثار، لابن جرير الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني القاهرة. - تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، إدارة الطباعة المنيرية. - تهذيب التهذيب لابن حجر، دار الفكر، بيروت الأولى 1404هـ. - تهذيب سنن أبي داود، لابن القيم بهامش مختصر السنن للمنذري، تحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية. - تهذيب الكمال في أسماء الرجال، نسخة مصورة عن نسخة خطية، نشر دار المأمون للتراث، بيروت، الأولى 1402هـ. - تهذيب اللغة، لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار القومية العربية، القاهرة 1384هـ. - التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للشيخ عبد الرحمن بن سعدي تحقيق محمد العجمي، مكتبة دار الأقصى الكويت، الأولى 1406هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 - التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي، المكتب الإسلامي، بيروت. - تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة 1397هـ. - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن سعدى، تحقيق محمد زهري النجار، نشر المؤسسة السعيدية الرياض. - تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، للشيخ عبد الرحمن بن سعدى، مكتبة المعارف، الرياض 1400هـ. - الثقات، لابن حبان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، الهند، الأولى 1393هـ. - ثمار القلوب في المضاف والمنسوب لأبي منصور الثعالبي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار المعارف، مصر. - جامع الأصول لابن الأثير، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، نشر مكتبة الحلواني ومطبعة الملاح ومكتبة دار البيان، 1389هـ. - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الفكر 1405هـ. - جامع التحصيل في أحكام المراسيل، للحافظ صلاح الدين العلائي، تحقيق حمدي السلفي الدار العربية للطباعة، العراق، الأولى 1398هـ. - الجامع الصغير للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت. - جامع العلوم والحكم، لابن رجب، دار المعرفة، بيروت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 - الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ، لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، تحقيق محمد أبو الأجفان وعثمان بطيخ، مؤسسة الرسالة، بيروت، الأولى 1402هـ. - الجامع لشعب الإيمان، للبيهقي، تحقيق د. عبد العلي عبد الحميد، الدار السلفية الهند، الأولى 1406هـ. - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي، دائرة المعارف العثمانية، الهند، الأولى. - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1403هـ. - جوهرة التوحيد، لبرهان الدين اللقاني، ضمن مجموع مهمات المتون، دار الفكر، بيروت، الرابعة. - الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية- مطبعة عيسى البابي الحلبي 1398هـ. - الجوهرة المنيفة في شرح وصية الإمام أبي حنيفة، لملا حسين بن اسكندر الحنفي، ضمن مجموع الرسائل التسع في العقائد، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر أباد الدكن، الهند، الثالثة 1400هـ. - حاشية الكستلي على العقائد النسفية، بهامش شرح العقائد، للتفتازاني، دار السعادات 1326هـ. - حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية، للشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 بكر بن عبد الله أبو زيد، دار ابن الجوزي، الثانية 1410هـ. - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، الثانية 1387هـ. - خلق أفعال العباد، للبخاري تحقيق بدر البدر، الدار السلفية، الكويت، الأولى 1405هـ. - درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الأولى 1399هـ. - الدرر السنية في الأجوبة النجدية، مطابع المكتب الإسلامي، بيروت. - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، الأولى 1348هـ. - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، دار الفكر، بيروت، الأولى 1403هـ. - الدعاء للحافظ أبي القاسم الطبراني، تحقيق د. محمد سعيد البخاري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الأولى 1407هـ. - دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقد، لعبد العزيز بن محمد علي العبد اللطيف، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، الأولى 1409هـ. - ديوان الضعفاء والمتروكين للذهبي، تحقيق الشيخ حماد الأنصاري، مكتبة النهضة، مكة. - ذم من لا يعمل بعلمه، للحافظ ابن عساكر، تحقيق علي حسن عبد الحميد، دار عمار، الأردن، الأولى 1408هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 - ذم الوسواس لابن قدامة المقدسي، تحقيق د. عبد الله الطريقي، مطابع شركة الصفحات الذهبية، الرياض، 1411هـ. - الذريعة إلى مكارم الشريعة، للراغب الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1400هـ. - ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، 1372هـ. - الرد على البكري، لابن تيمية، الدار العلمية، دلهي، الثانية 1405هـ. - الرد على الجهمية، للدارمي، تحقيق بدر البدر، الدار السلفية، الكويت، الأولى 1405هـ. - الرد على من يقول القرآن مخلوق لأحمد بن سلمان النجاد، تحقيق رضاء الله محمد إدريس، نشر مكتبة الصحابة الإسلامية، الكويت. - رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مكتبة الأنوار، القاهرة. - رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري، تحقيق عبد الله شاكر الجنيدي، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، الأولى 1409هـ. - الرسالة القشيرية لأبي القاسم عبد الكريم القشيري، دار الكتاب العربي، بيروت. - الرفع والتكميل في الجرح والتعديل، لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة. - الروايتين والوجهين مصور في قسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 - الروح لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت 1399هـ. - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل محمد الألوسي، دار إحياء التراث، بيروت. - الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية، لأبي عذبة، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، بيروت، الأولى 1409هـ. - روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن القيم، مطبعة السعادة، مصر، الأولى 1375هـ. - الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، المؤسسة السعيدية، الرياض. - زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الثالثة 1402هـ. - زغل العلم، للذهبي، تحقيق محمد ناصر العجمي، مكتبة الصحوة الإسلامية، الكويت. - الزهد للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق محمد زغلول، دار الكتاب العربي، بيروت، الأولى 1406هـ. - الزهد لعبد الله بن المبارك، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت. - سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة 1403هـ. - سلسلة الأحاديث الضعيفة، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 الرابعة 1398هـ. - سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية. - سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية. - سنن الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، دار إحياء التراث العربي. - سنن الدارمي، تحقيق عبد الله هاشم يماني، شركة الطباعة الفنية المتحدة 1386هـ. - السنن الكبرى، للبيهقي، دار المعرفة، بيروت. - سنن النسائي بشرح السيوطي، دار الكتاب العربي، بيروت، الأولى 1348هـ. - السنة لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال، لحقيق د. عطية الزهراني، دار الراية للنشر والتوزيع، الأولى 1410هـ. - السنة لأبي بكر أحمد بن هارون الخلال، مصور في مكتبة الجامعة الإسلامية. - السنة، لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق د. محمد بن سعيد القحطاني، دار ابن القيم، الدمام، الأولى 1406هـ. - السواد الأعظم، لأبي القاسم إسحاق بن محمد الشهير بابن الحكيم السمرقندي، مطبعة إبراهيم. - سير أعلام النبلاء، للذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية 1401هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 - السيرة النبوية، لأبي محمد عبد الملك بن هشام، دار الفكر للطباعة والنشر، القاهرة. - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد، دار المسيرة، بيروت، الثانية 1399هـ. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأبي القاسم اللالكائي، تحقيق د. أحمد سعد حمدان، دار طيبة للنشر، الرياض. - شرح ثلاثيات بسند الإمام أحمد لشمس الدين محمد بن أحمد السفاريني، المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية 1391هـ. - شرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم، لابن رجب، تحقيق محمد مفيد، مؤسسة الخافقين، دمشق الأولى 1402هـ. - شرح سنن ابن ماجه، لأبي الحسن الحنفي المعروف بالسندي، دار الجيل، بيروت. - شرح السنة، للإمام البغوي، تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1390هـ. - شرح صحيح البخاري للنووي، ضمن مجموع شروح البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت. - شرح صحيح مسلم، للنووي، المطبعة المصرية، القاهرة. - شرح علل الترمذي، لابن رجب، تحقيق نور الدين عتر، دار الملاح، الأولى 1398هـ. - شرح العقائد النسفية، لسعد الدين التفتازاني. نشر كتب خانة امرادية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 ديوبند، باكستان. - شرح العقيدة الأصفهانية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق حسنين محمد مخلوف، دار الكتب الحديثة، القاهرة. - شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، تحقيق د. عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط، مؤسسه الرسالة، بيروت، الأولى 1408هـ. - شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق جماعة من العلماء، مكتبة الدعوة الإسلامية، القاهرة. - شرح العقيدة الواسطية، لمحمد خليل هراس، مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة، السابعة. - شرح الفقه الأكبر، لأبي المنتهي أحمد بن محمد، ضمن مجموع الرسائل التسع في العقائد، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر أباد الدكن، الهند، الثالثة 1400هـ. - شرح الفقه الأكبر أبي منصور محمد بن محمد الماتريدي السمرقندي، طبع على نفقة الشؤون الدينية بدولة قطر. - شرح الفقه الأكبر لعلي بن محمد بن الحسين، مصور في قسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية. - شرح الفقه الأكبر علي القارىء، نشر قديمي كتب خانة باكستان. - شرح الفقه الأكبر، لعلي القارىء، دار الكتب العربية الكبرى، القاهرة. - شرح الفقه الأكبر، للقارىء، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1404هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 - شرح الكرماني للبخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الثانية 1401هـ. - شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، الأولى 1372هـ. - شعار أصحاب الحديث، للحافظ أبي أحمد الحاكم، تحقيق صبحي السامرائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت. - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم دار المعرفة، بيروت. - الشريعة للآجري، تحقيق محمد حامد الفقي، نشر حديث أكادمي، باكستان، الأولى 1403هـ. - الصارم المسلول على شاتم الرسول، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ. - الصحاح، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، القاهرة، الثانية 1399هـ. - صحيح البخاري، المكتبة الإسلامية، استانبول. - صحيح الجامع الصغير، للألباني، المكتب الإسلامي، الثالثة 1402هـ. - صحيح سنن ابن ماجه للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1407هـ. - صحيح سنن الترمذي للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1408هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 - صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. - صريح السنة، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق بدر بن يوسف المعتوق، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الأولى 1405هـ. - الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه، للشيخ محمد أمان بن علي الجامي، مطابع الجامعة الإسلامية، الأولى 1408هـ. - صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الحادية عشر 1403هـ. - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم، تحقيق د. علي الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، الأولى 1408هـ. - صيد الخاطر لأبي الفرج عبد الصمد بن الجوزي، المكتبة العلمية، بيروت. - الضعفاء الصغير، للإمام البخاري، تحقيق محمد إبراهيم زايد، دار الوعي بحلب، الأولى 1396هـ. - الضعفاء لأبي نعيم الأصفهاني، تحقيق د. فاروق حمادة، دار الثقافة الدار البيضاء 1405هـ. - الضعفاء والمتروكون، للدار قطني، تحقيق محمد بن لطفي الصباغ، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1400هـ. - الضعفاء والمتروكين، للإمام النسائي، تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار الوعي بحلب، الأولى 1396هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 - الضعفاء والمتروكين، لابن الجوزي، تحقيق عبد الله القاضي دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1406هـ. - ضعيف سنن ابن ماجه، للألباني، المكتب الإسلامي. بيروت، الأولى 1408هـ. - طبقات الحنابلة، للقاضي أبى الحسين بن أبي يعلى، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية. - الطبقات الكبرى، لابن سعد، دار صادر، بيروت. - العبر في خبر من غبر، للذهبي، تحقيق محمد زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1405هـ. - العبودية، لابن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1401هـ. - عشرون حديثاً من صحيح البخاري دراسة أسانيدها وشرح متونها، للوالد الشيخ عبد المحسن العباد، المطبعة السلفية، القاهرة، الأولى 1390هـ. - العزلة، للحافظ أبي سليمان الخطابي، تحقيق د. عبد الغفار البنداري، دار الكتب العلمية، بيروت. - العظمة، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق رضاء الله بن محمد المباركفوري، دار العاصمة، الرياض، الأولى 1408هـ. - عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي، ضمن المجموعة العلمية السعودية، تحقيق العلامة الشيخ عبد الله بن حميد، مطبعة النهضة الحديثة، مكة، الأولى 1391هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 - عقيدة السلف أصحاب الحديث، لأبي إسماعيل الصابوني، تحقيق بدر البدر، الدار السلفية، الكويت، الأولى 1404هـ. - عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، للشيخ صالح بن عبد الله العبود نشر الجامعة الإسلامية بالمدينة. - العقيدة الطحاوية شرح وتعليق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1398هـ. - العقيدة النظامية، لأبي المعالي الجويني، تحقيق أحمد حجازي، دار الشباب القاهرة، الأولى 1398هـ. - العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة، السابعة. - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لابن الجوزي، تحقيق إرشاد الحق الأثري، إدارة العلوم الأثرية، فيصل أباد، الثانية 1401هـ. - عمدة القارىء، شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني، دار الفكر، بيروت. - عمل اليوم والليلة، لأبي بكر بن السني، تحقيق عبد القادر عطا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الأولى 1389هـ. - العواصم من القواصم، لابن العربي، ضمن كتاب آراء أبي بكر بن العربي الكلامية، لعمار طالبي الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر، الثانية. - عون الباري، شرح صحيح البخاري لصديق حسن القنوجي، ضمن مجموع شروح البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 - عون المعبود، شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، نشر المكتبة السلفية، المدينة، الثانية 1388هـ. - عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، لابن سيد الناس، مؤسسة عز الدين للطباعة، 1406هـ. - فتاوى الإمام النووي المسمى (المسائل المنثورة) ، دار الكتب العلمية، بيروت. - فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، دار المعرفة، بيروت. - فتح البيان في مقاصد القرآن، لصديق حسن خان، مطبعة العاصمة.، القاهرة. - فتح رب البرية بتلخيص الحموية، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، مطابع جامعة الإمام، الخامسة 1399هـ. - الفرق بين الفرق، للبغدادي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت. - الفصل في الملل والأهواء والنحل، لأبي محمد بن حزم، تحقيق د. محمد إبراهيم نصر ود. عبد الرحمن عميرة، شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع، الأولى 1402هـ. - فضل علم السلف على علم الخلف، لابن رجب، تحقيق محمد العجمي، دار الأرقم، الكويت، الأولى 1404هـ. - الفقه الأبسط رواية أبي مطيع البلخي عن أبي حنيفة، تحقيق محمد زاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 الكوثري، مطبعة الأنوار، القاهرة. - الفهرست، لابن النديم، دار المعرفة، بيروت. - فهرس الفهارس والأثبات، للكتاني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الثانية 1402هـ. - الفوائد لابن القيم، تحقيق بشير محمد عيون، نشر مكتبة البيان، الأولى 1407هـ. - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، الأولى1380هـ. - فيض الباري على صحيح البخاري، لمحمد أنور الكشميري، دار المعرفة، بيروت. - فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، الأولى 1356هـ. - القاموس المحيط، للفيروز أبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية 1407هـ. - قواعد في علوم الحديث، لظفر الدين التهانوي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتبة المطبوعات الإسلامية، بيروت، الخامسة 1404هـ. - القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، مطابع جامعة الإمام 1405هـ. - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة للذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1403هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 - الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (النونية) ، لابن القيم، دار المعرفة، بيروت. - الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أحمد عبد الله بن عدي، دار الفكر، بيروت، الأولى 1404هـ. - كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل لمحمد بن إسحاق بن خزيمة، تعليق محمد خليل الهراس، نشر مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1387هـ. - كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الأولى 1399هـ. - كشف الخفاء ومزيل الإلباس، لإسماعيل بن محمد العجلوني، تحقيق أحمد القلاش، مؤسسة الرسالة، بيروت، الرابعة 1405هـ. - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة، المكتبة الفيصلية، مكة. - اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي، المكتبة الحسينية المصرية بالأزهر، الأولى. - اللباب في تهذيب الأنساب، لعز الدين بن الأثير، مكتبة القدس، القاهرة 1357هـ. - لسان الميزان، لابن حجر، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الثانية 1390هـ. - لوامع الأنوار البهية للسفاريني، مطبعة المدني، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 - النبراس شرح العقائد لمحمد بن عبد العزيز الفرهاري، كتب خانة اكرمية، بشاور. - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لجمال الدين يوسف بن تغري بردي، مطابع كوستا، القاهرة. - نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق هذه الأمة، للشيخ سليم بن عيد الهلالي، دار الأضحى للنشر والتوزيع، الأولى 1409هـ. - نقض المنطق، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت. - هدي الساري مقدمة فتح الباري، لابن حجر، دار المعرفة، بيروت. - الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب، لابن القيم، تحقيق بشير محمد عيون نشر مكتبة دار البيان، دمشق. - الوافي بالوفيات، لصلاح الدين الصفدي، دار النشر فرانز شتاينز، بفيسبادن 1382هـ. - الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات لشمس الدين بن محمد أشرف الأفغاني، بحث ماجستير مقدم في الجامعة الإسلامية. - متشابه القرآن، للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني، تحقيق عدنان محمد زرزور، دار التراث، القاهرة. - المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين محمد بن حبان البستي، تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، حلب، الأولى 1396هـ. - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ الهيثمي، دار الكتاب العربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 بيروت، الثالثة 1402هـ. - مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية، تعليق محمد رشيد رضا، نشر لجنة التراث العربي. - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، مطبعة المنار، مصر. - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكتبة المعارف، الرباط. - مجموع مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. - مختصر تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1404هـ. - مختصر سنن أبي داود، للحافظ المنذري، تحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية. - المختصر في أصول الدين، للقاضي عبد الجبار، ضمن مجموع رسائل العدل والتوحيد، تحقيق سيف الدين الكاتب، دار مكتبة الحياة، بيروت. - مختصر قيام الليل، للمروزي اختصار المقريزي، عالم الكتب، بيروت، الثانية 1403هـ. - مدارج السالكين، لابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت 1392هـ. - المراسيل، لابن أبي حاتم الرازي، تحقيق شكر الله بن نعمة الله، مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية 1402هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للشيخ أبي الحسين عبيد الله المباركفوري نشر إدارة البحوث الإسلامية، الهند، الثالثة 1405هـ. - مسائل الإمام أحمد، لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، نشر محمد أمين دمج، بيروت. - مسائل الإمام أحمد، لابن هانىء، تحقيق زهير الشاويش المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1400هـ. - المسامرة بشرح المسايرة، لكمال الدين محمد بن المعروف بابن أبي شريف، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر. - المستدرك على الصحيحين، للحافظ أبي عبد الله الحاكم، دار ا! لمعرفة، بيروت. - مسند الإمام أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، بيروت، الخامسة 1405هـ. - مسند أبي داود الطيالسي، دار المعرفة، بيروت. - مسند إسحاق بن راهويه، تحقيق د. عبد الغفور البلوشي، نشر مكتبة الإيمان، المدينة، الأولى 1410هـ. - المسند للإمام عبد الله بن الزبير الحميدي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي عالم الكتب، بيروت. - مشارق أنوار العقول لأبي محمد عبد الله بن حميد السالمي، تحقيق أحمد بن حمد الخليلي، مطابع العقيدة، سلطنة عمان. - مشكاة المصابيح لمحمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الثالثة 1405هـ. - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه للبوصيري، تحقيق محمد المنتقي الكشناوي، دار العربية، بيروت، الأولى 1402هـ. - المصنف، لأبي بكر بن أبي شيبة، تحقيق عبد الخالق الأفعاني، الدار السلفية، الهند، الثانية 1399هـ. - المصنف للإمام أبي بكر عبد الرزاق بن همام، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الثانية 1403هـ. - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، لحافظ حكمي، المطبعة السلفية. - معالم السنن، لأبي سليمان الخطابي بهامش مختصر السنن للمنذري، تحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية. - المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر لبدر الدين الزركشي، تحقيق حمدي السلفي، دار الأرقم، الأولى 1404هـ. - المعتمد في أصول الدين، للقاضي أبي يعلي، تحقيق وديع زيدان حداد، دار المشرق، بيروت. - المعجم الكبير للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، الدار العربية للطباعة، بغداد. - معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الكتب العلمية، إيران. - معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة، دار احياء التراث العربي، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 - المعجم الوسيط لعدد من المؤلفين، دار إحياء التراث العربي، الثانية. - المغني في الضعفاء، للذهبي، نشر إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر. - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لابن القيم، تحقيق محمود حسن ربيع، مكتبة الأزهر، القاهرة، الثانية 1358هـ. - المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، تحقيق محمد كيلاني، مطبعة البابي الحلبي القاهرة 1381هـ. - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، لأبي الحسن الأشعري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الثالثة. - المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد، مطبعة السعادة، القاهرة. - المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن القيم، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية، الثانية 1403هـ. - مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، تحقيق د. عبد الله التركي، نشر مكتبة الخانجي، مصر، الأولى 1399هـ. - مناقب الشافعي للبيهقي: تحقيق أحمد صقر، دار التراث، القاهرة، الأولى 1391هـ. - المنتخب من مسند عبد بن حميد، للحافظ أبي محمد عبد بن حميد، تحقيق صبحي السامرائي ومحمود الصعيدي، عالم الكتب، بيروت، الأولى 1408هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس، لعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، نشر وتوزيع دار الهداية للطبع والنشر والترجمة، الرياض، الثانية 1407هـ. - المنهاج في شعب الإيمان، لأبي عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي، تحقيق حلمي محمد فوده، دار الفكر بيروت، الأولى 1399هـ. - منهاج السنة النبوية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، مطابع جامعة الإمام، الأولى 1406هـ. - منهج الأشاعرة في العقيدة، الكويت، للشيخ سفر الحوالي، الدار السلفية، الأولى 1407هـ. - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، للحافظ الهيثمي، تحقيق محمد عبد الرزاق حمزة، دار الكتب العلمية، بيروت. - الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. - المواقف في علم الكلام، للإيجي، عالم الكتب، بيروت. - الموضوعات لابن الجوزي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية المدينة، الأولى 1386هـ. - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق علي البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، الأولى 1382هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568