الكتاب: رسائل وفتاوى الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب (مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثاني) المؤلف: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (المتوفى: 1285هـ) الناشر: دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، بمصر 1349هـ، النشرة الثالثة، 1412هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- رسائل وفتاوى عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ الكتاب: رسائل وفتاوى الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب (مطبوع ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثاني) المؤلف: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (المتوفى: 1285هـ) الناشر: دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، بمصر 1349هـ، النشرة الثالثة، 1412هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] رسائل وفتاوى الشيخ عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام محمد عبد الوهاب بسم الله الرحمن الرحيم الرسالة الأولى الطاعة سبب الخير والمعصية سبب الشر من عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام الأكرم فيصل بن تركي، سلمه الله وهداه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد) : فالواجب علينا وعليكم التناصح في دين الله، والتذكير بنعم الله وأيامه، فإن في ذلك من المصالح الخاصة والعامة ما لا يحيط به إلا الله، وفي الحديث: "ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة". ولله حق وعبودية على خلقه بحسب وسعهم وقدرتهم، ولذلك كان على ولاة الأمور، ورؤساء الناس المطاعين فيهم ما ليس على عامتهم وسوقتهم. وكل خير في الدنيا والآخرة إنما حصل بمتابعة الرسل وقبول ما جاؤوا به. كل شر في الدنيا والآخرة إنما حدث ووقع بمعصية الله ورسله، والخروج عما جاؤوا به من النور والهدى، وهذه الجملة شرحها يطول وتفاصيلها لا يعلمها إلا الله الذي {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1. والسير والاعتبار، والاستقراء، والقصص، والأمثال، والشواهد النقلية والعقلية تدل على هذا، وترشد إليه، وبعض الأذكياء يعرف ذلك في نفسه وأهله وولده ودابته، قال بعضهم: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق أهلي ودابتي. واللبيب يدرك من الأمور الجزئية والكلية ما لا يدركه الغبي الجاهل، ويكفي المؤمن قوله -تعالى-: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 2، فهذه الآية يدخل فيها كل نعيم باطنا وظاهرا في الدنيا والآخرة، وفي البرزخ. وقد قال -تعالى-: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ   1 سورة سبأ آية: 3. 2 سورة الانفطار آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 1 الآية. ويدخل في هذا كل شيء من المصائب والجزاء، حتى الشرك، والهم والحزن؛ لكن المؤمن يثاب على ذلك، ويكفر عنه بإيمانه كما دل على ذلك الحديث. إذا عرف هذا، فكثير من الناس يعرف أن المصائب والابتلاء حصل بسبب الذنوب، ويقصد الخروج منها والتوبة، ولا يوفق - نعوذ بالله من ذلك -، وذلك لأسباب: منها: جهله بالذنوب، ومراتبها، وحالها عند الله. ومنها: جهله بالطريق التي تخلصه منها، وتنقذه من شؤمها وشرها وتبعتها. ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، وما يخلص منه إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما جاء به من الهدى ودين الحق إجمالا وتفصيلا؛ فإنه الواسطة بين العباد وبين ربهم في إبلاغ ما يحبه الرب ويرضاه، ويريده من عباده، ويوجب السعادة والنعيم والفلاح في الدنيا والآخرة، وفي إبلاغ ما يضرهم ويسخط ربهم، ويوجب الشقاوة، والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. فكل طريق غير طريقه مسدود على سالكيه، وكل عمل ليس عليه رسمه وتقريره، فهو رد على عامليه. وقد عرفتم -أرشدكم الله تعالى- أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وأهل الأرض قد عمتهم الجهالة، وغلبت عليهم الضلالة، عربيهم وعجميهم، إلا من شاء الله من بقايا أهل الكتاب. فأول دعوته-صلى الله عليه وسلم- ورسالته، وقاعدة قبوله: رد الخلق إلى الله، وأمرهم بعبادته وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، والبراءة منهم؛ وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، وهو أول دعوة الرسل، وأول الواجبات والفرائض. ومكث -عليه الصلاة والسلام-   1 سورة النساء آية: 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 مدة من الدهر نحو العشر بعد النبوة يدعو إلى هذا ويأمر به، وينهى عن الشرك وينذر عنه، وفرض الفرائض وبقية الأركان بعد ذلك منجما. إن هذا هو أهم الأمور وأوجبها على الخلق كما في حديث: "رأس الأمر: الإسلام، وعموده: الصلاة، وذروة سنامه: الجهاد" 1. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يبعث عماله، ويرسل رسائله إلى أهل الأرض، ويدعوهم إلى هذا يبدأ به قبل كل شيء، ولا يأمر بشيء من الأركان إلا بعد التزامه ومعرفته، كما دل عليه حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن، وغيره من الأحاديث. وفي أوقاتنا بعد العهد بآثار النبوة، وطال الزمن، وكاد يشبه زمن الفترة لغلبة الجهل، وشدة الغربة. وقد من الله لهذه الأقطار بشيخ الإسلام -رحمه الله-، فقام في تجديد الدين وتمهيد قواعد الملة أتم قيام، حتى ظهر -بحمد الله- منار التوحيد والإسلام، ووازره على ذلك من أسلافكم وأعمامكم من وازره رحمة الله عليهم أجمعين. وبعدهم حصل من الناس ما لا يخفى من الإعراض والإهمال، وعدم الرغبة والتنافس فيما أوجبه الرب من توحيده وفرضه على سائر عبيده، وقل الداعي إلى ذلك، والمذكر به، والمعلم له في القرى والبوادي، والتساهل في هذه الأمور العظام التي هي آكد مباني الإسلام، يوجب للرعية أن يشب صغيرهم، ويهرم كبيرهم على حالة جاهلية لا يعرف فيها الأصول الإيمانية، والقواعد الإسلامية. والله سائلنا وسائلك عن ذلك كل بحسب قدرته وطوقه. والجهل والظلم غالب على النفوس، ولها وللشيطان حظ كبير في ذلك، والنفوس الجاهلية المعرضة عن العلم النبوي يسرع إليها الشرك والتنديد أسرع من السيل إلى منحدره. والواجب مراعاة هذا الأصل، والقيام فيه، وبعث الدعاة إليه، وجعل   1 الترمذي: الإيمان (2616) , وابن ماجه: الفتن (3973) , وأحمد (5/231) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 أموال الله التي بأيديكم آلة له ووقاية وإعانة؛ فإن هذا من أفرض الفرائض وألزمها، ولم تشرع الإمامة والإمارة إلا لأجل ذلك، والقيام به. وبقاء الإسلام والإيمان في استقامة الولاة والأئمة على ذلك، وزوال الإسلام والإيمان وانقضاؤه بانحرافهم عن ذلك، وجعل الهمة والأموال والقوة مصروفة في غيره، مقصودا به سواه من العلو والرياسة والشهوات. ولذلك وقع في آخر بني العباس ما وقع من الخلل والزلل، واشتدت غربة الإسلام، وظهرت البدع العظام، وأظهر الكفر أعلامه وشعاره، وبنيت المساجد على القبور، وأسرجت عليها السرج، وأرخيت عليها الستور، وهتف أكثر الناس في الشدة بسكان القبور، وذبحوا لها القرابين ونذرت لها النذور، وبنيت الهياكل للنجوم، وخاطبها بالحوائج كل مشرك ظلوم. وسرى هذا في الناس حتى فعله من يظن أنه من الأخيار والأكياس، وكثير منهم يظن أن هذا هو الإسلام، وأنه مما جاء به سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام. وهل وقع ذلك وصار على تطاول الدهر والأعصار إلا بسبب إهمال الرؤساء والملوك الذين استكبروا في الأرض، ولم يرفعوا رأسا بما جاءت به الأنبياء، وقنعوا بمجرد الاسم والانتساب من غير حقيقة. قال الله -تعالى-: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ} 1 الآية. واجب الولاة المحافظة على دين الرعية فأهم المهمات وآكد الأصول والواجبات، التفكر في هذا، وتفقد الرعية، الخاصة والعامة، البادية والحاضرة، لأنك مسؤول عنهم، والسؤال يقع -أولا- عن الدين قبل الدنيا، وفي الحديث: "كلكم راع وكل مسئول عن رعيته" 2، وفي الحديث الصحيح: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما   1 سورة غافر آية: 47. 2 البخاري: الجمعة (893) , ومسلم: الإمارة (1829) , والترمذي: الجهاد (1705) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) , وأحمد (2/108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي. وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول، أعطوهم حقهم، فإن الله عز وجل سائلهم عما استرعاهم عليه" 1. 2 ففتش عقائدهم، وانظر في توحيدهم وإسلامهم خصوصا مثل أهل الأحساء والقطيف؛ اشتهر عنهم ما لا يخفاك من الغلو في أهل البيت، ومسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم التزام كثير من أصول الدين وفروعه، وكونهم يسرون ذلك ويخفونه مما لا يسقط عنك وجوب الدعوة، والتعليم، والنصح لله بظهور دينه، وإلزامهم به، وتعليم صغارهم وكبارهم؛ فإنك مسؤول عن ذلك، والحمل ثقيل، والحساب شديد. وفي الطبراني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل بشر بن عاصم على صدقات هوازن، فتخلف بشر، فلقيه عمر، فقال: ما خلفك؟ أما لنا عليك سمع وطاعة؟ قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول: "من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم؛ فإن كان محسنا نجا، وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفا"، فرجع عمر كئيبا حزينا. جعلك الله من الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب. ومن الدعوة الواجبة والفرائض اللازمة: جهاد من أبى أن يلتزم التوحيد ويعرفه، من البادية أو غيرهم، وكثير من بادية نجد يكفي فيهم المعلم، وأما من يليهم من المشركين مثل الضغير وأمثالهم فيجب جهادهم ودعوتهم إلى الله. وقد أفلح من كان لله محياه ومماته، وخاف الله في الناس، ولم يخف   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3455) , ومسلم: الإمارة (1842) , وابن ماجه: الجهاد (2871) , وأحمد (2/297) . 2 الحديث في صحيح مسلم وفيه "أوفوا بيعة الأول فالأول"وليس في آخره كلمة عليه - وكتبه محمد رشيد رضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الناس في الله، وفي الحديث: "مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر وغنيمة" 1. 2 وكذلك يجب على ولي الأمر أن يقدم على من نسب عنه طعن وقدح في شيء من دين الله ورسوله، أو تشبيه على المسلمين في عقائدهم ودينهم، مثل من ينهى عن تكفير المشركين، ويجعلهم من خير أمة أخرجت للناس، لأنهم يدَّعُون الإسلام، ويتكلمون بالشهادتين، وهذا الجنس ضرره على الإسلام -خصوصا على العوام- ضرر عظيم يخشى منه الفتنة. وأكثر الناس لا علم له بالحجج التي تنفي شبه المشبهين وزيغ الزائغين، بل تجده -والعياذ بالله- سلس القياد لكل من قاده أو دعاه، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا على ركن وثيق، أقرب شبها بهم الأنعام السارحة. المحافظة على عقائد العامة فإذا تيسر لكم -إن شاء الله- الاهتمام والقيام بهذا الأصل العظيم، فينظُر بعد هذا في أحوال الناس في الصلوات الخمس المفروضات؛ فإنها من آكد الفروض والواجبات، وفي الحديث: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة"، وكل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء، وقد قال -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} 3 الآية. فيلزم جعل نواب يأمرون بما أمر الله به ورسوله من إقام الصلاة في المساجد في أوقاتها، ويؤدبون من عرف منه   1 البخاري: الجهاد والسير (2787) . 2 هذا لفظ البخاري وفي مسلم وغيره زيادة عليه. 3 سورة البينة آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 كسل، أو ترك، أو إهمال‘ أدبا يردع أمثاله. وعلى أئمة المساجد تعليم ما يشترط لها، وما يجب فيها من الأعمال والأقوال. وبعد هذا، يلتفت إلى النظر في أمر الزكوات الشرعية وجبايتها على الوجه الشرعي من الأنعام والثمار والنقود والعروض، ويكون مع كل عامل رجل له معرفة بالحدود الشرعية والأحكام الزكوية، ويحذر عن الزيادة عما شرعه الله ورسوله؛ فلا يؤخذ إلا مما وجبت فيه الزكاة، وتم نصابه، وحال حوله؛ وكثير من العمال يخرص جميع الثمار وإن لم تنصب. وأخذ الزكاة من شيء لم يوجبه الله ولا رسوله فيه ظلم بين وتعد ظاهر، حمانا الله وإياكم منه. وكذلك ما يتبع الزكاة من النائبة قد أغنى الله عنها، وجعل فيما أحل غناء عما منع وحرم؛ ومن الواجبات على ولي الأمر ترك ذلك لله، وفي بيت المال ما يكفي الضيف ونحوه إن حصل تسديد، ومنّ الله بتوفيق من عنده. وكذلك ما يؤخذ من المسلمين في ثغر القطيف من الأعشار لا يليق، ولا يجوز التعشير في أموال المسلمين؛ ويلزم ولي الأمر -أيده الله- أن يلزم التجار الزكوات الشرعية قهرا، ويدع ما لا يحل. ومن الواجب تمييز الأموال الداخلة على ولي الأمر، فإن الله ميزها في كتابه وقسمها؛ فلا يحل تعدي ذلك وخلطها بحيث لا يمكن تمييز الزكاة من الفيء والغنائم، فإن لهذا مصرفا ولهذا مصرفا؛ ويجب على ولي الأمر صرف كل شيء في محله، وإعطاء كل ذي حق حقه، أهل الزكاة من الزكاة، وأهل الفيء من الفيء، ويعين ذلك في الأوامر التي تصدر من الإمام لوكيل بيت المال. ويجب تفقد من في بلاد المسلمين من ذوي القربى في الفيء والغنيمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فإن هذا من آكد الحقوق وألزمها لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بهم من عرف التوحيد والتزمه، وأهل الإسلام ما صالحوا؟) من عاداهم إلا بسيف النبوة وسلطانها، خصوصا دولتكم فإنها ما قامت إلا بهذا، وهذا أمر يعرفه كل عالم، وفي الحديث: "إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق ليس له يوم القيامة إلا النار" 1. عافانا الله وإياكم من النار، وأعمال أهل النار. حرمة أموال الناس ودمائهم وكل من أخذ مالا يستحقه من الولاة والأمراء والعمال هو غال، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره، حتى قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها أعار2، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة   1 مسلم: الزكاة (1035) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2463) , والنسائي: الزكاة (2531,2601,2602,2603) , وأحمد (3/434) , والدارمي: الزكاة (1650) والرقاق (2750) . 2 كذا في الأصل والمعروف في الروايات، وكتب اللغة يعار بالياء المضمومة يعرث الشاة أو العنز تيعر - وفي صحيح مسلم وغيره (لها ثغاء) بالمثلثة المضمومة وهو صوت الشاة من الضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك". وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هدايا العمال غلول، فقال: "هدايا العمال غلول" 1. فينبغي التفطن لهذه الأمور لئلا يقع فيها وهو لا يدري. وكذلك ينبغي تفقد أمر الناس في الحج، والقيام على من تركه وهو يستطيعه، وهو ركن من أركان الإسلام؛ ويذكر عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أضع الجزية على من ترك الحج. وبعض السلف يكفر من تركه، وأمر الرعية بذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لا يسع أحدا تركه. وكذلك القيام على الناس (ومنعهم) عن التعدي في الدماء والأموال وقطع السبيل، فهذا من الفساد في الأرض، والمحاربة لله ورسوله؛ فإن لم ينتهوا إلا بغزوهم لزم الإمام أن يبعث السرايا لحربهم. ولما تعرض الفجاء السلمي للناس يأخذ ويقتل من مسلم وكافر، بعث أبو بكر رضي الله عنه جيشا فظفروا به فأحرقه بالنار. ويذكر عن حسان أنه قال: وما الدين إلا أن تقام شريعة ... وتأمن سبل بيننا وشعاب وكذلك ما حدث من الدفنان للبادية إذا أخذوا المسلمين، وقتلوا لما فيه من ترك حقوق المسلمين في الدماء والأموال مع القدرة على استيفائها، والقيام بالعدل الذي أمر الله به ورسوله كما قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ} 2 الآية. فتأمل هذه الموعظة، وما ختمها به من هذين الوصفين العظيمين وقال -تعالى-: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 3 الآية. فالواجب على من نصح نفسه أن لا يحكم إلا بحكم الله ورسوله، فإن لم   1 أحمد (5/424) . 2 سورة النساء آية: 58. 3 سورة النساء آية: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 يفعل وقع في خطر عظيم من تقديم الآراء والأهواء على شرع الله ورسوله، قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: والله ما خوفي الذنوب فإنها ... لعلى طريق العفو والغفران لكنني أخشى انسلاخ القلب من ... تحكيم هذا الوحي والقرآن ورضا بآراء الرجال وخرصها ... لا كان ذاك بمنة الرحمن تفقد الإمام لدين رعيته ومما يجب على ولي الأمر: تفقد الناس من الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بإزالة أسبابها، وكذلك بخس الكيل والميزان، والربا؛ فيجعل في ذلك من يقوم به، من له غيرة لدين الله وأمانة. وكذلك مخالطة الرجال للنساء، وكف النساء عن الخروج إذا كانت المرأة تجد من يقضي حاجتها من زوج أو قريب أو نحو ذلك، وكذلك تفقد أطراف البلاد في صلاتهم، وغير ذلك مثل أهل النخيل النائية، لأنه ربمايقع فيها فساد ما يدري عنه، وأكثر الناس ما يبالي، ولو فعل ما نهي عنه، وفي الحديث: " ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء" 1، وفي الحديث -أيضا-: "ما ظهرت الفاحشة في قوم إلا ابتلوا بالطواعين والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا" 2. نعوذ بالله من عقوبات المعاصي ونسأله العفو والعافية في الدنيا والأخرة. وكذلك التوسع في لبس الحرير، وما زاد على المباح؛ وهو مما نهى الله عنه، ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ونص على تحريمه، ولا يجوز تتبع الرخص3.   1 البخاري: النكاح (5096) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740,2741) , والترمذي: الأدب (2780) , وأحمد (5/200,5/210) . 2 ابن ماجه: الفتن (4019) . 3 لعله ذكر الرخص هنا لما روي من ترخيص النبي (ص) بلبس الحرير لذي العمل والحكمة، وترجيحه أن العشرة من الصحابة الذين روي عنهم لبس الحرير كانوا مترخصين به لأعذار لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ومن الأصول التي تدور عليها الأحكام حديث: "إنما الأعمال بالنيات" 1، وحديث "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 2، وحديث: "الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه" 3 فكل أمر ينبغي لذوي العقول أن يتركوا ما تشابه منه، قد يقع فيه خلاف من بعض العلماء، فلا ينبغي أن يرخص لنفسه في أمر قد ظهرت فيه أدلة التحريم، فاجتنابه من تقوى الله وخوفه، وتركه مخافة الله من الأعمال الصالحة، التي تكتب له حسنات. ومما يجب النهي عنه: الإسبال، كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: "ما أسفل من الكعبين من الإزار4 فهو في النار"، وفي الحديث: "بينما رجل يجر إزاره خيلاء، أمر الله الأرض أن تأخذه؛ فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" 5. وكذلك التشبه باليهود والمجوس في ترك الشوارب، وقد أمر النبي-صلى الله عليه وسلم- بإحفائها مخالفة لليهود والمجوس، فقال صلى الله عليه وسلم "احفوا الشوارب واعفوا اللحى، وخالفوا اليهود". والذي فيه دين ورغبة   1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/25,1/43) . 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/240,6/270) . 3 البخاري: الإيمان (52) , ومسلم: المساقاة (1599) , والترمذي: البيوع (1205) , والنسائي: البيوع (4453) , وأبو داود: البيوع (3329) , وابن ماجه: الفتن (3984) , وأحمد (4/269) , والدارمي: البيوع (2531) . 4 سقط من الأصل كلمة (من الإزار) ، وهي في نص البخاري، ولا يصح المعنى إلا بها، والمراد من الإزار موضعه، وقد نص الشافعي على أن تحريم هذه الزيادة في الإزار ونحوه مخصوص بما إذا قصد به الخيلاء، فإن لم يكن للخيلاء كره تنزيها، كما في شروح البخاري، وهذا التخصيص أخذه الشافعي من حديث جر الإزار. 5 أحمد (2/493) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 في الخير ما يرضى لنفسه أن يخالف ما أمر الله به ورسوله، ويقتدي باليهود والمجوس والمتكبرين. السمع والطاعة لله ولرسوله وكل ما أمر الله به ورسوله فينبغي للعبد أن يمتثل ويسمع ويطيع لما في ذلك من المنافع الكثيرة، وما في خلافه من الإثم، قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 1. فعلى الإمام أن يأمر النواب من رأوه تاركا للأمر أن يقوموا عليه، ويلزموه الطاعة؛ حتى تظهر طاعة الله ورسوله في المسلمين، ويمتازون بذلك عمن خالفهم في الدين من أهل الجفاء والغلظة والغفلة والإعراض. نسأل الله العفو والعافية، فإنها قد عمت البلوى بهذا بكثير، لما قام بقلوبهم من ضعف الإيمان، وعدم الرغبة فيه. من واجبات الإمام إعانة طالب العلم وكذلك يجب على الإمام: النظر في أمر العلم، وترغيب الناس في طلبه، وإعانة من تصدى للطلب لقلة العلم وكثرة الجهل. وإن كان قد قام ببعض الواجب فينبغي له أن يهتم بهذا الأمر لفضيلة العلم، وكثرة ثواب من قام به وأعان عليه؛ فإن أكثر من يطلب العلم فقراء، ويحتاجون إلى الإعانة على فقرهم لما يكون لهم فيه سعة. وطلب العلم اليوم من الفرائض كما لا يخفى على الإمام وغيره، وفي الحديث الصحيح: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم"2. وهذا ما يحصل إلا باعتناء الإمام، وتأليفه للطالب؛ فإذا كثر العلم وقل الجهل بسببه حصل له من الخير والحسنات ما لا يحصيه إلا الله إن قبله الله؛ وبالغفلة عن طلبه العلم تضعف هممهم، ويقل طلبهم. وفي مناقب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه إذا أراد أن يحيي سنة أخرج من العطاء مالا كثيرا، فإذا نفروا من هذا رغبوا إلى   1 سورة الأحزاب آية: 36. 2 الترمذي: الزهد (2322) , وابن ماجه: الزهد (4112) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 هذا، فلله دره -رحمه الله- ما أحسن نظره لنفسه، ولمن ولاه الله عليهم. وهذا الذي ذكرنا من الأمور البينة التي ينبغي التنبه عليها بخصوصها؛ وأما الأمور التي بين الله وبين العبد التي فيها صلاح القلوب ومغفرة الذنوب من إتعاب النفس فيما يحبه الله ويرضاه مما يقع له وعليه. فهذا باب واسع، ولا يدرك هذا إلا من جعل الله له رغبة في تدبر كتابه، ومعرفة صفة أهل الإيمان والتقوى الذين أعد الله لهم الجنة، ويجاهد نفسه على ذلك فعلا وتركا. وعلى كل من نصح نفسه أن يحذر من كبائر القلوب التي هي من أعظم الذنوب، ولا يأمن مكر الله، وليكن لنفسه أشد مقتا منه لغيره. وليكن معظما للأمر والنهي، مفكرا فيما يحبه الله ويرضاه، متدبرا لكتابه محبة لربه ورغبة في ثوابه، وخوفا من غضبه وعقابه. ومن الواجب على كل أحد أن يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله، ويوالي في الله، ويحب أولياء الله أهل طاعته، ويعادي أعداء الله أهل معصيته. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. صنف هذه الرسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مجدد دين الله في نجد وغيرها في القرن الثاني عشر من الهجرة، صنفها في شدة مرضه؛ إعذارا وإنذارا لإمام وقته فيصل بن تركي آل سعود رحمة الله عليهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الرسالة الثانية: إخلاص العبادة لله وحده بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم كثيرا وعلى آله وصحبه. من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ عبد اللطيف بن حامد، وفقه الله -تعالى- لتوحيده، وجعله من صالحي عبده. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (وبعد) : فقد وصل إلينا خطك، ومعه نسخة الأسئلة، وسرنا ما كنت عليه مستقيما من دين الإسلام، الذي اشتدت غربته بين جميع الأنام. فأنا أذكر جواب ما سألت عنه على طريق الاختصار والإيجاز. (السؤال الأول) عما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل" 1. فاعلم أن (لا إله إلا الله) هي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي العروة الوثقى، وكلمة التقوى. وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم الخليل -عليه السلام- باقية في عقبه لعلهم يرجعون؛ ومعناها نفي الشرك في الألوهية عما سوى الله، وإفراد الله تعالى بالألوهية. والألوهية هي تأله القلب بأنواع العبادة كالمحبة، والخضوع، والذل بالدعاء، والاستعانة، والرجا والخوف   1 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 والرغبة والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادة التي ذكر الله في كتابه العزيز أمرا وترغيبا للعباد أن يعبدوا بها ربهم وحده. وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرة. وكل فرد من أفراد العبادة لا يستحق أن يقصد به إلا الله وحده، فمن صرفه لغير الله فقد أشركه في حق الله الذي لا يصلح لغيره، وجعل له ندا. وقد عمت البلوى بهذا الشرك الأكبر، بأرباب القبور، والأشجار، والأحجار، واتخذوا ذلك دينا زعموا أن الله -تعالى- يحب ذلك ويرضاه؛ وهو الشرك الذي لا يغفره الله كما قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، وقال -تعالى-: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 2 وقال -تعالى- في معنى هذا التوحيد: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} 3 أي: أمر ووصى، وهذا معنى لا إله إلا الله، فقوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا} 4 هو معنى لا إله في كلمة الإخلاص، وقوله: {إِلاَّ إِيَّاهُ} 5:هو معنى الاستثناء في لا إله إلا الله، ونظائر هذه الآية في القرآن كثير كما سنذكر بعضه. وقال -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 6: وهذا نهي عام يتناول كل مدعو من ملك أو نبي أو غيرهما، فإن أحدا نكرة في سياق النهي، وهي تعم. وأمثال هذه الآية كثير، كقوله -تعالى-: {قلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} 7. وفي حديث معاذ الذي في الصحيحين: "فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" 8 وفيهما -أيضا-: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار" 9. وإخلاص العبادة لله -تعالى- هو التوحيد الذي جحده المشركون قديما وحديثا، ولما قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لقومه وغيرهم من   1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة المائدة آية: 72. 3 سورة الإسراء آية: 23. 4 سورة الإسراء آية: 23. 5 سورة الإسراء آية: 23. 6 سورة الجن آية: 18. 7 سورة الجن آية: 20. 8 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3/260,5/228) . 9 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374,1/402,1/407,1/462,1/464) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أحياء العرب: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" 1، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2 إلى قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} 3، فعرفوا معنى لا إله إلا الله، وأنه توحيد العبادة، لكن جحدوه كما قال عن قوم هود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 4، وقال -تعالى-، عن مشركي هذه الأمة: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 5، عرفوا أن المراد من لا إله إلا الله: ترك الشرك في العبادة، وأن يتركوا عبادة ما سواه مما كانوا يعبدونه من ملك، أو نبي، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك. فإخلاص العبادة لله هو أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه؛ وهو سر الخلق، قال -تعالى- لنبيه: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 6، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 7. فإسلام الوجه هو إخلاص الأعمال الباطنة والظاهرة، كلها لله، وهذا هو توحيد الألوهية وتوحيد العبادة وتوحيد القصد والإرادة؛ ومن كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى، وهي لا إله إلا الله. فإن مدلولها نفي الشرك وإنكاره، والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده، وهو معنى قول الخليل: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 8. وهذا هو الإخلاص الذي هو دين الله، الذي لم يرض لعباده دينا سواه، كما قال -تعالى-: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 9 والدين هو العبادة، وقد فسره أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالدعاء، وهو بعض إفراد العبادة كما   1 أحمد (3/492) . 2 سورة ص آية: 5. 3 سورة ص آية: 6. 4 سورة الأعراف آية: 70. 5 سورة الصافات آية: 35. 6 سورة الرعد آية: 36. 7 سورة لقمان آية: 22. 8 سورة الأنعام آية: 79. 9 سورة الزمر آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 في السنن من حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة" 1، وحديث النعمان ابن بشير: "الدعاء هو العبادة "2 أي: معظمها، وذلك أنه يجمع من أنواع العبادة أمورا سنذكرها -إن شاء الله تعالى-. وقال -تعالى-: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 3، وقال -تعالى-: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4. والدعاء في هذه الآية هو الدعاء بنوعيه: دعاء العبادة، ودعاء المسألة، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 5 والحنيف هو الراغب عن الشرك، المنكر له، وقد فسره ابن القيم -رحمه الله- بتفسير شامل لمدلول لا إله إلا الله فقال: الحنيف المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه، وهذا التوحيد هو الذي أنكره أعداء الرسل من أولهم إلى آخرهم؛ وقد بيّن -تعالى- ضلالهم بالشرك، كما قال -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 6. لا بد من توحيد الإلهية والربوبية معاً وقال -تعالى-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 7، وهذا المذكور في هذه الآية هو توحيد الربوبية. ومشركو العرب والأمم لم يجحدوه، بل أقروا به لله، فصار حجة عليهم فيما جحدوه من توحيد الألوهية، ولهذا قال، بعد هذه الآية: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 8، وقال -تعالى-: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} 9. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، بل القرآن من أوله إلى أخره يدل على هذا التوحيد مطابقة وتضمنا والتزاما، وهو الدين الذي بعث به المرسلين من أولهم   1 الترمذي: الدعوات (3371) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (2969) , وابن ماجه: الدعاء (3828) . 3 سورة الزمر آية: 14. 4 سورة غافر آية: 22. 5 سورة البينة آية: 5. 6 سورة الفرقان آية: 3. 7 سورة الأحقاف آية: 4. 8 سورة الأحقاف آية: 5. 9 سورة الحج آية: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 إلى آخرهم كما قال -تعالى-: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} 1، فدلت هذه الآية وما قبلها على أن الله -تعالى- إنما أراد من عباده أن يخلصوا له العبادة، وهي أعمالهم، ونهاهم أن يجعلوا له شريكا في عباداتهم وإراداتهم التي لا يستحقها غيره كما تقدم، قال -تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2، وقال -تعالى-: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} 3، وقال -تعالى-: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} 4، والمراد تطهيره عن الشرك في العبادة، ولهذا قال -تعالى-: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 5. معنى لا إله إلا الله كما فسرها القرآن وقد بين الله -تعالى- في مواضع من القرآن معنى كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله) ، ولم يكل عباده في بيان معناها إلى أحد سواه، وهو صراطه المستقيم؛ كما قال: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 6، وقال –تعالى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 7، فعبر عن معنى لا إله بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 8، وعبر عن معنى إلا الله بقوله: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} 9؛ فتبين أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله –تعالى- كما تقدم. وهذا واضح بيّن لمن جعل الله له بصيرة ولم تتغير فطرته، فلا يخفى إلا على من عميت بصيرته بالعوائد الشركية، وتقليد من خرج عن الصراط المستقيم من أهل الأهواء والبدع والضلال: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ   1 سورة الأحقاف آية: 21. 2 سورة النساء آية: 36. 3 سورة الحج آية: 34. 4 سورة الحج آية: 26. 5 سورة الحج آية: 30. 6 سورة يس آية: 61. 7 سورة الزخرف آية: 26. 8 سورة الزخرف آية: 26. 9 سورة الزخرف آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1. وقال -تعالى- في بيان معناها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2 والمعنى: أيّ بعض كان، من نبي أو غيره كالمسيح ابن مريم، والعزير ونحوهما، وفي قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} 3 معنى لا إله وقوله: {إِلاَّ اللَّهَ} 4 هو المستثنى في كلمة الإخلاص. وهذا التوحيد هو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم من الإنس والجن كما قال -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5، وقد قال -تعالى- في معنى هذه الكلمة عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} 6. ففي قولهم: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} 7 معنى لا إله، وقولهم: {إِلاَّ اللَّهَ} هو المستثنى في كلمة الإخلاص وقال -تعالى-: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} 8 إلى قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ} 9، فتقرر بهذا أن الألوهية هي العبادة، وأن من صرف شيئا لغير الله فقد جعله لله ندا، والقرآن كله في تقرير معنى لا إله إلا الله، وما تقتضيه، وما تستلزمه، وذكر ثواب أهل التوحيد، وعقاب أهل الشرك، ومع هذا البيان الذي ليس فوقه بيان، كثر الغلط في المتأخرين من هذه الأمة في معنى هذه الكلمة، وسببه تقليد المتكلمين الخائضين؛ فظن بعضهم أن معنى لا إله إلا الله إثبات وجود الله -تعالى- ولهذا قُدّر الخبر المحذوف في لا إله إلا الله، وقالوا: لا إله موجود إلا الله، ووجوده -تعالى- قد أقر به المشركون الجاحدون لمعنى هذه الكلمة. وطائفة ظنوا أن معناها قدرته على الاختراع، وهذا معلوم بالفطرة، وما يشاهد من عظيم مخلوقات الله كخلق السموات والأرض، وما فيها من عجائب المخلوقات، وبه استدل الكليم موسى -عليه الصلاة والسلام-   1 سورة النور آية: 40. 2 سورة آل عمران آية: 64. 3 سورة آل عمران آية: 64. 4 سورة آل عمران آية: 64. 5 سورة يوسف آية: 108. 6 سورة الكهف آية: 16. 7 سورة الكهف آية: 16. 8 سورة الكهف آية: 14. 9 سورة الكهف آية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 على فرعون لما قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} 1. وفي سورة بني إسرائيل: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} 2، ففرعون يعرف الله، ولكن جحده مكابرة وعنادا، وأما غير فرعون من أعداء الرسل من قومهم ومشركي العرب ونحوهم، فأقروا بوجود الله -تعالى- وربوبيته، كما قال -تعالى-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 3، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 4 فلم يدخلهم ذلك في الإسلام لما جحدوا ما دلت عليه لا إله إلا الله من إخلاص العبادة بجميع أفرادها لله وحده. وفي الحديث الصحيح: "من مات وهو يدعو لله ندا، دخل النار" 5، وتقدم فيما تقدم من قول قوم هود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 6 دليل على أنهم أقروا بوجوده، وربوبيته، وأنهم يعبدونه، لكنهم أبوا أن يجردوا العبادة لله وحده دون آلهتهم التي كانوا يعبدونها معه؛ فالخصومة بين الرسل وأممهم ليست في وجود الرب، وقدرته على الاختراع؛ فإن الفِطَر والعقول دلتهم على وجود الرب، وأنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء، والمتصرف في كل شيء، وإنما كانت الخصومة في ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 7. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ   1 سورة الشعراء آية: 23. 2 سورة الإسراء آية: 102. 3 سورة الزخرف آية: 9. 4 سورة الزخرف آية: 87. 5 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374,1/402,1/407,1/462,1/464) . 6 سورة الأعراف آية: 70. 7 سورة هود آية: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 1. الشرك في هذه الأمة كسائر الأمم فالشرك في العبادة هو الذي عمت به البلوى في الناس قديما وحديثا كما قال -تعالى-: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} 2، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تأخذ مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع. ولهذا أنكر كثير من أعداء الرسل في هذه الأزمنة وقبلها على من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، وجحدوا ما جحدته الأمم المكذبة من التوحيد، واقتدوا بمن سلف من أعداء الرسل في مسبتهم من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله ونسبته إلى الخطأ والضلال، كما رأينا ذلك في كلام كثير منهم كابن كمال المشهور بالشرك والضلال، وقد كمل في جهله وضلاله وأتى في كلامه بأمحل المحال، وقد اشتهر عنه بأخبار الثقات أنه يقول: عبد القادر في قبره يسمع، ومع سمعه ينفع، وما يشعره أنه في قبره الآن رفات كحال الأموات. وهذا قول شنيع، وشرك فظيع، ألا ترى أن الحي الذي قد كملت قوته، وصحت حاسة سمعه وبصره، لو ينادى من مسافة فرسخ أو فرسخين لم يمكنه سماع نداء من ناداه، فكيف يسمع ميت من مسافة شهر، أو شهرين، أو دون ذلك، أو أكثر، وقد ذهبت قوته، وفارقته روحه، وبطلت حواسه؟! هذا من أعظم ما تحيله العقول، وتنكره الفطر، وفي كتاب الله عز وجل ما يبطله؛ قال الله–تعالى-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 3 فأخبر الخبير –جل وعلا- أن سماعهم ممتنع،   1 سورة العنكبوت آية: 16. 2 سورة الروم آية: 42. 3 سورة فاطر آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 واستجابتهم لمن دعاهم ممتنعة. فهؤلاء المشركون لما استغرقوا في الشرك ونشئوا عليه أتوا في أقوالهم بالمستحيل، ولم يصدقوا الخبير في إخباره، وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 1؛ فذكره -تعالى- أنهم أموات دليل على بطلان دعوتهم، وكذلك عدم شعورهم. يبين -تعالى- بهذا جهل المشرك وضلاله، فأحق عز وجل في كتابه الحق، وأبطل الباطل ولو كره المشركون، لكن هؤلاء لما عظم شركهم، نزلوا الأموات في علم الغيب منزلة علام الغيوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وشبهوهم برب العالمين، سبحانه وتعالى عما يشركون، قال الله -تعالى-: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 2. وليس عند هؤلاء الملاحدة ما يصدون به العامة عن أدلة الكتاب والسنة التي فيها النفي عن الشرك في العبادة، إلا قولهم: قال أحمد بن حجر الهيتمي، قال فلان، وقال فلان: يجوز التوسل بالصالحين، ونحو ذلك من العبارات الفاسدة. فنقول: هذا وأمثاله ليسوا بحجة تنفع عند الله، وتخلصكم من عذابه؛ بل الحجة ما في كتاب الله، وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم -الثابتة عنه، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها. وما أحسن ما قال الإمام مالك -رحمه الله-: أوَ كلما جاءنا رجل أجدل من رجل، نترك ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله. التوسل الصحيح والباطل إذا عرف ذلك، فالتوسل يطلق على شيئين: فإن كان ابن حجر وأمثاله أرادوا سؤال الله بالرجل الصالح فهذا ليس في الشريعة ما يدل على جوازه، ولو جاز لما ترك الصحابة -رضي الله عنهم- من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، التوسل بالنبي -صلى الله عليه   1 سورة النحل آية: 20. 2 سورة الأعراف آية: 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وسلم- بعد وفاته كما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته إذا قحطوا، وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج بالعباس بن عبد المطلب عام الرمادة بمحضر من السابقين الأولين يستسقون، فقال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ثم قال: ارفع يديك يا عباس، فرفع يديه يسأل الله -تعالى-، ولم يسأله بجاه النبي-صلى الله عليه وسلم -ولا بغيره. ولو كان هذا التوسل حقا كانوا عليه أسبق، وعليه أحرص. فإن كانوا أرادوا بالتوسل دعاء الميت والاستشفاع به، فهذا هو شرك المشركين بعينه، والأدلة على بطلانه في القرآن كثيرة جدا؛ فمن ذلك قوله -تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1، فالذي له ملك السموات والأرض هو الذي يأذن في الشفاعة، كما قال الله -تعالى-: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2 وقال -تعالى-: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 3، وهو لا يرضى إلا الإخلاص بالأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره. وأنكر -تعالى- على المشركين اتخاذ الشفعاء فقال -تعالى-: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4، فبين -تعالى- في هذه الآية أن هذا هو شرك المشركين، وأن الشفاعة ممتنعة في حقهم لما سألوها من غير وجهها، وأن هذا هو شرك نزه نفسه عنه بقوله -تعالى-: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5.   1 سورة الزمر آية: 43. 2 سورة البقرة آية: 255. 3 سورة النجم آية: 26. 4 سورة يونس آية: 18. 5 سورة يونس آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فهل فوق هذا البيان بيان؟ وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 1، فكفرهم بطلبهم من غيره أن يقربهم إليه، وقد تقدم بعض الأدلة على النهي عن دعوة غير الله والتغليظ في ذلك، وأنه في غاية الضلال، وأنه شرك بالله وكفر به، كما قال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 2. فمن أراد النجاة فعليه بالتمسك بالوحيين الذين هما حبل الله، وليدع عنه بنيات الطريق كما قال -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3، وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم الصراط المستقيم، وخط خطوطا عن يمينه، وعن شماله، وقال: "هذه هي السبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه"4 والحديث في الصحيح وغيره عن عبد الله ابن مسعود، وكل من زاغ عن الهدى، وعارض أدلة الكتاب والسنة بزخرف أهل الأهواء فهو شيطان. فصل في معارضة المشركين لدعوة التوحيد فصل والعاقل إذا تأمل ما عارض به أولئك الدعاة إلى الشرك بالله في عبادته كابن كمال وغيره، من دعاء الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، فالعاقل يعلم أن معارضتهم له قد اشتملت على أمور كثيرة منها: (الأمر الأول) : أنهم أنكروا ما جاءت به الرسل من توحيد العبادة، وما نزلت فيه الكتب الإلهية من هذا التوحيد؛ فهم في الحقيقة إنما عارضوا الرسل، والكتب المنزلة عليهم من عند الله.   1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة المؤمنون آية: 117. 3 سورة الأنعام آية: 153. 4 أحمد (1/435) , والدارمي: المقدمة (202) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 (الأمر الثاني) : تضمنت معارضتهم قبول الشرك الأكبر ونصرته، وهو الذي أرسل الله رسله، وأنزل كتبه بالنهي عنه، وقد خالفوا جميع الرسل والكتب؛ فهم في الحقيقة قد أنكروا على من دان بهذا التوحيد، ودعا إليه من الأولين والآخرين. (الأمر الثالث) : وقد تضمنت معارضتهم أيضا مسبة من دعا إلى التوحيد، وأنكر الشرك أسوة أعداء الرسل كقوم نوح إذ قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1، وقال قوم هود: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 2 وقول من قال من مشركي العرب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} 3. فالظلم والزور في كلام هؤلاء المنكرين للتوحيد أمر ظاهر يعرفه كل عاقل منصف، فقد تناولت مسبتهم كل من دعا إلى الإسلام، وعمل به من الأولين والآخرين؛ كما أن من كذب رسولا بما جاء به من الحق فقد كذب المرسلين كما ذكره الله -تعالى- في قصص الأنبياء، فمن أنكر ما جاءت به الرسل فهو عدو لهم. (الأمر الرابع) : وتضمنت معارضتهم -أيضا- الكذب والإفك والبهتان وزخرف القول في ذلك أسوة أعداء الرسل الذين قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} 4. فهذه حال كل داعية إلى الشرك بالله في عبادته من الأولين والآخرين، فإذا تأمل اللبيب ما زخرفوه، وأتوا به من الفشر والأكاذيب، وجدها كما قال -تعالى-: {سَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 5. (الأمر الخامس) : معارضة أولئك للآيات المحكمات البينات التي   1 سورة الأعراف آية: 60. 2 سورة الأعراف آية: 66. 3 سورة الفرقان آية: 4. 4 سورة الأنعام آية: 112. 5 سورة النور آية: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 هي في غاية البيان والبرهان، وبيان ما ينافي التوحيد من الشرك والتنديد، فعارضوا بقول أناس من المتأخرين لا يجوز الاعتماد عليهم في أصول الدين، فيقولون: قال ابن حجر الهيتمي، قال البيضاوي، قال فلان. ولا ريب أن الزمخشري وأمثاله من المعطلة أعلم من هؤلاء وأدرى في فنون العلم، لكنهم أخطؤوا كخطأ هؤلاء؛ وفي تفسير الزمخشري من دسائس الاعتزال ما لا يخفى، وليسوا بأعلم منه. وعلى كل حال فليسوا بحجة يعارض بها نصوص الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها من الدين الحنيف الذي هو ملة إبراهيم الخليل -عليه السلام- ودين الرسل الذين قال الله -تعالى- فيه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} 1. فأولئك المعارضون للحق بمن ذكرنا وأمثالهم، فيهم شبه بمن قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 2، وهذا على تقدير أنهم أصابوا في النقل عنهم، ولعلهم أخطؤوا وكذبوا عليهم، والله أعلم. والأدلة بالإجماع ثلاثة: الكتاب، والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها. وأما القياس الصحيح فعند بعض العلماء حجة، إذا لم يخالف كتابا ولا سنة؛ فإن خالف نصا أو ظاهرا لم يكن حجة. وهذا هو الذي أجمع عليه العلماء سلفا وخلفا، وتفصيل ذلك في كتب أصول الفقه. لوازم معنى لا إله إلا الله وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "وكفر بما يعبد من دون الله" 3، فهذا شرط عظيم لا يصح قول لا إله إلا الله إلا بوجوده، وإن لم يوجد لم يكن من   1 سورة الشورى آية: 13. 2 سورة الزخرف آية: 23. 3 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472,6/394) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قال لا إله إلا الله معصوم الدم والمال، لأن هذا هو معنى لا إله إلا الله؛ فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دل عليه من ترك الشرك والبراءة منه وممن فعله. فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله، وتبرأ منه، وعادى مَن فعل ذلك، صار مسلما معصوم الدم والمال؛ وهذا معنى قول الله -تعالى-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1. وقد قيدت لا إله إلا الله في الأحاديث الصحيحة بقيود ثقال، لا بد من الإتيان بجميعها، قولا، واعتقادا، وعملا. فمن ذلك حديث عتبان الذي في الصحيح: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" 2، وفي حديث آخر: "صادقا من قلبه -خالصا من قلبه - مستيقنا بها قلبه -غير شاك" 3. فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود إذا اجتمعت له، مع العلم بمعناها ومضمونها، كما قال -تعالى-: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 4. وقال -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} 5، فمعناها يقبل الزيادة لقوة العلم، وصلاح العمل. فلا بد من العلم بحقيقة معنى هذه الكلمة علما ينافي الجهل، بخلاف من يقولها وهو لا يعرف معناها. ولا بد من اليقين المنافي للشك فيما دلت عليه من التوحيد. ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك؛ فإن كثيرا من الناس يقولها وهو يشرك في العبادة، وينكر معناها، ويعادي من اعتقده وعمل به، ولا بد من الصدق المنافي للكذب، بخلاف حال المنافق الذي يقولها من غير صدق، كما قال -تعالى-: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 6. ولا بد من القبول المنافي للرد، بخلاف من يقولها ولا يعمل بها. ولا بد من المحبة لما دلت عليه من التوحيد والإخلاص وغير ذلك، والفرح بذلك المنافي   1 سورة البقرة آية: 256. 2 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) . 3 مسلم: الإيمان (31) . 4 سورة الزخرف آية: 86. 5 سورة محمد آية: 19. 6 سورة الفتح آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 لخلاف هذين الأمرين. ولا بد من الانقياد بالعمل بها وما دلت عليه، مطابقة وتضمنا والتزاما. وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه. وأنت -أيها الرجل- ترى كثيرا ممن يدعي العلم والفهم قد عكس مدلول لا إله إلا الله، كابن كمال ونحوه من الطواغيت؛ فيثبتون ما نفته لا إله إلا الله من الشرك في العبادة، ويعتقدون ذلك الشرك دينا، وينكر ما دلت عليه من الإخلاص، ويشتم أهله، وقد قال -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1. وهذا النوع من الناس الذين قد فُتنوا وفَتنوا، يستجهلون أهل الإسلام، ويستهزئون بهم أسوة من سلف من أعداء الرسل، وقد قال الله -تعالى- في أمثال هؤلاء: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 2. وأما ما سألت عنه من حديث: "خذ من القرآن ما شئت لما شئت" فهذا ليس بحديث، ولا يصح أن ينسب إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-. وأما حديث:" ويش الذي يغبا3 يا رسول الله، قال: الذي ما كان"، فلا يجوز أن ينسب إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- هذا، كيف وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 4 فسماها غائبة، مع وجودها في السماء والأرض. وجوب تبليغ دعوة التوحيد حسب الاستطاعة (وأما المسألة الرابعة) : فيمن يعرف التوحيد ويعتقده، ويقرأ في التفسير كتفسير البغوي ونحوه، فلا بأس أن يحدث بما سمعه وحفظه من العلم، ولو لم يقرأ في النحو. فمن المعلوم أن كثيرا من العلماء من المحدثين والفقهاء إنما كان دأبهم   1 سورة الزمر آية: 2. 2 سورة الزمر آية: 45. 3 لعل المعنى: وأي شيء الذي يغيب إلخ. 4 سورة النمل آية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 طلب ما هو الأهم، والنحو إنما يراد لغيره؛ فيأخذ الرجل منه ما يصلح لسانه. فانشر ما علمت من العلم خصوصا علم التوحيد، الذي هو في الآيات المحكمات كالشمس في نحر الظهيرة لمن رغب فيه، وأحبه، وأقبل عليه، وقد عرفت أن كتمان العلم مذموم بالكتاب والسنة، كما قال –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} 1 وقد أرشد الله–تعالى- عباده إلى تدبر كتابه، وذَمَّ مَنْ لم يتدبره، وقد قال –تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. وأخبر عن جن نصيبين أنهم لما سمعوا قراءة النبي-صلى الله عليه وسلم- للقرآن بوادي نخلة منصرفة من الطائف: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} 3 الآية، وأخبر -تعالى- عنهم في سورة الجن أنهم أنكروا الشرك الذي كان يفعله الإنس مع الجن من الاستعاذة بهم إذا نزلوا واديا. وأخبر تعالى عن هدهد سليمان أنه أنكر الشرك، وهو طائر من جملة الطير، قال -تعالى-: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ ِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4 الآية، فحدث الهدهد سليمان -عليه السلام- بما رآهم يفعلونه من السجود لغير الله، والسجود نوع من أنواع العبادة؛ فليت أكثر الناس عرفوا من الشرك ما عرفه الهدهد فأنكروه   1 سورة البقرة آية: 159. 2 سورة العنكبوت آية: 51. 3 سورة الأحقاف آية: 29. 4 سورة النمل آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وعرفوا الإخلاص فالتزموه. وبالله التوفيق، فسبحان من غرس التوحيد في قلب من شاء من خلقه، وأضل من شاء عنه بعلمه وحكمته وعدله!!. وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو فرض باليد واللسان والقلب مع القدرة: فأما فرضه باليد واللسان فإنه من فروض الكفايات؛ إذا قام به طائفة سقط عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا. وأما القلب فلا يسقط عنه بحال، قال الله -تعالى-: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1، وقال في حق من تركه: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 2. وفي الحديث الصحيح: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 3 وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 4. وأما ما ذكرت بعد ذلك من الأسئلة في مخالطة المشركين، وأهل البدع فإن كان لك قدرة على الهجرة عنهم وجبت عليك، لما فيها من حفظ الدين ومفارقة المشركين والبعد عنهم. وأما من كان من المستضعفين الذين لا قدرة لهم على الهجرة، فعليه أن يعتزلهم ما استطاع، ويظهر دينه، ويصبر على أذاهم، فقد قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 5 الآية، والله المستعان. وأما السؤال عن قوله -تعالى-: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} 6 فالآية نزلت في شأن عمار بن ياسر لما عذبه مشركو مكة، وحبسوه في بئر ميمون، وأكرهوه على كلمة كفر، فقالها تخلصا   1 سورة آل عمران آية: 104. 2 سورة المائدة آية: 79. 3 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10,3/20,3/49,3/52,3/54,3/92) . 4 مسلم: الإيمان (50) . 5 سورة العنكبوت آية: 10. 6 سورة النحل آية: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 من عذابهم، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "فإن عادوا فعد" وهذا قبل وجوب الهجرة، فأنزل الله هذه الآية. وأما حديث: "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين؛ لا تراءى ناراهما" فهذا في حق من له قدرة على البعد عنهم، وأما من لا يمكنه البعد عنهم بحيث لا يقدر على ذلك بوجه من الوجوه، فلا. وأما حديث: "من أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، فأولئك هم الهالكون" 1 فقد تقدم بيان ذلك في معنى حديث: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" 2. فالإنكار يجب مع الاستطاعة، والكراهة هي أضعف الإيمان؛ وأما الرضى بالمنكر والمتابعة عليه فهو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح، والله أعلم. ونسأل الله -تعالى- الثبات على الإيمان، وأن لا يزيغ قلوبنا عنه بعد إذا هدانا إليه، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. آمين، آمين، آمين.   1 مسلم: الإمارة (1854) , والترمذي: الفتن (2265) , وأبو داود: السنة (4760) , وأحمد (6/295,6/305) . 2 مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008,5009) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10,3/20,3/49,3/52,3/54,3/92) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الرسالة الثالثة: بيان ما في البردة مما يخالف الدين بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الأخ عبد الله بن محمد. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وما ذكرت أنا ننصركم، فبلدكم بعيد لا يستطاع الوصول إليها، وأما نصرتكم بالحجة والبيان فالله تعالى قد قال في كتابه: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} 1. والخصومة بينكم وبين الضد في عبادتهم غير الله -تعالى- من الأموات الذين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، كما قال -تعالى-: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} 2. وقد كان جل عبادتهم لهم في الرغبات والرهبات بالدعاء والاستغاثة، وقد قال -تعالى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3، و {أحدا} نكرة في سياق النهي تعم كل مدعو من دون الله، كالأنبياء ومن دونهم. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعبد ربه وحده بالدعاء وغيره من أنواع العبادة، قال الله -تعالى- آمرا نبيه أن يدعو أمته أن يخلصوا الدعاء لربهم وخالقهم، فقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 4، وقال -تعالى-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} 5 فبين -تعالى- أنه المستحق لدعوة الحق، وأن الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء، وأن دعوة غيره ضلال؛ والضلال ضد الهدى، وكفّرهم بذلك، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 6.   1 سورة الفرقان آية: 33. 2 سورة المائدة آية: 76. 3 سورة الجن آية: 18. 4 سورة الرعد آية: 36. 5 سورة الرعد آية: 14. 6 سورة المؤمنون آية: 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فكفّر من يدعو غيره في هاتين الآيتين، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1, وقال -تعالى-: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2. فهذه الآيات تقصم ظهر المشرك الملحد؛ فمن تمسك بها غلب خصمه المشرك كما قال شيخنا -رحمه الله تعالى-: "والعامي من الموحدين يغلب ألفا من علماء هؤلاء الشياطين". وما ذكرت من أنهم يأتون بفتاوى من علماء مكة، فليس مع من عارض أدلة التوحيد إلا شبهات شياطين؛ وقد كتبنا نسخة في هذا المعنى ردا على من زعم أن الاستمداد بالأموات جائز، وفيها كفاية لأهل الحق. ترك الحديث الصحيح والعمل بالمذهب وأما ما سألت عنه فيمن أنكر الحكم برجحان العمل بالحديث الصحيح في مقابلة المذهب الملتزم، فهذا من محدثات الأمور التي ما أنزل الله بها من سلطان قال -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 3، وقال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 4 الآية. وهذا أصل عظيم من أصول الدين، قال العلماء -رحمهم الله-: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله-صلى الله عليه وسلم-"، وهذا قول الإمام مالك رحمه الله. وهذا القول الذي يقوله هؤلاء يفضي إلى هجران الكتاب والسنة، وتبديل أحكام النصوص كما فعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ والكتاب والسنة شفاء وهدى لمن أصغى إليهما.   1 سورة الأحقاف آية: 5. 2 سورة فاطر آية: 14. 3 سورة الأعراف آية: 3. 4 سورة النساء آية: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ومن طلب الحق منهما ناله وفهمه، وقد قال -تعالى-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} 1، والأمر بتدبره، والتذكر ليس مخصوصا بالعلماء المجتهدين، بل عام لكل من ناله2 فهم يدرك به معنى الكلام. والتقليد المفضي إلى هذا الإعراض عن تدبر الكتاب والسنة فيه شبه بمن قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 3. وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 4 وأهل الاجتهاد من العلماء، وإن كانوا معذورين باجتهادهم، إنما هو في معنى أدلة الكتاب والسنة، وينهون عن تقليدهم، فالأئمة -رحمهم الله- اجتهدوا ونصحوا؛ قال الإمام الشافعي: إذا جاء الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، فهو مذهبي. الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر وأما قولكم: الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر فالأصغر: كيسير الربا والحلف بغير الله، وقول الرجل: أنا في حسبك، ولولا الله وأنت، وأن يجاهد ويأمر بالمعروف لطلب رياسة أو مال أو وظيفة، كمن يتعلم العلم لوظيفة المسجد، أو يقرأ القرآن ليسأل الناس به، أو يبيع الختمات، أو يحج ليأخذ المال، أو يتصدق ليكثر ماله، أو نحو ذلك، وهذا إنما يتبين بالتمثيل والحد لا بالعد. وأما الشرك الأكبر، فهو اتخاذ الأنداد من أرباب القبور والغائبين، ومخاطبتهم بالحوائج، والذبح لهم، والنذر، واعتقاد أنهم ينفعون ويدفعون، وكاتخاذ الأشجار والأحجار والأصنام لجلب الخير ودفع الضر بها، وغير ذلك؛ وهو كثير جدا، وهو أن يرغب إلى شيء أو يدعوه أو يخافه أو يرجوه، أو يعكف عند القبر تعظيما له، ونحو ذلك. وأمور الشرك، أكبره، وأصغره لا تدرك بالعد، لكن الشرك الأكبر يخرج من الملة ويحبط الأعمال، لأنه أعظم ذنب عصي الله به، وهو أظلم الظلم،   1 سورة ص آية: 29. 2 حاشا الفهم المخالف لفهم السلف، فإن هذا أصول جهم وشيعته. 3 سورة التوبة آية: 31. 4 سورة الشورى آية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 لأن المشرك أخذ حق الله ووضعه فيمن لا يستحقه. وأما الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر لقول النبي – صلى الله عليه وسلم- لمن رأى في يده حلقة من صفر فقال: "ما هذه؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت -وهي عليك- ما أفلحت أبدا" 1. ولا يكفَّر الشرك أكبره وأصغره إلا بالتوبة منه قبل الممات، والأصغر لا يكفِّره في الدار الآخرة إلا كثرة الحسنات، لأن الأصغر لا يحبط إلا العمل الذي وقع فيه خاصة. الذهاب إلى المقابر التي بني عليها القباب وأما قولكم في الذهاب إلى المقابر التي بني عليها القباب، وأوقد فيها المصباح فالجواب: أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم -لعن اليهود والنصارى وقال: "لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2، وقال: "لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج" 3. وبناء القباب على القبور وإسراجها، وسيلة إلى عبادتها والخضوع لها، والتذلل والتعظيم، وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله؛ وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد؛ اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 4. استغاثة الأحياء بالأموات وأما مسألة استغاثة الأحياء بالموتى في طلب الجاه والسعة والرزق والأولاد، مثل أن يقال عند القبور: أن تدعوا الله في رفع فقرنا، وبسط رزقنا، وكثرة أولادنا وشفاء مريضنا؛ لأنكم سلف مستجابو الدعوات عند الله. فالجواب: هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وهذا شرك في الربوبية والألوهية، وقد كان شرك المشركين في جاهليتهم بطلب الشفاعة والقربة. وأما طلب الرزق والأولاد وشفاء المرضى، فقد أقروا بأن آلهتهم لا تقدر على ذلك، كما قال -تعالى-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ   1 ابن ماجه: الطب (3531) , وأحمد (4/445) . 2 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (6/34,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 3 الترمذي: الصلاة (320) , والنسائي: الجنائز (2043) , وأبو داود: الجنائز (3236) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229,1/287,1/324,1/337) . 4 مالك: النداء للصلاة (416) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1. فأقروا لله تعالى أنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، وقال: {أمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 2 أي: يفعل ذلك؛ فأقروا لله بذلك، وصار إقرارهم حجة عليهم في اتخاذهم الشفعاء. وقد قال -تعالى- في فاتحة الكتاب: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3 أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك؛ فهو المعبود وحده، وهو المستعان. وقد تقدم ما يبين أن الدعاء مخ العبادة، لأن الله -تعالى- نهى عن دعوة غيره، وأخبر أن المدعو لا يستجيب لداعيه، وأنه شرك وضلال، وأنه كفر بالله. وقد أوضحنا ذلك في الجواب في إبطال دعوة المدعي جواز الاستمداد بالأموات، ومن قال: إن الميت يسمع ويستجيب، فقد كذب على الله {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} 4، وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 5 فأخبر -تعالى- أنه لا أضل ممن يدعو أحدا من دون الله غير الله، وما أخبر أن المدعو لا يستجيب، وأنه غافل عن الداعي ودعوته، وأنه عدوه يوم القيامة. فأهل التوحيد أعداء أهل الشرك في الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} 6، فأخبر -تعالى- أن آلهتهم تبرأ منهم بين يدي الله ومن عبادتهم، ويستشهدون الله على أنهم في حال دعوتهم لهم غافلون لا يسمعون ولا يستجيبون. وهذا كتاب الله هو الحاكم بيننا، وبين جميع من   1 سورة يونس آية: 31. 2 سورة النمل آية: 62. 3 سورة الفاتحة آية: 5. 4 سورة الزمر آية: 32. 5 سورة الأحقاف آية: 5. 6 سورة يونس آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أشرك بالله من الأولين والآخرين، وليس فعل أحد من الناس، ولو من يظن أنه عالم يكون حجة على كتاب الله؛ بل القرآن هو الحجة على كل أحد، فلا تغتروا بقول بعضهم: قال فلان، وفعل فلان. التحذير من دلائل الخيرات والبردة والهمزية وأما السؤال عن دلائل الخيرات، فيكفي عن دراستها ما وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن كيفية الصلاة قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" 1 إلخ، وقد قال بعض العلماء لما قيل له: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحرق دلائل الخيرات، استحسن ذلك، فقال: وحرق عمدا للدلائل دفترا ... أصاب ففيها ما يجل عن العد غلو نهى عنه الرسول وفرية ... لا مرية فاتركه إن كنت تستهدي أحاديث لا تعزى إلى عالم فلا ... تساوي فليسا إن رجعت إلى النقد وأما السؤال عن البردة للبوصيري والهمزية وأمثالهما في المديح، فالمنكر من ذلك ما كان فيه شرك، كقول صاحب البردة: "يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك"، فدعا غير الله، ولاذ به من دون الله، والدعاء مخ العبادة، واللياذ نوع من أنواع العبادة كالعياذ، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير ما كان عليه أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن إذا هبطوا واديا، يقولون: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، كما قال -تعالى-: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 2 أي: طغيانا. فشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته قصر الاستعاذة على الله وأسمائه وصفاته، فقال في حديث خولة بنت حكيم، وهو في الصحيح: "من نزل منزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك" 3. وكذلك قول صاحب البردة:   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3370) , ومسلم: الصلاة (406) , والترمذي: الصلاة (483) , والنسائي: السهو (1287,1288) , وأبو داود: الصلاة (976) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (904) , وأحمد (4/241,4/244) , والدارمي: الصلاة (1342) . 2 سورة الجن آية: 6. 3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجه: الطب (3547) , وأحمد (6/378,6/409) , والدارمي: الاستئذان (2680) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم وقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فكل هذا شرك محرم بالكتاب والسنة. فما كان من جنس ذلك وجب إنكاره والنهي عنه وتغييره بطمسه؛ وهذا يتبين بما تقدم من الآيات المحكمات في النهي عن دعوة غير الله، والرغبة، والتوكل عليه، ورجاه. وأما الإجماع، فقد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فقال: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم، ويتوكل عليهم كفر إجماعا، وأما البدعة المنهي عنها فكل ما حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا دل عليه قول؛ من النبي ولا فعل، وكذلك أصحابه الذين هم أحرص الأمة على فعل الخير، فكل ما حدث بعدهم في العبادات، وغيرها من أمور الدين فهو بدعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في خطبته: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" 1. وبسط القول في هذا يستدعي كتابا ضخما، لكن في أصول الأدلة ما يكفي المسافر إلى الله على صراط مستقيم، وكل ما لم يفعله أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مما حدث بعدهم، فالجواب أن يقال: لو كان خيرا ما سبقونا إليه. السفر إلى قبر النبي وأما السؤال عن السفر إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" 2، فالنهي عن شد الرحال إلى غير الثلاثة لفظ عام يتناول المساجد وغيرها، وفحوى الخطاب يدل عليه، لأن غير المساجد من باب أولى، ولكن إذا نوى الإنسان   1 أبو داود: السنة (4607) , والدارمي: المقدمة (95) . 2 أحمد (6/7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 السفر إلى مسجده حصلت زيارة القبر الشريف تبعا، فإنه إذا وصل إلى المسجد سلم على النبي-صلى الله عليه وسلم- من قرب، فيكون قد أخذ بعموم الحديث، وحصلت له الزيارة من غير أن يخصها بشد الرحال المنهي عنه. الرسوم والعادات الجارية عند الأعاجم وأما السؤال عن الرسوم والعادات التي شاعت وذاعت في الأعاجم -سيما في مشايخهم- إذا مرض أحدهم يخفون ويحيطون فيقرؤون شيئا من الآيات بحساب وأعداد معلومات، فإذا انتهى قالوا: يا قاضي الحاجات، ويا كاشف الكربات، ثم يأتون بالأطعمة النفيسة فيأكلونها بأجمعهم. فالجواب: أن الذي وردت به السنة دعاء العائد له وحده من غير تكلف ولا اجتماع، فإن شاء رقاه بما وردت به السنة، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لمَن نخستها عينها، إنما يكفيك أن تقولي: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك؛ شفاء لا يغادر سقما، هذا جنس المشروع. وأما على هذه الكيفية التي ذكرها السائل فبدعة تجري مجرى ما ذكره الله -تعالى- ردا على من ابتدع في دينه، فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1. وأما ما ذكره السائل من أنه إذا مات أحدهم يتصدق أقاربه وعشائره، ويذبحون الذبائح، ويطبخون الطعام، ويفرشون الحرير، ويدعون الناس كلهم، الغني والفقير، فليس هذا من دين الإسلام؛ بل هو بدعة وضلالة ما أنزل الله بها من سلطان. وهذا من جنس ما أحدثه اليهود والنصارى من التغيير والتبديل في شريعتهم، خالفوا به ما جاءت به أنبياؤهم؛ فيجب اجتناب ذلك المأتم وما في معناه.   1 سورة الشورى آية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 شد الرحال إلى مكانات مشرفة للأنبياء والأولياء وأما ما سألت عنه من شد الرحال إلى مكانات مشرفة للأنبياء والأولياء، هل ممنوع ومحذور، أم لا. فالجواب: لا ريب أن هذا مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم، وهو قوله: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" 1، فإذا كان تبرك للمحل المزور فهو من الشرك، لأنهم قصدوا بذلك تعظيم المزور كقصد النبي صلى الله عليه وسلم أو الولي لتعود بركته عليه بزعمهم. وهذه حال عباد الأصنام، سواء كما فعله المشركون باللات والعزى ومناة، فإنهم يقصدونها لحصول البركة بزيارتهم وإتيانهم إليها، وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: الله أكبر، إنها السنن. قلتم، والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. لتركبن سنن من كان قبلكم"، فجعل التبرك بالأشجار مثل قول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} 2؛ وهذا هو جنس عبادة الأشجار والأحجار. وأما قول بعضهم: إن أمور التعظيمات خصصه الله -تعالى- للذات وسماه بالعبادة كالسجود والركوع، والقيام كقيام الصلاة، والتصدق بالصدقات والصيام باسمه، وقصد السفر إلى بيته من المكانات البعيدات، فهذا من وحي الشيطان وزخرفته التي ألقاها على ألسن المشركين، فجمع لهم الشرك، وتعظيمه، والغلو فيه، والبدع والضلالات. وكل هذا باطل   1 أحمد (6/7) . 2 سورة الأعراف آية: 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ما أنزل الله به من سلطان، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} 1. بطلان شبهة المشركين في دعاء غير الله وأما سؤاله عن رجل بنى في جوار قبر صالح لإفاضة الفيوضات عليه وإصابه البركات، ورجل جلس مراقبة على قبر صالح. (فالجواب) من أخبر هذا المغرور أن بركة هذا المدفون تفيض عليه، وهذا من جنس ما قبله مما زين الشيطان، وأجراه على ألسن المغرورين المفتونين الذين أعرضوا عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ولما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا؟! قل: ما شاء الله وحده"، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2. وقد صان الله قبر نبيه-صلى الله عليه وسلم- بأن صار قبره في حجرته، حذرا من هذه الأمور التي نهى عنها، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا، وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" 3. والضابط أن ما كان يفعل مع الميت من رفع الأصوات على جنازته، والتبرك به وبتربته، والنذر له، وغير ذلك من الشرك كالذبائح والنذور التي يقصد بها الميت، حرام، وهي مما أهل به لغير الله، كما صرح به القرآن؛ قال -تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 4. وقد تضمنت هذه الأفعال التي ذكرت الشرك والبدع والغلو في الدين وخالف أهلها وصادموا ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله -تعالى-، وتوجيه الوجه والقلب إلى الله -تعالى- بجميع الإرادات الشرعية، والأحوال الدينية. وقد أبطل الله في   1 سورة النجم آية: 23. 2 مالك: النداء للصلاة (416) . 3 النسائي: مناسك الحج (3057) . 4 سورة المائدة آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 كتابه التعلق على غيره كائنا من كان؛ قال الله -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1، وقال -تعالى-: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 2، وقال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} 3 إلى قوله {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ? يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} 4، وقال -تعالى-: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 5 الآية، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 6، وقال -تعالى-: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 7، إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 8. أصل عبادة الأصنام إذا عرفت ذلك وما في معناه من الآيات المحكمات، فهذه الشبهات التي اعتمدها كثير من جملة المشركين كلها باطلة، تصادم كتاب الله وسنة رسوله. وأول من زخرف هذه الشبهات، وزين للجهال التعلق على الأموات: زنادقة الفلاسفة الكفار، الدعاة إلى الخلود في عذاب النار كابن سينا والفارابي؛ فإنهم أدخلوا على كثير ممن ينتسب إلى العلم كثيرا من الفلسفة، وزخرفوا هذه الشبهات التي صارت في أيدي المشركين، وحاولوا بها إبطال ما في الكتاب والسنة من توحيد المرسلين، وخالص حق رب العالمين. فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فمن التفت إلى الأموات يستمد منهم نفعا وتبركا بهم، فقد اتخذهم أربابا من دون   1 سورة الحج آية: 62. 2 سورة يونس آية: 106. 3 سورة الحج آية: 11. 4 سورة الحج آية: 12. 5 سورة المائدة آية: 72. 6 سورة الحج آية: 31. 7 سورة النحل آية: 17. 8 سورة النحل آية: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الله، قال الله -تعالى-: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} 1 إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. وقد أخبر -تعالى- عن عيسى ابن مريم أنه قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 3، وهو دليل على أن من مات فلا اطلاع له على الأحياء ولا علم له بهم؛ فكيف يدعو من لا يعلم حاله، ولا يدري ما يفعله وما يقوله، وقد تقدم في الآيات المحكمات ما يدل على ذلك، وأن المدعو لا يسمع ولا يستجيب، فما هذه التعلقات الشركية التي هي أضل الضلال، وأمحل المحال إلا من وحي الشياطين، وزخرفة أعداء المرسلين كما قال -تعالى-: {كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 4. وكل هذه التعلقات على الأموات والغائبين هي أعمال الشرك من المشركين قديما وحديثا، وهو شرك قوم نوح لما صوروا الأصنام على صور صالحيهم، قال من بعدهم: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم؛ فعبدوهم، أي بطلب الشفاعة منهم واستمداد البركة بهم. وهذا هو شرك العالم، وهم في آخر هذه الأمة أشد وأعظم. فاستمسك بأدلة القرآن، وسبيل أهل الإيمان. وقد عرفت أن عبادة الأشجار والقبور والأحجار بدعائهم لها باستمداد البركة منها في زعمهم، أنه أبطل الباطل، وأمحل المحال، كما دل عليه الكتاب والسنة.   1 سورة آل عمران آية: 79. 2 سورة آل عمران آية: 80. 3 سورة المائدة آية: 117. 4 سورة الأنعام آية: 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وهذا الجواب يكفيك عما تقدم من السؤالات؛ فكل ما كان يفعل عند القبور من التعظيم لها ولأربابها، وقصدها، والتبرك بها، والدعاء عندها أو لها، كل هذا شرك وضلال. فتأمل قوله عن خليله -عليه السلام-: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1، والحنيف هو المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه. فهذه الأدلة التي ذكرنا تبطل كل ما تعلق به المشركون مما كانوا يفعلونه مع العزى ومناة، ومن ادعى جواز شيء من ذلك، أو أنه يحتمل الجواز، فيطالب بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله على أن هذا جائز. ولا يخفى أنه ينافي الإخلاص لما فيه من الإقبال على غير الله، والرغبة إليه، وجلب النفع والدفع منه، وكل هذا مردود بالآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" 2. وكل ما كان يفعل هؤلاء مع الأموات، فليس فيه مستحب ولا مباح، إلا زيارة القبور من غير شد رحل لتذكر الآخرة، والاستعداد لما بعد الموت من الإخلاص، والعمل المشروع من غير تحر لإجابة الدعاء عندها. والصلاة إليها ولو كانت لله، فهذا محرم، سدا لذريعة الشرك، وحماية لجناب التوحيد. عصمة الأنبياء وأما قولهم في عصمة الأنبياء، فالذي عليه المحققون أنه قد تقع منهم الصغائر، لكن لا يقرون عليها؛ وأما الكبائر فلا تقع منهم. وكل ما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مما ثبت عنه فهو حق، كما قال –تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3، كذلك تقريراته حق.   1 سورة الأنعام آية: 78. 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23,1/24) . 3 سورة النجم آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الغلو في صالحي أهل القبور وأما قول أبو الوفاء ابن عقيل -رحمه الله تعالى- فهو حق، وأعظمه خطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل كذا وكذا، وأخذ تربتها والتبرك بها؛ فهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله. وقد كتبنا الأدلة على ذلك في الرد على الذي يقول بالإمداد من الموتى فطالعه، وفيه ما يكفي، ويميز الحق من الباطل. وأما ما ذكره ابن عقيل -رحمه الله- من إفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، فهو من إفراطهم وغلوهم في الآلهة التي يعبدونها من دون الله، وكلامه عندنا -رحمه الله- مُسَلَّم لأنه اشتمل على إنكار الشرك من التعلق بالأموات، واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ويخاطبونهم بذلك من قريب وبعيد لاعتقادهم أن لهم تصرفات، وأنهم يعلمون الغيب، وأن لهم قدرة على ما أرادوا؛ والقرآن كله من أوله إلى آخره ينكر ذلك عليهم، ويبين أنه شرك وكفر وضلال، ودليله من الكتاب والسنة، وإجماع أهل السنة والجماعة مذكور على صاحب الرد في الإمداد. وأما قول الأئمة الأربعة فذلك مذكور في مذاهبهم، في باب حكم المرتد في كل مذهب. وأما مسح الرقبة فقال أبو حنيفة: وجمهور الفقهاء بخلافه، لا يرون ذلك، وفيه حديث ضعيف. دعاء القنوت وأما دعاء القنوت فبعد الركوع، ورفع اليدين فيه جائز، والتكبير قبله محدث. قصر العبادة والاستعانة على الله دون كل ما سواه وأما الرسالة التي أرسلتموها إلينا، فالجواب عليها يصل إليكم -إن شاء الله-، ويظهر بطلانها بالتمسك بالآيات المحكمات والوقوف عندها، ويكفي في ردها ما في سورة الفاتحة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1 من قصر العبادة والاستعانة على الله دون كل ما سواه، فإن غالط فأدلة النهي عن دعوة غير   1 سورة الفاتحة آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الله، وأنها شرك وكفر تكفي المتمسك بها، وذكرنا من الأدلة ما فيه كفاية. ولو تتبعنا ما في كتاب الله وسنة رسوله من دلائل التوحيد، وكلام السلف والخلف من أهل السنة، لاحتمل مجلدا ضخما ومجلدات. رجل لا يتكلم بعد صلاة العصر والصبح وأما السؤال عن رجل لا يتكلم بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وبعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. (فالجواب) : ما ذكرتموه من قصة أبي بكر مع المرأة الأحمسية، وقال لها: إن هذا لا يحل، فتكلمت. ما أحدثه المشايخ من المراقبات واللطائف وأما ما أحدثه المشايخ من المراقبات واللطائف، فإن كانت مما جاءت به السنة، وفعله أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم -، فاقبلوه، وما لم يفعلوه، ولم يقم عليه دليل فدعوه، فإن "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 1. استواء الله على العرش وعلوه على خلقه وأما قول أهل التأويل للصفات: إن الله -تعالى- منزه عن الجهات، فهذه شبهة أرادوا بها نفي علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه؛ وقد ذكر استواءه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه؛ قال الله -تعالى-: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 2 في آية الكرسي، وغيرها من القرآن، فأثبت لنفسه العلو بأنواعه الثلاثة: علو القهر، وعلو القدر، وعلو الذات. ومن نفى علو الذات فقد سلب الله -تعالى- وصفه، وقد قال -تعالى-: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 3، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 4، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5. وحديث المعراج الذي تواترت به السنة يدل على علو الله على خلقه، وأنه على عرشه فوق سماواته؛ وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة، يثبتون لله ما أثبت لنفسه وما أثبته له رسول الله-صلى الله عليه وسلم- من صفات كماله، ونعوت جلاله، على ما يليق بجلال الله   1 النسائي: صلاة العيدين (1578) , والدارمي: المقدمة (206) . 2 سورة البقرة آية: 255. 3 سورة فاطر آية: 10. 4 سورة النساء آية: 158. 5 سورة المعارج آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، تعالى الله عما يقول المحرفون المخرفون عن الحق علوا كبيرا. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين. الرسالة الرابعة: الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان بسم الله الرحمن الرحيم وسئل -قد س الله روحه: - ما الفرق بين الإسلام والإيمان؟ ومسألة في زيارة قبر النبي-. صلى الله عليه وسلم -فأجاب بقوله: (الجواب) وبالله التوفيق: قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان في حديث جبرائيل، وفسر الإسلام في حديث ابن عمر، وكلاهما في الصحيح، فقال: "الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" 1، وقال: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" 2، وقال في حديث ابن عمر: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت" 3، وفي رواية "والحج، وصوم رمضان" 4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام؛ فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا كما دلت عليه الأحاديث. انتهى كلامه –رحمه الله-.   1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27,1/51) . 2 البخاري: تفسير القرآن (4777) , ومسلم: الإيمان (10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426) . 3 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26) . 4 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فإن قيل: قد فرق النبي- صلى الله عليه وسلم -في حديث جبريل بين الإسلام والإيمان، والمشهور عن السلف وأئمة الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم. فالجواب أن الأمر كذلك، وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان: الكتاب والسنة؛ أما من الكتاب فكقوله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 1، وأما من الحديث فكقوله في حديث أبي هريرة المتفق عليه: "الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان" 2 وغير ذلك. فمن زعم أن إطلاق الإيمان على الأعمال الظاهرة مجاز، فقد خالف الصحابة والتابعين والأئمة، إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه يجمع بين الأحاديث بأن أعمال الإسلام داخلة في مسمى الإيمان، شامل لها، ففسرت بالإسلام، وهي جزء مسمى الإيمان، لكون الإيمان شاملها، ولغيرها من الأعمال الباطنة والظاهرة. فإذا أفرد الإيمان في آية أو حديث دخل فيه الإسلام، وإذا قرن بينهما فسر الإسلام بالأركان الخمسة، كما في حديث جبريل، فسر الإيمان بأعمال القلب، لأنها أصل الإيمان ومعظمه؛ وقوته وضعفه ناشئان عن قوة ما في القلب من هذه الأعمال أو ضعفها، وقد يضعف ما في القلب من الإيمان بالأصول الستة حتى يكون وزن ذرة، كما في الحديث الصحيح: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" 3. فبقدر ما في القلب من الإيمان تكون الأعمال الظاهرة التي هي داخلة في مسماه، وتسمى   1 سورة الأنفال آية: 2. 2 مسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005) , وأبو داود: السنة (4676) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/379,2/414,2/445) . 3 البخاري: الإيمان (22) , ومسلم: الإيمان (184) , وأحمد (3/56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 إسلاما وإيمانا كما في حديث وفد عبد القيس حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "آمركم بالإيمان بالله وحده؛ أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله أعلم ورسوله، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنتم" 1. فهذه الأعمال أُدخلت في الإيمان وهي الإسلام، لأن الإسلام اسم لجميع الأعمال الظاهرة والباطنة. فمن ترك شيئا من الواجبات، أو فعل شيئا من المحرمات نقص إيمانه بحسب ذلك، وهو دليل على نقصان أصل الإيمان، وهو إيمان القلب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الكلام على الإسلام، والإيمان، والإحسان، وما بين الثلاثة من العموم والخصوص: أما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان. والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين. انتهى. وهذا يبين ما قررناه، فحينئذ يتبين الإيمان الكامل الذي صاحبه يستحق عليه دخول الجنة والنجاة من النار، هو فعل الواجبات، وترك المحرمات، وهو الذي يطلق على من كان كذلك بلا قيد، وهو الإيمان الذي يسميه العلماء: الإيمان المطلق. وأما من لم يكن كذلك، بل فرط في بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات، فإنه لا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقال: مؤمن ناقص الإيمان، لكونه ترك بعض واجبات الإيمان، كما في حديث أبي هريرة: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "2 أي ليس موصوفا بالإيمان الواجب الذي يستحق صاحبه   1 البخاري: المغازي (4368) , ومسلم: الإيمان (17) , والترمذي: الإيمان (2611) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031) , وأبو داود: الأشربة (3692) . 2 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870,4871) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الوعد بالجنة والمغفرة والنجاة من النار، بل هو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه على ترك ما وجب عليه من الإيمان، وارتكابه الكبيرة. وقيل: هذا يوصف بالإسلام دون الإيمان، ولا يسمى مؤمنا إلا بقيد، وهذا الذي يسميه العلماء مطلق الإيمان، أي أنه أتى بالأركان الخمسة، وعمل بها باطنا وظاهرا. وهذا الذي قلنا من معنى الإسلام والإيمان هو مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-، وطائفة من السلف والمحققين، وذهبت طائفة من أهل السنة أيضا إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد وهو الدين، فسمي إسلاما وإيمانا، فهما اسمان لمسمى واحد، والأول أصح، وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، فلا نلتفت إلى ما يخالف هذين القولين، والله أعلم. شد الرحل إلى قبر النبي وأما قول السائل: هل يحرم شد الرحل إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فالجواب: إن بعض العلماء قد قال: يجوز السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين. وهذا القول لصاحب المغني، وبعض المتأخرين من الحنابلة والشافعية، وهؤلاء يحتجون بقوله: "فزوروها". وأما ما يحتج به بعض من لا يعرف الحديث من قوله: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ". فهذا الحديث لا تقوم به حجة عند من له معرفة بعلل الحديث. وأما ما يقوله بعض الناس إنه حديث "من حج فلم يزرني فقد جفاني". فهذا لم يروه أحد من العلماء، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه-، ومثله حديث "من زارني ضمنت له على الله الجنة". قال الشيخ: وهذا باطل أيضا باتفاق العلماء -رحمهم الله تعالى-. قال: والصحيح ما ذهب إليه المتقدمون كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفا ابن عقيل، وطوائف من المتقدمين من أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 هذا السفر منهي عنه، لا تقصر فيه الصلاة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وحجتهم ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" 1. وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته، والعمل به في الجملة. فلو نذر الرجل أن يصلي في مسجد، أو مشهد، أو يعتكف فيه، أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق العلماء. ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد -رحمهم الله تعالى-، كما نص عليه شيخ الإسلام. إذا عرفت أقوال العلماء في هذه المسألة، فاعلم أن الزائر إذا نوى بالزيارة التي فيها شد الرحل لسفر زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم صار ذلك به سفر طاعة بإجماع العلماء -رحمهم الله-، ويحصل له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم تبعا إذا وصل المسجد، وفعل ما هو المشروع من البداءة بتحية المسجد، ثم سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والزيارة والسلام على صاحبيه -رضي الله عنهما-، وذلك لا محذور فيه بوجه، بل هو مصلحة محضة. فأي محذور في تحصيل المصلحة المطلوبة على وجه صحيح بالإجماع؟ والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.   1 البخاري: الجمعة (1197) والصوم (1996) , ومسلم: الحج (827) , والترمذي: الصلاة (326) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) , وأحمد (3/78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الرسالة الخامسة: رسالة أهل نجد والجواب عليها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، المعرضين عن الحق المبين، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما. أما بعد: فإنه ألقي إلينا رسالة من الأحساء مشتملة على الكذب والبهتان، والإثم والعدوان، والله تعالى عند لسان كل قائل وقلبه، وهو المستعان. وهذه الرسالة قد صدرها صاحبها بشبهة تنبي عن شك من صدرت منه، وارتيابه في هذا الدين، الذي بعث الله به المرسلين. والشبهة هي بذاتها وحروفها وكلماتها، هي التي أوردها أهل نجد على شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لما دعاهم إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ويتركوا عبادة ما كانوا يعبدونه من الأوثان والطواغيت كتاج وشمسان، ويخلعوا عبادة الأوثان، مثل عبادتهم لزيد بن الخطاب، وغيره من أرباب القبور، والأشجار، والأحجار. وممن أورد هذه الشبهة عليه عبد الله المويس واعي حرمه، وابن إسماعيل في الوشم، وسليمان بن عبد الوهاب في العارض، وزعموا أن الأمة لا يقع فيها شرك، فرد عليهم -رحمه الله- بالكتاب والسنة، وبين أن هذا الذي يفعلونه هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، بالأدلة والبراهين من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وبين ضلال هؤلاء وأمثالهم، وظهرت حجته عليهم وعلى أمثالهم ممن اشمأز عن التوحيد؛ فانتشرت دعوته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 في الآفاق، وأقر بصحتها الخلق الكثير، والجم الغفير، فأنقذ الله بدعوته من الشرك والضلال أكثر أهل نجد، وما والاها، وبعض الأقاليم البعيدة؛ فالحمد لله على ظهور الحق ودحوض الباطل. ثم إن صاحب هذه الرسالة أظهر الشبهة المشار إليها فقال رسالته، يعني رجلا كان يكرهه لدينه، ويظن به ما قد أظهره في رسالته، فقال: أيها الرجل الجاهل المعجب بنفسه، لقد غويت وجهلت باعتقادك في هذه الأمة المحمدية التي قال الله فيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} 2 أي عدلا خيارا. وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن هذه توفي سبعين أمة هي خيرها وأكرمها عند الله عز وجل". قلت: فترك من الآيتين ما هو دليل عليه، وحرف الحديث وغيره. ثم قال: إنك جعلتهم ما بين مشرك، ومبتدع، وفاسق، وجاهل، وظالم، ولا هنا مسلم حقيقي إلا أنت وكم نفر من الذي تشتهي، ولا سبقك أحد بهذا الاعتقاد. فأقول قبل الجواب: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ما أعظم هذه الفرية وأبينها ضلالة! أليس الله تعالى قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الأحمر والأسود، والجن والإنس، فآمن به من آمن، وكفر به من كفر، ونافق من نافق، وأنزل الله عليه الكتاب والحكمة، وفي كل سورة من السور المكية محاجة المشركين، والرد عليهم، وبيان ضلالهم. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره الله بالجهاد، وافترضه عليه وعلى المؤمنين فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وسمى   1 سورة آل عمران آية: 110. 2 سورة البقرة آية: 143. 3 سورة النساء آية: 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الله تعالى في كتابه من لم يؤمن به كفارا ومشركين، وأحل له دماءهم وأموالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وهذا أظهر من الشمس في نحر الظهيرة. وإذا كان الأمر كذلك، فلا يخلو هذا المشبه الجاهل الغاوي من أحد أمور ثلاثة، إما أن يقول: إن الذين سماهم الله كفارا ومشركين ومنافقين ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقوله أحد حتى الزنادقة والشياطين، أو يقول: إن المؤمن والكافر والمنافق والمبتدع كلهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس، فهذا لا يقوله إلا من ضل عن القرآن وخرج من الإيمان، وغوى عن الحق والهدى، وسلك سبيل أهل الزيغ والردى؛ حيث جعل المشركين والكفار كالمقربين والأبرار، وسوى بين أهل الجنة وأهل النار. فإن رجع عن هذين الأمرين خصم نفسه وأبطل شبهته. والبصير يعرف حال هذا الرجل في دينه وجهله، وأنه لا يقول هذا الأمر إلا من لا عقل له ولا دين، لكن يتعين علينا الجواب مخافة أن تكون هذه الشبهة قد دخلت على بعض العوام، وعلى بعض من ينتسب إلى العلم من المستكبرين المعرضين عن هذا الدين. مييز أمة الإجابة من أمة الدعوة فأقول وبالله التوفيق: قال الله تعالى: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} 1 - إلى قوله {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} 2: فأخبر تعالى في هذه الآيات أن الأكثر أعرضوا عن هذا القرآن، الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلوا ما جاءهم به، وهم الذين بعث فيهم صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم، لا ريب أنهم من أمته صلى الله عليه وسلم، فصاروا فريقين: فريق آمنوا واتبعوه، والأكثر أعرضوا عنه، ونصبوا له   1 سورة فصلت آية: 2. 2 سورة فصلت آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 العداوة ولأتباعه؛ وهؤلاء كثير منهم من مات على كفره، ومنهم من قتل ببدر وأحد والخندق. ولا يمكن أحد له أدنى مسكة من عقل أن يقول: إن هؤلاء ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكنه أيضا أن يقول: إنهم من خير أمة أخرجت للناس؛ فظهر بهذا الدليل الواضح أن خير الأمة هم المؤمنون، الذين استجابوا لله ولرسوله، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهم الموصوفون في هذه الآية بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1، فخص بالثناء على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأنهم خصوص أهل الإيمان دون من عداهم من مشرك ومنافق ومرتاب، فليسوا من خير أمة ولا كرامة، بل هم شرار الأمة. وقد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح للتوحيد، وبينات ودلالات، فلما قامت الحجة على من تخلف عن الإيمان به، شرع الله الهجرة، وأمره بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وعانده. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد فيها ثلاث قبائل من اليهود: بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة، وفيها من الأوس والخزرج من آمن به واتبعه، وفيهم أهل العقبة الذين بايعوه بمنى على أن يؤووه وينصروه، وفيهم من لم يؤمن به ويتبعه من المنافقين. وقد بعثه الله تعالى إلى الأسود والأحمر من بني آدم كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 2، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 3. وكل أهل الملل من اليهود والنصارى   1 سورة آل عمران آية: 110. 2 سورة الفرقان آية: 1. 3 سورة الأعراف آية: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 والمجوس والصائبة من أمته الذين أرسل إليهم، وكلهم من أمة محمد، وهم أمة الدعوة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1. فمن لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه من هذه الملل الخمسة فهو في النار كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} 2، فأخبر تعالى أنهم في النار خالدين فيها، وأنهم شر البرية، مع كونهم من هذه الأمة؛ فبطل بهذين الوجهين ما زعمه هذا الجاهل الغافل المغفل، الذي لم يرفع بدين الإسلام رأسا. تأييد الرد بالأدلة ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل كعب بن الأشرف اليهودي، وأجلى بني قينقاع لما أرادوا الغدر به وذلك بعد وقعة أحد، وقتل بني قريظة لما ظاهروا المشركين يوم الخندق، وكل هؤلاء كفارن ولا ريب أنهم من أمة الدعوة لا من أمة الإجابة. فيلزم على ما اعتقده هذا الضال الجاهل أن أولئك اليهود من خير أمة أخرجت للناس، وهذا لا يقوله من عرف الإسلام من الكفر؛ ومن يميز بين الكفر والإسلام فإنه لا يدري ما يقول. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار" 3 رواه الإمام أحمد أيضا. وعن أبي هريرة مثله. فدل هذا الحديث أن اليهود والنصارى من هذه الأمة، وأن من لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبعه منهم فهو من أهل النار. وقد قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 4، وقال   1 سورة الحج آية: 17. 2 سورة البينة آية: 6. 3 مسلم: الإيمان (153) , وأحمد (2/317) . 4 سورة التوبة آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1، فأمر تعالى بقتال المشركين من العرب وأهل الكتاب، وهذا فرض على المسلمين، وحكم ثابت إلى يوم القيامة على كل من قام بالإسلام من هذه الأمة، فيجب عليه قتال المشركين وأهل الكتاب حتى يسلموا؛ فإن كانوا أهل كتاب وبذلوا الجزية أخذت منهم، واشترط عليهم ما اشترطه عمر بن الخطاب صاروا أهل ذمة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" 2. وقد شرع الله تعالى جهاد الكفار والمشركين من أهل الكتاب وغيرهم، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} ، وقال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} 3. ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره الله تعالى به، فقاتل من كفر من العرب وسبى النساء والذرية، وكذلك أهل الكتاب قتلهم بخيبر وسبى نساءهم، وبعث سراياه إلى الشام، وغزا النصارى حتى بلغ تبوك، فلم يلق كيدا فرجع، وهي آخر غزوة غزاها صلى الله عليه وسلم. وعن بريدة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله" 4 الحديث؛ وسيره صلى الله عليه وسلم وغزواته مبسوطة في كتب السير وكتب الحديث.   1 سورة التوبة آية: 29. 2 مالك: الزكاة (617) . 3 سورة محمد آية: 4. 4 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) , وأبو داود: الجهاد (2613) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352,5/358) , والدارمي: السير (2439) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فعلم مما ذكرناه وغيره من أدلة الكتاب والسنة أن الكفار والمشركين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمته؛ ولهذا وجب قتالهم. وهذا أظهر من الشمس في نحر الظهيرة، لكن خفيت على الأعمى الذي لا يبصر. وتبين بهذا خطأ من زعم أنه للناس وهم الأمة الوسط، ولا ريب أن قائل هذا لا يعرف القرآن ولا الرسول، ولا عرف الإسلام من الكفر، لأنه جعل الكل شيئا واحدا، ولو كان له أدنى نهمة إلى الإسلام لما خفي عليه هذا، لأن ما في الكتاب والسنة من ذلك أظهر شيء وأبينه، لا يخفى إلا على من هو أبعد الناس عن الحق ومعرفته، ومن لا علم له بالكتاب والسنة، فمن أين يهتدي إلى معرفة الحق وقبوله؟ اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. وما زال الجهاد بالحجة واللسان والسيف والسنان قائما في هذه الأمة، على الكفار والمشركين والمنافقين، وأهل البدع والفساد إلى قرب قيام الساعة. وسيأتي الإشارة إلى ذلك قريبا. وأصل دين الإسلام معرفة الشرك، والبراءة منه وإنكاره، ومعاداة أهله، ومعرفة التوحيد على الحقيقة، وقبوله ومحبته، وموالاة أهله، ومن لم يكن كذلك فليس له في الإسلام نصيب؛ لأن من لم يعرف الشرك لم يعرف التوحيد، ومن لم يعرفه كيف يعمل به، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وأما ما استدل به من الآيتين فهما حجة عليه، وذلك أن الله وصف خير أمة أخرجت للناس بثلاث صفات، وهي لأهل الإيمان خاصة، وليس لأهل الكفر والشرك والنفاق والبدع والفسوق فيها نصيب، فقال: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1، كما قال تعالى في   1 سورة آل عمران آية: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 سورة براءة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1 الآيتين. ووصف المنافقين بعكس هذه الصفات فقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2، فوصفهم بالنفاق تارة وبالكفر تارة. وقوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 3 فوصفهم بهذه الصفات التي صاروا بها في الدرك الأسفل من النار، وقد كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ويشهدون أن لا إله إلا الله، ويصلون ويجاهدون، فلم ينفعهم ذلك، لعدم إيمانهم وقبولهم لما بعث الله به ورسوله من الهدى والعلم. ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بجهادهم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 4 في سورة براءة والتحريم. بعثة الرسول بأربعة أسياف وذكر العماد ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 5، وسيف للكفار أهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 6، وسيف للمنافقين: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} 7، وسيف للبغاة: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 8؛ وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير. قلت: فإذا كان المستحقون لهذه السيوف التي بعث بها رسول الله   1 سورة التوبة آية: 71. 2 سورة التوبة آية: 67. 3 سورة التوبة آية: 66. 4 سورة التوبة آية: 73. 5 سورة التوبة آية: 5. 6 سورة التوبة آية: 29. 7 سورة التوبة آية: 73. 8 سورة الحجرات آية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 صلى الله عليه وسلم موجودين في حياته والقرآن ينزل، فلأن يوجد بعده وبعد القرون المفضلة أولى وأحرى، كما لا يخفى على من له بصيرة ومعرفة بأحوال الأمة، ولا يخفى هذا إلا على من هو أجهل خلق الله وأتركهم لدين الله. خطأ من قال ليس في الأمة كافر ولا مبتدع وأما ما استدل به على شبهته الواهية والباطلة من الآيتين: آية البقرة وآية آل عمران، فهما من أظهر الحجة عليه في إبطال شبهته، فإن قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1 إنما خاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالخطاب بها متوجه إليهم، فإنهم هم الموصوفون بهذه الصفات. فهو مؤمن من خير أمة أخرجت للناس، وهم الموعودون في كتاب الله وسنة رسوله بالفوز بالجنة والنجاة من النار؛ بخلاف الكفار والمشركين والمنافقين، فإنهم أهل المنكر، يفعلونه ويأمرون به ويوالون أهله، ويتركون المعروف وينهون عنه ويعادون أهله، فهم أعداء الله وأعداء رسوله حيث كانوا. وقد كان جنسهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل القرآن، ووجودهم فيما بعد خير القرون أكثر، كما لا يخفى على من له عقل، بخلاف من ليس له عقل ولا دين يقول: ليس في الأمة كافر ولا مشرك ولا مبتدع. فأين ذهب عقل؛ هذا الجاهل عن القرآن والسنة؟! فإن الله بيَّن أحوال الكفار والمشركين والمنافقين، ومقتهم ولعنهم، وأمر بجهادهم ما داموا على كفرهم وشركهم وضلالهم، في كل زمان ومكان. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 2. فقل لهذا الجاهل المغفل الحيران المفتون: أين ذهب بك الشيطان عن معرفة ما في القرآن؟ وأما آية البقرة فهي أيضا حجة على هذا في إبطال شبهته وبيان   1 سورة آل عمران آية: 110. 2 سورة الأنفال آية: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 جهله وضلاله، فإن الله تعالى قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} 1 أي: عدلا خيارا؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم المعنيون بهذه الآية أيضا، ومن كان مثلهم من أهل الإيمان لحق بهم. وأما الكفار والمشركون والمنافقون فهم أعداء الأمة الوسط في كل زمان ومكان، ولا يمكن أحد أن يزعم أنهم من الأمة الوسط إلا مثل هذا الجاهل الذي يقول: ليس في الأمة كافر ولا مشرك ولا مبتدع ولا فاسق. فكيف يثبت لهذا إيمان بالقرآن وهو يقول هذه المقالة التي في غاية البطلان والانحراف عن سبيل أهل الإيمان؟ قال الشاعر: لا تبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه ويلزمه من هذا القول أن الصحابة أخطؤوا في قتالهم من قاتلوه من العرب وبني حنيفة وغيرهم من فارس والروم؛ لأن الكل ليس فيهم كافر ولا مشرك ولا مبتدع، وكلهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: وكذلك كل من قاتل أهل الكتاب والمجوس والنصارى والمشركين فإنما قاتل الأمة الوسط الخيار، وهلم جرا إلى يومنا هذا. وعلى هذا القول يلزمه أن من قاتل من خرج عن الشريعة فهو مخطئ، لأنه ليس في الأمة مبتدع ولا مشرك. وأنت تجد مثل هذا تظهر كراهته لمن أمره بمعروف أو نهاه عن منكر على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وتجده محبا لأهل المنكر مواليا لهم، معاديا لأهل المعروف؛ فما رأيت شبيها له إلا رجلا بمصر، رأيته وضع يده على نصراني فقال: هؤلاء أسيادنا. نعوذ بالله من الضلال والخذلان، والخروج عن سبيل أهل الإيمان، ولنذكر ما يزيد هذا المقام. قال العماد ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره في معنى قول الله تعالى:   1 سورة البقرة آية: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1: أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيره، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2 أي: عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم، الحكيم فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق، لا يسأل عما يفعل لعلمه وحكمته، وقوله: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} 3: هذا هو القسم الممدوح من الأعراب. قلت: وهم الموصوفون بالإيمان والإخلاص، فتبين أن الأعراب وهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم المشرك والكافر، والمنافق والمؤمن؛ وما زالوا كذلك في كل زمان إلى يومنا هذا وبعده، وشرهم اليوم أكثر، وكفرهم أكبر وأظهر، فيلزمه على أصله أن كلهم من خير أمة أخرجت للناس ومن الأمة الوسط، وأن من قاتلهم لشركهم وكفرهم فقد ظلمهم، فتدبر. ثم ذكر تعالى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4، وذكر قول الشعبي أن السابقين من أدرك بيعة الرضوان. قلت: والمذكور في هذه الآية هم الأمة الوسط، هم خير أمة أخرجت للناس. قال العماد ابن كثير: فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم   1 سورة التوبة آية: 97. 2 سورة التوبة آية: 97. 3 سورة التوبة آية: 99. 4 سورة التوبة آية: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديق الأكبر، والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه؛ فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة، ويبغضونهم ويسبونهم -عياذا بالله من ذلك-، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟! موالاة من والى الله ومعاداة من عاداه وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ومقتدون لا مبتدون؛ ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون. انتهى. قلت: فما أكثر الرافضة في زماننا هذا! -لا كثرهم الله-، وتأمل كيف حال هذا المشبه؟ فإنه جعل الرافضة والمشركين والكافرين والمنافقين مثل الصحابة. وأهل الإيمان هم أعداء الرافضة والمشركين في كل زمان ومكان، وقد ميز الله تعالى في كتابه السعداء والأشقياء بالأعمال في المآل، ولا يخفى هذا إلا على من أعمى الله بصيرته، فلا يعرف حقا ولا باطلا، نعوذ بالله من عمى البصيرة، وخبث السريرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ما جرى في الأمة من الشرك والبدع والضلال ونشير إلى ما جرى في الأمة من الشرك والبدع والضلال، فمن ذلك: أن العرب لما سمعوا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتد أكثرهم عن الإسلام، وقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه بالصحابة، حتى دخلوا من الباب الذي خرجوا منه، وقتل من قتل منهم على ردته. وكذلك بنو حنيفة صدقوا مسيلمة لما ادعى النبوة، وكفروا، وقاتلهم أصحاب رسول الله -صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الله عليه وسلم-، وأمرهم خالد بن الوليد وهو أمير الجيش الذين قاتلوا من ارتد، ولا ريب أن بني حنيفة كفار، ومن قتل منهم قتل كافرا، فلم ينفعهم مع الكفر بالله كونهم من هذه الأمة، وعلى رأي هذا المشبه ليسوا كفارا، والصحابة أخطؤوا في قتالهم. وكذلك الخوارج الذين قتلهم علي بن أبي طالب بالنهروان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنهم "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" 1، وقال: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم" 2 ولا ريب أنهم من هذه الأمة، لكنهم من شرار الأمة، وهم الذين قتلوا علي بن أبي طالب، قتله عبد الرحمن بن ملجم وهو منهم. وكذلك الذين اعتقدوا الإلهية في علي بن أبي طالب، فخد لهم الأخاديد وأحرقهم بالنار لشركهم بالله. فاسأل هذا الجاهل المفتري: هل أصاب علي في قتلهم أم أخطأ؟ وهل كانوا كفارا أم لا؟ ومن لم يكفرهم فهو كافر. وكذلك الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي" 3 أيكون هؤلاء كفارا أم لا؟ فإن طرد أصله وقال: لم يكونوا كفارا، صار أخا لهم؛ لأنه زكاهم وتولاهم. نفاة القدر من شرار هذه الأمة وكذلك الذين أنكروا القدر، منهم معبد الجهني وغيلان القدري، الذين قال عبد الله بن عمر فيهم، لما أخبره يحيى بن يعمر قال له: إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله، إن أحدهم لو أنفق مثل أُحد ذهبا ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مجوس هذه الأمة، وأفتى العلماء -رحمهم الله- بقتل داعيتهم غيلان القدري، فقتله هشام بن عبد الملك في خلافته. وهم مبتدعة بإجماع العلماء لمخالفتهم ما دل عليه الكتاب   1 البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/91,1/147) . 2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/81,1/131) . 3 أبو داود: الفتن والملاحم (4252) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 والسنة في إثبات القدر، وهو من أصول الإيمان كما في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: "قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. قال: صدقت" 1. والآيات والأحاديث في إثباته كثيرة جدا. والمقصود: أن نفاة القدر من هذه الأمة، وقد صاروا مبتدعة ضُلّالا، ومن كان كذلك فليس من خير أمة أخرجت للناس، بل هم من شر الأمة. صدق الله، وكذب المرتابون. ثم ظهرت بدعة الجهمية في آخر دولة بني أمية، فجحدوا ما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفاته ونعوت جلاله. وكان أول من أظهر هذه البدعة الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري -وكان إذ ذاك أميرا على العراق- فقال في خطبته يوم الأضحى: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- لما ذكر بدعة الجهمية: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد ال ... قسري يوم ذبائح القربان شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان وفي تلك الدولة، والإسلام ظاهر والسنة ظاهرة وأهلها، كذلك البدعة إذا ظهرت أنكرت، وعوقب أهلها بالقتل تارة، وبالحبس تارة، وبالتعزير. ثم إن جهم بن صفوان أظهر هذه البدعة في دولة بني العباس، فأنكر ذلك العلماء، وكفروه ومن تبعه على بدعته، منهم سفيان الثوري، وأبو حنيفة، والإمام مالك، وخلق كثير من أهل الحديث والفقه، قال ابن القيم -رحمه الله-:   1 البخاري: تفسير القرآن (4777) , ومسلم: الإيمان (9,10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ولقد تقلد كفرهم سبعون في ... عشر من العلماء في البلدان فعظمت بدعتهم، وتكلم العلماء في ردها وإبطالها، وصنفوا الكتب في ذلك. وممن صنف في رد هذه البدعة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، وابنه عبد الله بن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبو بكر المروزي صاحب الإمام أحمد، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة في كتاب التوحيد له، واللالكائي في كتاب السنة، وأبو عثمان الصابوني، وخلق كثير. وبعض العلماء ضمن كتابه الرد عليهم كالبخاري، وغيره من أئمة الحديث، وممن رد عليهم شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب الفاروق له، وصنف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام كتاب "العقل والنقل في الرد على الجهمية والفلاسفة"، كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له نظير ثاني قلت: فلو عرف هذا الجاهل المشبه ما وقع في هذه الأمة من البدع والمنكرات، لم يتفوه بهذه الشبهة، لكنه جاهل لا يدري ما وقع في الأمة من خير وشر، وقد أعجب بنفسه، وهو من السفلة الضلال، فلا علم ينفعه، ولا عقل يردعه، نعوذ بالله من غرور الشيطان، والانحراف عن سبيل أهل الإيمان. وهذه البدع التي ذكرنا ظهرت في القرون المفضلة، لكنها تنكر وتغير. الفتن في هذه الأمة وخير قرونها وفي هذه القرون من الأمة المفضلة الخلق الكثير، والجم الغفير، لا يحصيهم إلا الله سبحانه-. وقد عرفت أن أهل البدع والنفاق بينهم مقهورون ذليلون قليلون؛ وأهل هذه القرون هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله"1،وهم المعنيون   1 ابن ماجه: الزهد (4288) , وأحمد (4/447) , والدارمي: الرقاق (2760) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بقوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله لعيسى ابن مريم: إني باعث بعدك أمة، إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يا رب كيف ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي" 1. فإذا تصور العارف ما حصل في خلافة أبي بكر وعمر، ممن اجتمع من المسلمين على حرب فارس والروم لما أظهرهم الله عليهم، ملؤوا الشام والعراق والحجاز واليمن وغيرها، فما زالوا كذلك على السنة في القرون الثلاثة، والجهاد قائم بهم، والأقاليم مملوءة منهم. وفي مسند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا، فمنا من يضرب خباءه، ومنا من هو في جشره، ومنهم من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فانتهيت إليه وهو يخطب الناس، ويقول: أيها الناس إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، وينذرهم عما يعلمه شرا لهم. ألا وإن عافية هذه في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وفتن يرقق بعضها بعضا. تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي. ثم تنكشف فيقول: هذه هذه. ثم تنكشف، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر". ويشهد لهذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" انتهى الحديث.   1 أحمد (6/450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قلت: وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وفي آخر القرن، وفيه امتحن المأمون بن الرشيد علماء الحديث، وحملهم على القول بخلق القرآن، فمنهم من أجاب مكرها، ومنهم من لم يجب، وصبر على المحنة كالإمام أحمد، ومحمد بن نوح -رحمه الله تعالى-، واستمرت المحنة في خلافة أخيه المعتصم، وفي خلافة الواثق. فلما استخلف المتوكل رفع المحنة عن الإمام أحمد وأهل الحديث. ثم بعد ذلك ظهرت دولة القرامطة في المشرق، وصار لهم صولة، وأظهروا الكفر، وقتلوا الحجاج بمكة، وألقوهم في بئر زمزم، وقلعوا الحجر الأسود، ونقلوه إلى بلادهم. قال شيخ الإسلام: وهم من أشد الناس كفرا. وظهرت دولة بني بويه في أوائل القرن الرابع، فأظهروا الغلو في أهل البيت، وبنوا المساجد على قبورهم، وبنوا المشاهد، وعبدوها من دون الله، فأشبهوا اليهود والنصارى، كما في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1 يحذر ما صنعوا. ولما ذكرت له أم سلمة وأم حبيبة كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" 2. وكذلك بنو عبيد القداح تغلبوا على مصر وبعض المغرب، وبنوا المساجد على القبور والمشاهد، بزعمهم أنها قبور أناس من أهل البيت، وهي الموجودة تعبد إلى الآن، وغيرها تعبد من دون الله. فظهرت المقالات والبدع من الفلاسفة، والجهمية، والمعتزلة، والكلابية، والكرامية، والأشاعرة، وغيرهم من أهل البدع، وفشا الشرك والزندقة في هذه   1 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218,6/34,6/80,6/252,6/255) , والدارمي: الصلاة (1403) . 2 البخاري: الصلاة (434) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي: المساجد (704) , وأحمد (6/51) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الفرق وغيرها، وقلَّ أهل السنة والجماعة. وفي القرن السابع سار التتر، وقتلوا الخليفة العباسي ببغداد، وقتلوا العلماء، وألقوا الكتب من الحديث والسنة في شط دجلة. وتحصن أهل الشام عنهم في رؤوس الجبال، فقاتلهم سلطان مصر، ومن معه من أهل مصر والشام، فهزمهم الله؛ وذلك بسبب شيخ الإسلام ابن تيمية لما شجع السلطان. وفي تلك القرون اشتدت غربة الإسلام، وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، قال بعض أهل السنة: "لا تستوحش من الطريق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين". وفي هذه الحال يقول الشاطبي -رحمه الله-: وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... كقبض على جمر فتنجو من البلا غربة الإسلام في هذه الأزمنة وذلك أن هذه الأزمنة هي التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يعود غريبا كما بدأ، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر. قال ابن القيم: والحديث رواه الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: النزاع من القبائل" 1 وفي حديث عبد الله بن عمرو: "قيل يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: ناس صالحون في أناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" 2،. قال العلامة ابن القيم: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم أنهم النزاع من القبائل: أن الله سبحانه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين عباد أوثان وعباد نيران وعباد صلبان   1 الترمذي: الإيمان (2629) , وابن ماجه: الفتن (3988) , وأحمد (1/398) , والدارمي: الرقاق (2755) . 2 أحمد (2/177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ويهود وصابئة وفلاسفة، فكان الإسلام في أول ظهوره غريبا، فكان من أسلم منهم واستجاب لله ورسوله غريبا في حيه وقبيلته وقريته وأهله وعشيرته. وكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل، آحادا منهم، تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم، فكانوا هم الغرباء حقا، حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته، ودخل الناس فيه أفواجا، ثم أخذ في الاغتراب حتى عاد غريبا كما بدأ؛ بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اليوم أشد منه غربة في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي غريب جدا، وأهله غرباء بين الناس. وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورياسات، ومناصب وولايات، لا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟! فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم وإرادتهم، فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شيخهم، وأعجبوا منه برأيه؟ انتهى. قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وما قبله، فما بعده أشد غربة للإسلام والسنة؛ وبسبب اشتداد الغربة أنكر الناس على من قام يدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا. حديث علي مع اليهودي والنصراني في الافتراق فقد ثبتت الأحاديث التي فيها افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ورواها عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقد رواه الإمام محمد بن نصر المروزي -رحمه الله- في كتاب الاعتصام، فنذكر من كل حديث ما دل على ذلك. فروي بإسناده إلى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء قال: سمعت علي بن أبي طالب، وقد دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى وقال: إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتماني، يا رأس الجالوت: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، وأطعمكم المن والسلوى، وضرب لكم في البحر طريقا، وأخرج لكم من الحجر اثنتي عشرة عينا، لكل سبط من بني إسرائيل عين، إلا ما أخبرتني عن كم افترقت بنو إسرائيل بعد موسى؟ فقال له: ولا فرقة واحدة. فقال له علي ثلاث مرات: كذبت، والله الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. ثم دعا الأسقف وقال: أنشدك الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وجعل على رحله البركة، وأراكم العبرة، فأبرأ الأكمه، وأحيا الموتى، وصنع لكم من الطين طيورا، وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، فقال: دون هذا أصدقك يا أمير المؤمنين، فقال: على كم افترقت النصارى بعد عيسى من فرقة؟ فقال: لا والله ولا فرقة. فقال ثلاث مرات: كذبت، والله الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة. فأما أنت يا يهودي فإن الله يقول: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 1، فهي التي تنجو، وأما أنت يا نصراني فإن الله يقول: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} 2، فهي التي تنجو، وأما نحن فيقول: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 3، وهي التي تنجو من هذه الأمة. وبالسند إلى زاذان أبي عمرو قال: قال علي: يا أبا عمرو، أتدري كم   1 سورة الأعراف آية: 159. 2 سورة المائدة آية: 66. 3 سورة الأعراف آية: 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 افترقت اليهود؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: افترقت على إحدى وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة هي الناجية. ثم قال علي: أتدري كم تفترق فيَّ؟ قلت: وإنه يفترق فيك يا أمير المؤمنين؟! قال: نعم، اثنتا عشرة فرقة كلها في النار إلا واحدة (هي) الناجية، وهي تلك الموحدة، يعني الفرقة من الثلاث والسبعين، وأنت منهم يا أبا عمرو. وبالسند إلى عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلا بمثل حذو النعل بالنعل، وإنهم تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار غير واحدة. قالوا: يا رسول الله، وما تلك الواحدة؟ قال: هي ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 1. وبالسند إلى عبد الله بن عبدة عن بنت سعد عن أبيها سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، ولن تذهب الليالي والأيام حتى تفترق أمتي على مثلها -أو قال مثل ذلك- وكل فرقة منها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة". وبالسند إلى سويد بن غفلة عن ابن مسعود قال: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن مسعود. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: أتدري أي الناس أعلم؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل، واختلف من قبلي على اثنتين وسبعين فرقة ونجا منها ثلاثة وهلك سائرها، فرقة آذت الملوك وقاتلوهم على دينهم ودين عيسى وأخذوهم فقطعوهم بالمناشير، وفرقة لم يكن لهم طاقة في مؤاذاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم   1 الترمذي: الإيمان (2641) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ويدعونهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم، فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله فيهم: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) إلى قوله: (فاسقون) ". وقال صلى الله عليه وسلم "من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لا يتبعني فأولئك هم الهالكون" قلت: فالفرقة الثالثة هي التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعته من بني إسرائيل وغيرهم. الفرقة الناجية هي المتمسكة بالكتاب والسنة وبالسند إلى يزيد الرقاشي حدثني أنس بن مالك مرفوعا أن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قال يزيد الرقاشي: وهي الجماعة. وفيه حديث معاوية وهو مشهور. فتبين بهذه الأحاديث أن الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين هي التي تمسكت بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعملوا بما في كتاب الله، وأخلصوا له العبادة، واتبعوا رسوله. فإن أصل دين الإسلام أن لا يعبدوا إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وأنت اليوم (ترى) أكثر من ينتسب إلى العلم لا يعرف من معنى "لا إله إلا الله" إلا ما دلت عليه التزاما، وهو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون. وذلك أن هؤلاء يفسرون الإله بالقادر على الاختراع، وما اهتدوا إلى ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، وهو نفي ما يألهه المشركون من دون الله بأي نوع كان من العبادة، وهو المنتفي بجملة "لا إله"، ومعنى "إلا الله" أنه الذي يؤله ويعبد بكل نوع من أنواع العبادة دون كل ما سواه، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله. وبسبب جهل كثير بما دلت عليه "لا إله إلا الله"، لم ينكروا عبادة الطواغيت والأشجار والأحجار والقبور وغير ذلك، وذلك أنه لا يعرف عن أحد من العلماء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 العصر الذي قام فيه شيخنا -رحمه الله- ولا من قبله أنه أنكر الشرك في الإلهية، ودعا الناس إلى عبادة الله وحده؛ فبسبب الجهل بهذا التوحيد الذي هو حق الله على عباده أنكروا على شيخنا -رحمه الله- دعاء الناس في القرن الثاني عشر إلى ما دعت إليه الرسل: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ،1 {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} 2، {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 3. فالوقت الذي صارت دعوة الرسل فيه عند أهله منكرا، فالإسلام فيه قد بلغ في الغربة إلى غايتها ومنتهاها، وقد دل القرآن العزيز على أن الكفار الذين جحدوا هذا التوحيد كانوا يعرفون معنى ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: "قولوا لا إله إلا الله" 4، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 5. فعرفوا أن معناها ترك الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله، وقد أخبر الله تعالى عن قوم هود أنهم أجابوه لما قال لهم: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 6، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} 7، فتبين بهذه الآيات وجميع ما في القرآن أن الدعوة التي اتفق عليها الرسل هي إفراد الرب بالعبادة، كما في قوله تعالى في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 8: فتقديم المعمول يفيد الحصر، أي لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك. فالجهل بهذا التوحيد هو غاية الجهل، والإنكار على من دعا إليه هو الغاية في الكفر. وقد قال عالم صنعاء في منظومته المشهورة، التي بعث بها لشيخنا محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: لقد أنكرت كل الطوايف قوله ... بلا صدر في الحق منهم ولا ورد   1 سورة الأعراف آية: 59. 2 سورة هود آية: 2. 3 سورة هود آية: 1. 4 أحمد (3/492) . 5 سورة الصافات آية: 35. 6 سورة الأعراف آية: 65. 7 سورة الأعراف آية: 70. 8 سورة الفاتحة آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي قول ابن جرير في الدعاء والعبادة والمقصود أن الله تعالى مَنَّ على الناس في آخر هذه الأعصار ببيان الدين الذي بعث الله به رسله، وهو الذي خلق الخلق لأجله، وبيان أدلته من الكتاب والسنة، ودعوة الناس إلى أن يتدبروا ذلك، ويعرفوا ما أراده الله تعالى من عباده، وبينه تعالى بقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1، وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 2، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 3. وقد ذكر الإمام محمد بن جرير في تفسيره: إن الدين المذكور في هذه الآيات وأمثالها الدعاء، والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة؛ والكل عبادة. فمن أخلص الدعاء بنوعيه لله تعالى، ولم يجعل له فيه شريكا فقد وحد الله تعالى بعبادته، وأسلم لله. ومن جعل لله شريكا في ذلك فقد أشرك مع الله غيره، وهذا واضح في الآيات المحكمات كقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 4. وهذه الآية تشبه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5، والمعنى: بل الله فاعبد لا غيره، فإن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهذا هو الإخلاص، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فمن لم يفهم دين الإسلام الذي رضيه الله تعالى لعباده من هذه الآيات المحكمات فأبعده الله، فإن الخصومة بين الرسل والأمم إنما كانت في إخلاص العبادة كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ   1 سورة الزمر آية: 2. 2 سورة الزمر آية: 14. 3 سورة البينة آية: 5. 4 سورة الزمر آية: 64. 5 سورة الفاتحة آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} 1. وهذا هو الدين الذي دعا إليه شيخنا -رحمه الله- آخر الأعصار، لما اندرست أعلامه، وانمحت آثاره، واتخذ الناس الشرك في العبادة دينا، وأنزلوا حوائجهم بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فكيف يملك لهم من الضر والنفع ما لا يملك لنفسه؟ قال تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2. والقرآن من أوله إلى آخره في بيان توحيد العبادة، وهو أظهر شيء في القرآن وأبينه، وقد أشرت إلى سبب خفاء هذا التوحيد على كثير من المتكلمين ومن سلك سبيلهم؛ فلهذا لم ينكروا الشرك الذي وقع في هذه الأمة من عبادة الأشجار والأحجار والطواغيت والجن، فصار هذا الشرك لهم عادة، نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، وهذا هو سبب إنكارهم على من نهاهم عنه. فمن تدبر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" 3 تبين له خطأ المغرورين في إنكارهم على من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، واشمئزازهم من ذلك. فلنذكر ما ورد هذا المعنى: ففي الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:" أنتم أشبه الناس ببني إسرائيل، والله لا تدعون شيئا عملوه إلا عملتموه، ولا كان فيهم شيء إلا سيكون فيكم مثله" وفي رواية عنه أنه قال:"أنتم أشبه الناس سمتا وهيئة ببني إسرائيل، تتبعون آثارهم حذو القذة بالقذة، لا يكون فيهم شيء إلا يكون فيكم مثله".   1 سورة الأحقاف آية: 21. 2 سورة المائدة آية: 76. 3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84,3/89,3/94) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وبالإسناد إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:"لم يكن في بني إسرائيل شيء إلا كان فيكم". وعن عبد الله بن عمرو قال:"لتركبن سنن من كان قبلكم حلوها ومرها" وتقدم في الأحاديث المرفوعة مثل هذا. ولا يعرف ما وقع في الأمة من أنواع الشرك الأكبر وخفاءه على الأكثر، إلا من شرح الله صدره للإسلام وتدبر القرآن، بخلاف من أعرض عن كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمد على ما في كتب المتكلمين ومقلديهم، نعوذ بالله من عمى البصيرة، وفساد الطوية والسريرة. وقد اعترف عالم صنعاء الأمير "محمد بن إسماعيل" بما كان الناس عليه من الجهل بالتوحيد، في وقت ظهور شيخنا -رحمه الله تعالى وعفا عنه-، فمن ذلك قوله رحمه الله تعالى: أسائل من دار الأراضي سياحة ... عسى بلدة فيها هدى وصواب فيخبر كل عن قبائح ما رأى ... وليس لأهليها يكون متاب لأنهم عدوا قبائح فعلهم ... محاسن يرجى عندهن ثواب مبدأ دعوة ابن عبد الوهاب ونذكر شيئا من مبدأ دعوة شيخنا -رحمه الله- فنقول: لما شرح الله صدره للإسلام، وتبين له ما كان أكثر الناس عليه من الجهل بالتوحيد، وما وقعوا فيه من الشرك والتنديد، دعا من كان حوله إلى تدبر كتاب الله، ومعرفة التوحيد الذي خلقوا له، وبعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وضمنه أشرف كتبه، وهو القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأن ما وقع منهم من الاعتقاد في الطواغيت، وأرباب القبور، والأشجار والأحجار، وهو الشرك الذي بعث الله رسله بإنكاره. فصاحوا به منكرين ما دعاهم إليه، واستنجدوا بالملوك من كل جانب، حتى أخرجوه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 بلده العينية، فهاجر إلى الدرعية. فتلقاه شيخ البلد محمد بن سعود -رحمه الله- هو وأولاده وقرابته وأعيان أهل بلده، فقابلوا دعوته بالقبول، وجدوا في نصرته على ضعفهم وقلتهم، وكثرة عدوهم؛ واستصراخ أعدائهم الملوك عليهم، فما زالوا يرمونهم بقوس العداوة، وحزبوا عليهم مرارا كثيرة من كل جهة، فأظهرهم الله على من عاداهم -على ضعفهم وقلتهم-، وأوقع بأسه بكل من عاداهم، حتى الملوك أهلكهم الله وأباد خضراءهم، وفي ذلك آيات لمن كان واعيا. وهذه الآية لا تخفى على من صحت بصيرته، وأما أعمى البصيرة فلا يبصر. وكلما كادهم عدو ورام إهلاكهم أهلكه الله، فما زالوا -بحمد الله- ظاهرين إلى يومنا هذا، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِين َوَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. ولله در الشيخ حسين بن غنام، حيث قال لما ظهرت له أنوار التوحيد، أظهر ذلك في شعره نثرا، وأجاب محمد بن فيروز في هجوه وسبه، ومنظومته موجودة في تاريخه، فمن قوله -رحمه الله-: نفوس الورى إلا القليل ركونها ... إلى الغي لا يلفى لدين حنينها فسل ربك التثبيت أي موحد ... فأنت على السمحاء باد يقينها وغيرك في بيد الضلالة سائر ... وليس له إلا القبور يدينها وأنت بمنهاج الشريعة سالك ... وسنة خير المرسلين تبينها فساد اعتقاد صلاح جميع الأمة قلت: ولا يخفى على ذوي البصائر أن من أعظم الجهل، وأبين الكذب، وأبعد الضلال، جحود من جحد أنه: ليس في هذه الأمة كافر ولا مشرك، ولا مبتدع، ولا فاسق، ولا ظالم. والقرآن كله من أوله إلى آخره يخبر عن الكفار والمشركين والمنافقين والفاسقين والظالمين، فسبحان الله! كيف   1 سورة الجاثية آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 أدته العداوة والبغضاء لمن قام بالدعوة إلى التوحيد إلى أن جحد الكثير من القرآن والسنة! وادعى أن الأمة كلها من أولها إلى آخرها كلهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم الأمة الوسط؛ فجحد ما لا يمكن جحوده في حق أحد، وحقيقة حال هذا أنه كذّب بما في القرآن من ذلك. فتأمل ما يترتب على هذا القول من الفساد والإلحاد، وكيف يمكن أحد أن يجحد ما وقع في هذه الأمة من ذلك من الكفر والشرك والبدع؟ وقد ذكرت في هذا الجواب بعض ما وقع في الأمة من ذلك -على سبيل الاختصار- لبيان بطلان هذه الشبهة، وشدة ضلال ملقيها. ثم إنه حرف القرآن والأحاديث، ووضعها في غير موضعها، فزعم أن المطيع والعاصي والمؤمن والكافر على حد سواء، وهذا ممتنع عقلا وشرعا وفطرة. وقد تقدم في هذا الجواب ما يبين الخطأ من الصواب -ولله الحمد والمنة- مع الاقتصار كما في الأثر: "خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيمل"، والقصد بذلك انتفاع طالب الحق بالجواب عن شبهة المشبهين، وتحريف الملحدين. وبالله التوفيق. وإلا ففي الواقع اليوم ممن هم من هذه الأمة ما يكفي البصير في رد الشبهة وإبطالها؛ فإن الرافضة اليوم كثيرون، وشركهم وبدعتهم لا يخفى على من يعرفهم، وكذلك أحوال الأعراب، وما فيهم من الفساد والجفا في الدين، واستحلال المحرمات، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وإخافة السبيل وقطعها. والحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الرسالة السادسة: معنى لا إله إلا الله وشروطها بسم الله الرحمن الرحيم ومن مسائل التوحيد: ما أجاب به بعض من طلب الفائدة. قال -رحمه الله-: وسرنا ما ذكرت من معرفتك جهل أكثر الناس بمعنى (لا إله إلا الله) ، وإن تكلموا بها لفظا فقد أنكروها معنى؛ فانتبه لأمور ستة -أو سبعة- لا يسلم العبد من الكفر أو النفاق إلا باجتماعها، وباجتماعها والعمل بمقتضاها يكون العبد مسلما؛ إذ لا بد من مطابقة القلب للسان علما وعملا واعتقادا وقبولا ومحبة وانقيادا. فلا بد من العلم بها المنافي للجهل. ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك. ولا بد من الصدق المنافي للكذب، بخلاف المشركين والمنافقين. ولا بد من اليقين المنافي للشك والريب، فقد يقولها وهو شاك في مدلولها ومقتضاها. ولا بد من المحبة المنافية للكراهة. ولا بد من القبول المنافي للرد، فقد يعرف معناها ولا يقبله كحال مشركي العرب. ولا بد أيضا من الانقياد المنافي للترك، لترك مقتضياتها ولوازمها وحقوقها المصححة للإسلام والإيمان. فمن تحقق ما ذكرته، ووقع منه موقعا، صرف الهمة إلى تعلم معنى "لا إله إلا الله"، وصار على بصيرة من دينه، وفرقان ونور وهدى واستقامة. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الرسالة السابعة: التحذير من البردة وبيان ما فيها من الشرك بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف إلى عبد الخالق الحفظي. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد بلغنا من نحو سنتين اشتغالكم ببردة البوصيري، وفيها من الشرك الأكبر ما لا يخفى، من ذلك قوله: "يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك" إلى آخر الأبيات، التي فيها طلب ثواب الدار الآخرة من النبي صلى الله عليه وسلم وحده. فأما دعاء الميت والغائب فقد ذكر الله في كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم النهي عن دعوة الأموات والغائبين بقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 1، ولم يستثن أحدا. والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله، وقال: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 2. فانظر إلى هذا الوعيد الشديد المترتب على دعوة غير الله، وخاطب به نبيه صلى الله عليه وسلم ليكون أبلغ للتحذير. فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينهاه عن ذلك، ويذكر الوعيد عليه، ويرضاه أن يفعل ذلك أحد معه، أو مع غيره -صلوات الله وسلامه عليه-؟ ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 3. ودعوة غيره تنافي الإخلاص، الذي هو دينه، الذي لا يقبل الله دينا سواه. وذكر تعالى اختصاصه بالدعاء بقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ   1 سورة يونس آية: 106. 2 سورة الشعراء آية: 213. 3 أحمد (1/283) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 1 الآية، وأخبر أن دعوة الحق مختصة به، وما ليس بحق فهو باطل، ولا يحصل به نفع لمن فعله، بل هو ضرر في العاجل والآجل لأنه ظلم في حق الله تعالى. يقرر هذا تهديده تعالى لمن دعا الأنبياء والصالحين والملائكة بقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 2، نزلت في عيسى وأمه والعزير والملائكة، باتفاق أكثر المفسرين من الصحابة والتابعين والأئمة، فكيف يظن من له عقل أنه يرضى منه في حقه قولا وعملا تهديد الله من فعله مع عيسى وأمه والعزير والملائكة؟ وكونه صلى الله عليه وسلم- أفضل الأنبياء لا يلزم أن يختص دونهم بأمر نهى الله عنه عباده عموما وخصوصا، بل هو مأمور أن ينهى عنه، ويتبرأ منه كما تبرأ منه المسيح ابن مريم في الآيات في آخر سورة المائدة، وكما تبرأت منه الملائكة في الآيات التي في سورة سبأ. وأما اللياذ فهو كالعياذ سواء، فالعياذ لدفع الشر، واللياذ لجلب الخير، وحكى الإمام أحمد وغيره الإجماع على أنه لا يجوز العياذ إلا بالله وأسمائه وصفاته، وأما العياذ بغيره فشرك ولا فرق. وأما قوله: "فإن من جودك الدنيا وضرتها" فمناقض لما اختص به تعالى يوم القيامة من الملك في قوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 3، وفي قوله تعالى في سورة الفاتحة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 4 وفي قوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} 5، وغير ذلك من الآيات لهذا المعنى. وقال غير ذلك في منظومته مما يستبشع من الشرك. هدي السلف في مدح النبي ومدح النبي صلى الله عليه وسلم شعراء العرب الفصحاء، ولم يقرب أحد منهم حول هذا الحمى، الذي هو لله وحده؛ بل مدحوه بالنبوة، وما   1 سورة الرعد آية: 14. 2 سورة الإسراء آية: 56. 3 سورة غافر آية: 16. 4 سورة الفاتحة آية: 4. 5 سورة الانفطار آية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 خصه الله به من الفضائل والأخلاق الحميدة، مثل حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، وأمثال هؤلاء، فما تعلقت قلوبكم يا عبد الخالق إلا بنظم للشيطان فيه حظ وافر، قد أنكره الله ورسوله على من قاله أو فعله. وهذه الأمور كانت عند محمد الحفظي وأبيه وأخيه فأقلعوا عنها، وتابوا إلى الله منها، وتجنبوا الشرك، وتبرؤوا إلى الله منه ومن أهله، وجاهدوا أهله نثرا ونظما، وقد نزلت المنزلة التي كانوا عليها في الجاهلية، ثم تابوا منها، فأصغ سمعك لكتاب الله، فإنه يكفيك ويشفيك في كل خير، ويعصمك من كل شر. اه آخر ما وجد والحمد لله. الرسالة الثامنة: أمر الإمامة والتدريس يُردُّ إلى الإمام ومنها رسالة أرسلها إلى محمد بن عبد الله، وعبد الله بن سالم، وسببها أن الشيخ عبد اللطيف بن مبارك نصب في بعض مساجد الأحسا من يتهم بمذهب الأشاعرة من غير إذن الإمام فيصل بن تركي آل سعود -رحمه الله-، قال فيها: من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخوين المكرمين محمد بن عبد الله، وعبد الله بن سالم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد وصل الكتاب، وفهمت ما تضمنه من الخطاب، وما ذكرتماه عن نصب الشيخ عبد اللطيف لهؤلاء الأولاد الثلاثة، فالعادة أن مثل هذا يرجع فيه إلى الإمام، لأن نصبه له في أمر خاص، وهو فصل القضايا بين الناس. وأما النظر فيما يصلح للإمامة والتدريس، فيرد إلى الإمام، وربما أن الإمام يجعل لنا فيه بعض الشورى، لأن كثيرا من الناس ما تخفانا حالهم وعقائدهم، ونصب الإمام لقضاة نجد كذلك. والشيخ أحمد بن مشرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 يسامي الأكابر ومثلهم ما ينسب له، والذي نعلم منه صحة المعتقد في توحيد الأنبياء والمرسلين، الذي جهله أكثر الطوائف، كذلك هو رجل سلفي يثبت من صفات الرب تعالى ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته. أخطاء الأشاعرة في أصول الدين وأما أهل بلدكم في السابق وغيرهم فهم أشاعرة، والأشاعرة أخطؤوا في ثلاث من أصول الدين، منها تأويل الصفات وهو صرفها عن حقيقتها التي تليق بالله. وحاصل تأويلهم: سلب صفات الكمال عن ذي الجلال، أيضا أخذوا ببدعة "عبد الله بن كلاب" في كلام الرب -تعالى وتقدس-. ورد العلماء عليهم في ذلك شهير، مثل الإمام أحمد والشافعي وأصحابه، والخلال في "كتاب السنة"، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة، واللالكائي، وأبو عثمان الصابوني الشافعي، وابن عبد البر، وغيرهم من اتباع السلف، كمحمد بن جرير الطبري، وشيخ الإسلام الأنصاري. وقد رجع كثير من المتكلمين الخائضين كالشهرستاني شيخ أبي المعالي، وكذلك أبو المعالي، والغزالي، وكذلك الأشعري قبلهم، في كتاب "الإبانة والمقالات"، ومع هذا وغيره فبقي هذا في المتأخرين، المقلدين لأناس من المتأخرين، ليس لهم اطلاع على كلام العلماء، وإن كانوا يعدون من العلماء. وأخطؤوا أيضا في التوحيد، ولم يعرفوا من تفسير "لا إله إلا الله" إلا أن معناها: القادر على الاختراع، ودلالة "لا إله إلا الله" على هذا دلالة التزام، لأن هذا من توحيد الربوبية، الذي أقر به الأمم ومشركو العرب، كما قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1 الآيات،   1 سورة المؤمنون آية: 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وهي كثيرة في القرآن، يحتج تعالى عليهم بذلك على ما جحدوه من توحيد الإلهية، الذي هو معنى "لا إله إلا الله" مطابقة وتضمنا، وهو الذي دعا إليه الناس في أول سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، والنساء، وغيرهما، ودعت إليه الرسل: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} 1. وهو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، ودعا إليه العرب قبلهم، كما قال أبو سفيان لهرقل لما سأله عما يقول: قال: يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. وكل السور المكية في تقرير معنى "لا إله إلا الله" وبيانه. فإذا كان العلماء في وقتنا هذا وقبله في كثير من الأمصار، ما يعرفون من "لا إله إلا الله" إلا توحيد الربوبية، كمن كان قبلهم في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، اغتروا بقول بعض العلماء من المتكلمين أن معنى "لا إله إلا الله" القادر على الاختراع، وبعضهم يقول: معناها الغني عما سواه، المفتقر إليه ما عداه. وعلماء الأحساء ما عادوا شيخنا -رحمه الله- في مبدأ دعوته إلا من أجل أنهم ظنوا أن عبادة يوسف والعيدروس وأمثالهم لا يستفاد بطلانها من كلمة الإخلاص، والله سبحانه بين لنا معنى هذه الكلمة في مواضع كثيرة من القرآن. قال تعالى عن خليله عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ? إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 2، فعبر عن هذه الكلمة بمعناها، وهو نفي الشرك في العبادة، وقصرها على الله وحده. وقال عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} 3. فإذا كان هذا التوحيد الذي هو حق الله على العباد قد خفي على أكابر العلماء في أزمنة سلفت، فكيف لا يكون بيانه أهم الأمور؟ خصوصا إذا كان الإنسان لا يصح له إسلام ولا إيمان إلا بمعرفة هذا التوحيد، وقبوله، ومحبته، والدعوة إليه،   1 سورة هود آية: 2. 2 سورة الزخرف آية: 26. 3 سورة الكهف آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وتطلب أدلته، واستحضارها ذهنا وقولا وطلبا ورغبة. فهذه نصيحة مني لكل إنسان، دعاني إليها غربة الدين، وقلة المعرفة فيه، فينبغي أن تشاع وتذاع في مخاطر أهل العلم، يقبلها من وفقه الله تعالى للخير، فإنها خير مما كتبت فيه بأضعاف أضعاف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وسلم. الرسالة التاسعة: معنى لا إله إلا الله وشروطها السبعة بسم الله الرحمن الرحيم الكلام في بيان ما أوردناه على الجهمي الذي في بني ياس، أما الكلام في معنى "لا إله إلا الله" فأقول وبالله التوفيق: أما هذه الكلمة العظيمة، فهي التي شهد الله بها لنفسه، وشهد بها له ملائكته، وأولو العلم من خلقه، كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. فلا إله إلا الله هي كلمة الإسلام، لا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضعت له ودلت عليه، وقبوله والانقياد للعمل. وهي كلمة الإخلاص المنافي للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله، فلا تنفع قائلها إلا بشروط سبعة: الأول العلم بمعناها نفيا وإثباتا، واليقين -وهو كمال العلم بها- المنافي للشك والريب، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المانع من النفاق، والمحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه، والسرور بذلك، والقبول المنافي للرد، فقد يقولها من يعرفها لكن لا يقبلها مما دعاه إليها تعصبا وتكبرا، كما هو قد وقع من كثير. السابع   1 سورة آل عمران آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الانقياد بحقوقها، وهي الأعمال الواجبة إخلاصا لله وطلبا لمرضاته. إذا عرفت ذلك فقولك: "لا إله إلا الله": فلا: نافية للجنس. والإله هو: المألوه بالعبادة، وهو الذي تألهه القلوب، وتقصده رغبة إليه في حصول نفع أو دفع ضر، كحال من عبد الأموات والغائبين والأصنام، فكل معبود مألوه بالعبادة. والخبر المرفوع محذوف تقديره: حق. وقوله: "إلا الله" استثناء من الخبر المرفوع. فالله سبحانه هو الحق، وعبادته وحده هي الحق، وعبادة غيره منتفية بلا في هذه الكلمة. قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 1، فإلهية ما سواه باطلة، فدلت الآية على أن صرف الدعاء الذي هو مخ العبادة عنه لغيره باطل؛ فتبين أن الإلهية هي العبادة لأن الدعاء من أفرادها، فمن صرف منها شيئا لغيره تعالى فهو باطل. والقرآن كله يدل على أن الإلهية هي العبادة كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ? إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} 2، فذكر البراءة من كل معبود سوى الله، ولم يستثن إلا عبادة من فطره سبحانه، ثم قال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 3 أي: "لا إله إلا الله" فعبر عن الإلهية بالعبادة في النفي والإثبات. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} 4: فقوله {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} 5 هو معنى "إلا الله" في كلمة الإخلاص، وقوله: {وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} 6 هو المنفي في كلمة الإخلاص ب "لا إله"؛ فتبين أن "لا إله إلا الله" دلت على البراءة من الشرك في العبادة في حق كل ما سوى الله. وقال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 7 والدين هو العبادة، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ} 8، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 9 أي: الذي لا تصلح الإلهية إلا له وحده، فانتفت الإلهية   1 سورة الحج آية: 62. 2 سورة الزخرف آية: 26. 3 سورة الزخرف آية: 28. 4 سورة الجن آية: 20. 5 سورة الجن آية: 20. 6 سورة الجن آية: 20. 7 سورة الزمر آية: 11. 8 سورة الرعد آية: 36. 9 سورة الكهف آية: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وبطلت في حق كل ما سوى الله، والقرآن يبين بعضه بعضا ويفسره. والرسل إنما يفتتحون دعوتهم بمعنى "لا إله إلا الله": {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1، فتبين أن الإلهية هي العبادة؛ ولهذا قال قوم هود لما قال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2 {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 3، فتبين بالآية أنهم لم يستنكفوا من عبادة الله، لكنهم أبوا أن يخلصوا العبادة لله وحده؛ فلم ينفوا ما نفته "لا إله إلا الله"، فاستوجبوا ما وقع بهم من العذاب، بعدم قبولهم من دعاهم إليه من إخلاص العبادة. كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} 4 وهم الرسل جميعهم {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} 5 وهذا هو معنى كلمة الإخلاص الذي اجتمعت عليه الرسل، فقوله: {أن لا تعبدوا} هو معنى (لا إله) وقوله: {إِلاَّ اللَّهَ} هو المستثنى في كلمة الإخلاص؛ فهذا هو تحقيق معناها -بحمد الله- إنذار الرسل جميعهم أممهم عن الشرك في العبادة، وأن يخلصوها لله وحده لا شريك له. ففي ما ذكرناه في هذه الآيات في معناه كاف واف شاف، ولله الحمد والمنة. تعريف العبادة وأما تعريف العبادة، فقد قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في الكافية الشافية: وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان فذكر أصل العبادة التي يصلح العمل مع حصولها إذا كان على السنة، فذكر قطبيها، وهما غاية المحبة لله في غاية الذل له. والغاية تفوت بدخول الشرك، وبه يبطل هذا الأصل، لأن المشرك لا بد أن يحب معبوده، ولا   1 سورة الأعراف آية: 59. 2 سورة الأعراف آية: 59. 3 سورة الأعراف آية: 70. 4 سورة الأحقاف آية: 21. 5 سورة هود آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 بد أن يذل له، ففسد الأصل بوجود الشرك فيه. ولا تحصل الغاية فيهما إلا بانتفاء الشرك، وقصر المحبة والتذلل لله وحده؛ وبهذا تصلح جميع الأعمال المشروعة، وهي المراد بقوله: وعليهما فلك العبادة دائر. والدائرة هي الأعمال، ولا تصلح إلا بمتابعة السنة. وهذا معنى قول الفضيل بن عياض -رحمه الله- في قول الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 1 قال: "أخلصه وأصوبه". قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: "إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة". أقسام التوحيد وأما أقسام التوحيد فهي ثلاثة: توحيد الإلهية وهي العبادة كما تقدم، فهي تعلق بأعمال العبد وأقواله الباطنة والظاهرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". قلت: فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك بالله، وهذا هو الذي أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب بالإنذار عنه، وترتبت عليه عقوبات الدنيا والآخرة في حق من لم يتب منه، ويسمى هذا التوحيد إذا كان لله وحده "توحيد القصد والطلب والإرادة" وهو الذي جحده المشركون من الأمم. وقد بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بالأمر به، والنهي عما ينافيه من الشرك، فأبى المشركون إلا التمسك بالشرك الذي عهدوه من أسلافهم، فجاهدهم صلى الله عليه وسلم على هذا الشرك، وعلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} 2 إلى قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ   1 سورة هود آية: 7. 2 سورة ص آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} 1. (النوع الثاني) : توحيد الربوبية: وهو العلم والإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وهو المدبر لأمور خلقه جميعهم كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} 2 إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3، وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 4 إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 5. وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير، وهذا النوع قد أقر به المشركون كما دلت عليه الآيات. (والنوع الثالث) : توحيد الأسماء والصفات: وهو أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، التي تعرف بها سبحانه إلى عباده، ونفي ما لا يليق بجلاله وعظمته، وهذا النفي أقسام، ذكرها العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الكافية الشافية. فأهل السنة والجماعة سلفا وخلفا يثبتون لله هذا التوحيد، على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، وهذا النوع والذي قبله هو توحيد العلم والاعتقاد. تعريف التوحيد وأما تعريف التوحيد فقد ذكره ابن القيم في الكافية الشافية فقال: فالصدق والإخلاص ركنا ذلك ال ... توحيد كالركنين للبنيان وحقيقة الإخلاص توحيد ال ... مراد فلا يزاحمه مراد ثاني والصدق توحيد الإرادة وهو بذ ... ل الجهد لا كسلا ولا متواني ثم ذكر توحيد المتابعة فقال: والسنة المثلى لسالكها فتو ... حيد الطريق لأعظم السلطان   1 سورة ص آية: 6. 2 سورة يونس آية: 31. 3 سورة يونس آية: 31. 4 سورة المؤمنون آية: 84. 5 سورة المؤمنون آية: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فلواحد كن واحدا في واحد ... أعني سبيل الحق والإيمان وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- الإخلاص بمثل ما ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- فقال: "الإخلاص محبة الله وإرادة وجهه". أقسام العلم النافع وأما أقسام العلم النافع الذي يجب معرفته أو اعتقاده فهو يتضمن ما سبق ذكره، وهو ثلاثة أقسام، ذكرها العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الكافية الشافية قال: والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع خلوا عن الروغان علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني وبهذا تم الجواب عما أوردناه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الرسالة العاشرة: من لوازم ما دلَّت عليه لا إله إلا الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. من عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام المكرم أكرمه الله بالتوحيد، وحماه من شبه أهل الشرك والإلحاد والتنديد. سلام عليك ورحمة الله وبركاته. (وبعد) : فاعلم أن "لا إله إلا الله" لها معنى عظيم، تستضيء به قلوب أهل الإسلام والإيمان، وهو الذي بعث الله به جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وخلقهم لأجله. والقرآن من أوله إلى آخره يبين معنى هذه الكلمة؛ ونذكر بعض ما دل عليه القرآن من معناها، وما ذكره العلماء من أئمة الإسلام، فدونك كلام العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 1. ذكر أن هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص، وأن قريشا دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ويعبدون إلهه سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمره فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} 2 يعني من الأصنام والأنداد، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 3 وهو الله وحده؛ ولهذا كان كلمة الإسلام: "لا إله إلا الله محمد رسول الله". والمشركون يعبدون غير الله. (قلت) : فدلت هذه السورة الكريمة على البراءة من عبادة أصنام المشركين وأوثانهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يتبرأ من أوثان المشركين   1 سورة الكافرون آية: 1. 2 سورة الكافرون آية: 2. 3 سورة الكافرون آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وأصنامهم التي كانت موجودة في الخارج: اللات والعزى ومناة وغيرها. وقد أخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه: {مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 1 إلى قوله: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 2، فصرح بعداوة أصنامهم بأعيانها وهي موجودة في الخارج، واستثنى من معبوداتهم رب العالمين، لأنهم كانوا يعبدون الله، لكنهم يعبدون معه الأصنام؛ فاستثنى المعبود الحق الذي لا تصلح العبادة إلا له. فأخبر تعالى عنه أنه قال لقومه: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} 3، وأخبر عنه أنه قال لقومه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ? إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 4 وهي: "لا إله إلا الله" بإجماع أهل الحق؛ فعبر عنها بالبراءة من معبوداتهم التي كانوا يعبدونها في الخارج. فقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 5 هو معنى النفي في قوله: "لا إله"، وقوله: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} 6 هو معنى "إلا الله"، وهذا كاف في البيان لمثلك الذي قد عرفه معنى "لا إله إلا الله". وهذا المعنى في هذه الكلمة يعرفه حتى المشركون كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 7. عرفوا أن "لا إله إلا الله" علم على ترك عبادة آلهتهم التي كانوا يعبدونها من أوثانهم وأصنامهم، وكل الفرق يعرفون معناها، حتى أعداء الرسل كما قالت عاد: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 8، فعرفوا على شدة كفرهم أنه أراد منهم ترك عبادة ما كان يعبده آباؤهم. ما نفته لا إله إلا الله فتبين بهذا أن "لا إله إلا الله" نفت كل ما كان يعبد من دون الله من صنم ومن وثن، من حين حدث الشرك في قوم نوح إلى أن تقوم الساعة.   1 سورة الشعراء آية: 70. 2 سورة الشعراء آية: 75. 3 سورة الصافات آية: 86. 4 سورة الزخرف آية: 26. 5 سورة الزخرف آية: 26. 6 سورة الزخرف آية: 26. 7 سورة الصافات آية: 35. 8 سورة الأعراف آية: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وهذا المعنى أكثر أهل العلم يسلمونه ويعرفونه، حتى الخوارج والرافضة والمعتزلة والمتكلمون، من كل أشعري وكرامي وماتريدي؛ وإنما اختلفوا في العمل بلا إله إلا الله. فبعضهم يظن أن هذا في حق أناس كانوا فبانوا، فخفي عليهم حقيقة الشرك. وأما الفلاسفة وأهل الاتحاد فإنهم لا يقولون بهذا المعنى ولا يسلمونه، بل يقولون: إن المنفي ب "لا إله إلا الله" كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد وهو الله، فهو المنفي وهو المثبت بناء على مذهبهم الذي صاروا به أشد الناس كفرا، وهو قولهم: إن الله هو الموجود المطلق. فلم يخرجوا من ذلك صنما ولا وثنا. ويشبه قولهم هذا أهل وحدة الوجود القائلين بأن الله تعالى هو الموجود بعينه، فيقولون: إن المنفي كلي، والمثبت بقوله "إلا" هو الوجود بعينه. ولا فرق عند الطائفتين بين الخالق والمخلوق، ولا بين العابد والمعبود، كل شيء عندهم هو الله، حتى الأصنام والأوثان، وهو حقيقة قول هذا الرجل سواء. فخذ قولي واقبله -وفقك الله-. فلقد عرفت -بحمد الله- ما أرادوه من قولهم: إن المنفي كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. ويدعي هذا مثل ما ادعته هذه الطائفة أن تقدير خبر "لا": موجود. وهذه الكلمة لم توضع لتقرير الوجود، وإنما وضعت لنفي الشرك، والبراءة منه، وتجريد التوحيد، كما دلت عليه الآيات المحكمات البينات، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم. وتقدير خبر "لا" بموجود لا يجري إلا على مذهب الطائفتين -لعنهم الله- على قولهم: إن الله هو الوجود، فلا موجود إلا الله. فهذا معنى قوله: إنه كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. فغير المعنى الذي دلت عليه "لا إله إلا الله" من نفي جميع المعبودات التي تعبد من دون الله، والمنفي إنما هو حقيقتها كما قال المسيح -عليه السلام-: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} 1. كل معبود سوى الله باطل ولا ريب أن كل معبود سوى الله فهو باطل، والمنفي ب "لا إله" هي المعبودات الباطلة، والمستثنى بإلا هو سبحانه، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} 2، وقال في آخر السورة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 3، وقال في سورة لقمان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} 4. فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} 5 هو المستثنى ب "إلا الله"؛ وهو الحق، وقوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 6 هو المنفي ب "لا إله"، وما بعد هذا إلا التلبيس على الجهال، وإدخال الشك عليهم في معنى كلمة الإخلاص؛ فكابر المعقول والمنقول بدفعه ما جاء به كل رسول. نسأل الله لنا ولكم علما نستضيء به من جهل الجاهلين، وضلال المضلين، وزيغ الزائغين، وفي الحديث: "رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني" 7. وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ في الركعة الأخيرة بعد المغرب: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 8. وهذا -بحمد الله- كاف في بيان الحق، وبطلان الباطل. وصلى الله على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما.   1 سورة المائدة آية: 116. 2 سورة الحج آية: 6. 3 سورة الحج آية: 62. 4 سورة لقمان آية: 30. 5 سورة الحج آية: 6. 6 سورة الحج آية: 62. 7 أبو داود: الأدب (5061) . 8 سورة آل عمران آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96