الكتاب: دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية المؤلف: أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله الحصين الناشر: فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية الطبعة: الأولى 1420هـ/ 1999م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية أحمد بن عبد العزيز الحصين الكتاب: دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية المؤلف: أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله الحصين الناشر: فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية الطبعة: الأولى 1420هـ/ 1999م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجميعن. تمر علينا أيام حالكة الظلام، ظلام يحجب عن معظم الناس الرؤية الواضحة في التصور: فليس هناك فرق لدى العامة بين ما يقوله الله تعالى، وبين ما يقوله الجهلاء من بني البشر، وظلام في التلقي فهذا يتلقى عن داعية القومية، وذاك ينادي بالوطنية، وثالث يرفع عقيرته منادياً بالعدالة الاجتماعية، ورابع يعبد الرأسمالية والديمقراطية. وكثير ممن يزعمون أنهم من علماء الدين -وقد أضلهم الله على علم، نراهم يرقصون ويترنحون ما بين قبر البدوي ومقام الحسين، وغيره مما عرف بالعتبات المقدسة، وإذا ما أراد أحدهم أن يؤلف كتاباً عن إمام من أئمة الابتداع والتخريف ذهب إلى قبره يستشيره في تأليف هذا الكتاب. وآخر نراه يتحدث في كل مناسبة بأن تلامذه يصافحون رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة وليس في المنام، وإذا ما زار أحدهم المدينة النبوية دعاه رسول الله إلى حفل غذاء أو عشاء، يحضره كبار الصحابة والتابعين وأولياء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أما حديث التلاميذ عن شيخهم المعمم ففيه العجب العجاب، فإن الواحد منهم يقول: إنه إذا هم بمعصية يرى صورة شيخه أمامه، محذراً متوعداً له، فيخشاه ويتراجع عن معصيته خوفاً من شيخه، وليس خشية من الله، وهذا ليس افتراء منا على الشيخ، فهو يتحدث في دروسه العامة بهذا وبأكثر منه. وإذا كان هذا شأن المنسوبين إلى العلم، فماذا ننتظر من دهماء الناس؟ إن عبادة الآلة من دون الله ما زالت قائمة وإن تغيرت الأسماء وتباينت الألفاظ، "فالقومية" بدلاً من "اللات"، و"الوطنية" بدلاً من "هبل"، و"الديموقراطية" بدلاً من "العزى". والعواصم العربية مزدحمة بالأصنام، فهذه الأهرامات، وهذا صنم الزعيم فلان، وهذا تمثال للعامل، وذاك وثن للجندي المجهول ... هي أصنام أشد خبثاً وشركاً من أصنام الجاهلية، إذ إن أصنام الجاهلية، بدائية ساذجة، أما هذه الأصنام فالواحد منها يكلف مليوناً أو أكثر من ذلك، لأنه قد صنع من معدن "البرونز" الثمين، ورحم الله حافظ إبراهيم الذي صاغ هذا الواقع المرير بأبيات رقاق من الشعر فقال: أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف يرزق الأموات ويقال: هذا القطب باب المصطفى ... ووسيلة تقضى به الحاجات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وأنا أعذب في الحياة وليس لي ... يا أم دفر مابه أقتات في هذا الليل الذي أرخى سدوله، وزادت ظلمته، وتباعد فجره –نفتقد أمثال شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب" رحمه الله، لقد نهض داعية الجزيرة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في بيئة تشبه ما نحن عليه الآن، فالناس في "نجد" قد عادوا إلى الجاهلية الأولى، عادوا إلى حياة العزو والنهب والسلب، التي وصفها شاعر الجاهلية فقال: وأحيانا على بكر أخينا ... إذا لم نجد إلا أخانا عادوا إلى الشرك، وعبادة الأحجار والأشجار، لتقربهم إلى الله زلفى، فناس يهيمون ويشدون الرحال إلى قبر زيد بن الخطاب، وآخرون يتوجهون إلى الشجرة المقدسة يسألونها أموراً هي من حقوق الله وحده، وناس يذبحون لغير الله. والعلماء جمود على الخرافة والتقليد، قد ألفوا هذا الواقع المرير، وانصرفوا إلى الدنيا ومتاعها وزينتها، وقعدوا عن إنكار المنكر، وعن الأمر بالمعروف. وما عاد أحد ينتظر منهم أي تغيير أو تجديد. في هذا الجو الخانق صدع الإمام محمد بن عبد الوهاب بدعوته، وراح يجوب الأمصار والمدن والقرى، ويقطع الصحاري والقفار، يطلب العلم ويعلمه، وينذر الناس، ويذكر العلماء بواجبهم، ويطالبهم بأن يأدوا دورهم، فأوذي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 سبيل الله وهدد بالقتل، واعتدى عليه سفهاء الناس، وتنكر له علية القوم، فخرج إلى "الدرعية"، خرج وحيداً طريداً، ولأن الله يعلم منه إخلاص القصد فقد أكرمه بالنصرة والمنعة، ويسر له من يذود عن دعوته بماله وسلاحه، وبعد سنوات قلائل كانت الجزيرة العربية بأسرها قد توحدت تحت راية التوحيد الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. وأدرك أعداء الإسلام خطورة الدعوة الجديدة، بعد أن انطلقت جحافل الموحدين تقرع أبواب العراق والخليج وبلاد الشام، فسخرت فرنسا الصليبية صنيعتها محمد علي باشا، وأمدته بأحدث أنواع الأسلحة والمعدات، واستعان بضعاف النفوس وأصحاب المطامح من وجهاء الجزيرة وأشرافها، الذين فقدوا زعامتهم التي ما كان لها أن تنمو لولا الخرافة والفرقة والجاهلية، واستطاع أعداء الإسلام أن يوقفوا زحف الدعوة الإصلاحية وأن يضعوا العراقيل في مسيرتها المظفرة، فخسر العالم الإسلامي خسارة كبيرة عندما توقف زحف الدعوة. وأعداء الله منذ القديم يعملون على تشويه الإسلام وإيقاف مده، وإقامة مساجد الضرار التي تتظاهر بالإسلام وتبطن الخبث والإلحاد. ثم عادت الدعوة بعد حين إلى ربوع الجزيرة، وانبثق عنها نظام حكم، وإذا كان امتدادها السياسي قد توقف في حدود شبه الجزيرة العربية، فامتدادها الفكري قد شمل العالم الإسلامي بأسره، وها نحن نجد أنصاراً لهذه الدعوة في الهند وباكستان، وبلاد الشام ومصر والسودان، وأثرهم يزداد يوماً بعد آخر، والحمد لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ولا يزال للدعوة أعداء في كل رقعة من العالم الإسلامي، ولا يجدون أسلوباً لمهاجمة هذه الدعوة غير الإفتراء والبهتان، فمثلاً: يقولون بأن أنصار "محمد بن عبد الوهاب" يكرهون الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر اسمه لا يصلون عليه، وأنهم اخترعوا مذهباً خامساً ...... إلى آخر ما في جعبهم من أباطيل وترهات، وزيادة في تنفير العامة يسمونها "الوهابية" بدلاً من "السلفية"، وحاشاه مما افتروا عليه، فكل الذي قام به الشيخ هو إصلاح للعقيدة في نفوس من حادوا عنها، بإزالة ما علق بها من أضاليل الصوفية، وأباطيل الدهريين، لتعود كما كانت ناصعة بيضاء، كما فهمها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الغر الميامين رضوان الله عليهم، فقد دعا محمد بن عبد الوهاب إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والتوجه بالتوحيد إليه سبحانه وتعالى، دون وسيلة ولا واسطة من بشر أو حجر أو شجر، ثم دعا إلى إعادة تحكيم الشريعة الإسلامية، وإقامة الحدود، وستبقى هذه الدعوة العظيمة ناصعة مشرقة، وسيبقى ذكر صاحب هذه الدعوة عطراً طيباً. فهو -بإذن الله- ليس ملكاً لبلد، ولا وقفاً على قبيلة، ولكنه أنموذجاً إصلاحياً للعالم الإسلامي بأسره، وعشريته هم الموحدون المؤمنون في كل بقعة من عالمنا الإسلامي الكبير، وشعوراً منا بفضل هذا الرجل، وحاجة المسلمين إلى أمثاله اليوم، قمنا بتأليف كتابنا هذا رداً على أعداء الدعوة والحاقدين عليها، وكشف زيفهم وافترائهم على هذه الدعوة المباركة، وكلنا أمل في الله عز وجل، ثم في هذا المد الزاحف من الدعاة الصالحين المصلحين، الذين يعلمون المسلمين ويرشدونهم إلى التوحيد الخالص والإسلام الصحيح، ويعيدون صورة المسلمين الأولين إلى أذهانهم، وإلى قلوبهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ويذكرونهم بسير أبطال الإسلام وشيوخه وأخلاقهم، ويحثونهم على الالتزام بتعاليم الله ورسوله، فعلى كل مسلم أن يراجع ماضيه، ويصحح نيته، ويبحث عن الخطأ، ويحاول معالجته بنفسه، وليكن على نور من ربه وسنة نبيه، ويجدد العهد لإعادة مجد الإسلام الذي لا يمكن أن يظهر وينتشر إلا بعود المسلمين إلى سابق عهدهم –أقوياء في معنوياتهم ومادياتهم وسلاحهم، وهكذا حتى يتم الله نوره بنصره. وقبل أن نختم المقدمة نقول لكم: تذكروا كيف صنع الإخلاص لدعوة التوحيد في العصور الأخيرة، وأفاد الله الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة عندما أخلص الإمام والأمير والمأمور (أو: الرعية) لله العلي الكبير. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الله أحمد بن عبد العزيز الحصين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 تمهيد ... بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الكتاب صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ1 المتشار في الديوان الملكي السعودي الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين كالمبتدعة والمشركين، وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، وخلفائه الراشدين وصحابته أجمعين. وبعد فقد تلقيت رسالة من فضيلة الشيخ أبي عبد الله أحمد بن عبد العزيز   1 هو صاحب معالي الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام ومجدد الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى وجزاهم الله عن الإسلام خير الجزاء، فهو من بيت سلالة وشرف وعلم وفقه وقد توارثوه أباً عن جد، فوالده المفتي العام للسعودي سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (ت1389هـ) . تولى الشيخ عبد العزيز بن محمد مناصب كثيرة منها: 1- وبعد صدور الأمر السامي بتحويل المعاهد والكليات إلى مسمى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية صدر أمر ملكي بتعيينه مديراً للجامعة. 2- الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واليوم يشغل مستشاراً في الديوان الملكي السعودي وله نشاطات أدبية وعلمية فبارك الله فيه وفي أولاده النجباء (المؤلف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الحصين يطلب مني الاطلاع على مؤلفه (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب –سلفية لا وهابية) وقد طلب مني كتابة مقدمة لهذا الكتاب وبالاطلاع على الكتاب ودراسته ألفيته من المؤلفات القيمة القائمة على العلم بمقاصد الشريعة، ودعوة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وهذا الكتاب جيد في أسلوبه ومضمونه وفهمه لدعوة الشيخ وأهدافها السلفية. ومن المعلوم لكل عالم بصير بالأدلة الشرعية، وما درج عليه خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة في سبيل الدعوة وصدق المتابعة لرسول الهدى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، متجرد من الهوى والعصبيات والنعرات المضللة، وفهم حقيقة المذاهب الهدامة وبخاصة المبتدعة من سائر الطوائف الصوفية المنحرفة وأهل الطرق وأشباههم من الغلاة والذين لا فقه لهم في نصوص الكتاب والسنة ولا علم بما درج عليه سلف الأمة من الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم بإحسان. والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله حين جرد نفسه للدعوة اهتم بتوحيد العبادة وإثبات التوحيد لله سبحانه وتعالى، وبخاصة توحيد العبادة (الألوهية) ، فقد انتشرت في العالم الإسلامي بدعة البناء على القبور حتى آل الأمر بكثير من سواد المسلمين إلى عبادة غير الله من الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة والشجر والحجر، فكانت دعوته دعوة سلفية هي مذهب أهل الحق منذ عهد النبوة حتى عصره. وقد كان شيخه وقدوته وإمامه في هذا رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وكان من العلماء المحققين الذين فتح الله عليهم أبواب العلم النافع المستمد من الكتاب والسنة الإمام الحجة شيخ الإسلام العلامة أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني رضي الله عنه وأرضاه. وتلميذه العلامة المحقق ابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية. ولكي تعرف أيها القارئ الكريم عقيدة السلف الصالح التي درج عليها أئمتنا الأعلام منذ عهد النبوة فإني أنقل لك صدراً من الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية: قال رحمه الله: الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد: فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس: من الكلام في (التوحيد) (والصفات) وفي (الشرع) (والقدر) لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين، وكثرة الاضطراب فيهما. فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما، ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعباد، لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات. فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات. والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة وبين الكراهة والبغض نفيا وإثباتاً. والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض والحض والمنع. حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة، ومعروف عند أصناف المتكلمين في العلم، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الإيمان، وكما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو والبيان فذكروا أن الكلام نوعان: خبر وإنشاء، والخبر دائر بين النفي والإثبات، والإنشاء أمر أو نهي، أو إباحة. وإذا كان كذلك فلا بد للعبد أن يثبت ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال، ولا بد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدره إيمانا خاليا من الزلل. وهذا يتضمن (التوحيد في عبادته) وحده لا شريك له وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن (التوحيد في العلم والقول) كما دل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 على ذلك سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ودل على الآخر سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وهما سورتا الإخلاص، وبهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك. فأما الأول وهو (التوحيد في الصفات) فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله نفيا وإثباتا فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفى عنه ما نفاه عن نفسه. وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل. وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذمّ الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} الآية. فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} : رد للإلحاد والتعطيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} قال أهل اللغة هل تعلم له سميا أي نظيرا يستحق مثل اسمه، ويقال مساميا يساميه وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما (هل تعلم له سمياً) مثيلا أو شبيهاً. وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} ، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؟} . وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} . وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ؟ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. أَفَلا تَذَكَّرُونَ. أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ. فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فسبح نفسه عما يصفه المفترون والمشركون وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك وحمد نفسه إذ هو سبحانه المتسحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات. وأما (الإثبات المفصل) : فإنه ذكر من أسمائه وصفاته، ما أنزله في محكم آياته كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآية بكمالها. وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ} السورة، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} ، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} الآية. وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} ، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} ، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَة} ، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} . وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ، وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} ، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تَزْعُمُونَ} . وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإن في ذلك إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم فإنهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان. فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات. فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول؛ وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب، وما جاء به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الرسول فوقعوا في شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات. وقد علم بالاضطرار أن الوجود لا بد له من موجد واجب بذاته غني عما سواه قديم أزلي لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما يمتنع وجوده فضلا عن الوجوب أو الوجود أو القدم. وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا فيما خرج عنه من الموجودات وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا العلم عين العالم، مكابرة للقضايا البديهات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحدا للعلوم الضروريات. وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم فأثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال عليم بلا علم قدير بلا قدرة سميع بصير بلا سمع ولا بصر فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات. والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات. وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره، وفي شر منه، مع ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 يلزمهم من التحريف والتعطيل ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات وفرقوا بين المختلفات وكما تقتضيه المعقولات ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أنما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد. ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات. وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من وجود قديم غني عما سواه إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع وقد علم بالاضطرار أن المحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من موجد كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم، تعين أن لهم خالقا خلقهم. وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم: فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره. فلا يقول عاقل إذا قيل إن العرش شيء موجود، وأن البعوض شيء موجود: إن هذا مثل هذا؛ لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود، لأنه ليس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا وهو مسمى الاسم المطلق وإذا قيل هذا موجود وهذا موجود فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما. ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص واتفاقهما ولا نماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص. فقد سمى الله نفسه حيا فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، وسمى بعض عباده حيا؛ فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي} ، وليس هذا الحي مثل هذا الحي لأنه قوله الحي اسم لله مختص به وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا مشتركا بين المسميين، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق. ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته يفهم ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه -سبحانه وتعالى. وكذلك سمى الله نفسه عليما حليما وسمى بعض عباده عليما فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} يعني إسحاق، وسمى آخر حليما فقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} " يعني إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم. وسمى نفسه سميعا بصيرا فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} . وسمى بعض عباده سميعا بصيرا فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} ، وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير. وسمى نفسه بالرؤوف الرحيم فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} " وسمى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، وليس الرؤوف كالرؤوف ولا الرحيم كالرحيم. وسمى نفسه بالملك فقال: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} ، وسمى بعض عباده بالملك فقال: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} ، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِه} ، وليس الملك كالملك. وسمى نفسه بالمؤمن المهيمن، وسمى بعض عباده بالمؤمن فقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} ، وليس المؤمن كالمؤمن. وسمى نفسه بالعزيز فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} وسمى بعض عباده بالعزيز فقال {وقالت امرأة العزيز} وليس العزيز كالعزيز. وسمى نفسه الجبار المتكبر وسمى بعض خلقه الجبار المتكبر فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وليس الجبار كالجبار ولا المتكبر كالمتكبر ونظائر هذا متعددة. وكذلك سمى صفاته بأسماء وسمى صفات عباده بنظير ذلك فقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ، {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ، وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} . وسمى صفة المخلوق علما وقوة، فقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} ، وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، وقال: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْم} ، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} ، وقال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ، وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أي بقوة، وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} أي ذا القوة، وليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة. ووصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة، فقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، وقال: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} . وكذلك وصف نفسه بالإرادة وعبده بالإرادة فقال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . ووصف نفسه بالمحبة ووصف عبده بالمحبة فقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ووصف نفسه بالرضا ووصف عبده بالرضا، فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه. وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} ، وليس المقت مثل المقت. وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك فقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} ، وقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً} ، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد. ووصف نفسه بالعمل فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ؟} ووصف عبده بالعمل فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وليس العمل كالعمل. ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة، فقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} ، وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} ، وقال: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} ، ووصف عباده بالمناداة والمناجاة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} ، وقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} ، وقال: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَان} ، وليس المناداة والمناجاة كمالناجاة والمناداة. ووصف نفسه بالتكليم في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ، وقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} ، وقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} ، ووصف عبده بالتكليم في قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} ، وليس التكليم كالتكليم. ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة فقال: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} وليس الإنباء كالإنباء. ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم، فقال: {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، قال: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّه} ، وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ، وليس التعليم كالتعليم. وهكذا وصف نفسه بالغضب فقال: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ووصف عبده بالغضب في قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} . وليس الغضب كالغضب. ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في سبع مواضع من كتابه، أنه استوى على العرش، ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ، وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} ، وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ} وليس الاستواء كالاستواء. ووصف نفسه ببسط اليدين فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود: فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم، نظائر هذا كثيرة. فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته بخلقه. فمن قال: ليس لله علم، ولا قوة، ولا رحمة ولا كلام، ولا يحب ولا يرضى ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوى: كان معطلاً جاحداً، ممثلاً لله بالمعدومات والجمادات. ومن قال له علم كعلمي أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو رضاء كرضائي، أو يدان كيداي، أو استواء كاستوائي كان مشبهاً ممثلاً لله بالحيوانات؛ بل لا بد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. ويتبين هذا (بأصلين) شريفين. (ومثلين) مضروبين –ولله المثل الأعلى. و (بخاتمة جامعة) . والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب مع تعظيمه لشيخ الإسلام ابن تيمية ربما خالفه في بعض الفتاوى تجرداً عن التعصب، وميلاً إلى ما يعتقد بأنه أقرب إلى الصواب. والشيخ رحمه الله أكرمه الله بحماية دعوته من المعارضين والمعاندين من المبتدعة، والذين يتعلقون بالقبور ويتوسلون بالمقبور ويتحمسون للذود عنها، والدفاع عنها إغراقاً في الجهالة وإمعاناً في سبل الضلالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فبعد أن وجد من المعارضة والمتعلقين بالأضرحة والقبور أمثال ابن عرير حاكم الأحساء، الذي كان في وقته له هيمنة ونفوذ رأي على بعض حكام نجد، والذي حرض حكام العيينة على إبعاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومعارضته فيما يدعو إليه بعد كل هذا نزح من العيينه قاصداً الدرعية، فوصلها ونزل ضيفاً على محمد بن سعود، حاكم الدرعية وشرح له دعوته ومعارضة المعارضين فما كان من محمد بن سعود عليه رحمة الله إلا أن رحب به وعاهده على نصرة دين الله، والذب عنه، ونصرة التوحيد، وقد فوص الشيخ محمد بن عبد الوهاب في اتخاذ الطرق الإسلامية في نشر الدعوة والدعوة إليه، فانطلقت الدعوة من بلد آمنة بعد أن اطمأن الشيخ على أن الدعوة ستنطلق بقوة وثبات، مؤيده من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فانطلقت الدعوة مؤيدة من إمارة الدرعية بزعامة الإمام محمد بن سعود فواكبها النصر تلو النصر، واتسعت الدائرة بفضل من الله وتوفيقه، حتى جاوزت نجداً ومدنها، وقراها إلى الحجاز وعسير، ومن ثم إلى بلاد العالم الإسلامي حتى أصبحت بحمد الله مثار الإعجاب والقناعة التامة في كثير من البلاد الإسلامية والعربية. ويحسن أن أنقل لك أيها القارئ الكريم شيئاً من رسائل الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب تتعلق بتوحيد العبادة كتبها إلى أهل المغرب توضح حقيقة الدعوة وأدلتها الشرعية، والرد على من عارضها، قال قدر الله روحه ونور ضريحه: الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 (وأشهد) أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له (وأشهد) أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئاً، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً (أما بعد) فقد قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا وترك البدع، والتفرق والاختلاف فقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . والرسول قد أخر بأنه "أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع"، وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "للتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: "فمن"، وأخبر في الحديث الآخر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا من هي يا رسول الله، قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي". إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الإشراك بالله والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله. وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها، لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك ولا يقبل من العلم إلا ما كان خالصاً كمال قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصاً لوجهه، وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار فكذبهم في هذه الدعوى وكفرهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم، وذلك أن الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} . فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} ، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه} ، فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} ، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء بل "يأتي فيخر ساجداً فيحمده بمحاد يعلمه إياها، ثم يقال ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم يحد له حداً فيدخلهم الجنة". فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء. وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهجهم. وأما ما صدر من سؤال الأنبياء والأولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج والصلاة عندها واتخاذها أعياداً وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان"، وهو صلى الله عليه وسلم حمى جنات التوحيد أعظم حماية، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وثبت فيه أيضاً أنه بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، ولا تمثالاً إلا طمسه، ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القبب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه} ، فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وندعو الناس إلى إقام الصلاة في الجماعات على الوجه المشروع، إيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . فهذا هو الذي نعتقد وندين الله به، فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم له مالنا وعليه ما علينا. ونعتقد أيضاً أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين لسنته لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وصلى الله على محمد. وقد اطلع الشريف غالب حاكم مكة المكرمة وعلماؤها على ما كتبه الشيخ إلى الشريف وعلماء مكة المكرمة في بيان ما دعى إليه من توحيد الله وعبادته، وإنكار ما عليه الكثير من سواد المسلمين من تعلق بالقبور والمقبورين فأيدوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وكتبوا ما يلي: الحمد لله رب العالمين، نشهد -ونحن علماء مكة الواضعون خطوطنا واختامنا في هذا الرقيم- إن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 رحمه الله تعالى ودعا إليه أمام المسلمين سعود بن عبد العزيز من توحيد الله ونفي الشرك الذي ذكره في هذا الكتاب أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب، وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقاً ومصر والشام وغيرهما من البلاد إلى الآن من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب أنه الكفر المبيح للدم والمال والموجب للخلود في النار، ومن لم يدخل في هذا الدين ويعمل به ويوالي أهله، ويعادي أعداءه فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر، وواجب على إمام المسلمين والمسلمين جهاده وقتاله حتى يتوب إلى الله مما هو عليه ويعمل بهذا الدين. أشهد بذلك وكتبه الفقير إلى الله تعالى: "عبد الملك بن عبد المنعم القلعي الحنفي مفتي مكة المكرمة" عفى عنه وغفر له، أشهد بذلك وأنا الفقير إلى الله سبحانه "محمد صالح بن إبراهيم مفتي الشافعية بمكة" تاب الله عليه، أشهد بذلك وأنا الفقير إلى الله تعالى "محمد بن محمد عربي البناني" مفتي المالكية بمكة المشرفة عفا الله عنه وأصلح شأنه، أشهد بذلك وأنا الفقير إلى الله "محمد بن أحمد المالكي" عفا الله عنه، أشهد بذلك وأنا الفقير إلى الله تعالى "محمد بن يحيى مفتي الحنابلة بمكة المكرمة" عفى الله عنه آمين، أشهد بذلك وأنا الفقير إليه تعالى "عبد الحفيظ بن درويش العجيمي" عفا الله عنه، شهد بذلك "زين العابدين بن جمل الليل" شهد بذلك "علي بن محمد البيتي"، أشهد بذلك وأنا الفقير إلى الله تعالى "عبد الرحمن جمال" عفا الله عنه، شهد بذلك الفقير إلى الله تعالى "بشر بن هاشم الشافعي" عفا الله عنه. الحمد لله رب العالمين أشهد أن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعانا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز من توحيد الله عز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وجل ونفي الشرك به، هو الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإن ما وقع في مكة والمدينة سابقاً والشام ومصر وغيرها من البلدان من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب، أنه الكفر المبيح للدم والمال، وكل من لم يدخل في هذا الدين ويعمل بمقتضاه كما ذكر في هذا الكتاب فهو كافر بالله وباليوم الآخر، وكتبه "الشريف غالب بن مساعد" غفر الله له آمين "الشريف غالب". ما حرر في هذا الجواب، من بديع النطق وفصل الخطاب، وما فيه من الأدلة الصحيحة الصريحة المستنبطة من الكتاب المبين وسنة سيد المرسلين، نشهد بذلك ونعتقده ونحن علماء المدينة المنورة، وندين الله به، ونسأله تعالى الموت عليه، ونقول الحمد لله رب العالمين نشهد بأن هذا الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعانا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز من توحيد الله عز وجل ونفي الشرك هو الدين الحق الذي لا شك فيه، ولا ريب وإنما وقع في مكة والمدينة سابقاً والشام ومصر وغيرها من البلدان إلى الآن من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب أنها الكفر المبيح للدم والمال، وكل من لم يدخل في هذا الدين ويعمل به ويعتقده كما ذكر الإمام في هذا الكتاب فهو كافر بالله واليوم الآخر، والواجب على إمام المسلمين، وكافة المسلمين القيام بفرض الجهاد وقتال أهل الشرك والعناد. وكل من خالف ما في هذا الكتاب من أهل مصر والشام والعراق، وكل من كان على دينهم الذي هم عليه الآن، فهو كافر مشرك من موقعه ويمكنه في ذلك إزالة ما عليه من الشرك والبدع وأن يجعل رايته بالنصر خافقة إنه سميع مجيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 أشهد بذلك، وأنا الفقير بن حسين بالروضة الشريفة. وكتبه الفقير إليه عز شأنه "محمد صالح رضوان" شهد بذلك وكتبه "محمد بن إسماعيل" كتبه الفقير إلى الله عز شأنه حسن وعليه ختمهم. وقد وجدت هذا الكتاب القيم (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب –سلفية لا وهابية) مؤلفاً ينبغي الاهتمام به والمشاركة في نشره وتعميم الفائدة منه، كما وجدته حافلاً بالبطولات والمواقف الإسلامية لأئمة الإسلام والمجاهدين، أولئك الأعلام الذين سجل التاريخ عقيدتهم الإسلامية التي تلقوها من كتاب الله العزيز، وسنة رسوله المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم. وبالجملة فإن من أفضل القرب والجهاد في سبيل نصرة الإسلام طبع هذا الكتاب الجليل ومد يد العون لمؤلفه -جزاه الله أفضل الجزاء- وجعله من الدعاة المصلحين وصلى الله وبارك على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين. عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ المستشار في الديوان الملكي المملكة العربية السعودية -الرياض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الباب الأول: المد والجزر في حياة المسلمين ... المد والجزر في حياة المسلمين إن ديننا الإسلامي الذي أعلن عن كماله رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قرأ على الناس يوم عرفة قول الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . هذا الدين يجمع بين الحيوية التي لا نهاية لها، والنشاط الذي لا يدرك آخره، وقد استطاع أن يبني الإنسان الذي يترقى في الاستقامة والصلاح، ويقوى على مقاومة الانحراف والزيغ، ولما كان هذا الدين الإلهي العالمي خاتم، وكانت أمته هي آخر الأمم التي اختيرت لتبليغه للناس كافة، كان طبيعياً أن تمر في سيرها الطويل بمراحل عصيبة، وتواجه صراعات لم تواجهها أمة من الأمم، كل هذا لتمتحن في ذكائها وثباتها، وصلاحيتها للحياة، وبالفعل فقد ثبت نقلاً وعقلاً -والناس يشهدون- كيف استطاعت أمة الإسلام أن تخرج من جميع المعارك ظافرة منتصرة، وتغلب أبناؤها على جميع المشاكل والمؤثرات، والتقلبات التي لا تكاد تنتهي، ولا عجب في ذلك لأن الله -تبارك وتعالى- جعل في كتابه الكريم وسنة نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم رجالاً ينقلون تعالميه إلى الحياة، ويعيدون للمسلمين الشباب والنشاط، ويثيرون فيهم كوامن القوة للقضاء على الأوضاع الفاسدة الطارئة، وهؤلاء الرجال لا يخلو منهم عصر من عصور الإسلام، ولا يوجد مثلهم في أمة من الأمم، وهذا من حفظ الله تعالى لدينه الذي قدر له أن يواكب الدنيا حتى نهايتها، وهو القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ولو استعرضنا تاريخ الإسلام بشكل سريع من أول عهده حتى اليوم لوجدناه هدفاً لهجمات عنيفة، ومؤامرات خبيثة، لا تعرف الرفق، ولا ترضى إلا هدم بنيانه، ونسف أركانه، منها على سبيل المثال، الباطنية ومذاهبها، وهجوم التتار والصليبيين مروراً بتحرف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وظهور البدع، وتسرب الأعمال الشركية، وتفشي أعمال الجاهلية، وفتن الإلحاد والزندقة، ولكن الإسلام طوى هذه المحن وأهلها تحت جناحيه، فكانت كأمس الذاهب، وسحق إلى المعالي، وقام رجاله الأقناء بفضح المحرفين والمنحرفين، والمتآمرين، ونفضوا الغبار والخرافات بالدعوة، وصدعوا بالحق الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فشق الإسلام طريقه من جديد إلى أسماع القلوب، وفتح عقولاً في ميادين العلم والحكمة والحياة. وقد ملك رجال الإسلام النوابغ الإيمان بالقوي، والسمو الروحي، والنزاهة عن الأغراض، والتفاني في خدمة الدعوة إلى الخير، فكانوا بهذه الصفات أشبال هذه الليوث التي قام الإسلام في عهده الأول على أكتافهم، والدارس لتاريخ المسلمين عامة، يرى أن حياتهم بين المد والجزر، فإذا أهملوا واجبهم الشرعي ضعف الإيمان في قلوبهم، ودب الوهن في أوصالهم، فتفرقاً طرائق قدداً، وذهبت ريحهم، ولم يستطيعوا مقاومة الفتنة، وأصبحوا كغثاء السيل، فإذا قيض الله تعالى لدينه مجدداً يدعو العباد إلى الخير، ويوقظهم من غفلتهم ويوجههم إلى الدين والعلم، وضح لهم الطريق، واستنار السبيل، وقامت الحجة، وراجت سوق الجنة، كل ذلك بتأثير العاملين المخلصين، وصدقهم وحسن تمثيلهم للإسلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ومعرفتهم بالأخطار الجارفة المحيطة بالأمة، وغيرتهم على إنقاذها من الأدواء الخلقية والاجتماعية ... ويعلم الله عز وجل أن الأمة الإسلامية رأت أياماً حالكة السواد، ورياحاً هوجاً ربما لم ترها أمة من قبل ولا من بعد.، ولكن الله سلم. لقد ظهرت المحن في حياة المسلمين، واختفت بفضل الله عز وجل، ثم بجهد الدعاة المصلحين، وقد تحطمت جميع الحركات الهدامة، والموجات العارمة من الشرور والمفاسد، ثم بقي الإسلام هو الإسلام كما أنزله الله عز وجل، ولقد رد أبناء الإسلام على مؤامرات الخوارج والمعتزلة والباطنية، وتصدوا لموجات الشر يوم أن "رمانا الشرق بدواهيه، وساق إلينا جيوش التتر تحط على بلدان الإسلام العامرة، كما تحط الجرد على الحقل الزاهر، فلا تدع من مظاهر العمران إلا ما يدع الجراد من البوار والخراب". أبادت الممالك، وهدمت العروش، حتى بلغ هولاكو عرش الخليفة في بغداد، فذبح الخليفة وهدم العرش، وترك بغداد العظيمة حاضرة الدنيا خرائب وأطلالاً، ثم ساح في الأرض لا يرده شيء، وحسب الضعفاء أنها نهاية الإسلام، فإذا الإسلام يطوي أعداءه.. ويدخلهم في رحابه ويظللهم برايته، ويجعلهم جنداً له وأعوانا، وتنسى المصيبة حتى لا يدري اليوم أكثر الناس ما خبر التتار؟ ويوم القرامطة الذين هزموا جيوش بغداد، وعدوا على الحجاج فذبحوهم ذبح النعاج، واستلو الحجر الأسود، فمن يعرف اليوم ما قصة القرامطة؟ ومن يذكر القتلة الحشاشين من الباطنية، والوحوش السود من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أتباع صاحب الزنج؟ والمئات من أعداء الإسلام الكبار الذين كانوا أشد قوة وأعظم نكالاً، فلم يعد يدري خبرهم أحد؟ 1. ولقد واجه عالمنا الإسلامي هجمات كثيرة، ما أن يشعر المسلمون بواحدة منها حتى يلجأوا إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيستمدوا من روح الإسلام قوة تقاوم هذا الزحف، وتجرفه إلى سلة المهملات في زاوية التاريخ، ولا ننسى أوربا يوم رمتنا بجيوشها الصليبية، فتصدى لها المسلمون، وانتهت الحروب الصليبية بهزيمة منكرة للكافرين، ونصر ساحق للمسلمين الذين انتزعوا معاقل الصليبيين، وقامت بعد ذلك قوة إسلامية ممثلة في الخلافة العثمانية2 التي ذبت عن حياض الإسلام قروناً كثيرة، وتوالت خطواتها من نصر إلى نصر حتى في قلب أوربا، كل ذلك بسبب اتباع دين الحق بإيمان وصدق، ثم دب في النفوس حب الدنيا وكراهية الموت، وأخلد الناس إلى الترف والدعة3، وتناسى أكثرهم واجبهم الديني، عندما جمع أعداء الإسلام فلولهم لتحقيق رغبتهم في تمزيق عالم الإسلام، واحتوائه، واستخدموا لهذا الغرض جميع الدسائس والمؤامرات، وعملوا بين صفوف المسلمين بالوقيعة، وإثارة   1 هتاف المجد –الشيخ علي الطنطاوي- الطبعة الأولى 1379هـ، صفحة ص 145، الناشر دار الدعوة –دمشق. 2 ظهرت دولة بني عثمان عام 699 هـ، 1300م، أشبة ما تكون بالدولة الأموية في جهادها وفتوحها وذلك في أول عهدها. 3 لقد دب في الأتراك داء الأمم من قبلهم: الحسد والبغضاء واستبداد الملوك وجورهم، وخيانة الأمراء وغشهم للأمة، وأصيبوا كذلك بداء الجمود في العلم والصناعة وتنظيم الجيوش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الاختلافات من خلال الجمعيات والإرساليات، وأذكوا القوميات، وزرعوا الأحقاد بين العناصر في الدولة الإسلامية الواحدة، كل ذلك للوصول إلى هدفهم في ضرب معاقل الإسلام، وتمزيق أمته، وبدأ العد التنازلي لدولة الخلافة بعد أن وصلت إلى ذروة مجدها، ودب الضعف في أوصالها، وتنفس الشيطان من جديد في ربوع العالم الإسلامي بغياب العلم النافع والوعي السياسي، فتفشى الاستبداد لدى الوزراء، ورؤساء الجيش الإنكشاري الذين لا يعرفون عن السياسة شيئاً، وفوق ذلك فقد انشغل السلاطين بالملذات، وأهملوا شؤون العامة، واهتموا بأمورهم الشخصية، وأساء ولات الأمور في أقاليم الخلافة الواسعة إداراتهم، ولم يهتموا بواجبهم تجاه الشعوب الإسلامية. ومما زاد الحال سوءاً التدهور العسكري، وتألب الدول الأوربية على دولة الخلافة الإسلامية، والتخطيط للاستيلاء على بلاد المسلمين، وتيقن الصليبيون أن عوامل الضعف دبت في صفوف المسلمين في الداخل وعلى الحدود، ومن هنا فقد عم الانحراف السياسي والاقتصادي والاجتماعي بسبب الانحراف، عن تعاليم الدين الحق، والعقيدة الصحيحة يقول العالم الأمريكي "لوثروب ستودارد" عن الحالة التي وصل إليها الدين عند أهل ذلك الزمان: "وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة "صلى الله عليه وسلم" الناس أستاراً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت (أكثر) المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الجهلاء ... يوهمون الناس بالباطل والشبهات ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من أصحاب القبور1". وبما أن (نجد) بقعة من العالم الإسلامي فقد أصابها ما أصابه، وجرفها تيار الانحراف عن الدين الإسلامي الصحيح، من شرك وبدع وخرافات. وبالرغم من هذا التدهور، فإن الشعوب الإسلامية لا تعدم من توجد عنده الرغبة الصادقة في إصلاح هذا الفساد، تحقيقاً لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" 2، عند ذلك طلعت شمس الهدى والرشد من واد غير ذي زرع، ورمال الأرض العربية التي كانت قد اشتهرت بطيب العرار والخزامي قد فاح فيها طيب التوحيد من جديد، وعلت كلمة الحق حتى عطرت العالم بأسره، تنادي بالعودة إلى الإسلام ويسره، والاستمداد من نبعه الصافي، فتدلى الثمر وطاب بدعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ابن نجد من جزيرة العرب، هذه البقعة الواسعة التي تغنى بها الشعراء وذكرها المحدثون، لما لها من مكانة خلدتها في نفوس البشر الأدباء والمؤرخين أحداث وأحداث ... ولم يذكر الشعراء موضعاً   1 رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب –تأليف محمد بن عبد الله السلمان ص 31. مطابع دار طيبة –الرياض. وانظر أيضاً: حاضر العالم الإسلامي (ترجمة عجاج نويهض) 4-ص34. 2 حديث صحيح رواه أبو داود والحاكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 أكثر مما ذكروا نجداً1 وتشرقوا إليها، وقالوا فيها أعذب وأمتع المعاني التي تزكى الأحاسيس وتطرب النفس. وإليك ما قاله أحد الأعراب: أكرر طرفي نحو نجد وإنني ... إليها وإن لم يدرك الطرف أنظر حنيناً إلى أرض كان ترابها ... إذا أمطرت عود ومسك وعنبر بلاد كأن الأقحوان بروضه ... ونور الأقاحيس وشيء برد محبر أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي ... خيام بنجد دونها الطرف يقصر وما نظري من نحو نجد بنافع ... أجل ولكني إلى ذاك أنظر   1 ليس من السهل فهم جغرافية العرب وخاصة نجد، لأنه لا يوجد هناك تقسيم قبل هذا العصر للولايات والإمارات، وبالإجمال فإن نجد منقسمة إلى ثلاث نواح كبيرة: 1- الناحية الشمالية الغربية وتسمى شجرون، مدنها الشهيرة: حائل-والقصر. 2- الناحية الشمالية الشرقية وتسمى القصيم، ومن مدنها الشهيرة: عنيزة –بردية. 3- الناحية الجنوبية وتسمى العارض، ومن أشهر بلادها الرياض، وتسمى ناحية العارض (بجبل اليمامة) أيضاً، وهذا في الأصل اسم للجبل والناحية التي تقع حولها تسمى (وادي حنيفة) أو "اليمامة" وتقع مدينة العينية مسقط رأس الشيخ محمد، والدرعية مركز دعوته في هذا الوادي، وهي كالقلب في نجد: للمزيد من التفاصيل راجع دائرة المعارف الإسلامية ج3 ص893-96.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أفي كل يوم نظرة ثم عبرة ... لعينيك مجرى مائها يتحدر متى يستريح القلب إما مجاور ... بحرب وإما نازح يتذكر1 وقال أعرابي آخر: رأيت بروقاً داعيات إلى الهوى ... فبشرت نفسي أن نجداً أشيمها ألا حبذا نجد ومجرى جنوبه ... إذا طاب من برد العشي نسيمها وقال أعرابي آخر: ألا يا أيها البرق الذي بات يرتقي ... ويجلو ذرى الظلماء ذكرتني نجدا ألم تر أن الليل يقصر طوله ... بنجد وتزداد الرياح به بردا وقال نوح بن جرير بن الخطفي: ألا قد أرى أن المنايا تصيبني ... فمالي عنهن انصراف ولا بد   1 معجم البلدان –ياقوت الحموي ج5 ص262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فذا العرش لا تجعل ببغداد منيتي ... ولكن بنجد حبذا بلداً نجد بلاد نأت عنها البراغيت والتقى ... بها العين والآرام والعفر والربد وقدم بعض أهل هجر إلى بغداد فاستوبأها وقال: أرى الريف يدنو كل يوم وليلة ... وازداد من نجد وصاحبه بعدا ألا أن بغداد بلاد بغيضة ... إلي وإن كانت معيشتها رغد بلاد تهب الريح فيها مريضة ... وتزداد خبثاً حين تمطر أو تندى1 وقال آخر: فيا حبذا نجد وطيب ترابه ... إذا هضبته بالعشي هواضبه وريح صبا نجد إذا تنسمت ... ضحى أو سرت جنح الظلام جنائبه   1 جريدة أم القرى العدد (8) 5/7/1343هـ الموافق 30/1/1924م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وأشهد لا أنساه ما عشت ساعة ... وما إنجاب ليل عن نهار يعاقبه ولا زال هذا القلب مسكن لوعة ... يذكراه حتى يترك الماء شاربه1   1 حلم في نجد.. علي الطنطاوي ص 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الباب الثاني: الإسلام يتحدث عن ذاته بأبطاله في التاريخ ... الإسلام يتحدث عن ذاته بأبطاله في التاريخ إن الإسلام العظيم قدم لأمته المنهاج الذي رسمه الله تعالى، ولخص تكاليفها التي نيطت بها، وقرر مكانتها، وبين الوسائل التي تمكنها من الثبات والنصر في الماضي والحاضر والمستقبل متى نهضت بها، واستقامت على الدين الذي أراده الله تعالى لها، حيث خاطبها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج) . بهذه العدة تسد الأمة، وتملك النهوض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها لها الله تعالى، ولما كان القرآن الكريم هو أساس الإسلام ودستوره، فقد حدثنا أن الصدق مع الله تعالى والإخلاص له يصنعان المعجزات، والأخيار من عباد الله موصوفون بالصدق، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة) ، فما أجمل الصدق بداية وغاية لأنه صنع الإيمان، وأعاد بناء الإنسان، فكان محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه خير قدوة تحتذى. وإننا اليوم أشد احتياجاً إلى أن نصدق في نياتنا وأعمالنا، لعلنا ندرك الصفة التي وصف بها رب العزة والجلال صفوة خلقه فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب) . هؤلاء الرجال حثهم القرآن الكريم على البذل والعطاء في سبيل الله تعالى، ووعد بقبول الفداء الصادق المستقيم الخاص، وضمن لأصحابه عاجل الثواب وآجله، وزاد المعنى وضوحاً فوجه إلى مضاعفة الجهود فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت) ، وأرشدهم إلى أن طريق الجهاد ليس مفروشاً بالورود والرياحين، وإنما هو طريق شاق له متاعبه وتبعاته، ولكنه طريق المجد والشرف، وبه تنال سلعة الله تبارك وتعالى في النهاية، قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء) . وأكد لهم القرآن الكريم أن صدقهم وإقدامهم وتضحيتهم في سبيل الله تعالى ما هو إلى صفة مباركة يعقدها الله سبحانه مع عباده الصادقين فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة) . ثم يعود القرآن فيرسم للمؤمنين طريق هذه الصفقة، ويصورها بصورة أخرى رائعة، ويوضح لهم فيها الثمن، ويبين ثمارها القريبة والبعيدة، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الصف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ويجزم القرآن بتأكيد الوعيد الإلهي الصادق المحقق للعالمين الصادقين والمجاهدين الباذلين فيقول: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (محمد) . وأعطاهم نماذج باهرة للذين سبقوا في تاريخ الإسلام قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم من هذه النماذج ما قام به إبراهيم الخليل عليه السلام حين وقف بمفرده في وجه الطغيان الاعتقادي والسفه الوثني، فكان الله تعالى معه لأنه آثر أن يكون مع الله جل وعلا: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (الأنبياء) . ولم يكن هو النموذج الوحيد، وإنما النماذج كثيرة جداً، فهناك الأنبياء عليهم السلام مع أممهم، وهناك السحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام، وأصحاب الأخدود، ومؤمن آل فرعون، ولن تقف مسيرة الصادقين من عباد الله على طريقة الإسلام والمسلمين حتى يبلغ الكتاب أجله ويقضي الله أمراً كان مفعولاً، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الباب الثالث: مفهوم البطولة في الإسلام ... مفهوم البطولة في الإسلام إن تاريخ الإسلام زاخر بأحداث البطولة التي امتدت عبر مراحله المتصلة دون توقف، وهي في صورها القريبة لا تنفصل في مفهومها عن صورتها الأولى، وكلها تستمد وجودها من مفهوم أساسي واضح، هو القيام بدور يدفع الأمة الإسلامية نحو تحقيق أهداف الإسلام الكبرى. وتتسم البطولة في الإسلام بطابع علمي إيجابي، ومن هنا كان البطل في الإسلام دائماً خادماً لمجتمعه وفكرته وأمته، يؤمن حق الإيمان بأن عمله مقدور في ميزان العمل الصالح عند الله تعالى ثم عند المؤمنين، على تعاقب الأجيال. ومن هنا فهو لا يتطلع إلى الجزاء المادي أو المغنم أو الشهوة. فتحقيق العبودية الصادقة جعل من القلة المؤمنة في غزوة بدر قوة رهيبة قهرت عظائم الأحداث، وأصبحت قانوناً خالداً ينظم حياة المسلمين على أصول الرسالة الخاتمة، ويضيء أرواح وعقول الرجال المسلمين على مر العصور بالعبر المنهجية، فالصدق والإخلاص في العمل لله وحده لا شريك له يفتح بصيرة المجاهدين حتى يروا ما أعد الله تعالى للشهداء في سبيله، وهم بعد أحياء يمشون على الأرض. وجاءت غزوة أحد، فكانت إصابات المسلمين في أنفسهم، وفي جراحات النبي صلى الله عليه وسلم أعظم درس تربوي ممحص للمسلمين، ليعرفوا وخيم عاقبة مخالفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفة أمره عموماً، وخاصة إذا علموا أنهم مختارون ليكونوا حملة الإسلام إلى الناس في أقطار الأرض، لذلك بين لهم خطورة الاختلاف وحب الدنيا وإرادتها، وأن ذلك هو السبب فيما حل ويحل بالمسلمين، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران) . نعم، لقد نصرهم الله تبارك وتعالى على عدوهم إلى أن كان منهم الفشل والتنازع وعصيان بعضهم لأمر القائد صلى الله عليه وسلم، عند ذلك تبدل النصر إلى هزيمة، لأن الله تعالى إنما وعد المؤمنين النصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة، وفي هذا إيماء إلى سنة من سنن الله عز وجل في أخلاق البشر وأعمالهم على المستوى الفردي أو الجماعي، وهي أن المصائب التي تعرض للمسلمين في خاصة أنفسهم أو في شؤونهم العامة إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، ولكن الله تعالى قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها في النفس، وليست ملكة ولا عادة لها، بل صدرت هفوة غير متكررة، وهي التي عناها سبحانه وتعالى بقوله: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (المائدة: 15) . فينبغي أن نأخذ من أحداث غزوة أحد وابتلاءاتها عبراً تنفعنا إلى آخر الدهر، خاصة إذا استعرضنا التجربة التي مر بها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأيناهم يخرجون من محنة أحد بإيمان قوي، وعقيدة راسخة وشجاعة فذة، وعزيمة حازمة، وثقة بالله لا يوازنها شيء، وكانت سراجاً أضاء الطريق أمامهم في سيرهم برسالتهم، وجعلتهم يضربون المثل الطيب والأسوة الحسنة في مواقفهم الكثيرة، وحرصهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 على طاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتزامهم أمره صلى الله عليه وسلم حتى آخر رمق في حياتهم ابتغاء مرضاة الله تعالى والشوق إلى جنته. وقد خلد لنا الإسلام سلاسل مضيئة من أعلام رجالنا الكرام، كان لهم النصيب الأوفى من البطولة والفداء والصدق والوفاء، ونزداد إعجاباً بأولئك السابقين من أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام، حيث نجد أحدهم يذوب خشية وعبادة لربه سبحانه في محرابه كأنه لا شغل له سوى التعبد والتهجد، فإذا نادى المنادي: حي على الجهاد، نقل محرابه إلى الميدان وجاهد في سبيل ربه خير جهاد، ثم بذل جهوده هنا وهناك في مسالك الحياة وشعابها صالحاً مصلحاً، راغباً في أن يكون عند الله من المقبولين، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (الواقعة) . وقد عرف تاريخ الإسلام أبطالاً قاموا بأدوار على قدر عظيم من الأهمية دون أن يكشفوا عن شخصياتهم، أو يبوحوا بأسمائهم، وقد سجل التاريخ هذه المواقف تحت أسماء مجهولة، ومن هؤلاء صاحب النقب، هذا البطل الذي استطاع أن يفتح ثغرة في سور دمشق بعد أن حاصرها المسلمون طويلاً وحاولوا مرات، غير أن هذا البطل الذي لم يعرف التاريخ اسمه، ولم يكشف هو عن شخصيته، اندفع على رأس فرسه وسهام العدو تنوشه من كل مكان دون أن يتوقف أو يرتد، حتى بلغ الجدار فأحدث فيه ثقباً، ثم اخترقه إلى داخل السور وكبر، فكبر المسلمون وعبروا إليه، فلما انتهت الموقعة ظن قائد الجيش محمد بن مسلمة أن صاحب النقب سوف يتقدم إلية دون جدوى، هنالك نادى في الجيش أن يتقدم، فلم يتقدم أحد، ووعد ثم هدد، وبينما هو جالس في خيمته تقدم منه رجل فقال له: أيها القائد، هل تريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 أن تعرف صاحب النقب. قال: نعم، قال: أنا أدلك عليه إذا أعطيتني العهد على أن لا تسألني عن اسمي، فقال القائد محمد بن مسلمة: لك عهد الله على أن لا أسألك عن اسمك، قال: أنا هو، وانطلق خارجاً من خيمة القائد ينتظر حسن الثواب من الله تعالى يوم يقوم الحساب، ولم يتطلع إلى الحظ العاجل وإذاعة أخباره واسمه، وهذا الصنف الكريم يجلي لنا العبر، ويعطينا الموعظة الحسنة، لنعتبر بأن الله تعالى وحده هو الذي يجزي على العمل، وقد وضح لنا هذا المعنى عندما أقبل وباء المرتدين المجرمين بقيادة مسيلمة الكذاب، وخرج جيش الإسلام ليرد ذلك الطوفان، وكان فيه البراء بن مالك الأنصاري1 رضي الله عنه ولم تكن المعركة يومها سهلة ولا ميسرة، واشتد القتال بين المؤمنين والباغين، وهناك رفع البراء بن مالك صوته ينادي في المجاهدين: "يا أهل المدينة، لا مدينة لكم بعد اليوم، إنما هو الله والجنة"، أي لا تذكروا في هذا الموطن أنفسكم ولا أهليكم ولا بلدكم، بل اجعلوا كل همكم أن تنصروا الله ربكم جل جلاله، وأن تأخذوا الطريق إلى جنته عن طريق الجهاد في سبيل دينه ودعوته. فالبطولة الإسلامية لم تكن الإعلان والشهرة، وإنما هي التماس رضا الله عز وجل، وتحرير العمل لوجه الله تعالى وإخلاصه للحق وحده. يذكر لنا التاريخ هذه البطولة التي صنعها الإسلام إخلاصاً لله عز وجل وهي: أن رومانوس أمبراطور الدولة البيزنطية، أقبل بجيش يضم مائتي ألف مقاتل، وقيل ستمائة ألف مقاتل، يقوده بنفسه، ومعه البطارقة، يريد أن يقضي على   1 هو البراء بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر الأنصاري النجاري المدني، البطل الكرار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخو خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المسلمين -بزعمه- ويزيل ملكهم وينفي جمعهم ويدوس رايتهم، وسرعان ما علم "ألب أرسلان" قائد المسلمين آنذاك بالخطر الزاحف على المسلمين، وأدرك أن لا مفر من الجهاد، فجمع أهل مشورته وقال لهم: تعلمون من أنباء زحف رومانوس وجيشه اللجب، ولقد حاولت أن أثنيه عن عزمه بكل المغريات من مال وممتلكات، أحب أن أضعها بين يدي رومانوس على أن لا يظفر بنا فيهلك جمعنا على القتال، وسأخرج لتوي بكفني وحنوطي، فمن رغب عن الجهاد فدونه المسالك فليسلك أيها أقرب إلى نجاته، ومن رغب في لقاء الله عز وجل، فليتحنط وليلبس كفنه وليلحق بي لملاقاة رومانوس1. وما هي إلا ساعة حتى كان ألب أرسلان يمتطي جواده ووراءه خمسة عشر ألف جندي، قد تكفنوا جميعاً بقماش أبيض، وقد فاحت منهم رائحة الحنوط، ينتظرون وصول جيش رومانوس أرض المعركة2، وتمر سويعات ثقيلة متباطئه لم يلبث أن يتطاير عن بعد غبار ينبئ بوصول رومانوس، فتتعالى أصوات المسلمين الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله صدق وعده ونصره عبده وهزم الأحزاب وحده، ويفاجأ رومانوس وقادة جيشه بالذي رأوه وسمعوه، ويلقي الله الرعب في قلوبهم، إذ لا يرون أمامهم إلا كتلة واحدة بيضاء، يتعالى تكبيرها إلى عنان السماء. وتحتدم المعركة بين الجيش المكفن المؤمن، وبين الجيش اليبزنطي اللجب   1 يقول ابن كثير رحمه الله عند ذكر الواقعة: أقبل ملك الروم رمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والكرخ والفرنج وعدد عظيم وعدد، ومعه خمسة وثلاثون ألفاً من البطارقة، مع كل بطريق مائتا ألف من فارس. (راجع بتوسع، البداية والنهاية/ 100-1-10-106-107) . 2 كان ذلك سنة 465هـ الموافق 1072م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الجرار، ويتدافع المسلمون بأكفانهم يطرقون أبواب الجنة بجماجم الكفارين من جنود بيزنطة، وسالت الدماء أنهاراً، وتطايرت الرؤوس بلا حساب، وشرعت أبواب الجنة تستقبل المؤمنين، وشرعت أبواب جهنم تستقبل الكافرين، وتطلب المزيد ... وما كاد النهار أن يستكمل دورته حتى هدأ ضجيج المعركة، وارتفع في الأجواء صوت المنادي ينادي: أبشروا يا جند الإسلام لقد أسر رومانوس. فتعالت إذ ذاك أصوات المسلمين الله أكبر الله أكبر، وإذ فرغ ألب أرسلان وجنده من أداء ركعات شكر لله عز وجل، على نصره وتأييده، التفت إلى بعض جنده، وقال لهم: إلي برومانوس، وجيء برومانوس مشدود الوثاق مكبلاً بالأصفاد، فقال له ألب أرسلان: يا رومانوس، ألم أعرض عليك المال والأرض والممتلكات لتكف عن أذى الإسلام وحرمات المسلمين ... ؟ قال رومانوس: بلى. قال القائد المؤمن: فلم لم تقبل؟ قال رومانوس: ظننت أني سأقضي على جيشك، وأسحق دولتك. قال القائد المؤمن: أما وقد أخزاك الله يا رومانوس، ما تظن أني فاعل بك ... ؟ قال رومانوس: إن شئت فاقتلني، وإن شئت جرني بالسلاسل، وإن شئت تقبل فديتي وتعفو عني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وأطرق القائد المسلم قليلاً ثم قال: يا رومانوس، أتعاهدني إن عفوت عنك ألا تقاتل بعد اليوم مسلماً أبداً. قال رومانوس وقد دمعت عيناه بعد أن أدرك أنه نجا من موت محقق: لك عهدي يا قائد المسلمين. وقام ألب أرسلان ففك قيود أسيره بيديه، وقال له: ستوصلك جنودي إلى مأمنك يا رومانوس، ولقد أمرت لك بخمسة عشر ألف دينار تستعين بها على وصولك، وحقق الله عز شأنه للمجاهدين المخلصين ما وعدهم بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة) . وهكذا نرى البطولة والانتصار يخدمان قضية الإسلام وهدف الدعوة إليه، ولا يقل عمل المصلحين الذين يصححون المفاهيم المنحرفة عن المجاهدين الذين يردون كيد الأعداء، ويحمون بيضة الدين، ويتساوى في الإسلام مداد العلماء ودم الشهداء، ولقد كان تاريخ الإسلام قائماً دائماً على القدرة المتجددة في أن يبعث البطل الذي يقود المعركة، ويواجه الأزمة، وكلما تجمعت التحديات في وجه المسلمين برز القائد العالم المجاهد الذي يحمل اللواء، ويقود الجماعة في معركة مقاومة، سلاحها المصحف والسيف، وكانت الأحداث والأزمات دائماً قادرة على أن تدفع المسلمين إلى الوحدة والتجمع تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى يحقق الله عز شأنه لهم النصر. ولقد عرف التاريخ الإسلامي عدداً من النكسات، ولكنها كانت كلها مقدمات لنصر كبير ظافر، وقد كانت جماعة الموحدين المخلصين دائماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قادرة على مواجهة الخطر مهما بلغ من الشراسة والعنف بالاعتصام بحبل الله عز وجل والتضحية. ولقد رسم القرآن الكريم صورة البطولة وجعلها في مواجهة المسلمين، لتكون العبرة قريبة منهم. وكل الأبطال الذين عرضهم القرآن أبطال مقاومة لا يستسلمون ولا يحنون الرؤوس للظلم والانحراف والطغيان، ومن هنا عجزت قوى الكفر عن أن تقتلعهم أو تنتصر عليهم، وكانت المقاومة عند هؤلاء المسلمين إيماناً في أعماق القلب، وسلاحاً في اليد، يعملان معاً في يقين راسخ بأنهم أصحاب أمانة إلهية ودعوة ربانية، ولقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو المثل الكامل للبطل الإسلامي، وكانت حياته صلى الله عليه وسلم موضع القدوة لكل الأجيال الإسلامية المتلاحقة، والرجال الذين تربوا على يديه كتبوا صفحات بارعة من المجد التليد، وظلوا رضي الله عنهم موضع إعجاب الأجيال الإسلامية المتوالية، وكانوا قدوة حسنة تقتدي بها الأجيال اللاحقة، ومن ثم اتصلت في تاريخ الإسلام روح البطولة والتضحية والموت من أجل الحياة الإيمانية، وكانت مقاومة الظلم والانحراف هي أبرز صفحات الجهاد في مواجهة كل باغ وظالم ومعتد على الإسلام وأهله، ولقد استمد المجاهدون الأبطال من الرسول صلى الله عليه وسلم أبرز مفاهيم البطولة حيث جمعوا بين بطولة الفكر، وبطولة الجهاد، فقد كان العلماء العاملون كلهم قادة معارك يحملون السلاح في مواقف الجهاد، ولو لم يعيشوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر خلفائه الراشدين، ولا في عصر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يكن عجيباً أن نرى في تاريخ أمتنا الإسلامية أناساً تجردوا لله عز وجل فتألق نجمهم في مجتمعهم بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 عصر النبوة بنحو مائة وخمسين عاماً، وكان موضع تألقه بعيداً عن منزل الوحي ومهبط الرسالة، كان هناك في شمال أفريقيا، ومع ذلك بقي الإسلام يمده بالإيمان المشرق، ويرشده إلى منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصده تأخر الزمان ولا بعد المكان عن الإسهام الرائع في بناء مجتمعه على أساس الدين والعلم، والإعداد والربط بين الدرس وجهاد النفس، ذلكم هو الإمام العالم أسد بن الفرات1 الذي جمع الله تعالى له الإمارة والقضاء، وكان يقال له من أجل ذلك: القاضي الأمير، الذي جمع بين العلم والعمل، وبين الفقه والجهاد، وسعى في الدنيا ليربح الآخرة. ولقد أكرم الله تعالى أمتنا الإسلامية بعلماء كثيرين جاهدوا بلسانهما وسنانهم وإيمانهم وقلمهم، منهم الإمام ابن تيمية الحراني رحمه الله الذي ولد في حران2، وهي مدينة مشهورة على طريق الموصل والشام والروم، من أسرة ذات علم ودين، فأبوه وجده كانا من كبار علماء الإسلام، وقد ارتحل به والده في طفولته إلى دمشق بسبب غارات التتار المخربة على بلاد الإسلام، وهناك نشأ نشأته الإسلامية العلمية القرآنية الحديثية الفقهية العربية، القائمة على أسس من طهارة الأنساب وتقوى الآباء وصفاء البيئة الشامية والاستعداد الطيب لخدمة الإسلام   1 الإمام العلامة القاضي الأمير مقدم المجاهدين أبو عبد الله الحراني ثم المغربي، مولده بحران سنة أربع وأربعين ومائة، ودخل القيروان مع أبيه في الجهاد، وكان أبوه فرات بن سنان من أعيان الجند. وكان أسد رحمه الله مع توسعه في العلم فارساً بطلاً شجاعاً مقداماً ... سير أعلام النبلاء الجزء العاشر 2251 بتصرف شديد. 2 هي اليوم من مدن تركيا، فتحت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على يد عياض بن غنم رضي الله عنه وإليها ينسب جماعة كثيرة من أهل العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وعلومه، وكان ذكياً حاضر الذهن قوي الذاكرة بصورة باهرة، وكان يجادل ويحاور وهو صغير، وبدأ الإفتاء قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وكان خبيراً بعلوم الحديث والتفسير والفقه واللغة1، والغوص في دقائق المعاني، وأتقن دراسة المذاهب الفقهية، يقول عنه ابن فضل الله العمري: "كان أمة وحده، وفرداً حتى نزل لحده"، وقد ازداد ابن تيمية رحمه الله تعالى على مر الأيام صلابة في دينه، وقوة في يقينه، ولا عجب فهو أشهر الأتباع للإمام المجاهد المحتسب الجليل أحمد بن حنبل رحمه الله الذي احتمل ما لا يحتمله سواه من الأذى في سبيل الاستمساك بعقيدته في كلام الله العزيز وقرآنه المجيد، وكان ابن تيمية رحمه الله متيقظاً شهماً شجاعاً لا يفتر عن الأعداء ليلاً ولا نهاراً، بل هو مناجز لأعداء الإسلام وأهله، ولم شعثه واجتماع شمله، أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عوناً ونصراً للإسلام وأهله، وشوكة في حلوق المارقين من الفرنج والتتار والمشركين، فأبطل الخمور، ونفى الفساق من البلاد، وكان لا يرى شيئاً من الفساد والمفاسد إلا سعى في إزالته بجهده وطاقته، وتصدى لمقاومة الفتن، وخاطب عقول الجماهير، وتبنى مهمة الرد على الفرق والملل غير الإسلامية، وقاوم عقائدها وتقاليدها وتأثيرها، وبعث الفكر الإسلامي الصحيح، وجدد العلوم الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة، وما صح عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونقد بشدة الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وفضح البدع والمنكرات وعبادة القبور السافرة المؤيدة من بعض المشايخ، والاستخفاف بشعائر الله عز وجل، وتصدى لأصحاب المشاهد ووقاحة جرأتهم وشركهم، ورفع رحمه الله تعالى لواء تجديد التوحيد، ومنع الاستغاثة   1 البداية والنهاية 14/137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 بغير الله عز وجل، وشرح عقيدة الإسلام الصحيحة، وقام بمسؤولية ورثة الأنبياء عليهم السلام في عصره، وعمل بمصداق قوله جل وعلا {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر) . فكان عمله رحمه الله وجهاده دليلاً على ما خصه الله به من مكانة عالية في مجال الإصلاح والتربية والدعوة والتجديد، وقد وجد بتأثير كتاباته ومؤلفاته رجالاً من أهل الدعوة والتربية بين حين وآخر ممن رفعوا راية الجهاد ضد تقاليد الوثنية الجاهلية بكل صدع وإعلان، وارتفع صوت القرآن مدوياً عالياً: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر: 3) فارتجع العالم الإسلامي وتجاوبه السهل والجبل، وعاش هذا الإمام أكثر سنوات حياته متاعب في سبيل الله عز وجل، وترك لأجيال المسلمين دائرة معارف أو مكتبة تضمنتها مجموعة فتاويه التي تحتوي على (37) مجلداً، نشرتها المملكة العربية السعودية، فترى في كتبه حقائق علمية وبحوثاً نقدية، ومباحث أصولية، تشق طريقاً جديداً لفهم الكتاب والسنة، وتفتح باباً فريداً إلى إدراك مقاصد الشريعة الربانية. وكانت في الإمام ابن تيمية رحمه الله صفة بارزة رفعت من شأنه وأعزت من مكانته، وهي صفة الثبات على العقيدة الاستمساك بما يثق فيه، والجهر بكلمة الحق، والرائع في موقفه أنه حينما أغلقوا عليه باب السجن، قال مستشهداً من القرآن الكريم: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (الحديد: 13) . وكان يقول رحمه الله: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني صدري، أينما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة1. إن السجن في نظر ابن تيمية رحمه الله تعالى فرصة يخلو فيها إلى العبادة والذكر والمطالعة والبحث والمعرفة والعلم، بعيداً عن الشهوات والملذات. ويعتبر القتل شهادة في سبيل الله تعالى لأنه يسير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وابن تيمية رحمه الله تعالى واحد من محبيه ومتبعيه، فليمض إلى ربه مجاهداً لينال أجر المجاهدين الصابرين. ويؤمن بأن إخراجه من بلده رحلة هجرة في سبيل الله تعالى، أليس هو القائل: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء) . إذن فلا بد من السياحة وكسب الخير والتعرف على الناس، وبث الدعوة، وهكذا امتلأت قلوب المؤمنين بالإسلام شجاعة واندفاعاً، وعلموا أن إنكار الذات في سبيل الله تعالى تصنع البطولات، وفق القيم الأخلاقية لهذا الدين العظيم، لأن المنتصر فيه لا يموت، وهذا نموذج بسيط موجز عن الأبطال العلماء العالمين، أما أمراء العادلين الذين أسهموا بكل إيمان وقوة وهمة وحيوية في بناء دولة الإسلام، وتطبيق أحكام الله تعالى، وصنعوا حياة مليئة بالعمل الصالح والعلم النافع، والبناء الرائع في كل المجالات، فالحديث عنهم يطول ويخرجنا عن   1 الوابل الصيب، لابن القيم ص 66-67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 مقصدنا الذي نبتغيه، ويكفينا أن نعلم أن بطولات المسلمين من العلماء العاملين والأمراء المخلصين، كانت تسير جنباً إلى جنب في بناء الحياة الإسلامية ببذل الجهود في تحصين المسلمين، وتأمين الحدود، مع إثارة روح العمل الصالح والتنافس في مجالات العلم والعمل والجهاد، وقد ظل الإسلام حافلاً بالمسلمين وقادتهم من العلماء والأمراء الذين يحملون اللواء، ويحمون معاقل هذا الدين، وهكذا يتوالى ظهروهم فترة بعد فترة، ويخرجون من قبل مجتمعهم ليصدوا عنه فنتة جديدة، ويظهروا الإسلام في صورته البيضاء الجامعة الحقيقية، ويعدوا العدة لصون العقيدة الإسلامية والمفاهيم الإيمانية، ولولا الله جل شأنه ثم هؤلاء الرجال الأوفياء الذي أعدهم الله تعالى لخدمة دينه، ووفقهم للقيام في وجه المنكر بأي لو كان، لما عاش المسلمون مبيضي الوجوه، ولما ورثوا الدين نقياً طاهراً من رواسب الجاهليات والأنانيات، ولذلك فإن كل مسلم موحد مدين لهم في إيمانه وعقيدته، وفي صفاء أفكاره، وإن لهم علينا منة كبيرة فيما نعيش فيه من طاعة وسعادة، وما نتمتع به من تاريخ زاهر للمآثر والبطولات والجهاد. ومن ثم فإن لهؤلاء الأئمة الأعلام وشيوخ الإسلام حقاً كبيراً على كل مسلم معاصر، وعلى الأجيال المتلاحقة التي حظيت بنعمة الدين الخالص والعقيدة الصافية، وإن أداء هذا الحق والوفاء بواجب الشكر لا يتم إلا بالمحافظة على الإسلام الذي جاهدوا من أجله بإحياء سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والتركيز على بناء أنفسنا وأجيالنا على هدي من الكتاب والسنة، لنقدم للعالم نموذجاً حياً للمسلم الذي يتمثل فيه الإسلام كاملاً، وعندها تعود أمتنا كما أراد الله تعالى. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الباب الرابع: الإمام محمد بن عبد الوهاب والدعوة المباركة الفصل الأول: حياة الإمام محمد بن عبد الوهاب ونشأته ... الإمام محمد بن عبد الوهاب والدعوة المباركة حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب "رحمه الله" اسمه ونسبه: هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب1 بن سليمان بن علي2 بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف، التميمي3. وقد ذكر ابن بشر نسبه فقال: "هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن حمد بن أحمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب"4.   1 كان عبد الوهاب والد الشيخ، من أعلم أهل زمانه، وكان شيخاً وقوراً جليلاً متواضعاً، ولي القضاء في العيينية في إمارة عبد الله بن محمد بن معمر، وألف في الفقه والتفسير، وألقى فيهما وفي الحديث دروساً، وحدث في منزله وفي المسجد، وكان الناس يقبلون عليه إقبالاً شديداً. وقد رزق بوليدن، وهما محمد الذي هو مجدد الإسلام في القرن الثاني عشر، والثاني سليمان، وكان عالماً فقيهاً، تولى القضاء في حريملاء، وكل رجال هذه الأسرة تولى القضاء أو رياسته حتى زماننا هذا، لأنهم أشد الناس صيانة لهذا الدين في عصرنا. 2 سليمان، جد الشيخ محمد، من أكبر علماء نجد، كان محبوباً وبحراً في العلوم، تولى منصب الفتيا، وأخذ على يديه كثير من العلماء: التفسير والحديث والفقه والتوحيد. وله رسائل علمية وتصانيف عامة. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في ترجمته للإمام محمد بن عبد الوهاب: ووالده هو مفتي تلك البلاد، وجده مفتي البلاد. وآثاره وتصانيفه وفتاواه تدل على علمه وفقهه، وكان جده إليه المرجع في الفقه والفتوى. وكان معاصراً للشيخ منصور البهوتي الحنبلي خادم المذاهب، اجتمع به في مكة. 3 تاريخ نجد المسمى روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات الإسلام: تأليف حسين بن غنام 1/75. 4 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج (1) ص 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 يقول الدكتور العثيمين: وكانت أسرة آل مشرف ذات شهرة ومكانة في العلم، أنجبت عدة علماء، كان لهم اليد العليا في العلم والتحقيق والديانة منذ القرن الهجري، منهم القاضي عبد القادر بن بريد بن مشرف، وأحمد بن محمد بن مشرف، وسليمان بن علي مرجع علماء نجد بالكثير من المسائل، وكذلك ابنه عبد الوهاب، وإبراهيم وأحمد، والقصير1. ولادته ونشأته: ولد الشيخ محمد في بلدة العيينة2 عام 1115هـ، الموافق 1703م في بيت كالواحة الخضراء في صحراء الجهل، وهجير الفتن، حيث يعيش العالم الإسلامي ومنه الجزيرة العربية حالة من التخلف والفوضى والانحطاط، والبعد عن روح الإسلام. نشأ الشيخ وترعرع، يفيض عليه حب والده وحنان والدته غدقاً من العطف الأبوي، وبتعهده وتربيته بما يغرس فيه روح الإيمان، ويغمر نفسه الغضة بالطمأنينة والرضى، وتهيئته لطلب العلم بقلب متفتح وعقل متقبل. وكلما شب تألف على محياه الذكاء اللماح، وشعت في أساريره المخائل النجيبة، يميزه عن أترابه فوق تلك السمات النبيلة، والخلق الجاد، والعزيمة المصممة، والنضوج المبكر، والنبوغ المرتقب، يصرف جل وقته في تلك السن   1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب: للدكتور ابن عثيمين. 2 العيينة: بتصغير العين تقع في وادي حنيفة، وتسمى الآن "آبار الشيخ"، وتقع شمال غرب الرياض، وتبعد عن الرياض (40) كليو متراً تقريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 للمطالعة العميقة في كتب التفسير والحديث، وقبل بلوغه العاشرة أتقن كثيراً من العلوم والمعارف، فكبر عقله وازداد توقد ذهنه، وتأمل قومه فوجدهم جهلاء زائفين عن طريق الحق والصواب، فآلمه ذلك حتى قال فيه أحدهم: بلغت لعشر مضت من سنيك ... ما يبلغ السيد الأشيب فهمك فيها جسام الأمور ... وهم لداتك أن يلعبوا ولما بلغ الثانية عشرة من عمره، وقد بلغ الحلم، وأدرك ما يدرك الرجال، قدمه أبوه في إمامة الصلاة، وكان والده شديد التعجب من قوة حافظته وسرعة حفظه، لكل ما يطالعه ولو لمرة واحدة، ويعترف علنا بالاستفادة منه في بعض الأحكام، حتى قال: استفدت من ولدي محمد فوائد من الأحكام قبل بلوغه. وفي رسالة لأحد أصدقائه قال عنه: إن له فهماً جيداً، ولو يلازم الدرس سنة على الولاية لظهر في الحفظ والإتقان آية. "وقد تحققت أنه بلغ الاحتلام قبل إكمال اثنتي عشرة سنة على الإتمام. ورأيته أهلاً للصلاة بالجماعة والإتمام، فقدمته لمعرفته بالأحكام، وزوجته بعد البلوع في ذلك العام. ثم طلب مني الحج إلى بيت الله الحرام، فأجبته بالإسعاف لذلك المرام، فحج وقضى ركن الإسلام". ولا عجب في ذلك فبعد مشيئة الله سبحانه وتعالى قد تضافرت في الفتى مقومات التفوق ومؤهلات النجاح أسباب ومسببات –هيأها الله عز وجل للفتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وراثية وفطرية وبيئية، تجمعت في شخصيته الفذة من الذكاء المتقد، والشغف العلمي الملتهب، والطموح الخلقي الملحق لاستيعاب أكبر قدر من المعارف الدينية والعلوم الإسلامية، في أقصر وقت. ومع كل ذلك فالفتى عملي الطبع، ديني الخلق والعلم، لديه معلومات، يستوعب في سرعة، وتركيز، وفهم مدارك عظام، ثم تتحول إلى عمل يطبق في التوحيد والعبادة والأخلاق والمعاملات والتوجيه، وإرشاد وتعليم إسلامي يسير على ضوء العقيدة الصحيحة والنهج القويم المستمد من الكتاب والسنة، في تلك السن المبكرة من عمره الغض جلي في دروسه وتفوق في معلوماته. أبناء الإمام تزوج الإمام محمد بن عبد الوهاب "جوهرة بنت عبد الله بن معمر" وهو صغير لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. ونقل عن أبيه عبد الرحمن قوله: "رأيته أهلاً للصلاة بالجماعة وزوجته في ذاك العام"1. وقد رزقه الله تبارك وتعالى بأولاد بارك فيهم وجعلهم علماء يقتدى بهم، ويؤخذ العلم عنهم، ومنهم: أولاً: حسين بن محمد بن عبد الوهاب2: آلت إليه القيادة بعد والده، وكان ضريراً لا يرى، إلا أنه على جانب كبير من العلم والفضل.   1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب: أحمد بن حجر بن محمد آل طامي ط4 ص 17. 2 هو أكبر أولاد الشيخ، وكان قاضياً في الدرعية، وإماماً في جامعها، توفي سنة 1224هـ، وله عدة أولاد نبغوا في العلم والعمل، وهم: علي –حسن –حمد –عبد الرحمن –عبد الملك. انظر: عنوان المجد ج1 ص 2/143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ثانياً: عبد الله1 بن محمد بن عبد الوهاب: ولد في الدرعية سنة 1165، فنشر العلم واضطلع بالدعوة إلى جانب عمله في القضاء، وشارك في قتال إبراهيم باشا وجنده حين طوق الدرعية، وبعد أن سقطت في يد الباشا نقل الشيخ عبد الله إلى مصر سنة 1233هـ، وظل بها كالمعتقل حتى وافته المنية سنة 1242هـ، رحمه الله. قال ابن بشر: واجتمع عليه أهل البحيرة ونهضوا على الترك من كل جانب كأنهم الأسود، وقاتلوا قتالاً يشيب لهوله المولود، فأظلمت البحيرة كأنها الليل، وصريخ السيوف في الرؤس كأنه صهيل الخيل، فأخرجوهم منها صاغرين، وقتلوا من الترك عدة مئات حتى قال لي بعض من حضر ذلك: لو حلفت بالطلاق أني من الموضع الفلاني إلى الموضع الفلاني لم أطأ إلا على رجل مقتول لم أحنث، فدخل الترك بعد هذا الفشل، وصار في قلوبهم منهم وجل، ثم أرسلوا إلى الباشا وطلبوا الصلح، فأجابهم إليه بعد ما كان أبياً، ولان لهم بعدما كان قاسياً. وحين سلمت الدرعية سنة 1233هـ نقل الإمام عبد الله وابنه عبد الرحمن إلى مصر ومعه بعض آل الشيخ، وأما ابنه سليمان فقتله هذا الطاغية في الدرعية. وأما عبد الرحمن فتوفي بمصر سنة 1273 مع أخيه علي، رحمهما الله رحمة واسعة2.   1 هو عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية سنة 1165هـ، ونشأ في بيت والده، وتلقى العلم من والده أيضاً، ولما توفي والده خلفه في أعماله، فصارت له الزعامة الدينية، واستمر في منصبه إلى أن سقطت الدرعية سنة 1233هـ/1818م على يد إبراهيم باشا، الذي حمل معه الشيخ عبد الله إلى مصر، فبقي السيخ عبد الله في مصر إلى أن توفي سنة 1244هـ -1829م. 2 عنوان المجد في تاريخ نجد. عثمان بن بشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 مؤلفات الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب 1- جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية 2- منسك في الحج. 3- الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة. 4- التوضيح عن توحيد الخلاق. 5- مختصر سيرة ابن هشام. 6- وله فتاوى ورسائل ضم بعضها لمجموعة الرسائل النجدية. وقد دافع دفاعاً مريراً ضد الطاغية إبراهيم باشا حين هاجم الدرعية سنة 1222هـ، وحين رأى قتل الأبرياء وتدمير الدرعية من قبل الجيش المصري شهر سيفه ضد هؤلاء الطواغيت عند باب البحيرة بالدرعية. ثالثاً: علي بن محمد بن عبد الوهاب: كان عالماً نابغاً يضرب به المثل في الزهد والورع، وكان ذا ملكة عظيمة في الفقه. رابعاً: إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب ولد بالدرعية. وقرأ على والده المجدد محمد بن عبد الوهاب، وقرأ على علماء الدرعية، ومنهم الشيخ العالم الجليل عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب. نفي رحمه الله إلى مصر سنة 1233هـ عند الاستيلاء على الدرعية من قبل الطاغية إبراهيم باشا، وفي سنة 1241هـ رجع إلى نجد بعد استقرار الأمور، وله حلقة علم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 قال ابن بشر: "وأما إبراهيم بن شيخ الإسلام، فرأيت عنده حلقة في التدريس، وله معرفة في العلم، ولكنه لم يتول القضاء، قرأت عليه في صغري كتاب التوحيد سنة أربع وعشرين ومائتين وألف". قال الشيخ هم من ذرية هؤلاء الأربعة1. خامساً: حسن بن محمد بن عبد الوهاب: مات شاباً ولم يكن ممن اشتغل بالعلم، بل بالتجارة والأعمال الأخرى2. يقول ابن بشر: "لقد رأيت لهؤلاء العلماء الأجلاء مجالس ومحافل في التدريس في الدرعية، عندهم من طلبة العلم من أهل الدرعية والغرباء المقيمين فيها ما يفضي لمن حكاه إلى التكذيب، ولهؤلاء الأربعة المذكورين من المعرفة ما فاقوا به أقرانهم، وكل واحد منهم جعل بيته مدرسة فيها طلبة العلم من الغرباء ونفقتهم من بيت المال. ويأخذون منهم العلم في كل وقت"3. وآل الشيخ إلى يومنا هذا هم القائمون في جزيرة العرب بالوظائف الدينية والدفاع عن حوزة الدين، ونصرة شريعة سيد المرسلين، فجزى الله العاملين أحسن الجزاء ووفقنا وإياهم لما يحبه ويرضاه.   1 عنوان المجد في تاريخ نجد. عثمان بن بشر. 2 نفس المصدر. 3 نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 طلبه للعلم لقد كانت البيئة التي نشأ فيها الفتى محمد بن عبد الوهاب بيئة علمية دينية صالحة، وقد تلقى علمه في البداية على يد والده عبد الوهاب حيث درس عليه كتب الفقه الحنبلي. قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن حسن: "وأخذ محمد بن عبد الوهاب الفقه عن أبيه عن جده مفتي الديار النجدية في وقته، وسنده المتصل بأئمة المذهب إلى الإمام أحمد معروف مقرر عندهم"1. ثم أخذ يزيد في معلوماته بالقراءة الخاصة، حيث أخذ يقرأ في كتاب التفسير والحديث والأصول، وقد ساعده حبه للقراءة وشغفه بها على الاطلاع على كل ما يقع في يده من كتب الدين، وخاصة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، فاهتم الشيخ بقراءة كتبهما بعناية خاصة، واعتد بأقوالهما، وتأثر بأفكارهما، واستنار بآرائهما، فكان لذلك أثر كبير في تصحيح عقيدته وتوجيه حياته، ومنهج دعوته. ولقد وهب الله ابن عبد الوهاب قلباً واعياً، وأذناً سمعية، وعقلاً نيراً، وكان رحمه الله تعالى مرهف الحس، شديد التأثر، يتألم جداً لما يرى حوله من الحالة السيئة للقرى والمدن في نجد على وجه الخصوص، وكان أكثر العلماء في عالم الإسلام في حالة لا ترضى، فضلاً عن العوام. لقد أخذ الشيخ عن والده كل ما كان يستطيع، وبعد ذلك عزم على الارتحال   1 مجموعة الرسائل النجدية ج 2 ص 379 مطبعة المنار –مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 إلى البلدان المجاورة طلباً للعلم والزيادة فيه، كعادة السلف الصالح، فبدأ بحج بيت الله الحرام للمرة الثانية، ثم توجه من مكة إلى المدينة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- وأقام فيها حيناً آخذ فيها العلم عن الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي1، أحد العلماء المشهورين من "المجمعة"، ولازمه في "المدينة" تعرف على الشيخ محمد حياة السندي2، وكان من أساتذة الحديث المعتمدين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عنه الحديث وعلومه. وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب وافقاً عند حجرة النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى أناس يدعون ويستغيثون عند قبره صلى الله عليه وسلم، إذ مر به الشيخ السندي، فسأله عن رأيه فيهم، فقال: إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون3. وقد ذكر ابن بشر: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب [قال] : كنت عنده يوماً فقال لي: أتريد أن أريك سلاحاً أعددته للمجمعة؟ قلت: نعم، فأدخلني منزلاً فيه كتب كثيرة، فقال: هذا الذي أعددنا لها4.   1 هو الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف بن عبد الله الشمري نسبة إلى قبيلة شمر، انتقل مع والده من بلدة المجمعة المعروفة بناحية سدير بنجد، إلى المدينة المنورة، وقرأ على علمائها، ثم جلس في المدينة لطلاب العلم، فأخذ عنه العلم في المدينة خلق كثير من ضمنهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبقي الشيخ عبد الله في المدينة حتى توفي بها. وقد ولد له في المدينة ابنه الفردي الشهير إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بن سيف مؤلف كتاب "العذب الفائض في علم الفرائض". (انظر: عثمان بن بشر –ج1 ص35) . 2 هو الشيخ العلامة المحدث محمد حياة بن إبراهيم السندي، الحنفي، محدث فقهي، أصولي، مفسر ولد بالسند، ونشأ بها، وتوفي بالمدينة سنة 1163هـ/1750م. من تصانيفه: شرح الترغيب والترهيب للمنذري في مجلدين، شرح الأربعين النووية، مختصر الزواجر لابن حجر المكي، تحفة الأنام في العمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، إرشاد النقاد إلى تيسيير الاجتهاد. (انظر: الأعلام خير الدين الزركلي/ ج6 ص111، ومعجم المؤلفين لرضا كحالة –ج9 ص275 –دار إحياء التراث العربي. 3 انظر: ابن بشر ج1 ص 35. 4 انظر: نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ومنها توجه الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى "البصرة"، وهناك درس على الشيخ محمد المجموعي الفقه والحديث واللغة، ولازم صحبته، وبعد ذلك قفل راجعاً بعد أن فتحت هذه الرحلات تفكيره، ووسعت مداركه وعلومه، وزادته اطلاعاً على الفساد السياسي والديني الذي يعيشه العالم الإسلامي، حينذاك عاد إلى بلاده وكله عزيمة وأمل بأن يميط هذا الفساد بقدر ما يسعه جهده، عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1. وآب الشيخ من رحلته الطويلة وراء العلم والتحصيل متوجهاً إلى "حريملاء" التي انتقل إليها والده عبد الوهاب رحمه الله تعالى من العيينة في سنة 1139هـ، الموافقة 1736م. بعد عزله عن قضاء العيينة. قال ابن بشر: "فلما وصلها جلس يقرأ فيها عند عالم جليل من أهل "المجموعة"2 في مدرسة فيها، ذكر لي أن اسمه: "محمد المجموعي" فأقام مدة يقرأ عليه وينكر أشياء من الشركيات والبدع، وأعلن بالإنكار واستحسن شيخه قوله، وقرر له التوحيد، وانتفع به3. فلما أنكر الشيخ لهذه الشركيات والعادات السيئة: آذاه أهل "البصرة" هو وشيخه "المجموعي" وأخرجوه من البصرة.   1 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والدارمي ومالك. 2 المجموعة قرية من قرى البصرة التابعة للعراق. 3 عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقرر الشيخ السفر إلى الشام، إلا أن ضياع نفقته في الطريق قد حالت بينه وبين السفر إلى الشام، فانثنى عزمه عنها، وعاد إلى نجد1. ولما جاء من "البصرة" وهو في طريقه مر على "الإحساء"، فنزل فيها عند الشيخ "عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف"2 فأخذ عنه العلم، وناقش بعض علمائها في التوحيد والعقيدة، ثم رحل منها إلى "حريملاء"3. تلاميذ الإمام منذ أن وصل الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية والناس يلتهمون العلم من الإمام، وخاصة في العقيدة. ويقول ابن بشر، رحمه الله: إن الناس يطلبون العلم على الشيخ محمد وتلاميذه في أطراف النهار والليل، ويحترفون في النهار لكسب قوتهم والاستعانة على مطالب الحياة4. ويقول أيضاً: وكان سعود بن عبد العزيز قدوة في ذلك، فقد زلام الشيخ أكثر من سنتين ملازمة تامة، فبرع في كثير من العلوم، واستفاد فائدة كبيرة.   1 حسين بن غنام ج1 ص77. تاريخ نجد –حسين بن أبي بن غنام. 2 هو عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، أحد علماء الأحساء، "ينتسب إلى مذهب الإمام مالك"، وقد وقف أمام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد ظهورها موقف العداء، فأرسل إليه الشيخ رسالة يبين له فيها حقيقة دعوته، ويلومه لموقفه المعادي له، ويطلب منه ألا يحكم عليه إلا بعد أن يقف على حقيقة دعوته. (انظر: محمد بن عبد الوهاب –الرسائل الشخصية ص 267-350. 3 انظر تاريخ نجد المسمى روضة الأفكار والأفهام 1/77 حسين بن أبي بكر بن غنام وعنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر 1/37. 4 عنوان المجد في تاريخ نجد: 1/37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ويقول الدكتور عبد الله بن صالح العثيمين: ومن ناحية أخرى فإن الشيخ ما أن استقر في بلده الجديد حتى بدأ أنصاره في البلدان الأخرى يفدون إليه، ومنهم من يستقر عنده، وقد ترك بعض هؤلاء بلدانهم لما كانوا يحسونه من ضغوط على أيدي زعمائهم الذين لم يكونوا نتيجة لذلك متعاطفين مع دعوة الشيخ آنذاك، أو لخوفهم من حدوث ضغوط عليهم، وربما كان السبب في مجيء البعض الآخر إلى الدرعية رغبة منهم في أن يكونوا قرب الشيخ ليستفيدوا من علمه، ويساعدوه في أموره، ومن الملاحظ أن هؤلاء المنتقلين إلى الدرعية من طبقات مختلفة، فبعض هؤلاء كانوا من أسر حاكمة1. ويقول الشيخ عبد الله بن بسام: فالدرعية بعد أن صارت مقر الدعوة وقاعدة الحكم الجديد، وفد عليها العلماء من كل حدب وصوب، وعمرت حلقات الدرس على الشيخ محمد وعلى أبنائه وكبار تلاميذه رحمهم الله تعالى، ووفد إليهم طلاب العلم والمعرفة من الجزيرة العربية وخارجها، وصاروا يجدون فيها العلم وكفاية المؤمنة كما يجد العلماء منهم المناصب الرفيعة، والرتب العالية في النواحي التابعة للعاصمة الفتية. فراجت فيها سوق العلم، ونشطوا في تحصليه، وتنافسوا في نيله، حتى كان من ذلك حركة علمية كبيرة ربما لم تعرفها البلاد العربية من قبل2. ومن أشهر تلاميذ الشيخ وأنبههم، وقد صاروا قضاة ومفتين، وأوسعهم إدراكاً وفهما هؤلاء:   1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره –دار العلوم –الرياض. 2 انظر مقدمة الكتاب: علماء نجد خلال ستة قرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 1- الشيخ العالم الجليل، حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر، والد الشيخ عبد العزيز مؤلف منحة القريب. 2- الشيخ الزاهد الورع، عبد العزيز بن عبد الله الحصين1 الناصري، تولى القضاء إذ ذاك في ناحية الدشم. 3- الشيخ الفاضل العالم العامل، سعيد بن حجي، قاضي حوطة بني تميم. 4- العالم الجليل الشيخ عبد الرحمن بن ناجي تولى القضاء ببلدة "العيينة" و"الإحساء". 5- الشيخ الجليل حمد بن راشد العريني، قاضي في ناحية سدير. 6- محمد بن سلطان العوسجي. 7- عبد الرحمن بن خميس. 8- حسن بن عبد الله بن عيدان، وكان قاضياً في بلاد حريملاء. 9- عبد العزيز بن سويلم، وكان قاضياً في بلد القصيم. 10- عبد الرحمن بن عبد المحسن أبا حسين. 11- عبد الرحمن بن ناجي2.   1 لم يعقب من الأولاد شيئاً. 2 انظر: كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عقيدته السلفية ودعوته الاصلاحية: أحمد بن حجر آل بوطامي ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الفصل الثاني: وفاة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ... وفاة الإمام محمد بن عبد الوهاب"رحمه الله" توفي الإمام يوم الإثنين من شهر شوال عام 1206هـ-1791م عن عمر يناهز الواحد والتسعين عاماً1. ويروي ابن بشر في تاريخه أنه توفي آخر ذي القعدة من السنة المذكورة 1206هـ2. وقال حسين خلف الشيخ خزعل3: وفي أول شهر شوال 1206هـ 15 آذار 1792م، أصيب الشيخ محمد بن عبد الوهب بالمرض، الذي لم يمهله طويلاً حتى انتقل إلى رحمة ربه في يوم الجمعة، آخر شهر ذي القعدة، من هذه السنة 22 حزيران سنة 17924.   1 الحلقة المفقودة في تاريخ العرب –محمد جميل ص 87 ط (1) ، مطبعة مصطفى الحلبي 1369هـ. 2 عنوان المجد، نشرة وزراة المعارف- ط (1) ص 89 الرياض. 3 هو ابن أمير المحمرة التي سقطت فضمها رضا شاه إلى إيران، فلجأ خزعل إلى صديقه أمير الكويت مبارك الصباح، فجعل الكويت مسكناً له ولأسرته وهم شيعة، ولكن حسين بن خزعل أثنى على الشيخ في كتابه (حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) . يقول خالد السعدون: المحمرة إمارة عربية تقع على الضفة اليسرى لشط العرب، وتحتل المساحة من جنوب البصرة إلى رأس الخليج العربي. ضمتها إيران إليها قبل أكثر من نصف قرن بتواطئ السلطات البريطانبية التي كانت ترتبط بعلاقات تعاهدية مع تلك الإمارة. انظر: العلاقات بين نجد والكويت. 4 تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تأليف حسين خلف الشيخ خزعل ط بدون، دار الكتب –بيروت، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 انتقل الشيخ إلى ربه بعد كفاح طويل، حافل بجلائل الأعمال، مملوء بكل فخر ومجد، تاركاً تراثاً فكرياً ضخماً. وقد رثي بمراث كثيرة، منها مرثية حسين بن غنام1 الذي قال فيها: إلى الله في كشف الشدائد نفزع ... وليس إلى غير المهيمن مفزع لقد كسفت شمس المعارف والهدى ... فسالت دماء في الخدود وأدمع إمام أصيب الناس طرأ بفقده ... وطاف بهم خطب من البين موجع وأظلم أرجاء البلاد لموته ... وجل بهم كرب من الحزن مفظع شهاب هوى من أفقه وسمائه ... ونجم ثوى واراه في التراب واراه بلقع وكوكب سعد مستنير سناؤه ... وبدر له في منزل اليمن مطلع   1 حسين بن أبي بكر بن غنام، ولد في المبرز بالإحساء، وانتقل إلى الدرعية ودرس بها، وله مؤلفات –منها العقد الثمين وتاريخ نجد ... وله قصائد شعرية في الدفاع عن الدعوة السلفية، توفي سنة 1225هـ في الدرعية انظر مشاهير علماء نجد ص 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وصبح تبدى للأنام ضياؤه ... فداجى الدياجي بعده متقشع لقد غاص بحر العلم والفهم والندى ... وقد كان فيه للبدية مرتع فقوم جلا عنهم صدا الدين فاهتدوا ... فأسماعهم للحق تصغى وتسمع وقوم ذوو فقر وجهد وفاقة ... حووا واقتنوا ما فيه للعيش مطمع لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلى الضلال ويدفع أبان له من لمعة الحق لمعة ... أزبل بها عنه حجاب وبرقع سقاه غير الفهم مولاه فارتوى ... وعام بتيار المعارف يقطع فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... وأقوى به من مظلم الشرك مهيع فأنوار صبح الحق باد سناؤه ... ومصباحه عال ورياه صنيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها ... سواه ولا حاذى قناها سميدع وشمر في منهاج سنة أحمد ... يشيد ويحيي ما تعفى ويرفع وينفي الأعادي عن حماه وسوحه ... ويدمغ أرباب الضلال ويدفع يناظر بالآيات والسنة التي ... أمرنا إليها في التنازع نرجع فأضحت به السماء يبسم ثغرها ... وأمسى محياها يضيء ويلمع وعاد به نهج الغواية طامساً ... وقد كان مسلوكاً به الناس تربع وجرت به نجد ذيول افتاخرها ... وحق لها بالألمعي ترفع فآثاره فيها سواح سوافر ... وأنواء فيها إذ تضيء وتسطح لقد وجد الإسلام يوم فراقه ... مصاباً خشناه بعده يتصدع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وطاشت ألو الأحلام والفضل والنهى ... وكادت له الأرواح تترى وتتبع وطارت قلوب المسلمين بيومه ... وظنوا به أن القيامة تقرع فضجوا جميعاً بالبكاء تأسفاً ... وكادت قلوب بعده تتفجع وفاضت عيون واستهلت مدامع ... يخالطها مزج من الدم بهجع بكته ذوو الحاجات يوم فراقه ... وأهل الهدى والحق والدين أجمع1 إلى أن قال، رحمه الله: لئن كان في القبر موضعاً ... فيوم الجزا يرجى له الخلد موضع سقى قبره من هاطل العفو ديمة ... وباكره سحب من البر همع   1 روضة الأفكار 2/155-156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وأسكنه بحبوبة الفوز والرضا ... ولا زال بالرضوان فيها يمتع1 ويقول الإمام الشوكاني2 رحمه الله: مصاب دهى قلبي فأذكى غلائلي ... وأحمى بسهم الافتجاع مقاتلي وخطب به أعشار أحشاي صدعت ... فأمست بفرط الوجد أي ثواكلي ورزء تقاضى صفاء معيشتي ... وأنهلن قسراً أمر المناهل غدوت به رهن التياع ولاعج ... حليف أسى للقلب غير مزائل أسير جوى أفنى فؤادي رسيه ... وقلب من الحزن المبرح ذاهل   1 انظر المصدر السابق. 2 محمد بن علي الشوكاني (1713-1252) أفتى في العشرين من عمره، وولي القضاء بصنعاء باليمن، حيث الأئمة الحكام شيعة والشعب قسمان، فسكان المرتفعات شيعة، وسكان تهامة شافعية. وانضافت إليه الوزارة بعد سنوات فتحرس بمسؤولية الحكم، وخلع ربقة التقليد، فلم يحصر نفسه في دائرة المذهب الزيدي، بل بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق، وانتشر علمه في الهند والباكستان وسائر ديار المسلمين، ومن كبار تلاميذه محمد صديق خان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 مصاب به قامت على قيامة ... ومن كرب ما لاقيت أعظم هائل مصاب به ذابت حشاشة مهجتي ... وعن حمله قد كل متني وكاهلي مصاب به قد أظلم الكون كله ... وكان على حال من الحزن هائل رميت به عن قوس أبرح لوعة ... بها نجم روحي كان أسرع آفل به هد ركن الدين وانبنب حبله ... وشد بناء الغي مع كل باطل وقام على الإسلام جهراً وأهله ... نعيق غراب بالمذلة هائل وسيم منار الاتباع لأحمد ... هوان انهدام جاء من كل جاهل وهبت لنار الابتداع سمائم ... بسم لنفس الدين صرد وقاتل فيا مهجتي ذوبي أسى وتأسفاً ... ويا كبدي انقشى بحزن مواصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ويا لوعتي دومي وزيدي ولازمي ... ويافجعتي للقلب ما عشت نازلي ويا مقلتي غنى الكرى عنك جانباً ... وجودي بدمع دائم السكب هاطل ويا جزعي لاغبت كن متجدداً ... ويا سلوتي ولى وللقلب زائلي فقد مات طود العلم قطب رحى العلا ... ومركز أدوار الفحول الأفاضل وماتت علوم الدين طراً بموته ... وغيب وجه الحق تحت الجنادل إمام الهدى، ماحي الردى، قامع العدى ... ومروى العدى من فيض علم ونائل وجمال الورى، رحب الذرى شامخ الذرى ... وجم القرى صدر الصدور الأوائل عظيم الوفا كنز الشفا معدن الصفا ... جلى الخفا عن مشكلات المسائل بهى السنا عذب طيب الثنا ... منيل المنى من سيبه كل آمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 إمام الورى علامة العصر قدوتي ... وشيخ الشيوخ الحبر فرد الفضائل محمد ذو المجد الذي عز دركه ... وحل مقاماً من لحوق المطاول إلى عابد الوهاب يعزى وإنه ... سلالة أنجاب زكي الخصائل عليه من الرحمن أعظم رحمة ... تبل قراه بالضمى والأحائل لقد أشرقت نجد بنور ضيائه ... وقام مقامات الهدى بالدلائل إمام له شأن كبير ورتبة ... من الفضل تثنى عزة المتطاول فريد كمال في العلوج، فهل ترى ... له في تقادير لها من مماثل وقلب سليم للمهيمن خاشع ... ضبيب وعن مولاه ليس بغافل وجنب تجافيه المضاجع في الدجى ... وجفن بهتان المدامع هامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وعن ذكر رب العرش في السر دائحاً ... وفي الجهر طول الدهر ليس بغافل عفو عن الجاني، صفوح حلمه ... إلى الشيخ يعزي ليس يهفو لعاجل يقابل من يلقى ببشر ومبسم ... ضحوك ووجه للبشاشة باذل ويأمر بالمعروف في كل حالة ... وعن منكر ينهى وليس بقابل ولم يأل جهداً في نصيحة مسلم ... برأي وتدبير وحسن تعامل يجازي بإحسان إساءة غيره ... وبالجاه من مستوجه غير باخل تقمص بالتقوى وبالخشية ارتدى ... ولم يمض منه العمر في غير طائل ومن شأنه قمع الضلال ونصره ... لمن كان مظلوماً وليس بخاذل وكم كان في الدين الحنيفي مجاهداً ... بماضى سنان دافع للأباطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وكم ذب عن سامي حماه وذاد من ... مضل وبدعى ومغو وفائل ففيم استباح أهل الضلال لعرضه ... وما نكست أعلامه بالأراذل وليس له شيء عن الله شاغل ... ولا عن وصال الاعتبار بغافل فلولاه لم تحرز رحى الدين مركزا ... ولا اشتد للإسلام ركن المعاقل ولا كان للتوحيد واضح لاحب ... يقيم اعوجاج السير من كل عادل فما هو إلا قائم في زمانه ... مقام نبي في إماتة باطل ستبكيه أجفاني حياتي وإن أمت ... سيبكيه عنى جفن طل ووابل وتبكيه أقلامي أسى ومحابري ... ويبكيه طرسى، دائماً وأناملي عجبت لقبر ضمه كيف لم يكن ... يميد ببر فائض العلم سائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ومن نعش كان حامل جسمه ... هنيئاً له إذ كان أشرف حامل ولا غرو أن يبكي الزمان لفقده ... فقد كان غيث الجود كهف الأرامل فآها على ذاك المحيا وحسنه ... وآها على تلك العلوم الجلائل وآها على تحقيقه في دروسه ... وتوضيحه للمعضلات المشاكل فمن للبخاري بعده ولمسلم ... يبين المخبأ منهما للمحاول ومن ذا لتفسير الكتاب ومن ترى ... لأحكام فقه الدين من للرسائل ومن لمسانيد سمت ومعاجم ... وكشف لثام الحكم عند النوازل ألم تر أن الدهر نصف كآبة ... عليه، وذو جسم من الحسن ناحل ومن للمعاني والبيان ومنطق ... وردع أخى الجهل الغوي المجادل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ومن لك بالأصلين واللغة التي ... بها أنزل القرآن أشرف نازل ومن بعده للصدع بالحق قائم ... يجد ولا يخشى ملامة عازل أفق يا معيب الشيخ من ذا تعيبه ... لقد عبت حقاً وارتحلت بباطل نعم ذنبه التقليد قد جذ حبله ... وثل التعصب بالسيوف الصياقل ولما دعا الله في الخلق صارخاً ... صرختم له بالقذف مثل الزواجل دعا لكتاب الله والسنة التي ... أتانا بها طه النبي خير قائل فوا أسفى والهف قلبي وحسرتي ... عليه ويا حزني لأكرم راحل ويا ندمي لو كان يجدى من القضا ... ولكن قضاء الله أغلب حائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولو كان من ريب المنية مخلص ... لكنت له بالجهد أي محاول1 وقال رحمه الله وهو يعزي آل سعود بهذا الجلل المصاب: وأضعافها للمقرنين وكلهم ... هداة الورى من محتدى فرع وائل هم الناس أهل الباس يعرف فضلهم ... جميع بنى الدنيا فنحن للمجادل لقد جاهدوا في الله حق جهاده ... إلى أن أقاموا بالظبا كل مائل فناديهم في كل ناد مبجل ... فحقهم التبجيل بين القبائل سعود مضى والسعد حالف نجله ... كما حالف الآباء ليس براحل لقد نصروا دين الإله وحزبه ... كما دفعوا داعى الهوى بالقنابل   1 الدرر السنية، عبد الرحمن قاسم النجدي رحمه الله ص 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 عليهم سلام الله ماذر شارق ... وما اهتزت الأزهار في صبح عاطل وأزكى صلاة الله ثم سلامه ... على المصطفى الهادي كريم الشمائل محمد المختار من فرع هاشم ... وآل وأصحاب كرام أفاضل1 وقال رحمه الله وهو يعزي آل الشيخ بفقيد الأمة الإسلامية: فما جزع يوماً بنافع جازع ... وما حزن رد القضاء بفاعل ومثلكم لا يعتريه تزلزل ... ولا وهن في فادحات النوازل فإن كان للجنات والدكم مضى ... فقد كان فينا معقباً كل كامل وأنتم بحمد الله عنه خلائف ... بعلم وفضل شامخ القدر شامل   1 نفس المصدر ص 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وإنا لنرجو أن تكونوا أئمة ... بكم يقتدي في دينه كل فاضل وللخير والإحسان من كل جهة ... تحث إليكم مضمرات الرواحل ونسأل رب العرش يعظم أجوركم ... ويحميكم من طارقات الغوائل ويجبر صدع القلب والكسر منكم ... ويعقبكم طرا جمال المحافل ولا زلتم غيظ القلوب لكل من ... يعاديكم من كل حاف وناعل ولا فجعت في الدهر ساحة سوحكم ... برزء لموصول المسرة فاضل عليكم سلام الله ما هب نائم ... وجمل زاكى ذكركم كل عاطل وأوفى الثنا منى عليكم مكرراً ... وأزكى تحيات سواح كوامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فيا سائر الأولاد للشيخ إنني ... أعزيكم مع ذي انتساب لوائل وأوصيكم بالصير طرا وبالرضا ... بجارى القضا في عاجل ثم آجل بتسليم أمر الله ثم احتساب ما ... لديه تعالى من أجور جزائل1   1 الدرر السنة في الأجوبة النجدية -جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم- ص 20-21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الفصل الثالث: عقيدة الإمام وفكره ... عقيدة الإمام وفكره عقيدة الشيخ هي عقيدة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، عقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، عقيدة أئمة الهدى، أبي حنيفة، والشافعي ومالك وأحمد وسفيان الثوري وابن عيينة وابن المبارك والبخاري ومسلم وأبي داود، وسائر أهل السنن وأهل الفقه والأثر كالأشعري وابن خزيمة وابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير رحمهم الله تعالى يقول رحمه الله: ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خلافها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقول إلا الحق1. ولقد أسس فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب على تصحيح العقيدة الإسلامية وتطهيرها مما علق بها، بهدف تنظيم العلاقة بين الله تبارك وتعالى وبين الإنسان، بحيث يعترف هذا الإنسان الضعيف الفاني بسلطان الله عز وجل في جميع الأمور، فلا يلتفت إلا إليه، ولا يتعلق إلا به، ولا يرجو سواه تبارك وتعالى، وبهذا يعود بالإسلام إلى ما كان عليه أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم، وذلك من طريق تركيز النشاط الإنساني للقيام بتطبيق أحكام الإسلام   1 محمد بن عبد الوهاب –القسم الخامس في الرسائل الشخصية: الرسالة الخامسة والثلاثون ص 252، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب –الرياض- بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وحدوده وشعائره الظاهرة والباطنة، وإقامة مجتمع متكامل يؤمن بالإسلام الحق عقيدة وعبادة ومنهج حياة، ويعتمد في كل ما يأتي أو يدع على القرآن الكريم الذي هو كلام الله عز وجل والسنة النبوية التي فيها أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، ثم الآثار الصحيحة للصحابة والتابعين، رضي الله عنهم أجمعين. يقول، رحمه الله: "إذا بانت لنا سنة صحيحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد كائنا من كان، بل نتلقاها بالقبول والتسليم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدرونا أجل وأعظم من أن نقدم عليه قول أحد، فهذا الذي نعتقد وندين الله به"1. "وقد عمل رحمه الله تعالى جاهداً طوال حياته أن تصرف جميع أنواع العبادات لله وحده لا شريك له، وإثبات الكمال المطلق لله عز وجل، وإفراده بالعبادة، ونفي التشبيه والمثال عنه جل وعلا ومنع التوسل2 والاستغاثة3 بغيره، سبحانه وتعالى". ومجمل القول، فقد اتسم فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالشمول والعمق   1 المصدر السابق ص 252. 2 التوسل المقر لدى أهل السنة والجماعة هو مراعاة سبيل الله بالعلم والعبادة وتحري مكارم الشريعة، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو الاستسقاء به حال حياته وثبت بغيره من الصالحين الأحياء. 3 يجوز الاستغاثة بالمخلوق في الأمور الداخلية في عدد الأعمال البشرية التي يطيقها الإنسان، والذي يسمع نداءك إذا دعوته لحاجتك. وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله بحث حول منع طلب الشفاعة من محمد صلى الله عليه وسلم بعد موته في الدرر السنية الجزء التاسع ص 301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 في مجال التطبيق العملي، والممارسة السلوكية في شؤون الحياة والاجتماع، بالإضافة إلى كشف كل زيغ وانحراف، ونفض الغبار الذي علق على المفاهيم الصحيحة لتعاليم الإسلام، ولقد كان رحمه الله تعالى إلى جانب شخصيته الوعظية المضيئة يتلهف لإقامة دولة إسلامية قادرة على تحمل مسؤوليات الوازع والراد، فكان للشيخ محمد رحمه الله تعالى فضل الإنجاز والإخراج والريادة للدولة الإسلامية المباركة في جزيرة العرب. ولقد جمع الله تبارك وتعالى لعبده محمد بن عبد الوهاب موهبة القيادة وصفات الزعامة الدينية لدعوة جددت حياة المسلمين، وتجازوت حدودها إلى آفاق وأبعاد واسعة، تم ذلك بفضل الله تعالى، ثم جهاد الشيخ رحمه الله تعالى، ومن معه من المخلصين ضد الشرك بجميع أشكاله وألوانه، وضد البدع والخرافات والانحطاط، ثم أقام وفي فترة وجيزة كياناً إسلامياً استوعب نظريات الدولة الحديثة، وأجمع فيها النشاذ وأرسى فيها القواعد الثابتة، لتكون أقدر على المواجهة وتحمل العبء الثقيل والأمانة الكبرى لما يستقبل من الأيام. ولقد غيرت حركة الشيخ وفق المنهج الإلهي وجه الجزيرة العربية تغييراً أساسياً مذهلاً. وكان الشيخ رحمه الله تعالى رائدها الأمين وواضع خطط الإصلاح العملي الذي تمثل في جلسات وندوات للحديث حول العقيدة وأحوال المجتمع، يصحب ذلك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ودعوة إلى الله تبارك وتعالى بالحسنى والموعظة الحسنة بأسلوب وقور، وأخلاق رفيعة، وكلمات وادعة تنبض بالحياة والحياء والوضوح والأصالة، ولاعتماده رحمه الله تعالى على أساسين كبيرين هما: التوحيد الخالص، والدعوة إلى الاجتهاد المشروع، وبهذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الأساسيين أسبغ على أتباعه من بعده روحاً متألفة جديدة، ورأياً سديداً فرض احترامه على الموالين والمجافين. يقول محمد جميل: "دعا محمد بن عبد الوهاب معتمداً على القرآن، إلى شريعة بيضاء نقية، كما تركها محمد صلى الله عليه وسلم، ونهى عن الغلو في تقديس الأنبياء والأولياء"1. ويكفيك أخي القارئ أن تفتح على سبيل المثال "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد"، لترى كيف أن هذا الكتاب الصغير في حجمه اشتمل على أمهات المسائل، وتفوق على أكبر الموسوعات التي جمعت فيها كل النصوص، وقد نسج الشيخ رحمه الله تعالى في جميع رسائله على هذا المنوال، وكلها تنادي المسلمين بالعودة إلى يسر الإسلام ونبعه الصافي، كما تدعوهم إلى تطهير شامل للفكر الإسلامي العام الذي أدخل عليه ما ليس منه إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل -والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون- فقد حرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى العقل الإسلام من قيوده الثقيلة، وأطلقه من معتقلاته الموروثة عن الجاهلية، وانتشله من أعمال الهوان الوثني والجمود والتقليد، وأيقظ "رحمه الله" أحساسيس ومشاعر المسلمين من سباتهم الثقيل، وكان "وجوده رحمه الله" لا يقدر بثمن على جميع المسلمين في العالم حيث بعثت هذه الدعوة المباركة في كثير من المسلمين روح التحرر من لوثات الوثنية وضرورة إقامة المعركة بين الإيمان والشيطان، وألهمت هذه الدعوة عدداً لا يستهان به في أنحاء المعمورة من المفكرين المسلمين مواقف إيجابية كان لها أطيب الأثر في إيقاظ   1 الحلقة المفقودة في تاريخ العرب، تحت عنوان "آل سعود في حكم آل عثمان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الهمم، حتى انبعثت صيحات الحق من هنا وهناك تهتف: شعارنا الوحيد إلى الإسلام من جديد، وهكذا كانت أفكار الشيخ رحمه الله تعالى، والتي تأسست على التقوى من أول يوم قائمة على التوحيد والدين الخالص، وهذا أقوى عوامل المقاومة الجهادية التي أرغمت النفوذ المنحرف والدعوات الهدامة والتقليد الأعمى. وهذه رسالة موجهة إلى أهل القصيم1 يشرح فيها عقيدته السلفية المباركة قال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقده أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث والموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى) ، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أصرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كيف، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبغيره وأصدق من أهل التحريف والتعطيل فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات) ، فالفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين   1 تاريخ نجد المسمى روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعدد غزوات ذوي الإسلام، ط 3-شركة الصفحات الذهبية –الرياض 1403هـ- تحقيق ناصر الدين الأمد، ص170-178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 القدرية والجبرية، وهم وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية؛ وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج. وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود: وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على صفيه ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عبده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وأومن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا تحيد لأحد عن القدر المحدود ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، واعتقد لكل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم ما يكون بعد الموت، وأؤمن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (المؤمنون) ، وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، وأؤمن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضا كما قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (الانبياء) ، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} (البقرة) . وهو لا يرضى إلا التوحيد ولا يأذن إلا لأهله. وأما المشركون فليس لهم في الشفاعة نصيب، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر) . وأؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان؛ وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، وأؤمن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضي، ثم بقية العشرة المشهود لهم بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضوان الله عليهم. وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر) . وأن أترض عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء وأقر بكرامات الأولياء إلا أنهم لا يستحقون من حق الله شيئاً، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنبه، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد مع كل إمام براً كان أو فاجراً وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة وجبت طاعته؛ وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتولوا، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل أسرارهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة، وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان ويزيد بالطاعة وينقص بالعصيان هو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن طريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الظاهرة، فهذه عقيدة وجيزة حررتها لتطلعوا على ما عندي والله على ما أقول شهيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وسئل رحمه الله عن معنى "لا إله إلا الله"، فأجاب يقول: (اعلم رحمك الله أن هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى، وهي العروة الوثقى، وهي التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه لعلهم يرجعون، وليس المراد بقولها باللسان مع الجهل بمعناها، فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار، مع كونهم يصلون ويتصدقون، ولكن المراد بقولها مع معرفتها بالقلب ومحبتها ومحبة أهلها، وبغض ما خالفها ومعاداته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله مخلصاً ... " وفي رواية: "صادقاً من قلبه" وفي حديث آخر: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله" ... إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة. فاعلم أن هذه الكلمة نفي وإثبات، نفي الألوهية عما سوى الله تعالى من المخلوقات حتى محمد صلى الله عليه وسلم حتى جبريل، فضلاً عن غيرهما من الأولياء الصالحين، إذا فهمت ذلك فتأمل هذه الألوهية التي أثبتها الله ونفيتها عن محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل وغيرهما أن يكون لهم منها مثقال حبة خردل، فاعلم أن هذه الألوهية هي التي يسميها العامة في زماننا السر والولاية، والإله معناه الولي الذي فيه السر وهو الذي يسمونه الفقراء الشيخ، ويسميه العامة السيد، وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن الإنسان يلتجئ إليهم ويرجوهم ويستغيث بهم، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله، فالذي يزعمه أهل الشرك في زماننا أنهم وسائطهم الذين يسمونهم الأولون الإله، والواسطة هو الإله، فقول الرجل: لا إله إلا الله، إبطال للوسائط، وإذا أردت أن تعرف هذا معرفة تامة فذلك بأمرين: الأول: أن تعرف أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلهم وغنم أموالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 واستحل نساءهم، كانوا يقرون لله سبحانه بتوحيد الربوبية، وهو أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمر إلا الله، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} وهذه مسأله عظيمة مهمة، وهي أن تعرف أن الكفار شاهدون بهذا كله ومقرون به، ومع هذا لم يدخلهم ذلك في الإسلام، ولم يحرم دماءهم وأموالهم، وكانوا يتصدقون ويحجون ويعتمرون، ويتعبدون ويتركون أشياء من المحرمات. ولكن الأمر الثاني: هو الذي كفرهم وأحل دماءهم وأموالهم، وهو أنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهية، وهو أنه لا يدعى ولا يرجى إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستغاث بغيره، ولا يذبح لغيره، ولا ينذر لغيره، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن استعان بغيره فقد كفر، ومن نذر لغيره فقد كفر، وأشباه ذلك، وتمام هذا أن تعرف أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الصالحين مثل الملائكة وعيسى وعزير وغيرهم من الأولياء، وكفروا بهذا مع إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر. إذا عرفت هذا عرفت معنى لا إله إلا الله، وعرفت أن من ناجى نبياً أو ملكاً أو ندبه أو استغاث به فقد خرج من الإسلام، وهذا هو الكفر الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قال قائل من المشركين نحن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر لكن هؤلاء الصالحين مقربون ونحن ندعوهم وننذر لهم، وندخل عليهم ونستغيث بهم بتلك الوجاهة والشفاعة، وإلا فنحن نفهم أن الله هو المدبر، فكل كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله، فإنهم يدعون عيسى وعزيراً والملائكة والأولياء يريدون ذلك، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 زُلْفَى} (الزمر: 3) ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس:18) . فإذا تأملت هذا تأملاً جيداً عرفت أن الكفار يشهدون بتوحيد الربوبية، وهو التفرد بالخلق والرزق والتدبير، فهم يناجون عيسى والملائكة والأولياء، يقصدون أنهم يقربونهم إلى الله. ويشفعون لهم عند الله، وعرفت أن الكفار خصوصاً النصارى من يعبد الله الليل والنهار، ويزهد في الدنيا ويتصدق بما دخل عليه منها معتزلاً في صومعة عن الناس، ومع هذا هو كافر عدو الله مخلد في النار بسبب اعتقاده في عيسى أو غيره من الأولياء، يدعوه ويذبح له وينذر له، فقد تبين لك صفة الإسلام الذي دعا إليه نبيك صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ"، فالله الله يا إخواني، تمسكوا بأصل دينكم وأوله وآخره، ورأسه وشهادة أن لا إله إلا الله واعرفوا معناها وأحبوها وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت، وعادوهم وأبغضوهم وأبغضوا من أحبهم وجادل عنهم ومن لم يكفرهم، وقال ما على منهم أو قال ما كلفني بهم فقد كذب على الله وافترى، فقد كلفه الله بهم وفرض عليه الكفر بهم والبراءة منهم ولو كانوا إخوانهم وأولادهم، فالله الله، تمسكوا بذلك لعلكم تلقون ربكم ولا تشركون به شيئاً، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.. ولنختتم كلامنا بآية ذكرها الله في كتابه تبين أن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم كفراً من الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} (الإسراء) . فقد سمعتم أن الله سبحانه ذكر عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر تركوا السادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 والمشائخ فلم يدعوا أحداً منهم، ولم يستغيثوا به بل أخلصوا لله وحده لا شريك له، واستعانوا به وحده، فإذا جاء الرخاء أشركوا، وأنت ترى المشركين من أهل زماننا، ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم وفيه زهد واجتهاد وعبادة إذا مسه الشر قام يستغيث بغير الله، مثل معروف أو عبد القادر الجيلاني، وأجل من هؤلاء زيد بن الخطاب والزبير، وأجل من هؤلاء مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله المستعان، وأعظم من ذلك وأطم أنهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة مثل شمسان وإدريس ويوسف وأمثالهم. والله سبحانه وتعالى أعلم. وهذه رسالة أخرى إلى أهل المغرب يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئاً وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد فقد قال الله تعالى: فقد قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108) . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: 31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) . وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . فأخبر سبحانه وتعالى أنه أكمل الدين وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع والتفرق والاختلاف فقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف:3) ، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) . والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته تأخذ ما أخذت الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع وثبت في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " وأخبر في الحديث الآخر أنه ستفترق أمته على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي". وإذا عرف هذا فمعلوم ما جئتم به من حوادث الأمور التي أعظمت الإشراك بالله والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات وكذلك التقرب إليهم بالزيارة وذبح القربات، والاستغانة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي لا تصح إلا لله. وصرف شيء من أنواع العبادات لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه وتعالى أغنى الأغنياء عن الشرك ولا يقبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه. وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين {لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) ، ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه: {لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس:18) . وأخيراً أن من جعل بينه وبين الله وسائط برسم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك به وإذا كانت الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} . فلا يشفع عنده إلا بإذنه، من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} (طه:109) ، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:18) . وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (يونس:106) . فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذنه ولا يشفع إبتداء بل يأتي فيخر لله ساجداً فيحمد إنعامه بمحامد نعمه إياماً، فيقول له: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع ثم يحد له حدائد يدخلهم الجنة، فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء. وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من المسلمين، قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهجهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وما صدر من سؤال الأنبياء والأولياء من الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وإسراجها والصلاة عندها واتخاذها أعياداً وجعل الصدقة والنذر لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها صلى الله عليه وسلم وحذر أمته منها وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد أقوام من أمتي الأوثان"، وهو صلى الله عليه وسلم حمى حماية الدين وحمى جانب التوحيد أعظم حماية ووسم كل طريق موصل إلى الشرك فنهى أن يجصص القبر، ويبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم من طريق جابر، وثبت فيه لفظاً أنه بعث علياً بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه ولا عالياً إلا طمسه ولذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القباب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل الأمر إلى أن قاتلونا وكفرونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعد ما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف الصالح من الأئمة ممتثلين قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: 39) ، فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان دعوناه بالسيف والسنان كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (الحديد:25) ، إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج بيت الله الحرام ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج:41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فهذا الذي نعتقد وندين لله به، فمن عمل ذلك فهو أخونا المسلم له مالنا وعليه ما علينا. ونعتقد أيضاً أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين للسنة لا تجتمع على ضلالة وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهو على ذلك، وصلى الله على محمد. ويقول عن حقيقة دعوته في رسالة "لعبد الرحمن بن عبد الله السويدي"، أحد علماء العراق: أخبرك أني ولله الحمد متبع، ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق لله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة1. ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله لا شريك له، ولا يشركوا به شيئاً، وهذا لا يرتاب فيه مسلم أنه دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه2.   1 مجموعة مؤلفات الشيخ "الرسائل الشخصية" ج5 ص 36. 2 انظر مجموعة رسائل المسائل النجدية ج1 ص 1344 مصر، ج3 ص367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن1 [282هـ-1367] في رسالة أرسلها إلى أهل الحجاز وعسير واليمن يبين ما قام به الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه: "اعلموا أن الذي نعتقده، وندين الله به، وندعو الناس إليه، ونجاهدهم عليهم هو دين الإسلام الذي أوجبه الله تعالى على عباده، وهو حقه عليهم الذي خلقهم لأجله، فإن الله خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به في عبادته أحداً من المخلوقين، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهم ... ونأمر بهدم القباب ونهدم ما بني على القبور، ولا يزاد القبر على شبر من التراب وغيره، ونأمر بإقام الصلاة جماعة في المساجد، ونؤدب من تخلف أو تكاسل عن حضورها وترك الحضور في المسجد، ونلزم ببقية شرائع الإسلام كالزكاة والصوم والحج للقادر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وننهى عن الربا والزنا وشرب الخمر، وعن لبس الحرير للرجال، وننهي عن عقوق الوالدين، وعن قطيعة الأرحام. وبالجملة فإنا نأمر بما أمر الله به في كتابه، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وننهى عما نهى الله [عنه] ونهى عنه رسوله، ولا نحرم إلا ما حرم الله، ولا نحل إلا ما أحل الله، فهذا الذي ندعوا إليه، ومن كان قصده الحق ومراده الخير والدخول فيه، التزم ما ذكرنا وعمل بما قررنا، فيكون له ما لنا وعليه ما علينا2.   1 ولد في الرياض سنة 1282هـ تولى القضاء، ورحل إلى عسير داعياً إلى الله، توفي 1367 هـ، من مشاهير علماء نجد ص 146. 2 انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية. ط (2) المكتب الهلالي –لبنان- 1385هـ ص290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وهذه رسالة موجهة إلى كافة المسلمين، يشرح فيها عقيدته: من محمد بن عبد الوهاب إلى من تصل إليه من المسلمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد، أخبركم أني -ولله الحمد- عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بينت للناس إخلاص الدين ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه خلاف عادة نشأوا عليها. وأيضاً ألزمت نفسي ومن تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله. ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع من المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه لكونه مستحسناً عند العوام، فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جداً، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، فنقول: التوحيد نوعان: توحيد الربوبية، وهو أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لا بد منه، لكن لا يدخل الرجل في الإسلام، بل أكثر الناس مقرون به، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية، وهو أن لا يعبد إلا الله لا ملكاً مقرباً ولا نبيا مرسلاً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث والجاهلية يعبدون أشياء مع الله، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة، فنهاهم عن هذا وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد ولا يدعي أحد لا الملائكة ولا الأنبياء، فمن اتبعه ووحد الله فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى أو الملائكة واستنصرهم والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إله إلا الله مع إقراره أنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو. وهذه جملة لها بسط طويل، ولكن الحاصل أن هذا مجمع عليه بين العلماء، فلما جرى في هذه الأمة ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وصار ناس من الضالين يدعون أناساً من الصالحين في الشدة والرخاء، مثل عبد القادر الجيلاني وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، صاح عليهم أهل العلم من جميع الطوائف، أعني على الداعين. وأما الصالحون الذين يكرهون ذلك فحاشاهم، وبين أهل العلم في أمثال هذا أنه هو الشرك الأكبر وعبادة الأصنام، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يدعى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس والقمر والصالحين والتماثيل المصورة على صورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 يعبدون الملائكة والصالحين، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله الرسل وأنزل الكتب تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الملائكة والأولياء والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب إليهم، وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله، فهم لا يدعونهم إلا في الرخاء، فإذا جاءت الشدائد أخلصوا لله. قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} الآية. واعلم أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين وداً وسواع ويغوث ويعوق ونسراً. وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله تعالى، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله تعالى لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، وأن جميع السموات السبع ومن فيهن، والأراضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره. فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 يشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وغير ذلك من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقرون بهذا كله، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه وهو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد، كما كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى ليلاً ونهاراً خوفاً وطمعاً، ثم منهم من يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين لأجل صلاحهم وقربهم من الله عز وجل ليشفعوا لهم، ويدعوا رجلاً صالحاً مثل اللات، أو نبيا مثل عيسى -وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على ذلك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} ، الآية. وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدين كله لله، والدعاء كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله- وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب لله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم -عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون. وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 لأجل هذه الأمور سواء كان ملكاً أو نبيا، أو ولياً أو شجرة، أو قبراً أو جنياً، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يقرون أن ذلك لله وحده، كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله. والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه، فإنه لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} . فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من معنى هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله. فإذا عرفت ما قلت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية، وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس اليوم فيه من الجهل بهذا، أفادك فائدتين: الأولى الفرح بفضل الله ورحمته، قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وأفادك أيضاً الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله، كما ظن المشركون خصوصاً إن ألهمك الله ما قص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم طلبوا منه قائلين: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَة} ، فحينئذ يعظم خوفط وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله. واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} ، وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكتب وحجج، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} . فإذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج، كما قال تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ، ولكن إن أقبلت على الله وأصغيت إلى حجج الله وبيناته، فلا تخف ولا تحزن: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} ، والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين، كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، فجنده هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان. وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من الله علينا بكتابه الذي جعله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 تَفْسِيراً} ، قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة. والحاصل أن كل ما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكله من البهتان، وما أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين، فإني لم بينت لهم كلام الله وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية، وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} ، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} الآية، وغير ذلك قالوا: لا يجوز العمل لنا ولا لمثلنا بكلام الله ولا بكلام الرسول ولا بكلام المتكلمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون. ولما قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم، فلما أبو ذلك نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله. وذكر كل ما قالوا بعدم تصريح الدعوة عند القبور والنذر لها، فعرفوا ذلك وتحققوه، فلم يزدهم إلا نفوراً. أما التكفير: فإني أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأئمة ولله الحمد ليسوا كذلك، وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكناً، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة وجزاء سيئة سيئة مثلها، وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فإن تبين لكم أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن الواجب إشاعته في الناس وتعليمه النساء والرجال، فرحم الله من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ونسأل الله أن يهدينا وإياكم لما يحب ويرضى، والله اعلم1.   1 مجموعة الرسائل والمسائل النجدية لبعض علماء نجد، ط5، مكتبة الإمام الشافعي –الرياض 1408هـ ص2-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الباب الخامس: نماذج من منهجه في الدعوة إلى العقيدة السلفية الفصل الأول: الأنموذج الأول حق الله على العباد وحق العباد على الله ... نماذج من منهجه في الدعوة إلى العقيدة السلفية الأنموذج الأول باب (حق الله على العباد وحق العباد على الله) وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56) ، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية (النحل: 36) ، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية (الإسراء: 23) ، وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآية (النساء: 36) . وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآيات (الأنعام: 151-153) . قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما ... } الآية (الأنعام: 151-153) . وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: "يا معاذ‍! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً"، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" أخرجاه في "الصحيحين". فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه. الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون:3 و5) . الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل. الخامسة: أن الرسالة عمَّت كل أمة. السادسة: أن دين الأنبياء واحد. السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت؛ ففيه معنى قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ000} الآية (البقرة 256) . الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبِد من دون الله. التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في [الأنعام 151-153] عند السلف. وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك. العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها الله بقوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} (الإسراء:22) . وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (الإسراء: 39) ، ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (الإسراء: 39) . الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} (النساء: 36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته. الثالثة عشرة: معرفة حق الله تعالى علينا. الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه. الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة. السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره. الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله. التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم. العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه. الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة. الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل. الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الفصل الثاني: الأنموذج الثاني فصل التوحيد ومايكفر الذنوب ... الأنموذج الثاني باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} الآية (الأنعام: 82) . عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". أخرجاه. ولهما في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى: يا رب، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله الله في كفة، مالت بهن لا إله الله"، رواه ابن حبان، والحاكم وصححه. وللترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم؛ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فيه مسائل: الأولى: سعة فضل الله. الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله. الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب. الرابعة: تفسير الآية "82" التي في سورة الأنعام. الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة. السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: "لا إله إلا الله" وتبين لك خطأ المغرورين. السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان. الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله. التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه. العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسموات. الحادية عشرة: أن لهم أعماراً. الثانية عشرة: إثبات الصفات، خلافاً للأشعرية. الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله" أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه. الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله. السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه. السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار. الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل". التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان. العشرون: معرفة ذكر الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الفصل الثالث: الأنموذج الثالث من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ... الأنموذج الثالث باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل:120) ، وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} (المؤمنون:59) . عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدِغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب". ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه. فقال: "ما الذي تخوضون فيه؟ " فأخبروه، فقال: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: "أنت منهم"، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: "سبقك بها عكاشة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فيه مسائل: الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد. الثانية: ما معنى تحقيقه. الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين. الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك. الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد. السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل. السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل. الثامنة: حرصهم على الخير. التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية. العاشرة: فضيلة أصحاب موسى. الحادية عشرة: عرض الأمم عليه، عليه الصلاة والسلام. الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها. الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء. الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده. الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة. السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني. الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه. التاسعة عشرة: قوله: "أنت منهم" علم من أعلام النبوة. العشرون: فضيلة عكاشة ... . الحادية والعشرون: استعمال المعاريض. الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الفصل الرابع: الأنموذج الرابع الخوف من الشرك ... الأنموذج الرابع باب الخوف من الشرك وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} (النساء: 48 و 116) . وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (إبراهيم: 35) . وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، فسئل عنه؟ فقال: "الرياء". وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار"، رواه البخاري. ولمسلم عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار". فيه مسائل: الأولى: الخوف من الشرك. الثانية: أن الرياء من الشرك. الثالثة: أنه من الشرك الأصغر. الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين. الخامسة: قرب الجنة والنار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد. السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئاً دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار ولو كان من أعبد الناس. الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام. التاسعة: اعتباره بحال الأكثر، لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} (ابراهيم: 36) . العاشرة: فيه تفسير "لا إله إلا الله" كما ذكره البخاري. الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الفصل الخامس: الأنموذج الخامس الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ... الأنموذج الخامس باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله وقوله الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108) . عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه. و"لهما" عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه". فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 يدوكون: أي يخوضون. فيه مسائل: الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبعه صلى الله عليه وسلم. الثانية: التنبيه على الإخلاص، لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه. الثالثة: أن البصيرة من الفرائض. الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: كونه تنزيهاً لله تعالى عن المسبة. الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله. السادسة: وهي من أهمها – إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم ولو لم يشرك. السابعة: كون التوحيد أول واجب. الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة. التاسعة: أن معنى: "أن يوحدوا الله"، معنى شهادة: أن لا إله إلا الله. العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب، وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها. الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج. الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم. الثالثة عشرة: مصرف الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم. الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال. السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم. السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب. الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء. التاسعة عشرة: قوله: "لأعطين الراية" إلخ. علم من أعلام النبوة. العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضاً. الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه. الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم وشغلهم تلك الليلة عن بشارة الفتح. الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى. الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: "على رسلك". الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال. السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا. السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة، لقوله: "أخبرهم بما يجب عليهم". الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله تعالى في الإسلام. التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يده رجل واحد. الثلاثون: الحلف على الفتيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الفصل السادس: الأنموذج السادس تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ... الأنموذج السادس باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَب} الآية (الإسراء: 57) . وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} الآية (الزخرف: 26-27) . وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه} الآية (التوبة: 31) . وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية (البقرة: 165) ، وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل"، وشرح هذا الترجمة: ما بعدها من الأبواب. فيه أكبر المسائل وأهمها: وهي تفسير التوحيد، وتفسير الشهادة، وبيَّنَها بأمور واضحة. منها: آية الإسراء، بيَّن فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر. ومنها: آية براءة، بيَّن فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهاً واحداً، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعائهم إياهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ومنها قول الخليل عليه السلام للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} (الزخرف: 26-27) . فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة: هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله. فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الزخرف:28) . ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 167) ، ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند حباً أكثر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده، ولم يحب الله؟!. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله"، وهذا من أعظم ما يبيِّن معنى "لا إله إلا الله"، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها، وياله من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الباب السادس: فيما قاله أحفاد الإمام محمد بن عبد الوهاب في إعتماده على الكتاب والسنة ... فيما قاله أحفاد الإمام محمد بن عبد الوهاب في اعتماده على الكتاب والسنة ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله: إن شيخنا رحمه الله (يقصد الإمام محمد بن عبد الوهاب) كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها، حيث ينادى لها، وهذا من سنن الهدى ومعالم الدين، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، ويأمر بالزكاة والصيام والحج، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه والنهي عنه، وقد تتبع العلماء مصنفاته رحمه الله من أهل زمانه وغيرهم فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يغلب. وأقواله في أصول الدين مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وأما في الفروع والأحكام فهو حنبلي المذهب، لا يوجد له قول مخالف لما ذهب إليه الأئمة الأربعة1. وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب: إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ولا يشركوا به شيئاً، وهذا لا يرتاب فيه مسلم أنه دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه2.   1 مجموعة الرسائل النجدية ط (1) 3/367. مطبعة المنار مصر –1344هـ. 2 مجموعة الرسائل النجدية ط (1) 3/367. مطبعة المنار مصر –1344هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: اعلموا أن الذي نعتقده، وندين الله به، وندعو الناس إليه ونجاهدهم عليه هو دين الإسلام الذي أوجبه الله على عباده، وهو حقه عليهم الذي خلقهم لأجله، فإن الله خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به في عبادته أحداً من المخلوقين، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، ونأمر بهدم القباب، ونهدم ما بني على القبور، ولا يزاد القبر على شبر من التراب وغيره، ونأمر بإقام الصلاة جماعة في المساجد، ونؤدب من تخلف أو تكاسل عن حضورها، وترك الحضور في المسجد، ونلزم ببقية شرائع الإسلام كالزكاة والصوم والحج للقادر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وننهى عن الربا والزنا وشرب الخمر والتتنى، وعن لبس الحرير للرجال، وننهى عن عقوق الوالدين وعن قطيعة الأرحام. وبالجملة، فإننا نأمر بما أمر الله به في كتابه، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وننهى عما نهى الله عنه ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نحرم إلا ما حرم الله، ولا نحل إلا ما أحل الله، فهذا الذي ندعو إليه، ومن كان قصده الحق ومراده الخير والدخول فيه، التزم ما ذكرنا وعمل بما قررنا، فيكون له ما لنا وعليه ما علينا1. ولا شك أن صدق الإمام ومن معه رحمهم الله تعالى، وعمق إيمانهم وصلابتهم، كلها عوامل أساسية في النتائج التي حققتها دعوة الإسلام على يد أبنائها في القرن الثاني عشر الهجري، فرحمة الله عليهم أجمعين.   1 الدرر السنية في الأجوبة النجدية عبد الرحمن بن قاسم ط (2) ج1 ص290-291. 1385هـ-بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الباب السابع: مؤلفات الإمام رحمه الله ... من مؤلفات الإمام "رحمه الله" لقد علمنا أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان مجاهداً بلسانه وسنانه، يقضي وقته في الدعوة إلى الإسلام بالتدريس والإفتاء، والرد على شبهات المشبهين، وجل رسائله وكتبه وأقواله في بيان توحيد العبادة، وتفنيد ما وقع فيه أكثر الناس من خرافات ووثنيات وبدع، ما أنزل الله بها من سلطان، وكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وكان يجهز الجيوش، ويبعث السرايا، ويكاتب أهل البلدان في عالمنا الإسلامي، ويكاتبونه، كان كما قال الشيخ حسين بن غنام: وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع وله رحمه الله مؤلفات، منها: 1- كتاب التوحيد ويحتوي على (66) باباً، وهو مختصر على الأبواب التالية: باب (1) فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب باب (2) من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب باب (3) الخوف من الشرك. باب (4) الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله. باب (5) تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 باب (6) من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه. باب (7) ما جاء في الرقي والتمائم. باب (8) من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما. باب (9) ما جاء في الذبح لغير الله. باب (10) لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله. باب (11) من الشرك النذر لغير الله. باب (12) من الشرك الاستعاذة بغير الله. باب (13) من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره. باب (14) قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ؟. باب (15) قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . باب (16) الشفاعة. باب (17) قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . باب (18) ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين. باب (19) ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 باب (20) ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله. باب (21) ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جانب التوحيد، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك. باب (22) ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان. باب (23) ما جاء في السحر. باب (24) بيان شيء من أنواع السحر. باب (25) ما جاء في الكهان ونحوهم. باب (26) ما جاء في النشرة. باب (27) ما جاء في التطير. باب (28) ما جاء في التنجيم. يقول عبد المجيد الخطيب -وهو عالم من علماء الحجاز، شرح الله صدره لهذا التوحيد فساق أبياتاً للثناء على الكتاب– فقال رحمه الله: ولقد أطال البحث في هذا وعدد ... مما له من وافر الثمرات وأجاد حتى لم يدع لسواه أي ... زيادة في القول والحاجات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 من قد دعا لله أعظم دعوة ... والناس في جهد وفي غفلات فأتي وبين ما يضر وما يفيد ... وما جرى الناس من هلكات ودعا لإخلاص العبادة للمهيمن ... عالم الحركات والسكنات بكتابه "التوحيد" في حق الإله ... على العبيد وأفضل الطاعات أعني به فخر الأئمة ناشر الدين ... الصحيح مقوض البدعات من أيقظ الأفكار في نجد ... حفزهم لدعوة ساير النسمات 2- كشف الشبهات: وهي رسالة طويلة وجهها الإمام إلى الناس كافة لمعرفة التوحيد. قال رحمه الله: "اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم إلى عباده. فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وآخر الرسل: محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كسر صور الصالحين، أرسله الله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون وذكرون الله، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، ويقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده، مثل: الملائكة، وعيسى وأمه مريم، وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد هو محض حق الله، لا يصلح منه شيء لغيره. وعدد صفحات الكتاب 39 صفحة. قال محمد الطيب الأنصاري: هذا وكشف الشبهات ألفه ... إمام وقته صحيح المعرفة محمد بن عابد الوهاب ... مجدد الدين بلا ارتياع1 وقال ضياء الدين رجب: ما ابن عبد الوهاب إلا إمام ... حمل اليوم راية التجديد قد أنار القلوب من شبهات ... كان في كشفها انتصار البنود2   1 البراهين الموضحات –محمد طيب الأنصاري. 2 نفس المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 3- رسائل الثلاث الأصول وأدلتها ويشير رحمه الله فيه إلى: أولاً: العلم أ- معرفة الله. ب- معرفة نبيه ج- معرفة دين الإسلام بالأدلة الثانية: العمل به الثالثة: الدعوة إليه الرابعة: الصبر على الأذى فيه 4- القواعد الأربع: ويشير الإمام رحمه الله بالقواعد الأربع تلك التي ذكرها الله في كتابه وهي: القاعدة الأولى: أن تعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بأن الله تعالى هو الخالق الدبر، وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام. القاعدة الثانية: أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 القاعدة الثالثة: إن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أناس متفرقين في عبادتهم، منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بينهم. والدليل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (سورة الأنفال: 39) . القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين، لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم دائماً في الرخاء والشدة، والدليل قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت:65) . 5- فضل الإسلام: ويشتمل على الأبواب التالية: باب "فضل الإسلام". باب "وجوب الإسلام". باب "تفسير الإسلام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 باب قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْه} . باب وجوب الاستغناء بمتابعته "يعني القرآن". باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام. باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه. باب ما جاء أن البدعة أشد من الكبائر. باب أن الله احتجز التوبة على صاحب البدعة. باب قول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} . باب قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} . باب ما جاء في غربة الإسلام، وفضل الغرباء. باب التحذير من البدع. كتاب أصول الإيمان. باب معرفة الله والإيمان به. باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . باب الإيمان بالقدر. باب ذكر الملائكة عليهم السلام والإيمان بهم. باب الوصية بكتاب الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 باب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم. باب تحريضه صلى الله عليه وسلم على لزوم السنة والترغيب في ذلك، وترك البدع والتفرع والاختلاف، والتحذير من ذلك. باب التحريض على طلب العلم، وكيفية الطلب. باب قبض العلم. باب التشديد في طلب العلم للمراء والجدال. باب التجوز في القول وترك التكلف والتنطع. 6- كتاب الكبائر ويشتمل على عدة أبواب، منها: باب أكبر الكبائر باب كبائر القلب باب ذكر الكبر باب ذكر العجب باب ذكر الرياء والسمعة باب الفرح باب اليأس من روح الله باب ذكر سوء الظن بالله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 باب ذكر إرادة العلو والفساد باب العداوة والبغضاء باب الفحش باب ذكر مودة أعداء الله باب ذكر قسوة القلب باب ذكر ضعف القلب أبواب كبائر اللسان باب التحذير من شر اللسان باب ما جاء في كثرة الكلام باب التشدق وتكلف الفصاحة باب شدة الجدال باب من هابه الناس خوفاً من لسانه باب البذاء والفحش باب ما جاء في الكذب باب ما جاء في إخلاف الوعد 7- مجموعة رسائل في التوحيد والإيمان وهي رسائل الأمور التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أهل الجاهلية، الكتابيين والأميين، مما لا يخفى للمسلم معرفتها: وهي تشتمل على ما يلي: الرسالة الأولى "مسائل الجاهلية". الرسالة الثانية "شرح ستة مواضيع السيرة". الرسالة الثالثة "تفسير كلمة التوحيد". الرسالة الرابعة "تلقين أصول العقيدة للعامة". الرسالة الخامسة "ثلاث مسائل" ما هي مسمياتها؟ الرسالة السادسة "معنى الطاغوت، ورؤوس أنواعه". الرسالة السابعة "الأصل الجامع لعبادة الله وحده". الرسالة الثامنة "بعض فوائد سورة الفاتحة". الرسالة التاسعة "نواقص الإسلام". الرسالة العاشرة "مسائل مستنبطة من قول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . الرسالة الحادية عشرة "ثمان حالات استنبطها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} الآية. الرسالة الثانية عشرة "ستة أصول عظيمة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الرسالة الثالثة عشرة "رسالة في توحيد العبادة". 8- كتاب الصلاة (أحكام الصلاة) . وتشتمل الرسالة على شروط الصلاة، وهي ما يلي: باب شروط الصلاة تسعة: الإسلام، والعقل، والتمييز، والطهارة، وستر العورة، واجتناب النجاسة، والعلم بدخول الوقت، واستقبال القبلة، والنية بالقصد. باب نواقض الوضوء ثمانية: الخارج من السبيلين، والخارج الفاحش من البدن، وزوال العقل بنوم أو غيره، ولمس المرأة بشهوة، ومس الفرجين لآدمي، وغسل الميت، وأكل لحم الجزور، والردة عن الله، أعاذنا الله منها. باب شروط الوضوء خمسة: ماء طهور، وكون الرجل مسلماً مميزاً، وعدم المانع، ووصول الماء إلى البشرة، ودخول الوقت في دائم الحدث. باب فراض الوضوء ستة أشياء: غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح جميع الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، والترتيب، والموالاة. باب أركان الصلاة أربعة عشر ركناً: القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع والرفع منه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والاعتدال، والسجود والرفع مه، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة في الجميع، والتشهد الأخير، والجلوس له، والتسليمة الأولى، وترتيب الأركان. باب موجبات الصلاة ثمانية: التكبيرات غير تكبيرة الإحرام. الثاني: قول: سمع الله لمن حمده، لإمام ومنفرد. الثالث: قول: ربنا ولك الحمد. الرابع: تسبيح الركوع. الخامس: تسبيح السجود. السادس: قول: رب اغفر لي، بين السجدتين، والواجب مرة. السابع: التشهد الأول، لأنه -عليه السلام- فعله وداوم على فعله وأمر به، وسجد للسهو حين نسيه. الثامن: الجلوس له. باب مبطلات الصلاة ثمانية: الكلام العمد، والضحك، والأكل، والشرب، وكشف العورة، والانحراف عن جهة القبلة، والعبث الكثير، وحدوث النجاسة. 9- كتاب مفيد المستفيد في تارك التوحيد ويشتمل على الأبواب التالية: باب يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان. باب في وجوب عداوة أعداء الله من الكفار والمرتدين والمنافقين. 10- مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو اختصار لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب السيرة النبوية لأبي محمد عبد الملك بن هشام، وقد ضمنه بعض الاستنباطات المفيدة مع ما أضاف إلى تلك المقدمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 النافعة التي بين رحمه الله بها واقع أهل الجاهلية اعتقاداً وسلوكاً، واستعرض التاريخ الإسلامي حتى دخول دولة بني العباس وخلافة المأمون. 11- مختصر الهدي النبوي وهو مختصر "زاد المعاد"، ويقع في 350 صفحة. 12- مختصر الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام "أحمد بن حنبل" ومؤلفه الفقيه "علاء الدين علي بن سليمان المرداوي الحنبلي" [817هـ-885هـ] وهو شرح لكتاب "المقنع" لموفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي [451هـ-620هـ] . 13- مختصر الشرح الكبير: ومؤلفه شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي [597هـ-682] ، وهو شرح لكتاب "المقنع" لموفق الدين عبد الله بن قدامة الحنبلي (ت620) ومؤلف الشرح الكبير هو ابن مؤلف المقنع. 14- تفسير سورة الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الشيخ رحمه الله تعالى: تضمنت الثلاث آيات ثلاث مسائل: الآية الأولى فيها المحبة، فإن الله منعم، والمنعم يحب على قدر إنعامه. والمحبة تنقسم إلى أربعة أنواع: محبة شركية، وهم الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 165-167) . المحبة الثانية: حب الباطل وأهله، وبغض الحق وأهله، وهذه صفة المنافقين. المحبة الثالثة: طبيعية، وهي محبة المال والولد، إذا لك تشغل عن طاعة الله ولا تعين على محارم الله، فهي مباحة. والمحبة الرابعة: حب أهل التوحيد، وبغض أهل الشرك، وهي أوثق عرى الإيمان، وأعظم ما يعبد به العبد ربه. الآية الثانية: فيها الرجاء. والآية الثالثة: فيها الخوف. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5) . {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي أعبدك يا رب بما مضى بهذه الثلاث: بمحبتك، ورجائك، وخوفك، فهذه أركان العبادة الثلاثة، وصرفها لغير الله شرك، وفي هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الثلاثة الرد على من تعلق بواحدة منهم، كمن تعلق بالمحبة وحدها، أو تعلق بالرجاء وحده، أو تعلق بالخوف وحده. فمن صرف واحدة منها لغير الله فقد أشرك. وفيها من الفوائد الرد على الطوائف الثلاث التي كل طائفة تتعلق بواحدة منها، كمن عبد الله بالمحبة وحدها. وكذلك من عبد الله بالرجاء وحده كالمرجئة، وكذلك من عبد الله بالخوف وحده، كالخوارج. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيها توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فيها توحيد الألوهية، و {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيها توحيد الربوبية. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6) ، فيها الرد على المبتدعين. وأما الآيتان الأخيرتان: ففيهما من الفوائد ذكر أحوال الناس، قسمهم الله ثلاثة أصناف: منعم عليهم، ومغضوب عليه، وضالون. فـ {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} : أهل علم ليس معهم عمل. و {الضَّالِّينَ} : أهل عبادة ليس معهم علم، وإن كان سبب النزول في اليهود والنصارى، فهي لكل من اتصف بذلك. الثالث: من اتصف بالعلم والعمل، وهو المنعم عليهم، وفيها من الفوائد التبري من الحول والقوة، لأنه منعم عليه. وكذلك فيها معرفة الله على التمام، ونفي النقائص عنه تبارك وتعالى، وفيها معرفة الإنسان ربه، ومعرفة نفسه، فإنه إذا كان رب، فلا بد من مربوب، وإذا كان هنا راحم، فلا بد من مرحوم، وإذا كان هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 مالك، فلا بد من مملوك، وإذا كان هنا عبد فى بد من معبود، وإذا كان هنا هاد، فلا بد من مهدي، وإذا كان هنا منعم عليه فلا بد من منعم، وإذا كان هنا مغضوب عليه، فلا بد من غاضب. فهذه السورة تضمنت الألوهية والربوبية، ونفي النقائص عن الله عز وجل، وتضمنت معرفة العبادة وأركانها، والله أعلم. 15- هدية طيبة: سئل الشيخ رحمه الله تعالى عن معنى: لا إله إلا الله. فأجاب بقوله: اعلم رحمك الله أن هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى، وهي العروة الوثقى، وهي التي جعلها إبراهيم عليه السلام كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون، وليس المراد بقولها باللسان مع الجهل بمعناها، فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار، مع كونهم يصلون ويتصدقون، ولكن المراد بقولها مع معرفتها بالقلب، ومحبتها ومحبة أهلها، وبغض من خالفها، ومعاداته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله مخلصاً"، وفي رواية: "خالصاً من قلبه"، وفي رواية: "صادقاً من قلبه". 16- الاستنباط 17- مختصر منهاج السنة: وهو اختصار كتاب منهاج السنة للإمام المجدد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 18- رسالة في الرد على الرافضة: وتتلخص في الرد على الرافضة الذين رفضوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبعوا خطوات الشيطان، فضلوا وأضلوا عن كثير من موجبات الإيمان بالله. 19- أحكام تمني الموت. 20- آداب المشي إلى الصلاة. 21- كتاب الطهارة. 22- مبحث الاجتهاد والخلاف. وهو عبارة عن رسالة مبحث الاجتهاد والخلاف، منقولة باختصار من كتاب "أعلام الموقعين" لمحققه ابن القيم، رحمه الله. 23- مختصر فتح الباري. وهو اختصار كتاب فتح الباري للإمام ابن حجر العسقلاني، رحمه الله. 24- مجموعة الحديث: وهي مجموعة الحديث على أبواب الفقه، ويحتوي على (2486) صفحة، وتضمنته أجزاء أربعة: 25- كتاب فضل القرآن. ولقد أورد ابن غنام في كتابه تاريخ نجد، تسعة من المؤلفات هي: كتاب التوحيد فيما يجب من حق الله على العبيد، وكتاب الكبائر، وكتاب كشف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الشبهات، والسيرة المطولة، ومختصر الهدى النبوي، ومجموع الحديث على أبواب الفقه، ومختصر الشرح الكبير، ومختصر الإنصاف1. كما أورد ابن بشر في كتابه عنوان المجد في تاريخ نجد ثمانية من المؤلفات وهي: كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، وكتاب الكبائر، والمسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، ومختصر الشرح الكبير، والإنصاف، وآداب المشي إلى الصلاة، ومختصر الهدي النبوي لابن القيم2. كما كتب كثيراً من الرسائل –سواء منها الموجز والمختصر، والمفصل التي تتناول مسألة العقيدة، وأنواع التوحيد، كما تناول في رسائله التوجيهات العامة للمسلمين –التي وجهها إلى العامة والخاصة، سواء في الداخل أو الخارج، وللأشخاص الذي يسألونه عن عقيدته. وتدور حول خمسة موضوعات هي: 1- عقيدته، وبيان حقيقة دعوته. 2- بيان أنواع التوحيد. 3- بيان معنى لا إله إلا الله وما يناقضها من الشرك. 4- بيان الأشياء التي يكفر مرتكبها. 5- توجيهات عامة للمسلمين في الاعتقاد.   1 انظر تاريخ نجد لابن غنام 1/84-85. 2 انظر عنوان المجد: لعثمان بن بشر 1/185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وتعني هذه الكتب في مجموعها بتوضيح التوحيد، وإزاله الشبهات، والرجوع بالناس إلى الدين الصحيح، نقياً مما ألصقه به المخرفون والملبسون. ومن رسائله المفيدة جداً "رسالة نواقض الإسلام"،1 فهي على اختصارها جليلة المعنى غزيرة العلم. وهي مثل لأسلوب المؤلف رحمه الله تعالى وطريقته في قرن المسألة بالدليل والبرهان على ما حباه الله عز وجل به من فهم عميق، وإدراك واستنباط.   1 وقد قامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية –جزي الله القائمين عليها خير الجزاء- بجمع مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وطبعتها في اثنى عشر مجلداً، عدا الكشافات التي اشتملت على ثلاثة مجلدات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الباب الثامن: طبيعة الدعوة ... طبيعة الدعوة ما من أحد يقلب صفحات التاريخ ويدرسها بعمق وروية إلا ويرى منذ اللحظة الأولى أنه لا يمكن الفصل بين العقيدة والحركة، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أن تلقى آيات القرآن الأولى طولب بالحركة باتجاه دلالئلها، وتكوين نفسه الشريف على أساسها، واستمر عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً في مكة يبني الإنسان المسلم ويعده إعداداً يتناسب مع الدور الذي سيقوم به في هذه الحياة، فلما تم بناء القواعد الصلبة التي أخذت على عاتقها مهمة الدعوة الإسلامية إلى أوسع مساحة مقدرة. جاء الأمر الإلهي بالحركة في اتجاه تكوية دولة الإسلام على الأرض بعد أن كونتها معاني لا إله إلا الله محمد رسول الله في أعماق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واستمر التدفق الحركي والعطاء المتميز لدولة القرآن الكريم في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت الفترة المدنية حركة دؤوبة من أجل ترسيخ دولة الحق والدفاع عن مقدراتها، وضرب قوى الباطل التي تشكل خطراً عليها، والسعي من أجل تنفيذ عالمية الإسلام، وإيقاف البغي عند حده، وإزالة الطواغيت من مراكز السلطة، وإلغاء التشريعات التي صممها ونفذها المتألهون في الأرض، تحقيقاً لقوله تعالى: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وقد رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه عملياً مؤشرات الدعوة العالمية وتحرير الناس من كافة الضغوط والجاهلية. وعبر الجهاد المضني الطويل، ومنذ الخطوات الأولى للإسلام كانت عقيدة التوحيد هي الدافع والمحرك والهدف، فهي تحرك صاحبها من الداخل بعطائها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 السخي ومطالبها الخيرة، وتناديه من خارجه كي ينهض إلى الأهداف الكبيرة، ويرقى إلى القمم الساحقة، ليحظى بالتكريم من الرب الرحيم القائل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء:70) . ولقد كان الإيمان الصحيح الذي أودعه الله تعالى في قلوب عباده وعقولهم بمثابة أساس مبدئي ودافع حضاري يشد القيم المبعثرة والإرادات المؤثرة والطاقات الفاعلة إلى هدف محدد وهو توحيد الواحد الأحد، وهذا التوحيد هو الذي دفع المسلمين إلى الخيرات والمكرمات والتقدم، وفتح لهم آفاق الغنى المادي والمعنوي عن طريق استغلال إمكانات المؤمنين وترغيبهم في تقديم مزيد من الأعمال الصالحة لإنقاذ الحياة والأحياء من مفاسد الشرك وشؤم الوثنية، وعبر مسيرة المسلمين الطويلة جابهوا تحديات سياسية وعسكرية ودولية انتصرت عليهم حيناً وهزموها أحياناً، وكان الدين الخالص والتوجه الصادق لله الواحد الأحد والعقيدة الراسخة هي التي ترد كيد الأعداء إلى نحورهم، وتوقف زحف القوى المضادة، ولا توجد أمة على وجه الأرض تعرضت لهجمات عنيفة متلاحقة مثل أمتنا الكريمة هذه، ويكمن سر قوتها في عقيدتها، فإذا تهاونت فيها ضعفت وطمع بها الأعداء، وما تاريخ هجمات الوثنية العربية ... والفارسية والبيزنطية والصليبيية والمغول والإسبان وقوى الاستعمار القديم عنا ببعيد، وكل هذه الهجمات اتدحرت وخرج عالم الإسلام منتصراً بسبب الإيمان الذي لمّ شتات المسلمين وحقق لهم انتصارات جديدة في جبهات جديدة كانت التعويضات فيها أكبر حجماً من الخسارة، وهذه سمة التوحيد الأصلية وفعله بأبنائه المخلصين. ونظرة واحدة إلى امتداد الإسلام في آسيا وأفريقيا وأوربا تكفي دليلاً على عظمة المسلم الصادق إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 تحرك بإيمانه أما إذا تهاون في طاعة ربه وأخلد إلى الدعوة، وترك العلم النافع والعمل الصالح، فإن الله تعالى يبتليه بضغوط لا ترحم واحتلال يفترس كثيراً من أرضه، وركام الأحداث التاريخية عبر القرون يشهد على تسيب المسليمن والتزامهم، وما هذا التسيب والإهمال في حياة المسلمين إلا بقعاً سوداء محدودة في ثوبهم الأبيض الواسع الجميل. والتاريخ يحدثنا عن الجهود الكبيرة التي بذلها مصلحون مسلمون، توفرت فيهم النية لمخلصة والإيمان الصادق والالتزام المسؤول والذكاء الواعي، أعادوا بناء الأمة على ضوء معطيات الإسلام كتاباً وسنة واجتهاداً ورصيداً تشريعياً، وذكروها بمصدر شرفها وكرامتها وقوتها، والتي لن تجد في أيّ بديل عنه إلا التمزق والتغرب والانقطاع. ومن هنا فقد كانت أمتنا تحمل في قلبها وعقلها ووجدانها الاستعداد للعودة إلى الله جل وعلا كلما ظهرت قيادة واعية مؤمنة تخرجها من عبادة العباد على عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الباب التاسع: التمهيد للدعوة ... التمهيد للدعوة بدأت دعوة الشيخ الإمام هامسة تمشي على إشفاق بين ظلام البدع والمنكرات ووسط معاقل المشعوذين في نجد، فكانت أشبه بخيوط الفجر تندس في أحشاء الليل لتطارد بين يديها جحافل الظلام الكثيف من تصورات الأوهام التي لا يكاد يشعر بها أحد ممن لفهم الليل البهيم بردائه إلا قليل من أولئك الذين لمحوا على الأفق البعيد بشريات الصباح، فأزعجوا طائر النوم من عيونهم، وانتظموا في موكبها يستقبلون يوماً من أيام الله المباركة، وتكونت الخميرة الأولى للدعوة المباركة في المدينة المنورة يوم كان ابن عبد الوهاب رحمه الله طالباً فيها، حيث رفع بصره ورأى أعمال الجهالة عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقلقته هذه البدع وأقضت مضجعه، ولما سافر إلى البصرة ازداد شعوره بأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد عانى أنواعاً من المحن حيث اضطر إلى مغادرة البصرة والعودة إلى حريملاء، وزاد تصميمه على منازعة الشرك ورفع راية التوحيد والتركيز على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له إعلاء لكلمة الله عز وجل، فنهض رحمه الله تعالى ينكر بشدة على الدجاجلة والرؤساء وغيرهم ما ألصقوا بدين الله تعالى من منكرات البدع والأهواء. وأخذ الشيخ يجهر بدعوته قولاً وعملاً، ولكن والده منعه من ذلك خوفاً على ابنه من ثورة العوام، فاتجه الشيخ للبحث والتحصيل والتفكير في أنجح الوسائل، وأصح الأساليب لدعوة الناس، فألف كتاب التوحيد الذي يعتبر قاعدة الانطلاق، فلما مات أبوه عبد الوهاب رحمه الله أعلن دعوته وأعاد نشاطه، وعلى ضوء المستجدات يومها قرر الشيخ محمد أن "حريملاء" لا تصلح لنشر الدعوة بسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 عدم استتباب الأمن فيها، وانقسام أهلها، وكذلك انقسام الحكم فيها، مما جعل الشيخ يتعرض لخطر عبيدها الذي ضاقوا ذرعاً بزجر الشيخ لهم وحده من تماديهم وفسقهم، حتى أنهم قرروا قتل الشيخ1، فعاد الشيخ رحمه الله إلى مسقط رأسه "العيينة"2، فهو يعرف أهلها ويعرفونه، والحكم فيها مستقر نوعا ما، وكان حاكم العيينة في ذلك الوقت "عثمان بن أحمد بن معمر"3، الذي تفهم دعوة الشيخ رحمه الله، وقبل عرضه الذي تلقاه بكل احترام وتقدير، ووعد بالمساعدة والنصرة بعد أن سمع من الشيخ قوله: "إني لأرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله تعالى وتملك نجداً وأعرابها"4. وبدأ الشيخ الإمام يصدع بدعوته ويهتف بالشاردين عن الحق، ولا يكترث بأمر ليس له من دين الله تبارك وتعالى سند، وهو يعلم أنه في جرأته على أعراف الجاهلية وتقاليدها سوف يلاقي العنت، بيد أنه لا ينبغي أن يخشى في الله   1 دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: تأليف محمد بن عبد الله سليمان السلمان ص 131. 2 العيينة: تقع شمال غرب الرياض على بعد خمسة وأربعين كيلو متراً، أنشأها آل معمر في منتصف القرن التاسع الهجري. 3 هو عثمان بن حمد بن عبد الله بن معمر، تولى إمارة بلدة العيينة بعد ما قتل أخوه محمد سنة 1142هـ، وقد ناصره الشيخ محمد بن عبد الوهاب عندما انتقل إليه بعد وفاة والده (1153هـ) ، ولكنه لم يستمر طويلاً، طرده في سنة 1157هـ تلبية لطلب حاكم الإحساء، ولكنه ندم فيما بعد فلحق به في الدرعية، وطلب منه العودة معه، فلم يجبه الشيخ إلى طلبه فعاد إلى العيينة، ثم رأى أنه لا بد له من مناصرة الشيخ والأمير محمد بن سعود، فأيدهما وناصرهما في مواطن =عدة، وقاتل معهما أعداءها، إلا أن بعض رجاله من أنصار الشيخ ذكروا أنهم تحققوا منه نقض العهد سراً، وموالاة الأعداء، فقتلوه في مسجد العيينة بعد انتهائه من الجمعة سنة 1163هـ، 1750م. انظر الإعلام: خير الدين الزركلي 4/204-205. 4 عنوان المجد ج4 ص 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 عز وجل لومة لائم، وعليه أن يمضي إلى غايته لا تثنيه قوة النقد ولا جراحات الألسنة. والباطل الذي يروج حيناً ثم يثور المصلحون عليه فيسقطون مكانته ويزهقونه لا يبقى على كثرة الأشياع أمداً طويلاً، ورب مخاصم اليوم من أجل باطل انخدع به أمسى نصيراً لمن خاصمهم مستريحاً إلى ما علم منهم مؤيداً لهم بعد شقاق، ولهذا كان الشيخ شاعراً بقوة اليقين في شخصه وروعة الإيمان في نفسه بأنه على حق، وواجبه الشرعي أن يثبت كالطود الأشم لم تجفه التيارات السائدة ولا تؤثر في مواقفه الآراء الفاسدة، وماذا يفعل الناس مع امرئ اعتز بإسلامه، واستشعر القوة والشجاعة لصلته بربه واستقامته على منهجه، إنه واثق من أنهم لو تألبوا عليه جميعاً ما نالوا منه قليلاً ولا كثيراً، فهو الآمن لا يخاف، والقوي لا يضعف، والمنتصر لا يهزم، فقد علمه الإسلام أن البقاء للأصلح مهما علا الزبد وربى، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (الأنبياء:105-106) . وأن انحرافات الجاهلية وتصوراتها لا قيمة لها، وللشيخ رحمه الله تعالى قدوة وأسوة في إبراهيم الخليل عليه السلام بعد اهتدائه إلى ربه عز وجل، واطمئنانه إلى ما وجده في قلبه منه، وحاجة قومه، قال: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ. وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 إن أحداث التاريخ تتشابه، وقد رأى الشيخ المجدد رحمه الله من الانحرافات والضلال مثلما رأى إبراهيم عليه السلام من عبادة الأصنام والكواكب والنجوم، ومثلما كانت عليه قريش قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ألواناً من الشرك والمظالم، فالسواد الأعظم في نجد لا يفهم الإسلام، وهناك الهمجية، وقتل النفس التي حرمها الله عز وجل وذبح الخراف على الأشجار والأحجار، اعتقاداً من العامة أنها تنفع وتضر، وأصبحت أكثر عادات الناس وتقاليدهم لا تختلف كثيراً عن عادات أهل مكة قبل الإسلام. فالنجدي تراه يتفاءل ويتشاءم بالسوانح والبوارح، ويذهب إلى العرافين والكهان والمشعوذين، وقد ارتدت الخرافات والأباطيل مسوح العبادة وشملت أكثر الحواضر والبوادي "فعدلوا عن عبادة الله وحده إلى عبادة الصالحين والأولياء، وجدوا في الاستغاثة بهم في النوازل والخطوب، وأقبلوا عليهم يطلبون قضاء الحاجات والمطالب، واستغلق طبعهم وفقدوا إدراكهم وتمييزهم حتى اعتقدوا في الأحجار والأشجار أنها تضر وتنفع، ووهبوها أعمالاً يعجز أن يقوم بها الآدميون بل يعجز الأنبياء والمرسلون، كما اعتقدوا فيها التصرف التام والقداسة، فكانوا يأتونها في كل حين يتبركون بها ويتمسحون ويطلبون منها حاجياتهم. وكان في بليدة الفداء1 ذكر النخل المعروف بالفحال، يأتي إليه الرجال   1 راجع بتوسع الحياة في نجد من كتاب محمد بن عبد الوهاب، تأليف أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثالثة، الناشر مكتبة العرفان –بيروت 1392هـ-1972م، ص 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 والنساء زرافات ووحدانا ويفعلون عنده من الأفعال المنكرة ما لا يقبله الإنسان ذو الضمير الحي والذوق السليم، يرتكبون عنده المنكرات ويصلون له ويتبركون به، وتأتيه المرأة التي لا يتقدم إليها الخطاب فتعانقه وتقول في بكاء ولوعة واحتراق: يا فحل الفحوا ارزقني زوجاً قبل الحول، ثم تأخذ في إغواء بعض الشبان حتى إذا اصطادت واحداً منهم وتزوجت به خيل إليه أن ذلك من عمل فحل الفحول. وهناك قبر "ضرار بن مالك" الذي يزعمون أنه شعيب غبيراء1، وكذلك قدسوا شجرة الطرفية تقديساً كبيراً، فإذا ولدت المرأة ذكراً علقت عليها حبلاً أو قطعة من قماش طلباً من الطرفية أن تطيل عمره، فكان الرائي إذا أبصرها لا يكاد بيصر الأغصان والأوراق والساق لكثرة الحبال، وقطع الأقمشة، بل يظن الرائي أول وهلة أن ما يرى ليس إلا كومة من الحبال، وقطع الأقمشة لكثرتها. وفي الدرعية2 جبل بسفحة غار كبير، يزعم الجهلاء أنه لفتاة حسناء تدعى بنت الأمير، يحجون إليها، ويستغيثون بها، اعتقاداً منهم أن الفتاة من أولياء الله الصالحين، وسبب هذا الاعتقاد الزائغ –كما يقول ابن غنام- أن بنت الأمير أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير،   1 هو ضرار بن مالك "الأزور" ابن أوس بن خزيمة الأسدي، أحد الأبطال في الجاهلية، والإسلام، قاتل يوم اليمامة أشد قتال حتى قطعت ساقاه، فجعل يحبو على ركبتيه ويقاتل والخيل تطأه، ومات بعد أيام في اليمامة سنة 11هـ 633م. 2 الدرعية: مدينة بناها في وادي حنيفة "مانع المريدي" الجد الأعلى لآل سعود حوالي سنة 850هـ، 1446م، وظلت عاصمة حكمهم حتى دمرها إبراهيم باشا بن محمد بن علي سنة 1233هـ -1818م. وما زالت أطلالها قائمة حتى الآن قرب الرياض. انظر: العلاقات بين نجد والكويت ص 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فأنقذها من ذلك السوء، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز، ويبعثون بصنوف الهدايا، ونسوا قوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات:95-96) . ويزعم المبطلون أن رجلاً بالخرج أعمى كان يقطع البراري سيراً على الأقدام من بلده الدرعية. يقول ابن غنام: وكان عندهم رجل من الأولياء اسمه (تاج) ، سلكوا فيه سبيل الطواغيت، فصرفوا إليه النذور، وتوجهوا إليه بالدعاء، واعتقدوا فيه النفع والضر، وكانوا يأتونه لقضاء شؤونهم أفواجاً، وكان هو يأتي إليهم من بلده الخرج إلى الدرعية لتحصيل ما تجمع من النذور والخراج، وكان أهل البلاد المجاورة جميعهم يعتقدون فيه اعتقاداً عظيماً، فخافه الحكام وهاب الناس أعوانه وحاشيته، فلا يتعرضون لهم بما يكرهون، ويدعون فيهم دعاوي فظيعة، وينسبون إليهم حكايات قبيحة، وكانوا لكثرة ما تناقلوه وأذاعوها يصدقون ما فيها من كذب وزور، فزعموا أنه أعمى، وأنه يأتي من بلده الخرج من غير قائد يقوده، وغير ذلك من الحكايات والاعتقادات التي ضلوا بسببها عن الصراط المستقيم1. يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الله في كتاب منهاج التأسيس: فصار هذا الأمر طبق ما أخبر به هذه الأمة نبيها، وظهر وجه الشبه بينهم وبينها، وانتهى الحال إلى أن   1 روضة الأفكار والأفهام 7/ ج7 ط2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قيل بالاتحاد والحلول، وكثرت في ذلك إشارات القوم والتقول، وصار هو مذهب الخاصة عند الأكثرين، ومن أنكره فهو عندهم ليس على شيء من العلم والدين، وعبدت الكواكب والنجوم، وصنف في ذلك مثل أبي معشر وصاحب السر المكتوم، وعظمت القبور، وبنيت عليها المساجد، وعبدت تلك الأضرحة والمشاهد، وجعلت لها الأعياد الزمانية والمكانية، وصرفت لها العبادات المالية والبدنية، ونحرت لها النحائر والقرابين، وطاف بها الفوج بعد الفوج من الزائرين والسائلين، وحلقت لأربابها رؤس الوافدين، واستبيح فيها ما اتفقت على تحريمه جميع الشرائع والنبوات، وكثر المكاء والتصدية بتلك الفجاج والعرصات، وبارزوا بتلك القبائح العظام رب الأرض والسموات، وصنف في استحبابه بعض شيوخهم، كابن المفيد، وظنه الأكثر من دين الإسلام والتوحيد1. وأصبح الناس في كل البلاد الإسلامية فضلاً عن نجد أمكنه خاصة يقدسونها ويحجون إليها، ويطلبون منها ويستغيثون بها ويذبحون لها، ويعكفون عليها، كما في مصر والشام والعراق، ودول المغرب العربي، وآسيا وأفريقيا، وقد أدرك الشيخ المجاهد والإمام المجدد أن إيمانه يفرض عليه أن لا يستكين، وقد أنس من قلبه قوة الاستجابة لدواعي الهدى، ودين الحق، وعليه أن يحيا بالإسلام وللإسلام، ويعري تجار الأباطيل والدجل والاستغلال، وليخط لنفسه نهجاً يلتمس به مثوبة الله عز وجل، ولئن كانت الأوهام والخرافات تغري البعض، فإن الإيمان الصادق بالله عز وجل يجعل أهله راسخين أقوياء، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا   1 منهاج التأسيس عبد اللطيف عبد الله، نقلاً من غاية الأماني في الرد على النبهاني –الألوسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً. إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان:41-42) . فلا بد إذن من البراءة الحاسمة الجازمة من جميع المعبودات الباطلة، ففي تجربة إبراهيم الخليل مع قومه درس كبير وأسوة حسنة لكل مسلم إلى يوم الدين، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (الممتحنة:4) . وقام الشيخ رحمه الله تعالى يدعوا إلى الله وحده، ودخلت الدعوة المباركة مرحلة جديدة بمساعدة أمير العيينة عثمان بن حمد بن معمر، ونجح الشيخ في القضاء على بعض مراكز البدع، "تمثل ذلك في أمور ثلاثة": 1- هدم القباب المقامة على القبور، مثل قبر "زيد بن الخطاب"1، وفي الجبيلة2، وقد بدأ الشيخ بنفسه في هدم القبة، ثم تبعه أصحابه فهدموها. 2- قطع الأشجار التي يتبرك بها العامة، مثل شجرة "الذيب" في العيينة، قطعها الشيخ بنفسه، وشجرة "قريوه" في الدرعية.   1 هو زيد بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي، صحابي جليل من شجعان العرب في الجاهلية والإسلام، أسلم في مكة قبل الهجرة، وشهد المشاهد كلها، ثم كانت راية المسلمين في يده يوم اليمامة فثبت إلى أن استشهد، وكان ذلك سنة 12هـ 633م. انظر: الأعلام للزركلي 3/58. 2 قرية دارت في المعركة الكبرى بين المسلمين والمرتدين من أهل اليمامة، وذلك سنة 13هـ، =واستشهد فيها عدد من الصحابة ودفنوا في ثراها، وقيل بنيت قبة على قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه فكان العامة يتبركون بها ويطوفون حولها حتى هدمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 3- رجم الزانية التي جاءت إلى الشيخ وأقرت بالزنا، وطلبت إقامة حد الله عليها، وأقرت عند الشيخ أربع مرات في أربعة أيام، فلما تيقن الشيخ من توفر شروط إقامة الحد عليها أمر بها، فرجمت لأنها محصنة، وكان "عثمان بن معمر" أول من بدأ برجمها. لقد بهرت الأعمال كلها الناس، لأنها أشياء جديدة لم يعتادوها، مما جعلهم أما ذلك قسمين: قسم آمن بذلك وأقر به. وقسم أنكره وحاربه. وكان من ضمن هؤلاء -المنكرين- حاكم الإحساء من بني خالد، وهو سليمان بن محمد بن غرير، الذي كان له ما يشبه النفوذ السياسي على حاكم العيينة، لذلك أرسل "ابن غرير" إلى معمر حاكم العيينة برسالة يتوعده ويتهدد بقطع راتبه السنوي إن لم يخرج الشيخ من بلده، ولما لم تكن دعوة الشيخ قوية في تلك الفترة، بحيث يعرض ابن معمر بهذه القوة ما يفقده من كسب مادي1 من حاكم   1 لا يخفى على العاقل البصير أن القوة المادية لها أهمية عظيمة في نشر الدعوات والأفكار مع القوة المعنوية والحجج والبراهين. فإن أي دعوة إذ لم يكن لديها من القوة ما يحميها ويذود عنها سرعان ما تتكالب عليها قوى الشر والطغيان حتى تستأصل خضراءها، وتظهر هذه الأهمية من قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} سورة الحديد، وكذلك قوله: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} الإسراء:81. قال قتادة: فيها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله ولحدود الله ولفرائض الله، ولإقامة دين الله، فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم. قال ابن كثير: وهو الأرجح: لأنه لا بد من الحق من قهر ممن عاداه، وناوأه ... وفي الحديث: "إن الله ليذع بالسلطان ما لا يذع بالقرآن"، تفسير ابن كثير 3/64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الإحساء، فقد أذعن ابن معمر لتهديده، وأمر الشيخ بالخروج1 إلى أي بلد يشاء، فاختار الدرعية لقربها من ناحية، ولما يعرفه من سيرة حسنة لحاكمها إضافة إلى استقلال صاحبها وعدم خضوعه لسيطرة خارجية ولقد أحسن الشيخ الاختيار، فكان انتقاله موفقاً2، ولا ننسى أن الابتلاء على طريق الدعوة سنة الله عز وجل في صنع الدعاة إلى دينه ونهجه، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:3) . ولا يعرف المسلم قيمة دعوته، ولا يذوق حلاوة توحيده إلا بعد أن تتعرض نفسه ومشاعره وجوارحه وأحاسيسه وغرائزه للامتحان والابتلاء، فيثبت أو ينهزم، ينجح أو يرسب. إن هذا الدين صلب في مقاومة الباطل وأهله، ومواجهة زيفهم ومبادئهم بالهدى الناصع، والحجة البينة، ولذا احتاج هذا الدين إلى نوع من الناس يستطيع   1 الهجرة سنة الرسل عليهم السلام وسبيل الدعوات، وقد ذكر الأستاذ: مسعود الندوي في كتابه "محمد بن عبد الوهاب" ص 49 ما نصه: فوقع عثمان في حيرة وغلب وطمع الدنيا على حماية دعوة التوحيد، ولعل الدعوة لم تكن قد رسخت في قلبه بعد، ولعله ما كان يعرف تلك النعم التي تنزل على من يقوم بنصرة الحق. 2 دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأثرها في العالم الإسلامي، تأليف محمد بن عبد الله بن سلمان السلمان الطبعة الأولى 1407هـ-الناشر مكتبة دار البخاري بريدة ص31-32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أن يحمل ذلك الهدى الناصع، ويدلي بالحجة البينة، فيأخذ هذا الكتاب الإلهي بقوة بعد أن تتشربه نفسه وتعيشه جوارحه فيتحرك به وينطلق به طمعاً بالصفقة الرابحة التي ضمنها الله عز وجل، ولوح لطالبها بمغفرة الذنوب والرحمة في الحساب، فقال: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء:100) . فمن يتحول من أرض إلى أرض في سبيل الله عز وجل يكرمه الله عز وجل، ويفسح له في صدره، ويوسع عليه رزقه، ويمكن له في الأرض، ويذكر له في السماء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " ... فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"، فتحول الداعية إلى مكان يطمئن فيه على دعوته، وصبره وثباته أمام الفتن هو الذي يجعل الدين عزيزاً في نفسه، وبقدر عزته يكون تمسكه به، وهذا الدين من يطلبه يطلب الجنة، وينجو بنفسه من عذاب الله.. فهل لهذا المطلب أثمان يقدر بها في هذه الدنيا؟! فالداعية الصادق يتخطى المصالح والرغائب الفانية، وإن جهده وبذله وعطاءه وبلاءه لله عز وجل، لا ينتظر من ورائه مغنماً عاجلاً، أو مصلحة وقتية، وإنما أجره مدخر مؤجل عند الله تعالى وهو الجنة، فإن عجل الله تعالى له المغنم مادة أو رياسة أو سيادة فإنما ذلك بتفضل من الله تعالى، وليس داخلاً في بيعته عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ومن هنا فقد أخلص الشيخ نيته ووطن نفسه على طريق الابتلاء دون تمني ذلك، وقد وضع نصب عينيه قول نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" 1.   1 روضة الأفكار والأفهام ج 7، ظ2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الباب العاشر: نور التوحيد وبأس الحديد يصنعان الأبطال ... نور التوحيد وبأس الحديد يصنعان الأبطال ليس للجهاد الإسلامي هدف سوى إزالة العقبات من طريق الإسلام كي يتاح تبليغه للناس في جو خال من الضغط والفتنة، فكان لا بد من أجل مصلحة الإسلام، بل مصلحة شعوب الأرض، أن يزاح هؤلاء الذين يعترضون على دعوة الله عز وجل الهادي بحد السيف حين لا يكون بد من ذلك. لأن المسلمين ما كانوا ليستطيعوا بحسب تعاليم دينهم التضحية بمصلحة الحياة والأحياء من أجل حفنة من المنحرفين والدجالين والطواغيت. وليس من المعقول أن توصف الحرب في الإسلام بدفاع أو هجوم كما نسمع من بعض الكتاب الإسلاميين اليوم، فهذا الوصف غير وارد، ويتضح لنا ذلك من خلال الظروف التي واجهها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة، والمعاهدات التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود، وكيف أنه صلى الله عليه وسلم ترك لنا منهاجاً كاملاً نواجه به أية عقبة تبدو في طريق الإسلام العزيز، مواجهة مكافئة لطبائع الأمور، وحسب مصلحة الإسلام وحده، فلا داعي إذن لتسمية الحرب في الإسلام دفاعاً أو هجوماً، إنما هي مصلحة الدين، أو مصلحة الدنيا بأسرها. وجميع الغزوات التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسرايا التي أرسلها تكمن وراءها مصلحة الدعوة الإسلامية، والتمكين لها، وتهيئة الأسباب الموضوعية لتسهيل وصولها إلى الناس كي يعتنقوها ويحققوا باعتناقها مصلحة الدنيا والآخرة، وبما أن أمة الإسلام هي أمة عقيدة ودعوة، وأن دعوتها هي سبب صلتها بشعوب الأرض، هذه الصلة القائمة على عقيدة التوحيد اتخذت شكل منهج متكامل متكاملاً يواجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 مختلف الاحتمالات بما يناسبها، وأن الجهاد عنصر أصيل1 في هذا المنهج الذي تخطى بسموه وشموله وتوازنه كل الحدود والحواجز التي تنتهي إليه أو تتهاوى عنده المبادئ الأخرى، سواء كانت هذه الحدود لغوية أو سياسية أو عرقية أو جغرافية أو نحوها، وهو بذلك يفتح أبواب رحمة الله عز وجل لأهل الأرض أجمعين، فلا يعقل بعد هذا الفيض الغامر من الخير أن نسمي الجهاد فيه بأنه حرب دفاعية أو هجومية، وإنما الصحيح أن الجهاد في الإسلام عنصر من عناصر المنهج الذي يواجه مختلف الاحتمالات والظروف، وما هو إلا إزالة للحوائل والعقبات التي تعترض مسار دعوة الله الواحد القهار، وأن التحرك لبدء الآخرين بالدعوة إلى الإسلام هو من خصائص هذا الدين، لأنه من السذاجة بمكان أن يتصور الإنسان بقوة عازمة على إخراج البرية من الظلمات إلى النور، ثم يقف أما عقبات الأعداء ليجاهد باللسان والبيان فحسب، وهذا لم يقل به أحد من سلف هذه الأمة الكريمة على ربها سبحانه وتعالى، لأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية توجب على المسلمين الجهاد كعنصر من عناصر منهج المواجهة لإخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى، وإبلاغ الناس مصلحتهم الحقيقية في العاجلة والآجلة، وشعار المسلمين في ذلك قول الله عز وجل:   1 لقد تجنب الإسلام لفظة الحرب لأنها كانت ولا تزال تطلق على القتال الذي يشب لهيبه وتستعر ناره بين الراجل والأحزاب والشعوب لمآرب شخصية وأغراض ذاتية، والغايات التي ترمي إليها لا تعدو أن تكون كذلك، وبما أن القتال المشروع في الإسلام ليس من قبل هذه الحروب، لم يكن بد من ترك هذه اللفظة (الحرب) البتة، واستعمال لفظة "الجهاد" لأداء مهمته وتبين تفاصيل دعوته، لأنها أبلغ منها تأثيراً وأكثر منها -يعني لفظة الحرب- إحاطة بالمعنى المقصود، والجهاد المستطاع للوصل إلى الغاية العظمي، وهي أن تكون الأرض ومن عليها لله وحده لا شريك له، والكلمة العليا فيها لله عز وجل، والدين كله فيها لقيوم السموات والأرض، سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) . ولا بد من الجهاد لإماطة العقبات عن الطريق، وهذه سنة الله تعالى، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40) . ولن تتم مصلحة الناس قاطبة إلا عندما يهيمن الإسلام على سلوكهم ومعاملاتهم، ويلتقون على العقيدة الصحيحة والدعوة الربانية، ولما كانت جزيرة العرب هذه الجزيرة التي انبعث منها أعظم رسالة عرفتها البشرية، وأخلد أمانة تقوم عليها خلافة الإنسان في الأرض، وتعتصم بها الإنسانية كلما دهمها طوفات الفتن، وزلزلت كيانها أحداث الحياة، هذه الجزيرة مهد العرب ومنجم الفضائل البشرية التي أمد العالم بأكرم عناصر الحرية والكرامة والحق والعدل والإصلاح ... هذه الجزيرة كانت ولا تزال تدخر تلك العناصر التي تتوثب بين الفينة والفينة لتؤدي رسالتها الخالدة وتستأنف دورها التاريخي المتجدد على مر العصور، ولقد جعل الله عز وجل أول بيت وضع للناس بمكة المكرمة تهوي إليه القلوب وتشخص الأبصار، وتتمثل فيه وحدة العبادة، وتتجمع حوله وحدة المشاعر والغايات، وتتفاعل على أرضه الطيبة حياة الملايين بالأخذ والعطاء، تأخذ من هذه الأرض الملهمة ما تفيض به من معاني القوة والتحرر، وتعطي بعض ما في أعناقهم من دين هيهات أن تبلغ منه أدنى مراتب الوفاء. جعل الله تعالى هذا البلد قبلة ومثابة للناس ليظل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على صلة موصولة بمنابع الهداية والنور، والقوة والحرية التي تفيض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 بها هذه الجزيرة المباركة، وتظل أرض القبلة بما تعطي وما تأخذ موطن المعجزات التي تجدد على مر العصور. هذه الجزيرة التي تربطها بالعالم الإسلامي وشائج الأبوة والعقيدة الممتدة إلى أعماق التاريخ، وروابط الجهاد المشترك في سبيل دعم وتأمين مستقبل المسلمين، واستئناف الرسالة الخالدة لخير الإنسانية جمعاء. هكذا تحرك الشيخ وانطلقت الحياة على أرض المعجزات بقيادة المحمدين: "محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود"، اللذين انتفضا لله عز وجل فحققا بدعوتها المباركة أروع وأسرع إنجاز خير فتحت له القلوب واستنارت به العقول، وقامت به دولة بعد جهاد بذل فيه كل الجهد. وقد كان الإمام محمد بن عبد الوهاب وهو ينهض بالدعوة إلى الله عز وجل ليعلم أن الأساس هو أهم وأشق مراحل الطريق، فبقدر ضحامة البناء وارتفاعه بقدر ما تحتاج قاعدته إلى وقت وجهد كبير، وكلما كان الأساس صلياً ومتيناً ظل في صمود وقوة دون أن تنال منه معاول الباطل، وكان أدعى إلى استقرار البناء عليه مهما علا وارتفع، ولذلك أقام الشيخ رحمه الله حلقات العلم في الدرعية، "وبدأ يعلم القادمين إليه الكتاب والسنة من الصباح إلى المساء، وكان يجعل جل اهتمامه الأمور اللازمة المهمة في دعوته -دعوة التوحيد وإخلاص العبادة لله- ويرسخها في قرارة النفوس، وقد أظهر شخصه الجذاب ودعوته الصادقة أثرها العاجل، وكان من فوائد مجالس الوعظ والتذكير أن تقشعت سحائب ما ألفوا عليه آباءهم، وصار الناس ينظرون إلى خرافات التقاليد والعادات بمنظار الكتاب والسنة فقط، وإن جاذبية هذه المجالس بدأت العطاش إلى العلم من البلدان النائية إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الدرعية،1 واجتمع للرجل الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في اتصاله بحياة المسلمين في كثير من الأقطار، وفي فقهه لأسرار الشريعة ما ملأ قلبه غيرة على حال المسلمين، وحسرة على ما وصلوا إليه من جهالة وضعف وانحلال، وحفزه ذلك إلى الجهاد في سبيل الله لتجديد إيمان هذه الأمة، وتسديد عزائمها إلى مواطن العزة والقوة والاتحاد، وتضافرت الجهود المشتركة بين مؤسس الدعوة وبين حامليها والمشاركين في تأسيسها على إقامة كيان إسلامي يستوعب نظريات الدولة الإسلامية، ويحمي أنظمتها، ويؤجج نشاطها، لتكون أقدر على المواجهة وتحمل العبء بما اعتبر بحق البند الأول في بدء تاريخ الجزيرة العربية، وفق المنهج الإسلامي، بل تاريخ الشرق الأوسط بعد انقراض حكم الخلفاء الراشدين، ذلك بأن تلك الحركة قد غيرت وجه الأحداث في الجزيرة العربية تغييراً أساسياً مذهلاً، لذل يقول: "فيليب حتى" في كتابه تاريخ العرب: إن تاريخ الجزيرة العربية، الحديث يبدأ منذ منتصف القرن الثاني عشر الهجري حين ظهور حركة الموحدين في الجزيرة العربية، وحين شاركت قوة الدين سلطة الحكم2، وهكذا ارتبطت دعوة الشيخ بالدرعية وأميرها وجندها، وأمست دعوة ابن عبد الوهاب ودولة ابن سعود وحدة لا تقبل التجزئة، وأصحبت الدعوة للدين الحق الدولة وسبب وجودها تموت إذا لم تعمل به، وتحيا وتقوى قدر ما تعمل له، وغدت الحروب ضرورة للدفاع، ومن الهجوم وسائل دفاع تحقيقاً لمصلحة الإسلام، ومن هنا كان الأمير محمد بن سعود رحمه الله تعالى كفؤاً للشيخ   1 محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه –مسعود الندوي الطبعة الأولى ص 55. 2 الوهابية حركة الفكر والدولة الإسلامية، عبد الرحمن سليمان الرويشد ص 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وإذا اجتمع نور التوحيد وبأس الحديد تكافأ الشريكان وبلغت الدعوة غرضها، وارتفعت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهبت ريح الإيمان وراجت سوق الجنة، وقامت الجماعة التي تعبد الله تعالى على بصيرة تجاهد في سبيل الله تعالى، وهي تعلم أن مواقع المعارك كمجالس الدروس، كلها طرق توصل إلى رحمة الله تبارك وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الباب الحادي عشر: الدرعية والتلاحم العظيم بين الإمام محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود ... الدرعية 1 والتلاحم العظيم بين الإمام محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود وسار رجل التوحيد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من العيينة إلى الدرعية تطوعاً لدعوته التي لا يجد طمأنينة حيالها، ولا راحة إلا حيث تستقر وتلقى الرحب والسعة. ومن عجائب نقائض الحياة واختلاف الناس أن العيينة قالت للشيخ على لسان أميرها المأمور: إن سليمان أمرنا بقتلك، ولا نقدر على غضبه، ولا مخالفة أمره، لأنه لا طاقة لنا بحربه، وليس من الشيم والمروءة أن نقتلك في بلادنا، فشأنك ونفسك، وعلى العكس من العيينة التي شهرت سلاحها لقتل الشيخ استقبلته الدرعية وهي جذلانة طروب يتنافس رجالها على إكرامه، ووصل هناك وقت العصر. يقول ابن بشر: "إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد قدومه إلى "الدرعية" نزل عند عبد الله بن عبد الرحمن بن سويلم، وابن عمه حمد بن سويلم، فلما دخل على ابن سويلم ضاقت عليه داره خوفاً على نفسه من محمد بن سعود، فوعظه الشيخ وسكن جأشه، وقال: "سيجعل الله لنا ولكم فرجاً ومخرجاً، فعلم به الخاصة من أهل   1 الدرعية تقع شمال الرياض على بعد (10) كم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الدرعية فزاروه خفية، فقرر لهم التوحيد، فراودوه أن يخبروا محمد بن سعود1 ويشيروا عليه بنزوله عنده ونصرته فهابوه، وأتوا إلى زوجته وأخيه ثنيان الضرير، وكانت المرأة ذات عقل ودين ومعرفة، فأخبروهما بمكان الشيخ وصفة ما يأمر به وينهى عنه، فوقر في قلبيهما معرفة التوحيد، وقذف الله في قلبيهما محبة الشيخ، فلما دخل محمد بن سعود على زوجته أخبرته بمكان الشيخ، وقالت له: إن هذا الرجل ساقه الله إليك، وهو غنيمة فاغتنم ما خصك الله به، فقبل قولها، ثم دخل عليه أخوه ثنيان وأخوه مشاري وأشارا عليه مساعدته ونصرته، فقذف الله في قلب محمد محبة الشيخ ومحبة ما دعا إليه، فأراد أن يرسل إليه، فقالوا لو: لو تسير إليه برجلك وتظهر تعظيمه وتوقيره ليسلم من أذى الناس ويعلموا أنه عندك مكرم. فسار إليه محمد بن سعود ودخل عليه في بيت ابن سويلم فرحب به وقال: أبشر ببلاد خير من بلادك وبالعز والمنعة، فقال له الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين والنصر المبين، وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم فمن تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد، وأنت ترى نجداً كلها وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة والاختلاف والقتال لبعضهم البعض، فأرجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمون، وذريتك من بعدك2.3   1 آل سعود: من عشيرة عنزة من قبائل ربيعة، من حفدة بكر بن وائل، ولربيعة فروعها في نجد والعراق والشام، وكان جدهم مانع بن السب المريدي يقطن بلدة القطيف، وتربطه لحمة نسب بابن درع صاحب حجر اليمامة. 2 انظر ابن بشر ج1 ص41-50. 3 يذكر الدكتور عبد الله العثيمين أن الدكتور منير العجلاني قد ضعف من هذه الرواية، ورجح أن يكون انتقال الشيخ إلى الدرعية بدعوة من الأمير محمد بن سعود، مؤيداً كلامه بما نقله عن المؤرخ الفرنسي مانجان من أن الأمير محمد بن سعود قد دعا الشيخ إلى الدرعية، ويذكر ابن عثيمين أنه قد عثر على أوراق بخط المؤرخ النجدي ابن لعيون ذكر فيها أن الشيخ محمد قد انتقل إلى الدرعية بدعوة من الأمير محمد بن سعود.. انظر تاريخ المملكة العربية السعودية ج1 ص83-84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فلما شرح الله صدر محمد بن سعود لذلك وتقرر عنده، طلب من الشيخ المبايعة على ذلك، فبايع الشيخ على ذلك، وأن الدم بالدم والهدم بالهدم، وعلى أن الشيخ لا يرغب عنه إن أظهره الله، إلا أن محمد بن سعود شرط مبايعته للشيخ ألا يتعرض له فيما يأخذه من أهل الدرعية مثل الذي كان يأخذه أمراء البلدان على رعاياهم، فأجابه الشيخ على ذلك، رجاء أن يخلف الله عليه من الغنيمة أكثر من ذلك فيتركه رغبة فيما عند الله سبحانه، فكان الأمر كذلك، ووسع الله عليهم بأسرع ما يكون1. وكان الإمام محمد بن عبد الوهاب هو المرجع في مدينة الدرعية. يقول ابن بشر: "إن الشيخ كان له الرأي الأول في الدولة الفتية، فلم يكن الأمير محمد بن سعود ولا ابنه عبد العزيز يصدران أمراً دون موافقته. وكان يرجع إليه في كل أمور الدين التي تنظم كافة جوانب الحياة في الدولة2. ويقول أيضاً: "كانت الأخماس والزكاة وما يجبى إلى الدرعية من دقيق الأشياء وجليلها كلها تدفع إليه يضعها حيث يشاء، ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيره من ذلك شيئاً إلا عن أمره، فبيده الحل والقصد والأخذ والإعطاء والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد بن عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه".   1 انظر ابن بشر ج1 ص42-43. 2 انظر ابن بشر ج1 ص46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وهكذا تمت البيعة1 بين الإمام والأمير رحمهما الله تعالى، وأينع الصبر وبدأ الجهد يثمر، واستغلظ زرع الدعوة، وأخذ يستوي على سوقه ليعطي الغلال الطيبة، ويبنشئ مداً إسلامياً زاخراً عظيماً ينتشر في العالم، وتتساقط أمامه معاقل البدع، وتتهاوى بين يديه الأنصاب والأزلام، وتذوب من حوله القيم الزائفة المصطنعة. جاءت هذه الثمار من خارج العيينة، وهذا في الواقع من الدلائل التي تكشف للمتأمل أن يد العناية الإلهية تحوط حياة الدعوة وظروفها من كل جانب، كي لا توجد في أي جانب منها ثغرة لمطعن يقوم به مشكك أو محترف غزو فكري، لأن الدعوة إلى الإسلام جزء لا يتجزأ من حقيقة الإسلام نفسه، وقد أخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه بهدى النبي صلى الله عليه وسلم وصنع ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم وأنصاره في بيعة العقبة، واستعمل الصيغة النبوية نفسها، وهذا يدل على شدة العناية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا كانت البيعة بين الإمام والأمير نقطة تحول هامة في تاريخ الدعوة، وفي حياة نجد الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وفي تاريخ الصحوة الإسلامية الحديثة. وبقي الشيخ رحمه الله في الدرعية سنتين يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان يرسل برسائله ومناظراته إلى أهل البلدان المجاورة ورؤسائهم   1 يذكرنا القول ببيعة العقبة الكبرى كما جاء في الصحيح عن ابن إسحاق وابن هشام وأحمد وابن جرير وفيه: "أن أبو هيثم بن الثنيان قال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال -يعني اليهود في المدينة- حبالاً وإنا قاطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم، وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وعلمائهم، فمنهم من قبل واتبع الحق، ومنهم من أبى وعارض، ولكن لم يستمر الحال على ذلك طويلاً، فقد قام أولئك المعارضون على الشيخ ودعوته بالعدوان، وأعلنوا تكفير الشيخ وأتباعه، وإباحة دمائهم، فأمر الشيخ حينئذ أتباعه بالجهاد دفاعاً عن النفس أمام أولئك المعارضين من ناحية، وكسر الطوق وإزاحة الحجر العثرة أمام نشر هذه الدعوة من ناحية أخرى، فانتقلت الدعوة بذلك إلى مرحلة جديدة ثالثة، هي (مرحلة الجهاد لحمل الناس على الحق) ، وتهيئة الجو الصالح لنشر الدعوة والعودة بالمسلمين إلى منهج الله وشرعه، واتباعه عقيدة ومنهج حياة1 لأن الله تبارك وتعالى قرر في كتابه العزيز أن المبادئ لا تعيش بغير قوة تساندها، والإسلام ذلك الوحي الإلهي جاء ليكون هو النظام القائم على الأرض كلها، فلا بد من قوة ينطلق بها في آفاق الأرض لتحرير الإنسان من عبوديته لغير الله عز وجل. فكرامة هذا الإنسان مقصورة على الإيمان بالله وحده لا شريك له. ومن هنا جاء قول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (الأنفال:60) . فوظيفة القوة تأمين الذين اختاروا الإسلام على دمائهم وأموالهم حتى لا يفتنوا في دينهم، ثم حماية طريق الدعوة وسبيلها حتى لا يتوقف المد الإسلامي، وكذلك تأديب الجبارين الذين يتخذون لأنفسهم صفة الإلوهية فيذلون البشر بما يزرعونه فيهم من ضغائن وأحقاد.   1 دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها على العالم الإسلامي، تأليف محمد بن عبد الله بن سليمان بن السيحان ص 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الباب الثاني عشر: تأسيس الدولة السعودية الأولى ... تأسيس الدولة السعودية الأولى (97سنة من 1744-1843) مكث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى سنتين في مرحلة الدعوة السلمية، ثم انتقل إلى مرحلة الجهاد دفاعاً عن الدعوة وأتباعها من أعدائها المتربصين بها من ناحية، ولحمل الناس على الحق وتهيئة الجو الصالح لنشر الدعوة وتطبيقها من ناحية أخرى، ولذلك كانت رسائل الشيخ رحمه الله تعالى التي تبين حقيقة دعوته تسبق جيشه، خاصة بعد أن بسط الأمير محمد بن سعود يده، وبايع الشيخ على دين الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتم التحالف على نصرة الحق ومحاربة الشرك والمشركين عام 1158هـ 1745م بين الأمير والشيخ، وأصبح هذا الاتفاق بمثابة النواة الأولى في بناء صرح الدولة السعودية الأولى، وتحولت الدرعية منذ ذلك اليوم إلى عاصمة دينية وسياسية وحربية، وهاجر إليها أنصار الشيخ من العيينة وغيرها من بلدان نجد، فازدحمت بهم الدرعية، ورأى الشيخ في البداية تأسياً بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر من مكة إلى المدينة حلاً لمشاكل المهاجرين أن يؤاخي بينهم وبين أهل الدرعية1. وما كان يستتب أمر الدعوة حتى أرسل الإمام رسائله إلى علماء نجد وشيوخها يدعوهم إلى الدخول فيها، فرد عليه بعض الشيوخ مثيراً خلافات، فرد مبيناً وجه   1 حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: تأليف حسين بن خلف الشيخ مزعل بتصرف ص 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الصواب، ويعدد ابن غنام أسماء عشرة رسل. وكان من بين الذين استنكروا الدعوة "دهام بن دواس" الذي كان رئيساً على الرياض، وما كاد دهام يعلم سنة 1159هـ،1746م بتلبية المنفوحة لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودخولها في طاعة آل سعود حتى هجم عليها يريد إجبارها على إعلان العصيان، ولكنه فشل أمامها، وظل دهام1 بن دواس يمثل الخصم العنيد العدو القوي للدولة السعودية، الذي يعمل على عدم تمكينها من نشر الدعوة. وهكذا وجب الجهاد على أصحاب الدعوة بعد أن كانوا قد سلكوا مع أولئك سبل التبصير والنصح2، وامتزج حسن العهد بصدق الوعد والفكر الرشيد بالعزم الأكيد، والتقى المصحف والسيف لقاء دعوة وبيعة، فكان العمل والإخلاص والتفاني، ثم بدأ الجهاد، وانتقل مجتمع الدرعية الذي كان بالأمس القريب خاملاً مستكيناً إلى جماعة مجاهدة متطورة يقودها هدى الإسلام بإرشادات الشيخ وعزم الأمير، ولا ننسى -أيها الأخ- مدى التأثير الفاعل للدعوة الإسلامية، إذ قيض الله -تبارك وتعالى- لها علماء صالحين وأمراء عادلين مقسطين، فإنها تؤتي ثمرتها وتعيد البناء بنفس السرعة التي بنت فيها دولتها الأولى.   1 دهام بن دواس بن عبد الله بن شعلان، من قبيلة مطير، وكان والده رئيساً لمنفوحة، عندما توفي تولى بعده ابنه محمد، ثم ثار عليه ابن عمه زامل وعاونه بعض أهل منفوحة فقتلوه، وأخلوا إخوانه عنها، فاستوطن دهام الرياض، وتمكن من الوصول إلى الرياسة بعد أن هرب رئيسها سنة 1151هـ، واستمر في رياسته إلى أن سقطت الرياض في حوزة الدرعية سنة 1189هـ، فهرب دهام إلى الدلم، وتوفي بها. انظر: ابن بشر 1-80-81. وانظر أيضاً: روضة الأفكار لحسين بن غنام، وفيه: أن دهام كان عبداً لأمير الرياض، وتسلط بحيلة على الحكم. 2 انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية –محمد كمال جمعة- ص 45-46 من مطبوعات دار المعرفة ط1401هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ولم يمض إلا وقت قصير حتى تنبه الأعداء لخطورة الدعوة فناصبوها العداء، وقاوموها بكل ما يملكون من قوة، وقد دامت الحروب بين الرياض والدرعية –فقط سبع وعشرين سنة، ولم تمر سنة إلا وتقع فيها غزوة بين البلدين وكانت الحروب سجالاً، واستشهد كثير من المسلمين في تلك المعارك، منهم ولدا الأمير محمد بن سعود1، وهما فيصل وسعود اللذان قتلا في الغارة التي قام بها ابن دواس على أطراف الدرعية سنة 1160هـ، وظل دهام يناوئ الحق والشيخ والأمير يوجهان إليه الحشود تلو الحشود، وتقوم بينه وبين الحق الوقائع –كوقعة الشباب، ووقعة العبيد "أبو غيبة"، ووقعة "دلقة"، والجنوبية2، وغيرها إلى أن فتح الله عز وجل عليهم الرياض، وتخلصوا من شر دهام ونفاقه ومعاداته لأهل الحق، وبسقوط الرياض في أيدي آل سعود انفتح للدعوة الطريق، ولم يبق أمام أساطين الأعداء إلا الاستسلام والانقياد للدرعية. وبعد وفاة الأمير محمد ابن سعود الذي احتضن الدعوة الصافية وعمل على التمكين لها في الأرض، ونجح في نقلها من مرحلة الفكر إلى مرحلة التحقيق مدافعاً عنها بكل ما ملكت يداه، واهباً نفسه في سبيلها، وثبت على أساسها حكماً صالحاً، وانتصر تحت رايتها، ثم أفضى إلى ما قدم،   1 هو محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن فرحان، وهو مؤسس الدولة السعودية في دورها الأول، ولد في الدرعية سنة 1100هـ/1689م. وتولى إمارة الدرعية 1139هـ-1726- وهو الذي تبنى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وآمن به، واحتضن صاحبها، وحماه. وفي عهده امتد نفوذ الدعوة حتى وصل إلى كل من سدير والوشم والمحمل والشعيب والحاير، إضافة إلى بلدان العارض، وقد ظل وفياً للدعوة مخلصاً لها، ويجاهد في سبيل نشرها حتى توفي بالدرعية سنة 1178هـ-1765م. انظر: الدرعية العاصمة الأولى –تأليف عبد الله بن حمد بن خميس ص 161-174، ط 1، مطابع الفرزدق –الرياض. 2 تاريخ نجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وتولى ابنه عبد العزيز1، وقد زاد المعارضون للدعوة من نشاطهم ضدها، والتحريض على قتالها، ودارت المعارك بين أنصار الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبين أهل الباطل، وتابع الأمير عبد العزيز أعماله الجهادية على رأس جيش الدعوة الإسلامية، إما بنفسه أو بقايدة ابنه سعود، وتعاقبت أيام المجد على ربى نجد، وتقدم الجيش سنة 1188 لغزو الدلم، ونازل قبائل وادي بني حنيفة قريباً من الخرج في قتال مرير، وانتقل من ضرمي إلى سدير والخرج والمجمعة، حتى إذا كانت سنة 1195 دخل قرية اليمامة، وفي سنة 1196 دخل القصيم، وفي سنة 1198 غزا جيش الدعوة إقليم الإحساء، وفي سنة 1199 عاد يغزو الخرج، ثم انطلق في سنة 1202 إلى إقليم قطر في مقابل البحرين2، وهكذا سيطرت جيوش التوحيد على نواح كثيرة من نجد، وكذلك عزا عبد العزيز جنوبي العراق، ودخل كربلاء (مدينة مقدسة عند الشيعة في البداية) وهدم قبر الحسين، وأخذ الكنور التي كانت عند الضريح، وهذا ما دعا إلى قدوم أحد المتعصبين من الشيعة3 إلى الدرعية، وطعن عبد العزيز وهو يؤدي صلاة العصر عام 1218هـ، مما أدى إلى موته في مسجد الطريف في الدرعية وهو ساجد، وهذه وثيقة باللغة التركية عن مؤامرة والي بغداد بقتل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود.   1 هو عبد العزيز بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، ولد بالدرعية سنة 1132هـ/1720م، وتولى بعد وفاة والده سنة1179هـ، وفي عهده اتسع نطاق دولته، وامتد ملكه من شواطئ الفرات ووداي السرحان إلى رأس الخيمة وعمان، ومن الخليج العربي إلى أطراف الحجاز وعسير، اغتيل في جامع الدرعية على يد أحد الشيعة القادمين من العراق سنة 1218هـ-1803م. انظر الأعلام للزركلي 4/27. 2 راجع بتوسع محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى ص 16-25. 3 شبة جزيرة العرب –محمود شاكر ط (3) 1401هـ ص 201-202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قبل أن يقتل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وحين بلغ سبعين عاماً ثقل جسمه وآثر الراحة فأخذ البيعة بولاية العهد لابنه سعود1 وسلمه مهام الدولة الناشئة عام 1788م، فواصل الامتداد بنور الله عز وجل، واحتضن الدعوة ورنا إلى المستقبل، وكانت غزواته على نوعين، بعضها يستهدف ضم الأراضي تحت سلطته لتحصيل الضرائب ونشر العقيدة، كما حصل في نجد والإحساء وسواحل البحر الأحمر والحجاز، وبعضها الآخر كانت غارات لتأديب الخصوم فقط، كغزوات العراق والشام، ونريد أن نقف وقفة قصيرة في بلاد الحجاز، ونسأل لماذا تم الاستيلاء على الحجاز؟. إن الاستيلاء على الحجاز من قبل جنود التوحيد لم يأت إلا بعد مباحثات ومناظرات، بل عملوا علاقات الود بين الأشراف ولكنهم لم يلمسوا عطفاً، بل شوهوا دعوة الإمام. فكانوا يرسلون ضعاف العقول فيندسون بين الحجاج وبيكون وينوحون ويشقون الجيوب ويلطمون الخدود على الأضرحة والقباب التي هدمتها دعوة المجدد محمد بن عبد الوهاب، فهذه أكبر دعاية لتشويه هذه الدعوة المباركة. قال ابن غنام2: أرسل أبناء سعود بعض علمائهم إلى مكة مراراً لإقناع علمائهم بالدعوة السلفية التي أرسى أصولها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولكن رغم اقتناع علماء   1 تولى سعود الإمامة بعد وفاة والده ودامت ولايته أحد عشر عاماً، حتى وفاته 1814- آل سعود ص 62. 2 حسين بن غنام، تلميذ الإمام ابن عبد الوهاب، وقد كلفه الشيخ بكتابه، توفي عام 1223هـ (تاريخ نجد 2/131-145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 مكة بدعوة علماء نجد، إلا أن موقف الأشراف ظل صلباً ومعادياً واستفزازياً، فقد اصطنعوا الحجج على أهل نجد، تحدياً من الأشراف، بل اعتقلوا العلماء الدين أرسلهم الإمام وتركوهم في السجن، فبعضهم مات وبعضهم هرب. فالأشراف وأتباعهم من العثمانيين رفضوا الدعوة السلفية المباركة، ولكن دخلها الأمير سعود وهو محرم ملب دون قتال أو إراقة دم. قال أمين الريحاني في كتابه "تاريخ نجد": بعث سعود رسالة إلى السلطان سليم الثالث في الآستانة: أما بعد: دخلت مكة في اليوم الرابع من محرم 1218هـ، وأمنت أهلها على أرواحهم وأحوالهم بعد ما هدمت ما هناك من أشياء وثنية، وألغيت الضرائب إلا ما كان منها حقاً، وثبت القاضي الذي وليته أنت طبقاً للشرع، فعليك أن تمنع والي دمشق ووالي القاهرة من المجيء بالمحلمل والطبول والزمور إلى البلد المقدس، فإن ذلك ليس من الدين في شيء، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. التوقيع الواثق بالله المعبود سعود بن عبد العزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فانتشر الأمن والأمان في الحجاز. قال ابن بشر1: "وفشا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة، فلا يشرب التنباك في أسواقها، وأمر سعود أن يجعل في أسواقها من يأمرهم بالصلاة إذا دخل الوقت، فكان إذا أذن، دار الرجال في الأسواق: الصلاة ... الصلاة2. ونظفت الحجاز من الخرافات والبدع، وهدمت القباب والأضرحة، ونشر التوحيد، وجعل إمام واحد للصلاة عكس السائد في عهد الأشراف الذي جعلوا أربعة أئمة يصلون بالناس، وكل واحد على مذهبه كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي. فقام الإمام سعود بن عبد العزير بواجب الدعوة فواصل جهاده حتى امتدت الفتوحات من عمان ووادي حضر موت ونجران وعسير إلى شواطئ الفرات والبادية السورية، ومن الخليج إلى البحر الأحمر، وهكذا شهد الإمام محمد بن عبد الوهاب ثمار الدعوة المباركة نتيجة جهاد متواصل حمل لواءه الآباء والأبناء، وتوحدت نجد، وأسست فيها دولة جديدة قائمة على شريعة الله عز وجل، وأصبحت مصدر إشعاع لا ينفذ زيته، واستقرت الدعوة وتأمنت سبلها، عند ذلك اعتزل الشيخ الحكم تاركاً إدارة الدولة للأمير، وأخذ في تأليف الكتب الدينة وإذاعتها في بلده، ثم في البلدان النجدية، ثم في جزيرة العرب عن طريق طلبته   1 عنوان المجد تاريخ نجد ص 142. 2 وهذا موجود إلى يومنا الحاضر، وهو الأمر بالصلاة وإغلاق المحلات للصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 البررة، وطفق يلقي محاضرات في علوم التشريع والديانة وأصولها، ويلقن الناس حقيقة الإسلام، واجتمع في حلقات دروسه آلاف الناس من كثير من الأقطار يأخذون منه العلم1. وأخذت الدولة تستقر، والدعوة تنتشر، والأمير سعود يتابع الحج عاماً بعد عام، وعمت الدعوة جزيرة العرب بما فيها الحجاز، وانقطعت الموبقات، وزالت البدع، وعم نقاء الاعتقاد وإخلاص الدين، وأرسل الأمير سعود سراياه إلى الأماكن البعيدة لكي يعلم الناس التوحيد، وبلغ جيشه النظامي خمسين ألفاً، مما كان لهذه القوة أثرها الكبير في التمكين للدعوة التي بذل أنصارها من التضحية بأنفسهم وأموالهم ما سجلها لهم التاريخ بأحرف من نور.   1 محمد بن عبد الوهاب، أحمد عبد الغفور عطار ص 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الباب الثالث عشر: الحملة المصرية على نجد ... الحملة المصرية على نجد وقد رأى الخصوم في هذه الدعوة خطراً على أغراضهم السياسية، (الأتراك- حكم محمد علي في مصر- الأشراف في مكة) . وأخذ الوالي التركي في تأليب القبائل العراقية لمناجزة أهل نجد، وأصدر الوالي العثماني أمره إلى والي البصرة ليغزو الدرعية، لكن الدرعية ردت الهجوم بهجوم الأمير سعود على القبائل بوادي شمر وغيرها، فوصل إلى منطقة السماوة، وتتابعت هزائم والي العراق، وعجز والي الشام، فرأت الأمبراطورية العثمانية أن تستعمل والياً تركياً أشد طموحاً من والي الشام والعراق، وأكثر توقاً لمرضاة السلطان، فأوكلت مهمة قتال الدعوة وأهلها إلى محمد علي والي مصر يومها، فسير محمد علي باشا جيشاً قوامه أربعة عشر ألفاً من المقاتلين إلى الحجاز في سنة 1226هـ بقيادة ابنه أحمد طوسن1، وتلاقى بجيش النجديين وعدته ثمانية عشر ألفاً بقيادة عبد الله بن سعود الذي نصره الله على طوسن وجيشه الذي لا يعرف شيئاً عن غاية الحرب، كما نقل الجبرتي عن المنهزمين الذين كانوا يقولون: أين النصر وأكثر عساكرنا على غير ملة، ومنهم من لا يدين بدين ولا ينتحل مذهباً وصحبتنا صناديق المسكرات ولا يسمع في عرصتنا أذان ولا تقام فريضة الصلاة، ولا يخطر في بالهم شعائر الدين، والقوم إذا داخل الوقت أذن المؤذنون وانتظموا صفوفاً خلف إمام واحد بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذنون   (1 تولى طوسن محمد علي الحملة المصرية الأولى على المسلمين في الجزيرة العربية عام 1811م، وكان عمره يومها سبعة عشر عاماً ومعه ضباط أوربيون. اهـ. انظر: آل سعود ص 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وصلوا صلاة الخوف فتتقدم طائفة للحرب وتتأخر أخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون من ذلك، لأنهم لم يسمعوا به فضلاً عن رؤيته. وعاد طوسن بجيشه بعد الهزيمة إلى ينبع، وعسكر هناك انتظاراً للنجدة المصرية، وعندما وصلت النجدات المصرية عام 1814م-1229هـ التقى الفريقان من (القنقذة) وانهزم المصريون مرة أخرى1، وبينما المعارك تجتاز هذه المرحلة الحاسمة والمسلمون النجديون يعدون العدة لخوض معركة شاملة، إذ بالمنية تحضر الأمير سعود2 بن عبد العزيز بن محمد، فينتقل إلى جوار ربه في الدرعية. وخلف ابنه الإمام عبد الله بن سعود3 بن عبد العزيز، لكن عمه عبد الله بن محمد نازعه الحكم. وانقسم آل سعود على بعضهم مما سهل مهمة الجيش المصري الذي أخذ استعداده لاكتساح نجد. فأصدر محمد علي الألباني أمره إلى ولد أحمد طوسن بسرعة العودة إلى مصر، ثم جهزه مرة ثانية بحملة وسيره إلى الجزيرة العربية، فتمكن طوسن في هذه المرة من فتح المدينة المنورة والاستيلاء عليها، ثم قصد مكة المكرمة واستولى عليها أيضاً، وبذلك عاد الحرمان الشريفان إلى الدولة   1 عنوان المجد 1/194. 2 توفي الإمام سعود ليلة الإثنين 11 جمادى الأولى سنة 1229هـ وهو في الثامنة والستين من عمره، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة، وكان رحمه الله أميراً وحاكماً قلما يوجد له مثال، وبموته خلا الجو لمحمد علي ومعاركه. راجع بتوسع مناقبه وصفاته في كتاب: محمد بن عبد الوهاب مصلح مفترى عليه –مسعود الندوي ص129-132. 3 هو: عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، تولى إمامة الدرعية بعد وفاة والده سنة 1229هـ، وحاربته جيوش العثمانيين القادمة من مصر بقيادة إبراهيم باشا، وسقطت الدرعية في عهده 1233هـ-1818م، وحمله إبراهيم باشا معه إلى مصر، ثم إلى الأستانة فقتل فيها سنة 1234هـ-1818م. (انظر: الإعلام جـ4 ص 89: للزركلي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 العثمانية، وعادت بدع الحج، وأراد طوسن مطارة المسلمين النجديين، ولكن الله تعالى ألحق به هزيمة منكرة قرب مكة، وفي هذه الأثناء قدم الوالي المصري محمد علي الألباني إلى الحجاز، واستطاع أن يهزم الأمير عبد الله بن سعود، واحتل تربة ثم بيشة، واستولى على عسير. ثم عاد إلى مكة المكرمة ومنها إلى القاهرة. وبقي أحمد طوسن في الحجاز بعد حملته على نجد1 ثم زحف على الرس في نجد فاستسلم أهلها، وجاء عبد الله بن سعود ليخرجه منها فلم يتمكن، وما لبث أن اتفق الفريقان على الصلح، فتعهد طوسن بالخروج من نجد وتعهد الأمير عبد الله بتأمين سبل الحج، ثم عاد أحمد طوسن إلى القاهرة حيث توفي هناك ... إلا أن أباه لم يوافق على هذا الصلح فجهز ابنه إبراهيم محمد علي الألباني بحملة جديدة على نجد مجهزة بمدافع ضخمة، وعسكر بالحناكية شرق المدينة، وبدأ بإغراء البدو، فوقفت القبائل بقوة إلى جانبه، وقد كانت قبل ذلك مع الإمام سعود –فسبحان مقلب القلوب- وسار إبراهيم باشا بجيشه من الحناكية إلى الرس فقاومه أهلها، ثم استسلموا، ثم احتل عنيزة ويريدة والمذنب، ودخل الوشم وشقرا، وقامه أهل ضرمى فأباحها لجنوده، وساروا إلى الدرعية فحاصروها2 خمسة أشهر، كانت النجدات خلال هذه المدة تتوالى على إبراهيم باشا من مصر والبصرة والمدينة والقصيم، إلا أن هذه المسيرة لم تكن نزهة سهلة، وإنما كلفته غالياً من العدة والعتاد، وبقيت الدرعية التي انبثقت منها رسالة التوحيد كالطود الأشم3،   1 أمين الريحاني –تاريخ نجد الحديث ص 160. 2 راجع بتوسع: الكتاب القيم –الدرعية العاصمة الأولى تأليف عبد الله بن محمد بن خميس ص 349-459. 3 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 إلا أن ضعاف النفوس أخبروا إبراهيم باشا بعورات المجاهدين مما كشف المدينة أمامه فحمل بجنوده ومدافعه. وبعد معارك طاحنة طارت فيها الرؤس وهدمت فيها القلاع والحصون واشتعلت الحرائق، وعلى الرغم من هول الموقف لم يفر رجال الدرعية رغم محاصرتهم، لعلمهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم" 1. وصدق جلاد الرجال الأوفياء وشاء الله تعالى، وعقد الصلح مع سقوط آخر موقع ضرب فيه الموحدون أروع الأمثلة في التضحية والفداء، واستسلمت الدرعية للقضاء المقدر. قال ابن بشر: ثم أمر العساكر أن يهدموا دورها وقصورها، وأن يقطعوا نخيلها وأشجارها، ولا يرحموا صغيرها ولا كبيرها. فابتدر العساكر مسرعين وهدموها وبعض أهلها فيها مقيمون. وقطعوا الحدائق، وهدموا الدور والقصور، ونفذ فيها القدر المقدور، وأشعلوا في بيوتها النيران، وأخرجوا جميع من كان فيها من السكان، فتركوها خالية من المساكن كأن لم يكن بها من قديم ساكن، وتفرق أهلها في النواحي والبلدان، وذلك بتقدير الذي كل يوم هو في شأن2. وصدق الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر3 وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام   1 أخرجه الترمذي وابن ماجه، وسنده حسن. 2 عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص213. 3 هو: العالم الجليل عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن معمر، ولد في الدرعية 1203هـ -تتلمذ- على والده العالم حمد بن ناصر، وعلى شيخ الإسلام عبد الله بن عبد الوهاب، وعلى الشيخ أبي بن غنام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب برثاء الدرعية بقصيدة رائعة تسمى عند علماء الدرعية "الطنانة"، والتي أبكت الناس وهي تصور بطش إبراهيم باشا وجنوده: يقول رحمه الله: وكم قتلوا من عصبة الخير فتية ... هداة "وضاء" ساجدين وركعا؟ وكم دمروا من مربع كان آهلاً؟ ... فقد تركوا الدار الأنيسة بلقعا فأصبحت الأموال فيهم نهائباً ... وأصبحت الأيتام غرثى وجوعا وفرق الإخوان من كان قاطنا ... وفرق ألف كان مجتمعا معا1 ثم دعا الناس إلى الصبر على قضاء الله، ونبذ اليأس وانتظار الفرج، يقول: ألا أيها الإخوان صبراً فإنني ... أرى الصبر للمقدور خيراً وأنفعا ولا تيأسوا من كشف ما ناب أنه ... إذا شاء ربي كشف ذاك تمزعا   1 عنوان المجد ج 2 ص 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 عسى وعسى أن ينصر الله ديننا ... ويجبر منا اليوم ما قد تصدعا ويعمر للسمحا ربوعاً تهدمت ... ويفتح سبلاً للهداية مهيعا1 وإبراهيم باشا الطاغية الذي لا يحترم كبيراً ولا صغيراً ولا عالماً، فقد أحضر في مجلسه العالم الجليل سليمان بن عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب2، وأظهر بين يديه آلات اللهو والطرب، وقال له: ما تقول بهذه؟ فقال رحمه الله: إنها حرام، ولا يجوز الاستماع إليها. فقام هذا الطاغية وأخرجه إلى المقبرة وأطلق عليه خمس رصاصات، فسقط شهيداً وقد مثل بجثته، فقطعت إرباً إرباً، ومزقت عضوا عضوا وصدق الله العظيم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (آل عمران: 169-170) .   1 عنوان المجد ج2 ص37-38. 2 هو سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ولد سنة (1200هـ) في بلدة الدرعية وكانت في أوج قوتها تعج بكثير من العلماء والأعلام، فنشأ بها وقرأ القرآن حتى حفظه، وقرأ على عدد من علمائها، وكان نادرة في العلم والحفظ، فكان فقيها ومتكلماً، ومفسرا ومحدثاً، من تصانيفه أوثق عرى الإيمان، والتوضيح عن توحيد الخلاف في جواب أهل العراق في مجلد واحد، وله تيسير العزيز الحميد في شرح التوحيد، وله تذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتوفي مجاهداً حيث استولى إبراهيم باشا على بلدة الردعية سنة (1233هـ) ، فغدر بالشيخ رغم العهود المبرمة بينه وبين الشيخ وأهل الدرعية، فأخرج الشيخ إلى المقبرة، ثم أمر جنده أن يطلقوا عليه النار، وفاضت روحه إلى بارئها وليس له عقبل. انظر مشاهير علماء نجد/ عبد الرحمن بن عبد اللطيف ص 29-31، وانظر معجم المؤلفين، عمر كحاله 4/268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 قال الشيخ إبراهيم محمد بن إبراهيم آل الشيخ في مقدمة كتاب الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب "تيسير العزيز الحميد". "وكان رحمه الله آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، فلا يتعاظم رئيساً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتصاغر ضعيفاً أتى إليه بطلب فائدة، وقد أكرمه الله تعالى بالشهادة سنة 1233هـ، وذلك عندما وشى به بعض المنافقين إلى إبراهيم باشا بن محمد علي باشا بعد دخوله الدرعية، واستيلائه عليها، فأحضره إبراهيم باشا وأظهر بين يديه آلات اللهو والمنكر إغاظة له، ثم أخرجه إلى المقبرة، وأمر الجند أن يطلقوا عليه الرصاص جميعاً فخرقوا جسمه، وفاضت روحه إلى ربه، رحمه الله، وأجزل مثوبته، وأسكنه فسيح جناته". يقول المؤرخون1: إن إبراهيم لم يحترم شروط الاستسلام، رغم توقيعه عليها، ذلك أنه ذبح رؤساء العشائر التي وقفت إلى جانب الإمام في الدفاع عن عاصمة الدولة العربية السعودية الأولى، وتفنن في تعذيب الزعماء والعلماء على السواء، فطرح بعضهم مقيداً تحت سنابك الخيل، ووضع البعض الآخر أمام أفواه المدافع لتمزقهم القذائف شر ممزق. كما أمر بتعذيب القاضي العلامة أحمد رشيد الحنبلي أمامه، وخلع أسنانه في مجلسه، وكان أفظع من ذلك كله أنه أمر بعد عدة أشهر من استسلام الدرعية بطرد   1 معجزة فوق الرمال –أحمد عسه- بيروت 1969م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أهلها منها، بما في ذلك النساء والأطفال والشيوخ، ليأمر بعدها بدك المدينة جميعها بالمدفعية، ويشعل النيران في كل أحيائها، ويقطع أشجار النخيل من البساتين المحيطة بها، متوهما أنه بفعلته هذه سيقضي على الفكرة العربية الإسلامية التي كانت تمثلها الدولة العربية السعودية إلى الأبد. ثم أمر إبراهيم باشا الألباني بعد المصالحة أن يتجهز الإمام عبد الله ابن سعود للمسير إلى السلطان، فخرج من الدرعية إلى القاهرة، ومنها إلى الأستانة، حيث طوفوه في الأسواق، ثم أعدموه. يقول الزركلي: عبد الله بن سعود من أمراء نجد، وليها بعد وفاة أبيه سنة 1229هـ ونازعه أخوه فيصل بن سعود فضعفت شوكته، وحاربته جيوش العثمانيين القادمة من مصر، وتغلب عليه قائدها إبراهيم باشا، طلب الصلح وأجابه إليه إبراهيم فتم الصلح، وأرسله إبراهيم إلى مصر فأكرمه واليها محمد علي باشا، ووعده بالتوسط له عند حكومة الأستانة. فقال عبد الله (المقدر يكون) ، وحمل إلى الأستانة هو من معه فطيف بهم في شوارعها ثلاثة أيام متتابعات، وأعدموا في ميدان مسجد أيا صوفيا، وقطعت رؤسهم، وظلت جثثهم معروضة بضعة أيام. وكان عبد الله شجاعاً تقياً، في رأيه ضعف1. فرحم الله الإمام عبد الله بن سعود وجزاه عن جهاده خير الجزاء، فقد كان كما يقول ابن بشر: "مقيماً للشرائع، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، كثير الصمت، حسن السمت، باذل العطاء، موقراً للعلماء، وكان صالح التدبير في مغازيه. وفي   1 شبه الجزيرة العربية في عهد عبد العزيز: خير الدين الزركلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الدرعية ومجالس الدروس، وفي قضاء حوائج الناس، وغير ذلك على سيرة أبيه سعود، وقد علمه الإسلام والتوحيد أن الحياة في خضوع العبيد ليست هي الحياة، وعلمته العقيدة أن الله بالغ أمره ومنفذ قدره، فتلك هي الخصوصية الأولى للمسلمين، ومن سار على آثارهم. وبوفاة الإمام عبد الله انتهت الدولة السعودية الأولى التي عمرها الرجال بفكر ابن تيمية وابن القيم وتلميذهما النجيب محمد بن عبد الوهاب، فرحمهم الله في الخالدين، بعد أن دامت ست وسبعين سنة". قد قال الجبرتي في وصف القسوة البالغة التي لازمت عزوات جيوش محمد علي الألباني، والفظائع التي ارتكبها ابنه طوسن، وابن زوجته إبراهيم، وولاة الترك، في حوادث (1228-1229هـ-1230هـ-1234هـ-1236هـ) لا بد أن يتوقع العنف في ردود الأفعال عند اتباع دعوة الإمام ابن عبد الوهاب، فمن هذه الفظائع رمي جثث القتلى للوحوش والكلاب، وحمل الأسرى من أشراف القوم إلى مصر والأستانة في رقابهم الحديد، يطاف بهم في البلاد على هذه الحالة المهينة، ثم يقتلون، ومنها تخريب الدرعية مرتين، وقتل من طالته أيديهم من آل سعود وآل الشيخ، والتنكيل بالعلماء وقتلهم بعد تعذيبهم، فمنهم من كان يربط بأفواه المدافع ثم تطلق فتتناثر لحوم جثثهم في الفضاء، ومنهم من كانت تخلع جميع أسنانه قبل قتله، ومن هذه الفظائع التي تجاوزت حدود ما رواه الجبرتي في حوادث سنة 1227 من أعمال النهب والسلب وهتك الأعراض، وذلك كله مع ما عرفت به جيوش محمد علي الألباني من المجاهرة في ارتكاب المعاصي والاستخفاف بالدين وإشاعة الفاحشة جهاراً في رمضان ولياليه، مما وصفه الجبرتي عفى الله عنه في حوادث سنتي 1227و1229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الباب الرابع عشر: تأسيس الدولة السعودية الثانية ... تأسيس الدول السعودية الثانية (1238هـ - 1309هـ - 1819م – 1890م) علمنا أن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى نهض بدعوته الإسلامية التي قيض الله سبحانه وتعالى لها تلك الخامات العربية التي انطوت على عناصر الحرية والكرامة، واستوت على أقطار الحياة، فردها إلى الفطرة السمحة، وغذاها بوحي الكتاب والسنة، وانطلق بها مؤمنة صابرة تحمل أعباء الدعوة الهادية، وتنشر الهدي المحمدي، وتقر الأمن المضطرب، وتحمي البيت الذي يتخطف الناس فيه ومن حوله، ثم تمضي برسالتها إلى أبعد الآفاق. ونجح هذا الإمام في المرحلة الأولى للدعوة مرحلة الانتصار على الأهواء، وقطع حبال الجاهلية، ثم سار بالدعوة جنباً إلى جنب مع مراحل تكوين الدولة التي تحمي هذه الدعوة التي زلزلت قلوب كثير من السلاطين، وعلماء السوء والفتنة، وأهل البدع والضلالات، الذين رأوا فيها خطراً مروعاً إن امتد يقضي على أوضاعهم الظالمة وعقائدهم الفاسدة. وكان إحساس تركيا بخطر الدعوة الإسلامية الجديدة مزدوجاً، لأنها كانت تحس في الوقت نفسه بخطر محمد علي باشا الألباني في مصر، فأرادت أن تضرب الضربة لتصيب بها الاثنين معاً، وطلبت إلى محمد علي الألباني1 أن يغزو نجداً،   1 ولد في مقدونيا في بلاد اليونان سنة 1182هـ واستغل في شبابه بعدة أعمال منها الجندية والتجارة، ثم تطوع في الحملة العثمانية التي أرسلت لإخراج نابليون من مصر سنة 1215هـ-1801م، واستطاع هناك بذكائه أن يستغل تناقضات القوى الثلاث الكبرى في مصر آنذاك وهي الأتراك والمماليك والإنجليز لصالحه، فاستقطب ولاء الشعب المصري حتى عين والياً على مصر سنة 1220هـ-1895م من قبل الدولة العثمانية بعد أن كانت الجماهير قد رفعته لذلك المنصب أثر هياج شعبي. انظر: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر –تأليف عبد الرحمن الرافعي- ط3 سنة النشر 1378- القاهرة ج2 ص355-357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وأن يقضي على المسلمين الداعين إلى الله فيها. ورآها محمد علي فرصة يضرب بها ضربته باسم خليفة المسلمين ظل الله في أرضه، ثم كانت الغزوات والحروب التي يطول ذكرها، والتي ذهب وقودها مئات الألوف من أبناء مصر، وعشرات الأولوف من أبناء جزيرة الإسلام، وظنوا أنهم قضوا على الدولة التي أقامت حركة التوحيد من جديد بكبوة جوادها، وفاتهم أن حركة التوحيد قد توسع مداها، وأوقدت شعلة قوية في كل أعماق الدعوات الإصلاحية الحديثة، وألهمتها فهماً جديداً متكاملاً قائماً على أن الإسلام دين ونظام واجتماع في نظام موحد، ومن العسير جداً فصل هذه العناصر بعضها عن بعض في تفكير المسلم الواعي، والمعروف أن النفوذ الغربي قد قاوم هذه الدعوة لأنه لا يريد أن يسمع في هذه المنطقة صوت يقظة حتى يتم تمزيقها وسلخها عن الدولة العثمانية وإدخالها في مناطق نفوذه، وكانت منطقة الخليج والجزيرة في تلك الفترة هي أخطر هذه المناطق التي تطمع فيها بريطانيا، وقد كان الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد أكد دعوة التوحيد بضرورة التماس مفهوم الأساس من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وأن وسيلة الإصلاح والنهضة لن تتحقق إلا بحملة ضخمة قوامها القوة والإقناع معاً للقضاء على البدع1 والمفاسد التي دخلت الإسلام ظلماً، والعودة إلى نقاوته الأولى، وعدم الاعتراف بما تركه المفسدون مما يتعارض مع أصول   1 مقدمات العلوم والمناهج 3/211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الإسلام في بساطته وسماحته، وترك الطقوس وأنواع الاحتفالات والبدع الخاصة بتقديس الأولياء، وقصر العبادة على توحيد الله وحده، وفق ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، ووفق تعاليم القرآن الكريم. ولا شك أن صدق الإمام والأمير، وعمق أيمانهما وصلابتهما، كانت كلها عوامل أساسية في النتائج التي حققتها الدعوة، حيث تسلمت قيادة الحركة الإسلامية، وكان أبرز معطايتها أنها فتحت باب الاجتهاد في الفروع، والقيام بواجب الجهاد في سبيل الله، وإحياء هذه الفريضة التي أصابها الوهن، وكشف الظالمين، وهزت مراكزهم ونفوذهم، ولهذا اعتبرها الاستعمار الخطر الأول، ولكن هذه الدعوة المباركة سجلت أمراً خطيراً وبعيد الأثر في حركة اليقظة المعاصرة كلها، ذلك أنها أيقظت عالم الإسلام وأمة العرب قبل قدوم حملة نابليون بأكثر من ستين عاماً، وهدته إلى وسائل النهضة وأسبابها. من أجل ذلك كان التركيز الشديد من قبل النفوذ الاستعماري على الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية، فقد أحس أنها تمثل مفهوم الإسلام في اليقظة والمقاومة والعودة إلى عوامل القوة، وكان أبناء الدعوة الإسلامية في الجزيرة قد وضعوا أمامهم خطاً أساسياً هو الدفاع عن حوزة الإسلام ضد الأخطار المحدقة به، بعد أن حسبوا مدى الوهن والتراخي الذي طرأ على الوحدة الإسلامية في استنبول، وإذا كانت الدولة الأولى التي أقامتها الدعوة الإسلامية قد انتهت بالقضاء على إمامها عبد الله بن سعود رحمه الله فإن الذين تربوا في مدرسة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من أهل نجد، لا يمكن أن يضعفوا أو يستكينوا لأنهم يعملون لنصر الله عز وجل وما داموا يعتقدون أن النصر بيد الله يؤتيه من يشاء، وأن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 قد أكد لهم النصر بشرطه في كتابه العزيز فقال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (القتال: 7) ، وقد علم المسلمون الأولون أنه لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده، والموت في سبيله وحده، والنصر له وحده في ذات النفس وفي منهج الحياة. لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم1. وعلى هذا الأساس حمل تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب راية التوحيد، وبنوا بها دولة حققت للمسلمين السيادة والعزة، وبالرغم من سقوط الدولة السعودية الأولى من المفهوم السياسي، إلا أنها تركت في البلاد النجدية مقومات الدولة السعودية الثانية، ومداولة الأيام بين الناس سنة من سنن الله عز وجل في الأرض، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} (آل عمران: 140) . فالشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة يكشفان المعادن والدخائل، وفوق ذلك هو أجل مقدر لحكم أخرى يتحقق مع تحقق النصر. وشاء الله تعالى أن يبتلي أهل نجد بفترة أخرى من الفتن والضياع يصفها ابن بشر، فيقول: ... فلما حل القضاء، وانتهى الأمد المكتوب، وانقضى، وانحل نظام الجماعة، والسمع والطاعة، وتطايرت شرار الفتن في تلك الأوطان، وتعذرت الأسفار بين البلدان، وعاثت فيها العساكر المصرية فساداً، فقتلوا صناديد الرجال،   1 في ظلال القرآن 6/2288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وصادروا أهلها، فأخذوا ما بأيديهم من الأموال، وقطعوا الحدائق الظليلات، وهدموا القصور العاليات، وصار أهل نجد بينهم أذل من العبيد، وتفرق علماؤهم وخيارهم ما بين طريد وشريد، وثارت في غالب البلدان الفتن والقتل والقتال والمحن، وظهر المنكر، وعدم الأمر بالمعروف والنهي حتى أن الرجل في جوف بيته وجل مخوف، وتذكروا ما بين أسلافهم من الضغائن الخبيثة القديمة، وتطالبوا بالدماء، فكل منهم يطلب أولاً ... أولاد غريمه، فتقاتلوا على سنن ما أنزل الله بها من سلطان، وهجر كثير منهم الصلاة، وأفطر في رمضان، وجرى الرباب والغناء في المجالس، وسبت الذراري على المجامع والمدارس، وعمرت المجالس بعد النداء للصلوات، واندرس السؤال عن أصول الإسلام وأنواع العبادات، وظهرت دعوى الجاهلية في كل البلاد، وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد، وتتابعت هذه المحن في تلك الجزيرة نحو أربع سنوات، والشر فيها في زيادة، وظهور وتمكين، وبقيت الفتنة مستمرة حتى أنعش الله أهل نجد بشبل من أشبال ملوكها وسلاطينها، فبذل نفسه، وجرد سيفه لاجتماعها، وتمكين دينها1، فقضى على الفوضى، ووطد الأمن، وأعاد للإسلام مكانته.   1 المجلة العربية –السنة الأولى- العدد الثاني- ص 98 السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الباب الخامس عشر: الإمام تركي بن عبد الله محرر نجد ومؤسس الدولة الثانية ... الإمام تركي بن عبد الله1 محرر نجد ومؤسس الدولة الثانية لقد كان لعبد العزيز بن محمد بن سعود أخ اسمه عبد الله، أنجب ولداً اسمه تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، من أبناء عمومة أمير الدرعية، عبد الله بن سعود بن عبد العزيز، فر من وجه إبراهيم باشا الألباني، وظل متنقلاً في صحراء نجد ينشد السلامة في دينه ودنياه، وذكر هذا الفتى –تركي- ذلك العهد الذي قطعه جده محمد بن سعود للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب من العمل على نشر الدعوة إلى الله، ومحاربة الشرك والبدع والخرافات، فأخذ من عام 1235هـ يؤلف القلوب ويجمع الكلمة، ويدعو إلى ما كان يدعو إليه آباؤه، على يقين من أن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى شرف وتضحية، وأن طريقها ليس مفروشاً بالورود والرياحين، بل هو مملوء في أكثر الأحيان بالأشواك والعقبات والتضحيات، إلا أن التماس الأجر من الله تعالى يدفعه وهو مطمئن إلى وعد ربه تبارك وتعالى،   1 هو تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، توارى عن الأنظار بعد احتلال إبراهيم باشا الدرعية في سنة 1233هـ-1878م، استولى على حكم نجد سنة 1236هـ-1820م لفترة قصيرة انتهت سريعاً، ولكنه استعاد الحكم مرة ثانية سنة 1240هـ-1824م، نوط حكمه الذي شمل نجد والإحساء إلى أن قتل على يد ابن أخته مشاري ابن عبد الرحمن 1249هـ-1834م. انظر: العلاقات بين نجد والكويت تأليف خالد بن محمد السعد ط 1 الناشر جامعة الملك عبد العزيز ص 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقض ذلك من أجورهم شيئاً" 1. وقد كانت سير الرجال وتراجم الأبطال الذي صهرتهم المحن وصقلتهم الشدائد ماثلة أمام ناظريه، يستلهم منها ويقتدي بها، فأحس بالمسؤولية الثقيلة، والتمس التوفيق من الله عز وجل في استمرار العون، ووضع كلمة نبي الله شعيب عليه السلام نبراساً: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) ، ومهما كانت الشدائد فلا تزيده إلا إصراراً وعزماً، فإيمانه يهون عليه المصاعب والأهوال، كهؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} (الأحزاب:22) ، وعمل رحمه الله تعالى على استنهاض الهمم وتعميق اليقين بالله عز وجل، والثقة بنصره لاستعادة الدولة الإسلامية التي تكالب عليها الأعداء فأسقطوها، وشوق رجاله إلى التضحية بالنفس والمال، حتى أتت جهوده بأطيب الثمرات، وتمكن من غزو الإحساء والاستيلاء عليها، ومضى إلى الرياض 1236هـ فاسترداها من الأتراك، وطرد الحامية المصرية، وأسس فيها إمارته فكان الإمام الخامس. وظل الإمام تركي بن عبد الله يعمل على نشر الدعوة، وبه انتقلت الإمارة من سلالة عبد العزيز بن محمد إلى سلالة أخيه عبد الله بن محمد، وما زالت فيها إلى هذا اليوم. ولقد كبر على آل سعود الكبير أن تخرج الإمارة منهم إلى أبناء عمومتهم، فدبر   1 رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 مشاري بن عبد الرحمن بن مشاري بن سعود، أخو محمد بن سعود الكبير، فكرة اغيال الإمام تركي، والاستئثار بالإمارة من دونه، فعهد إلى أحد الخدم بذلك، فجاء إليه وهو خارج من المسجد عقب صلاة الجمعة عام 1249هـ وهو منشغل بقراءة عريضة رفعت إليه من أحد الرعايا، فأرداه قتيلاً، ومن الحق أن نقول: "بأنه لولا صبر الإمام تركي وجهاده وجهوده المتواصلة في سبيل إصلاح التركة التي تسلمها مثقلة بالخراب والدمار لما قامت الدولة العربية الإسلامية في جزيرة الإسلام، ولم يكتف تركي رحمه الله بتحرير البلدان من سيطرة الألباني محمد علي، وإنما أنقذها أيضاً من سيطرة الزعماء الإقليميين، "المتنافسين والمتقاتلين"، وفي ذلك يقول ابن بشر: "كان تركي رحمه الله شجاعاً مقداماً، مجاهداً في سبيل الله، افتتح قرى نجد واستولى عليها بالحرب والصلح بعد أن كان بعضهم يضرب رقاب بعض، وكان أمير كل بلد شاهراً سيفه لمحاربة البلد التي تليه، فجاهد حق الجهاد حتى أطاعت له البلاد والعباد، وصاروا كلهم جماعة، وبايعوه على السمع والطاعة1. ثم انتهت حياة هذا الإمام على يد ابن عمه مشاري الذي تقدم ونادى بنفسه أميراً على البلدة فخضع الناس له، وكان فيصل بن الإمام تركي -القتيل- غائباً في أطراف القطيف على رأس جيش عظيم لإقرار السلام في تلك الجهات، فما أن بلغه الخبر حتى قفل راجعاً إلى الرياض فبلغها في الحادي عشر من شهر صفر سنة 1250هـ، ودخلها عنوة فاحتمى مشاري بقصره، فاقتحمه أحد رجال فيصل، ودخل عليه فقتله بعد حكم دام أربعين يوماً فقط2، وبعد قتله تربع   1 المجلة العربية: العدد الثاني ص 99. 2 آل سعود –ماضيهم وحاضرهم: تأليف جبران شامية ص 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فيصل بن تركي على كرسي حكم البلاد، وكان فيصل من ضمن من نقل إلى مصر وتربى فيها، ثم رجع إلى أبيه وتولى قيادة جيشه ومعاونته على تدبير شؤون الإمارة، والبر بوالده إلى أن قتل، فأخذ بثأره ممن دبر قتله وتولى الحكم محله، وما أن قبض على أزمة الأمور وأصبح أميراً على نجد والإحساء والقطيف، وبعض قرى الحجاز حتى قام يعمل على نشر الدعوة التي أخذ آل سعود على أنفسهم حمايتها ونصرتها، لتكون كلمة الله هي العليا. فلما سمع والي مصر محمد علي باشا الألباني بتجدد الدعوة الإسلامية في نجد على يد فيصل بن تركي أيقن أنه لا سبيل إلى القضاء على هذه الدعوة إلا عن طريق قادتها، فاختار من بين المبعدين في مصر من آل سعود شاباً استصفاه ورباه في قصره على النعيم والترف، وملأت قلبه مباهج الحضارة الغربية الزائفة، حتى نسى ما في البداوة من معان سامية، وشمائل عالية توحي إلى النفوس معنى العزة والكرامة، وتذيقها لذة الحرية والاستقلال، وتشعرها بفوائد الإيمان والثقة بالله عز وجل، ذلك هو الأمير خالد أصغر أبناء سعود الكبير، وأخو الإمام عبد الله الذي استسلم لإبراهيم باشا في الحملة المصرية الأولى، وأعدم في استانبول. وكان لخالد أنصاره الذين لم يرضوا عن انتقال الإمامة من أولاد سعود الكبير إلى أولاد عبد الله بن محمد، وكان له –أيضاً- مؤيده الذي أعده ليتولى الحكم في الجزيرة نيابة عنه، وهو محمد علي باشا الألباني الذي وثق بأنه لن يدعو بدعوة آبائه، عند ذلك أرسله إلى نجد ومعه جيش بقيادة إسماعيل، ثم تبعهما بعد ذلك عام 1254هـ القائد العام خورشيد باشا، لانتزاع الحكم من يد فيضل بن تركي وتنصيبه بدلاً عنه. فسار الجيش –المذكور- حتى أشرف على الرياض، فلما سمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 به الإمام فيصل لم يشأ منازلته في الرياض، بل تنحى بجيشه إلى مكان يقال له "الدلم" في أنحاء الخرج، فتبعه هنالك الجيش المصري، وحصلت بينهما معركة لم يستطع معها الجيش المصري دحر قوة خصمه، لكنه ظل مرابطاً حوله والمناوشات دائرة بينهما عدة أيام حتى سئم الفريقان الحرب. فما كان من الإمام فيصل إلا أن يعرض على القائد المصري استعداده للتسليم إليه على شرط إعطائه الأمان لكل من كان يحارب معه، فقبل القائد المصري ذلك، وبادر الإمام فيصل بتسليم نفسه إليه في اليوم الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة 1255هـ- (1838م) ، فبعث به إلى مصر مع أخيه جلوي بن تركي وابنى أخيه عبد الله ومحمد، وأجلس خالدا على كرسي الحكم، وسلمه مقاليد الإمارة في نجد ليوجه الشعب إلى غير الاتجاه الذي كان عليه، ويسير به على النظم والتعاليم العصرية المتبعة في مصر، فقام خالد بما عهد إليه به، فنفر منه الناس، وأنكروا عليه أعماله، وقامت الثورات ضده، حتى توحدت القرى النجدية بزعامة عبد الله بن ثنيان بن إبراهيم بن ثنيان بن سعود1، تريد التحرر من حكم الأتراك والمصريين، وتبغي المحافظة على الدين الإسلامي الصحيح على طريقة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقررت خلع الأمير المذكور، فما وسعه إلا أن ينجو بنفسه، ففر إلى الإحساء فالقطيف ثم الكويت، ومنها إلى الحجاز حيث مات بها في عام 1257هـ (1861م) ، وخلا الجو لعبد الله بن ثنيان فاستبد بالحكم وعمل على وضع الضرائب الباهظة على الشعب ليستعين بذلك   1 عبد الله بن ثنيان، هو من فرع ثالث من العائلة السعودية، ويعتبر الإمام التاسع، وقد دام حكمه سنتين (1843م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 على توطيد إمارته، ولكن الإمام فيصل بن تركي لم يمهله كثيراً، ففر من مصر ثانية، أو ربما سهلت له مصر في عهد واليها عباس باشا الأول طريق الفرار لمناوأة خصمها الذي تزعم الثورة ضد عاملها الأمير خالد، لعجزها في هذه المرة عن مقاتلة نجد، وتوطيد حكمها فيها1. وما أن جاء إلى نجد البشير بمقدم إمامها المحبوب فيصل حتى التفت حوله القبائل، فزحف بها إلى عنيزة، فاستولى عليها بعد أن أخلاها ابن ثنيان، ولجأ إلى الرياض، فتعقبه بها وحاصره بقصره فاستسلم له فعفا عنه، ولكنه مات بعد مرض ألزمه الفراش أياماً، وظل الإمام فيصل يعمل على استرجاع ما أخذ منه من البلاد حتى خضعت له الإحساء والقطيف، والعارض والقصيم وجبل شمر، ووادي الدواسر وعسير وجانب من أرض الحجاز، ودان له بالطاعة أمراء البحرين ومسقط وسواحل عمان وعنيزة، ولم يكن يهمه كل ذلك إلا أن يعمل على محاربة كل ما يؤيد إلى الشك والضلال مما يسبب غضب الله تعالى2، وقد أرك أن الزمن يتقدم بالإسلام وأمته إلى الأمام بين مد وجزر، يذهب الجزر كالزبد جفاء ويبقى من المد ما يمكث في الأرض وينفع الناس، فواجه الواقع بحكمة ماضية وعزم أبي مقدام حر، وهو يعلم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن أقدار الله تبارك وتعالى مرتبطة بنواصيه، فلا بد من عظيم العمل لتحقيق عظيم الأمل، وقد نفح الإسلام العظيم دعوته من خصائصه الفذة بمزايا البقاء والنماء والارقتاء، ولذا كانت فعاليتها مستمرة الزمان ممدودة المكان، وثمارها أكبر من أن يجحدها جاحد   1 راجع تاريخ نجد الحديث –أمين الريحاني. 2 راجع كتاب الإمام العادل –تأليف عبد الحميد الخطيب ص 11-14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أو يختقها ظاغوت، إن في ديننا العظيم من الجدارات والقدرات والطاقات ما ليس في سواه، وهو وحده قادر على أن يمد الرجال الصالحين بنظام يتطلع لإنقاذ البشر ويستر وجودهم في ذاتهم، ويقيمهم في المقام الذي شرعه الله تعالى لهم، والسعيد السعيد هو الذي يضع نفسه من ربه ودينه وأمته وبلده في الاتجاه السديد الرشيد بكل قناعة وطاعة، وعلم وعزم وثقة وإخلاص مهما كانت العواثر، ومهما كثرت المخاطر، وهكذا كان الأئمة المسلمون في مختلف العهود أعلام دين وسياسة. اتخذوا من دعوة الحق منهاجاً صالحاً، وسبيلاً واضحاً، استمدوه من القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومن روح التشريع الإسلامي، وقاموا بتنفيذه بحكمة وسداد وصبر وعزم حتى انتشرت الدعوة الإسلامية، واستظل برايتها خلق كثير. والمسلم الحق هو الذي يعمل للدين والدنيا معاً، وهكذا كانت حياة الإمام فيصل رحمه الله الذي مات في شهر رجب سنة 1282هـ (1865م) ، وخلف من الأبناء أربعة: الأول: وأكبرهم، عبد الله، الذي بويع بالإمامة بعد موت والده وأصبح الإمام الحادي عشر. والثاني: محمد، أمير المنطقة الشمالية في نجد. والثالث: سعود بن سعود، أمير الخرج والأفلاح، الذي اعترض على ولاية أخيه عبد الله، وادعاها لنفسه، ودب الخلاف بينهما من جديد فراح سعود يؤلب على أخيه القبائل، وقد نشأت عن ذلك الفتن والقلاقل، وظل الأخوان عبد الله وسعود أولاد فيصل يتقاتلان، والبلاد في حالة فوضى مستحكمة، والحرب الأهلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 تستعر في جميع الأنحاء، حتى تدخل في شؤونها الخاصة أمير حائل محمد بن الرشيد1، وشجع الفتنة للتخلص من نفوذ آل سعود، ومن الضريبة السنوية، كما شجعها الأتراك لاستعادة السيطرة على الإحساء، وتم استيلاء سعود على الإحساء، وساعده شيخ البحرين وسلطان مسقط، وقبائل بني خالد، والعجمان، وبني مرة، وبات الطريق مفتوحاً إلى الرياض، فدخلها سعود بن فيصل سنة 1288هـ (1871م) عندما أرسل عبد الله رسائل إلى مدحت باشا والي بغداد يطلب مساعدته، فكانت المناسبة المرجوة عند الأتراك لاستعادة الإحساء، فجهز مدحت باشا حملة من خمسة آلاف جندي، واستعان بناصر السعدون شيخ قبائل المنتفق، وبعبد الله الصباح شيخ الكويت، وأن سعوداً ثائر ضد الدولة العثمانية، وأنه يتعاون مع الإنكليز، وتطورت الأمور وزادت المحن، واتجهت الحملة من البصرة عام 1871م، وساعدتها الكويت بالمال والرجال فسارت بحراً إلى القصير، وبراً إلى القطيف، ثم احتل الإحساء وقطر فقطع مدحت باشا بذلك الصلة بين نجد وعمان، وأصدر مدحت باشا منشوراً على السلطان جاء فيه: إن نجدا وملحقاتها جزءاً من الممتلكات العثمانية أسوة بالعراق واليمن ومصر وغيرها، وبما أن سعوداً أسقط سلطة عبد الله القائم مقام الذي عينه السلطان تابعاً لولاية العراق، فقد أرسلنا قوة لمساعدة عبد الله، وإخضاع القبائل لسلطته، وقد وعدنا سعوداً بالعفو إذا تقدم واعتذر عن تصرفه وإلا فسندمره مع القبائل التي تناصره2.   1 الإمام العادل –عبد الحميد الخطيب ص 14. 2 آل سعود ماضيهم وحاضرهم –تأليف: جبران شامية ص 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 واستمرت السيطرة العثمانية على المنطقة الشرقية إلى قبيل الحرب العالمية الأولى، وشهدت نجد خلال ولاية الإمام سعود كثيراً من المحن، فقد اجتاحتها مجاعة عامي 1871و 1872م، فمن لم يمت بالسيف مات جوعاً، وكان الناس يأكلون جيف الحمير، ويحرقون جلود الماعز ويدقونها، بل كانوا يدقون حتى العظام، ويأكلون مسحوقها، وانفصل في تلك الأثناء جبل شمر والقصيم والإحساء عن سلطة آل سعود، وتعقدت الأحداث، ومات خلال ذلك الإمام الثاني عشر، سعود بن فيصل في الرياض سنة 1875م، وكان أخوه ومنافسه عبد الله بن فيصل في الصحراء مع أخيه محمد، وبعض رؤساء القبائل، وكان في الرياض عبد الرحمن الابن الرابع لفيصل الذي أخذ الأمر بيده، وأعلن نفسه إماماً خلفاً لأخيه سعود، فأصبح الإمام الثالث عشر وآزره أولاد أخيه سعود ضد أخيه وعمهم عبد الله بن فيصل، ولم يطل الوقت حتى اختلف عبد الرحمن مع أولاد أخيه سعود، فترك الرياض وأصلح شأنه مع أخيه عبد الله بن فيصل، وأقر له بالإمامة فشكل الأخوة الثلاثة عبد الله ومحمد وعبد الرحمن أولاد الإمام فيصل جبهة موحدة ضد أولاد أخيهم سعود بن فيصل، وعاد عبد الله بن فيصل إماماً وهو الرابع عشر والأخير قبل سقوط الدولة السعودية الثانية1. زخف الأخوة الثلاثة –عبد الله ومحمد وعبد الرحمن- على الرياض فتركها أولاد أخيهم سعود، واعتصموا بمنطقة الخرج، وبعد ثلاث سنوات زحفوا من الخرج على الرياض، وأسروا عمهم الإمام عبد الله، وكان هذا قد استنجد بمحمد بن رشيد شيخ شمر ضد أولاد أخيه، فهاجم ابن رشيد الرياض وداخل الدعوة   1 تاريخ نجد الحديث –أمين الريحاني ص 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الإسلامية التي أسسها (الإمام والأمير) شيء من حب الانتصار للذات، أو تطلب الاحتفاظ في الحكم والسلطان مما هو خارج عن أساس الغاية التي كان يعمل لها الإمام محمد بن عبد الوهاب، والإمام محمد بن سعود الأول رحمهما الله تعالى، وبهجوم ابن رشيد على الرياض استطاع فك أسر الإمام عبد الله بن فيصل وأخذه معه إلى الحائل كضيف دائم سنة 1889م، وسارعت القبائل النجدية بتقديم الطاعة لمحمد بن رشيد مع أنه لم يكن من رجال الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية، وإنما كان حليفاً للدولة العثمانية، ويستمد منها المال والسلاح، والجدير بالملاحظة أن آل رشيد استولوا على نجد، وقضوا على حكم آل سعود من دون معركة1، وكان من أهم أسباب نجاحهم النزاعات الداخلية والحروب الدامية بين أفراد العائلة الواحدة الطامعين بالإمامة، مما أضعف ولاء السكان للدعوة ورجالها. وهكذا انتهت الدولة السعودية الثانية بعد وفاة الإمام عبد الله الفيصل في حائل، وانتقلت جذوتها إلى أخيه عبد الرحمن بن فيصل الذي عرف بالتقوى، والصلاح، ورأى أنه ليس من الصواب أن تراق دماء المسلمين في غير طاعة، فآثر الانزواء والهجرة بدينه في سبيل الله، فأخذ أسرته وأقاربه من الرياض وأرسلهم إلى البحرين، وظل منتقلاً في بعض المدن والأمصار يبحث عن مكان يصلح لأن يعد فيه العدة للعمل لما يرضي الله تعالى، حتى وقع اختياره على مدينة الكويت، فرحب به الأمير محمد بن صباح حاكم الكويت في ذلك الوقت، وأذن له بالإقامة عنده، وعين له مرتباً من الأرزاق، وبذلك خمدت الدعوة الإسلامية في جزيرة العرب، والتي رسم سبيلها الإمام محمد بن عبد الوهاب، ولكنها لم تخمد في   1 آل سعود ماضيهم وحاضرهم –جبران شامية ص 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 نفس ابنها البار، وناصرهم الإمام عبد الرحمن، لأنها استولت على مشاعره، وأصبحت همه الوحيد في هذه الحياة، وأخذ يلقنها لابنه البار عبد العزيز1. ويوصيه بالتمسك بها، والدأب عليها، وعدم التفريط فيها، فإنها سبيل السعادة ورأس النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة. وثابر على ذلك إلى أن بلغه الله عز وجل أمنيته، فجعل من ولده عبد العزيز بن عبد الرحمن خير نصير لتلك الدعوة الحبيبة، وأعظم مجاهد في سبيلها بالنفس والمال، ومات الإمام عبد الرحمن قرير العين ناعم البال في الرياض سنة 1346، وترك ولده عبد العزيز ليقوم بالدور الذهبي الثالث لدولة الدعوة الإسلامية في الجزيرة الإسلامية العربية.   1 أمراء الدولة السعودية الثانية: (1) مشاري بن سعود (1234-1236هـ) (1818-1820م) . (2) الإمام تركي بن عبد الله بن سعود (1236-1249هـ) . (3) الإمام فيصل بن تركي وقد حكم مرتين: - المرة الأولى من 1250-1255هـ. - المرة الثانية من 1258-1282هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الباب السادس عشر: الدولة السعودية الثالثة الحالية ... الدولة السعودية الثالثة الحالية1 لقد أدرك المستعمر في مجيئه للمنطقة العربية متسلطاً وطامعاً دور العقيدة الإسلامية الصحيحة في التصدي لأعداء الإسلام، فكان من مهمته حجب كل دعوة إسلامية صحيحة، وكل حركة تجديد، تعيد المسلمين إلى منهج السلف الصالح، أو تعويقها ومشاغلتها حتى لا يتسع تأثيرها فتوقظ المسلمين وتردهم إلى صوابهم وأصالتهم، ويعيدوا بناء كيانهم على أساس الإسلام الخالص، وهذا في نظر الاستعمار كارثة رهيبة له، ولا يمكنه الحياة في العالم الإسلامي إلا في ظل التجزئة والضعف والتمزيق والتشتيت والفرقة وإثارة المشاكل وتقوية الاتجاهات الفرقة لوحدة المسلمين وتضامنهم، فالغرب الكافر والشرق الملحد ينظران إلى العالم الإسلامي على أنه عملاق نائم، ويعتبران يقظة المسلمين خطراً يهددهما، ولقد صرح البرومشادور في حديث عن المسلمين قائلاً: "إن المسلم الذكي الشجاع قد ترك لنا حيث حل آثار علمه وفنه، وآثار مجده وفخاره".   1 حكام الدولة السعودية الثالثة: 1- الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل مؤسس الدولة الثالثة، توفي 1952م رحمه الله. 2- سعود بن عبد العزيز تولى الحكم في 2 ربيع الأول 1373هـ 9 نوفنمبر 1953م حتى 27 جمادى الثانية عام 1384هـ -1نوفنمر 1964. توفي عام 1389هـ-1969م في أثينا عاصمة اليونان، وصلي عليه في مكة ثم نقل إلى الرياض، ودفن في مقبرة العود. 3- فيصل بن عبد العزيز –تولى الحكم من 27 جمادى الثانية عام 1384هـ -2 نوفمبر عام 1964م حتى مقتله 13 من ربيع الأول 1395هـ -25 مارس 1975م، ودفن في مقبرة العود. 4- خالد بن عبد العزيز: تولى الحكم 14 ربيع الأول 1395هـ -25مارس 1975م حتى وفاته في 21 شعبان 1402هـ-13يونيو 1982م، رحمهم الله. 5- فهد بن عبد العزيز- الحاكم الحالي (خادم الحرمين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 إن هذا المسلم الذي نام نوماً عميقاً مئات السنين قد استيقظ وأخذ ينادي هأنذا لم أمت، أني أعود إلى الحياة لا لأكون أداة طيعة أو إمعة من البشر تسيرها العواصم الكبرى1 ثم يقول: "ومن يدري؟ قد يعود اليوم التي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددة من المسلمين فيهبوطون من السماء لغزو العالم مرة ثانية في الوقت المناسب أو الزمن الموقوت لست أدعي النبوة، ولكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة لا تقوى الذرة، ولا الصواريخ على وقف تيارها2، ولهذا عندما قامت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب التجديدية تصحح ما دخل على الدين والعقيدة من شوائب سببها الجهل والبعد عن الإسلام والتقليد، وتجديد ما اندرس من وضوح الإسلام وبساطته ونقاوته، وإعادة المسلمين إلى بساط الإسلام في علاقتهم مع الله عز وجل والالتزام بما جاء به رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، عندها أدرك الأعداء أن عودة المسلمين لمنهج السلف الصالح تتعارض مع بقائهم معششين في ديار الإسلام مستثمرين لخيراتها، فكان لمفكريهم دور واضح في التصدي لها، واستطاعوا بوسائلهم المعروفة أن يوقعوا الفتن بين أبناء الأمير الذي احتضن الدعوة وصاحبها بالتأييد والنصرة، وحصل الانقسام بين الأخوة أبناء الإمام فيصل بن تركي، وسلبت الإمارة منهم طبقاً لما أخبر الله عباده بقوله: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} . ثم صار الأمر في نجد لابن الرشيد بعد أن زالت دولة آل سعود لتنازعهم فيما   1 انظر لما هذا الرعب كله من الإسلام: جمع سعيد جودة –الناشر: لجنة مسجد جامعة دمشق –بدون تاريخ النشر- ص 16. 2 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 بينهم، وكان يقع بين الأخوة منهم من تنافس على الإمارة ما سالت فيه الدماء، ومع أفول نجم الدولة السعودية الثانية خبا وهج الدعوة الإسلامية، وضعف أثرها بضعف أهلها وتخاذلهم وإهمالهم لتعاليم الإسلام، وإذا أراد الله تعالى أمراً هيأ أسبابه، فقد رزق الإمام عبد الرحمن الفيصل بمولود فرح به كثيراً، أسماه عبد العزيز1، أملاً أن يقر الله تعالى به ويعلي كلمته، فلكل امرئ من اسمه نصيب2، وأخذ يمرنه من طفولته على الفروسية وقيادة الجند من الأطفال، ويعوده على التقشف وخشونة البادية، وتحمل آلام الجوع والعطش والصبر على المكاره، ويشجعه على ارتياد الصحراء لتعلم الفروسية والرماية، وتعرف أحوال القبائل، وما أن بلغ الخامسة من عمره حتى عهد به والده إلى فقيه من فقهاء الخرج اسمه عبد الله الخرجي فعلمه القرآن الكريم، ليحكم بذلك الصلة بينه وبين مولاه، فلم يمض على ذلك أربع سنوات حتى ختم القرآن الكريم. ثم عهد به إلى فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف من آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فعلمه علوم الدين، ليتفقه فيها، [من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين] ، وفي هذه الأثناء كان والده يحرص على مرافقته له في مجالس الرجال، ويشركه معهم في الرأي، ليتعود على الصراحة في القول والجرأة على الكلام، بل ويصحبه معه في أكثر الغزوات، ويزجه معه للقتال في الساحات، وما أن اشتدت به الأيام واعتزل الإمام عبد الرحمن الحكم أرسله مع أسرته إلى البحرين فالإحساء فالكويت، وظل بها إلى أن التحق به فيها، ومن ذلك التاريخ أخذ الإمام عبد الرحمن يبث في نفس ابنه   1 ولد عبد العزيز بن عبد الرحمن ليلة عيد الأضحى، 10 من ذي الحجة سنة 1299هـ، الموافق 21 أكتوبر سنة 1880م. 2 الإمام العادل –عبد الحميد الخطيب ص 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 عبد العزيز الروح الدينية، ويغرس في قلبه حب التضحية والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل، ويذكره بالعهد الذي تم بين جده محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب من العمل على نشر الإسلام الصحيح وجذب الناس إلى توحيد الله عز وجل، ويقيم له الأدلة والبراهين على ثمرة التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وما يجنيه المرء من وراء ذلك من سعادة الدنيا والآخرة، حتى اشتعلت في قلب الفتى عبد العزيز نار الغيرة على دين الله عز وجل، وعاهد ربه على العمل لما يقربه إليه ويرفع من شأن دينه الحق، وهكذا يتضح لنا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تسير جنباً إلى جنب مع مراحل الدولة السعودية، وكان عبد العزيز بن عبد الرحمن الذي لم يشهد من تاريخ أسرته التي امتد سلطانها على الجزيرة العربية المسلمة إلا أطلالاً من الذكريات ينطوي عليها قلبه المفئود وهو يربض إلى جوار أبيه في منفاه بأرض الكويت. وظلت ذكريات المجد الذاهب تلهب عاطفته وهو في منفاه حتى إذا استوى عوده فصار شاباً جلداً كانت فكرة الثأر قد استولت على جميع مشاعره، وأقسم ليستردن ملك آبائه وأجداده، وليعودن بأبيه وأهله إلى عاصمة ملكهم مظفراً منصوراً بعون الله عز وجل. وأطلع أباه الشيخ على ما نوى من أمره فحذره العاقبة، وأشفق عليه من المصير ... ولكنه أصر على رأيه ولسان حاله يقول: لأستسلهن الصعب أو أبلغ المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابر وألح على على أبيه في أن يأذن له فأذن ... وانطلق تحت جنح الظلام في أربعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 رجلاً من أهله وأصحابه، يضرب بهم في مضارب الصحراء ويجتاز بهم دروباً موحشة غير مطروقة حتى لا يلقاه أحد من الرعاة أو السابلة فينكشف أمره وتحبط خطته، وما زال يدلج بالليل ويتخفي بالنهار حتى بلغ مشارف الرياض في مكان يقال له ضلع الشعب، وهناك أناخوا ركابهم وتركوا متاعهم، وسار في منتصف الليل أربعون رجلاً مشياً على الأقدام بقيادة زعيمهم الفتى عبد العزيز، وما أن بلغوا سور المدينة حتى ترك الفتى عبد العزيز1 من جماعته ثلاثين رجلاً تحت امرة أخيه محمد بن عبد الرحمن، ثم تقدم بالباقين فتسلق سور البلد وخف إلى دار مجاورة لقصر الأمير عجلان –عامل ابن رشيد- فطرق الباب. وأجابت امرأة من داخل الدار: من الطارق؟ قال: رجل من خدم الأمير عجلان يريد زوجك لغرض. قالت: اذهب لا بارك الله فيك. ما جئت تبغي إلا النساء. وهل يطرق باب الناس في الليل إلا فاسد ... قال: لا والله يا خاله، ما جئت لهذا، ولكن أخشى على زوجك من القتل غداً إذا لم يلب نداء الأمير حالاً، وكان زوجها قد استيقظ ففتح الباب ليرى جلية الأمر، وكان الفتى عبد العزيز يعرف الرجل وأهل بيته، فمنهن من كن في خدمة بيوت آل سعود، فما خرج الرجل حتى قبض عليه عبد العزيز وهدده بالقتل إن هو تكلم، ثم دخل البيت فلما رأته النسوة صحن: عمنا عبد العزيز! قال: اسكن ولا بأس عليكن، ثم أغلق عليهن الباب وتسلق الجدار ثم ذهب إلى القصر، وكان قد بعث   1 الإمام العادل –عبد الحميد الخطيب ص 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 إلى بقية رجاله فلحقوا به، ودخل إحدى الغرف فإذا بها زوجة الأمير، فصاحت به: أأنت عبد العزيز؟ قال: نعم، أنا هو .... قالت: من تبغي، وما مأربك هنا؟ قال: أريد عجلان لا سواه. قالت: يا بني لا تغرر بنفسك، انج بنفسك في هذا الليل وإلا قتلوك. قال: ما جئنا لنسمع منك النصيحة، ولكن لنعرف متى يخرج عجلان من القصر الداخلي ... ولم تستطع المرأة وقد رأت الموت يطل من عينيه ويهتز في يمينه إلا أن تقول: بعد شروق الشمس بساعة.. قال: هذا كل ما نريد. وإنكن إذا لزمتن السكوت والسكون فلا بأس عليكن، وإلا فالموت لا محالة. ثم أغلق على المرأة وصواحبها بابا ...... وظل ينتظر شروق الشمس ... وانفتح باب القصر الداخلي مع الصباح، وعبد العزيز ورجاله قد كمنوا على مقربة منه يتربصون.. ثم أهل الأمير فباغتوه وهو يحاول الفرار، فعاجله عبد العزيز بطلقة لم تدرك منه مقتلاً فتتبعه يعدو وراءه حتى أدركه، ونشب بين الرجلين صراع عنيف اشترك فيه رجال الأمير فانطلق وراءه عبد الله بن جلوي ابن عم عبد العزيز فأرداه قتيلاً1 ... ونشبت معركة بين حرس الأمير ورجال عبد العزيز ولم تلبث أن انتهت باستسلام الحرس، وسقطت القلعة في يد عبد العزيز، ودانت له العاصمة.   1 كان مقتل ابن عجلان في 3 شوال 1319هـ الموافق 15 يناير 1902م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ثم عاد الشيخ وأهله من منفاه في أرض الكويت، واستقبله الفارس الشاب المظفر مترجلاً عن جواده خارج الرياض، وقد بر بقسمه: ليستردن ملك آبائه وأجداده، وليعودن بأبيه وأهله إلى عاصمة ملكهم مظفراً منصوراً، وأقبل أهل الرياض على القصر يهنئون الأمير عبد العزيز بفوزه ونصره ويقدمون الطاعة، ويعربون له عن خالص الحب وعظيم الولاء، وترامى الخبر في البادية فهرع شيوخها إلى الرياض يؤيدون آل سعود، ويؤكدون للأمير الإخلاص، ويعاهدونه على الانضمام تحت رايته ومحاربة أعدائه، فقام بإصلاح ما هو مهدم من سور المدينة والحصن، وكان أول عمل أتاه عبد العزيز هو إرسال ناصر بن سعود إلى الشيخ مبارك مبشراً وطالباً المدد1، كما أعلم حاكم البصرة بأنه سيحكم الرياض باسم السلطان العثماني2 ليحول دون مساعدة الدولة العثمانية لابن رشيد. لبى الشيخ مبارك طلب المعونة، يقول عبد العزيز رشيد في ذلك الوقت: كان الشيخ مبارك ركن عبد العزيز الأعظم الذي يعتمد عليه فتراه يبعث إليه الإمدادات بسخاء وكرم، ويخرج إليه الحملات الواحدة تلو الأخرى، والقافلة إثر أختها، تحمل الأطعمة والذخيرة، والحقيقة أن مساعدات مبارك –حاكم الكويت- كانت حيوية لعبد العزيز في ذلك الوقت، لأن الكويت كان صلته الوحيدة بالعالم الخارجي3، على أن الأمر لم يستتب بعد للأمير عبد العزيز بعد دخوله الرياض، فما زال في صراع دائم، وجلاد مرير مدة عشرين عاماً تارة مع ابن الرشيد الذي لم   1 البلاد العربية –فؤاد حمزة ص 24. 2 العلاقات بين نجد والكويت –خالد السعدون ص 75. 3 تاريخ الكويت –عبد العزيز رشيد ص 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 يقف مكتوف اليدين أما الحليفين مبارك وعبد العزيز، وأخرى مع الأشراف والأتراك حتى انتصر عليهم، وطوراً مع "الإخوان" الثائرين حتى قضى على ثورتهم1، ثم دانت له الجزيرة العربية نجدها وحجازها. يقول هـ. س. أرمسترونغ: "كان توحيد شبه الجزيرة العربية على يدي الملك عبد العزيز آل سعود في فترة زمنية تقل عن عشرين عاماً نموذجاً رائعا لعملية بناء أمة". بعد ذلك الصراع للإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الدامي والمرير، تمت وحدة البلاد باسم المملكة العربية السعودية في 22 سبتمبر 1932م، وأخذ يعمل لتحقيق الغاية الأساسية التي يسعى إليه هو وآباؤه، وهي نشر الدعوة الصحيحة في الرجوع إلى حقيقة الدين والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بسيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم عن طريق العلماء الثقاة، والكتاب من أنصار الإمام محمد بن عبد الوهاب، فسيرهم إلى المدن والقرى في جميع الأمصار، فجذبوا القلوب وهيأوا الأفكار لتقبل الدعوة الإسلامية المجددة، حتى أصبح لها في جميع الأقطار أنصار وأعوان. وهذه رسالة "انظر الوثيقة" من توقيع العلماء بتاريخ 1345 هـ يفتون الإمام   1 لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة الكتب التالية: -شبه الجزيرة في عهد عبد العزيز –خير الدين الزركلي. -تاريخ نجد الحديث: أمين الريحاني. -العلاقات بين نجد والكويت –خالد السعدون. -الإمام العادل صاحب الجلالة –عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود- عبد الحميد الخطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود عن بعض الأمور العقدية التي سأل عنها قبل القدوم على فعله، "وهذه هي الشورى"، مثل هدم مسجد حمزة المزار، ودخول الحاج المصري بالسلاح، وغيرهم، وكان الموقعون من العلماء هم: 1- محمد بن عبد اللطيف 2- سعد بن حمد بن عتيق 3- سليمان بن سحمان 4- عبد العزيز بن عبد الله 5- عمر بن محمد بن سليم 6- صالح بن عبد العزيز 7- عبد الله بن حسن 8- عبد العزيز بن عبد اللطيف 9- عمر بن عبد اللطيف 10- محمد بن إبراهيم 11- محمد بن عبد الله 12- عبد الله بن زاحم 13- محمد بن عثمان الشاوي 14- عبد العزيز بن محمد الشتري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الباب السابع عشر: شخصية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وخصائصه ... شخصية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن وخصائصه لا بد من حديث موجز عن الخصائص التي تتكون منها شخصية الملك عبد العزيز، والتي مكنته بتوفيق الله عز وجل من أن يحقق هذه البطولة على أرض الجزيرة العربية الإسلامية، إن هذا العبقري الذي سبق عصره بأجيال لم تكن مواهب عسكرية فحسب، تتمثل في مغامراته التي استرد بها عاصمة الإمارة، وحروبه التي أخضع بها القبائل ووحد بها الأقاليم، ولكنها كانت إلى جانب ذلك مواهب سياسية وإدارية واجتماعية جعلته طرازاً فريداً من قيادة شعب، وبناء دولة وتطوير مجتمع، وتحقيق معجزة في تاريخ الدول والشعوب1. إن الانتصار في مغامرة أو وقائع عسكرية قد يلحق صاحبه بعباقرة الحرب وأبطال الفتوحات، ولكن هناك ما هو أعظم من ذلك في حياة الملك عبد العزيز. إنها العبقرية المتعددة الجوانب التي قاد بها البادية إلى طريق الحضارة، وحول المجتمعات القبلية إلى شعب، والأقاليم الممزقة إلى دولة، وأمسك بزمام العلاقات مع جيرانه ومع الدول الأجنبية، وصان للبلاد حريتها واستقلالها وثروتها المخبوءة في أعماق الرمال ... ولم تفتنه الانتصارات التي حققها في حروبه مع القبائل، ولم يترك الأحقاد وعوامل الثأر تغلي بها صدور أعدائه، ولكنه حرص على أن يمحو آثار الهزيمة في نفوسهم فحفظ لهم أقدارهم، وارتبط مع خصومه بالمصاهرة، فكان له منهم الأبناء والبنات، وكان لهم من   1 في ظلال الحرمين ص 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 جاه الملك نصيب، وبذلك تبدلت دماء الثأر بدماء النسب، ومشاعر الحقد بالمودة والولاء، فقد ضرب عبد العزيز حتى أوجع، وأعطى حتى أغنى، وعاهد وفجر موارد الثورة في بلاده وعاش ومات في قصر من الطين، يقول عبد الحميد الخطيب عن عبد العزيز: هو ذلك الرجل الطيب النفس، الكريم الخلق، الذي يكره الكبرياء ويمقت العظمة، ويتمثل دائما بقول القائل: يا ابن آدم: أصلك من نطفة قذرة وتحمل العذرة وستغدو جيفة نتنة، فكيف تبتغي العظمة؟ ويذكر قول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: "الكبريائي ردائي، والعظمة أزاري، فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي" 1، لقد عرف ربه فاحتقر نفسه وتجرد من كل حول وطول، وأسلم لله جميع أموره، فلا يرتجي من غيره العون، ولا ينفك لسانه من قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) . منحه الله من الخصال أحسنها، ومن الفضائل محاسنها وأوفاها، وأعطاه الله الملك، وخلق في مؤهلاته فزاده بسطة في العلم والجسم ... تواضع لله فرفعه الله، وجاهد في الله فتولاه الله، وخاف الله في سره فخاف منه أعداؤه، وراقب الله في عمله فمهدت سبيله، وأحب الله فأحبه الناس، وعامل الله فحسنت معاملته، وصفت أيامه، وأغدق عليه الخير الجزيل، واعتمد على الله فأناله الله ما يريد، ووثق بالله فلم يخيبه الله قط، وكان له نعم المعين، فأصبح مثلاً قائماً حياً ملموساً لرجال الله الصالحين المتقين2. حارب الخرافة والجهل، وقلم أظافر الجريمة، ونشر الأمن والعدل في البلاد، وسلك في تحضير البادية منهجاً فريداً حيث أنشأ نظام الهجرات ليستقر البدو   1 أخرجه أحمد 2/248، 376، 414، 427، 442، وأبو داود وابن ماجه. 2 الإمام العادل: ص 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الرحل في مجتمعات زراعية مستقرة لكل قبيلة هجرة تقوم على بئر أو نبع ماء، وتقام بها البيوت بدلاً من الخيام، وبها مسجد ومدرسة يتولاها معلم من علماء الدين المطاوعة، وبهذا المنهج الفريد وضع الملك عبد العزيز الأساس السليم لتحضير البادية، لا عن طريق تفريغها1 من سكانها البدو، ولكن بتعميرها وتحضير أهلها وإيجاد مجتمعات متطورة تعمر الصحاري والوديان، وكان نظام الهجرة فريداً في تركيبه الاجتماعي وأهدافه، فهو فضلاً عن تحقيق نوع من الاستقرار وتطوير المجتمع البدوي وصرف سكان الهجرات عن الغزو والسلب في سبيل كسب العيش، أبقى على الروح العسكرية حيث قسمت كل هجرة إلى ثلاث فئات: فئة تكون مستعدة دائماً للجهاد، ومع كل فرد من أفرادها سلاحه وذخيرته وناقته. وفئة تدعى عندما يعلن الإمام أن الجهاد "مثنى"، ويكون كل فرد فيها مكلفاً بإحضار مجاهد آخر يردفه على جمله. وفئة تلبي دعوة الجهاد، وعندما يعلن الإمام النفير العام، ويشترك فيها كل الذكور البالغين ولا يبقى للزراعة والتجارة إلا المسنون الأولاد والنساء. ويقول أمين الريحاني2: إن عبد العزيز كان يتحدث عن النظام العسكري في الهجرة وأثره في القتال: فيقول: يجيئوننا في السلم لنعطيهم ما يحتاجون إليه من كسوة ورزق ومال، ولكنهم في أيام الحرب لا يطلبون منا شيئاً. في أيام الحرب يتمنطق الواحد منهم ببيت من الخرطوش ويبادر إلى البندقية ثم يركب الذلول إلى الحرب ومعه شيء من   1 كما فعل أصحاب الاشتراكية والثورية حيث فرغوا الريف من سكانه، وخلقوا أزمات في المدن، فأماتوا الزراعة، وعطلوا الأراضي، فتفشت البطالة، ودمر الاقتصاد بسبب الجهل والعشوائية. 2 سيرة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 المال والثمر.. القليل عندنا يقوم مقام الكثير عند غيرنا ... كنا نمشي ثلاثة أيام بلا طعام. يأخذ الواحد منا ثرة من حين إلى حين يرطب بها فمه. نعم كانت الحاضرة أثبت قدماً وأشد بأساً من البادية ... أما بعد الهجرة فالبادية المتحضرون من أهل الهجرة هم في القتال أثبت من الحاضرة وأسبق إلى الاستشهاد، وكان عدد الهجرات التي أنشأها عبد العزيز أكثر من 122 هجرة، تضم 76500 مجاهد من مختلف القبائل. وهؤلاء الإخوان المجاهدون كانوا نواة الجيش الذي اعتمد عليه فيما بعد لإقامة المملكة العربية السعودية. وفي بناء الدولة من خلال رؤية ذكية، استعان الملك عبد العزيز بنخبة من طلائع الحركات التحررية في البلاد العربية، فأكرم وفادتهم وجعلهم وزراء ومستشارين إلى جانب النخبة من أهل نجد والحجاز. جوانب كثيرة من عبقرية الملك عبد العزيز ... قلما تحتمع في فرد، قامت عليها دعائم هذه الدولة الإسلامية، وانطلقت جهودها في البناء وتوفير الحياة الحرة الكريمة لأبناء الإسلام في الجزيرة العربية، وتوثيق الصلات الأخوية بالشعوب الإسلامية، وتأكيد دور هذه الجزيرة المباركة في حمل رسالة الإسلام، كل ذلك تم بفضل الله عز وجل، ثم ببركة الدعوة الإسلامية التي أسسها الإمام محمد بن عبد الوهاب، وثبت دعائهما الإمام محمد بن سعود، وانطلق الأحفاد من بعدهم يدعون إلى الله على بصيرة ويتفهمون أمور الإسلام برؤية وعلم. فرحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لقد كان مخلصاً وصادقاً، ولذا كانت دعوته التي استقاها من منهج السلف الصالح المستمد من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تلقى قبولاً في النفوس السليمة، وترسخ مع الأيام، رغم أن أعداءها من المنحرفين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 والضالين يقفون ضدها لكي يثبتوا الفرقة بين المسلمين، وتختلف كلمتهم ليسودوا ويستأثروا بالخيرات، ويطمئنوا إلى أن دولة الإسلام العالمية بعيدة الوقوع كلما ازداد الخلاف بين المسلمين، ولكن الله عز وجل ناصر عباده ما داموا مستمسكين بحبله معتصمين بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين حول الدعوة السليمة والعقيدة الصحيحة ليكونوا يداً واحدة على من سواهم، وهو القادر على ذلك سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الباب الثامن عشر: افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب "رحمه الله" الفصل الأول: الفرية الأولى الإمام محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة ... افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب "رحمه الله" الفرية الأولى الإمام محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة ادعى الحاقدون على هذه الدعوة السلفية أن الإمام محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة، كما ادعاها مسيلمة الكذاب وسجاح والعنسي وغيرهم. وهذا ابن عفالق وهو يفتري على الإمام فرية ستكون عليه يوم القيامة في عنقه، حيث يقول هذا الأثيم: والله، لقد ادعا النبوة بلسان حاله لا بلسان مقاله، بل زاد على دعوى النبوة، وأقمتموه مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذتم بأموامره ونواهيه1. ويقول علوي بن أحمد الحداد: "وكان يضمر دعوى النبوة، ويظهر عليه قرائنها بلسان الحال، لا بلسان المقال، لئلا ينفر عنه الناس، ويشهد بذلك ما ذكره العلماء من أن (ابن) عبد الوهاب كان في أول أمره مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً كمسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي، وطليحة الأسدي وأضرابهم"2. ويقول: "من ذلك أنه يدعي باطناً أنه أتى بدين جديد، كما يظهر من قرائن أحواله وأقواله، ولذلك لم يقبل من دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلا القرآن، فإنه قبله ظاهراً   1 الدرر السنية في الأجوبة النجدية –عبد الرحمن بن قاسم 1/99. 2 مصباح الأنام: لعلوي الحداد ص 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 فقط لئلا يعلم الناس حقيقة أمره، فينكشوا عنه، بدليل أنه هو وأتباعه إنما يؤولون بحسب ما يوافق هواهم، لا بحسب ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح وأئمة التفسير، فإنه لا يقول بذلك، كما أنه لا يقول بما عدا القرآن من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ... الخ"1. ويقول: "وكان يقول أي محمد بن عبد الوهاب": إن الربابة في بيت الخاطئة أقل إثماً ممن يناجي ويذكر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على المنابر"2. يقول الشاعر الغاوي محمد جميل الزهاوي العراقي، الذي هاجم الإسلام بعامة، وهاجم دعوته الممثلة في حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب على وجه الخصوص، وألف لهذا الغرض كتاباً أسماه: "الفجر الصادق في الرد على منكر التوسل والكرامات والخوارق"، يقول فيه: وكان محمد هذا بادئ بدأته كما ذكره بعض المؤلفين، مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً كمسيلمة الكذاب، وسجاح، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وأضرابهم، فكان يضمر في نفسه دعوى النبوة، إلا أنه لم يتمكن من إظهارها ... 3 ويقول أيضاً: "لقد كان الرجل -يعني محمد بن عبد الوهاب- في الحقيقة يريد أن يدعي النبوة إلا أنه تستر ... "4.   1 الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد، تأليف سلمان بن سحمان ص 20. 2 فصل الخطاب ص 67 تأليف أحمد بن علي القباني. 3 الضياء الشارق ص 25. 4 نفس المصدر –وكذا زعم أحمد زيني دحلان في الدرر السنية ص 46. ولد الزهاوي سنة 1279هـ في مدينة بغداد، توفي بها، تقلب في عدة مناصب، له عدة كتب ومقالات. انظر: الأعلام ج 2 ص 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ولا نعلم كيف عرف هذا المنافق أن الإمام محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة، إلا أن الإلحاد والزندقة والضلال زينوا له هذه الأقاويل، فكان يهرف بما لا يعرف، ويدور حول عبادة الأضرحة والأوثان البشرية، نلمح هذا في كتابه الذي نطلق عليه بدورنا "الفجر الكاذب"، وعاجله الشيخ سليمان بن سحمان بالرد عليه في كتابه" الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق"، و"عقود الجواهر الحسان". يقول الشيخ ابن سحمان رحمه الله وهو يفند قول الزهاوي: "وأما قوله: وكان محمد هذا بادئ بدأته: فالجواب أن تقول: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً، فإن هذا معلوم كذبه بالاضطرار، لا يعتري فهي من له أدنى معرفة بمقادير الأئمة الأخيار، ومن طالع كتب الشيخ ومصنفاته ورسائله، وتأمل حال شأنه ودعوته إلى الله، تبين له أن هذا من الكذب والافتراء، وأنه من صنع أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب الفساد، يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"1. ويوسف النبهاني: "الذي جعل أهل نجد بسبب اتباعهم للكتاب والسنة من أتباع سجاح، التي ادعت النبوة واعتبرها جدتهم، كما كان مسيلمة الكذاب جدهم. يقول:   1 انظر الضياء الشارق في الرد على شبهات الماذق المارق للشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله ص 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 أولئك وهابية ضل سعيهم ... فظنوا الردى خيراً وظنوا الهدى رشدا ضعاف النهى أعراب نجد جدودهم ... وقد أورثوهم عنهم الزور والوزرا مسيلمة الجد الكبير وعرسه ... سجاح لكل منهم الجدة الكبرى فقد ورثوا الكذاب إذا كان يدعي ... بأن له شطراً وللمصطفى شطراً1 فرد عليه الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله بقصيدة طويلة سماها: "الداهية الكبرى"، وتحتوي على أربعمائة بيت. قال رحمه الله: وقد ورثوا مجداً أصيلاً مؤثلاً ... لأهل الهدى منهم فنالوا الفخرا مسيلمة الكذاب ليس بجدهم ... وليس له نسل يغرر أو يدرى ولا لسجاح ويل أمك فاتئد ... فما الفشر إلا ما هذوت به نشرا   1 مصباح الأنام: للحداد ص 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وقد أسلمت والشام كان مقرها ... فلو كان لؤم لكنت به أحرى وعلمك بالأنساب أعظم آية ... على جهلك المردي بما قلته جهرا أتحسب أنا ويل أمك غفلاً ... كأنباط من بالشام ما حققوا الأمرا1 ويقول رحمه الله: فمن أنت منسوب إليه حقيقة ... فنحن على شك ودعواك لا تجرى ودعى بني نبهان يحتاج أن يرى ... بذلك ثبت ثابت عن بني الزهرا2 ومن المجافين للدعوة التي قامت على منهج السلف الصالح: أحمد ابن زين دحلان. الذي بسط نفوذه على أهل مكة، ووصل إلى الإفتاء فيها فنشر المقالات اللاذعة ضد الدعوة والقائمين عليها بين الناس، وخاصة في مواسم الحج إمعاناً في الخصومة واللدد بلا رقيب ولا حسيب، وألف رسالته التي أسماها "الدرر السنية في الرد على الوهابية"، وهذه الرسالة قد ملأها بالترهات والخزعبلات والأباطيل إرضاء للراوفض والباطنية، وصنائعهما المتصوفة الجهلة.   1 ديوان ابن سحمان (عقود الجواهر الحسان) ط 1، المطبعة الهندية 1337هـ، ص23-24. 2 نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 يقول: "والظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعي النبوة إلا أنه ما قدر على إظهار التصريح بذلك"1. كيف عرف دحلان أنه يدعي النبوة، أهو يعلم الغيب حتى يقول هذه الفرية الشيطانية!! أم أنه تطاول على الله في الأمور الغيبية، والله يقول: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} (الجن:26) إنه افترى وكذب علينا وصدق الشيخ المجاهد سليمان بن سحمان وهو يرد على دحلان: فويحك كم هذا التجاوز والهذا ... وكم ذا التجرئ والتجاوز للحد فجوزيت من مولاك شر جزائه ... وحل عليك الخزي في القرب والبعد ألفقوا بلا علم أكاذيب مفتر ... أوضاع أفاك حسود وذي2 حقد   1 انظر الدرر السنية ص 46. 2 انظر ديوان ابن سحمان. عقود الجواهر المنضدة الحسان: ط 1331هـ-الجند ص 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 يقول الشيخ فوزان السابق: "إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد اشتهر مذهبه ودعوته التي يدعو الناس إليها في مصنفاته المطولة ورسائله المختصرة، فلم يترك لمعارضيه شبهة إلا كشفها، ولا طريقاً توصل إلى الله وإلى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بينها وأوضحها. فأي شيء يخفيه في نفسه بعد ذلك أيها الضالون؟ فلو كان لهذه الفرية أدنى قيمة لأوردت من كلام الشيخ رحمه الله ما يكفي ويشفي في ردها. ولكنها فرية تمثل الزور والفجور، فلا تستحق رداً أكثر من احتقار صاحبها، وكشف عورته1.   1 انظر: البيان والإشهار في دحض فرية ادعاء النبوة: فوزان السابق للشيخ رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 أقوال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن هذه الفرية الشيطانية يقول الإمام: "فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم ممن دونه تحت لوائه"1. ويقول رحمه الله: "فلا يتحقق شهادة أن محمداً رسول الله إلا بتمام الاتباع، وكمال الاقتداء، بهدي النبي صلى الله عليه وسلم"2. ويقول عليه الرحمة: الأمر بطاعته "سبحانه" وطاعة رسوله، وأن الهدى في طاعته، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} . ويقول عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب3. "وقد قرر (أي محمد بن عبد الوهاب) رحمه الله على شهادة أن محمداً   1 مجموعة مؤلفات الشيخ ج1 ص 190. 2 المصدر السابق ج5 ص 113. 3 مجموعة مؤلفات الشيخ ج1 ص279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 رسول الله من بيان ما تستلزم هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصر والمتابعة، والطاعة وتقديم سنته صلى الله عليه وسلم على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث ما وقفت، والانتهاء حيث انتهت في أصول الدين وفروعه باطنه وظاهره، كليه وجزئيه، ما يظهر به فضله وتأكد علمه ونبله"1. ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله: "وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في الاعتقادات، والأقوال والأفعال، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله، فما وافق منها قبله، وما خالف رد على فاعله كائناً من كان"2. ويقول الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: "فقد علمت كلام الصادق المصدوق، فلا يكون قول الغير في نفسك أعظم من كلام نبيك"3.   1 انظر منهاج التأسيس ص 41، وانظر الدرر السنية ج 1 ص264. 2 انظر الدرر السنية ج1 ص 235-236. 3 المصدر السابق ج1 ص269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الفصل الثاني: الفرية الثانية زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب من الخوارج ... الفرية الثانية زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب من الخوارج1 زعم بعض علماء السوء والتضليل أن محمداً بن عبد الوهاب وجماعته من الخوارج، وأن سيماهم التحليق. وهذه عادة علماء السوء والتضليل الذين ابتلى الإسلام فيهم. ومن المعلوم أن الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من الموحدين، ينأون عن الخوارج، بل هم على الكتاب والسنة النبوية: يقول الشيخ المجاهد سليمان بن سحمان، رحمه الله: نبرأ من دين الخوارج إذ غلوا ... بتكفيرهم بالذنب كل موحد وظنوه ديناً من سفاهة رأيهم ... وتشديدهم في الدين أي تشديد ومن كل دين خالف الحق والهدى ... وليس على نهج النبي محمد2   1 انظر كتابنا ماذا تعرف عن (الخوارج) ، الجزء الأول. 2 انظر الهدية السنية ص 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 يقول علوي الحداد: "وأهم من ذلك كله ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الكثيرة المبينة لعلامات الخوارج، مما يبين أن ابن عبد الوهاب وأتباعه منهم، كونهم من نجد، وكونهم من المشرق، ومعلوم أن نجداً شرقي المدينة، وكون سيماهم التحليق، مع كونهم من المشرق"1. ويقول محمد أبو زهرة: "كانوا (يقصد اتباع محمد بن عبد والوهاب) يشبهون الخوارج الذين كانوا يكفرون مرتكب الذنب"2. ويفسر الصاوي قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} . يقول في تفسير هذه الآية: "نزلت في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة، ويستحلون بذلك دماء المسلمين وأموالهم كما هو مشاهد في نظائرهم، وهم فرقة يقال لهم الوهابية"3. يقصد بالوهابية جماعة الإمام محمد بن عبد الوهاب. ويقول الشيعي الرافضي الخبيث الكنهوري: "وإن لهم أسوة في سلف من الخوارج الحرورية، لعنهم الله، حيث كفروا أمير   1 انظر الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية ص 5. 2 انظر تاريخ المذاهب الإسلامية ج1 ص236، ومحمد أبو زهرة –هذا- وضع دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب من المذاهب الخارجة. 3 حاشية الصاوي على الجلالين ج3 ص307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وجميع المسلمين من أصحابه وأنصاره بتلفيقات تشبهها أقوال هؤلاء الوهابية، واستحلوا بذلك دماءهم وأموالهم". "ولو تأملت بصائب النظر في تاريخهم لوجدت الوهابية ممن يحذو حذوهم في العقائد ... ثم إنك لو أمعنت النظر لوجدت شيوخ أولئك الخوارج من أهل نجد"1. ويقول شاعر العراق محمد جميل الزهاوي، ذلك الشاعر المنافق: "إن من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إخباره عن هؤلاء الخوارج (يقصد بالخوارج أتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله) ، فهذا الرجل يهرف بما لا يعرف، ويدور حول عبادة الأضرحة والأوثان البشرية، نلمح هذا في كتابه الذي نطلق عليه بدورنا "الفجر الكاذب"، الذي حمل حملة شرسة على دعوة الإمام"2. وقد عاجله الشيخ سليمان بن سحمان رحمه بالرد عليه في كتابه "الضياء الشارق في رد الشبهات الماذق المارق"، و"عقود الجواهر الحسان". ألا بلغا عني جميلاً رسالة ... فقد جاءنا بالترهات اللواذب وفاه بقول لا حقيقة تحته ... وليس مقال القدم يوماً بصائب وجميل الزهاوي -هذا- لا يعرف إلا النفاق والتملق، عاش حياته نفاقا في نفاق مع   1 انظر كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب ص 78. 2 انظر الفخر الصادق ص 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الدولة العثمانية، فلما رأى الضعف ينخر بها في آخر أيامها اتجه إلى الإنجليز يمدحهم ويمجدهم ويصب النقد اللاذع واللعنات على الدولة العثمانية، وينشد في حب الإنجليز، ويحببهم إلى أبناء جلدته، فيقول: تبصر أيها العربي واترك ... ولاء الترك من قوم لئام1 ووال الإنجليز رجال عدل ... وصدق في الفعال وفي الكلام وقال في حبهم: أحب الإنجليز وأصطفيهم ... لمرض الاخائ من الأنام2 جلوا في الملك ظلمة كل ظلم ... بعدل ضاء كالبدر الثمام هذه نظرته إلى الإنجليز ذلك المستعمر الذي قتل وعبث في بلاد المسلمين3، وغير وبدل، ونكتفي بما وصفهم به صاحب كتاب "بريطانيا العظمى" وقد جاء فيه: إن جنودنا لم يكونوا يبالون بأرواح الناس ولا بأموالهم ولا يقيمون وزناً للكرامة   1 ديوان الزهاوي –طبع بيروت. 2 الزهاوي دراسات ونصوص –عبد الحميد رشود ص 310. 3 الزهاوي دراسات ونصوص –عبد الحميد رشود ص 310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 والشرف، وإن ما كانت تذكره البلاغات الرسمية عن قتل الثوار لم يكن في الواقع غير قتل الفلاحين المسلمين الذين كانوا يؤخذون من حقولهم وهم عزل فيقتلون.. "إن ما ارتكبه جنودنا من ظلم ووحشية وحرف وتقتيل لا نجد له مثالا في أي عصر أو مكان" اهـ1. هذا هو الاستعمار الإنجليزي وأدواته من الماسونيين الذين كانوا جسوراً عبرت عليها خطط الإنجليز للقضاء على المسلمين، وكان منهم زهاوي الذي أخلص لهم وعلق على صدره وسام خدمتهم، فتصدى لدعوة الإسلام التي قام بتجديدها أبناء العروبة في الجزيرة، وشن عليها حرباً شعواء، مما يدل على أنه كان مبغضاً للإسلام وأهله، محباً للكفر وأهله، متستراً بثياب الوطنية الزائفة التي يتبجح بها المنافقون في العصور الأخيرة. يقول محمد رشيد رضا: سمعت من كثير من الذين عرفوا الزهاوي في الأستانة أنه ملحد لا يدين بدين، وقد تهجم الزهاوي على الشريعة الإسلامية وطعن فيها ... ويقول الشيخ عبد الله ابن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله عن "التحليق": "وأما البحث عن حلق شعر الرأس، وأن بعض البوادي الذي دخلوا في ديننا قاتلوا   1 ومما يؤكد تحمس الإنجليز للقضاء على الدولة السعودية ودعوة التوحيد تلك الرسالة التي أرسلوها لتهنئة إبراهيم باشا من قبل الحكومة الإنجليزية بتدمير الدرعية. انظر: هو غارت: جولة في بلاد العرب ص 104-111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 من لم يحلق رأسه، وقتلوا بسبب الحلق خاصة، وإن من لم يحلق رأسه صار مرتداً، والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم، وليس عدم الحلق منها، بل ولم نقل أن الحلق مسنون، فضلاً عن أن يكون واجباً، فضلاً عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام. ونحن لم نأمر أحداً من الأمراء بقتال من لم يحلق رأسه، بل نأمرهم بقتال من أشرك بالله وأبى عن توحيد الله1. يقول الإمام عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وأما أهل هذه الدعوة الإسلامية التي أظهرها الله بنجد، وانتشرت واعترف بصحتها كثير من العلماء والعقلاء، وأدحض الله حجة من نازعهم بالشهادة، فهم بحمد الله، يدعون إلى ما بعث الله به رسله من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له"2. ويقول عبد الكريم بن فخر الدين الهندي رحمه الله وهو يرد على ابن دحلان: "وأما ما ورد في الخوارج: سمياهم التحليق، فلا ينطبق على ما ادعاه، فإن ترك الشعر واللحية سنة عند محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، فإن كان صحيحا يحمل أمره ذلك فيمن كان جديد الإسلام كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألق عنك شعر الكفر" 3. ويقول عبد الله القصيمي: "وهذا القول فاسد مردود، وبيان ذلك أن حجته في هذا القول، هي أن النجديين   1 انظر الدرر السنية ج 8 ص 204. 2 المصدر السابق ج9 ص 195. 3 انظر الحق المبين في الرد على الوهابية المبتدعين ص 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فيهم من يحلقون رؤسهم، وفاتهم أن معنى سيمى القول، أي علامتهم التي بها يتميزون عن غيرهم، وما به يعرفون ويختصون، وإذا كان الأمر مشتركاً بين الناس مشاعاً بين أصنافهم، فليس سيمى الطائفه ولا علاقة، وكذلك التحليق لا يمكن أن يكون سيمى لأحد اليوم، لأن التحليق أمر تفعله أمم كثيرة في أقطار كثيرة من الأقطار الإسلامية، فلا يمكن أن يكون سميى النجديين يقيناً"1.   1 انظر الصراع بين الإسلام والوثنية تأليف عبد الله بن علي الغصيمي ط (1) القاهرة 1402هـ ج1 ص443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الفصل الثالث: الفرية الثالثة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب تكفير الناس ... الفرية الثالثة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب تكفير الناس ومن الافتراء على هذه الدعوة السلفية أن محمداً بن عبد الوهاب وجماعته يكفرون أهل القبلة. ويستبيحون دماءهم وحل أموالهم لأنهم مشركون، وهذا ليس غريباً على هؤلاء المضللين عباد القبور. يقول عدو الدعوة السلفية ابن عفالق: "بل والله وكذب الرسل، وحكم عليهم وعلى أممهم بالشرك"1. ويقول: وهو يشير بأن الإمام محمد بن عبد الوهاب "حلف يميناً بالله فاجرة اليهود والمشركون أحسن حالاً من هذه الإمة"2. وقال ابن عابدين الشامي في حاشيته: "كما وقع في زماننا في أتباع عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد، وتغلبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم المسلمون، وأن من خالف اعتقادهم مشركين، استباحوا قتل أهل السنة وقتل علمائهم..الخ"3.   1 جواب ابن عفالق في رسالة ابن معمر ص 58. 2 انظر جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر ق 65. 3 انظر رد المختار ج3 ص 309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ويقول القباني: "كفر هذه الأمة بأسرها، وكفر كل من لم يقل بضلالتها وكفرها"1. ويقول قبحه الله بما قال: "وجاء كل واحد من الأنبياء والمرسلين مع الألوف من أمته، وجاء النبي الكريم وليس معه من أمته إلا النفر اليسير من أهل العيينة2، وأما الباقون فكلهم مخلدون في النار مع الكفار، مع ما لهم من كثرة الطاعات وأنواع العبادات"3. ويقول علوي الحداد: "إذا أراد الرجل أن يدخل في دينه، يقول له: أشهد على نفسك أنك كنت كافراً، واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين، واشهد على العالم الفلاني والفلاني أنهم كفار وهكذا، فإن شهد بذلك قبله، وإلا قتله4. ويقول ابن دحلان في كتاب المشؤوم وفتنة الوهابية: "وسعى بتكفير للأمة خاصها وعامها، وقاتلها على ذلك جملة إلا من وافقه على قوله. ويقول أيضاً: "وكانت شوكتهم وقوتهم في بلادهم أولا، ثم كثر شرهم وتزايد ضررهم واتسع ملكهم، وقتلوا من الخلائق ما لا يحصون واستباحوا أموالهم وسبوا نساءهم"5.   1 انظر فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب. 2 العيينة التي ولد بها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وحين كان فيها قبل أن يخرج منها. 3 انظر فصل الخطاب ص 104. 4 انظر مصباح الأنام ص 5. 5 انظر فتنة الوهابية ص 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ويقول الزهاوي العراقي: "لو سأل سائل عما تمذهبت به الوهابية، ما هو وعن غايته ما هي، فقلنا في جواب كلا السؤالين هو تكفير كافة المسلمين، لكان جوابا على اختصاره تعريقاً كافياً لمذهبها"1. وكثير من الأقوال الكاذبة على دعوة الإمام ابن عبد الوهاب في مسألة التكفير وغيرها، وحتى تكون الرؤية واضحة في مسألة التكفير وهي مسألة خطيرة، وخاصة أن أقوال هؤلاء المرتزقة الزنادقة مدونة منشورة، نسوق أقوال الإمام محمد بن عبد الوهاب وجماعة أهل التوحيد لتكون الصورة واضحة جلية، ويكشف زيغ هؤلاء وغيرهم من الذين ملأ قلوبهم الحق والحسد والكراهية لهذه الدعوة المباركة، وهذه الأدلة هي. بعث الإمام محمد بن عبد الوهاب رسالة إلى حمد التويجري يقول فيها: "وكذلك تمويه على الطغام بأن (ابن) عبد الوهاب يقول: الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله، فهذا المسلم في أي زمان وأي مكان، وإنما نكفر من أشرك بالله في ألوهيته بعدما تبين له الحجة على بطلان الشرك"2. ويقول -أيضاً- في رسائله: "وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر   1 انظر الفجر الصادق ص 19. 2 مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج5 ص 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذين يصدون به الناس عن دين الله ورسوله"1. وهذه رسالة بعثها إلى إسماعيل الجراعي من اليمن يقول فيها رحمه الله: "وأما القول بأننا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء والذين يصدون به عن هذا الدين، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم"2. وهذه رسالة بعثها رحمه الله لأحد العلماء في المدينة النبوية على ساكنها أشرف الصلوات والسلام يقول الإمام: "فإن قال قائلهم إنهم يكفرون بالعموم، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد"3. ويقول رحمه الله: "وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم على قبر عبد القادر، والصنم على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جلهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله أو لم يهاجر إلينا ولم يكفر..؟   1 انظر المصدر السابق ج 3 ص11. 2 مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج5 ص100. 3 المصدر السابق ج5 ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ..} 1 وهذا عالم من علماء العراق عبد الرحمن السويدي حين سمع من بعض أعداء الدعوة السلفية من سنة ورافضة الافتراء على الإمام بأنه يكفر الناس بعث رسالة يسأله عن تكفير الناس إلا من تبعه، فكان الجواب من الإمام هو صاعقة محرقة لأعداء الدعوة وأهل التكفير والزيغ والافتراء، فيقول رحمه الله: "وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، منها: إشاعة البهتان بما يستحى العاقل أن يحكيه، فضلاً عن أن يفتريه، ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من تبعني، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، ويا عجبا كيف يدخل هذا في عقل عاقل، هل يقول: هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون"2. ويوضح الشيخ عبد الله ابن الإمام محمد بن عبد الوهاب هذا البهتان والكذب، فيقول رحمه الله: "وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق، بأننا نكفر الناس على الإطلاق، أهل زماننا، ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن فيه، ومن فروع ذلك أن لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله ... فلا وجه لذلك، فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً، كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: "سبحانك هذا بهتان عظيم"، فمن روى عنا شيئاًَ من ذلك أو نسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا علم قطعياً أن جميع ذلك وضعه   1 انظر روضة الأفكار حسين بن غنام. 2 انظر مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج5 ص36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 علينا وافتراه أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس من الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك الذي نص عليه بأن الله لا يغفره، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فإنا نعتقد أن من فعل أنواعاً من الكبائر كقتل المسلم بغير حق، والزنا، والربا، وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك، أنه لا يخرج بفعله ذلك من دائرة الإسلام ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحداً بجميع أنواع العبادة"1. ويقول رحمه الله: "إن صاحب البردة2 وغيره ممن يوجد الشرك في كلامه والغلو في الدين، وماتوا لا يحكم بكفرهم، وإنما الواجب إنكار هذا الكلام، وبيان من اعتقد هذا على الظاهر فهو مشرك كافر، وأما القائل فيرد أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي التعرض للأموات، لأنه لا يعلم هل تاب أم لا"3. ويشير الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب وهو يرد على هذا الاتهام ويدافع عن جده الإمام محمد بن عبد الوهاب: "والشيخ محمد رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور، أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر مرتكبها"4.   1 انظر الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية –تأليف سليمان بن محمد بن سحمان ط (2) مطبع المنار- مصر 1344هـ ص40. 2 يقصد البوصيري صاحب القصيدة المشهورة البردة التي تحتوي على كثير من الشرك. 3 مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ج1 ص47. 4 انظر منهاج التأسيس ص 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ويقول رحمه الله: "فإنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أنداداً فيما يستحقه على خلقه من العبادات الإلهية"1. ويقول رحمه الله ويرد على داود بن جرجيس: "وأما القول بأنا نكفر الناس عموماً ونوجب الهجرة إلينا على قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل، ومثل هذا أضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، سبحانك هذا بهتان عظيم"2. الإمام رحمه الله كفر كل من اعتقد في مخلوق أو شجر أو حجر، وتجوه إليه بنوع العبادة، فهو كافر بلا شك. يقول رحمه الله: "إن الشيخ كان يكفر من أهل اليمامة هؤلاء الذين كانوا يعتقدون في النخلة القائمة عندهم أن لها قدرة عجيبة من قصدها من العرائس تزوجت لعامها. ويكفر هؤلاء الذين كانوا يعتقدون في الغار القائم في الدرعية، ويحجون إليه للتبرك كما يحج المسلمون للكعبة المكرمة.   1 انظر مجموعة الرسائل ج 3 ص5. 2 المصدر السابق ج3 ص 449. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ويكفر من أهل مصر هؤلاء الذين يعتقدون في شجرة الحنفي، ونعل الكلشني، وبوابة المتولي، ويكفر كل من اعتقد في شجر أو حجر، وتوجه إليه بنوع من أنواع العبادة. وأمثال هؤلاء الذين كفرهم الشيخ كفرهم القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ونقول: من ينكر أن هؤلاء بالتجائهم لغير الله تعالى خرجوا عن الإسلام؟ وانسلخوا من الدين باتباعهم الجبت والطاغوت وسؤالهما النفع والضر..؟ ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "وهي كلمة التوحيد، وحق الله على العبيد، فمن أشرك مخلوقاً فيها من ملك مقرب، أو نبي مرسل أو ولي، أو صحابي وغيره أو صاحب قبر أو جني أو غيره، أو استغاث به أو استعان به فيما لا يطلب إلا من الله، أو نذر له أو ذبح له، أو توكل عليه، أو رجاه، أو دعاه دعاء استغاثة أو استعانة، أو جعله واسطة بينه وبين الله لقضاء حاجته، أو لجلب نفع أو كشف ضر -فقد كفر كفر عباد الأصنام القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . ومنهم من يقول: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . كما ذكر الله عنهم في كتابه، وهم مخلدون في النار وإن صلوا وصاموا وعملوا بطاعة الله الليل والنهار، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} 1.   1 الشبهات التي أثيرت حول دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب للدكتور عبد الرحمن عميرة، بحوث أسبوع، الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج2 ص67-68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الفصل الرابع: الفرية الرابعة الإمام محمد بن عبد الوهاب وانتقاض الرسول صلى الله عليه وسلم ... الفرية الرابعة الإمام محمد بن عبد الوهاب وانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم أدعى عباد القبور وما أكثرهم بأن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأتباعه كانوا ينتقصون مقام الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصلون عليه، وبذلك وضعوا خنجراً مسموماً على صدر الأمة الإسلامية ليوغروا قلوب المسلمين، ويكرهوا هذه الدعوة، ومن أبزر العلماء: سليمان بن محمد بن سحيم1، قاضي "منفوحة"، كان أول من استجاب لهذه الدعوة الإسلامية المباركة، ولكن الحسد الشيطاني ساقة إلى عداوة الموحدين، فصار يكذب ويفتري على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، مما اضطر الشيخ إلى أن يقول له: "أنت رجل جاهل مشرك، مبغض لدين الله"2، فاستشاط سليمان غضباً، وأخذ يؤلب على الشيخ وعلى دعوته، وراسل علماء أهل البصرة والإحساء يحذرهم من الشيخ ودعوته ويكيل التهم والافتراءات.   1 هو سليمان بن أحمد بن سحيم العنزي، وهو خصم شديد للدعوة السلفية، وبذل وسائل عديدة في التشنيع بها وتحريض العلماء في الرد عليها، ولد سنة 1130هـ، توفي في الزبير سنة 1181هـ، انظر تحفة المستفيد ص 124. 2 روضة الأفهام ج1 ص138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وكمثال على ذلك، فقد قال في إحدى رسائله: "إن الشيخ ينتقص الرسول صلى الله عليه وسلم". وهذا نص الرسالة: من الفقير إلى الله تعالى سليمان بن محمد بن سحيم، إلى من يصل إليه من علماء المسلمين، وخدام شريعة سيد ولد آدم من الأولين والآخيرن. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد: فالذي يحيط به علمكم أنه قد خرج في قطرنا رجل مبتدع جاهل، مضل ضال، من بضاعة العلم والتقوى عاطل، جرت من أمور فظيعة، وأحوال شنيعة، منها: شيء شاع وذاع، وملأ الأسماع، وشيء لم يتعد أماكننا بعد، فأحببنا نشر ذلك لعلماء المسلمين، وورثة سيد المرسلين، ليصيدوا هذا المبتدع صيد أحرار الصقور لصغار بغاث الطيور، ويردوا بدعه وضلالاته وجهله وهفواته. والقصد من ذلك: القيام لله ورسوله، ونصرة الدين، جعلنا الله وإياكم من الذين يتعاونون على البر والتقوى. فمن بدعه وضلالته أنه عمد إلى شهداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكائنين في الجبيلة: زيد بن الخطاب وأصحابه، وهدم قبورهم وبعثرها لأجل أنهم في حجارة ولا يقدرون أن يحفروا لهم، فطووا على أضرحتهم قدر ذراع ليمنعوا الرائحة والسباع، والدافن لهم خالد، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعمد -أيضاً- إلى المسجد في ذلك المكان وهدمه، وليس داع شرعي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ذلك إلا اتباع الهوى. ومنها: أنه أحرق "دلائل الخيرات"1 لأجل قول صاحبها: سيدنا ومولانا، وحرق أيضاً "روض الرياحين"2، وقال: هذا روض الشياطين. ومنها: أنه صح عنه أنه يقول: لو أقدر على حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم هدمتها، ولو أقدر على البيت الشريف أخذت ميزابه، وجعلت بدله ميزاب خشب. أما سمع قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج) . ومنها: أنه ثبت أن يقول: "الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وتصديق ذلك أنه بعث إلي كتابا يقول فيه: "أقروا أنكم قبلي جهال ضلال". ومن أعظمهما: أن من لم يوافقه في كل ما قال ويشهد أن ذلك حق يقطع بكفره، ومن وافقه وصدقه في كل ما قال، قال: أنت موحد، ولو كان فاسقاً محضاً أو مكاسا، وبهذا ظهر أنه يدعو إلى توحيد نفسه لا إلى توحيد الله. ومنها: أنه بعث إلى بلداننا كتاباً مع بعض دعاته بخط يده، وحلف فيه بالله: أن علمه هذا لم يعرفه مشايخه الذين ينتسب إلى أخذ العلم منهم -في زعمه، وإلا فليس له مشايخ-، ولا عرفه أبوه، ولا أهل "العارض". فيا عجبا إذا لم يتعلمه من المشائخ ولا عرفه أبوه، ولا أهل قطره، فمن أين علمه..؟ وعن من أخذه.؟   1 دلائل الخيرات: كتاب ألفه محمد بن سليمان المغربي الشاذلي طريقة، ت (854) هـ. 2 روض الرياحين- كتاب ألفه عبد الله بن أسعد بن سليمان اليافعي، ت (768) هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 هل أوحي إليه..؟ أو رآه مناماً..؟ أو أعلمه به الشيطان..؟ وحلفه هذا أشرف عليه جميع أهل العارض. ومنها: أنه يقطع بتكفير ابن الفارض وابن عربي. ومنها: أنه قاطع بكفر سادة عندنا من آل الرسول، لأجل أنهم يأخذون النذور، ومن لم يشهد بكفرهم فهو كافر. ومنها: أنه ثبت عنه لما قيل له: اختلاف الأئمة رحمة، قال: اختلافهم نقمة. ومنها: أنه يقطع بفساد الوقف، ويكذب المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم وقفوا. ومنها: إبطال الحج. ومنها: أنه قال: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وليلتها هي بدعة وضلالة، تهوي بصاحبها إلى النار. ومنها: أنه يقول: "الذي يأخذه القضاء قديماً وحديثاً -إذا قضوا بالحق بين الخصمين، ولم يكن بيت مال لهم ولا نفقة –إن ذلك رشوة- هذا القول بخلاف النصوص عند جميع الأمة: أن الرشوة ما أخذ لإبطال حق أو لإحقاق باطل، وأن للقاضي أن يقول للخصمين: لا أقضي بينكم إلا بجعل. ومنها: أنه يقطع بكفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الذي يذبح الذبيحة ويسمي عليها ويجعلها لله تعالى. ويدخل مع ذلك دفن شر الجن، ويقول: ذلك كفر. واللحم حرام، فالذي ذكره العلماء بذلك أنه منهي عنه فقط، وذكره في حاشية (المنتهى) 1. ولو تأملنا هذه الرسالة لوجدناها ألمت بأكثر التشنيعات التي أثارها خصوم الدعوة الإسلامية في مراحلها اللاحقة ... فلما علم الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالرسالة التي بعث بها سليمان محرضاً على الدعوة وأهلها، رد عليه برسالة بعثها إليه يقول له فيها: من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن سحيم"، وبعد: ألفينا مكتوبك وما ذكرت وما بلغك، ولا يخفاك أن المسائل التي ذكرت أنها بلغتكم في كتاب العارض جملتها أربعة وعشرون مسألة بعضها حق. وبعضها بهتان وكذب. وقبل الكلام فيها. لا بد من تقديم أصل، وذلك أن أهل العلم إذا اختلفوا، والجهال إذا تنازعوا ومثلي ومثلكم إذا اختلفنا في مسألة -هي الواجب اتباع أمر الله ورسوله وأهل العلم؟ أو الواجب اتباع عادة الزمان التي أدركنا الناس عليها، ولو خالفت ما ذكره العلماء في جميع كتبهم.. وإنما ذكرت هذا -ولو كان واضحاً- لأن بعض المسائل التي ذكرت أنا قلتها لكن هي موافقة لما ذكره العلماء في كتبهم: الحنابلة وغيرهم. ولكن هي مخالفة لعادة الناس التي نشأوا عليها، فأنكرها علي من أنكرها   1 انظر روضة الأفكار ص 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 لأجل مخالفة العادة، وإلا فقد رأوا تلك في كتبهم عياناً، وأقروا بها وشهدوا أن كلامي هو الحق لكن أصابهم ما أصاب الذين قال الله فيهم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة: 89) . وهذا هو ما نحن فيه بعينه، فإن الذي راسلكم هو عدو الله ابن سحيم، وقد بينت ذلك له فأقر به، وعندنا كتب يده في رسائل متعددة أن هذا هو الحق، وأقام على ذلك سنين، لكن أنكر آخر الأمر لأسباب أعظمها البغي: {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (البقرة: 90) . وذلك أن العامة قالوا له ولأمثاله: إذا كان هذا هو الحق، فلأي شيء لم تنهونا عن عبادة "شمسان" وأمثاله، فتعذروا: "أنكم ما سألتمونا..؟ " قالوا: "وإن لم نسألكم كيف نشرك بالله عندكم ولا تنصحونا، وظنوا أن يأتيهم في هذا غضاضة، وأن شرفاً لغيره. وأيضاً: لما أنكرنا عليهم أكل السحت والرشا إلى غير ذلك من الأمور، فقام يدخل عندكم وعند غيركم بالبهتان. والله ناصر دينه ولو كره المشركون. وأنت لا تستهون مخالفة العادة على العلماء فضلا عن العوام، وأنا أضرب لك مثلا بمسألة واحدة وهي مسئلة الاستجمار ثلاثاً فصاعدا من غير عظم ولا روث، وهو كاف مع وجود الماء عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو إجماع الأمة ولا خلاف في ذلك -ومع هذا- لو يفعله أحد- لصار هذا عند الناس أمراً عظيماً ولنهوا عن الصلاة خلفه، ويدعوه مع إقرارهم بذلك ولكن لأجل العادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها –منها ما هو من البهتان الظاهر وهي قوله: إني مبطل كتب المذاهب، وقوله: إني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. وقوله: إني أدعى الاجتهاد. وقوله: إني خارج عن التقليد. وقوله إني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة. وقوله: إني أكفر من توسل بالصالحين. وقوله: إني أكفر البوصيري، لقوله يا أكرم الخلق. وقوله: إني أقول لو: أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب. وقوله: إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وإني أكفر من يحلف بغير الله. فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) . ولكن قبله من بهت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم، ويسب الصالحين {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} (البقرة) . وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة، وعيسى، وعزيراً في النار، فأنزل الله في ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء:101) . وأما المسائل الأخرى وهي أني أقول: لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى "لا إله إلا الله". ومنها: أني أعرف من يأتيني بمعناها. ومنها: أني أقول: الإله هو الذي فيه السر. ومنها: تكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله وأخذ النذر كذلك. ومنها: أن الذبح للجن كفر، والذبيحة حرام ولو سمى الله عليها إذا ذبحها للجن. فهذه خمس مسائل كلها حق وأنا قائلها. ونبدأ بالكلام عليها لأنها أم المسائل، وقبل ذلك أذكر معنى "لا إله إلا الله" فنقول: التوحيد نوعان: توحيد الربوبية: وهو أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لابد منه، لكن لا يدخل الرجل في الإسلام لأن أكثر الناس مقرون به. قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى قوله {أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس:31) . وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية، وهو: أن لا يعبد إلا الله لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وأهل الجاهلية يعبدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 أشياء مع الله، فمنهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة فنهاهم عن هذا، وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد ولا يدعى أحد من دونه لا الملائكة ولا الأنبياء، فمن تبعه ووحد الله فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة واستنصرهم، والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إله إلا الله مع إقراره أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله، وهذه جملة لها بسط طويل، ولكن الحاصل أن هذا مجمع عليه بين العلماء. ..وما جرى في هذه الأمة ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". وكان من قلبهم كما ذكر الله عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) . فصار ناس من الضالين يدعون أناساً من الصالحين في الشدة والرخاء، مثل: عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، فأنكر عليهم أهل العلم غاية الإنكار، وزجروهم عن ذلك، وحذروهم غاية التحذير والإنذار- من جميع المذاهب في سائر الأقطار والأمصار فلم يحصل منهم انزجار؛ بل استمروا على ذلك غاية الاستمرار. وأما الصالحون الذين يكرهون ذلك فحاشاهم من ذلك. وبين أهل العلم أن أمثال هذا هو الشرك الأكبر، وأنت ذكرت في كتابك تقول: يا أخي مالنا والله دليل إلا من كلام أهل العلم. وأنا أقول: كلام أهل العلم رضي، وأنا أنقله لك، وأنبهك عليه، فتفكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فيه وقم لله ساعة ناظراً ومناظراً مع نفسك ومع غيرك، فإن عرفت أن الصواب معي، وأن دين الإسلام اليوم من أغرب الأشياء -أعني دين الإسلام الصرف الذي لا يمزج بالشرك والبدع. ثم يقول: قال الشيخ تقي الدين: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر، ومن أهل العبادة حتى قلبوا حقيقته، فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات، وطائفة ظنوا أنه الإقرار بتوحيد الربوبية، ومنهم من أطال في تقرير هذا الموضع وظن أنه بذلك قرر الوحدانية، وأن الألوهية هي القدرة على الاختراع ونحو ذلك، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد. قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (المؤمنون) . وهذا حق لكن لا يخلص به عن الإشراك بالله الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص الدين لله فلا يعبد إلا الله فيكون دينه لله والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب، وأطال رحمه الله الكلام. وقال -أيضاً- في الرسالة "السنية" التي أرسلها إلى طائفة من أهل العبادة ينتسبون إلى بعض الصالحين، ويغلون فيهم، فذكر حديث الخوارج ثم قال: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين ممن ينتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة -فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام قد يمرق من الدين وذلك بأمور: منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى، مثل: الغلو في عدي بن مسافر أو غيره، بل: الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه فكل من غلا في نبي أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 صحابي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الألوهية مثل أن يقول يا سيدي فلان أغثني أو أنا في حسبك ونحو هذا فهذا كافر يستتاب، فإن تاب وإلاقتل فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد، ولا يدعى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل: الشمس والقمر والصالحين، والتماثيل المصورة على صورهم -لم يكونوا يعتقدون أنها تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين ويقولون: "هؤلاء شفعاؤنا عند الله". فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. وقال –أيضاً- في أثناء الباب: ومن اعتقد أن لأحد طريقاً إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أولا يجب عليه اتباعه، أو أن لغيره خروجاً عن اتباعه، أو قال: "أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة أو قال: إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى -كفر في هذا كله". وقال –أيضاً- في الباب: ومن سب الصحابة، واقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي أو أن جبريل غلط -فلا شك في كفر من توقف في تكفيره. فتأمل إذا كان كلامه هذا في "علي". فكيف بمن ادعى أن "ابن عربي أو عبد القادر" إلهان؟ وتأمل كلام الشيخ في معنى الإله الذي تألهه القلوب، واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الأولياء والصالحين في الرخاء والشدة، ويطلبون منهم تفريج الكربات وقضاء الحاجات، (والكفار زمن النبي) مع كونهم يدعون الملائكة والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب بهم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله فهم لا يدعونهم إلا في الرخاء فإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا لله. {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} (الإسراء: 67) وقال أيضاً في "الإقناع": ويحرم تعلم السحر، وتعليمه وفعله، وهو عقد، ورقي، وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله، ومنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ومنه ما يبعض أحدهما للآخر ويحبب بين اثنين، ويكفر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته. وأما (الحنفية) فقال الشيخ قاسم في شرح "درر البحار": النذر الذي يقع من أكثر العوام، وهو أن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك كذا وكذا باطل اجماعأً لوجوه: منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز. ومنها: ظن أن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر.. إلى أن قال: إذا عرف هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها وينقل إلى ضرائح الأولياء -فحرام بإجماع المسلمين، وقد ابتلي الناس بهذا لا سيما في مولد أحمد البدوي. فتأمل قول صاحب النهر مع أنه في مصر مقر العلماء كيف شاع بين أهل مصر ما لا قدرة للعلماء على دفعه!! فتأمل قوله (من أكثر العوام) ، أتظن أن الزمان صلح بعده..؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وأما (المالكية) ، فقال الطرطوشي في كتاب "الحوادث والبدع": روى البخاري عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي حنين ونحن حديث عهد بالكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها "ذات أنواط" فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا "ذات أنواط" كما لهم "ذات أنواط" فقال: "الله أكبر ... لتركبن سنن من كان قبلكم". فانظر -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة يقصدها الناس، وينوطون بها الخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها. وقال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ". ومعنى هذا أن الله لما جاء بالإسلام فكان الرجل ... إذا أسلم في قبيلته كان غريباً مستخفياً بإسلامه، قد جفته العشيرة فهو بينهم ذليل خائف، ثم يعود غريباً لكثرة الأهواء المضلة والمذاهب المختلفة حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس لقلتهم وخوفهم على أنفسهم. وروى البخاري عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: "والله ما أعرف من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعاً". وذلك أنه أنكر أكثر أفعال أهل عصره. انتهى كلام الطرطوشي. فليتأمل اللبيب هذه الأحاديث، وفي أي زمان قيلت، وفي أي مكان، وهل أنكرها أحد من أهل العلم؟ والفوائد فيها كثيرة، ولكن مرادي منها ما وقع من الصحابة، وقول الصادق المصدوق، إنه مثل كلام الذين اختارهم الله على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 العالمين لنبيهم: اجعل لنا إلهاً: يا عجباً إذا جرى هذا من أولئك السادة كيف ينكر علينا أن رجلا من المتأخرين غلط في قوله يا أكرم الخلق، كيف تعجبون من كلامي فيه وتظنونه خيراً وأعلم منهم. ولكن هذه الأمور لا علم لكم بها، وتظنون أن من وصف شركاً أو كفراً أنه الكفر الأكبر المخرج عن الملة، ولكن أين كلامك هذا من كتابك الذي أرسلت إلي قبل أن يغريك الله بصاحب الشام، وتذكر وتشهد أن هذا هو الحق وتعتذر أنك لا تقدر على الإنكار..؟ ومرادي أن أبين لك كلام الطرطوشي وما وقع في زمانه من الشرك بالشجر، مع كونه في زمن القاضي "أبي يعلي" أتظن الزمان صلح بعده..؟.. وأما كلام (الشافعية) فقال الإمام محدث الشام أبو شامة في كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، وقد وقع من جماعة من النابذين لشريعة الإسلام المنتمين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، ومن اعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين فهم داخلون تحت قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) . وبهذه الطرق وأمثالها كان بدادية ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا القسم ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وإسراج مواضع في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح فيفعلون ذلك، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله، ثم يجاوزون ذلك إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجوا الشفاعة لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي بين عيون وشجر وحائط وحجر، وفي "دمشق" -صانها الله- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى، والشجرة الملعونة خارج باب النصر سهل الله قطعها فما أشبهها بذات أنواط، ... ثم ذكر كلاماً طويلا إلى أن قال: "أسال الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه ولا يجعلنا ممن أضله فاتخذ إلهه هواه". فتأمل ذكره في النوع أنه نبذ لشريعة الإسلام، وأنه خروج عن الإيمان، ثم ذكر أنه عم الابتلاء به في الشام. فأنت قل لصاحبكم: هؤلاء العلماء من الأئمة الأربعة ذكروا أن الشرك عم الابتلاء به وغيره، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، وذكروا أن الدين عاد غريباً، فهو أمام اثنتين: إما أن يقول: كل هؤلاء العلماء جاهلون ضالون مضلون خارجون. وإما أن يدعي: أن زمانه وزمان مشايخه صلح بعد ذلك ... إذا تقرر هذا فخمس المسائل التي قدمت جوابها في كلام العلماء، وأضيف إليها مسألة سادسة، وهى: إفتائي بكفر شمسان وأولاده ومن شابههم، وسميتهم طواغيت، وذلك أنهم يدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله عبادة أعظم من عبادة اللات والعزى يعبدونها في الرخاء، ويخلصون لله في الشدة وعبادة هؤلاء أعظم من عبادتهم إياه في شدائد البر والبحر، فإن كان الله أوقع في قلبك معرفة الحق والانقياد له والكفر بالطاغوت والتبري ممن خالف هذه الأصول ولو كان أباك أو أخاك -فاكتب لي وبشرني لأن هذا ليس مثل الخطأ في الفروع، بل ليس الجهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 بهذا -فضلا عن إنكاره- مثل الزنا والسرقة، بل والله، ثم والله، إن الأمر أعظم.. وإن وقع في قلبك إشكال فاطلب إلى مقلب القلوب أن يهديك لدينه ودين نبيه. وأما بقيه المسائل: فالجواب عنها ممكن إذا خلصنا من شهادة لا إله إلا الله وبيننا وبينكم كلام أهل العلم، لكن العجب من قولك: أنا هادم قبور الصحابة. وعبارة "الإقناع" في الجنائز: يجب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول. والنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه بعث علياً لهدم القبور"1. وهكذا أجاب الإمام وأقام الحجة على ما كان عليه السلف الصالح والأئمة المهتدون، ومن الهدى ودين الحق، مناراً يضيء طريق الحيارى العابثين، والمخالفين الناقصين، الذين انقلبت لديهم الحقائق والتبست عليهم المعارف بالشقاق والتشكيك: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} (الكهف: 17) . ويقول علوي الحداد: "الأفاك: كان ينقص النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً بعبارات مختلفة، منها قوله: "إنه طارش بمعنى أن غاية أمره أنه كالطارش الذي يرسل إلى أناس في أمر فيبلغهم ثم ينصرف، وكان بعضهم يقول عصايا خير من محمد، لأنها ينتفع بها بقتل الحية ونحوها، ومحمد قد مات، ولم يبق فيه نفع أصلاً، وإنما هو الطارش ومضى، وبهذا يكفر عند المذاهب الأربعة، ومن ذلك أنه كان يكره الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتأذى من سماعها، وينهى عن الجهر بها على المنابر، ويؤذي من   1 انظر روضة الأفكار ص 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 يفعله، ومنع من الإتيان بها على المنابر ليلة الجمعة، ولذلك أحرق دلائل الخيرات، وغيره من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتستر بدعوى أن ذلك بدعة". ويقول ابن دحلان، الأفاك الأثيم، وهو يكذب على الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وكانوا -أي محمد بن عبد الوهاب وأشياعه" يمنعون من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على المنابر بعد الأذان، حتى أن رجلاً صالحاً كان أعمى وكان مؤذناً وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان بعد أن كان المنع، فأتوا به إلى ابن عبد الوهاب فأمر به أن يقتل، فقتل1. أرأيتم يا معشر المسلمين هذا المجرم لا يكتفي بالكذب بل يفتري على الدعوة المباركة. ونسوق الأدلة من أئمة الدعوة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم التي تبين وتفضح هؤلاء الأفاكين الذين زوروا وكذبوا: يقول الشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب في الرد على ذلك: "جوابنا في كل مسألة من ذلك" ..... {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا وحضر مجالسنا وتحقق ما عندنا، علم قطعياً أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنوع الشرك الذي نص عليه بأن الله لا يغفره، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.   1 انظر فتنة الوهابية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ثم يقول: "والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء، للنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه وتسن زيارته، إلا أنه لا يشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس. ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه الصلاة والسلام الواردة عنه، فقد فاز بسعادة الدارين، وكفى همه وغمه كما جاء في الحديث عنه"1. ويقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم: "ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع". ويقول عليه الرحمة والسلوان: "فرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه"2. ويقول رحمه الله: "الأمر بطاعته "سبحانه" وطاعة رسوله، وأن الهدى في طاعته، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} .   1 انظر الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية ص 41. 2 مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج1 ص190، ج5 ص113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله: "وقد قرر (محمد بن عبد الوهاب) رحمه الله على شهادة أن محمداً رسول الله من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصر والمتابعة والطاعة، وتقديم سنته صلى الله عليه وسلم على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث ما وقفت، والانتهاء حيث انتهت في أصول الدين وفروعه، وباطنه وظاهره، كليه وجزئيه، ما ظهر به فضله وتأكد علمه ونبله"1. ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (رحمهم الله) : "وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد كائنا من كان، بل نتلقاها بالقبول والتسليم، لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدورنا أجل وأعظم من أن نقدم عيلها قول أحد"2. ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، حيث دخل في سنة 1218هـ: وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً علىالخلق بأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبرة، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه:   1 منهاج التأسيس ص 41، وانظر الدرر السنية وفتاوى علماء نجد ج1 ص264. 2 انظر الدرر السنية ج1 ص289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، مع كون الآية مدنية ... وأننا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فلا وجه لذلك، فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولا كان جوابنا في كل مسألة من ذلك" سبحانك هذا بهتان عظيك"، فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى. ومن شاهد حالنا وحضر مجالسنا وتحقق معنا علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه وافتراه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك. والذي نعتقده أن مرتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم علي وتسن زيارته.. فلا بأس، ومن أنفق أوقاته بالاستغال بالصلاة عليه عليه الصلاة والسلام الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين، وكفر همه وغمه كما جاء الحديث عنه"1. ويقول الشيخ سلمان بن سحمان رحمه الله: "وأما قوله: ولا يتحاشون من الطعن بالرسول عليه الصلاة والسلام بكل بذاءة". فالجواب: أن نقول: "سبحانك هذا بهتان عظيم"، ومن افترى علينا هذا ونسبه إلينا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجميعن، لا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً وفضحه على رؤس الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار"2.   1 انظر الدرر السنية ج1 ص127-128. 2 انظر كشف غياهب الظلام في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ج4 ص833. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ويقول الشيخ فوزان السابق رحمه الله وهو يرد على مختار بن الحاج المؤيد، الذي ألف رسالة فيها الإلحاد وسماها "جلاء الأوهام على مذاهب الأئمة العظام": " قال الملحد: واعلم يا أخي أن للوهابين وإخوانهم أعداء الله ورسوله مطاعن كثيرة بالرسول صلى الله عليه وسلم كلها من المكفرات، وإن كانت بحد ذاتها من المضحكات، تجل عقول الصبيان عن التمسك بها". ويقول: "أقول على زعم هذا المفتري بأننا أعداء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، سبحانك هذا بهتان عظيم ... فزعم أننا أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم بغير برهان من الله تعالى، وما حمله على ما رمانا به من الافتراء علينا إلا أننا قد جردنا أتباعنا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحققنا ما جاء بهما قولاً وعملاً، مقتفين أثر السلف الصالح"1. ومختار بن الحاج أحمد باشا المؤيد العظمى -هذا- الذي ألف كتاباً أسماه "جلاء الأوهام عن مذاهب الأئمة العظام، وهذه الرسالة فيها من الزيغ والتخبط الفكري الشيء الكثير، حيث يقول فيها: إن أحكام الدين لا يمكن أخذها من الكتاب والسنة، لأن فيها الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد ... هذه العبارة التي كتبها لم يجرؤ أحد من المنصرين والمستشرقين واليهود وغيرهم من أعداء الإسلام إلى الآن على التصريح بها، ويقول مثل قوله: وزاد الطين بلة حينما قال أيضاً: وأن كتب الحديث لا يوجد فيها بيان ولا إشارة تهدى إلى   1 انظر البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار تأليف فوزان السابق الفوزان ط 1 1372هـ ص292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الصواب، وأن من رجح حكماً على حكم مستنداً فيه إلىكتب الحديث فإن ذلك لا يفيد اليقين، بل يعد الأخذ به زندقة لا إسلامية.."، وهذا يعني إلغاء السنة النبوية بأكملها، لأنها كما يزعم ليس فيها بيان يهدي إلى الرشد، هذا الشيخ الهمام نفسه يتطاول على أهل التوحيد. ونراه في مكان آخر يخفف من غلوائه ويريد أن يتلطف شيئاً ما، فيقول: نحن وأنتم متفقون بالشهادتين مقرون بالأركان لا نختلف بأصول الإيمان، ولا ننكر أركان الإسلام، غير أننا نقول بالمحكم ونرجع إليه، وأنتم بالمتشابه وتعولون عليه، نحن نحتاط بما لا نرتاب وأنتم لا تتحرجون مما يريب، نحن نعتمد الإجماع وأنتم تترخصون بالإنفراد والتأويل بالرأي ... وهكذا تبدو المراوغة والمخادعة التي يضحك بها على الكثيرين. وتراه في موضع آخر من كتابه يقول: إني أراكم تدعون الناس لبدعة الاجتهاد في الدين وغيرها من البدع1. وإذا أردت الاطلاع على المزيد من هذا الهراء فيمكنك مراجعة كتاب البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج المختار2.. وصدق الشيخ سليمان بن سحمان في رده على هذا الملحد داحضاً افتراءاته الكاذبة: فليس اتباع المصطفى يا ذوي الردى ... يكون معاداة وبغضاً لذي المجد   1 جلاء الأوهام عن مذاهب الأئمة العظماء: تأليف مختار بن أحمد باشا المؤيد العظمى ط1، مطبعة الضيماء –دمشق سوريا- 1330هـ. 2 كتاب البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار: تأليف فوزان السابق، سنة الطبع 1372هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ولكنه عين الكمال لأنه ... على وقف ما قد قال في كل ما يردي وتعظيم أمر المصطفى باتباعه ... وترك الذي يأباه من كل ما يبدي فيأتي الذي يرضاه من كل مطلب ... ويجتنب النهي الذي كان لا يجدي1 ولو ذهبنا نستقصي المجافين لهذه الدعوة المباركة وفحص اختلافاتهم2 وأكاذيبهم وافتراءاتهم، وما نسبوه إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ورجال الدعوة من زور وإشاعات باطلة لطال بنا المقام، علماً بأن أيادي المبشرين كانت تروج مثل هذه الأفكار بين المسلمين.   1 ديوان ابن سحمان ص 53. 2 بسبب هذه الدعايات والإشاعات اتخذ بعض العلماء مواقف غير طيبة من الدعوة منهم: ابن عابدين الشامي (سنة 1258هـ/1842م) في حاشيته المشهورة (رد المختار 3: 309) ، يقول: اعتقدوا أنهم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركين، استباحوا قتل أهل السنة وقتل علمائهم". ومنه الشيخ أنور شاه كشميري (م، 1352هـ/ 1933م) يقول في: فيض الباري 1 ص171 "أما محمد بن عبد الوهاب النجدي، فإنه كان رجلاً بليداً قليل العلم، فكان يتسارع إلى الحكم بالكفر". حسبنا الله ونعم والوكيل، وإلى الله المشتكى، فكم ظلموا الشيخ!!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الفصل الخامس: الفرية الخامسة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب منع الإستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم ... الفرية الخامسة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب منع الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم افترى أهل الباطل على الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من الموحدين بأن الإمام ينكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهؤلاء القوم ينطبق عليهم القول المأثور "إذا لم تستح فاصنع ما شئت". فإنكار شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هو الكفر والعياذ بالله، وحاشا لله أن ينكر هذا الإمام العظيم هذا الأمر. فهذه كتبه ورسائله وكتب أحفاده وتلاميذه إلى يومنا الحاضر لم ينكروا شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. يقول الطباطبائي: "قالت الوهابية: إن الشفاعة والأولياء منقطعة في الدنيا، وإنما هي ثابتة لهم في الآخرة، فلو جعل العبد بينه وبين الله وسائط من عباده يسألهم الشفاعة، كان ذلك شرك وعبادة لغير الله، فاللازم أن يوجه العبد دعاءه إلى ربه، ويقول: "اللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم"، ولا يجوز له أن يقول: "يا محمد اشفع لي عند الله"1.   1 انظر البراهين الجلية ص 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ويقول الرافضي العاملي المجرم الأثيم: "أما قولهم فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله، فإذا كانت حقاً فما المانع من طلبها؟ أفيجعل الله طلب الحق باطلاً وشركاً؟ تعالى الله عن ذلك فطلب الحق لا يكون إلا حقاً وطلب الباطل لا يكون إلا باطلاً، والتقيد بقولهم في دار الدنيا دال على جواز طلبها في الآخرة، كما يدل عليه حديث تشفع الناس بالأنبياء، واعتذار كل منهم ثم تشفعهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ... وهل منع الناس من الشرك في الدنيا، وأبيح لهم الشرك في الآخرة"1. ويقول القباني، بكل وقاحة وسوء أدب، وهو يخاطب الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "أما أنهم كفروا بمجرد قولهم يا رسول الله اشفع لي، أو أغثني، وأنها مساواة لقول المشرك واعتقاده أن المسيح هو الله، ولعبادة تمثاله من السجود والذبح كما ادعيت ذلك، وجزت به، فما أقمت على ذلك الدليل والبرهان يا طويل الآذان"2. ويقول ابن داوود وهو يرد على الإمام محمد بن عبد الوهاب ويسميه الزنديق الحجازي، وقول الزنديق الحجازي: "إن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن طلبها منه كما قال: "وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً" غلط، فإن الدعاء المنهي عنه هنا بمعنى العبادة، وطالب الشفاعة لا يعبد الشفيع بل يطلب منه أن يشفعه عند   1 انظر كشف الارتياب للعاملي ص 260. 2 انظر فصل الخطاب ص 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الله، كما أن يوسف بدعائه لأحد صاحبي السجن لم يكن عابداً له ولا كافراً، وقوله [أي محمد بن عبد الوهاب] : فإن الشفاعة التي أعطاها غير النبي، فصح أن الملائكة يشفعون والأولياء يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة، فاطلبها منهم، فإن قلت هذا، فقد عبدتم، غلط أيضاً، لما قلنا من أن طلب الشفاعة ممن أعطيها سواء كان نبياً أو كان ولياً أو وصياً أو ملكاً، أو مؤمناً ليس عبادة له، فيصح لنا أن نطلب الشفاعة من الأوصياء ... والأولياء والملائكة، والصلحاء، وليس في ذلك شرك1.   1 انظر إزهاق الباطل ص 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أقوال أئمة التوحيد بالشفاعة، والرد على الخصوم رد أئمة التوحيد على الخصوم الذين يقولون بأن الوهابية وعلى رأسهم الإمام محمد بن عبد الوهاب ينكرون الشفاعة، وأوردوا البراهين عليهم. يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: "فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منها؟ فقال: لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر: 44) ، ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) ، ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران: 85) . فإن كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيها، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، تبين لك أن الشفاعة كلها فأطلبها منه. وقل: "اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه في وأمثال هذا". فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله. الجواب: أن أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا فقال: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 (الجن: 18) . فإن كنت تدعو الله أن يشفع نبيه فيك، فأطعه في قوله: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، وأيضاً فإن الشفاغعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون، والصالحين يشفعون، أتقول أن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم، فإن قلت هذا، رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت: لا، بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه1. ثم يرد على الخصوم الذين افتروا على الدعوة بإنكار شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود، نسأل الله رب العرش العظيم أن يشفعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه. هذا اعتقادنا وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح، وهم أحب الناس لنبيهم، وأعظمهم في اتباع شرعه"2. ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: "ونثبت الشفاعة لنبينا محمد يوم القيامة حسب ما ورد، وكذا نثبتها لسائر الأنبياء والملائكة، والأولياء والأطفال حسب ما ورد أيضاً، ونسألها من المالك لها، والإذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، بأن يقول أحد متضرعاً إلى الله تعالى: "اللهم شفع نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو   1 مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج1 ص165-166. 2 نفس المرجع ج5 ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال يا رسول الله، أو يا ولي الله، أسألك الشفاعة، أو غيرها، كأدركني، أو أغثني، أو انصرني على عدوي، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى"1. ويقول "رحمه الله": "وجملة القول أن طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم في حياته ثابت بلا شك، وكذلك طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهذا لا ينكره أحد"2. وسؤل شيخنا ووالدنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي الديار السعودية: هل الوهابية ينكرون شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب: لا يخفى على كل عاقل درس سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه أنهم برآء من هذا القول، لأن الإمام رحمه الله قد أثبت في مؤلفاته، ولا سيما في كتابه "التوحيد" و"كشف الشبهات" شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة، ومن هنا يعلم أن الشيخ رحمه الله وأتباعه لا ينكرون شفاعته عليه الصلاة والسلام. وشفاعة غيره من الأنبياء والملائكة والمؤمنين، بل يثبتونها كما أثبتها الله ورسوله، ودرج على ذلك سلفنا الصالح عملاً بالأدلة من الكتاب، وبهذا يتضح أن ما نقل عن   1 الهدية السنية ص 42. 2 صيانة الإنسان في وسوسة دحلان ص363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الشيخ وأتباعه من إنكار شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من أبطل الباطل، ومن الصد عن سبيل الله، والكذب على الدعاة إليه، وإنما أنكر الشيخ رحمه الله وأتباعه طلبها من الأموات ونحوهم"1. هذه عقيدة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من الموحدين في الشفاعة، وأنها لا تطلب من الأموات والأولياء والمشعوذين والدجالين، فالشفاعة كلها لله وحده: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} . وأن الأنبياء والصالحين لا يشفعون إلا بإذن الله. قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . أما أن يقول القائل: "اللهم إني أسألك بجاه محمد أو بحقه، أو حرمته، فهذا القول بدعة محرمة لا يجوز".   1 مجلة البحوث العلمية -العدد (9) ص 323- تصدر عن دار الإفتاء والدعوة والإرشاد –الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الفصل السادس: الفرية السادسة الإمام محمد بن عبد الوهاب هدم القباب على القبور ونهى عن شد الرحال لزيارتها ... الفرية السادسة الإمام محمد بن عبد الوهاب هدم القباب على القبور ونهى عن شد الرحال لزيارتها اعترض أعداء الدعوة السلفية بأن الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يهدمون الأبينة على القبور، ويمنعون شد الرحال لزيارة القبور وخاصة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام. يقول سليمان بن سحيم: فمن بدعه وضلالاته أنه عمد إلى شهداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكائنين في الجبيلة، زيد بن الخطاب والصحابة، وهدم قبورهم وبعثرها، لأجل أنهم في حجارة، ولا يقدرون أن يحفروا لهم، فطووا على أضرحتهم قدر ذراع ليمنعوا الرائحة والسباع، والدافن لهم خالد بن الوليد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمد -أيضاً- إلى مسجد فيه ذلك وهدمه1. وهذا الكنهوري الشيعي الذي استفاد هو وأتباعه من هذه الخصومة فأخذ يشهر خنجره على الموحدين، يقول: إن الوهابين سنة 1223هـ هدموا القباب، فهدموا قبة سيدتنا خديجة رضي الله عنها ... وهدموا قبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد أبي بكر2.   1 انظر روضة الأفكار لابن غنام ج1 ص112. 2 كشف النقاب ص 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 يقول زين بن دحلان: وأما قوله: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".. فمعناه أن لا تشد الرحال إلى مسجد لأجل تعظيمه والصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة، فإنها تشد الرحال إليها لتعظيمها والصلاة فيها، وهذا التقدير لا بد منه، ولو لم يكن التقدير هكذا، لاقتضى منع شد الرحال للحج، والهجرة من دار الكفر، ولطلب العلم، وتجارة الدنيا، وغير ذلك، ولا يقول بذلك أحد1. ثم ساق الأحاديث في وجوب زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: 1- "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني". 2- "من زار قبري وجبت له شفاعتي". 3- "من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي". 4- "من زارني بعد موتي، فكأنما زارني في حياتي". وبعد ما ذكر هذه الأحاديث المكذوبة المفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: فتلك الأحاديث كلها في تأكيد زيارته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، والزيارة شاملة للسفر، لأنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور، وإذا كانت كل زيارة قربة، كان كل سفر إليها قربة2.   1 انظر الدرر السنية ص 5. 2 انظر الدرر السنية ص 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ويقول رافضي آخر، وهو العاملي: هدم الوهابية المسجد الذي عند قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه بأحد، بعدما هدموا القبة التي على القبر، وأزالوا تلك الآثار الجليلة، ومحوا ذلك المسجد العظيم الواسع، فلا يرى الزائر لقبر حمزة اليوم إلا أثراً على تل من التراب1. ويقول: ومنع الوهابية تعظيم القبور، وأصحابها والتبرك بها من لمس، وتقبيل لها، ولأعتاب مشاهدها، وتسمح بها، وطواف حولها، ونحو ذلك2. ويقول أيضاً: لما دخل الوهابيون إلى الطائف هدموا قبة ابن عباس كما فعلوا في المرة الأولى، ولما دخلوا مكة المكرمة هدموا قبة عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي طالب عمه، وخديجة أم المؤمنين، وخربوا مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد فاطمة الزهراء، ولما دخلوا جدة هدموا قبة حواء، وخربوا قبرها، كما خربوا قبور من ذكر أيضاً، وهدموا جميع ما بمكة ونواحيها والطائف ونواحيها من القباب، والمزارات والأمكنة التي يتبرك بها3. ويقول الطباطبائي الرافضي: قالت الوهابية: لا يجوز بناء القبور وتشييدها4.   1 الدرر السنية ص 4. 2 انظر كشف النقاب ص 414. 3 كشف النقاب ص 59. 4 البراهين الجلية ص 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ويقول علوي الحداد: يهدمون القبب المبنية عليهم –أي على القبور1. ويقول الشيعي الرافضي الكهنوري: اعلم رحمك الله أن مذهبه "أي محمد بن عبد الوهاب" في القبور أنه يحرم عمارتها والبناء حولها، وتعاهدها، والدعاء والصلاة عندها، بل يجب هدمها وطمس آثارها2. ويقول هذا الرافضي: إن تقبيل القبر بعد الموت كتقبيل اليد في الحياة، لوجود الملاك، وهو التعظيم فيهما على السواء3. ويقول الرافضي العاملي: هدم الوهابية المسجد الذي عند قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه بأحد، بعدما هدموا القبة التي على القبر، وأزالوا تلك الآثار الجلية، ومحوا ذلك المسجد العظيم الواسع فلا يرى الزائر لقبر حمزة اليوم إلا أثر قبر على تل من التراب4. ويقول هذا المجرم الرافضي: ومنع الوهابية تعظيم القبور وأصحابها، والتبرك بها من لمس، وتقبيل لها، ولأعتاب مشاهدها، وتمسح بها وطواف حولها، ونحو ذلك5.   1 مصباح الأنام لعلوي الحداد ص 42. 2 كشف النقاب ص 82. 3 المصدر السابق ص 118. 4 كشف الارتياب ص 414. 5 المصدر السابق ص 429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 والعجيب أن الرافضة وأتباعهم وجدوا ضالتهم بدعوة الإمام فأخذوا يغذونها مستغلين كتب الضالين أهل الخصوم وحقدهم الدفين على أهل السنة والجماعة، وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وبهذا يقول العاملي الرافضي: وقد منع الوهابية من شد الرحال إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، فضلاً عن غيره، وقد عرفت أن ابن تيمية في مقام تشنيع على الإمامية قال: إنهم يحجون إلى المشاهد كما يحج الحاج إلى البيت العتيق، وما حجهم إلا قصدهم زيارتها، فسماه حجاً لزيادة التهويل والتشنيع1. وقد تصدى للحملة المسعورة هؤلاء الضالين المضللين أصاحب البدع أئمة الدعوة من نجد وخارجها. يقول الشيخ حسين بن غنام رحمه الله، وهو يرد على رسالة ابن سحيم: فهذا الكلام ذكر فيه ما هو حق وصدق، وذكره فيه ما هو كذب وزور وبهتان، فالذي جرى من الشيخ رحمه الله وأتباعه أنه هدم البناء الذي على القبور والمسجد المجعول في المقبرة على القبر الذي يزعمون أنه قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك كذب ظاهر، فإن قبر زيد رضي الله عنه ومن معه من الشهداء لا يعرف أين موضعه، بل المعروف أن الشهداء من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قتلوا في أيام مسيلمة في هذا الوادي، ولا يعرف أين موضع قبورهم من قبور غيرهم، ولا يعرفون قبر زيد من قبر غيره، وإنما كذب ذلك بعض الشاطين.   1 المصدر السابق ص 429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وقال الناس، هذا قبر زيد فافتتنوا به، وصاروا يأتون إليه من جميع البلاد بالزيارة، ويجتمع عنده جمع كثير ويسألونه قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، فلأجل ذلك هدم الشيخ ذلك البناء الذي على قبره، وذلك المسجد المبني على المقبرة اتباعاً لما أمر الله به ورسوله من تسوية القبور، والنهي الغليظ الشديد في بناء المساجد عليها، كما يعرف ذلك من له أدنى ملكة من المعرفة والعلم. وقوله (أي سليمان سحيم) وبعثرها لأجل أنهم في حجارة ولا يقدرون أن يحفروا لهم فطووا على أضرحتهم قدر ذراع، ليمنعوا الرائحة والسباع، فكل هذا كذب وزور وتشنيع على الشيخ عند الناس بالباطل والفجور، وكلامه تكذبه المشاهدة، فإن الموضع الذي فيه تلك القبور موضع سهل لين الحفر، وأهل العيينة والجبيلة وغيرهما من بلدان العارض يدفنون موتاهم في تلك المقبرة، وهي أرض سهلة لا حجارة فيها1. وأشار ابن غنام بأن الإمام محمد بن عبد الوهاب حين كان في العيينة هدم القباب وأبنية القبور، يقول: فخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومعه عثمان بن معمر "أمير العيينة" وكثير من جماعتهم، إلى الأماكن التي فيها الأشجار التي يعظمها عامة الناس، والقباب وأبنية القبور، فقطعوا الأشجار، وهدموا المشاهد والقبور، وعدلوها على السنة، وكان الشيخ الذي هدم قبر زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذيب مع أصحابه، وقطع شجرة قريوة، ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود، وأحمد بن سويلم وجماعة سواهم2.   1 انظر روضة الأفكار ج 1 ص123. 2 المصدر السابق ج1 ص 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ويوضح الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ما فعلوه أثناء دخلوهم مكة المكرمة سنة 1218هـ، قال رحمه الله: فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ورجاء النفع، ودفع الضر بسببه من جميع البناء على القبور وغيرها، حتى لم يبق في البقعة المطهرة طاغوت يعبد، فالحمد لله على ذلك1. ويقول -أيضاً- رحمه الله وأسكنه فسيح جناته: وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة، وقبة المولد، وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء حسماً لذرائع الشرك، وتنفيراً من الإشراك بالله ما أمكن لعظم شأنه، فإنه لا يغفر2. ويقول الشيخ المجاهد سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: فإن عباد القبور لا يقتصرون على بعض ما يعتقدون فيه الضر والنفع، بل كل من ظنوا فيه ذلك بالغوا في مدحه، وأنزلوه منزلة الربوبية، وصرفوا له خالص العبودية، حتى أنهم إذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح، بادروا إلى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف، وعبدوها بأنواع من العبادة، وأما القبور المعروفة أو المتوهمة بأفعالهم معها، وعندها لا يمكن حصره، فكثير منهم إذا رأوا القباب التي يقصدونها كشفوا الرؤوس، فنزلوا عن الأكوار، فإذا أتوها طافوا بها، واستلموا أركانها، وتمسحوا بها، وصلوا عندها ركعتين3.   1 انظر روضة الأفكار ص 37. 2 المصدر السابق ص 43. 3 انظر الكتاب القيم: "تيسير العزيز الحميد: تأليف سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن شد الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء: فالجواب: لا ريب أن هذا مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، فإذا كان تبركاً للمحل المزور فهو من الشرك، لأنهم قصدوا بذلك تعظيم المزور كقصد النبي صلى الله عليه وسلم، أو الولي لتعود بركته بزعمهم، وهذه حال عباد الأصنام سواء كما فعله المشركون باللات والعزى ومناة، فإنهم يقصدونها لحصول البركة بزياتهم لها وإتيانهم إليها1. ويقول العلامة حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله في مناظرته لعلماء مكة سنة 1211هـ: ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما أنتم عليه من فعلكم مع قبر أبي طالب، والمحجوب وغيرهما، وجد أحدهما مضاداً للآخر مناقصاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور، وأنتم تبنون عليها القباب العظيمة، والذي رأيته في المعلاة أكثر من عشرين قبة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها، وأنتم تزيدون عليها غير التراب، التابوت الذي عليه، ولبس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص2.   1 انظر مجموعة الرسائل والمسائل ج2 ص41. 2 الهدية السنية ص 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ويوضح الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله معتقد دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في مسألة البناء على القبور: فنحن ننكر الغلو في أهل القبور والإطراء والتعظيم، ونهدم البنايات التي على قبور الأموات، لما فيها من الغلو والتعظيم الذي هو أعظم وسائل الشرك بالله1. يقول الشيخ المجاهد "سليمان بن سحمان" رحمه الله في الرد على علوي الحداد: وأما هدم القباب فنعم، فإن الشيخ فعل ذلك، وقد اتبع في ذلك أئمة الإسلام من سادات الحنابلة وغيرهم من العلماء، فبناء القبور إنما أحدثه الرافضة، فهم سلف الحداد وأشباهه من عباد القبور2. ويقول رحمه الله وهو يرد على الطباطبائي الرافضي: وأما ما ذكره من منع الوهابية لزيارة قبور الأئمة، فنعم، منعوا زيارة المشاهد التي تعبد من دون الله، وشرعوا فيها من الأمور التي لم يأذن بها الله، ولا كان عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هدي أصحابه، ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين3. ويوضح ابن سحمان رحمه الله الحكم الشرعي في هذه المسألة، قائلاً: نعم امتثلت الوهابية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه، ومن بعدهم من الأئمة المهتدين، ولا يعيب على الوهابية بهدمهم القباب التي بنيت على ضرائح الأموات إلا من أعمى الله بصيرة قلبه4.   1 المصدر السابق ص 105. 2 انظر الأسنة الحداد ص 204. 3 انظر الحجج الواضحة الإسلامية ق35. 4 المصدر السابق ص 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 ويقول الشيخ فوزان السابق: إنهم يتعلقون بالأسماء، ويغيرون الحقائق من نصوص الكتاب والسنة، ويحرفونها عن مواضعها، ويعارضونها بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، محتجون بها على فتح أبواب شركهم وضلالهم، الذي أضلوا به كثيراً من جهلة هذه الأمة، مقتضون في ذلك أثر من حذرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن سلوك سبيلهم، وذلك فيما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة في لعن متخذي القبور مساجد، لأنه من الغلو الذي نهى الله تعالى عنه، وهو أصل عبادة الأصنام، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: "ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً"1. ونختتم هذا الفصل بأبيات الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن [1315هـ-1386هـ] ، وهي أبيات يعتز بها كل موحد يسير على النهج الصحيح والعقيدة السليمة، يقول رحمه الله: وقولنا إننا قد هدمنا مشاهداً ... نهدم قباب الشرك من كل جانب ونكسر أوثاناً ونهدم ما بني ... على أثر أو بقعة للأطايب2 هذه هي عقيدتنا في مسألة القبور، وهي عقيدة الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فرضي الله عنهم أجمعين.   1 انظر البيان والإشهار: تأليف فوزان السابق ص 321. 2 انظر القول الآسن ص 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 والجدير ذكره أن الذي فعله الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من الموحدين هو الصواب، وهو الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالإمام لم يصنع شيئاً من لدنه، فهو مجدد وليس نبياً يشرع. وقد ثبت في الصحيحين والسنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء على القبور وأمر بهدمه، كما رواه مسلم لنا في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي، قال علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. كما أخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه. فالإمام رحمه الله قام بهدم القباب وأبنية القبور لتحقيق وصيته صلى الله عليه وسلم. وينبغي على كل مسلم غيور على دينه أن يسعى لهدم وإزالة القباب التي نصبت فوق الأضرحة، ومحاربة الشرك والبدع بشتى أنواعها حتى يكون من الموحدين المخلصين الذي يعمرون الأرض بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الفصل السابع: الفرية السابعة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب إنكار كرامات الأولياء ... الفرية السابعة زعموا أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب إنكار كرامات الأولياء جاء علماء السوء بفرية اتهام الإمام محمد بن عبد الوهاب بأنه ينكر كرامات الأولياء: وقد ألفت الكتب المشؤومة التي تسوق البلاء والشؤم، وقد نبذ هؤلاء العلماء دعوة التوحيد، وبذلك نبذوا عهد الله بدلاً من أن يكونوا من أنصارها، فراحوا يقذفونها بالكذب والبهتان. يقول علوي الحداد وهو يرمي الإمام محمد بن عبد الوهاب: ومن جملة هذيانه -أيضاً- إنكاره كرامات الأولياء وما خصهم الله به من الخصوصيات والأسرار1. ويقول عثمان بن يحيى العلوي: وإنه أنكر كرامات الأولياء2. ويقول: وكذا كفر -يقصد الإمام محمد بن عبد الوهاب- من اعتقد كرامات الأولياء3.   1 مصباح الأنام ص 18. 2 فصل الخطاب في بيان الصواب ص 22. 3 المصدر السابق ص 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ويقول عمر المحجوب: كما أنه يلوح من كتابك إنكار كرامات الأولياء وعدم نفع الدعاء، وكلها عقائد عن السنة زائفة، وعن الطريق المستقيم زائغة1. ويقول سوقية: ولما كانت الوهابية لا إمام لها في كل شيء تدين به سوى اختراع دين جديد حباً في الظهور، قالت بإنكار الكرامات2. هذه مؤلفاتهم الشيطانية، وحتى تكون الصورة واضحة جلية فهذه الردود من أئمة الدعوة وأنصارها. يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رداً على هذه الفرية: وأقر بكرامات الأولياء، وما لهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله3. ويقول رحمه الله: الواجب عليهم حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالين، وحق بين باطلين4.   1 رسالة في الرد على الوهابية تأليف عمر المحجوب ج1 المطبعة التونسية ص 7. 2 فصل الخطاب في بيان الصواب ص 25. 3 مجموعة مؤلفات الشيخ ج5 ص 10. 4 نفس المصدر ج4 ص282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ويقول الشيخ عبد الله ابن الإمام محمد بن عبد الوهاب: ولا ننكر كرامات الأولياؤ، ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية، إلا انهم لا يستحقون شيئاً من أنواع العبادات لا حال الحياة، ولا بعد الممات، بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته، بل ومن كل مسلم1. ويقول الإمام عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب: كرامات الأولياء حق عند أهل السنة والجماعة، والولي أعطي الكرامة ببركة اتباعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا تظهر حقيقة الكرامة عليه، إلا إذا كان داعياً لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم بريئاً من كل بدعة وانحراف عن شريعته صلى الله عليه وسلم، فببركة اتباعه يؤيده الله تعالى بملائكته وبروح منه2. ويقول المجاهد الشيخ سليمان بن سحمان: إن الشيخ "أي محمد بن عبد الوهاب" رحمه الله لا ينكر كرامات الأولياء بل يثبتها، ولا ينكر إلا خوارق الشياطين، فإن أولياء الرحمن لهم علامات يعرفون بها، فمن علامات أولياء الله محبة الله، ومحبة رسوله، والتزام ما أمر الله به ورسوله، وتقديم ما دل عليه الكتاب والسنة على ما يخطر ببال أحدهم أنه كرامة3. أما خوارق السحرة والدجالين والمشعوذين التي تتخذ صورة كرامات   1 مجموعة الرسائل والمسائل ج2 ص 83. 2 الأسنة الحداد في الرد على علوي حداد: تأليف سليمان بن سحمان ص 128. 3 الدرر السنية ج1 ص128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الصالحين والأولياء فهذه خوارق شيطانية، نحاربها أشد المحاربة، وهي سورة شيطانية تسيء إلى الإسلام والمسلمين. فالإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من الموحدين يحاربون أولياء الشياطين من الخرافيين والمشغوذين من الصوفية وغيرهم، الذي أدخلوا كثيراً من أقوال شيطانية باسم الكرامة والأولياء، وجعلوها لدجالين ومشعوذين، أمثال أحمد البدوي، والدسوقي، وابن سبعين، وابن الفارض، والشعراني.. الخ. يقول عبد الظاهر، أبو السمح، إمام الحرم المكي، رحمه الله: الكرامات لا يملكها أحد لنفسه بل الله يكرم من يشاء من عباده بالإيمان والتقوى، ومن يهن الله فما له من مكرم1. وأخيراً نختتم هذه الفرية بعطر من صاحب الدعوة المباركة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهو يبين الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، قائلاً: بيان الله سبحانه وتعالى وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله المنافقين والفجار، ويكفي في هذا آية في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، وآية في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الآية، وآية في سورة يونس، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .   1 الرسالة المكية ص 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ثم صار عند أكثر من يدعي العلم، وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن الأولياء لا بد فيهم من ترك اتباع الرسل، ومن تبعهم فليس منهم1. وفي وقتنا هذا –وللأسف الشديد- عمت البلاد الإسلامية إلا من رحم، الخزعبلات والخرافات والشعوذة، حيث إن الكثيرين من السحرة والدجالين يتسترون تحت مسمى "الكرامة الربانية"، ويقومون بأعمالهم الشيطانية مستغلين في ذلك الناس البسطاء، ومما يزيد في الصدر المرارة أنهم يفعلون ذلك تحت سمع وبصر العلماء، ولكن القلة منهم الذين يتصدون لهم.   1 مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج1 ص395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 الفصل الثامن: الفرية الثامنة زعمو أن حديث نجد قرن الشيطان ... الفرية الثامنة زعموا أن حديث نجد قرن الشيطان ادعى الخصوم أن نجداً المذكورة في الأحاديث النبوية الشريفة هي نجد موقع ظهور الإمام محمد بن عبد الوهاب وجماعته، موقع مسيلمة الكذاب، وهي موطن الزلازل والفتن، إلى آخره من الترهات والكذب والبهتان. يقول ابن عفالق الحاقد على هذه الدعوة، وهو من الآوائل الذين افتروا على الموحدين بأنهم قرن الشيطان: "وفي فضل أهل الشام واليمن والحرمين وفارس ما يعرفه من له أدنى معرفة بالأحاديث، وأما أنتم يا أهل اليمامة ففي الحديث الصحيح عندكم يطلع قرن الشيطان، وأنتم لا تزالون في شر إلى يوم القيامة، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار"1. ويقول علوي الحداد: "وقد استنبط العلماء من مفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يطلع منها –أي نجد- قرن الشيطان" من معجزاته، لأنه أتى بالياء للاستقبال، لأن مسيلمة لعنه الله في حياته عليه السلام طلع، وادعى النبوة، وهناك في خلافة الصديق، ولم يطلع قرن الشيطان إلا بعد الألف والمائة والخمسين، وهو محمد بن عبد الوهاب، رأس هذه البدعة وأسها"2.   1 انظر رسالة ابن عفالق لابن معمر ص 49 من هذه الرسالة. 2 الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية ص 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ويقول عثمان بن منصور: أن نجد اليمامة هي قرن الشيطان: "وقد امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الدعاء لها لما علم للشام واليمن والمدينة، لما علم بعلم الله ما يحدث فيها ومنها، وقال فيها: "أولئك منها الزلازل والفتن، ومنها ما يظهر قرن الشيطان"1. وهذا القاضي الفلسطيني يوسف النبهاني الذي تصدى للتوحيد في كتابه "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق". ويدعي هذا الحاقد أن نجد اليمامة هي قرن الشيطان،2 وأنها من بلاد المشرق التي ذمها الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: أشار رسول الله للشرق ذمة ... وهم أهله لا غرو أن يطلع الشرا به يطلع الشيطان ينطح قرنه ... رؤوس الهدى والله يكسره كسرا مؤية حزب الضلال وثيقة ... إلى درك النيران أعمالها تسرى بها من صريح الإفك أخبث مورد ... وإن ظنها الجهال من خالص الثبر   1 انظر مصباح الظلام في الرد على من كذب الشيخ الإمام ص 234. 2 الرائية الصغرى في ذم البدعة ومدح السنة الغراء –يوسف بن إسماعيل النبهاني ج1 ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 إلى أن قال: أولئك وهابية ضل سعيهم ... فظنوا الردى خيراً وظنوا الهدى رشدا1 يقول أحمد بن محمد الغماري: "ولما طلع قرن الشيطان بنجد في أواخر القرن الحادي عشر، وانتشرت فتنته، كانوا يحملون الأحادثي عليه وعلى أصحابه2، وقد حشد هؤلاء عقول العوام بتشويه دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بالكذب والبهتان حتى يصدوا الناس عن الدعوة السلفية المباركة، ويكون لهم الصدارة في الخرافة والبدع، وأكل أموال الناس بالباطل". وإليك يا أخي القارئ الكريم الأدلة على أن العراق هي المقصودة بهذه الأحاديث، وليس نجد كما زعم أعداء الدعوة السلفية.   1 مصباح الأنام: للحداد ص 53. 2 انظر إيضاح الحجة في الرد على صاحب طنجة –حمود التويجري رحمه الله ص 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الفصل التاسع: الأدلة النبوية الصريحة على أن العراق مطلع الفتن وقرن الشيطان ... الأدلة النبوية الصريحة على أن العراق مطلع الفتن وقرن الشيطان عن ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم قالا: دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وبارك لنا في مكتنا ومدينتنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا"، فقال رجل من القوم: يا نبي الله، وعراقنا، قال: "إن فيها قرن الشيطان، وتهيج الفتن، وأن الجفا بالمشرق" 1، وفي رواية أخرى لابن عمر: قال رجل: فالعراق، فيها ميرتنا وفيها حاجتنا، فسكت، ثم قال: "مطلع قرن الشيطان، وهناك الزلازل والفتن" 2. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخل إبليس العراق فقضى حاجته فيها، ثم دخل الشام فطردوه" 3. وأخرج البخاري في صحيحه من حديث: "يخرج أناس من قبل المشرق ويقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم" 4. وأخرج الإمام مسلم في صحيحه أن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم   1 أورده في كنز العمال 135/ 14، وعزاه إلى ابن عساكر. 2 المصدر السابق: 310/12 وقال أخرجه الطبراني، قلت: أورده الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات. 3 المصدر السابق. 4 أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد، انظر الفتح 535/ 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة‍! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن الفتنة تجيء من ههنا" –وأومأ بيده نحو المشرق- "من حيث يطلع قرن الشيطان" 1. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: "ألا إن الفتنة ها هنا، ألا إن الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان" 2. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بارك الله في شامنا ويمننا"، قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله، قال في الثالثة: "هناك الزلازل والفتن، وبهما يطلع الشيطان" 3. قال العلامة الكرماني في شرح الحديث: "نجد يطلع منها قرن الشيطان، هو الأرض المرتفعة، من تهامة إلى العراق"، ثم قال أيضاً: "هي كل ما ارتفع من تهامة إلى العراق، فهو نجد"، وقال في موضع آخر: "ومن كان بالمدينة الطيبة "صلى الله على ساكنها وسلم"، كان نجده بادية العراق، وهي مشرق أهلها"4. وبمثله قال العيني في شرحه لصحيح البخاري5، وقال الخطابي رحمه الله:   1 أخرجه مسلم في كتاب الفتن، باب الفتنة من المشرق حديث (2905) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن: باب الفتنة من المشرق، ومسلم في صحيحه كتاب الفتن حديث 2905. 3 صحيح البخاري، كتاب الفتن: باب الفتنة من قبل المشرق. 4 شرح الكرماني لصحيح البخاري، الطبعة المصرية 168/24. 5 كتاب الفتن 353/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 "نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي مشرق أهلها"، إلى قوله: "وأما نجد فهي الناحية بين الحجاز والعراق"1. ونقله الحافظان: ابن حجر والقسطلاني في شرحهما لصحيح البخاري. ونقلا عن الخطابي قوله في معنى "قرن الشيطان": "القرن الأمة من الناس، يحدثون بعد فناء آخرين، وقرن الحية أن يضرب المثل به فيما لا يحمد من الأمور"2. وفي الصحيحين: وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأس الكفر نحو المشرق"، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "رأس الكفر قبل المشرق" 3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً" 4. وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله إلا أنه قال: "يحسر عن جبل من ذهب" 5، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:   1 فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر 47/13. 2 المصدر السابق أيضاً. 3 البخاري بدء الخلق 350/6، ومسلم باب تفاضيل أهل الإيمان 30/2. 4 أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب أشراط الساعة 101/8، ومسلم في الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يحسر عن الفرات، حديث 2894. 5 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 "لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو" 1. وعن أبي بن كعب قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله، قال: فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون" 2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مدها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم"، قالها ثلاثاً3. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده نحو العراق: "ههنا، أن الفتنة ههنا، أن الفتنة ههنا، ثلاثا" 4. قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث بعد أن ذكر أقوالا لمن سبقه من العلماء، قال: "وقوله " منعت العراق درهمها وقفيرها" قال: "قيل: لأنهم يرتدون آخر الزمان فيمنعون ما لزمهم من الزكاة وغيرها".   1 مسلم في صحيحه، الفتن حديث 2894. 2 المصدر السابق الحديث رقم 2895. 3 المصدر السابق الحديث رقم 2896. 4 الإمام أحمد في مسنده 43/2 وسنده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 أخي المسلم: لقد تبين لك مما ذكرنا من الأدلة النبوية أن العراق بلد الفتن والشرور، والشيطان، والفرقة والاختلاف، ومنشأ الكفر والنفاق والطغيان، مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وإليك ما ورد في ذلك عن الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام والمسليمن، ممن لهم علم ودراية فيما دونوا من علوم ورواية1. ثم أتي ببيان أشهر الفتن التي نشأت من العراق فإذا عرفت أن العراق مطلع كل شر وخراب ودمار، فهيا إلى بيان الفتن التي ظهرت منه وفرقت الإسلام والمسلمين، بعد عصر النبوة. الأولى: أكبرها وأشنعها وهي اغتيال فاروق الأمة، الخليفة الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، الذي أعز الله به الإسلام، ومناقبه لا تعد ولا تحصى، وليس هنا بيانها فانظرها في مصادرها. فكما هو معلوم فإن قاتله هو أبو لؤلؤة المجوسي -عليه لعنة الله-، وقد أتى من الكوفة، وأصله أعجمي. الثانية: فتنة ذي النورين الخليفة الثالث: عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وقد ابتدأت من البصرة والكوفة بالعراق، وانتشرت حتى وصلت مصر. الثالثة: وقعات الجمل وصفين والنهروان، بين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان منشأ الفتنة من العراق، وعلى أرض العراق.   1 انظر: رسالة الدليل البراق على حوادث الكويث والعراق: تأليف عمر العمروي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الرابعة: فتنة الخوارج وتآمرهم ضد الصحابة، وتكليفهم ابن ملجم: بقتل الخليفة الرابع: علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وكان ذلك في أكبر مدنها، مطلع قرن الشيطان، (مدينة الكوفة) ، وقد قتله سنة 40هـ، الموافقة لـ 661م، وتكليفهم البرك: بقتل معاوية، وقد ضربه في خاصرته وسلم، ومثلهما: ابن بكر على عمرو في مصر. الخامسة: ظهور الفرق الضالة المضلة، التي بددت الإسلام وأحدثت فيه الفرق والاختلاف، والاقتتال، وهي: ? طائفة الخوارج: الذين خرجوا على الخليفة، ومرقوا من الإسلام، وهم الذين يعتقدون أن علياً وأصحابه وجميع المسلمين سواهم قد ارتدوا عن الإسلام وكفروا بالله، وهم اشتهروا بـ"المفرطة المكفرة"، وهم عشرون فرقة. ? المعتزلة: القائلون بأن العباد خالقوا أفعالهم، وينفون الرؤية ويوجبون الثواب والعقاب، وهم عشرون فرق. ? الشيعة: المفرطون في محبة علي رضي الله عنه وهم اثنتان وعشرون فرقة. ? البخارية: الموافقة لأهل السنة في خلق الأفعال، والمعتزلة في نفي الصفات، وحدوث الكلام، وهم ثلاث فرق. ? الجبرية: القائلة بسلب الاخيار عن العباد، وهم فرقة واحدة. ? المشبهة: الذين يشبهون الحق بالخلق في الجسمية، تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وهم خمس فرق. ? الحلولية: وهم فرق أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وقد ظهرت كلها وظهر أئمتها، من الكوفة منشأ كل فتنة، ومن البصرة وما جاورهما1. السادسة: مقتل الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم. والسابعة: ادعاء المختار النبوة الكاذبة. الثامنة: سفك الحجاج الثقفي دماء المسلمين المعصومين، وقهره وامتحانه للعلماء، ومنهم: سيد التابعين سعيد بن جبير رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قال المهلب: إنما ترك الدعاء صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق ليضعفوا عن الشر الذي هو موضوع في جهتهم لاستيلاء الشيطان بالفتن"، ثم قال الحافظ: "وقال غيره: إن الفتنة تكون من تلك الناحية، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وأول الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، كذلك البدع نشأت في تلك الجهة"2. وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "المراد بذلك اختصاص المشرق بتسلط الشيطان ومن الكفر، كما قال في الحديث الآخر "رأس الكفر نحو المشرق" إلى قوله: "وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة، ومنشأ الكفرة"3.   1 انظر المرقاة شرح المشكاة: الملا علي القاري 204/1، وفيها تفصيل كل هذه الفرق وبيانها، وانظر الملل والنحل وغيرهما من كتب الفرق. 2 انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 46/13. 3 انظر النووي شرح مسلم 34/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وقال العلامة سليمان الندوي رحمه الله: "إن الفرق الضالة كلها، والفتن والمفاسد العظام، جميعها ظهرت من بلاد العراق، وهي المراد من طلوع قرن الشيطان من نجد"1. وحاصل ما تقدم بيانه من أدلة نبوية، وأقوال للصحابة والتابعين، وأهل العلم أن العراق مطلع الأمور المحدثة، والفتن والبدع في الدين، ومنشأ الفرق الضالة المبتدعة التي كان من الكوفة منطلقها ومأواها، بها الداء العضال، ومنها كل داعية ضال، ولقد ثبت باتفاق أئمة الحديث، وعلماء الجغرافيا والتاريخ وشهادة الحوادث أن العراق مطلع الفتن والفساد وموضع كل رذيلة، وغمط كل فضيلة، ولقد جاءت الفتن كما أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم من العراق تترا، كل فتنة أقل ما يتحقق منها الفرقة بين المسلمين. تاسعاً: فتنة الدولة التركية والدولة الصفوية التي نتج عنها تقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام: 1- العراق التركي. 2- العراق الصفوي. 3- العراق الفارسي. وقد أبيد العلماء فيها، ومزقت أسرهم، وشتت عبر الأمصار. العاشرة: فتنة بيع عربستان للفرس، وقتل علمائهم وأمرائهم. الحادية عشرة: فتنة حرب صدام مع الخميني ثمانية أعوام، وهدر الطاقات البشرية من أبناء الرافدين، وإيران ومن ساعدهم من الدول العربية.   1 الكامل الجامع –سيرة النبي صلى الله عليه وسلم 385/3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الثانية عشرة: فتنة قتل المهيب الركن: للمسلمين الأكراد وضربهم بغاز الأعصاب والخردل حتى أبادهم وأباد ممتلكاتهم لردهم عن الإسلام. الثالثة عشرة: فتنة غزو المهيب الركن صدام حسين للكويت، وهدمه لها ولشعبها ومقدراتها، وما أحدث فيها من أعمال لم يسبقه بها أحد من العالمين. الرابعة عشرة: حشده قواته على حدود دولة الإسلام والمسلمين –المملكة العربية السعودية- وإعلان الجهاد المزيف للقضاء على الإسلام والمسلمين. هذه الفتن الكبرى التي ظهرت من العراق قرن الشيطان، ومن أراد الزيادة والبيان، فعليه بكتب التاريخ الكبرى، ففيها بيان ذلك وغيره من الفتن التي ليس هنا مجال حصرها1. ويعلق علامة الشام ناصر الدين الألباني على هذا الحديث بقوله: يستفاد من مجموع طرق الحديث أن المراد من "نجد" في رواية البخاري ليس هو الإقليم المعروف اليوم بهذا الاسم، وإنما هو العراق، وبذلك فسره الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني، ونجد كلامهما في ذلك في "شرح كتاب الفتن الكبرى"، من صحيح البخاري للحافظ، وقد تحقق ما أنبأ به عليه السلام، فإن كثيراً من الفتن الكبرى كان مصدرها العراق. كقتال بين سيدنا علي ومعاوية، وبين علي والخوارج، وبين علي وعائشة، وغيرها مما هو مذكور في كتاب التاريخ، فالحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم وأعلام نبوته2.   1 رسالة الدليل والبراق على حوادث الكويت والعراق. تأليف عمر غرامة العمروي. 2 انظر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب –محمد مهدي الاستانبولي ص 90 ط (1) 1400هـ 1980م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الفصل العاشر: أقوال الصحابة على أن العراق مطلع قرن الشيطان ... أقوال الصحابة على أن العراق مطلع قرن الشيطان قال سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا أهل العراق أسة لكم عن الصغيرة، وأركبكم الكبيرة، سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أتجيء من ههنا"، وأومأ بيده نحوه المشرق، "حيث يطلع قرن الشيطان، وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض"1. وأخرج الترمذي في سننه عن عبد الرحمن بن أبي نعيم: "أن رجلاً من أهل العراق سأل ابن عمر، دم البعوض يصيب الثوب؟ فقال ابن عمر رضي الله عنه: "انظروا إلى هذا يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أنه سأله رجل عن المحرم، قال شعبة: أحسن يقتل الذباب، قال: أهل العراق يسألوني عن الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "هما ريحانتاي من الدنيا" 3. وعن عمر بن خطاب رضي الله عنه أنه قال حيث بعث رهطا من الأنصار إلى الكوفة:   1 أخرجه مسلم، انظر شرح النووي 32/18. 2 أخرجه في المناقب، حديث 3773، وقال: هذا حديث صحيح. 3 البخاري في صحيحه –كتاب المناقب 22/7، والترمذي في المناقب حديث 3773. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 "أنكم تأتون الكوفة فتأتون قوماً لهم أزيز بالقرآن، فيأتونكم فيقولون: قدم أصحاب محمد فيسألونكم عن الحديث، فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنه أراد الخروج إلى العراق، فقال له كعب: "لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين، فإن بها تسعة أعشار السحر، وبها فسقة الجن، وبها الداء العضال"2، وزاد في الكنز: "وبها باض إبليس وفرخ"3. وروي أن الحسن بن علي رضي الله عنهما استخلف حين قتل علي رضي الله عنه فبينما هو يصلي إذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجر، وحسن رضي الله عنه ساجد يصلي والطعنة وقعت في وركه، فمرض منها أشهراً، ثم برأ فقعد على المنبر فقال: "يا أهل العراق، اتقوا الله فينا فإنا أمراءكم، وضيفانكم، ونحن أهل البيت الذي قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} . قال: فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إلا وهو يحن بكاء"4. وروي أنه لما سقي الحسن رضي الله عنه سماً أوصى لأخيه الحسين وقد حضره الموت، فقال:   1 انظر حجة الله البالغة 313/1. 2 سير النعمان 27/2، وهو العلامة الشبلي النعماني، وأخرجه مالك في الموطأ 691/1. 3 كنز العمال 183/14. 4 انظر تفسير ابن كثير 486/3، سورة الأحزاب آية 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 "أن الحوادث والأحوال تشهد أن سفهاء الكوفة يخرجونك منها، ويذلونك، فعزمت عليك أن تغادرها وتخرج منها"1. وروى الإمام أحمد عن أبي نصرة، قال: كنا عند جابر رضي الله عنه فقال: "يوشك أهل العراق أن لا يجيء إليهم دينار ولا مدى"2.   1 انظر تاريخ الخلفاء للسيوطي 181. 2 النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير 66/1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الفصل الحادي عشر: أقوال التابعين على أن العراق مطلع قرن الشيطان ... أقوال التابعين على أن العراق قرن الشيطان روى أن هشام بن عروة رحمه الله كان يقول: "إذا حدثك عراقي بألف حديث، فالق تسعمائة وتسعين، وكن من الباقي في شك"1. وروى عن ربيعة بن عبد الرحمن رحمه الله أنه قال: "ما رأيت عراقياً تام العقل"2. وروي عن الزهري رحمه الله أنه قال: "إذا سمعت بالحديث العراقي فاردد به، ثم اردد به، ثم قال: إن في حديث أهل الكوفة دغلا كثيراً"3. وروي عن الإمام طاووس اليمني رحمه الله أنه قال: "إذا حدثك العراقي مائة حديث فاطرح تسعاً وتسعين"4.   1 انظر تدريب الراوي للسيوطي ص 38. 2 تذكرة الحفاظ للذهبي ترجمة مالك بن أنس 210/1. 3 المصدر السابق 210/1. 4 المصدر نفسه 210/1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الفصل الثاني عشر: أقوال الأئمة والمحدثين على أن العراق قرن الشيطان ... أقوال الأئمة والمحدثين على أن العراق قرن الشيطان قال الإمام مالك رحمه الله: "إذا خرج الحديث عن الحجاز إلى العراق، انقطع نخاعه"1. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "كل حديث جاء من العراق فليس له أصل في الحجاز فلا تقبله"2. وقال أيضاً: "إياكم والأخذ بالحديث الذي جاءكم من بلاد أهل الرأي إلا بعد التفتيش"3. وقال الإمام أحمد رحمه الله: "ليس لحديث أهل الكوفة نور"4. قلت: وهذا لا ينطبق على السواد الأعظم من شعب العراق5. يقول الشيخ عبد اللطيف بن الإمام عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله: "إن المراد بالمشرق ونجد في هذا الحديث وأمثاله هو العراق، لأنه يحاذي المدينة من جهة الشرق، يوضحه أن في بعض طرق هذا الحديث: "أشار إلى العراق".   1 تدريب الراوي للسيوطي ص 37، 38. 2 المصدر السابق. 3 انظر: ميزان الشعراني 49/1. 4 سنن أبي داود. 5 نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 قال الخطابي: "نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية الشام ونواحيها فهي مشرق أهل المدينة، وأصل نجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها، وقال الراوي: "إن نجداً من ناحية العراق، ذكر هذا الحافظ ابن حجر، ويشهد له ما في مسلم عن ابن عمر، قال: "يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم الكبيرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن الفتنة تجيء من ههنا"، وأومأ بيده إلى المشرق، فظهر أن الحديث خاص لأهل العراق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر المراد بالإشارة الحسية، وقد جاء صريحاً في "المعجم الكبير" للطبراني النص على أنها العراق، ويقول ابن عمر وأهل اللغة وشهادة الحال كل هذا يعين المراد". ويقول الإمام عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: "الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل، والأحاديث التي وردت في ذم نجد كقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في يمننا، واللهم بارك لنا في شامنا" الحديث، قيل إنه أراد نجد العراق، لأن في بعض ألفاظه: ذكر المشرق، والعراق شرقي المدينة، والواقع يشهد له، لا نجد الحجاز، ذكره العلماء في شرح هذا الحديث، فقد جرى على العراق من الملاحم والفتن، ما لم يجر في نجد الحجاز، يعرف ذلك من له اطلاع على السير والتاريخ، كخروج الخوارج بها، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الأشعث، وفتنة المختار –وقد ادعى النبوة- وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتال، وسفك الدماء وغير ذلك مما يطول عده. "وعلى كل حال فالذم إنما يكون في حال دون حال، ووقت دون وقت، بحسب حال الساكن؛ لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل، وإن كانت الأماكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 تتفاضل وقد تقع المداولة فيها، فإن الله يداول بين خلقه، حتى في البقاع، فمحل المعصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر، وبالعكس"1. ثم قال رحمه الله رحمة واسعة: "فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله، وزوال من يصدقه، لذم اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة ... ، وما ضر المدينة سكنى اليهود بها، وقد صارت مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعقل الإسلام، وما ذمت مكة بتكذيب أهلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة عداوتهم له، بل هي أحب أرض الله إليه". ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن عن فضل نجد كبني تميم: فيقول رحمه الله: "وقد جاء في فضل بعض أهل نجد كتميم، ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أحب تميماً لثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله لما جاءت صدقاتهم: "هذه صدقات قومي"، وقوله في الجارية التميمية: "اعتقها فإنها من ولد إسماعيل"، وقوله: "هم أشد أمتي على الدجال" ... هذا في المناقب الخاصة، وأما العامة للعرب، فلا شك في عمومها لأهل نجد؛ لأنهم من صميم العرب، وما ورد في تفضيل القبائل، والشعوب أدل وأصرح في الفضيلة مما ورد في البقاع والأماكن في الدلالة على فضل الساكن والقاطن. ومعلوم أن رؤساء عباد القبور الداعين إلى دعائهم وعبادتهم لهم حظ وافر مما   1 انظر مجموعة الرسائل والمسائل ج4 ص264. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 يأتي به الدجال، وقد تصدى رجال من تميم، وأهل نجد للرد على دجاجلة عباد القبور الدعاة إلى تعظيمها مع الله، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، إن قلنا أن "ال" في الدجال للجنس لا للعهد، وإن قلنا للعهد هو الظاهر، فالرد على جنس الدجال توطئة وتمهيد لجهاده، ورد باطله، فتأمله فإنه نفيس جداً"1. ويقول الشيخ حكيم محمد أشرف: "سند هو مقصود الأحاديث، أن البلاد الواقعة في جهة المشرق من المدينة المنورة، هي مبدأ الفتنة والفساد، ومركز الكفر والإلحاد، ومصدر الابتداع والضلال، فانظروا في خريطة العرب بنظر الإمعان، يظهر لكم أن الأرض الواقعة في شرق المدينة إنما هي أرض العراق –فقط- موضع الكوفة والبصرة وبغداد2. يقول الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: "وقد كان بلد الشيخ اليمامة، ولم تكن اليمامة مشرق المدينة، بل مشرق المدينة العراق ونواحيه، فاليمامة ليست مشرق المدينة، ولا هي وسط المشرق بين المدينة والعراق، بل اليمامة شرق مكة المشرفة"3.   1 انظر منهاج التأسيس والتقديس في الرد على ابن جرجيس ص 62. 2 انظر أكمل البيان في شرح نجد قرن الشيطان: تحقيق عبد القادر حبيب الله السندي ط1402 باكستان. 3 انظر الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد ص 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الفصل الثالث عشر: الفرية التاسعة تسميتهم بالوهابية ... الفرية التاسعة تسميتهم بالوهابية اطلقوا على دعوة الإمام اسم "الوهابية"، وأحاطوا بكل شر، وجعلوها علماً على الجمود والهمجية، واخترعوا لها الأكاذيب وألصقوا بها التهم، فلو قالوا للناس: إن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب هي دعوة الإسلام الخالص، وأنه متبع للإمام أحمد بن حنبل في الفروع، ومتأسي بالإمام ابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، لما استغرب الناس الدعوة ونفروا منها، ولكنهم أطلقوا عليها اسم "الوهابية"، وصوروها بأقبح الصور، حتى أصبح الكثير من المسلمين في البلاد الإسلامية ينفرون من كلمة الوهابية أو المذهب الوهابي. وبلغ حقدهم الدفين على هذه الدعوة المباركة حتى وصل الإمر إلى قتل المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي –وهو ممن يتحمسون لهذه الدعوة- بإيعان من محمد علي –حاكم مصر- الذي حارب هو وأبناؤه الدعوة انتقاماً من أبيه لتعاطفه مع هؤلاء1. وقد بلغ الأمر في بعض البلاد الإسلامية أن تصادر وتحرق الكتب التي للشيخ محمد بن عبد الوهاب وأنصاره، وبل وتطارد الأشخاص الذي يعتبرون "وهابيين"، ويسجنون، وتثور عليهم الجماهير، وقد يضربونهم، فأكثر الناس لا يعرفون من الوهابية إلا أنها مذهب آخر لا يقره الإسلام.   1 الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج2 للدكتور عبد الرحمن عميرة –أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 قال الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله: "إن لقب الوهابية لقب لم يختاره أتباع الدعوة لأنفسهم، ولم يقبلوا إطلاقه عليهم، لكنه أطلق من قبل خصومهم تنفيراً للناس منهم، وإيهاماً للسامع أنهم جاءوا بمذهب خاص يخالف المذاهب الإسلامية الأربعة الكبرى، واللقب الذي يرضونه ويتسمون به هو: (السلفيون) ، ودعوتهم: الدعوة السلفية"1. وقال الأستاذ أحمد علي: "إن تلقيبهم بالوهابية جناية على الواقع والحقيقة لهذه الدعوة، فهي جناية على التاريخ نفسه، فقد أوقع ذلك كثيراً من المؤرخين والمستشرقين في غلطة، وهي تسمية هذه الحركة الإصلاحية المباركة نسبة إلى والد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجعلوه مؤسساً لهذه الدعوة والحركة الإصلاحية"2. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: "نسبة للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهي نسبة على القياس العربي، فلقد كان الصحيح أن يقال المحمدية، أي أن صاحب هذه الدعوة والقائم بها هو الشيح محمد لا أبوه عبد الوهاب، ومن أعجب العجب أنك لا تجد لهذا اللقب أثراً بنجد، بل يستنكر النجديون هذا اللقب لمن يخاطبهم به أو ينسبهم إليه، وهذا يدلك على أن التسمية جاءت من الخارج من خصوم الدعوة، وأكبرهم إذ ذاك الأشراف والأتراك، وأكثر علمائها"3.   1 انظر الوهابية وزعيمها محمد بن عبد الوهاب: بقلم حسن بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله مجلة العربي العدد 147 فبراير 1971. 2 آل سعود ص 212. 3 الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية أحمد بن حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وهذا الملك عبد العزيز يخطب بالحجيج سنة 1347هـ الموافق 11/5/1929، قائلاً: "يسموننا بالوهابيين، ويسمون مذهبنا الوهابي، باعتبار أنه مذهب خاص، وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض. نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه السلف الصالح. نحن نحترم الأئمة الأربعة، ولا فرق عندنا بين مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، كلهم محترمون في نظرنا. هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو بها، وهذه هي عقيدتنا، وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل، خالصة من كل شائبة، منزهة من كل بدعة، فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعو إليها، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن وأوصاب. أما (التجديد) الذي يحاول البعض إغراء الناس به بدعوة أنه ينجينا من آلامنا فلا يوصل إلى غاية، ولا يدنينا من السعادة الأخروية، إن المسلمين في خير ما داموا على كتاب الله وسنة رسوله، وما هم ببالغين سعادة الدارين إلا بكلمة التوحيد الخالصة. إننا لا نبغي (التجديد) الذي يفقدنا ديننا وعقيدتنا.. إننا نبغي مرضاة الله عز وجل، ومن عمل ابتغاء مرضاة الله فهو حسبه، وهو ناصره، فالمسلمون لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 يعوزهم التجديد، وإنما تعوزهم العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح، ولقد ابتعدوا عن العلم بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، فانغمسوا في حمأة الشرور والآثام فخذلهم الله جل شأنه، ووصلوا إلى ما هم عليه من ذل وهوان، ولو كانوا متمسكين بكتاب الله وسنة رسوله لما أصابهم من محن وآثام، ولما أضاعوا عزهم وفخارهم. لقد كنت لا شيء ... وأصبحت اليوم وقد استوليت على بلاد شاسعة يحدها شمالاً العراق وبر الشام، وجنوباً اليمن، وغرباً البحر الأحمر، وشرقاً الخليج.. لقد فتحت هذه البلاد ولم يكن عندي من الأعتاد سوى قوة الإيمان وقوة التوحيد، ومن العدد غير التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، فنصرني الله نصراً عزيزاً1. إن تسميتهم بالوهابية مجرد ذكر التسمية لا حرج فيه، ولكن أن يجعلوها مذهباً خارجاً عن الإسلام ويغذوها بالتضليل والكذب والافتراء فهذا شيء نحاربه أشد المحاربة. يقول عبد الرحمن بن سليمان الرويشد: "لم يكن إطلاق كلمة "الوهابية" التي يراد بها التعريف بأصحاب الفكرة السلفية شائع الاستعمال في وسط السلفيين أنفسهم، بل كان أكثرهم يتهيب إطلاقه على الفكرة السلفية. وقد يتورع الكثيرون من نعت القائمين بها بذلك الوصف، باعتباره وصفاً عدوانياً كان يقصد به بلبلة الأفكار والتشويه، وإطلاق المزيد من الضباب لعرقلة مسيرة الدعوة، وحجب الرؤية عن حقائق أهدافها وبمرور الزمن،   1 جريدة أم القرى –ذي الحجة 1347هـ- مايو 1929م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وإصابة محاولات التضليل بالعجز عن أداء دورها الهدام، تحول هذا اللقب بصورة تدريجية إلى مجرد لقب لا يحمل أي طابع للإحساس باستقرار المشاعر، أو أي معنى من معاني الإساءة، وصار مجرد تعريف مميز لأصحاب الفكرة السلفية، ماهية الدعوة التي بشر بها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وأصبح هذا اللقب شائعاً ورائجاً بين الكتاب والمؤرخين الشرقيين والغربيين على حد سواء. وبالتالي فليس هناك ما يبرر هجر استعمال تلك الكلمة كتعريف شائع أو تعبير يستخدم في إطاره الصحيح للرمز إلى المضمون الفكري المقصود: وهو التمسك بالكتاب والسنة ومحاربة مظاهر الشرك والبدع، وما زج به في العقيدة السلفية وأدخل عليها من انحراف، مع ضرورة العيش في قيادة إسلامية عادلة تحكم الشريعة، وتلتزم تطبيق منهجه عملاً وتحمل الرعية على امتثال ذلك بأسلوبي الترغيب والترهيب، وإن أصروا على هذه التسمية نقول لهم قد أجاب العلامة الشيخ "ملا عمران بن رضوان" رحمه الله صاحب مدينة لنجة بهذه الأبيات وهي فخر وشرف ووسام يفتخر بها كل نجدي وغير نجدي من الموحدين، وهو يرد على الخصوم قائلاً: إن كان تابع أحمد متوهباً ... فأنا المقر بأنني وهابي أنفي الشريك عن الإله فليس لي ... رب سوى المتفرد الوهاب لا رقية ترجى ولا وثن ولا ... قبر له سبب من الأسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 أيضاً ولست معلقاً لتميمة ... أو حلقة أو دعة أو ناب لرجاء نفع أو لدفع بلية ... الله ينفعني وينفع ما بي1 ويقول الشيخ العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله في الرد على بعض الخصوم الحاقدين على هذه الدعوة والذين لقبوها بهذا اللقب: نعم نحن وهابية حنفية ... حنيفية نسقي لمن غاصنا السرا بمحكم آيات وسنة أحمد ... نصول على الأعداء فنأظرهم أطرا حنابلة كنا على نهج أحمد ... إمام الهدى من كان من كفركم يبرا على السنة الغراء قد كان قدوة ... لنا في الهدى لم يغد ما قاله شبر2 يقول أبو الهدي الصعيدي المصري رحمه الله: "إذا كانت الوهابية كما سمعنا وطالعنا، فنحن أيضاً وهابيون"3.   1 الهدية السنية ص 42. 2 ديوان ابن سحمان ص 51-98. 3 بين الديانات والحضارات –طه المولي ص 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 يقول الشيخ أحمد بن حجر آل أبو طامي: "من معاملة الله لهم –أي خصوم الدعوة بنقيض قصدهم هو أنهم قصدوا بلقب الوهابية ذمهم، وأنهم مبتدعة، ولا يحبون الرسول كما زعموا، صار الآن لقباً لكل من يدعو إلى الكتاب والسنة، وإلى الأخذ بالدليل، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة البدع والخرافات، والتمسك بمذهب السلف1. ويقول مسعود النووي رحمه الله: "وعلى كل حال، فنظراً إلى تلك المحاولات التي بذلت لإظهار الوهابية في صورة مذهب مستقل وطائفة ضالة، هذا الاسم منتقد أشد الانتقاد، ولكن بغض النظر عن هذه الأكذوبة والافتراء، فلا أرى حرجاً في هذه التسمية"2. إن اجتماع المسلمين على الكتاب والسنة أشد على أعدائهم من السلاح والعتاد، وأفتك بهم من الموت، وتوالت العصور وكانت شعلة النور الإسلامي موقدة تنير العالم، ذلك عندما كان المسلمون على صدق مع الله ورسوله، مستمسكيم بعقيدة التوحيد، وتوالت الأيمام وتسللت الأفكار الخبيثة إلى صفوف المسلمين، وارتدت الجموع الفارسية واليهودية والجاهلية لتتأهب وتتاح لها فرصة العمر فتنقض بانحرافاتها داخل المعاقل الإسلامية تحاول الإجهاز على المسلمين ودينهم، ولم تساهم في هذه المعارك جيوش ضاربة، وإنما كانت عقائد باطلة تحاول طمس منهاج الله تعالى وتشويه حقائقه وإنهاء دولته وتقليص نفوذه،   1 محمد بن عبد الوهاب ص 51. 2 محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ص 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 فتسللت الفلسفات اليونانية والإغريقية والفارسية، وظهرت التكايا والزوايا تربي الناس على الخمول والكسل والانحراف عن دين الله عز وجل، ولكن ... هل انتهى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ ... هل انتهت أمة الإسلام؟ .. لا ... وألف لا ... فالإسلام يحفظه الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9) . فبحفظ الكتاب والسنة لا تنتهي أمة الإسلام في الأرض، وبعلماء الإسلام العاملين وقادته المصلحين سيستمر العلم والتعليم لكشف الزيغ والحركات الضالة، وسوف تتربى الأجيال على الإسلام الصحيح وتتلقى القرآن فتفهم أحكامه وتحل حلاله وتحرم حرامه، وتفهم سياسته واقتصاده في شخوص رجال ونساء، إذا رأيتهم رأيت قرآناً يجري حركة حياة ونبضات قلوب تحتضن الوجود لتغمسه في بحر الإسلام ليغدو عطاء ورحمة، وهكذا كانت الدعوات الصحيحة والدعاة الصالحون في كل عصر وجدوا فيه، ولما قام الإمام محمد بن عبد الوهاب بدعوته الإسلامية كان يسلك مسلك السلف الصالح ويعيد الناس إلى الإسلام الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، ويزيل عن الناس كثيراً مما كان قد جلبه عليهم ابتعادهم عن الدين الخالص، وقد كانت هذه الدعوة الإسلامية منطلقاً صحيحاً للمسلمين في الإصلاح والتصحيح في العقيدة والعبادة والعمل والسلوك، لأن دين الإسلام هو طب البشرية كلها من كافة أدوائها، وأن التماس الهدى في غير ضلال وضياع، فكان الإمام محمد داعية إسلامياً ظهر في زمان سيطرت على المسلمين فيه أسباب الضعف السياسي، وأنواع الضلال الفكري، وصنوف الانحراف عن الصراط المستقيم، فكان رحمه الله تعالى رائداً في دعوته إلى منابع الإسلام الأولى، واتباع ما كان عليه السلف1 الصالح، ولذلك نسبت إلى   1 السلف: بالفتح في اللغة: المتقدمون: والراحلون من الآباء الأولون السابقون، وبيع السلم، وفي الشرع: اسم لكل من يقلد مذهبه في الدين ويتبع أثره، كأبي حنيفة وأصحابه، فإنهم سلف لنا، والصحابة والتابعون فإنهم سلفهم، وقد يطلق السلف شاملاً للمجتهدين كلهم. وقال بعضهم: السلف شرعاً: كل من يقلد ويقتفي أثره في الدين ... والصدر الأول يسمون: "السلف الصالح"، ومنه حديث مذجح: نحن عباب سلفها، انظر السلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، د. علي عبد الحليم محمود ص 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 السلفية فالاتجاه السلفي في أساسه يعمل على نقاوة العقيدة الإسلامية وتخليضها من الشوائب التي تفسدها وتميعها، والرد على الانحرافات التي ظهرت في المجتمع الإسلامي، والصمود في وجه الفرق الضالة، وبهذا تكون الدعوة الإسلامية السلفية هي دعوة الكتاب والسنة والدين الصحيح، هي دعوة البر والبركة، ودعوة التوحيد الحق، والاتباع السليم، والتزكية والطهارة، أي أنها باختصار دعوة الإسلام الصحيح التي بعث بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واتفق العلماء على أن السلف يراد بهم: أولاً: الصحابة، رضوان الله عليهم. ثانياً: التابعون لهم بإحسان، رحمهم الله تعالى. ثالثاً: تابعو التابعين. وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقول: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قال عمران: "فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. "ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن" 1.   1 رواه البخاري في فضائل الصحابة، ورواه مسلم وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ومذهب السلف هو –كما قلنا- ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وما كان عليه أعيان التابعين لهم بإحسان، وما كان عليه أتباعهم وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة وعرف عظيم شأنه بالدين وتلقى الناس كلامهم خلفاً عن سلف، كالأئمة الأربعة والسفيانيين والليث بن سعد وابن المبارك والنخعي والبخاري ومسلم وسائر أصحاب السنن دون من رمي ببدعة أو اشتهر بلقب غير مرضي، مثل: الخوارج والروافض والمرجئة والجبرية والجهمية والمعتزلة وسائر الفرق الضالة، والسلفية إذن تتمثل في توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالربوبية والألوهية، وإخلاص القول والعمل، والاتجاه به إليه سبحانه وتعالى وفق ما جاءت به الحنفية السمحاء والتي لا يقبل الله تعالى من أحد من عباده ديناً سواها، وهي العبودية الخالصة والتعبد لله وحده لا شريك له وفق ما جاء به نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد لازم الدعوة الإسلامية التي قام بها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما يلازم الدعوات الكبرى من نشاط فكري وحركي على الجانبين الإيجابي والسلبي1، ومن المؤشرات التي توزن بها ضخامة الدعوات الجديدة عنف حركة التأييد والمعارضة على السواء. ذلك لأن الدعوات الكبرى تفاجئ الناس عادة بغير ما عهدوا من مألوف المعتقدات والعادات فيتهيبها الناس في أول الأمر، ويستعظمون ما جاءت به، فإذا تدبرها بعض العقلاء واكتشفوا ما تنطوي عليه من الحق والخير تعصبوا لها تعصباً شديداً، ثم تجيء ردود الأفعال عن الذين يأكل قلوبهم الحسد على المكانة التي يحظى بها صاحب الدعوة بين أنصاره ومؤيديه، والزعماء الذين يتمسكون بالأمر الواقع الذي سودهم ولا يرحبون   1 من مقال للدكتور محمد محمد حسين أستاذ ورئيس قسم الأدب العربي بجامعة الإسكندرية رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 بالجديد الذي لا يأمنون عواقبه، لأن أي خلخلة للاستقرار القائم ستجلب معها زعامات جديدة تلائم الواقع الجديد، وبين هاتين الطائفتين من المتعصبين للتأييد والمعارضة ينشأ التطرف الذي يسيء إلى الدعوة في تطبيقها وتفسيرها من ناحية، وفي سوء فهمها والادعاء عليها بما ليس فيها من ناحية أخرى، وسمة أخرى من سمات الدعوات الكبرى لازمت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وهي تتمثل في تعرضها على أيدي أعدائها ومعارضيها للمحن، وثبات صاحبها على المكاره، ذلك لأن اتساع نفوذ الدعوة على مر الأيام يدفع أعداءها إلى الشعور بالخطر على أنفسهم وعلى مصالحهم فيبذلون كل ما يسعهم من جهد للقضاء على الدعوة وعلى صاحبها، وقد يذهبون في ذلك إلى حد تدبير المكائد والتخلص من صاحب الدعوة نفسه بقتله، ثم إن هذا الأذى والاضطهاد هو الاختبار الأكبر الذي يمتحن به صدق الدعوة وإخلاص صاحبها فإذا ثبت على دعوته وصبر على ما يلقى من اضطهاد زاد صبره صلابة وثباتا على مر الأيام، لأنه يزكي ويمكن لإيمانه، ويقوي توكله على الله عز وجل، ولكي توزن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب بميزان عادل يجب أن توضع في الاعتبار حالة المجتمع الذي نشأت فيه الدعوة قبل ظهورها لتقارن بحالتها بعد انتشارها، كما ينبغي أن توضع في الاعتبار ردود الأفعال التي لا بد أن تتسرب إليها وتشوبها في مقاومتها للوضع السائد الذي تعارضعه وتندد به، لأنها في دعوتها إلى نبذ الأوضاع القائمة والإنحرافات السائدة تشنع بها وتقدمها في أبغض الصور لكي تصرف الناس عنها وتبين لهم شناعة ما هم عليه من فساد الحال، ثم إن ذلك لا يزيد خصومها إلا لدداً في خصومتهم فيبالغون في التشنيع بها، ونشر قالة السوء عنها، وتصيد الأخطاء التي ربما وقعت من أتباعها، وحمل أفعالهم وتأويلها على أسوأ محمل، وربما فعلوا في ذلك أن يدعوا عليهم ما ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فيهم، وذلك كله مما يملأ قلوب أصحاب الدعوة وأتباعهم حنقاً فيكيلون لهم بمثل كيلهم، وهكذا فإن التفاعل لا بد أن يجر إلى شيء من هذه المبالغة التي يجب أن تكون موضع الاعتبار والتقدير عند الباحث، والذي يقرأ ما كتبه مؤرخو الدعوة عن عنف معارضيها1.   1 الدرعية العاصمة الأولى: عبد الله خميس ط (1) 1402 –الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 قصة عجيبة كان أحد العلماء الفضلاء في الهند يستقبل أبناءه الطلاب ويلقي عليهم دروس التفسير والحديث، وكان هذا الشيخ يبدأ درسه بعد الحمد لله والصلاة والتسليم على رسوله بالدعاء على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجماعته، يطلب من الله أن يطهر الأرض من شرورهم وآثامهم. وكان أحد أبناء نجد تلميذاً لهذا الشيخ، وكان من المستحيل عليه أن يرد الشيخ إلى الصواب، وسط هذه الأجواء من الادعاءات والافتراءات التي يشنها الأعداء وتحرص دولة كبرى كدولة الخلافة العثمانية، ومن ورائها الاستعمار وأذنابه، وكل أصحاب المذاهب والنحل الباطلة على النيل من هذه الجماعة وصاحبها. وفي يوم من الأيام ... فكر الطالب في أمر يرد به الشيخ إلى جادة الصواب، ويعرفه بحقيقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته السلفية. فما أن كان منه إلا أن نزع غلاف كتاب "التوحيد" للشيخ وقدمه لأستاذه طالباً منه قراءته وإبداء حكمه عليه. واستجاب الأستاذ لأمر الطالب وقرأ الكتاب فأثنى عليه ثناء منقطع النظير، بل وأضاف أنه من أحسن الكتب التي قرأها في هذا الباب، ومن أكثرها فائدة، وهنا كشف الطالب لأستاذه عن مؤلفه الذي يتقرب الشيخ إلى ربه بالنيل منه كل صباح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 فاستغفر الشيخ عما بدر منه في حق هذه الجماعة وصاحبها –وصار من أكثر المدافعين عنها الداعين لها"1. فكشف الله تعالى لهؤلاء زيف المفترين وعرفوا صحة الدعوة وحقيقتها، وأصبحت تلك التسمية لا ذكر لها إلا عند بعض الجهلة والدجاجلة والحاقدين، ومضت الدعوة الإسلامية على نهج السلف الصالح، وقامت الصحوة الإسلامية، ونرى اليوم جل علماء الإسلام يتبنونها، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.   1 انظر: بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول، بحث الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب. دكتور أبو عميرة ص 93-94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الفصل الرابع عشر: الفرية العاشرة موقف الإمام محمد بن عبد الوهاب من دولة الخلافة العثمانية ... الفرية العاشرة موقف الإمام محمد بن عبد الوهاب من دولة الخلافة العثمانية افترى الأعداء على الإمام وجماعته من الموحدين بأنهم خرجوا عن دولة الخلافة العثمانية، وأنهم خالفوا بذلك الجماعة، وشقوا عصا السمع والطاعة. وبهذا يقول دحلان: إن أتباع محمد بن عبد الوهاب "فارقوا الجماعة والسواد الأعظم"1. ويقول ابن عفالق: "أما توحيدكم الذي مضمونه الخروج على المسلمين ... فهذا إلحاد لا توحيد"2. ويقول الزهاوي العراقي: "إنهم عرفوا بالمروق عن طاعة أمير المؤمنين"3. ويقول الرافضي محسن الأمين العاملي: "الخوارج استحلوا قتال ملوك المسملين والخروج عليهم ... وكذلك الوهابيون4.   1 انظر الدرر السنية في الرد على الوهابية لزين بن دحلان ص 32. 2 انظر جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر ص 57 من هذه الرسالة. 3 انظر الفجر الصادق ص 73. 4 انظر كشف الارتياب عن أتباع محمد بن عبد الوهاب ط (1) مطبعة ابن زيدون، دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وهذا قليل من كثير مما قاله الذين ادعوا على الإمام محمد وأتباعه بأنهم خرجوا عن الخلافة وألفوا من الكتب والرسائل لحرب هذه الدعوة السلفية وتشويهها أمام العالم الإسلامي، حتى يوقفوا مسيرة هذه الدعوة المباركة التي أثارت القلوب والعقول ضد الخرافات والشرك والبدع. أما أن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأتباعه خرجوا عن الخلافة فإليكم الأدلة الواضحة التي تهدم أقوال هؤلاء المبتدعة. يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حين بعث رسالة1 لأهل القصيم: وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه"2. ويقول رحمه الله: "والأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع لمن تأمر علينا، ولو كان عبداً حبيشياً، فبين الله له هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند كثير ممن يدعي العلم فكيف العمل به3. ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، عليهم الرحمة: "ونرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية"4.   1 انظر الرسالة الكاملة في صفحة. 2 انظر مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج5 ص11. 3 نفس المرجع السابق ج1 ص394. 4 انظر الهدية السنية في فتاوى علماء نجد ص 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 يقول الدكتور عبد الله العثيمين: "مهما يكن، فإن نجداً لم تشهد نفوذاً مباشراً للعثمانيين عليها قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كما أنها لم تشهد نفوذاً قوياً يفرض وجوده على سير الحوادث داخلها لأية جهة كانت، فلا نفوذ بني جبر، أو بني خالد في بعض جهاتها، ولا نفوذ الأشراف في بعض جهاتها الأخرى أحدث نوعاً من الاستقرار السياسي، فالحروب بين البلدان النجدية ظلت قائمة، والصراع بين قبائلها المختلفة استمر حاداً عنيفاً"1. ويقول الدكتور عجيل النشمي: "نستطيع القول باطمئنان بأن كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس فيها تصريح بموقف عدائي ضد الخلافة"2. ويقول: "لم نعثر على أي فتوى له تكفر الدولة العثمانية، بل حصر إفتاءاته في البوادي القريبة منه، التي كان على علم بأنها على شرك"3. يقول الشيخ محمود مهدي الاستانبولي: والغريب المضحك والمبكي معاً أن يتهم هذا الأستاذ (يقصد عبد القديم زلوم) ، يقول:   1 انظر محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره ص 11. 2 مقالات الدكتور عجيل النشمي بمناسبة أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب والتي نشرتها مجلة المجتمع عدد (506) 17 محرم 1401هـ. 3 مقالات الدكتور عجيل النشمي بمناسبة أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب والتي نشرتها مجلة المجتمع عدد (506) 17 محرم 1401هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وصف حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها من عوامل هدم الخلافة العثمانية، مع العلم بأن هذه الحركة قامت حوالي عام 1811م، والخلافة هدمت حوالي عام 1922م!! 1. ولكن الخلافة العثمانية في استانبول لم يصلها عن هذه الدعوة المباركة إلا الافتراءات والكذب والبهتان. يقول الدكتور عجيل النشمي: "لقد كانت صورة حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لدى دولة الخلافة على صورة قد بلغت من التشويه والتشويش مداه، فلم تطلع دولة الخلافة إلا على الوجه المعادي لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، سواء عن طريق التقارير التي يرسلها ولاتها في الحجاز، أو بغداد، أو غيرها ... أو عن طريق بعض الأفراد الذي يصلون إلى الأستانة يحملون الأخبار2. ولا ننسى دور الإنجليز وفرنسا في تشويه هذه الحركة المباركة، كما شوهت الحركة السنوسية وحركة عثمان بن فودي. مع العلم بأن التاريخ يذكر أن هؤلاء الإنجليز وقفوا ضد هذه الحركة منذا قيامها خشية يقظة العالم الإسلامي3.   1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق محمد الإستانبولي ط1400هـ. 2 انظر مجلة المجتمع الكويتية عدد (504) 3 محرم 1401هـ. 3 الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة الشرق والغرب ص 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الباب التاسع عشر: موقف سليمان بن عبد الوهاب من دعوة أخيه الإمام محمد بن عبد الوهاب ... موقف سليمان بن عبد الوهاب1 من دعوة أخيه الإمام محمد بن عبد الوهاب هو الأخ الأكبر للشيخ محمد، ويظهر أنه منذ عهد الصغر رأى سليمان ما يحظى به أخوه من إيثار ورعاية وعطف من والديه، لما يتسم به من الذكاء، والفطنة، والمكانة، فنفس على أخيه ذلك، وشب حب التنافس بينهما، وإن كان يلطفه عند محمد روح الدين الذي عرف به مبكراً ونزعة التسامي إلى معالي الأمور وصلة الرحم، ومع المدى وبروز محمد وتفوقه، تحول الأمر عند سليمان إلى حسد لاهب، مما جعل سليمان لا يتورع عن العمل ضد أخيه بكل الوسائل ومختلف الأساليب حتى غير المشرفة2. الحسد هو الداء الذي أخرج آدم عليه السلام من قبل الشيطان، فسليمان بن عبد الوهاب حسد أخاه، بل تآمر عليه مع المتآمرين، ودبر مع العلماء المعارضين "ثورة حريملاء"، ومن ثم اتصل بأهل العيينة وأغراهم على الثورة ضد الإمام محمد بن عبد الوهاب ودعوته، والخروج عن السمع والطاعة. يقول الأستاذ محمد بن أحمد العقيلي: "لم يكتف بالتدابير والتحريضات حتى تفرد بكتابة رسالة مطولة إلى أهل   1 ولد الشيخ سليمان في العيينة، وتولى قضاء حريملاء، وأقام في سدير، توفي بالدرعية [انظر علماء نجد ج1 ص302] . 2 حياة محمد بن عبد الوهاب وآثاره العلمية –محمد بن أحمد العقيلي ص 91 ط1404هـ من منشورات النادي الأدبي –الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 العيينة، هاجم فيها العقيدة السلفية وناقض آراء آخيه، وفند أقواله وركز على تكفير المخالفين وقتال المرتدين، وبعث بالرسالة مع شخص يعرف "بالخويطر"1. وألف رسالة سماها: [فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب] 2، كان من آثارها نكوص أهل حريملاء محمد أتباع الدعوة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزت آثار الكتاب إلى العيينة، فارتاب وشك بعض من يدعي العلم -في العيينة- من صدق هذه الدعوة وصحتها3. قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف: "كان سليمان في بادئ الأمر مناوئاً لأخيه الشيخ محمد، معارضاً لدعوة التوحيد –حسداً وظلماً- وقد ألف رسالة يعارض فيها دعوة التوحيد ويرد فيها على أخيه الشيخ محمد، وقد وضع أعداء التوحيد لهذه الرسالة عنواناً وسموها (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) ، وطبعت بهذا العنوان سنة 1328هـ4. ويقول ابن العثيمين: "لم يقتصر نشاط سليمان على بلدته –حريملاء- وإنما بذل جهداً لإقناع أهل   1 نفس المصدر. 2 هذا الكتاب له أسماء أخرى منها: أ-حجة فصل الخطاب من كتاب رب الأرباب وحديث رسول الملك الوهاب وكلام أولي الألباب في إبطال مذهب ابن عبد الوهاب. ب- الرد على من كفر المسلمين بسبب النذر لغير الله. ج- فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب. 3 مجموع الشيخ ج1 ص281، وابن غنام ج2 252. 4 عنوان المجد في تاريخ نجد –تحقيق عبد الرحمن بن عبد اللطيف ص 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 العيينة بالخروج على الدعوة ودولتها، وكانت وسيلته في ذلك أن أرسل إليهم كتاباً ضمنه آراء تناقض آراء أخيه محمد في مسائل العقيدة"1. وقد حمل أعداء الدعوة المباركة مخالفة سليمان بن عبد الوهاب فطبلوا وزمروا، وفتحوا كل الأبواب، ومهدوا السبل لدعوة سليمان، وأشعلوا النار بين الطرفين، وطبع كتابه (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) مرات كثيرة. وقد ألفت الكثير من الرسائل التي تناوئ الدعوة مثل، رسالة في حكم التوسل: لمحمد حسنين مخلوف، ورسالة (النقول الشرعية في الرد على الوهابية) لحسن الشطي، و (المشكاة المضيئة في الرد على الوهابية) لابن السويد، وزينوا هذا الكتاب بالكذب والافتراء.   1 الشيخ محمد بن عبد الوهب ص 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الباب العشرون: هل رجع سليمان بن عبد الوهاب عن ضلالته ... No pages الجزء: 1 الباب الواحد والعشرون: أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في العالم الإسلامي تمهيد ... أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في العالم الإسلامي مضت سنة الله تبارك وتعالى منذ فجر البشرية البعيد في التفريق بين المصلحين والمفسدين، وبين المحقين والمبطلين، وأن أصحاب الباطل مهما تساندوا فيما بينهم ضد الحق، ومهما تألبوا عليه، ووالي بعضهم بعضاً ضده، فإنهم مهزومون، وأصحاب الحق هم المنصورون، لأن الحق أصيل في تصميم هذا الوجود، وما على المسلمين الموحدين إلا أن يمضوا بيقين جازم، وثقة قوية بوعد الله تعالى ونصره، لا يخامرهم شك، ولا يخالطهم قلق، ولا تتسرب إليهم ريبة، وحين يتيقن القلب المؤمن ويستوثق يعرف طريقه فلا يتلجلج ولا يتلعثم ولا يحيد، وعندئذ يبدو له الطريق واضحاً، والأفق منيراً، والغاية محددة، والنهج مستقيماً، ويردد في كل ما يأتي أو يدعو: وجهت وجي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد سلطانه إلا من الله عز وجل، ولا يمكن أن يهاب إلا سلطان الله تبارك وتعالى، فإذا أخلص لربه ولدعوته أيده الله سبحانه وتعالى، وجعل قلوب المخالفين والمعاندين تتوجه إليه بالمودة والرحمة والنصرة، وربما أصبحوا جنوداً للدعوة وخدماً، وبهذا يعلن الحق قوته وصدقه وثباته وحياته، فيندحر الباطل ويزهق ويتوارى، ومتى استقرت حقيقة الإسلام في دعاته وتمثلت في واقع حياتهم تجرداً لله ومنهجاً للحياة فلن يجعل الله للظالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 على الصالحين سبيلاً، وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها، ونحن نقرر في ثقة بوعد الله عز وجل لا يخالجها شك، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان، إما في الشعور وإما في العمل، وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ثم يعود النصر، ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئاً من هذا، فلا بد أن يدافع الموحدون عن التوحيد، وأن يلقوا في سبيله العنت والألم والشدة والضر، وأن يتراوحوا بين النصر حيناً والهزيمة حيناً آخر، حتى إذا ثبتوا على الحق لم تزعزعهم شدة، ولم ترهبهم قوة، ولم يهنوا تحت مطارق الفتن، استحقوا نصر الله عز وجل، لأنهم يومئذ أمناء على دين الله عز وجل، صالحون لصيانة الهدى الحق والذود عنه. إن النصر مدخر لمن يستحقونه، ولن يستحقه إلا الذين يصمدون للزلزلة، ولا يحنون رؤسهم إلا لله رب العالمين، فيهبهم قوة ويصفيهم، ويكسب دعوتهم عمقاً وحيوية وإشراقاً يتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها، وعندئذ ينحازون إليها بعدما كانوا يحاربونها، ويناصرونها بعد مناوءة وعداء، وهذا حصل للدعوة الإسلامية التي قام بها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فاستأسد عليها الثعالب، واستنسر عليها البغاتة، وتربص بها وبأصحابها المتربصون، ونكل بالمخلصين من أبنائها ونالهم كل مكروه باللسان واليد، والدعاة يعلمون أنها ليست أولى المحن التي مرت على المسلمين، وأنتم تعلمون أنه مرت على الجزيرة العربية أيام كانت منزوية، تمر مواكب الحياة من أمامها فلا تحس بها ولا تراها، لم يكن لها كلمة، ولم يخرج منها دعاة، ولا تملك جامعات، فانظروا مكانتها اليوم بحمد الله عز وجل، وتأملوا المسلمين اليوم في جزيرة العروبة، وموطن الإسلام الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 إن هذا من بركة دعوة الإمام المجدد والأمير المسدد، اللذين أخلصا لله عز وجل، وزهدا في الحياة، فصنع الله تعالى بهما ذلك كله، وبارك الله بتلك الجهود الخيرة، فظهر شباب ناشؤون في طاعة الله تعالى، مجاهدون في سبيله تركوا هواهم لطاعة ربهم، وشهواتهم لمرضاته، يؤمون المساجد ولا تردهم مشاغل الحياة عن طلب العلم ودعوة الناس إلى الخير، حتى انتشرت الدعوة الإسلامية الصحيحية في كل مكان، وصار لها دعاة موحدون مخلصون متحمسون، وإن النهار لهم، فلقد أذن مؤذن الصحوة الإسلامية متأثراً بدعوة الإمام، وامتد تأثيرها إلى جميع الأمصار، وقامت على أساس مبادئها حركات دينية إصلاحية لا حصر لها، ووجهوا ولاءهم الديني والسياسي شطر أمير الدرعية عبد العزيز بن محمد بن سعود، كما يقول عثمان بن بشر عن ولاء أهل الشام للدعوة الإسلامية: "ظهر مع عمال من حلب الشام قاصدين الدرعية، وهم ست نجائب محملات زكوات بوادي أهل الشام"1. وزاد الله عز وجل الدعوة نفوذاً وقوة وانتشاراً حتى وصلت إلى "أندونيسيا" شرقاً، وقد نقلها الحجاج الذين تلقوا العلم في المسجد الحرام، وتأثروا تأثراً عميقاً بالدعوة الإسلامية الصحيحة، فلما عادوا إلى بلادهم أخذوا يعلمون الناس التعاليم الإسلامية الصحيحة من الكتاب والسنة، وتخليص الإسلام مما خالطه من الشوائب، وكان له أياد بيضاء في مكافحة الاستعمار، وظهور ثمارها في البلاد العربية والإسلامية منه.   1 عنوان المجد في تاريخ نجد 8126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 الفصل الأول: الشام ... أولاً: الشام يقول ابن بشر عن ولاء أهل الشام للدعوة الإسلامية: ظهر عمال من حلب الشام قاصدين الدرعية، وهم ست نجائب محملات زكوات بوادي أهل الشام،1 وقد قامت حركات إصلاحية سلفية تحارب البدع والخرافات أمثال: الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله الذي قام بدور عظيم، وكان تلميذ جمال الدين القاسمي رحمه الله إمام زمانه وعصره، وكان سلفي العقيدة، وله من المصنفات حوالي 72 مصنفاً، وكذلك الشيخ محمد بهجت البيطار، والشيخ عبد القادر المغربي، والشيخ المجاهد كامل القصاب. وفي يومنا الحاضر الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ محمد مهدي استانبولي، الشيخ نسيب الرفاعي وغيرهم، الذين يجاهدون ضد الشركيات والخرافات والبدع. وبرز الشيخ محمد رشيد رضا: (1282-1254هـ) (1865-1935م) ، الذي أخذ يحارب البدع والخرافات في مصر، وأنشأ مجلة المنار التي رفعت راية التوحيد، وهي أول مجلة سلفية لهذا الشيخ وهو التلميذ المخلص لشخيه الأستاذ "محمد عبده"، وأصدر منها حوالي 34 مجلداً. وله الكثير من المؤلفات التي يشرح فيها مبادئ الدعوة السلفية المباركة، ومن أبرز تلك المؤلفات: كتابه (الوهابيون والحجاز) ، وكتابه (الوهابية والرافضة) ، وكتاب (المنار والأزهر) .   1 انظر عنوان المجد في تاريخ نجد ص 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الفصل الثاني: العراق ... ثانياً: العراق في العراق بلاد الفتن والقلاقل، ومواضع الرافضة في كربلاء والنجف، وأهل السنة في العراق الذين تأثروا بهؤلاء يشدون الرحال إلى قبور الصالحين وينشرون البدع والخرافات. ووسط هذا المستنقع الهائل من الشركيات والبدع والخزعبلات والشعوذة، ظهر بريق أمل يتمثل في بعض الصالحين المخلصين لرسالة الإسلام النقية البيضاء التي لا تشوبها شائبة، فوسط هذه الموجة الحمقاء، قامت أسرة عراقية كريمة مجيدة بتصحيح وتنقية الإسلام من الشركيات وعبدة الموتى والقبور والأعتاب، ومن أبرز هؤلاء الذي خاضوا غمار التصحيح: أ-محمود شكري الألوسي1: (1273-1324هـ) (1857م-1924م) . صاحب تفسير عظيم جليل هو [روح المعاني] في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. وله [فتح المنان في الرد على أهل البدع في الدين] 2. ب-محمود الألوسي (ت1835م) . وله تفسير للقرآن الكريم. ح-نعمان الألوسي (ت1899م) .   1 كان شريفاً مفتياً حنفياً للعراق، وكان يستنسخ تلاميذه كتب ابن تيمية ليتدارسوا مبادئه، ويؤلف الكتب في ذم الذين يستغيثون بغير الله والمعطلين والمشبهين من المتصوفة، وشرح عقيدة السلف وتحدث عن أمراء آل سعود وجهادهم، وخص الإمام محمد بن عبد الوهاب بذكر عاطر. 2 انظر الأعلام للزركلي ج8 ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 الفصل الثالث: اليمن ... ثالثاً: اليمن في اليمن السعيد المجاور ظهر عالمان لهما مكانتهما في ديار اليمن، وهما: 1- الإمام محمد بن علي الشوكاني (1172هـ - 1255هـ) ، (1759م-1834م) ، فتأثر هذا الإمام الجليل بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية، فقام رحمه الله بنبذ البدع والخرافات، ودعى إلى التوحيد الخالص. وألف كتابه الشهير [نيل الأوطار في منتقى الأخبار] لأبي البركات، مجدد الدين بن عبد السلام بن تيمية، جد شيخ الإسلام، ومجدد الدين أحمد بن عبد السلام بن تيمية (661هـ-728هـ) . كما ألف رسالة في الاجتهاد سماها: (القول المفيد في حكم التقليد) . وحينما علم وفاة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رثاه بقصيدة مطلعها: مصاب دهى قلبي فأذكى غلائلي ... وأصمى بهم الافتجاع مقاتلي 2- والشيخ الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني (1099هـ-1182هـ) الذي تأثر بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، ودعا أهل اليمن إلى التوحيد وترك التوسل بقبور الصالحين، ونزع الخرافات والبدع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وقد بعث الأمير الصنعاني بقصيدة1 رائعة إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب يمدح فيها دعوته السلفية، يقول فيها: سلامي على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي ولكن أهل الخصوم يقولون بأن الأمير الصنعاني رجع عن تأييده لهذه الدعوة المباركة ونقض قصيدته بقصيدة أخرى شرحها حفيده يوسف بن إبراهيم الأمير، بعنوان (محو الحوبة في شرح أبيات التوبة) 2. وقد قام المجاهد الشيخ سليمان بن سحمان وألف كتاباً سماه (تبرئة الشيخين الإمامين عن تزوير أهل الكذب والبهتان) ، دافع فيها عن الشيخين الجليلين محمد بن عبد الوهاب والصنعاني، وأكد الشيخ سليمان بن سحمان عدم صحة أدلة القصيدة التي نقض بها المدح: إنما هي موضوعة ومكذوبة على الصنعاني، لأنها تخالف ما كان عليه الصنعاني من اتباع السنة وذم البدع وأهلها، كما هو ظاهر في كتبه، وقد ورد صريحه لما قرره الصنعاني في كتبه مثل "تطهير الاعتقاد"، فمن ذلك أن القصيدة وشرحها قد تضمنتا الزعم بأن دعاء الموتى والاستغاثة بهم كفر عملي، والإمام الصنعاني قد عرف عنه أن الاستغاثة بالموتى ودعاءهم من الكفر الاعتقادي المخرج عن دين الإسلام3.   1 هو محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسيني المعروف بالأمير، ولد سنة 1099هـ، توفي سنة 1182هـ، من كتبه: توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار في مصطلح الحديث، وسبل السلام. انظر الأعلام 6/38. 2 انظر كشف النقاب ص 75. 3 انظر تبرئة الشيخين للشيخ سلمان بن سحمان ط (1) مطبعة المنار –مصر 1343هـ ص982-195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الفصل الرابع: مصر ... رابعاً: مصر كثير من المصريين تأثروا بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وساهموا في نشر العقيدة السلفية بين المصريين، وتعتبر مدرسة الإمام محمد عبده (1323هـ) المدرسة السلفية التي تأثرت بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وكان محمد عبده أكبر أمله أن يقدم في حياته للمسلمين عملاً صالحاً، فقاده اجتهاده وبحثه إلى هذين الأساسيين اللذين بنى عليهما الشيخ محمد بن عبد الوهاب تعاليمه وهما: 1- محاربة البدع، وما دخل على العقيدة الإسلامية من فساد بإشراك الأولياء والقبور والأضرحة مع الله تعالى. 2- وفتح باب الاجتهاد الذي أغلقه ضعاف العقول من المقلدين، وجرد نفسه لخدمة هذين الغرضين1. محمد حامد الفقي: من أبرز أنصار هذه الدعوة في مصر، والذي أسس (جمعية أنصار السنة المحمدية) ، وهذه الجمعية إلى يومنا الحاضر تقوم بالذود عن التوحيد وتصدر مجلة أسبوعية تسمى: (التوحيد) . وقد ألف محمد حامد الدين رحمه الله الكثير من الكتب، منها كتاب (أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمران في جزيرة العرب) ، وكذلك عبد الرحمن الوكيل: مؤلف كتاب هذه هي الصوفية، خليل الهراسي، عبد الرزاق عفيقي: عضو هيئة كبار العلماء بالرياض. ويوجد اليوم ولله الحمد كثير من إخواننا المصريين السلفين الذي ينشرون العقيدة السلفية ويحاربون البدع والخرافات والوثنيات الصوفية.   1 انظر زعماء الإصلاح في العصر الحديث –أحمد أمين ص 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الفصل الخامس: المغرب ... خامساً: المغرب أما في المغرب العربي، فقد استقبل أهله دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقناعة، وتأثروا بها في العمل، بعد أن أدركوا منها انتهاج الدرب السليم الذي دعا إليه نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها أصحابه من بعده، ثم من بعدهم في عصور ازدهار دولة الإسلام، وأن الشيخ ما هو إلا مجدد لدرب اندرست معالمه ومقتف آثار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بعد أن أدرك كما أدرك غيره من المجددين، أن سعادة الأمة لا تتم إلا في نبذ كل أمر محدث يتناقض مع المحجة البيضاء التي ترك الرسول صلى الله عليه وسلم أمته عليها. ويتضح استقبال أهل المغرب لهذه الدعوة في أمور تاريخية ثابتة، هي من الحقائق التي تجعلها واضحة للبيان، ضمن مقال لأحد المستشرقين يقول فيه: "إن الإمام سعود بن عبد العزيز، والشيخ محمد ابن عبد الوهاب بعثا رسالة مطولة إلى أهل تونس، لشرح عقيدة التوحيد، وأصول الدين، وما تنطوي عليه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتقع هذه الرسالة في ثلاث صفحات"1. وقد كان لهذه الرسالة صدى لدى حكام المغرب العلويين الذين قامت دولتهم لمحاربة النصارى، والنهوض بالمغرب من عام 1631م في المغرب الأقصى2 الإسلامي. وكان من أقوى سلاطين الدولة العلوية سيدي محمد بن عبد الله العلوي:   1 انظر صحيفة إسلاميكا الألمانية –العدد الأول- المجلد السابع- الصادر عام 1935. 2 راجع كتاب المغرب الكبير د. جلال يحيى 3/65-66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 (1757م-1790م) الذي اهتم بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بعد أن درسها وأدرك ما تدعو إليه من التجديد الصحيح للعقيدة، وتنقيتها من الخرافات والبدع، فتأثر بهذه الدعوة واستجاب لها بعد أن أدرك ما تنطوي عليه، ولذا قام بمحاربة البدع والانحراف، كما كان رحمه الله يحارب تشعب الطرق الصوفية التي تسيء إلى عقيدة المسلمين، ودعا إلى الاجتهاد والسنة1، وقد وصلت إليه معلومات كثيرة عن هذه الدعوة الإسلامية بواسطة الحجاج المغاربة الذين عرفوها أثناء زيارتهم للحجاز في مواسم الحج، ودرسها كثير من المؤرخين والباحثين الفرنسيين، فأثنوا على دروها في تنقية الإسلام من البدع والخرافات الداخلة عليه. وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي معاصراً للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد كتب بدوره إلى العلماء يدعوهم إلى انتهاج منهج السلف الصالح، ومؤازرة دعوة الشيخ محمد التي انتشرت في الجزيرة العربية. وقد وصفه المؤرخ الفرنسي شارلي جوليان بقوله: "كان سيدي محمد بن عبد الله العلوي، وهو التقي الورع على علم –بواسطة الحجاج- بانتشار الحركة الوهابية في الجزيرة العربية، وتأييد عائلة آل سعود لها، وقد أعجب بعبارتها، وكان يؤثر عنه قوله: "أنا مالكي المذهب، وهابي العقيدة، وقد ذهبت به حماسته الدينية إلى الإذن بإتلاف الكتب المتساهلة في الدين والمحللة لمذهب الأشعرية، وتهديم بعض الزوايا"2. وقد تعرض خير الدين الزركلي لترجمة المولى سليمان، وذكر مصادر تلك   1 انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب –محمد كمال جمعة ص235. 2 تاريخ أفريقيا الشمالية –شارلي جوليان: تعريب محمد المزالي، والبشير بن سلامة ج2 ص311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الترجمة التي أثبتت حياته واهتمامه الإسلامي، وحرصه على عقيدة السلف الصالح، وهي: الاستقصاء. والدرر الفاخرة، وفهرس الفهارس، وشجرة الدر1، وأكدت دائرة المعارف الإسلامية على تأثر المولى سليمان بحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد عام 1810م، الموافق لعام 1225هـ، مما جعله يتخذ موقفاً صارماً ضد المربوطية، وهو اللقب الذي كان يطلق في المغرب2 على الصوفيين، وفي نفس الوقت الذي كانت فيه الطرق الحديثة النشأة تحظى بانتشار كبير في المغرب، وجاءت بعد ذلك الحركة السنوسية3 التي ابتدأها في الجزائر محمد بن علي السنوسي في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وقد تأثر السنوسي بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عندما كان في مكة، حيث كان يطلب العلم، ولقد تزعم الدعوة إلى منهج السلف الصالح الشيخ أبو شعيب   1 الأعلام –خير الدين الزركلي 3/197-198. 2 الشيخ محمد عبد الوهاب عقيدته السلفية –أحمد بن حجر بن محمد آل بو طابي ص 106-107. 3 من أولى الحركات التي انبعثت من دعوة التوحيد قد صيغت على نحو جامع محرر لمفهوم الإسلام المتكامل بين الزهد والفقه والعبادة بتشكيل تربوي على نمط الصوفية، متحرراً من أخطاء الصوفية وانحرافاتهم، واستطاعت أن تكون جيلاً قادراً على نشر الإسلام في أنحاء أفريقيا، وكان رد فعل ضخم للتحدي الذي واجه العالم الإسلامي باحتلال الفرنسيين للجزائر وعودة الحروب الصليبية، وإذا كان الإمام محمد بن عبد الوهاب قد انطلق من الدرعية فإن السنوسي رحمه الله انطلق من زاوية "البيضاء" بالجبل الأخضر، والتي كانت تضم مسجداً ومدرسة لتحفيظ القرآن، وتدريس العلوم الشرعية. وكان الكتاب المستعمرون الأوروبيون يحذرون منها كما كانوا يحذرون من خطر الدعوة الإسلامية في نجد، حتى قال: "مسيو ردوفرير جن": إن السنوسية هي المسؤولة عن جميع أعمال المقاومة التي قامة ضد فرنسا في الجزائر، وإن السنوسية هي المدبرة لجميع نكبات فرنسا في الشمال الإفريقي والسنغال، وإنها أيدت ثورة محمد بن عبد الله في تلمسان، وصحراء الجزائر (1848-1861) ، وثورة الصادق في جبال الأوراس (1879) ، وثورات أولاد سيدي الشيخ (1879-8181) ، عالم الإسلام المعاصر 3/216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 الدكالي، أحد كبار المحدثين، والذي أقام في مكة مدة تزيد على عشر سنوات، قام خلالها بتدريس الحديث في الحرم المكي، ثم عاد إلى المغرب حيث أصبح زعيماً للحركة السلفية لمدة تزيد على ربع قرن، ونشر بالفكرة السلفية، وحارب البدع والضلالات1. من هذه النقول الوثائقية، ندرك اهتمام المغاربة2 بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحرصهم عليها، لأنهم وجدوا فيها نقاوة الإسلام واتباع هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم ودعوتهم إلى الكتاب والسنة في كل أمر يعترض، سواء كان تعبدياً أو عقدياً، أو في شوون الحياة، وأن كثيراً من علماء المغرب قد تأثروا بعد دراسة وتمحيص، وبعد اكتشافهم للأكاذيب التي حبكها المخرفون، والجاهلون حول الشيخ ودعوته، فبعثوا العلماء للمناظرة، وللوقوف أمام الحقيقة التي ظهرت لهم، وهذا منهج العلماء في البحث والتدقيق والتمحيص والتحقيق، ونبذ الدعايات والمقالات التي لا تستند إلى علم موثق بفهم حقيقي لكتاب الله جل وعلا، وصحيح السنة النبوية. من أجل ذلك صارت دعوة الإمام في كل مكان، واستقرت في كل قلب يرجو الله، والدار الآخرة، ويدعو إلى الله على بصيرة، ويتفهم تعاليم الدين بروية وعلم، وما زالت منذ انبلاج صبحها تلقى القبول في النفوس، وتزداد رسوخاً مع الأيام، وتتوسع بين الجماهير الظامئة، رغم محاولات الأعداء اليائسة التي تقف ضدها، وتبث الفرقة بين المسلمين بالأكاذيب والمفتريات.   1 انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب –محمد كمال جمعة ص 237-238. 2 برز من أصحاب المنهج السلفي في المغرب بالإضافة إلى أبي شعيب الدمالي: محمد بن العربي العلوي، وعبد العزيز الثعالبي، والطاهر بن عاشور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 الفصل السادس: الجزائر ... سادساً: الجزائز كان أول من حمل الدعوة إلى الجزائر المؤرخ الجزائري "أبو رواس الناصري"، الذي قدر له أن يجتمع بتلامذة الإمام محمد بن عبد الوهاب في موسم الحج، ويذاكرهم في أمور انتهى بعدها إلى الاقتناع باتجاه حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وكان ذلك بحضور وفد الحجيج المغربي الذي كان يرأسه ولي عهد المغرب آنذاك، وقد أشاد المؤرخ "أبو رواس" بآراء ابن عبد الوهاب عندما دون تفاصيل رحلته للحج بعد عودته إلى الجزائر1. والبطل المجاهد الشيخ محمد بن علي السنوسي الخطابي الذي ولد في الجزائر سنة (1202هـ1787م) ، والذي جدد الإسلام في ليبيا حين ترك الجزائر وقاوم الاستعمار الإيطالي في ليبيا. وقد تأثر الإمام محمد بن علي السنوسي بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب حين ذهب لأداء الحج. حيث بقي مدة يأخذ من أساتذتها السلفيين2، فدعوة الإمام محمد بن علي السنوسي في ليبيا تشابه دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب. يقول العقاد: "تشابهتا في حماسة الدعوات وفي نبذ البدع والخرافات والرجوع بالإسلام إلى الكتاب والسنة، ولكنهما تختلفان بعد ذلك في أمور كثيرة"3.   1 أثر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في الجزائر/ عبد الحليم عويس ص 17 ط1405. 2 الإسلام بين النظرية والتطبيق، ص 106. 3 الإسلام في القرن العشرين: طبع مكتبة نهضة مصر ص 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 والشيخ المجاهد محمد البشير الإبراهيمي: الذي كان له دور لا ينسى في محاربة الاستعمار الفرنسي وصد جيوش حلف الأطلسي، وكان رحمه الله مع أنه يحارب الاستعمار محارباً للبدع والخرافات. والشيخ المجاهد: عبد الحميد بن باديس (1305هـ-1359هـ -1887م-1940م) فقد تأثر بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب عندما أدى فريضة الحج إلى مكة المكرمة، واجتمع مع علماء الدعوة السلفية. وأسس ابن باديس جمعية على أساس من المبادئ السلفية، فدعا إلى إصلاح عقيدة المسليمن في الجزائر من أنواع البدع والخرافات، كما دعا إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد الأعمى والجمود الفكري، وذلك بالتعمق في دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية، ولقد كان لجمعيته دور كبير في محاربة الاستعمار الفرنسي في الجزائر. حتى نال استقلاله عام (1382هـ - 1962م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الفصل السابع: ليبيا ... سابعاً: ليبيا تأثر الإمام محمد بن علي السنوسي الخطابي الذي ولد في الجزائر بوهران سنة (1202هـ-1276هـ/1787م-1859م) . والذي تنسب إليه الدعوة السنوسية1. يقول الأمير شكيب أرسلان: "من أعظم أبطال المسليمن، وهو خاتمة مجاهدي الإسلام، ولولاه لاحتلت إيطاليا قطرى طرابلس وبرقة من الشهر الأول من غارتها الغادرة عليهما2. وقد حج، وفي الحج مكث في مكة يطلب العلم، وقد كانت مكة تحت حكم آل سعود سنة 1829م، فتأثر بالعقيدة السلفية، وبعد أن تتلمذ على علمائها، عاد إلى الجزائر يباشر دعوته. وقد حققت هذه الدعوة النتائج الآتية: أولاً: النهضة الشاملة. ثانياً: معاداة الاستعمار. ثالثاً: نشر الإسلام ومقاومة التبشير. رابعاً: تخريج العلماء والأدباء3.   1 انظر: كتابنا" ماذا تعرف عن السنوسية، الجزء الثاني". 2 حاضر العالم الإسلامي، لشكيب أرسلان ج3 ص399. 3 انظر تأثر الدعوات الإصلاحية الإسلامية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: للدكتور وهبة الزحيلي ج2 ص328 نشر في أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب –مركز البحوث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الفصل الثامن: تونس ... ثامناً: تونس في تونس الخضراء تأثر كثير من العلماء، ولكن لم يشتهروا كما اشتهر خير الدين باشا التونسي (1225-1307هـ) (1810م-1879م) ، الذي تأثر بالشيخ محمد بن عبد الوهاب في دراسته، وتكوينه الفكري، وإدراكه مشكلات المسلمين، وقضايا العالم الإسلامي، وهو شركسي الأصل، كان وزيراً للحربية سنة (1273هـ-1279هـ) ، في عهد باي تونس محمد باشا، كما عين في الأستانة في عهد السلطان عبد الحميد وزير دولة، ثم رئيساً للوزارة في شهر كانون الأول سنة (1878م/1295هـ) . ووضع كتاباً سماه (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) . وأوضح خير الدين أن الأمم الإسلامية لا تصلح إلا بالنظام القائم على الشورى الذي يفيد الحاكم، وأن العدل والحرية هما ركنا الدولة، وأن أعداء الإصلاح الذين يرون أن الإصلاح بدعة من بدع آخر الزمان هم جهلة1.   1 زعماء الإصلاح ص 146-158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 الفصل التاسع: السودان ... تاسعاً: السودان فقد تأثر محمد بن عبد الله المهدي1 بالدعوة الإسلامية الصحيحة التي قامت في الحجاز، وأسس على غرارها دولته المهدية عام (1881-1884) ، وامتدت حتى سقوط السودان عام (1898) ، وقد لاحظ المؤرخون وجود شبه بين الحركة المهدية والحركة الإصلاحية السلفية التي قام بها الإمام محمد بن عبد الوهاب، هذا التشابة واضح في تشديد المهدي في مبادئ التوحيد وجعل التعبد لله وحده، وتحريم التطلع للأولياء وزيارة قبورهم، والامتناع عن شرب "التنباك" ... ، والمهدي أراد أن يزيل الفروق المذهبية بجميع السوادن على دين واحد، ومذهب واحد، وطريقة واحدة، فألغى المذاهب الأربعة، وألغى الطرق الصوفية، وروض الناس على الزهد في الدنيا، ومحاسبة النفس2 ... ". وفي غرب إفريقيا قام عثمان بن فودي3، الذي استطاع أن يكون دولة واسعة هناك على أنقاض إمارات الهوسا أو الحوصا، قائداً للجهاد، حارب فيه البدع التي وقع فيها المسلمون، كما حارب الوثنية المتفشية، وحاول نشر الإسلام مكانها"4.   1 انظر كتابنا: "ماذا تعرف عن المهدية"، الجزء الثالث. 2 انتشار الدعوة السلفية: الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 223، نقلاً عن الدكتور حسن أحمد محمود. 3 راجع بتوسع انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب –تأليف محمد جمال جمعة ص103. 4 راجع كتاب حاضر العالم الإسلامي 3/23، وموسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية 6/225-229، والموسوعة العربية الميسرة ص1188، وكتاب الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ 1/207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 يقول لوثروب ستودارد: "أما في السودان فقد كان الداعية الوهابي هو الشيخ عثمان دانفوديو"، أحد أفراد قبيلة الفولاني، وهي من قبائل الرعاة السودانية، فإنه بعد التقائه بالوهابيين في موسم الحج، وبعد اعتناقه للمبادئ الوهابية، عاد إلى بلاده، وأخذ يحارب البدع الشائعة بين عشيرته وقومه، ويعمل للقضاء على بقايا الوثنية، وعبادة الأموات، التي كانت لا تزال مختلطة بالعقيدة الإسلامية في نفوس السودانيين، ثم أخذ ينشر تعاليم الدين الإسلامي الصحيحة، ويذيع مبادئ ابن عبد الوهاب، فاستطاع أولاً أن يجمع قبيلته في وحدة متماسكة"1، أما في الهند فقد كان لدعوة أحمد عرفان علاقة كبيرة ووثيقة بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث قام يدعو هناك إلى إحياء معالم الدين وتخليصه مما علق به من البدع والمحرمات، ورده إلى صفائه ونقائه، ودعوة المسلمين إلى عقيدة التوحيد، وإلى عزة الإيمان، وأخلاق الإسلام وآدابه، وألا يقبلوا الدنية في دينهم، وألا يرضوا بسلطان إلا سلطان الإسلام، وأن يكون الحكم اليوم صورة كاملة لما كان عليه الحكم في صدر الإسلام.   1 المصدر السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 الفصل العاشر: دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب نبراس يقتدى بها ... دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب نبراس يقتدى بها ومن خلال هذه الدعوة قامت حركات مقاومة عسكرية كثيرة في العالم الإسلامي، لمواجهة الاستعمار، وأبرز هذه الحركات حركة الأمير عبد القادر (1830-1846) ، وحركة أحمد عرابي (1882) ، وثورة الهند ضد الإنجليز (1852) ، وحركة الشيخ شامل في القوقاز، وحركة الشيخ عبد الكريم الخطابي في المغرب (1926) ، ودعوة أحمد خان1 في الهند، وجمعيات الإصلاح في أرجاء أندونيسيا والبنغال وباكستان كل هذه الحركات كانت ببركة دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، والتي بارك الله تعالى فيها، فامتدت لتمثل الطليعة الأولى ليقظة المسلمين بعد سبات عميق، وظهرت في أنحاء العالم الإسلامي حركات تستمد مفهومها وتستقي تعاليمها من الدعوة الإصلاحية التوحيدية الخالصة التي قام بها الإمام محمد بن عبد الوهاب ومن آزره. وهكذا على الرغم من وجود العوائق الكثيرة في وجه الدعوة الإسلامية المجددة، فقد قيض الله تعالى لها عوامل مهمة دفعت بها إلى سماء الانتشار في أقطار مختلفة ومتفرقة من العالم الإسلامي، وقد استطاع القائمون عليها بفضل الله تعالى ثم بفضل إخلاصهم العظيم، وعلمهم   1 حج إلى مكة وتأثر بالدعوة الإسلامية الصحيحة، ثم عاد إلى البنجاب لينشرها بين الناس فكثر أتباعه، واستعمل القوة لمقاومة البدع، وقد جعله الله تعالى سبباً في نهضة المسلمين بالهند وباكستان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 الصحيح، وإيمانهم العميق، وثباتهم على الحق أن ينتصروا على جميع الخصوم والمناوئين، فيحملوا أكثر المجافين على الاعتراف بقوة الحق، وسيطرة النور على الظلمات، وعلى هذا فإن واجب علماء الدعوة وأنصارها أن يستمروا في إعلان الحقائق التي كان الجهل بها سبباً لتشويه سمعة المسلمين الموحدين عن طريق أعداء الإسلام والمسلمين، ولا بأس أن نذكر ما قاله رئيس الوفد الأوروبي في الندوة العلمية التي عقدت في المملكة العربية السعودية ابتداء من 22مارس 1972 الموافق 7 صفر 1392. وكان الوفد الأوروبي مكوناً من وزير خارجية إيرلندا رئيس المجلس الأوروبي والرئيس السابق للجنة التشريعية الدولية، وعضوية أستاذ القانون بكلية بوايزانسون، ومدير المجلة الدولية لحقوق الإنسان، ومدير قسم حقوق الإنسان في المجلس الأوروبي، وأستاذ الدراسات المدنية الإسلامية المستشرق لادوست، ولفيف من رجال الفكر والقانون في أوربا. وفي نهاية الندوة العلمية وبعد أن شاهدوا واقع المجتمع الإسلامي في جزيرة العرب، بفضل الله عز وجل، ودينه العظيم أعلن المستر ماك برايد رئيس الوفد تهنئته للدولة التي قامت على أساس الإسلام والتوحيد، وعلى ما حققته من مفاخر بفضل العقيدة الصحيحة ... إلى أن قال: "وإنني بصفتي مسيحياً أعلن هنا أن هذا البلد الإسلامي يعبد الله حقيقة. نورد هذه العبارة لأولئك الذين ما زال الحقد والحسد يغشي أبصارهم عن رؤية الحق، ولم يسلكوا مسلك المسلمين الموحدين، ويقتدوا بهدى رسول العالمين صلى الله عليه وسلم، ولكن لله تعالى في خلقه شؤون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وقديماً قال أبو الحسن التهامي: ومن الرجال معالم ومجاهل ... ومن النجوم غوامض ودراري والناس مشتبهون في إيرادهم ... وتباين الأقوام في الإصدار عمري لقد أوطأتهم العلى ... فعما ولم يقضوا على آثاري لو أبصروا بقلوبهم لتبصروا ... وعمى البصائر عن عمى الأبصار ولا بد أن يأتي اليوم إن شاء الله الذي يرفع فيه جميع الحواجز التي وضعها المرجفون الجاهلون والكافرون الجاحدون لقمع انتشار الإسلام دين الهدى والحق، وسيعلم الناس أن شفاءهم من جميع أدوائهم لا يوجد إلا في الإسلام، وقيمه الأصيلة، وعقيدته الصافية، وشريعته العادلة. وما زالت الدنيا مفتوحة بقدر للعلماء العاملين، والدعاة المخلصين، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 الباب الثاني والعشرون: وقفة مع أفكار المتصوفة ... وقفة مع أفكار المتصوفة1 لقد قامت الدعوة إلى الله عز وجل نقية صافية، متمحصة عن سلامة العقيدة، وصفاء الطوية، والاقتداء بالسلف الصالح من القرون الثلاثة المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان. إلا أن المتصوفة الجهال الذين قامت بدعهم على التذوق، لا على النصوص الصحيحة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، نراهم قد تعلقوا بأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، وقد أبدى المسلمون الصالحون استياءهم، وتمرغت وجوهم من هؤلاء الجهلة، ومكابرتهم، وسوء معتقدهم، وخروجهم عن ربقة الإسلام بما ينشرون من شركيات وضلالات ومنكرات، فلما لاحظوا استغراب الناس لها منذ زمن بعيد، ودهشتهم منها، قالوا: "بأن علومهم علوم ذوقية، لا يكاد النظر يصل إليها إلا بذوق ووجدان، كالعلم بكيفية حلاوة السكر، لا يحصل بالوصف، فمن ذاقه عرفه2، ولذلك استعملوا طريقة الكشف، والأحلام والخواطر في تفسير القرآن الكريم، محتجين بحديث يسندونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه: "أن القرآن ما من آية إلا ولها ظاهر وباطن، وحد ومطلع، ولكل مرتبة من هذه المراتب رجال، ولكل طائفة من هذه الطوائف قطب، وعلى ذلك القطب يدور فلك ذلك الكشف3، ولا نستغرب إذا علمنا أن المصادر التي يستقي منها المتصوفة الجهال   1 انظر كتابنا: "ماذا تعرف عن الصوفية" الجزء الأول. 2 عوارف المعارف على هامش إحياء علوم الدين 1/246. 3 روي هذا الحديث الموضوع ابن عربي في الفتوحات المكية 1/242، وقال فيه: "وقد أجمع أصحابنا أهل الكشف على صحته" ... ‍‍! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 هي علم الكلام1، والأفلاطونية2، والزهد الأعجمي3، والرهبنة النصرانية4 تبين لنا فساد عقائدهم، وهي التي أخذ عنها الحلاج عقيدة الحلول، حيث يقول: وحلت روحك في روحي كما ... تمزج الخمرة بالماء الزلال فإذا مسك شيء مسني ... فإذا أنت أنا في كل حال5 وقد سموا أوهامهم إلهاماً وعلماً إلهياً، وغالوا في الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهرت منهم فيه عبارات خطيرة، وهو الذي حاطه الله عز وجل حياطة شديدة في سورة الإسراء6، حتى لا يدع مجالاً لمتخابث في حبه، أو مغال ذي نزعة فارسية، حاقدة على الإسلام الصافي –أن يعبث في مقامه صلى الله عليه وسلم ويربطه   1 راجع كتاب اللمع للسراج، والتعرف للكلاباذي، والرسالة للقشيري. 2 صاحب فكرة الكشف والشهود –راجع كتاب- الإيضاح في الخبر المحض. 3 يظهر هذا من خلال طقوسهم، ورياضتهم، وأساليب مجاهداتهم، وضربهم للشيش.. الخ. 4 واعتقادها اللاهوتي والناسوتي، يقول الحلاج: سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب حتى بدا لخلقه في ... صورة الآكل والشارب 5 الطواسين ص 134. 6 أعني الآيات: 11-90-93 من السورة ذاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 بالدواوين الباطنية المزعومة1، التي كونت لها في عالمنا الإسلامي المغلوب على أمره جيوشاً من المجانين، والمجاذيب، والدراويش، الذي اصطنعوا لهم كرامات مزعومة، وأساطير خرافية استمع لها الزنادقة، وخطبوا بها على المنابر والمحافل تمجيداً لأهلها، ودون أفكارها، وشنعوا على المسلمين الموحدين، وحملوا على العلماء الصالحين حملة قاسية، وشبهوهم بالفراعنة، حتى قال قائلهم: "وما خلق الله أشق ولا أشد من علماء الرسول على أهل الله المختصين بخدمته العارفين به من طريق الوهب الإلهي، الذي منحهم أسراره في خلقه، وفهمهم معاني كتابه، وإشارات خطابه، فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل ... "2. ويشكك أبو يزيد البسطامي في المصادر الشرعية لعلماء المسلمين فيقول: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، يقول أمثالنا حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون حدثنا فلان، وأين هو؟ قالوا: مات عن فلان، قال: وأين هو؟ قالوا: مات"3. وقد اعتمد المتصوفة الجهال طريق التأويل، ومصطلحات الشيعة مما يثبت الصلة الوثيقة بين المتصوفة والباطنية، ولقد سمعت "هادي المدرسي"4 يؤكد هذا ويقول: "إن جميع الطرق الصوفية على الإطلاق تنتسب إلى آل البيت؟   1 انظر كتاب الإبريز 2/2. 2 راجع الفتوحات المكية 1/363-64-65. 3 لمحات عن التصوف ص 42. 4 هادي المدرسي: من علماء الشيعة، وهو لبناني الجنسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وتأويلاتهم واضحة في كتبهم، ومن هنا فلا غرابة إذا حمل علماء الشرع الشريف على المتصوفة، واتهموهم بالحمق والجنون، أو بالكفر والإلحاد، ولم يتقولوا عليهم أو يفتروا، وإنما أدانوهم من أقوالهم، كهذه التي يقول بها ابن عربي أنه هضم ما درس من الفلسفة اليونانية، ومن أصول الديانة اليهودية، والديانة النصرانية، والديانة الإسلامية، ثم أحال ذلك إلى مزاج من الفكر الفلسفي الدقيق يعز على من رامه ويطول"1 وعلى أثر ذلك كثر المرتزقة، والدجالون والمحتالون والمشعوذون، ونصبت فوق القبور القباب، وأقميت الأعياد، وكثر التكلم بالكرامات والأولياء. ويقول عبد الوهاب الشعراني: "إن سبب حضوري مولد أحمد البدوي كل سنة، أن شيخي العارف بالله تعالى محمد الشناوي رضي الله عنه أحد أعيان بيته رحمه الله قد كان أخذ علي العهد في القبة تجاه وجه سيدي أحمد رضي الله عنه وسلمني إليه بيده، فخرجت اليد الشريفة من الضريح (!!) وقبضت على يدي، وقال: يا سيدي، يكون خاطرك عليه، واجعله تحت نظرك، فسمعت سيدي أحمد رضي الله عنه من القبر. يقول: نعم. وأضاف: "لما دخلت بزوجتي فاطمة، أم عبد الرحمن، وهي بكر مكثت خمسة شهور لم أقرب منها، فجاءني وأخذني وهي معي، وفرش لي فرشاً فوق ركن القبة التي على يسار الداخل، وطبخ لي حلوى، ودعا الأحياء والأموات (!!)   1 التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق 1/201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 إليه، وقال: أزل بكارتها هنا، فكان الأمر تلك الليلة، وتخلفت عن ميعاد حضوري للمولد سنة ثمان وأربعين وتسعمائة، وكان هناك بعض الأولياء فأخبرني أن سيدي أحمد رضي الله عنه كان ذلك اليوم يكشف الستر عن الضريح ويقول: "أبطأ عبد الوهاب ما جاء"1، هكذا نحيت حقائق الإسلام وظهرت الخرافات، والبدع، وأخذت تتنامى في أرجاء العالم الإسلامي، وفي أطراف الجامع الأزهر باسم التصوف، وتحت حماية الطرق الصوفية التي لا أصل لها في الدين، ولا تدخل إلا في باب الشعوذة والعته آناً، واللهو واللعب والإباحية آناً آخر. وتحولت أنشطة الأزهر إلى رسوم شكلية جامدة باهتة في ذلك العصر، وغدت علومه مجرد محاكاة لسانيه، وصيغ وعبارات متوارثة لا علاقة لها بواضع الحياة التي رسمها الإسلام العظيم، وكانت الزوايا والتكايا الغاصة بالدراويش والمعتوهين مبعث اشمئزاز وكراهية المؤمنين الصالحين لتلك الأوضاع المخالفة لتعاليم الكتاب والسنة، وعقيدة التوحيد النقية التي راح يفهمها هؤلاء المتصوفة فهما بعيداً عن دين الله عز وجل، حتى قائل قائلهم في الرسالة القشيرية2: من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهوى ثنوي، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق به فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل3، ومن خلال دعوة الحب الإلهي،   1 الطبقات الكبرى 1/161-162. 2 نقلاً التصوف بين الحق والخلق ص 54. 3 من المؤسف أن يصدر هؤلاء المبتدعة صحيفة شهرية، وهي أقرب إلى النشرة، وتحت اسم "الإسلام وطن"، تصدرها مشيخة ما يسمى بالطريقة العزمية، ويتصدر افتتاحيتها هذه العبارات: ابن عبد الوهاب مجدد فكر الخوارج للقرن الثاني عشر الهجري –ابن عبد الوهاب تشد إليه الرحال، ويقام له مولد سنوي، ويمنع ذلك بالنسبة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإلى هذا الحد وصل الافتراء والله المستعان –العدد (31) السنة الثالث ربيع أول 1410هـ القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 بزعمهم راحوا يتغنون بالعشق ومغامراته، والخمرة وكؤوسها، وخرجوا على الناس بدعوى الحلول، ووحدة الوجود، وكان من أشهرهم في ذلك "الحلاج" الذي شرح عقيدته بقوله: "من هذب نفسه في الطاعة، وصبر على اللذات والشهوات ارتقى إلى مقام المقربين، ثم لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصافاه حتى يصفو عن البشرية، فإذا لم يعد فيه من البشرية حظ حل فيه روح الإله الذي حل في عيسى ابن مريم، ولم يرد حينئذ شيئاً إلا كان كما أراد، وكان جميع فعله فعل الله تعالى1، أما داعية مذهب وحدة الوجود "ابن الفارض" فقد كان ينشد وهو على فراش الموت قوله: إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي2 أمنية ظفرت روحي بها زمنا ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحة تبين له بطلان ما كان يظنه3 .... أما دعواهم عن الحقيقة المحمدية فقد جاءوا بها لتشكيك المسلمين في أصول دينهم، ودعائمه الأساسية، وهي نظرية   1 دائرة معارف القرن العشرين –مجلد 1/354. 2 ديوان عمر بن الفارض ص105. 3 فتاوى ابن تيمية 11/247، 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 مأخوذة عن النصرانية1 التي تقول: "لولا عيسى لامتنعت الصلة بين الله وبين الوجود، وها نحن نرى الغلو الذي يقضي بأنه لولا محمد ما ظهر شمس ولا قمر، ولا نجوم، ولا أنهار ولا بحار ولا شجر ولا مدر ولا جبال، نراه في شعر "ابن نباته المصري"، حيث يقول: لولاه ما كان أرض ولا أفق ... ولا زمان ولا خلق ولا جيل ولا مناسك فيها للهدى شهب ... ولا ديار بها للوحي تنزيل ويقول البوصيري في البردة: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم وقوله: ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذ الكريم تجلى باسم منتقم فإن من وجودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم   1 التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق 1/201-279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وقال غيره: لولاه ما خلقت شمس ولا قمر ... ولا نجوم ولا لوح ولا قلم وهكذا جعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم أصل الوجود، وضربوا بكلام الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عرض الحائط. ومما يؤسف له أن لهم ولعاً بإمدادات الشياطين، وحيل فقراء الهنود، والخوارق التي يسمونها كرامات، وقد شاهدنا منها الكثير المضحك، ونحن مع إيماننا بكرامات الأولياء الصالحين ننكر هذه الشعوذة1 والحيل، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "إذا رأيت أحداً سار على الماء أو طار في السماء فلا تغتر به، حتى تزن عمله بميزان الكتاب والسنة"2، هذا هو الميزان الذي يجب على كل مسلم أن يزن نفسه وقوله وعمله به، فإن رجح وإلا فلا، لأن مداخل الشيطان كثيرة ومزالقه خطيرة، وهو يحاول جاهداً زحزحة الإنسان عن الصراط المستقيم ليوقعه في الهلكة، وفي هذه المناسبة نسوق ما ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله حكاية عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله أنه قال: "كنت مرة في العبادة، فرأيت عرشاً عظيماً وعليه نور، فقال لي: يا عبد القادر أنا ربك، وقد حللت لك ما حرمت على غيرك، فقلت له: اخسأ يا عدو الله. فتمزق ذلك النور وصار ظلمة، وقال: يا عبد القادر نجوت مني بفقهك في دينك وعلمك ... لقد فتنت بهذه   1 راجع الكرامة والخرافة في الفكر العربي –د. محمد سليم العواد. 2 التصوف بين الحق والخلق –محمد فهر الشفقة ص 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 القضية سبعين رجلاً. فقيل للجيلاني: كيف علمت أنه الشطان؟ قال بقوله لي: حللت لك ما حرمت على غيرك، وقد علمت أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تنسخ ولا تبدل1..". وهذه الحقيقة لم يفهمها المتصوفة الجهال فراحوا يحملون المفاهيم الدخيلة المتمثلة كما قلنا في نظريات وحدة الوجود2 والحلول3 والاتحاد والفناء4 والتناسخ والإشراق5 لزلزلة مفهوم التوحيد الخالص عند المسلمين، وخلق جو من الشكوك والريب والاستسلام للجبرية، وبذلك يعزلون المسلمين عن إسلامهم خدمة لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى واليونان والمجوس واليهود، وتحقيق رغبتهم في تحريف الإسلام وتدميره وإخراجه من حقيقته الأصلية انتصاراً للوثنيات التي هدمها القرآن الكريم، وكشف زيفها وأبرز فسادها، ولهذا كان المتصوفة الجهال يسيرون في ركاب أعداء الإسلام ويتعاونون معهم، ومن الأمور المشهورة عن احتلال فرنسا للقيروان في تونس أن رجلاً فرنسياً   1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 28. 2 هو مذهب هندي برهمي، ويعني تأليه المخلوقات واعتبار الكون هو الله تعالى، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهذا المذهب الفلسفي يتعارض مع الإسلام جملة وتفصيلاً، ويمثله في المتصوفة: محيي الدين ابن عربي، وتلميذه ابن سبعين، وعمر بن الفارض. 3 ويزعمون أن الله يحل في الإنسان، وهي عقيدة نصرانية مارقة، ويمثلها الحلاج. 4 وهي فكرة هندوسية، والتناسخ وهو فكرة فيثاغورثية انتقلت إلى الشيعة، ومنهم إلى المتصوفة، يقول الدباغ في "الإبريز":إن روح الولي تقدر على أن تتصور بصورة غير صورته ص 204. 5 الإشراق مذهب يوناني وثني ممزوج بالفلسفة الفارسية والمجوسية، وينسب إلى أفلاطون الذي يعبر عن الله بالنور، ويصف العالم بأنه أنوار مستمدة، وهو ما لم يقل به القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم. انظر كتابنا "ماذا تعرف عن الاستشراق"، الجزء الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 دخل في الإسلام وسمى نفسه سيدي أحمد الهادي، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعين إماما لمسجد كبير في القيروان، فلما اقترب الجنود الفرنسيون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاءوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل سيدي أحمد الضريح ثم خرج مهولاً لهم بما سينالهم من المصائب، وقال لهم بأن الشيخ ينصحكم بالتسليم، لأن وقوع البلاد صار محتماً، فاتبع القوم البسطاء قوله، ولم يدافعوا عن مدينة القيروان أقل دفاع، بل دخلها الفرنسيون آمنين في 26 أكتوبر سنة 1881 ... "1، ولا شك أن المتصوفة الجهال يعارضون مفاهيم الإسلام الصحيحة وسماحتها الربانية إلى مفهوم الوثنيات والنحل والتعقيدات الباطنية، وذلك من نشأتهم إلى يومنا هذا، فتراهم يرقصون ويترنحون عند القبور، وفي الزوايا، وينسجون الأكاذيب من أخيلتهم الفاسدة، وفاتهم أن دين الله عز وجل لم يعرف الطلاسم والألغاز، ودولة الإسلام قامت على الوضوح والصراحة، والعجب أشد العجب أن الدول الظالمة كلما شنت حملات الإبادة على المسلمين الصالحين تقرب المتصوفين والجهال وتحتفل معهم بأنصابهم الوثنية، والتاريخ القريب خير شاهد، فلما ضرب المسلمون في مصر نشطت الطرق الصوفية كالرفاعية2 والقادية والنقشبندية والسعدية والبيومية والخلوتية والبراهامية والختمية والأحمدية والشعيبة والشاذلية   1 التصوف في الإسلام د. عمر فروخ ص 109 نقلاً عن كتاب المسألة الشرقية –مصطفى كامل المصري. 2 الرفاعية: ينتسبون إلى أحمد الرفاعي المدفون في العراق، والرفاعيون كثير منهم من ينتسب إلى أحمد الرفاعي المدفون في مصر، ومنهم من ينتسب إلى أحمد الرفاعي المدفون في العراق في مقاطعة الرفاعية، وينسب إليها حفيده يوسف سيد هاشم الرفاعي، وله حلقات ذكر في مجلسه، وهو الذي رد على ابن منيع وابن باز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 والعنانية والميرغنية والسمانية والغنيمية والتسقيانية، وشكلت الدولة المصرية مجلساً أعلى للطرق الصوفية، وعينت له شيخ مشايخ1، وكان مقرباً لجمال عبد الناصر وخلفه السادات، أما في سوريا2 فقد صار على قارعة كل طريق زاوية صوفية وخمارة نصرانية، وشيدت القباب في كل من مصر والشام في هذا العصر بالذات، وعادت الجاهلية من جديد تحمل الأفكار السامة وتعمل بأسلوبين: 1- أسلوب المتصوفة الجهال، وتحريفهم لتشوية جمال الإسلام أمام العالم. 2- أسلوب الشيوعيين الذين يتخذون من سخافات المتصوفة ذريعة للتهجم على الإسلام وضرب القائمين عليه. وبخاصة وهم يشاهدون أفواج المعتوهين البلهاء يقفون بذل وخضوع أما المقبورين يطلبون منهم أشياء لا يقدر عليها إلا رب العالمين.   1 تقول جريدة الأخبار المصرية في عددها 11259 بتاريخ 15/6/1988م مفوض الدولة: إلغاء قرار حظر نشاط الشيخ الفاسي بمصر –انتهى تقرير مفوض الدولة إلى إلغاء قرار حظر النشاط الصوفي للشيخ الفاسي في مصر، قال التقرير الذي قدمه للمحكمة المستشار محمد البهنساوي: أن القرار خالف القانون والعرف الصوفي، وكان المجلس الأعلى للطرق الصوفية بريئاسة الدكتور أبو الوفا التفتازاني قرر في 7 يناير من العام الماضي حظر نشاط الشيخ عبد الله الفاسي في مصر وعدم الاعتراف به شيخاً للطريقة الفاسية الشاذلية، جاء بتقرير المفوض أن المجلس الصوفي أقحم نفسه في مسألة لا ولاية له فيها، وهي الخلاف القائم بين الشيخ عبد الله الفاسي للطريقة الفاسية الشاذلية باعتباره أكبر أبناء والده الشيخ الحقيقي للطريقة. 2 نكتفي بما قاله إمام المنحرفين وشيخ المنافقين أحمد كفتارو، وهو يتحدث به في كل مناسبة: "أن تلاميذه يصافحون رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة، وليس مناماً، وإذا ما زار أحدهم المدينة المنورة دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حفل غداء أو عشاء يحضره كبار الصحابة والتابعين وأولياء الله. أما حديث التلاميذ عن شيخهم ففيه العجب العجاب ... ودروسه في مسجد الصالحية أكبر شاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 يقول الكاتب الأميريكي استودارد: stoddard: أما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبسوا الوحدانية التي عملها صاحب الرسالة سخفاً من الخرافات، وقشوراً من الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين، يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور. وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل وهتك ستر المحرمات على غير خشية ولا استحياء، إلى أن قال: فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر، ورأى من كان يدعي الإسلام لغضب، وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين كما يلعن المرتدون عبدة الأوثان. أما في اليمن: فهناك قبور ينسبونها إلى الأولياء، ويحجون إليها، مثل قبر الحاوي والبرعي، وابن علوان والأهدل وغيرهم. وفي العراق: أمرّ وأدهى، حيث تجد الشرك عند القبور: الإمام أبي حنيفة، والكرخي وعتبات كربلاء (؟) والقبر المزعوم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فتراهم يتوجهون إليهم بالعبادة والدعاء والذبح والاستغاثة، وطلب الحاجات ولطم الخدود وشق الجيوب. تقول جريد السياسة الكويتية في عددها (6714) 19 شعبان 1407هـ بمناسية اليوم الخامس عشر من شعبان، الذي هو يوم النسخة، حيث يحتفل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 بضريح مولاي عبد السلام بن مشيش، رأس الصوفية، وشيخ الإمام الشاذلي، الذي تنتشر طريقته من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، حيث تقام حفلات دينية تستمر ثلاثة أيام، يقصد المغاربة خلالها الضريخ من كافة البلاد، ويرتلون القرآن الكريم والصلاة المشيشية المشهورة، وبهذه المناسبة كلف الملك الحسن الثاني كعادته في كل سنة، وفداً مكوناً من مستشاره الأستاذ أحمد بن سودة وزير الدولة مولاي أحمد العلوي. ولا يوجد بلد في عالمنا الإسلامي إلا وتشاهد فيه الأوثان السياسية والأصنام البشرية، والأنصاب الوثنية، والهياكل الجاهلية، وترى سدنتها من الزنادقة والمشعوذين يزينون للدهماء من الناس عبادتها ويبتزون عن طريقها أموالهم، حتى وصف الشاعر المصري حافظ إبراهيم الواقع المرير بأبيات من الشعر، قال فيها: أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف ترزق الأموات من لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أحجارها الصلوات يسعى الأنام لها ويجري حولها ... بحر النذور وتقرأ الآيات ويقال هذا القطب باب المصطفى ... ووسيلة تقضي بها الحاجات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 ونراه يتوجه من الحالة التي وصل إليها الناس في البدع والشركيات، فيقول: إمام الهدى إني أرى القوم أبدعوا ... لهم بدعاً عنها الشريعة تعزف رأوا في قبور الميتين حياتهم ... فقاموا إلى تلك القبور وطوفوا وباتوا عليها جاثمين كأنهم ... على صنم للجاهلية عكف1   1 ديوان حافظ إبراهيم –دار العودة بيروت 1/318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 ولو أردنا أن نسرد حديث الأغاليط وترهات المتصوفة الجهال لأحوجنا ذلك إلى مجلدات، ولكننا نختم هذه النبذة بقصة أوردها الشيخ محمد جميل زينو1 يوم كان نقشبندياً في مدينة حلب، فيقول: "كنت شاباً صغيراً، وآتي شيخ الطريقة النقشبندية الصوفية في المسجد. فأمر أحد المشايخ الحاضرين أن يعطيني ورد الطريقة النقشبندية، فأعاطني بعض الأوراد في الصباح والمساء، وكنت أحضر مع خالي حلقة الذكر التي يسمونها "ختماً"، وكان قريبي يطلب مني قراءة عشر من القرآن الكريم في آخر الختم، لأنني أحفظ القرآن غيباً، وكان الذكر في الحلقة خفياً، وكان واحد من الجالسين يعيطه مدير الختم حصيات صغيره يقرأ بعددها تسبيحات أو شيئاً من القرآن الكريم، وكنت ألاحظ في الختم ما يلي: 1- كنت أسمع آخر الذكر رجلاً يقول: "الرابطة الشريفة، وسرعان ما تنطق الأصوات العالية من بعض الجالسين: هو. هو" وتهتز الأجسام، ويحصل البكاء، فسألت عن معنى كلمة "الرابطة الشريفة" فقالوا لي: أن تتصور صورة   1 هو الشيخ الفاضل محمد جميل زينو، سوري المولد، مدرس في التوحيد في الحرم المكي، مدرسة التوحيد، وله مؤلفات منها: 1- توجيهات إسلامية لإصلاح الفرد والمجتمع. 2- أركان الإسلام والإيمان. 3- منهاج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة. 4- العقيدة الإسلامية من الكتاب والسنة الصحيحة. 5- قطوف من الشمائل المحمدية، والأخلاق النبوية، والآداب الإسلامية. 6- حكم الإسلام في التدخين. 7- تنبيهات على مؤلفات محمد علي الصابوني. وهو من دعائم الدعوة الصحيحة، يدافع عنها بلسانه وقلمه، أطال الله عمره "المؤلف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 الشيخ أمامك وقت الذكر، لذلك تجدهم لا يخشعون عند التسبيح وتلاوة القرآن بل يخشعون عند ذكر الشيخ، فيبدأ الصراخ والبكاء. 2- سألت قريبي مرة عن الوسائل التي تجلب للمصلي الخشوع وتطرد الوساوس، فقال لي: تصور الشيخ في صلاتك، فقلت له: كيف أتصور الشيخ في الصلاة؟ فهل أنا أصلي للشيخ؟ أم أصلي لله؟ 3- ورد في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، روها مسلم. فهذه المرتبة الكبيرة أن تعبد الله كأنك تنظر إليه. ولما كان الله لا يمكن لأحد أن يراه في الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله وصل له وأنت تعتقد أنه يراك"، هذه مرتبة الإحسان التي هي مراقبة الله عز وجل أعطاها -المتصوفة الجهال- لمشايخهم، فبدلاً من أن يراقبوا الله الذي يراهم راحوا يراقبون شيخهم بدلاً من الله تعالى، وهذا هو الشرك والضلال. 4- تعرفت على شاب موحد كان متصوفاً فحكى لي سبب تركه للتصوف قائلاً: بعد أن أعطانا وكيل الشيخ أوراد الطريقة وانصرفنا وإذا به ينادينا جميعاً فيقول لنا: نسيت أن أقول لكم: عليكم أن تتصوروا الشيخ عند قراءتكم الورد في الذكر، فلما سمع الشاب هذا الكلام ترك الصوفية، وأصبح موحداً –على منهج السلف الصالح. إن طريقة هذا الشاب ليست طريقتي التي اتخذتها على الشيخ الذي رآني في المسجد، ولكن طرق التصوف رغم كثرة عددها واختلافها فإنها متفقة على تصور الشيخ أثناء الذكر. 5- دعاني قريبي إلى حفل مولد في بيته، فلما دخلت الدار سمعت الحاضرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ينشدون: دلوني بالله دلوني ... على الشيخ النصر دلوني يبري العليل ... ويشفي المجنون وقفت على الباب وقلت لقريبي هل يستطيع شيخكم أن يشفي المريض والمجنون؟ فقال لي: نعم بإذن الله. فقلت له: ولماذا تقولون بإذن الله كما قال عيسى عليه السلام، وهي معجزة له ذكرها الله في القرآن، ولا يستطيع أحد أن يفعلها مثله؟ ثم رجعت ولم أدخل إلى البيت يعلن فيه الشرك جهاراً، لأن إبراهيم عليه السلام حكى عن عقيدته في القرآن، فقال على لسانه: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ، أكدت الجملة بالضمير المنفصل، فهو ليعلم المسلم أن الشافي هو الله وحده لا غير. 6- زرت قريبي في أيام العيد، فرأيت صورة شيخه معلقة فوق جدار القبلة، وقلت له: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور في البيت، ونهى الرجل أن يصنع ذلك"1، وكيف تجوز صلاتك وصورة شيخك أمامك؟ فهل تصلي لله؟ أم تصلي للشيخ؟ فلم يقتنع، وبعد جدال طويل طلبت منه أن يحول صورة شيخه من جدار القبلة إلى جدار آخر فرفض لاعتقاده أنه يستمد من صورة شيخه الذي أمامه الخشوع.   1 رواه الترمذي وقال حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 7- ثم أتى عيد آخر: فترددت في زيارته وهو من الأرحام، فقلت أذهب إليه لنصحه حتى لا أكون آثماً عند الله بزيارته، فجلست أنظر إلى الصورة كي أنزعها من جدار القبلة، فقلت لولدي الشاب هل تستطيع رفعها من الجدار فلم يفعل، ثم أمسكتها بيدي وألقيتها خلف الطاولة، وقلت لولده: يا أحمد أنت شاب مثقف متخرج من كلية الشريعة خذ الصورة وأخفها ولا تعلقها امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعدني بذلك ولم يعلقها. 8- كان قريبي يستيقظ كل يوم قبل الفجر ليذكر الله عدة آلاف، وصورة الشيخ وشعره في جيبه يستمد منه المدد والخشوع. 9- لقد جالست المتصوفة –وحضرت أذكارهم، وتعرفت على طرقهم المختلفة فلم أر طريقة تسير وفق منهاج الإسلام الصحيح، فقصائدهم وأناشيدهم في الزوايا والمساجد لا تخلو من دعاء غير الله تعالى، وهو سبب بلاء الشعوب في الدنيا وخلودهم في العذاب يوم القيامة، فقد سمعت أحد الصوفية ينشد في حلقة ذكر في المسجد قائلاً: "رجال الغيب، المدد ساعدونا، أنقذونا، انصرونا". فقلت بعد انتهاء الذكر لشيخهم. كيف تسموا هذا ذكراً وهذا المنشد لم يذكر الله جل وعلا ولم يدعه، بل سأل غيره من رجال الغيب، ومن هم رجال الغيب؟؟ أهؤلاء الذي يزعمون علم الغيب وقد ماتوا وانقرضوا، ثم يسألهم النصر على الأعداء؟ القرآن يقول لمثل هؤلاء: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} (فاطر: 14) . 10- كنت أحضر دروس شيخ مسجد قريب لي، وكان هذا الشيخ عالماً بالتفسير واللغة العربية والبلاغة، واستفدت من دروسه، وكنت أشترك معه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 تأليف كتب صغيرة لطلاب المدارس، وأغلبها توزع مجاناً على نفقة أهل الخير، كنت أقرأ عليه حديث ابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". وشرح النووي له وتأكيده على دعاء الله وحده لا شريك له –في الشفاء والرزق والهداية، ولكن الشيخ لم يعجبه هذا التفسير، وذهبت أناقشه بأن هذا الحديث الصحيح صريح في طلب الاستعانة بالله، فقال لي: إن عمتي تقول الشيخ سعد ولي مدفون في مسجده على زعمهم، فأقول لها: يا عمتي هل ينفعك الشيخ سعد؟ فتقول له: يتدخل على الله فيستعين. فقلت له: عجباً لك أيها الشيخ، أنت رجل عالم تدرس الطلاب، وتقرأ الكتب الكبيرة، ثم تأخذ عقيدتك من عمتك الجاهلة الأمية!! فقال لي: أنت عندك أفكار وهابية، ثم تركني وتركته، وبدأت أقرأ كتب الموحدين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من الذين ينكرون دعاء غير الله عز وجل ويعتبرونه شركاً. لقد بدأت أشعر بلذة التوحيد ومرارة الشرك، وأدعو غيري من المسلمين أن يكونوا على عقيدة التوحيد التي دعا إليه قرآننا العظيم ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. وهكذا اطلعنا في هذه العجالة على جناية الزوايا، ونسأل الله أن يجعلنا من المسلمين الموحدين، أتباع سيد المرسلين، محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يهدي ضلال المسلمين، إنه سميع مجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 الباب الثالث والعشرون: الإمام محمد بن عبد الوهاب وثناء علماء ومفكري الشرق والغرب عليه الفصل الأول: ثناء علماء ومفكري الشرق ... الإمام محمد بن عبد الوهاب وثناء علماء ومفكري الشرق والغرب عليه الإمام محمد بن عبد الوهاب وثناء علماء ومفكري الشرق 1- قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "لم يخل قرن من القرون التي كثرت فيها البدع من علماء ربانيين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدرة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. كما ورد في الأحاديث. ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب "النجدي"، من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع والمعاصي، وإقامة شعائر الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة، فهبت لمناهضته واضطهاده القوى الثلاث: قوة الدولة والحكام، وقوة أنصارها من علماء النفاق، وقوة العوام الطغام. وكان أقوى أسلحتهم في الرد عليه، أنه خالف جمهور المسلمين. من هؤلاء المسلمون الذين خالفهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته؟ هم أعراب في البوادي، شر من أهل الجاهلية، يعيشون بالسلب والنهب، ويستحلون قتل المسلم وغيره لأجل الكسب، ويتحاكمون إلى طواغيتهم في كل أمر، ويجحدون كثيراً من أمور الإسلام المجمع عليها، والتي لا يسع مسلماً جهلها1.   1 انظر: التعريف بكتاب صيانة الإنسان من وسوسة دحلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 2- محمد كرد علي: وما ابن عبد الوهاب إلا داعية، هدى الناس من الضلال وساقهم إلى الدين السمح، وإذا بدت شدة من بعضهم، فهي ناشئة من نشأة البادية، وقلما رأينا شعباً من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص، مثل هؤلاء القوم، وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم، سنين طويلة، فلم نرهم حادوا عن الإسلام قيد أنملة، وما يتهمهم به أعداؤهم، فزور لا أصل له1. 3- عباس محمود العقاد: وظاهر من سيرة محمد بن عبد الوهاب أنه لقى في رسالته عنتاً، فاشتد كما يشتد من يدعو غير سميع، ومن العنت إطباق الناس على الجهل والتوسل بما لا يضر ولا ينفع، والتماس المصالح بغير أسبابها، وإتيان المسالك من غير أبوابها، وقد عبر على البادية زمان يتكلمون فيه على التعاويذ والتمائم وأضاليل المشعوذين والمنجمين، ويدعون السعي من وجوهه توسلاً بأباطيل السحرة والدجالين حتى في الاستسقاء ودفع الوباء، فكان حقاً على الدعاة أن يصرفوهم عن هذه الجهالة، وكان من أثر الدعوة الوهابية صرفهم عن ألوان البدع والخرافات2. 4- أحمد بن عبد الغفور عطار، (رحمه الله) : رأى ابن عبد الوهاب ما حل بالمسلمين، ورأى ما بنجد من الشرك والوثنية، ولم تكن نجد خالية من العلماء، بل كان فيها منهم عدد غير قليل في مدنها وقراها،   1 انظر الكتاب: القديم والحديث. 2 انظر كتاب الإسلام في القرن العشرين: تأليف عباس محمود العقاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 ولكنهم كانوا ضعفاء، ومنهم من لم يفضلوا العامة في معتقداتهم الخرافية، ومنهم من كان على بصيرة من أمرهم، ولكنهم لم يكونوا شجعاناً ودعاة، بل كانوا وعاظاً محدودي الأثر، ولكن ابن عبد الوهاب لم يكن مثلهم، فقد كان عالماً حقاً، وكان سلفياً صادقاً في عقيدته ومنهجه، وكان شجاعاً وداعية، ولكن العلماء ليسوا ورثة الأنبياء في العلم وحده، ولكن ميراث النبيين يتجلى في القيام بأعباء الدعوة والتبشير برسالاتهم، واستقبال الأذى بعناد وإصرار في سبيل هداية البشر1.   1 انظر كتاب أثر الدعوة الوهابية في العالم الإسلامي: أحمد عبد الغفور عطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 الفصل الثاني: ثناء علماء ومفكري الغرب ... الإمام محمد بن عبد الوهاب وثناء علماء ومفكري الغرب 1- قال المستشرق جولد سيهر: إذا أردنا البحث في علاقة الإسلام السني بالحركة الوهابية نجد أنه مما يسترعي انتباهنا خاصة من وجهة النظر الخاصة بالتاريخ الديني الحقيقة الآتية: يجب على من ينصب نفسه للحكم على الحوادث الإسلامية أن يعتبر الوهابيين أنصاراً للديانة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي والصحابة، فغاية الوهابية هي إعادة الإسلام كما كان1. 2- قال المستشرق سيديو في سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: فرأى الشيخ أنه إذا ما حمل المسلمين على مراعاة أحكام القرآن بأحكام رجعت إليهم تلك الحماسة التي تعود بها عظمة الماضي، ولم يكن للشيخ هدف من الإصلاح الذي بدأه سوى إعادة شريعة الرسول الخاصة إلى سابق عهدها ... ا. هـ. 3- ويسرد في كتابه "العربية السعودية في القرن التاسع عشر ما ملخصه": نحن لا نعرف إن كانت الوهابية تستطيع مواجهة عصر الذرة والفضاء، ولكن أحد لا ينكر قيمتها، وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث.   1 انظر العقيدة والشريعة: تأليف المستشرق جولد سيهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 إن الوهابية كانت في الحقيقة نعمة على المسلمين بمساهمتها الواسعة في تنبيه المسلمين إلى مظاهر الوثنية وتحذيرهم منها، ولا شك أنها حققت فكرة ابن خلدون القائل: "أن العرب البدو يستطيعون أن يؤلفوا قوة لها شأن متى انقادوا إلى الدين". 4- قالت دائرة المعارف البريطانية: الحركة الوهابية اسم لحركة التطهير في الإسلام، والوهابيون يتبعون تعاليم الرسول وحده، ويهملون كل ما سواها، وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح. 5- قال المستشرق لوتروب ستوداره في كتابه "العرب": بلغ العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الهجري أعظم مبلغ من التضعضع الثقافي، ومن الانحطاط. فأربد جوه، وطبقت الظلمة كل صقع كم أصقاعه، وجاء من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال. أما الدين فقد غشيته غاشية سوداء. فألبست الوحدانية التي حملها صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم سحيقاً من الخرافات، وقشوراً من الصوفية. 6- قال المستشرق الأسباني "أرمانو": إن كل ما ألصق بالوهابية من سفاسف وأكاذيب لا صحة له على الإطلاق. فالوهابيون قوم يريدون الرجوع بالإسلام إلى عصر صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وإنما ينقصهم للوصول إلى أهدافهم المقدسة رجال متنورون مثقفون، وهم ويا للأسف قلائل في هذه الديار1.   1 انظر كتاب بين الديانات والحضارات ص 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 الباب الرابع والعشرون: الدعوة إلى الإسلام والحياة الطيبة في الدنيا ولأخرة ... الدعوة إلى الإسلام ولحياة الطيبة في الدنيا والآخرة إن الإسلام هو الدين الأزلي الجامع الذي تواترت رسالات الأنبياء على إظهاره، فكانوا دعاة دين واحد. وشرائع متعددة تعاقبت، فكان لكل قوم هاد، ولكن قوم شرعه ومنهاج حتى ختم الله تبارك وتعالى بالرسالة المحمدية المصدقة لدعوات الأنبياء الأولين، عليهم السلام. هذه الرسالة السمحة تخاطب الناس كافة، وهي صالحة لكل زمان ومكان، رسالة جمعت فأوعت، واتسعت فأرشدت كل جنبات الحياة، إن نشرها والدعوة إليها واجب على أبناء الإسلام، حتى يخرج الناس من الظلمات إلى النور وينعموا بمنهج الله تعالى الذي ينظم الحياة ويوجهها ويصونها ويأخذ الناس بحكم رب الناس ملك الناس إله الناس، كي يوفر لهم الحياة الطيبة المبنية على قاعدة الإيمان الخالص، والعمل الصالح، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97) ، ولا يمكن أن يكون عمل صالح إلا بإيمان خالص، وبغير القاعدة التوحيدية الصحيحة، لا يمكن أن يقوم بناء إسلامي سليم، لذلك لا بد من حمل لواء الدعوة الإسلامية الصحيحة، وعلى جميع المسلمين أن يستشعروا عبوديتهم لله وحده لا شريك له، فينسوا أنفسهم في سبيله، ويتذكروا أخوتهم الإسلامية التي جمعت المهاجرين والأنصار، ووحدت قلوب المسلمين الأولين بعروة الله الوثقى، وهي: القرآن الكريم الذي عصمه الله من التحريف والتزييف، وجعله مصدقاً لما بين يديه من الكتب الإلهية ومهيمناً عليها، وخاتماً لها، هذا الكتاب الفاصل بين الحق والباطل، وبين المعروف والمنكر وبين الأثرة والأنانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 جاء الوعد الحق بأن الباطل زهوق، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، وفيه تبيان الصراط المستقيم والشعائر الإلهية التي تدعو الفرد للفضيلة، وتوجهه نحو الحياة التي تقوم على العدالة والإخاء. فالصلاة: تجديد للصلة بالله عز وجل، وترسيخ لمعاني الالتزام بالحق، ونهي عن الفحشاء والمنكر. والصوم: زيادة على ما فيه من أسرار، تحمل للصبر على الشدائد، والمشاق، وتطويع للرغبات والشهوات. والزكاة: عبادة مالية توظف الأموال الوثروات في سبيل التكافل الذي أمر به الإسلام، ومشاركة المعسري في ثروة الميسور، بجزء معلوم للسائل والمحروم. والحج: عبادة كبرى تجمع بين المادة والروح احتفاء بتوحيد الله عز وجل، ورمزاً لوحدة أمة الإسلام، والتقائهم حول رب واحد، ودين واحد وقبلة واحدة. والإسلام الصحيح وحده هو القادر على رفع الإنسان إلى القمة الشاهقة بغرس التوحيد الخالص والإيمان الصادق في قلبه، ليتمكن من تأدية واجب الأمانة التي كلفه الله تعالى به بلا وساطة ولا وسيط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 ومن هنا كان لهداية الإسلام أسلوب قويم، وأن مفتاح الإصلاح في الإسلام هو التوحيد، فالدعوة الإسلامية تبدأ بغرس الإيمان في قلب الإنسان، وتجعل المؤمنين مراقبين لله عز وجل، في أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم، وهؤلاء الأفراد الذي تزودوا بصحوة التوحيد والعقيدة هم اللبنات التي تعمر الحياة، وتنظم المجتمع، فتجربة الإنسان عبر التاريخ الإسلامي للأهواء والبدع قد باءت بالفشل، سواء كانت صوفية أو عقلانية1، بعيدة عن الكتاب والسنة. وما على أبناء الإسلام وخصوصاً بعد أن مرت الأمة بتجارب مريرة -إلا أن يكرسوا جهودهم من أجل العودة بالمسليمن إلى الإسلام الصحيح، والسير خلف العلماء الصالحين القادرين على قيادة الناس بالكتاب والسنة بما وهبهم الله تعالى من قوة روحية ومعنوية، هؤلاء العلماء الملتزمون قولاً وعملاً بمبادئ الإسلام- يعتبرون مسؤولين مسؤولية كاملة أمام الله عز وجل والأمة جميعاً، عن تبصير الناس بدين الحق، وتحت قيادتهم، يمكن للمسلمين في أنحاء الأرض أن يقيموا المجتمع الإسلامي المتحد القادر على تطيبق رسالة الله الشاملة، والقضاء على كل نظام لا تتفق أسسه مع مضمون "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وشريعتها الإسلامية التي يجب على كل دولة إسلامية تطبيق مبادئها، وجعلها مناراً يهتدي بنوره الحاكم والمحكوم على السواء، في المجال التربوي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والعسكري، واتخاذ الخطوات العملية لتضامن المسلمين، وإزالة التناقضات بينهم، تحقيقاً لقوله تعالى:   1 يقصد بها القوانين والأنظمة الغريبة عن الإسلام وأحكام الشريعة الغراء التي تم فرضها على الأمة في زمن الهزيمة والضعف مثل القانون الفرنسي والسويسري وما يسمى بالاشتراكية. راجع كتابنا "المسلمون بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية" للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون:52) . ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فأولها صلح بالاعتماد في شؤونهم كلها على الكتاب والسنة، وعلينا نحن إذا أردنا حياة العزة الإسلامية سابغة، أن نتعاون على البر والتقوى فيما بيننا، ونجتمع على تعاليم ربنا، وهدى نبينا صلى الله عليه وسلم، ونتحاب في الله عز وجل، ونرجع عند الاختلاف إلى الله والرسول، تنفيذاً لقوله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) . وحينئذ تمتد أمواج الحق لتبدد ظلام الباطل، فينبلج نور الفجر معلناً عن يوم جديد تشرق فيه أشعة الإسلام، لتكشف زيف جيوش الظلام، ويهتف هادي التوحيد "شعارنا الوحيد: إلى الإسلام من جديد"، فتجدد الآمال وتمتلئ المساجد بالركع السجود كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، مثلما كانت عليه أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، وتعج قاعات المحاضرات في الجامعات والمدارس والجمعيات بمن يستمع الذكر والحكمة بآذان صاغية، وقلوب واعية متيقناً بأن المستقبل للإسلام، وأن دولة الخلافة على منهاج النبوة لا بد آتية لا ريب فيها، وترتفع الهامات والرؤوس وتتطهر النفوس مستعلية بالإيمان على الدنيا، وأصحابها وعلى الباطل وأعوانه، وتنحني رؤوس الموحدين لله رب العالمين إيذاناً بأن جيلاً قرآنياً سلفياً صالحاً قد ولد من جديد بعاطفة إيمانية تأبى إلا أن تفرض نفسها، ً وتبرز وجودها، وتبرهن على حياتها وحيويتها، لأنها ليس من صنع البشر، ولكنها من صنع الله عز وجل، الذي ألف بها بين عباده الصالحين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 69) . وبهذه الوحدة الإيمانية لن تغلب هذه الأمة، ولم تقهر، ولن تهتز حتى ولو تألبت عليها الأمم، واجتمع عليها أهل الأرض جميعاً، وقد حقق الله تعالى لهذه الأمة في ماضيها المجيد، وسيحقق لها في مستقبلها السعيد شريطة أن يرفض كل مسلم كل مظاهر الجاهلية، وجميع أشكال العقائد الأرضية، والنظم البشرية في سائر مناحي الحياة، ويعتقد أنه لا خلاص إلا بالانخراط تحت لواء التوحيد، وتسليم الأمة وجهها لله عز وجل امتثالاً لأمره. {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (البقرة: 208) . عند ذلك تقوم دولة الإسلام العالمية وتعلو كلمة الله عز وجل، فتغشى وجوه المنافقين والمشركين قترة سوداء، لأنهم ربطوا مصيرهم بغير الإسلام، وأعطوا ولاءهم لغير الله، وسلموا قيادهم لأعوان "ماركس، ولينين وسارتر وفرويد"، ومن دعاء الإلحاد والإباحية، ولدعاة المهاترات والسخافات، والقيل والقال من الشيوعيين واليساريين والقوميين والعلمانيين، وعند ذلك تكون الساحة للإسلام وأبنائه، تملؤها أفواج العابدين المخلصين، وجموع المزكين المجاهدين، وأحفاد "أبي بكر" و"عمر" و"عثمان" و "علي"، ولا يبقى للباطل وجود بيننا بارتفاع صوت الحق مدوياً: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء:81) . وتولي أذناب الصليبية والإباحية الأدبار من عمالنا الإسلامي: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (المدثر:51) ، وتضيق بهم الأرض بما رحبت، وتلفظهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 البشرية جزاء عبثهم بها قروناً كثيرة، فلا يجديهم شرق ولا غرب، وتلعنهم الجن والإنس بما نقضوا من عهود الله تعالى ومواثيقه، عند ذلك تتفجر شرايين اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين غيظاً على ما يعاينونه من عزة الإسلام وقوة أتباعه، وخذلان الباطل، وتنكيس أعلامه خاصة وهم يشاهدون راية التوحيد والإيمان ترفرف فوق "رومية" عاصمة أهل الصلبان، والتي هي اليوم مقراً لباب الفاتيكان، وتأمل معي هذا الأثر الصحيح: عن أبي قبيل: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنيطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق، قال: فأخرج منه كتاباً، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً يعني القسطنطينية1. وستكون رايات الجهاد ضد المشركين والكفرة وأصحاب البدع ترفرف في أنحاء العالم الإسلامي. وستكون دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ناصعة مهما عبث العابثون والمضللون والخرافيون وأذنابهم، وقد خيب الله أمل كبير القساوسة المجرم "الزويمر" الذي يقول وهو يتبجح: "لقد انتهت هذه الحركة كاملة، ولقد ثبت الآن أن وجودها السياسي كان مجرد تمثيلية رائعة"2، ولكن الله غالب على أمره،   1 أخرجه أحمد وصححه الحاكم ووثق الذهبي. 2 انظر: الجزيرة العربية مهد الإسلام –تأليف زويمر ص 191. ويعلق سانت جون فلبي في كتابه الجزيرة العربية ص 160: والعجيب أن هذا التعليق ما زال باقياً –رغم أنه قيل بمناسبة تدمير الدرعية- في طبعة 1902 لكتاب زويمر مع أنها السنة التي استرد فيها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 فهذه المملكة العربية السعودية وترى السلفية قائمة دينياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً، ومشرفة على البيتين، ومحاربة الدخلاء والمنافقين، وستظل السعودية بإذن الله الدولة الإسلامية الرائدة مهما حقد عليها الأعداء. وإن ترابط الأسرتين الكريمتين. (آل سعود وآل الشيخ) دليل على صلة وثيقة منذ مائتين وثلاثين عاماً1. وصدق الشاعر ابن عثيمين: وأبناء شيخ المسلمين محمد ... لهم فضل سبق طبق الأفق شائعة هموا آزروكم حين لم يك ناصر ... سوى ربكم والمرهق الحد قاطعه على جدث ضم الإمام محمد ... سحاب من الغفران ثج هوامعه فإن رمت أن تأتي الهدى بدليله ... فطالع بعين القلب ما ضم جامعه على من مضى منكم ومنهم تحية ... يجود بها جزل العطاء وواسعه   1 انظر: الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة والملوك الذين حكموها منذ ظهور الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى يومنا الحاضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 فأنتم وهم من رحمة الله للورى ... فلا زلتمو ما صاحب النسر واقعه دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ليست ملكاً لبلد ولا وقفاً على أسرة أو قبيلة، بل للعالم الإسلامي بأسره، وعشيرته هم الموحدون المؤمنون في كل بقعة من عالمنا الإسلامي الكبير. أما الحاسدون لهذه الدعوة وصاحبها وأتباعهم، فإننا نقول لهم كما قال الشاعر: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم وقال أبو تمام: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف فضل طيب العود وكما قال الشاعر: كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ويقول آخر: إذا أراد الله حتفاً بنملة ... أتاها الله جناحين لها فأطارها رحم الله سليمان بن سحمان إذا يقول: ولو كل من يعوي يلقم صخرة ... لأصبح صخر الأرض أغلى من الدر والمثل العربي يقول: نبح الكلاب لا يضر السحاب. وقبل أن نختم هذا الفصل أضع أمام الأخوة الردود النافعة على المعارضين لدعوة التوحيد لتكون نبراساً لطلبة العلم، الذين يريدون الحق وكشف الحقائق. 1- تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود ابن جرجيس عبد الله بن عبد الرحمن البابطين (ت1282هـ) . 2- النبذة الشريفة النفسية في الرد على القبوريين، وكتاب الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب، تأليف محمد ابن ناصر بن معمر. 3- الصيب الهطال في كشف شبه ابن كمال: تأليف أحمد بن محمد الكثلاني. 4- إيقاظ الوسنان على بيان الخلل الذي في صلح الإخوان: تأليف محمد بن ناصر الشريف التهامي اليمني (ت1283هـ) . 5- القول الفصل النفيس في الرد على داود جرجيس: للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الرحيم (1285هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 6- تأييد الملك المنان في نقض ضلالات دحلان: تأليف صالح بن محمد الشهري. 7- صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان: تأليف الشيخ محمد بن بشير السهسواني (ت1326هـ) . 8- غاية الأماني في الرد على النبهاني: تأليف علامة العراق محمود شكري الألوسي (ت1342هـ) . 9- الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد، وكشف غياهب الظلام عن جلاء الأوهام والرد على علي مختار أحمد المؤيد، والصواعق المرسلة الشهابية في الرد على الشبه الشامية، والرد على محمد عطا الكسم، والضياء الشارق في رد الشبهات المارد الحاذق، وتبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب، والبيان المجدي لشناعة القول المجدي، وكل هذه الكتب من تأليف علامة نجد سليمان بن سحمان (ت1349هـ) . 10- البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج المختار: تأليف فوزان بن سابق السابق (ت1373هـ) . 11- الصراع بين الإسلام والوثنية، وهو رد على محسن الأمين العاملي صاحب كشف الارتياب، وكتاب البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية، وكتاب الفصل الحاصم بين الوهابيين، ومخالفيهم، وكتاب الثورة الوهابية. كل هذه الكتب من تأليف عبد الله بن علي القصيمي. 12- الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتاب نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين، تأليف أحمد بن حجر آل علي آل بو طامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 13- دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب: تأليف محمد منظور النعماني وهو من علماء الهند. 14- الرسالة المكية في الرد على رسالة الرملية: تأليف الشيخ عبد الظاهر أبو السمح (ت1370هـ) . 15- محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه: تأليف مسعود الندوي الهندي (ت1373هـ) . كل هذه المؤلفات التي تدافع عن عقيدة السلف الصالح، وتكشف زيغ أعداء الدعوة المباركة، وتدمر الباطل: وصدق رب العزة والجلال إذ يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . أسأل رب العزة والجلال، رب العرش الكريم، أن يجعل هذا الكتاب خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرحم الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب بما قام به من جهد عظيم في محاربة الشرك والبدع والخرافات التي لصقت بالدين، والدين منها براء، فجزاه الله عنا رحمة واسعة، وأن يدخله فسيح جنانه، إنه نعم المولى ونعم النصير، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يعمنا برحمته ويشملنا بفضله وإحسانه، فيا أخي القارئ: إن هذا الكتاب قد أخذ مني من الجهد ما لا يخفى عليك، فأرجو من الله سبحانه وتعالى أن ينتفع به شعوب العالم الإسلامي شرقه وغربه، وأن يكون نبراساً يهتدي به كل ضال يبحث عن الهدى، وأن يكون نجماً يهتدي به كل باحث عن حقيقة التوحيد الخالص النقي، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعه وصار على نهجه إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 أموت ويبقى كل ما قد كتبته ... فيا ليت من يقرأ كتابي دعا ليا لعل الإله يمن بلطفه ... ويرحم تقصيري وسوء فعاليا بقلم أبي عبد الله أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله الحصين القصيم –بريدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478