الكتاب: دحض دعوى المستشرقين أن القرأن من عند النبي صلى الله علية وسلم المؤلف: سعود بن عبد العزيز الخلف الناشر: غراس للنشر والتوزيع عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- دحض دعوى المستشرقين أن القرأن من عند النبي صلى الله علية وسلم سعود بن عبد العزيز الخلف الكتاب: دحض دعوى المستشرقين أن القرأن من عند النبي صلى الله علية وسلم المؤلف: سعود بن عبد العزيز الخلف الناشر: غراس للنشر والتوزيع عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم ال مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأصلي وأسلم على الرحمة المهداة والنسمة المجتباة، سيدنا محمد وعلى وآله وصحبه وسلم، وبعد: فإن الله أرسل رسله بالبينات والهدى، وأظهر الله حججهم، وأبان عن محجتهم، واتضحت لكل ذي بصيرة مسالكهم وطرائقهم، وذلك ليحيا من يحيا عن بينة، ويهلك من يهلك عن بينة، فيكون له الهلاك والخسران. وقد جعل الله تعالى للحق أعلاماً وأنصاراً وجزاءً، ويمثل الطائفة الحقة الرسل وأتباعهم في كل زمان ومكان. والرسل وأتباعهم يظهرون الحجة والحق، ويدعون إليهما، وأعداء الرسل يدفعون الحجج، ويحاولون إبطالها وخلال ذلك يهتدي من يهتدي، ويهلك من يهلك، ولا يهلك على الله إلا هالك. وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم هذه السنة، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون , وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُون} الأنعام: [112-113] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وقد روي عن السدي أنه قال: "لم يبعث نبي قط، إلا كان المجرمون له أعداء، ولم يبعث نبي قط إلا كان بعض المجرمين أشد عليه من بعض"."1" وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كان عدو النبي صلي الله عليه وسلم أبو جهل، وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى"."2" وأبان الله تبارك وتعالى لنا في الآية الأخرى عن حقيقة هؤلاء الأعداء، وعن كيفية تداول الأقوال بينهم، وعن المصغين إليهم، فوصفهم بأنهم شياطين، والشيطان كما يقول ابن كثير هو:" كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء – يقصد من الإنس والجن – فهؤلاء الأعداء للأنبياء يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف المزين المزوق، الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره"."3" وقد سلك في هذا الباطل، وهو رد النبوة وتكذيب الأنبياء، والطعن فيهم بكل وسيلة ممكنة أهل الضلالة والفجور مع أنبيائهم السابقين. فنوح عليه الصلاة والسلام رد قومه عليه قوله وكذبوه، وقالوا عنه {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ , إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:24-25] . وقال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ , وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:4-5] .   "1" عزاه في الدر المنثور "6/254" إلى ابن أبي حاتم. "2" المرجع السابق. "3" تفسير ابن كثير "2/168"،وانظر: تفسير القرطبي "7/67". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فالتكذيب للرسل سمة من سمات أهل الكفر والباطل، وموقفهم واحد، وهو الكفر والتكذيب، ووسيلتهم لذلك هو وصف النبي بالسحر أو الجنون أو الكذب، ونحو ذلك. وفي هذا يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] . وهم يظهرون هذا الموقف من الأنبياء بدافع من الهوى، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [المائدة:70] . ولا يؤثر في موقفهم ذلك وضوح الدليل الذي يجريه الله على يد النبي، أو عدد الأنبياء، بل هو موقف واحد متكرر في جميع الحالات. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111] . بل إن الله تعالى أرسل إلى قرية واحدة ثلاثة من الرسل، ومع ذلك كذبوا وردوا آيات الله. قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:13-15] . ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه لم يكن بدعاً من الرسل، فقد أصابه ماأصاب من قبله من أعداء الله من التكذيب، والطعن فيه وفي رسالته وفي شخصه. قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} آل عمران:184] . وقد تمالأ أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، بدءاً بأبي جهل وأبي بن خلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وأبي لهب والوليد بن المغيرة، وأمثالهم من مشركي مكة، وسيستمر ذلك إلى الدجال الأكبر وما بعده من أهل الضلالة. فما دام هناك أعداءً فلا بد أن يطعنوا في القرآن وفيمن جاء به، ويزخرفوا ذلك بالقول الحسن المزوق، حتى يروج على الجهلة. وقد ذكر الله تعالى كما سنبين دعاوى أعداء الرسل وطعنهم، وما افتروه على كلامه ورسله، وتولى تبارك وتعالى الرد عليهم، وإن كان الردوالبيان، وإقامة الحجة لا يغني عمن هو صال النار، ولا ينفع فيمن تحكم فيه هواه، وانقاد لوساوس نفسه، ودواعي شهواته وشيطانه، وإنما في ذلك جهادهم بالكلمة وإظهار لدين الله، حتى لا يلبسوا على غر وجاهل لا يتبين مواقع الضلالة والباطل في كلامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 المبحث الاول مدخل ... المبحث الأول دعوى المستشرقين أن القرآن من عند النبي صلي الله عليه وسلم وأنه استفاده من اليهود والنصارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وأهله، وتشويه الدين الإسلامي حتى يحجبوا قومهم عنه، ويشككون المسلمين في دينهم وعقيدتهم وثوابتهم، حتى يسهل تنصلهم منه، وانفلاتهم منه، حتى يتمكنوا فيما يظنون من تنصيرهم. وهذا ليس غريباً على الأعداء، فهذا دأبهم ومسلكهم وموقفهم من الحق، فقد حاول اليهود قتله عليه الصلاة والسلام، والبوا عليه القبائل، وسعوا إلى إشاعة التشكيك في صحة القرآن، فقالوا {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91] ، وقالوا {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] . هذه بعض محاولات متقدميهم وسابقيهم، فدرج الأبناء على ما درج عليه الآباء، صداً عن دين الله، وتشكيكاً لعباد الله. وقد ركز أولئك المستشرقون على قضية واحدة دارت حولها كل افتراءاتهم وكلامهم، وهي إنكار نبوة النبي صلي الله عليه وسلم. فوجهوا في خدمة هذا الإنكار كل طاقاتهم وسهومهم، فمرة يصفون النبي عليه الصلاة والسلام بالهوس، ومرة يصفونه بالعبقرية، ومرة يصفونه بالسرقات العلمية من اليهود والنصارى، ومرة يزعمون أنه مصلح عظيم."1" وهنا واجههم موضوع القرآن الكريم من أين مصدره، فأخذوا يتخبطون في بيان ذلك، فلم يتركوا مقالة يمكن أن تقال في ذلك إلا قالوها، فزعموا أنه أساطير الأولين من الوثنيين وغيرهم، وزعموا أنه خيال نفسي قوي يصيب النبي صلي الله عليه وسلم، وزعموا أنه مقتبس من التوراة والإنجيل، وقالوا إنه مأخوذ عن شعر أمية بن أبي الصلت، إلى غير ذلك من الدعاوى، التي لا أزمّة لها ولا أعنّة، بل يشعر قارئها بأن كلامهم إهانة لصفة العلم، التي إينتحلوها، وأنهم إنما هم مجموعة   "1" انظر بعض كلامهم في: مناهج المستشرقين ص26-32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 من الكذبة الأفاقين، والكفرة الحاقدين الحاسدين، الذين جهرهم وبهرهم نور الإسلام، وهم أعداء حاقدون، فحاروا فيه، وحاصوا حيصة الحمر، وصاروا يخبطون خبط عشواء. وسنبين في دراسة مختصرة دعواهم أن القرآن من عند النبي صلي الله عليه وسلم، وأنه اعتمد فيه على التوراة والإنجيل. ونبين بإذن الله تهافت هذه الدعاوى وبطلانها، رجاء أن يجعل الله في ذلك نصرة للحق، ودفعاً للباطل، وأن يجنب المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرد عنا وعن المسلمين كيد أعدائنا، وأن يجعل ما يدبرونه ويكيدون به هذا الدين سبباً في تدميرهم وهلاكهم، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويثبتنا على الحق إلى يوم نلقاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 المطلب الأول: تعريف الإستشراق الاستشراق لغة: مأخوذ من جهة الشرق. اصطلاحاً: هو علم يدرس فيه لغات الشرق وتراث وأديان شعوبها وحضارتهم وتاريخهم، وكل ما يتعلق بهم."1" وهذا الاسم غلب على تعلم الأوروبيين علوم أهل الشرق. فعليه فالمستشرق في مقصدنا هنا: هو ذاك الأوروبي أو الغربي، الذي اجتهد في تعلم علوم الشرق، وديانة أهلها وحضارتهم. والاستشراق حركة نبتت في الكنيسة "2"، لهذا تبنى جلّ المستشرقين موقف الكنيسة من الإسلام، وهو العداء له، والكيد له بكل وسيلة ممكنة. وقد وجه المستشرقون سهامهم إلى كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، فطعنوا في نبينا محمد صلي الله عليه وسلم، وكتاب الله القرآن الكريم، والتشريع الإسلامي، وتاريخ المسلمين، ولغة المسلمين. وهدفهم من وراء ذلك هو الصد عن دين الله، والتشكيك في دينه، فيصدون بني جنسهم عن الإسلام بالافتراء على الإسلام   "1" انظر: الاستشراق والتاريخ الإسلامي ص30. "2" يعزى إلى الراهب الفرنسي جوبرت، الذي انتخب بابا للكنيسة سنة 999م أنه أول من درس علوم الشرق، وذلك في الأندلس، ثم تتابع المرتحلون إلى الشرق حتى كان مجمع فينا سنة 1312م، الذي قرر إنشاء خمسة كراسي في جامعات غربية لتعليم اللغة العربية، وابتدأ فيه تنظيم وترتيب ما يسمى بالاستشراق. انظر: آراء المستشرقين حول القرآن الكريم "1/25"، الاستشراق والتاريخ الإسلامي ص33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 المطلب الثاني: أقوال المستشرقين المستشرقون هم أفراخ اليهود والنصارى نسبة وديانة، وأفراخ أبي جهل وأبي لهب وأبي بن خلف والوليد بن المغيرة في الكفر والعداوة للإسلام، ونبي الإسلام والمسلمين، إلا أن هؤلاء لبسوا مسوح العلم والتحقيق العلمي، والدعاوى العريضة في هذا، وجاءوا إلى أهل الإسلام، وظاهرهم إفادة الشرق وتحضيره وتمدينه، وباطنهم امتصاصه وتدميره وتحطيمه، بغياً منهم، وحسداً وعدواناً. وكان من مسالكهم في التدمير والتحطيم ضرب ثوابت أهل الإسلام وقواعد دينهم، فوجهوا سهامهم المسمومة إلى جميع نواحي الدين الإسلامي، وخصوا كتاب الله تعالى، ونبيه محمداًصلي الله عليه وسلم بمزيد من الطعن والافتراء والتجريح، إلا أنهم آبوا بما قال الشاعر كناطح صخرة يوماً ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل "1" فالإسلام قد حاوله من قبل أمثالهم، فباءوا بالخسران والخيبة، وسيؤوب هؤلاء بالخسران والخيبة، والله تعالى ناصر دينه، وحافظ كتابه، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:7] . فمن دعاويهم: قول ل. أ.سيديو"2":"ويتلقون – يعني الصحابة - آي القرآن التي أراد محمد نشرها ليوفق في عمله، على أنها من مصدر إلهي"، وقال: "ويختار- يعني   "1" من معلقة الأعشى ومطلعها:ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيها الرجل. انظر: شرح القصائد العشر للتبريزي ص343. "2" لوي بيير سيديو: مستشرق فرنسي، اشتغل بعلم الفلك، كتب كتابه " تاريخ العرب" بالفرنسية، ثم ترجم إلى العربية. توفي سنة 1292هـ/1875م. انظر: الأعلام "5/246". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 النبي صلي الله عليه وسلم-من تلك المتقدات الكثيرة بلباقة ما يلائم عقول العرب من غير أن يصدم ميولهم وما فيهم من ضعف، فالكتاب الذي يعرضه عليهم هو مرآة أدبية ينعكس عليها ما في طبيعتهم من الفضائل والمساويء والعواطف والعثرات والأوهام والحقائق". وقال أيضاً:" وكان محمد يتكلم باسم الله على الدوام، لتكون تعاليمه أعظم تأثيراً، وكان يقول: إن رسولاً من السماء يأتي إليه بأوامر الله تعالى، ومن الواضح ختال في وجده"."1" هكذا زعم. وقول جولد تسيهر"2"،في كتاب "العقيدة والشريعة":" فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجاً من معارف وآراء دينية عرفها واستقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية، وغيرها التي تأثر بها تاثراً عميقاً، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني وطنه"."3" ومثله قول "كارل بروكلمان" "4"، المستشرق الألماني، صاحب الكتاب الشهير "تاريخ الأدب العربي"، حيث يقول في كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية": "وتذهب الروايات إلى أنه اتصل في رحلاته ببعض اليهود والنصارى، أما   "1" تاريخ العرب العام ص68،85،86. "2" اجناس جولد تسيهر: مستشرق مجري يهودي، رحل إلى سورية 1873م، ثم رحل إلى مصر، ولازم بعض علماء الأزهر، وكتب كتباً عديدة بالعربية. توفي سنة 1340هـ/1921م. الأعلام "1/84". "3" نقلاً عن "مناهج المستشرقين"،ص31. "4" "كارل بروكلمان" مستشرق ألماني، عالم بتاريخ الأدب العربي. نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وتعلم العربية، ودرس في جامعات ألمانية، وكان من أعضاء المجمع العلمي العربي. توفي سنة 1375هـ/1956م. الأعلام "5/211". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 في مكة نفسها فلعله اتصل بجماعات من النصارى كانت نعرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة إلى حد بعيد "."1" ومنها قول بلاشير"2": "إن مما لفت انتباه المستشرقين، هو التشابه الحاصل بين هذه القصص والقصص اليهودي المسيحي، وقد كان التأثير المسيحي واضحاً في السور المكية الأولى، إذ كثيراً ما تكشف مقارنة بالنصوص غير الرسمية كإنجيل الطفولة، الذي كان سائداً في ذلك العهد عن شبه قوي"."3" وقال الخوري الحداد "4": " إن الدعوة المحمدية كانت في العهد المكي كتابية إنجيلية توراتية مسيحية يهودية، وأن القرآن نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة، المنزلة على الأنبياء السابقين، ومقتبس منها، وأنه كتابي توراتي إنجيلي يهودي نصراني في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله"."5" إلى آخر كلامه وهذيانه.   "1" تاريخ الشعوب الإسلامية، ص34. "2" بلاشير ريجيس: مستشرق فرنسي. تلقى دروسه الثانوية في الدار البيضاء بالمغرب،وتخرج بكلية الآداب بالجزائر، وصار مديراً لمدرسة الدراسات العليا العلمية بفرنسا،وكان أحد أعضاء المجمع العربي بدمشق. له كتب عديدة، منها: ترجمة القرآن الكريم. توفي سنة 1393هـ/1973م. الأعلام"2/72". "3" مناهج المستشرقين ص31. "4" هو اسم مستعار، أخفى صاحبه شخصيته خلفه. "5" نقلاً عن القرآن والمبشرون ص94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 المبحث الثاني مدخل ... المبحث الثاني دحض دعاوى المستشرقين قبل أن نبين بطلان دعاوى المستشرقين، نشير إلى أمر مهم، وهو: أن المستشرقين ادعوا لأنفسهم وادعي لهم أنهم أهل تحقيق وأهل تدقيق وتمحيص، وأنهم يبغون الحقيقة العلمية لا غير، وقد بحثوا ودققوا في حال النبي صلي الله عليه وسلم وسيرته ودعوته وكتابه وشريعته، ولا شك أن كل مطلع على ذلك سيصل إذا سلم من الهوى والحسد والحقد إلى حقيقة أن الرسول صلي الله عليه وسلم مرسل من عند الله، وأن ما جاء به من عند الله هو الحق، ويدرك أن الدلائل الدالة على ذلك في الإسلام لا يوجد عند أصحاب الأديان الأخرى ولا عشرها. واي دارس للأديان يدرك ذلك ويعلمه يقيناً. وأولئك المستشرقون إما يهود أو نصارى يؤمنون بديانتهم، ويعتقدون صحتها، فإذا ما قورنت الدلائل الدالة على صدق وصحة الإسلام، بالدلائل الدالة على اليهودية أو النصرانية فسترجح كفة الإسلام، بكيفية لا تقارن بها اليهودية والنصرانية. فمن هنا أقول: إن المستشرقين قد اطلعوا على دلائل الصدق والصحة في الإسلام وعرفوها وتيقنوها، فصاروا بين أمرين: إما أن يقبلوا ويصدقوا النبي صلي الله عليه وسلم بأنه رسول الله، وأن ما جاء به الحق، وهذا يلزمهم بالإيمان به وإتباعه، لأنه صرح بأنه رسول إلى الناس كافة، وأنه لا نجاة لأحد بعد بعثته إلا بالإيمان به، وأن اليهودية والنصرانية كفر وضلال. وإما أن يكذبوه ويردوا دعوته، ولكن كيف ذلك؟ وهم يدعون أنهم يبغون الحقيقة، وأنهم أهل العلم، فلم يجدوا بداً من التكذيب، والرد لدعوته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 والتشويه لسمعته، شأنهم في ذلك شأن أسلافهم من المشركين واليهود والنصارى، ويعللوا تكذيبهم ذلك بالتعليلات التي علل بها أسلافهم، حتى يظهروا أمام الناس أنهم إنما ردوا دعوته للعلة التي يدعون، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يتفقوا على رأي فيه، سوى أنهم غير قابلين لدعوته، فادعوا لذلك دعاوى عديدة، منهادعواهم أنه تعلم القرآن من اليهود والنصارى، ومنهم من قال من عند نفسه، وقوة نفسية، ومنهم من قال: كهانة، وسجع كسجع الكهان. وهذه هي الدعاوى التي قالها من قبلهم مشركو مكة، الذين انطلقوا من نفس المنطلق. فقدكانوا من أشد الناس عداوة للنبي صلي الله عليه وسلم ودعوته وأصحابه، ولم يتركوا وسيلة يمكنهم بها القضاء على النبي صلي الله عليه وسلم، أو القضاء على دعوته إلا سلكوها. فقد حاولوا قتله، وقتلوا من أصحابه، واضطهدوهم وعذبوهم وحاصروهم، وهم في أثناء ذلك لم يتركوا وسيلة لتشويه سمعته، وإلصاق التهم به، والتشويش عليه في دعوته، وتحذير الناس منه، والصد عن دينه إلا سلكوها، ولا مدخلاً إلى ذلك إلا دخلوه وحاولوه، ولولا أن الله ناصر دينه، وحافظ نبيه، لما قام لهذا الدين قائمة، ولا بلّغ عنه مبلغ. وكان من مسالكهم في الطعن في نبي الله ودين الله، تكذيبه وادعاء أنه افترى هذا القرآن، فمرة نسبوه إليه، وأنه افتراه من عند نفسه، ونسبه إلى الله تعالى زوراً وبهتاناً. قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود:35] . قال القرطبي في معناه:" يعنون- أي أهل الكفر- النبي صلي الله عليه وسلم - أي اختلق القرآن من عند نفسه"."1"   "1" تفسير القرطبي "9/28". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وقال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ , قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ , وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} النحل [101-103] . فبين الله تعالى في هذه الآيات دعاوى المشركين في أن النبي صلي الله عليه وسلم اختلق هذا القرآن من عند نفسه، ومنهم من زعم أنه أخذه عن أحد النصارى، وذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} ، فقيل: يقصدون غلاماً نصرانياً اسمه جبر عبد لبني الحضرمي، وقيل: غلام لبني المغيرة اسمه يعيش، وقيل: إنهما غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار، واسم الآخر حبر، وقيل: اسمه بلعام، وكان نصرانياً يقرأ التوراة، وقيل: يقال له أبو ميسرة، وقيل غير ذلك."1" وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} [الفرقان:4] . فهنا يذكر الله تعالى عنهم تكذيبهم للنبي صلي الله عليه وسلم، وادعاءهم عليه أنه افترى القرآن من عند نفسه، وأعانه على هذا اليهود، فيعلمونه هذا القرآن."2" وقال تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء:5] . قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: ما صدقوا بحكمة هذا القرآن ولا أنه من عند الله، ولا أقروا بأنه وحي أوحى الله إلى محمد صلي الله عليه وسلم، بل قال بعضهم: هو   "1" انظر تفسير الطبري "14/178"، والقرطبي "10/178". "2" انظر: تفسير ابن جرير"18/181"، عن مجاهد رحمه الله، وانظر تفسير القرطبي "13/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أهاويل رؤيا رآها في النوم، وقال بعضهم: هو فرية واختلاق افتراه واختلقه من قبل نفسه، وقال بعضهم: بل محمد شاعر، وهذا الذي جاءكم شعر"."1" فأولئك المشركون كان لهم هم واحد، وهو تكذيب الرسول صلي الله عليه وسلم، وإبطال قوله أنه رسول الله، وأن الله يوحي إليه، فمرة يزعمون أنه اختلق القرآن والوحي من عند نفسه، مع أنهم يعلمون بطلان دعواهم في أنه عليه الصلاة والسلام لم يؤثر عنه كذب، ولا جربوا عليه ذلك من قبل، فكيف يترك الكذب على الناس ويكذب على الله؟ "2" وهذا لا يقوله عاقل، وكيف يترك الكذب في شبابه وصغره أيام اللهو والانطلاق، ويكذب لما صار كهلاً "3" بلغ التمام وأقبل على الختام، وبدأت الدنيا تعصره ويعصرها، وتستدبره ويستدبرها. وكيف يكون قوله شعراً، وهو لم يقرض الشعر ولا يحسنه، ولم يؤثر عنه من قبل أنه قال شعراً أو قرضه، وقد قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ , لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69-70] . روى مسلم بسنده عن أنيس الغفاري أنه قال لأبي ذر عن النبي صلي الله عليه وسلم: "لقيت رجلاً بمكة على دينك "4"يزعم أن الله أرسله، قلت - أي أبو ذر-، فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء.   "1" تفسير ابن جرير "17/3"، وانظر: تفسير القرطبي _11/270". "2" انظر كلام هرقل مع أبي سفيان في ذلك: خ. بدء الوحي رقم"3"، انظره مع الفتح "1/42"،وم. الجهاد والسير، رقم"1773"، "3/1393". "3" الكهل: من جاوز الثلاثين إلى الخمسين. انظر: المعجم الوسيط ص803. "4" يقصد التوحيد وعبادة الله تعالى، لأن أبا ذر رضي الله عنه كان يصلي لله قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين، وفي رواية بسنتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء "1"الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون "."2" وفي رواية أنه قال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر"."3" وقال المشركون فيه: إن ما يدعيه ويقوله ما هي إلا أضغاث أحلام، أي أمور وأهاويل تأتيه في منامه في الليل فيأتي يرويها لنا في النهار. وهم يعلمون أن النائم لا يمكن أن يأتي بمثل ذلك القيل، بل إن الله تحداهم، وهم مستيقظون، وهم أهل الفصاحة والبيان، أن يأتوا بسورة من مثله، وليستعينوا بمن شاءوا في ذلك في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38] . وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ , فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33-34] . لكن أنى لهم أن يأتوا بمثله، وهو كلام الله الذي ألجم الفصحاء، وبهر البلغاء، وأعجز الأعداء أن يأتوا بمثله، أو يحاكوه أو يحاولوه عجزاً وعياً، وإنما قال قائلهم مبهوراً مبهوتاً مكموداً، لما سئل عن القرآن: فما أقول فيه، فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه مني، ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى "."4" وفي رواية عنه أنه قال:" والله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله "."5"   "1" أقراء الشعر، قال النووي: أي طرقه وأنواعه. انظر شرحه على مسلم "5/246". "2" أخرجه. م في فضائل الصحابة، رقم "6309". "3" أخرج هذه الرواية:خ في المناقب، باب قصة زمزم، رقم "3522". "4" أخرجه ابن جرير في تفسيره "29/156" عن عكرمة من قول الوليد بن المغيرة. "5" المصدر السابق عن ابن عباس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وقال المشركون عن القرآن إن النبي صلي الله عليه وسلم تعلمه من اليهود أو من النصارى1.فهم لا يثبتون على دعوى، إنما مرادهم أن يكذبوا النبي صلي الله عليه وسلم، ويردوا قوله بدعوى من الدعاوى، بغض النظر عن صحتها أو معقوليتها، وحالهم كمن يقول نحن نكذبك ونعاديك ونرد كلامك وإن كنت صادقاً. وهذا صريح كلام الله تعالى، الذي يعلم السر واخفى عن موقفهم من النبي صلي الله عليه وسلم {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:22] . وحال هؤلاء المستشرقين مع أولئك المشركين كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة:108] . فتشابهت قلوب هؤلاء وأولئك في الكيد للإسلام وعداوته وعداوة أهله، فنطقوا بما نطق به الذين من قبلهم. ونضيف أن المستشرقين إما يهود وإما نصارى، فمن هنا نتساءل: على أي أرض من الحق صلبة يقفون؟ وعلى أي شيء هم يعتمدون في نقدهم لنبي الإسلام ودين الإسلام! إنهم كما قيل: رمتني بدائها وانسلت، فدينهم الذي هم عليه، مهلهل لا يثبت أمام النقد في ناحية من النواحي. فاليهود مثلاً: قد أثبتت الدراسات المتكاثرة، حتى من اليهود أنفسهم عدم صحة كتبهم، وأنها محرفة، وأن الدراسة التاريخية تؤكد ذلك."2" وأن الدراسة العلمية تؤكد وجود الأخطاء العلمية فيها."3"   "1" سيأتي بطلان ذلك تفصيلاً وأن اليهود والنصارى أعجز من ذلك وأعجز. "2" انظر: دراسات في الأديان، ص60-74، الكتب المقدسة بين الصحة والتحريف، 67-114. "3" القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، ص39-62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 كما أن التشريع السليم والصحيح غير متيسر فيها، بل فيها من الضلالات والانحرافات، خاصة ما يسمونه بالتلمود ما يثير الإشمئزاز، ويبعث على السخرية، ويدل دلالة واضحة على التحريف والإنحراف الكبير الذي وقع لهم في ديانتهم، سواء في كتبهم أو في تشريعات كهنتهم وأحبارهم."1" أما النصارى فحالهم أعجب وأغرب، فليس عندهم كتاب واحد من كتبهم يصح نسبته إلى أحد ممن يضعون اسمه على تلك الكتب، فضلاً عن أن يصح نسبته إلى المسيح (، بل إنهم لا يعرفون على التحقيق من هم كتبة تلك الكتب، ولا تواريخ كتابتها."2" وأثبتت الدراسات النقدية وجود اختلافات "3"، وأخطاء "4" كثيرة جداً فيها. أما من ناحية الاعتقاد فكلامهم في الله تعالى من أفسد القول وأقبحه، كما أن اعتقادهم لا يمت بصلة إلى كتبهم حتى بعد تحريفها، فالتثليث لم يرد ولا مرة واحدة في كتبهم كلها، أما الأبوة والبنوة التي يزعمون، فهي معان مستغلقة غير مفهومة ولا واضحة، وهي مجرد دعاوى مرفوضة من ناحية العقل فضلاً عن الشرع والدين. أما دعواهم في الروح القدس وأنه ثالث ثلاثة، فلا يسند ذلك نص في كتبهم، بل هو اختراع من أحبارهم. أما الصلب تكفيراً لخطيئة آدم، وما فيها من الفلسفات الكثيرة الجوفاء، فلا يوجد في أناجيلهم نص واحد يدل عليه، بل هي أوهام في رؤوسهم، ودعاوى مظنونة متخرصة."5"   "1" انظر: الكنز المرصود في قواعد التلمود،55-96، فضح التلمود،131-146. "2" المدخل إلى العهد الجديد، للقس فهيم عزيز، ص146-152، اختلافات في تراجم الكتاب المقدس، ص76-81. "3" انظر: إظهار الحق "1/187-246"، دراسات في الأديان،ص188-196. "4" انظر: إظهار الحق "2/294-352"، ودراسات في الأديان، ص197-201. "5" انظر ذلك تفصيلاً في: دراسات في الأديان، ص225-282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 كما أنهم فقراء غاية الفقر في التشريع، فلا يوجد في كتبهم شيء من التشريع الإلهي، سوى ما يزعمون من أن المسيح حض على عدم الطلاق، وعدم زواج المطلقة."1" وأما بقية تشريعاتهم فقد وضعها قسسهم وأحبارهم في مجامعهم الدينية، فليت شعري كيف يجرؤ هؤلاء المفترون على نبي الإسلام وكتاب الإسلام ودين الإسلام. ولكن صدق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: "إن لم تستح فاصنع ما شئت"."2" وبعد هذه المقدمة في بيان حقيقتهم وحالهم سنفصل الرد عليهم في مطلبين: المطلب الأول: في نفي إمكانية أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم أتى بالقرآن من عنده. المطلب الثاني: في نفي أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم قد استفاد القرآن من اليهود والنصارى.   "1" انظر: إنجيل متى "5/31"، لوقا "16/18". "2" أخرجه. خ. الأنبياء، رقم "3484"،انظره مع الفتح "6/595"، من حديث أبي مسعود رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 المطلب الأول في نفي إمكانية أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم أتى بالقرآن من عنده لقد أنزل الله تعالى القرآن على نبيه ورسوله محمد صلي الله عليه وسلم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ , نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ , عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ , بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192-195] . فأعلن في الناس أن هذا كلام الله وليس كلامه، وليس له منه إلا التبليغ. والأدلة على أن القرآن لا يمكن أن يكون كلام النبي صلي الله عليه وسلم كثيرة جداً، نشير إلى بعضها: أولاً: أن الرسول صلي الله عليه وسلم صادق أمين، وصفه بذلك أعداؤه، كما روى البخاري في قصة أبي سفيان مع هرقل، فقال هرقل لأبي سفيان: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، ثم قال هرقل مبينا مراده من السؤال: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد اعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله "."1" وقد أكد صلي الله عليه وسلم في مرات كثيرة ومواقف عديدة أن القرآن الكريم كلام الله، وأنه يوحى إليه ما يقول، وهذا موجب لتصديقه من وجهين: الوجه الأول: أنه صادق، وقد عرف عنه ذلك واشتهر. والثاني: أن في نسبة القرآن إليه إبراز لمواهب نفسه، وإحراز للمقام الأعلى في قوة الفصاحة والبيان والعلم، ونحو ذلك، وخاصة أن القوم كانوا يتباهون في قوة التعبير، والفصاحة والبيان، ويعدونه من أعظم مفاخرهم، ومع ذلك تنصل منه، وقال: إنه كلام الله تعالى، وليس كلامه، ولم تختلف عنه هذه الدعوى في وقت من الأوقات، لا في أول بعثته ولا في آخرها.   "1" خ. بدء الوحي،رقم"3" انظره مع الفتح "1/32". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ثانياً: أن القرآن الكريم لم يكن متيسراً للنبي صلي الله عليه وسلم في كل حال، بل هو تنزيل من حكيم حميد، ينزل به الروح الأمين حسب مشيئة الله تعالى بذلك، ولو كان من عنده لفاضت به نفسه، وجاشت به قريحته في الوقت الذي يشاء، خاصة في الأوقات العصيبة، التي مر بها عليه الصلاة والسلام. من ذلك: أ- اشتراط المشركين للإيمان أن يبدل القرآن أو يغيره، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ , قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس: 15-16] . فمشركوا مكة طلبوا منه أن يبدل القرآن أويغيره، وكان عليه الصلاة والسلام شديد الحرص على هدايتهم حتى بلغ به الأمر ما ذكره الله تعالى بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] . أي لعلك مهلك نفسك مما تحرص وتحزن لعدم إيمان من لم يؤمن من الكفار."1" فمع هذا الحرص، والرغبة في إيمان القوم، لو كان بإمكانه تبديل القرآن أو تغييره لفعل ذلك يقيناً لشدة حرصه على هدايتهم، إلا أنه أعلن بصراحة ووضوح أن ذلك ليس إليه، لأن القرآن ليس من عنده، بل صرح أنه يخاف من عذاب الله تعالى فيما لو عصاه ويدخل في ذلك أدنى محاولة للتغيير والتبديل، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ , لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ , ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ , فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} الحاقة [44-47] . ب- قصة حادثة الإفك. وهي من من أصعب الأحداث وأشدها على النبي صلي الله عليه وسلم، وهو أن المنافقين طعنوا في أحب نسائه إليه عائشة رضي الله عنها، وعرضوا بها   "1" تفسير ابن كثير "3/311". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 في حادثة الإفك، وهي ابنة أعز أصحابه إليه، وهذا شرفه عليه الصلاة والسلام، وهو أشرف الشرفاء وأعظم العظماء وأنقى الأنقياء وأتقى الأتقياء عليه الصلاة والسلام، وهو أشد الناس غيرة كما قال عليه الصلاة والسلام: "أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني"."1" ومع ذلك فقد تجرأ عليه أناس من المنافقين، فطعنوا في زوجه، وشاع هذا في المدينة، وتأذى منه رسول الله صلي الله عليه وسلم غاية التأذي، ومع أن عائشة رضي الله عنها مرضت بعد قدومها من ذلك السفر، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يأبه لها كثيراً بسبب ما بلغه من القيل في ذلك، بل كان يأتي إليها حين اشتكت ويسلم، ثم يقول: "كيف تيكم"، ثم ينصرف، بل بلغ الأمر به عليه الصلاة والسلام أنه أخذ يستشير بعض أصحابه في شأنها، فاستشار أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب، وسأل الجارية عن عائشة، وسأل زينب بنت جحش زوجته رضي الله عنهم، بل إنه قال لعائشة آخر الأمر، وجلس عندها، ولم يكن جلس عندها من قبل من حين قيل ما قيل: يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه. وتأخر الوحي عن النبي صلي الله عليه وسلم في تلك الحادثة شهراً لا يوحى إليه في شأن عائشة رضي الله عنها، ثم نزلت براءتها بعد أن قال لها ما قال. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ … } [الآيات من سورة النور:11-20] . فكان أول كلمة قالها عليه الصلاة والسلام لها بعد نزول الآيات عليه: "يا عائشة أما الله سبحانه وتعالي فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه -أي إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم -، فقالت عائشة: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله "."2"   "1" انظر. خ في التوحيد، رقم "7416"، انظره مع الفتح "13/399". "2" انظر القصة كاملة في. خ، التفسير، رقم"4750". انظره مع الفتح "8/452". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فهذه الحادثة بتداعياتها الخطيرة، وآثارها الشديدة على النفس، وقد وقعت لأحب الناس إليه، تأخر فيها الوحي كل هذه المدة، تاركاً رسول الله صلي الله عليه وسلم في حيرة من حقيقة ما يقال، وما كان رسول الله ليشك في زوجه لولا كثرة كلام الناس، وتداول المنافقين لذلك الكلام وإشاعته، مما يدل على خطورة الإشاعات وقوة تأثيرها، فلو كان القرآن من عند رسول اللهصلي الله عليه وسلم لبادر لتلاوة آيات منه تبريء عائشة رضي الله عنها، وتخرس الألسن قبل أن يشيع ذكر الكلام الفاحش. ولكنها المشيئة الإلهية، والتربية الربانية، أراد الله أن يؤخر الوحي، حتى يعطي المسلمين درساً أنه لا أحد فوق الامتحان، وأن الشائعات أمرها خطير، وقد تقلب الموازين، وأن الحديث في مثل هذه الدعاوى يجب أن لا يكون بحال إلا بالشهود المعاينين للحادثة، إلى غير ذلك من الدروس. والدرس الذي يهمنا، هو أن القرآن ليس من عند النبي صلي الله عليه وسلم، ولو كان من عنده لوفر على نفسه ذلك العناء، وأنهى ذلك الإشكال في مهده، كغيره من الإشكالات، التي ينزل في شأنها قرآناً مباشرة كحكم الله في المستهزئين "1"، والواهبة نفسها "2"، وقصة التحريم "3"، وغير ذلك. ومن المعلوم أن إشاعات كهذه إذا خرجت وانتشرت، فليس من اليسير قطعها وإسكاتها، فالحل الأمثل لها أن تدفن في مهدها قبل انتشارها وشيوعها، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، وإنما استمر القيل والقال مدة شهر كامل، والله أعلم بما عانى رسول الله صلي الله عليه وسلم، وهو شديد الغيرة، عظيم الرحمة، والله أعلم بما عانى زوجه وأهلها، وجميع المسلمين.   "1" الآيات من سورة التوبة "65-66". "2" الأحزاب "50". "3" التحريم "1-5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 والفرق شاسع والبون واسع بين عبارة الشك، التي خاطب الرسول صلي الله عليه وسلم بها عائشة رضي الله عنها قبيل وقت قصيرمن نزول آيات البراءة، حين قال لها: "ياعائشة إن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله … ". فهي عبارة على ما فيها من الثقة بالله، فيها شك في حقيقة الأمر، فرق بين هذه والعبارة التي جاءت بعدها منسوبة إلى الله تعالى العليم الحكيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ … } الآيات. فوصم الحادثة بالإفك، وأعلن في أول كلمة فيها كذب الدعوى، وبراءة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وأعطى دروساً مهمة في الموضزع. فلا يقول أحد باتحاد المصدر في الموقفين والجملتين إلا جاهل أو كاذب معاند. وفي كل هذا دليل ناصع واضح، على أن القرآن لا يمكن أن يكون من عند النبي صلي الله عليه وسلم بحال من الأحوال. وصدق الله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . ثالثاً: أن الله تعالى عاتب النبي صلي الله عليه وسلم في مواطن كثيرة من كتابه، منها: أ- عتابه على أخذ الفداء في أسرى بدر، وذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الأنفال:67-68] . فعاتب الله نبيه على فعله بأخذ الفداء من الأسرى، ويدخل في ذلك سائر من رأى هذا الرأي، ومنهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد روى مسلم بسنده عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه لما استشار الصحابة في الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت: لا، والله يار سول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان "نسيباً لعمر" فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله صلي الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يارسول الله أخبرني عن أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم: "أبكي للذي عَرَضَ عَلَيّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرِض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة" -شجرة قريبة من نبي الله صلي الله عليه وسلم- وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} "1" وفي رواية عن ابن عمر أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر"."2" فكيف يمكن لعاقل أن يقول إن القرآن من عند النبي صلي الله عليه وسلم، وهو هنا يرد اجتهاد نفسه، ويحكم بأن الصواب هو ما قاله أحد أصحابه، ويتهدد بالعذاب، وأليم العقاب. لا يمكن لعاقل أن يقول إن صاحب هذا النص الذي يتهدد بالعذاب، بسبب الحكم، هو نفسه المجتهد في الحكم، وهو النبي صلي الله عليه وسلم، والذي كان يبكي من الخوف من عقوبة الله بسبب ذلك الحكم.   "1" م. الجهاد والسير، رقم"1763"،"3/1385"،حم"1/31". "2" عزاه السيوطي في الدر المنثور "4/108" إلى ابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه من طريق نافع عن ابن عمر رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ب-عتابه في قصة الأعمى. وذلك في قول الله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى , أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى , وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى , أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى , أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى , فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى , وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى , وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى , وَهُوَ يَخْشَى , فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1-10] . فقد ذكر في التفسير أن النبي صلي الله عليه وسلم كان منشغلاً ببعض كبار قريش يدعوهم إلى الإسلام، وهو حريص على هدايتهم، وجاءه ابن أم مكتوم، وكان كفيفاً، وكان مسلماً يسأله عن آية أو مسألة، ويلح عليه، فكره رسول الله صلي الله عليه وسلم ذلك، وعبس في وجهه رجاء إسلام ذلك الرجل، أو أولئك الرجال، وهذا حال يشعر كل إنسان أن الأولى بالاهتمام هو ذلك الذي لم يسلم، وهو من عظماء القوم رجاء أن يسلم بإسلامه الناس، أو في إسلامه إنقاذ له من النار، أما المسلم فمسألته لا تفوت، وليس عليه خوف من النار، فكان موقف النبي صلي الله عليه وسلم هو الموقف الذي سيقفه أي إنسان في مثل ذلك الموقف، إلا أن الله العليم الخبير والكريم الرحيم عاتب نبيه صلي الله عليه وسلم على ذلك الموقف عتاباً شديداً، ونبهه إلى خطئه عليه الصلاة والسلام في عبوسه في وجه المسلم، ونبهه إلى حكم عظيمة ودقائق جليلة غفل عنها عليه الصلاة والسلام، فانتبه النبي صلي الله عليه وسلم لذلك، وخضع لأمر ربه، فكان يكرم ذلك الأعمى."1" فهل عاقل يقول إن الذي عبس قبل قليل في وجه الأعمى، وكره مسألته، وحرص على إكمال الحديث مع أولئك الأكابر من قريش هو الذي عاتب نفسه بعدها بقليل، وأنبها، وأظهر خطأه فيما فعل؟ لا شك أن من قال ذلك فإنه لا يشعر بما يقول، ولا يفقه شيئاً مما يقول، وهذا حقيقة حال المكذبين.   "1" انظر: تفسير ابن جرير "30/50"، تفسير ابن كثير "4/426". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ج- قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها. من المعلوم أن زينب رضي الله عنها كانت زوجة لزيد بن حارثة، الذي كان تبناه النبي صلي الله عليه وسلم، إلى أن منع الله التبني في قوله {أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} الأحزاب:45- 46] . ثم إن زيداً رضي الله عنه لم تطب له عشرة زينب، فرغب في طلاقها، فشاور الرسول صلي الله عليه وسلم في ذلك، فأشار عليه الرسول صلي الله عليه وسلم بإمساكها، مع أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يعلم أن زيداً سيطلقها، وأنها ستكون زوجة له، وكان هذا شديداً على نفس النبي صلي الله عليه وسلم، من حيث كان زيد يدعى ابناً له، فيقول الناس عنه إنه تزوج زوجة ابنه، فكان يخشى كلام الناس في ذلك "1"، إلا أن الله تعالى الذي أراد ما أراد لحكمة بالغة ورحمة عظيمة ألزمه أن يقول ذلك، وأنزل عليه في ذلك قرآناً يتلى إلى يوم القيامة في القضية ليعلمها القاصي والداني، فقال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب:37] . فأعلن الله الأمر على الملأ، وتولى إنكاح زينب، وكافأ الله تعالى زينب على طاعتها لربها ورسوله بالموافقة على الزواج من زيد، وهو الذي كان مولى للرسول صلي الله عليه وسلم، وهي العربية القرشية، وأبطل الله ما كانوا يحرمونه من زواج مطلقة المتبني، وفي هذا إبطال للتبني وإلغاء له من جميع الوجوه.   "1" انظر الرواية في ذلك عند ابن جرير "22/13" من رواية علي بن الحسين، وهي الرواية التي رجحها وأخذ بمعناها ابن كثير في تفسيره "3/458"، ولا أرى أنه يصح غيرها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 لهذا قال أنس رضي الله عنه، وكذلك عائشة رضي الله عنها: "لو كان رسول اللهصلي الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه الآية {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} "1" فهل يمكن أن يقول قائل إن الرسول صلي الله عليه وسلم هو الذي كشف هنا عما يعتمل في نفسه من المعاني والتخوفات، التي كان يتخوفها صلي الله عليه وسلم. رابعاً: أن القرآن الكريم حوى علوماً وأخباراً لا يمكن للنبي صلي الله عليه وسلم أن يأتي بمثلها القرآن كلام الله تعالى المعجز، والذي تحدى الله به الإنس والجن. قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] . فقد حوى القرآن دلائل صدقه، وصدق من جاء به، وتكفل الله بإظهار ذلك على مر الزمان وكر العصور والدهور. قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:54] . وهذه الرؤية هي من الله تعالى، بمعنى أن الشيء يكون أمام الإنسان، ولا تنفتح عينيه عليه، فمن تفضل الله عليه كرماً منه ولطفاً رأى ببصر وبصيرة، ومن لم يتكرم عليه رأى ببصر بدون بصيرة. وبين الله تعالى لنا أن ذلك لأجل أن يتضح لهم {أَنَّهُ الْحَقُّ} ، أي القرآن في كلام أكثر المفسرين. "2"   "1" أخرجه. خ. في التوحيد رقم"7420"، انظره مع الفتح"13/403"،م. في الإيمان رقم"288"،"1/160". "2" انظر: تفسير ابن كثير "4/106"، روح المعاني للألوسي "25/6". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فمعنى هذه الآية أن الله سيطلع الناس في كل زمان على دلائل وبراهين صدق رسوله، في أن القرآن حق من عند الله، فيؤمن ويسلم من أراد الله هدايته، وتقوم الحجة على من عمي عنها، لأن هذه هي الغاية من بعث الرسل، وإنزال الكتب، وإظهار المعجزات، سواء الحسية أو العلمية أو البلاغية. قال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ , وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . [النمل [91 -92] . روى الطبري عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ … } قال: "في أنفسكم والسماء والأرض والرزق"."1" وقال ابن كثير:" أي الحمد لله الذي لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه والإنذار إليه، لهذا قال تعالى {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} "2" وقال شيخ الإسلام بعد أن بين أن الله تعالى يدل عباده بما يسمعونه ويبصرونه، فالسمع يسمع به العباد آيات الله وبراهينه المتلوة المنزلة على أنبيائه، وفيها دلالات واضحة على صدق رسله، أنهم رسله تعالى. أما البصر فهو: الطريق العياني، فهو أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية، ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته الرسل عن الله حق، كما قال تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: [54] ."3"   "1" تفسير الطبري "20/18". "2" انظر: تفسير ابن كثير "3/380". "3" مجموع الفتاوى "14/189". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ولابد هنا أن نعلم أن الهداية للدين والإيمان والبصيرة في آيات الله منحة من الله، يحرم منها من ليس أهلاً لها من المتكبرين الفاسقين. قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146] . وقد رأى أعداء الله من المكذبين للرسل، كقوم صالح وفرعون وغيرهم الآيات العديدة، فلم يؤمنوا، وقالوا: سحر مبين، ونحو ذلك من التبريرات التي لا تغني عن أصحابها شيئاً. ونشير هنا إلى أمرين مما حوى القرآن الكريم لا يمكن للنبي صلي الله عليه وسلم أن يأتي بهما من عند نفسه، ولا أن يأتي بهما بشر، بل فيهما برهان أن القرآن من عند الله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أولهما: الإعجاز العلمي. الإعجاز العلمي: المراد به أن الله أخبر بحقائق علمية ليس في طاقة النبي صلي الله عليه وسلم، بل ولا أحد من أهل زمانه أن يعلمها، إلا أن الله تعالى العليم الخبير قد أخبر بها في القرآن الكريم، لكي يكون في ذلك آية متجددة على مر الزمان تدل على أن القرآن من عند الله تعالى. وقبل أن نذكر شيئاً من الإعجاز العلمي على سبيل الاختصار، نبين الضوابط التي ذكرها العلماء في تفسير الآيات القولية المتعلقة بالآيات الكونية الخلقية، وهي: 1- أن القرآن الكريم ليس كتاباً للعلوم الدنيوية، بمعنى أنه ليس كتاب فلك ولا كتاب طب ولا كتاب هندسة ونحوها، وإنما هو كتاب هداية للإيمان وطاعة الرحمن. قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا , قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الكهف:1] . -أن يقتصر على الحقائق العلمية في تفسير الآيات، وهي التي ثبتت بالمشاهدة أو بالتجربة أو بالبرهان القاطع، ولا يأخذ بالنظريات والفرضيات، وذلك لأن النظريات قد تتغير، كنظرية دارون في أصل الأنواع، وكذلك تكون الكواكب ونحوها، وهذا التغير والتبدل ينعكس على فهم النص القرآني، فقد يؤدي إلى تكذيب القرآن وجعله تبعاً للفهوم الباطلة ـ أما الفرضيات فهي أسوأ، لأنها لاتعدو أن تكون تخميناً، كفرضية وجود أحياء على الكواكب الأخرى ونحوها. 3- أن لا يتعسف في تفسير الآيات ويلويها لتوافق ما يرى أن الآية تدل عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 4- أن يقرر أن هذا حسب فهمه للنص، ولا يلزم من ذلك أن هذه حقيقة النص، لأن نصوص القرآن من علم الله، ولا يحيط بعلم الله أحد، وقد يكون بدا للناظر فيها وجه ووجه من الحقيقة العلمية التي يريد أن يطبق عليها الآية، وقد يكون وراءها مناحي كثيرة لا يعلمها هو، كما أن لغة القرآن لغة استخدمت الألفاظ الجامعة التي تحيط بكل المعاني الصحيحة، فحصرها في معنى واحد من المعاني تحكم ما لم يرد نص قاطع في المعنى المقصود من المعصوم صلوات الله وسلامه عليه."1" بعض الآيات التي ذكرت الحقائق العلمية: يذكر العلماء في فنون كثيرة ممن اهتموا بهذا الباب من مسلمين وغيرهم آيات كثيرة ومتنوعة وردت في فنون شتى من العلوم، فمنهم الفلكيون والأطباء، وعلماء الآثار والتاريخ، وعلماء طبقات الأرض، وغيرهم. يقول الدكتور موريس بوكاي، وهو مستشرق فرنسي، صاحب الكتاب المشهور"القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم"، وكان قد تعلم العربية ليطلع على نص القرآن الكريم مباشرة، بدون الترجمات المغلوطة والحاقدة من كثير من المترجمين، فبناءً على ذلك قال: "لقد أذهلني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات – يعني الظواهر الطبيعية- وهي تفاصيل لا يمكن أن تدرك إلا من النص الأصلي، أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات، والتي لم يكن ممكناً لأي إنسان في عصر محمد صلي الله عليه وسلم أن يكون عنها أدنى فكرة، … ثم قال: إن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه مثل هذا النص لأول مرة، هو ثراء الموضوعات المعالجة، فهناك الخلق وعلم الفلك، وعرض لبعض الموضوعات الخاصة بالأرض، وعالم   1 تأصيل الإعجاز العلمي ص26،مباحث في إعجاز القرآن ص171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الحيوان وعالم النبات والتناسل الإنساني. وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية ضخمة لا نكتشف في القرآن أي خطأ، وقد دفعني ذلك لأتساءل: لو كان كاتب القرآن إنساناً كيف استطاع في القرن السابع من العصر المسيحي أن يكتب ما اتضح أنه يتفق اليوم مع المعارف العلمية الحديثة. ليس هناك أي مجال للشك، فنص القرآن الذي نملك اليوم هو فعلاً النص الأول "."1" فمعنى ذلك أن النصوص القرآنية المتعلقة ببعض الظواهر الطبعية أو الخلقية ونحوها، لا يمكن معرفة حقيقة المقصود بها إلا بالآلات الحديثة، والتي لم تتوفر إلا في هذه الأزمان المتأخرة، وهذا فيما لم يفسره النبي صلي الله عليه وسلم. وبسبب هذا سنكون متطفلين على أهل الإختصاص، نذكر ما قالوا فيما هو من علمهم في هذا الباب، ونعرض الآيات المحققة والمؤكدة لهذا المعنى، ليكون ذلك دليلاً على إعجاز القرآن العلمي، وآية على أنه الحق، وأنه من عند الله، وأن رسول الله صلي الله عليه وسلم آتاه الله القرآن، وأنه الرسول صلي الله عليه وسلم هو رسول رب العالمين. فمن ذلك: 1- كروية الأرض: صرح الله تعالى بكروية الأرض تصريحاً واضحاً في آيات عدة، مثل قوله تعالى: {خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار} [الزمر:5] . والتكوير: هو اللف والإدارة "2"، ولا يمكن بحال أن تكون الأرض منبسطة انبساطاً تاماً بدون تكوير فيها، ثم يتكور الليل على النهار، لأن انبساط الأرض   "1" القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم،ص145. "2" قال الراغب: كور الشيء إدارته، وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة. المفردات، ص433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 يلزم له أن يكون إشراق الشمس على الأرض كلها في لحظة واحدة، ثم تغيب عن الأرض كلها، فتكون الأرض كلها قريب اثنتي عشرة ساعة في ظلام دامس، وهذا غير واقع وغير صحيح، أما إذا كانت كروية فإن معنى ذلك أن النهار يدفع الليل، والليل يدفع النهار، فكلما ظهرت الشمس على جهة دخل الليل على الجهة المقابلة، وهكذا فهذا صريح في تكوير الأرض. وهذا يخالف ما كان فهمه كثير من العلماء، من أن الأرض ممتدة مبسوطة، وليست مكورة مستدلين على ذلك بقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} . ويذكر بعض العلماء أن في هذه الاية دليلاً صريحاً على كروية الأرض، وذلك أنها لو كانت مبسوطة كسطح الطاولة مثلاً فإنه لا يمكن أن تمتد، وإنما سيتوقف الماشي عليها والسالك فيها بخط مستقيم، حين ينتهي إلى حافتها ونهايتها، أما مع تكويرها فإنك إذا سلكت أي اتجاه فإنك لا تصل إلى نهاية ولو مشيت عمرك كله، لأنك تستدير عليها."1" 2- قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:53] . وقال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ , بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19-20] . اختلف المفسرون في بيان الحاجز بينهما، فقيل: هو اليابسة، كما ذكر ذلك ابن جرير عن ابن عباس، وعن الحسن البصري، وهو الذي رجحه ابن كثير، وقال:" برزخاً أي حاجزاً، وهواليبس من الأرض.   "1" انظر بتصرف: وجود الله بالدليل العلمي والعقلي، ص34، مباحث في إعجاز القرآن، ص187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وقيل: إن الحاجز شيء غير مرئي يمنع امتزاج أحدهما في الآخر بعد التقائهما. قال مجاهد: {وجعل بينهما برزخاً} ، قال: حاجزاً لا يراه أحد لا يختلط العذب في البحر. وقال ابن جريج: فلم أجد بحراً عذباً إلا الأنهار العذاب، فإن دجلة تقع في البحر، فأخبرني الخبير بها أنها تقع في البحر فلا تمور فيه بينهما مثل الخيط الأبيض. وهذا ما رجحه ابن جرير رحمه الله."1" ومع أن القول ألأول وجيه من ناحية إثبات أن اليابسة حاجز من طغيان الماء المالح الكثير على مياه الأنهار القليلة بالنسبة لمياه البحار، إلا أن القول الأخير هو الأظهر والأقرب لمعنى الآية، لأنه نص على الإختلاط، وأنه جعل بينهما برزخاً حال الإختلاط، فلا يبغي أحدهما على الآخر. وهذا ما أثبته العلم الحديث، من أن مياه الأنهار عند مصباتها تشكل بحيرات خاصة بها، وتعيش في تلك البحيرات كائنات حية لا تستطيع الخروج منها، فهي حجر محجور. بل إنهم نصوا على أن: البحار نفسها إذا اختلط بعضها مع بعض كالبحر الأحمر مع المحيط أو غيره، فإن لكل بحر منها خواصه وتركيباته المختلفة عن تركيب البحر الآخر، وتشكل هذه الخصائص حاجزاً يمكن من خلالها تمييز كل بحر عن الآخر."2" وفيما ذكر من الحاجز دليل على أن القرآن لا يمكن أن يكون من عند النبي صلي الله عليه وسلم، فإنه قد عاش عليه الصلاة والسلام في جزيرة العرب، بين مكة والمدينة، ولا   "1" انظر: تفسير ابن جرير "19/25"،تفسير ابن كثير "3/302". "2" انظر: مباحث في إعجاز القرآن، ص207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 يجري أي نهر من الأنهار في الجزيرة كلها، ولا ركب في حياته عليه الصلاة والسلام البحر، لينظر في خواصه ومصاب الأنهار فيه، فلا شك أن الذي علمه ذلك، وأخبره به هو الذي أنزل عليه القرآن وهو العليم الخبير. 3- التناسل الإنساني: إن موضوع خلق الإنسان، وتطور خلقه في بطن أمه قد ورد في آيات عديدة، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً … } [الحج:5] . وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ , ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ , ُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12-14] . وقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ , ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 7-8] . وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً , أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى , ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى , فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى , َلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:3640] . فهذه الآيات متعلقة بخلق الإنسان، وغيرها كثير مما ذكره العلماء ودرسوه. وهنا ننبه على أشياء من هذا، إذ لا يمكن استيعاب الكلام عن هذه المعاني، فنقول: إن الإعتقاد السائد في خلق الإنسان قبل نزول القرآن على أنواع، فأرسطو الذي كان قبل الميلاد كان يرى أن الجنين موجود في نطاف الرجل كامل الخلقة، فإذا دخل في رحم المرأة نما في رحمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ثم عدل عن ذلك، وقال: إن الجنين يتشكل في دم الحيض، فإذا جاء المني من الرجل عقده، بمعنى أثر فيه، بحيث يبدأ يتشكل ويبرز. ثم سادت في القرن السابع عشر الميلادي نظرية مفادها أن الجنين موجود في بيضة الأنثى، لأنهم كانوا اكتشفوا البويضة بالمجاهر قبل ذلك، في حدود عام 1672م. ثم إن النطاف الذكر يؤثر في ذلك الجنين فينشطه للتطور. ثم أول من عرف من الغربيين دور كل من نطفة الرجل وبويضة المرأة في تكوين الجنين هو العالم "هير تونغ" عام 1875م، ثم تعرف العالمان "بونري ومورحان" عام 1912م على الصبغيات، وما تحمله من مورثات، وأنها موجودة في نطفة الذكر وبويضة الأنثى، التي تحمل صفات الآباء إلى الأبناء. هذه المعلومات التي لم يتوصل لها العلم الحديث إلا بواسطة المجاهر والتحاليل والتصوير، إلى غير ذلك من الإمكانيات الحديثة، والتي تحتاج إلى متخصصين من أعلى المستويات، قد جاء بها القرآن الكريم، ولم يكن للناس علم بها، بل علم أكثرهم كان أن الجنين يتكون من دم الحيض، فلهذا كانوا يحملون المرأة نوع الجنين ذكراً أو أنثى، إلا أن هذه المعلومات الخاطئة صححها الله تعالى، وأعطى في ذلك معلومات صحيحة، كما أعطى مسميات دقيقة لمراحل خلق الإنسان، التي لايمكن بحال أن تعرف إلا بأحد أمرين: إما من العليم الخبير، الذي لا تخفى عليه خافية، وهو الخالق الموجد، وإما بواسطة المشاهدة والمعاينة من أهل الإختصاص في هذا. وهذا لم يتحقق إلا في العصر الحديث، ولم يكن حدث من قبل، وقرر العلم في هذا: أن الجنين يتخلق من نطفة الرجل والمرأة سوياً، ولا يمكن أن يتخلق ما لم يلتقي الحوين المنوي للرجل ببويضة المرأة. وهذا قول الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} والأمشاج: الأخلاط، والبعض يرى أن ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الأمشاج هو حيوان الرجل المنوي وبويضة المرأة، وبعد الإختلاط يبدأ التكون، وقبله لا يمكن أن يبدأ تكون الجنين. كما قرر القرآن أن نطفة الرجل هي التي تحمل الذكورة والأنوثة، وهي التي تتحكم في نوع الجنين، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى , مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} . والنطفة التي تمنى هي من الرجل، وليس من المرأة. وقد ثبت بالعلم الحديث أن الحيوان المنوي للرجل يحمل نوعين من الحيوانات المنوية، فنصفها حيوان منوي مذكر يحتوي على "23" كروموسوم أي صبغي، يرمز له بحرف "Y"، والنصف الآخر يحمل "23" كروموسوم أنثوي يرمزون له بحرف "x" ولكل من النوعين شكله الخاص وصفاته الخاصة، أما الأنثى فبويضتها تحتوي على "23" كروموسوم أنثوي المرموز له "x"فقط. فإذا سبق الحيوان المنوي الذي يحمل كروموسوم الذكورة "y"، فلقح البويضة، صار في البويضة النوعين الأنثوي والذكري، فيكون الجنين ذكراً بإذن الله، ويحمل في جسمه النوعين، وبعد أن يصبح ذلك الجنين بالغاً ينتج جسمه النوعين، أما إذاسبق الحوين المنوي المؤنث، الذي يحمل الكروموسوم "x" ولقح البويضة اجتمع فيها أنثوي مع أنثوي "x x"، فيكون أنثى بإذن الله، ثم لا تنتج بعد أن تبلغ إلا نوعاً واحداً، وهو الأنثوي. والله أعلم. كما قرر العلم أن الرجل في القذفة الواحدة يقذف ما يزيد عن "200" مليون حوين منوي، نصفها مذكر، ونصفها الآخر مؤنث. وأن الذي يفوز بتلقيح البويضة واحد من تلك الملايين فقط، وهو الذي يلج إلى داخل البويضة ويلقحها، ويكون به الحمل بإذن الله، أما الباقي فيهلك ولا يكون له أي دور بعد."1"   "1" انظر: خلق الإنسان بين الطب والقرآن، ص110-138، روعة الخلق أسرار كينونة الجنين، ص41-49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وهذا ما يشير إليه صراحة قوله تعالى: {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} . والسلالة هي: الشيء المستل المأخوذ من مجموعة."1" وكذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى , مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} . فالنطفة هي الشيء القليل من المني "2". وقد أكد هذا ع ليه الصلاة والسلام بقوله - لما سئل عن العزل-:"ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء"."3" ومما قرر العلم في هذا أن البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي من الرجل، تذهب إلى جدار الرحم فتعلق به، بمعنى أنها تنغرس فيه، وتبدأ تتغذى من الأوعية الدموية التي فيه، ثم تبدأ مرحلة التخلق. وهذه العلقة، وهذه الحالة، هي الموصوفة في القرآن في مواطن كثيرة، ولا يمكن لأحد مهما أوتي من العلم قبل عصر الإكتشافات العلمية أن يطلع على هذه الحالة وهذه الصورة، إلا من كشف الله له عن علم الغيب وعلمه من لدنه تبارك وتعالى. كما قرر العلم أن العلقة بعد ذلك تبدأ تخرج لها شبه أطراف، فتكون كقطعة اللحم الممضوغة، وهذه اللحمة الممضوغة يتكون منها شيئان: الشيء الأول: أعضاء الجنين، والتي تشكل الجنين فيما بعد، والشيء الثاني: المشيمة، التي ينمو داخلها الجنين، وهي تحمي الجنين وتغذيه بواسطة الحبل السري المتصل بها والمتصل بالجنين. وهذا ينطبق تماماً مع قوله تعالى: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} ، وقوله تعالى: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} . فالمخلقة هي ما يتكون منه   "1" انظر: تفسير القرطبي "12/109". "2" تفسير القرطبي "12/6". "3" م. النكاح، باب العزل، رقم"3539"، انظره مع شرح النووي "10/254". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الجنين، وغير مخلقة هي المشيمة وما يتبعها من الماء الذي يسبح فيه الجنين، وهو ليس مخلق ولا شأن له من هذه الناحية بالجنين. ثم بعد ذلك يبدأ تكون العظام، ثم يكسوها اللحم حتى يكون طفلاً يخرجه الله تعالى "1"، فإما يؤمن بعد هذا أو يكفر نسأل الله العافية. إن من يدعون أن محمداً صلي الله عليه وسلم أتى بالقرآن من عند نفسه فليبينوا كيف له ذلك، وأنى له ذلك، وهو كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] . إن المعلومات الموجودة في القرآن لا يمكن لبشر مهما أوتي من العلم أن يأتي بها بحال من الأحوال، حتى ولو توفرت له الأجهزة والآلات التي وجدت في العصر الحديث، وذلك لسبب واضح، وهو أنه لا يمكن للإنسان أن يحيط علماً بكل أنواع هذه العلوم المتنوعة الموجودة في القرآن، فالإنسان يمكن أن يكون فلكياً، ويمكن أن يكون عالما بطبقات الأرض ـ ويمكن أن يكون مؤرخاً، ويمكن أن يكون طبيباً أولغوياً، ونحو ذلك، لكنه لا يمكن أن يجمع هذه العلوم كلها. ومن المحقق أن الذين تحدثوا عن إعجاز القرآن، ونبهوا على ذلك هم ذوي مستويات عالية في تخصصاتهم، وكل تحدث في تخصصه، وإذا أراد أن يتحدث في تخصص آخر نقل عمن هو متخصص في هذا الشأن. فمن هنا نقول إنه لا يمكن لبشر مهما بلغ من العلم أن يأتي بهذه المعلومات والمعارف المتنوعة ويسوقها بهذا السياق، الذي يهدف إلى تأسيس اليقين وتقوية الإيمان والإقبال على طاعة الرحمن، في سياق متسق، وهدف واضح لا يتغير، وكلام منضبط لا يختلف، ومعلومات محددة دقيقة لا تخطيء.   "1" انظر: خلق الإنسان بين الطب والقرآن، ص197-295، روعة الخلق أسرار كينونة الجنين، ص64-108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 إنه لا يمكن بحال من الأحوال كما قلنا لأعلم أهل الأرض أن يأتي بمثل هذا القرآن، وهذه المعلومات، فكيف برجل أمي عاش أربعين سنة بين أهله وعشيرته، لم يخرج من مكة إلا في رحلتين: إلى الشام في التجارة، وذلك قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، لو جمع علم أهل الأرض كلهم في ذلك الزمان ما استطاعوا تحصيل شيء من العلم المذكور في القرآن، أقصد من الناحية العلمية، فضلاً عن غيرها. ومن المعلوم والمتيقن أنه لا يمكن لأحد أن يتعلم علماً من العلوم إلا ويعرف الناس سعيه إلى ذلك العلم وتردده على ذلك العالم، أو تلك المدرسة، أو تلك الكتب يتعلم منها، فهذا ليس من العيب حتى يخفى، بل هو من الشرف، ولابد من ظهوره، فالعلم لا يتحصل عليه الإنسان بين عشية وضحاها، بل لا بد من إنفاق الأيام والليالي والشهور والسنين فيه. فمن هو ذا المعلم الذي تعلم منه النبي صلي الله عليه وسلم؟ لاشك أنه لا يوجد له معلم من البشر، ولا يمكن أن يوجد، بل هذا مستحيل تمام الإستحالة، فلم يبق إلا العليم الخبير، بواسطة أمينه جبريل، كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى , عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4-5] ، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِي , نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِين , عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء:92-94] . ونختم هذا بقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:22] . هم كما سبق أن ذكرنا إنما يريدون عدم الإيمان، ولا يريدون الإيمان، ويريدون الدنيا وما يهوون، فليس لهم سبيل إلا التكذيب، أو دعوى التكذيب. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ونسأل الله تعالى المزيد من الهداية والثبات عليه إلى أن نلقاه تبارك وتعالى وتقدس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ثانيهما: إخباره عن أشياء من المستقبل: إن الزمان ثلاثة أحوال: ماض وحاضر ومستقبل، أما الماضي فعلمه ممكن من خلال دراسة التاريخ، أما الحاضر فمعرفته مبنية على المشاهدة والسماع والمعايشة. أما المستقبل فلا يمكن لأحد معرفته، إذ هو من علم الغيب، ولا يدري عنه أحد شيئاً إلا الله تعالى، أو من علمه الله جل وعلا. وسنشير في إختصار إلى أشياء مما ذكر الله تعالى في القرآن 1من أمور المستقبل2، التي لا يعلمها إلا من علمه العليم الخبير. 1- قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ , فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} البقرة: [23-24] . فهذه الايات صريحة في التحدي - وليس هذا فقط-، بل قطعت بالعجز حتى عن المحاولة في الحاضر والمستقبل، وأنهم لا سبيل لهم إلى ذلك، وهذا الذي كان، فلم يعرف أن أحداً استطاع أن يأتي بسورة من مثل القرآن، ويصدق ذلك على أقصر سورة فيه، وهي الكوثر، وهي تتألف من عشر كلمات فقط، ولا يعني ذلك أن يزن أحد على وزنها عشر كلمات كما كان يفعل مسيلمة الكذاب، فيما قيل عنه إنه عارض سورة الفيل، فقال "ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى ما بين صفاق وحشا"."3"   "1" لقد ورد في السنة أشياء كثيرة من الاخبار بالأمور المستقبلة، مثل ما سيحدث لأهل الإسلام سواء من الصحابة أو من بعدهم، وكذلك أشراط الساعة ونحوها الشيئ الكثير مما وقع كثير منه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم"وانما قصرنا الأمثلة في هذه المباحث على القرآن الذي قصد الكلام عنه في هذه. "2" من الدلائل على صدق الرسول أيضاً أخبار الماضي والحاضر التي لا يعلمها من قبل، ولكنا اقتصرنا على المستقبل طلباً للإختصار،ولأن الإستدلال به أقوى من الاستدلال بالأخبار الماضية، أو الحاضرة، وانظر في ذلك: النبأ العظيم، ص36 وما بعدها. "3" انظر: إعجاز القرآن للباقلاني ص173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فهذا كلام فارغ لا معنى له، وإنما عليه أن يأتي بالخبر الصادق، والتشريع الصحيح، والعلم النافع، وسائر ما يتصف به النص القرآني، ويكون ذلك في قالب من الكلمات بليغ، مؤثر في النفوس، آخذ بمجامع القلوب والألباب، فأنى لأحد من البشر ذلك.1 والمهم من ذلك كله أنه لم يعارض القرآن أحد معارضة صحيحة، ولم يتقدم إلى ذلك أحد على تعاقب الليالي والأيام، واستمرار الكفار وتتابعهم في العداء لهذا الدين، وابتغاء اندحاره، والاجتهاد في حربه بكل وسيلة ممكنة، ومع ذلك كله عجزوا عن أن يأتوا بمثل سورة من القرآن، فمن أخبر النبي صلي الله عليه وسلم ذلك؟ ومن أعلمه بذلك؟، ومن أين للنبي صلي الله عليه وسلم أن يأتي بشيء لا يستطيعه الأولون ولا الآخرون؟! هذا لا يمكن أن يكون إلا من الله العليم الحكيم. 2- قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] . وقد حقق الله لنبيهصلي الله عليه وسلم وأصحابه وأمته من بعده ما وعد، ففتحت البلاد، ودخل الناس في دين الله، وتمكن الدين، وتبدل الخوف أمناً، وانتشر دين الله في الأرض، حتى بلغ في أقل من مائة سنة هجرية حدود فرنسا من الغرب، وحدود الصين من الشرق "2". فمن أين للنبي صلي الله عليه وسلم علم ذلك؟ 3- قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً , فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً , ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ   "1" انظر: النبأ العظيم، ص80-106. "2" انظر كلام ابن كثير في تفسيره "3/282". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً. عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [الإسراء:4-8] . لقد ذكر العلماء في تفسير هذه الآيات أن المرتين قد وقعتا على بني إسرائيل، وعلى هذا أكثر المفسرين. ويجعلون المرة الأولى هي قضاء بختنصر عليهم، وذلك قبل الميلاد بما يقارب 586سنة، والأخرى قضاء الرومان عليهم، وذلك في حدود 70م أو 135م ولهم أقوال أخرى نحو ذلك. ولكن الناظر في التاريخ، وما ذكره اليهود من تاريخهم في كتابهم يتبين أنه بعد قضاء بختنصر عليهم سنة 586ق. م لم تقم لهم قائمة، ولا قامت لهم قوة البتة، وإنما وقعوا تحت الإستعمار، كما هو في التعبير الحديث، فكانوا أولاً تحت حكم البابليين، ثم الفرس، ثم اليونان، ثم الرومان، الذين طردوهم في سنة 135م من فلسطين وشردوهم منها إلى هذا الزمن، الذي بدأوا يتجمعون فيه. ومنذ سقوط فلسطين بيد البابليين في حدود سنة 586ق. م، لم تقم لليهود قوة ولا دولة، سوى دويلة ضعيفة هزيلة أيام المكابيين بعد المسيح عليه السلام، حيث قام مجموعة منهم، واستطاعوا أن يتحرروا من قبضة الرومان قليلاً، إلا أن الرومان جمعوا لهم جمعاً قوياً، ووطئوا به ديارهم، وقضوا عليهم قضاءً شبه مبرم، ودمروا بيت المقدس، الذي كانوا قد أعادوا بناءه قبل المسيح عليه السلام، وأزالوا كل آثاره، ولم يبقوا لهم إلا جداراً غرب بيت المقدس. وسمح لهم الحاكم الروماني أن يعودوا إلى بيت المقدس يوماً واحداً في السنة عند ذلك الجدار يبكون يتذكرون ما فعله بهم."1"   "1" انظر: تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم، ص290-381، أبحاث في الفكر اليهودي، ص36-38، قصة الحضارة،"3/4"، ودراسات في الأديان، ص44-47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ومن المعلوم والمتيقن أن بعض فلولهم جاءوا إلى جزيرة العرب، واستوطنوا مناطق فيها في المدينة وفدك وخيبر، وكونوا لأنفسهم بذلك قوة، إلا أن الله سلط رسوله على تلك القوة، فدمرها، ولم يتوف النبي عليه الصلاة والسلام ولليهود قوة قائمة في الأرض. وهذا فيما أرى الذي جعل كثيراً من علماء المسلمين يقررون أن المرتين من القضاء المحتم على بني إسرائيل قد وقعتا. ولكن من أدرك العصر الحاضر، ورأى انقلاب الحال، ورأى تمكن اليهود من العودة إلى فلسطين، وقيام مملكتهم فيها، وأنهم صار لهم فيها قوة مالية وعسكرية، وما تحقق لهم من تبعية أو نصرة كثير من الدول القوية في هذه الأزمان، حتى أنهم لو استنفروا تلك الدول، لقامت معهم، من رأى هذا أدرك معنى قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} . تتحقق لهم خلال تاريخهم بعد الهلاك الأول على يد بختنصر إلا في هذا الزمن، وقد أخبر به العليم الحكيم. ومن الجدير بالذكر أن بختنصر، ومن معه من البابليين يعتبرون من العرب، ثم إن الكرة ارتدت لليهود على العرب في هذا الزمن، وهذا حقيقة المواجهين لليهود، وأنهم معتزون بعروبتهم، ولا يتكلمون مع اليهود باسم الإسلام ولا المسلمين، والله أعلم بمعنى كلامه. إلا أن في كلام الله تعالى بشارة واضحة صريحة، لا تقبل الجدل، وهي قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} . فالآخرة المقصود بها المرة الأخيرة، او الثانية من علوهم وفسادهم، وقوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} صريح في أن الذين دخلوه أول مرة هم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "1"،وسيدخله المسلمون في الوقت الذي يشاء الله مرة أخرى، ويكون بذلك دمار اليهود وهلاكهم، كما تشير إلى ذلك الآيات السابقة، وكما هو صريح قول النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيما روى أبو هريرةرضي الله عنه:" لاتقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبيء اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد "2" فإنه من شجر اليهود "."3" فوقوع هذا من اليقين الذي لا يقبل الشك بحال من الأحوال، ولكل أجل كتاب. فمن هنا نقول إن مثل هذه المعلومات لا يمكن أن يعلمها الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما أخبره بها الذي قدر وقوعها، وجعل لها أجلاً لا بد منه، ولكل نبأ مستقر.   "1" البداية والنهاية،"7/52". "2" الغرقد:شجيرة تسمو من متر إلى ثلاثة أمتار، من الفصيلة الباذنجانية، ساقها وفروعها بيض تشبه العوسج في أوراقها اللحمية وفروعها الشائكة وأزهارها الطويلة العنق، عبقة الريح، بيضاء مخضرة، وثمرتها مخروطية تؤكل، وتسمى أيضاً "الغردق". انظر: المعجم الوسيط، ص651. "3" أخرجه:م. الفتن، رقم "7268"، انظره مع شرح النووي "18/252". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 المطلب الثاني إبطال دعوى أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم قد استفاد القرآن من اليهود والنصارى زعم بعض المستشرقين كما ذكرنا سابقاً أن النبي صلي الله عليه وسلم استفاد القرآن أو أشياء منه من اليهود والنصارى، وهذا كلام يضحك من قائله الصبيان، ويسفه صاحبه كل ذي بصيرة وعرفان. ونبين بطلانه من وجوه: أولاً: أن المستشرقين اقتفوا أثر المشركين، الذين نسبوا القرآن إلى أناس من النصارى، وقد رد الله على المشركين الذين ادعوا ذلك، وهو رد على كل من ادعى هذه الدعوى بعد، وذلك في قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:101-103] . فمن الدليل الواضح على كذبهم في دعواهم أنهم عزوا القرآن إلى عاجز عن العبارة الفصيحة لعجمته، فهم كمن يعزو صنع لوحة فنية إلى مقطع اليدين، أو من يعزو قصيدة عصماء إلى أخرس أبكم. ثانياً: أن النبي صلي الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون أخذ القرآن من اليهود والنصارى، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يلق اليهود، ولم يحتك بهم احتكاكاً مباشراً إلا بالمدينة، فعاداه اليهود، فقابلهم النبي صلي الله عليه وسلم بعداء مثله. وأخرجهم لما نقضوا عهودهم معه، وقاتلهم في جميع المواطن حتى قضى عليهم، وذلك بعد أن كفرهم الله ولعنهم، وأنزل الله تعالى على نبيه فيهم آيات تتلى في ذلك، ومنها: قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 أما النصارى فقد كفرهم الله تعالى، وكفرهم رسوله، ووصف قولهم ودعوتهم بأنها من أقبح الأقوال وأفسدها في الله تعالى، وذلك في قوله جل وعلا {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً , تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً , أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً , وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم:89-92] . بل دعاهم النبي صلي الله عليه وسلم للمباهلة، كما هو معلوم في السيرة، لما جاءه وفد نجران، وكانوا نصارى، وحاجوه في عيسى عليه السلام،فأنزل الله تعالى صدر سورة آل عمران، فلما لم يستجيبوا لدعوته أمره الله أن يباهلهم، فجبنوا عن ذلك، ورضوا أن يدفعوا الجزية."1" وهذا إقرار منهم بنبوته، وأنه على الحق، وأنهم على الباطل. فإذا كان هذا حاله معهم، فكيف يمكن أن يكون أخذ عنهم، ولو كان أخذ عنهم فهل يمكن أن يخفوا ذلك ويسكتوا عنه وهو معاد لهم، وهم حريصون على تكذيبه ورد رسالته؟ ثالثاً: أن النبي صلي الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فكيف يمكن أن يستفيد من كتب اليهود والنصارى. أما لو زعموا أنه حفظها منهم فإن ذلك ممتنع، لأنه لا يعرف للنبي صلي الله عليه وسلم صلة بأحد منهم لا من اليهود ولا من النصارى "2"، ولم يكن قومه من أهل العلم بكتب اليهود والنصارى، كما قال تعالى بعد أن ذكر قصة نوحعليه السلام: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] .   "1" انظر:تفسير ابن كثير "3/323-325". "2" سوى ما ذكر عن الغلام النصراني، وقد سبق بيان بطلان الدعوى في ذلك، ثم إن علم النصارى واليهود مجتمعون لا يأتي قطرة في بحر علوم القرآن، وقد سبق ذكر كلام موريس بوكاي في الفوارق بين نص القرآن ونصوص التوراة، وسنشير إلى بعض الفوارق الأخرى في الصفحات التالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 رابعاً: أن ما عند اليهود والنصارى من العلم الموافق لما جاء في القرآن، وذلك مثل بعض القصص الواردة في التوراة، خاصة مما يتعلق بآدم ونوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام، وكذلك شيء من أخبار داود وسليمان ويونس وعيسى عليهم السلام، وكذلك أشياء من العقائد الموجودة في التوراة، كالإيمان بالله وتوحيده والملائكة والجن، ونحو ذلك. فهذا كله دليل لنبوة النبي صلي الله عليه وسلم، لأن أولئك أنبياء، ويقر اليهود والنصارى على الجملة بنبوتهم، فما جاء في القرآن موافقاً لما ورد عند اليهود والنصارى، فذلك دليل على صدقه، وأن مصدره من نفس المصدر الذي جاء منه علم الأنبياء قبله. وقد استدل ورقة بن نوفل على صدق النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الدليل، أي بالتشابه بين ما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم وما جاء به الأنبياء قبله، كما في البخاري، أنه لما أخبره النبي صلي الله عليه وسلم خبر نزول الوحي عليه أول مرة في غار حراء، قال: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى"1"، وكذلك استدل به النجاشي لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صدراً من سورة مريم بكى، وبكت أساقفته، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي:" إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة "."2" ومن المهم أن نشير هنا إلى أن ورود هذه القصص في القرآن الكريم تصديق لها وتثبيت، لأن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي لا تطاله الشبهة في مصدره وصحته، سوى ما يقوله أعداؤه بأفواههم، ولا يستطيعون أن يقيموا عليه أي دليل أو برهان. فعلى هذا فالتوافق دليل على صدق الرسول صلي الله عليه وسلم، وأنه ليس مفتر كاذب، وحاشاه، لو كان أولئك الكفرة يعقلون.   "1" أخرجه. خ – بدء الوحي،رقم"3"، انظره مع فتح الباري "1/23"، م."3/1393". "2" أخرجه حم "1/202" عن أم سلمة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 كما أنا نقول للنصارى: لو كان التشابه دليلاً على الكذب، لكان التشابه فيما عزوه إلى عيسى عليه السلام، مما يشابه التوراة دليلاً على كذب عيسى عليه السلام، وحاشاه. خامساً: أن المدقق في المعلومات الموجودة في القرآن الكريم، والمعلومات الموافقة لها، الموجودة في التوراة والإنجيل يجد فوارق جوهرية أساسية، وفوارق مهمة، يتميز بها النص القرآني، ويعلو بها على سائر النصوص الأخرى، وفيها دلالة على عبث اليهود والنصارى بنص التوراة، وسلامة نص القرآن وصحته. ومن المثال على ذلك: 1- أنهم وصفوا الله تعالى بالنقائص. فمن ذلك زعمهم أن الله تبارك وتعالى استراح لما خلق السموات والأرض."1" وزعموا أن الله تبارك وتعالى يبكي "2"- تعالى الله عن قولهم، وأنه يندم "3"، وأنه يجهل "4"، ولا شك أن هذا كله تنقص لرب العزة والجلال، بخلاف النص القرآني في هذه ألأبواب، فيصف الله بالكمال المطلق.   "1" قالوا في سفر التكوين "2/2":"وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل"، وانظر أيضاً: سفر الخروج "31/17". "2" هكذا زعموا أخزاهم الله في الدنيا والآخرة، حيث يقولون في كتابهم في سفر أرميا"13/17" عن الله أنه قال: إن نفسي تبكي في أماكن مستترة من أجل الكبرياء وتبكي عيني بكاء وتذرف الدموع لأنه قد سبي قطيع الرب"، وكذلك قالوا في "14/17" "لتذرف عيناي دموعاً ليلاً ونهاراً ولا تكفا، لأن العذراء بنت شعبي سحقت سحقاً عظيماً بضربة موجعة جداً ". "3" قالوا في سفر الخروج "32/14" "فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه". "4" من هذا ما قالوا في قصة آدم عليه السلام، وأكله من الشجرة، فقد جاء في سفر التكوين "3/8" "وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله وقال له: أين أنت، فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت، فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني فأكلت". فكلامهم يدل على أن الله – تعالى عن قولهم- لم يعلم بآدم حين أكل من الشجرة، ولم يره حين أكل، بل لم يعلم بمكانه بعد أن اختبأ في الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 بل ابتدأت كثير من السور بالتسبيح {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} ، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . والتسبيح: هو التنزيه لله تعالى عن النقص. وأثبت السلف بناءً على نصوص القرآن والسنة اتصاف الله تعالى بصفات الكمال، التي لا يشوبها نقص بوجه من الوجوه. 2- التوحيد. اليهود زعموا في كتابههم أن الله تعالى إلههم وحدهم دون الناس، ووصفوه في مواطن كثيرة من كتابهم أنه إله بني إسرائيل دون الناس. وفي هذا قالوا في سفر التكوين "28/21" من قول يعقوب "يكون الرب لي إلهاً"، وفي سفر الخروج "24/10" ورأوا إله إسرائيل، وفي "29/45" اسكن في وسط بني إسرائيل وأكون لهم إلهاً فيعلمون أني أنا الرب إلههم الذي أخرجهم من أرض مصر لأسكن في وسطهم أنا الرب إلههم"، وفي "32/37" فقال لهم هكذا قال الرب إله إسرائيل، وفي التثنية "10/14" هوذا للرب إلهك السموات وسماء السموات والأرض وكل ما فيها ولكن الرب إنما التصق بآبائك ليحبهم فاختار من بعدهم نسلهم الذي هو أنتم فوق جميع الشعوب كما في هذا اليوم. فهذه النصوص ونحوها كثير يصفون بها الله تعالى أنه ربهم ومعبودهم، وأنهم شعبه دون الناس، وليس لأحد حق في عبادته سواهم. أما النصارى فشأنهم شيء آخر من الشرك والكفر، وعبادة غير الله تعالى، وادعاء الولد. أما القرآن فلا شيء فيه أظهر من التوحيد، ولا أصفى منه، وأنه رب العالمين، والواجب على الخلق كلهم عبادته وحده، وهو أول أمر في ترتيب القرآن، موجه إلى الناس كافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] . 3- طعنهم في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وصف اليهود أنبياء الله تعالى بأوصاف قبيحة، ونسبوا إليهم فعل الرذائل والفواحش، فزعموا أن نوحاً عليه السلام سكر "1"، ووصفوا إبراهيم عليه السلام بالدياثة "2"، وزعموا أن لوطاً زنا بابنتيه "3". وحاشا الأنبياء عليهم السلام. وغير ذلك كثير من دعاويهم التي يتيقن العاقل من الناس أن هذا لا يمكن أن يقع من أولئك الصفوة من البشر، بل إن كل أصحاب ديانة ليعظمون أئمتهم ويشعرون أنهم يجب أن يكونوا على حال كاملة، أو قريبة من الكمال، من ناحية النزاهة والترفع عن الرذائل والدنايا، فضلاً عن الأنبياء الذين كملهم الله وشرفهم. وما ذكره اليهود ووصموا به أنبياء الله تعالى يختلف تمام الاختلاف عما في القرآن الكريم، الذي جعل الرسل عليهم السلام في قمة الكمال البشري، وخصهم بالاصطفاء. قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] ، وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ , وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ , وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ,وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ , وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ   "1" انظر: سفر التكوين "9/20". "2" انظر: سفر التكوين "12/10-20" "3" انظر: سفر التكوين "19/30-38". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ , ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ , أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ , أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [الأنعام: 83-90] . فهذه الآيات وغيرها كثير في أولئك الصفوة من البشر تظهر الفوارق الكبرى بين نصوص القرآن، وتحريفات اليهود في كتبهم، فكيف يمكن أن يكون القرآن مقتبساً من التوراة لو كانوا يعقلون. 4- اليوم الآخر والبعث والجنة والنار. لا يوجد لدى اليهود في كتابهم التوراة وكتبهم الملحقة به ذكر للبعث واليوم الآخر، لهذا ظهر ضلالهم في الإيمان باليوم الآخر، بل لم يذكروا الجنة إلا في قصة آدم، وما عدا ذلك لم يذكروها البتة. وعندهم نص يتيم يشير إلى البعث إشارة من طرف خفي، وذلك قولهم في سفر دانيال "12/2" كثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار والازدراء الأبدي. أما النصارى فلا يعتقدون أن فيها نعيماً حسياً، بل هو رؤية الله فقط. "1" أما القرآن فهذه أظهر قضاياه بعد التوحيد، ولا يكاد تمر صفحة من المصحف إلا وفيها ذكر الآخرة أو النعيم أو العذاب، تصريحاً أو تلميحاً. فهذا كله دليل على أن القرآن لا يمكن بحال أن يكون مأخوذاً من اليهود والنصارى، لأنهم فاقدون للعلم الصحيح، وفاقد الشئ لا يعطيه. كما جرت العادة أن الصورة تكون أضعف من الأصل، إلا أن القرآن الذي يزعم فيه أولئك الضلال ما يزعمون لا يمكن بحال أن يقارن بتلك الكتب، التي عبثت بها أيدي البشر وسامتها تحريفاً وتخريما.   "1" انظر: علم اللاهوت النظامي، ص1210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وفي ختام هذا الرد نبين: أنه لم تسجل حياة رجل في التاريخ، وتحصى عليه كلماته وحركاته وسكناته في حله وترحاله، في بيته وخارج بيته مثل النبي صلي الله عليه وسلم، فقد كان الناقلون ينقلون، بل ويتعبدون بنقل كل شيء عنه، صغر أو كبر، فرجل كما يقال: تحت المجهر إلى آخر لحظة من حياته، هل يمكن أن تقع الجهالة بحقيقة مصدره في العلم، وهل يمكن أن يكون عنده من يختلف إليه ليأخذ عنه العلم، ولا يشعر به أصحابه؟، ومن هو هذا الرجل الذي يمكن أن يكون أعلم الناس، بل لا يدانيه في علمه أحد، ومع هذا يخفي نفسه، ويذهب بالحمد والشهرة غيره؟! إن دعوى كهذه لاشك أن مدعيها لا يعي ما يقول، وإنما مراده أن يقول شيئاً. ومما يدل أيضاً على كذب دعوى كهذه: أن الرسول عليه الصلاة والسلام عاش حياته الأولى، بل الجزء الأكبر من حياته في مكة، وغادرها وهو في الثالثة والخمسين من العمر عليه الصلاة والسلام، وعاش فيها بعد البعثة ثلاثة عشر عاماً، وخلال هذه المدة نزل عليه جملة كبيرة من القرآن. ومن المعلوم أن مكة ليس فيها يهود ولا نصارى، ولا كانوا يختلفون إليها حجاجاً ولا زائرين، لأنها لا تشكل شيئاً بالنسبة لهم، فبالتالي دعوى أنه تعلم من اليهود أو من النصارى دعوى فارغة، خالية من أي مضمون، وإلا فليكشفوا عن هذا اليهودي ذو النفس العظيمة والمتواضعة وذو العلم الجم والمحبة الفائقة ونكران الذات الذي علم النبي صلوات الله وسلامه عليه. وليكشفوا عن ذلك النصراني الذي علم النبي عليه الصلاة والسلام. لاشك أنهم لم يجدوه، ولن يجدوه، لأنه لا وجود له في الحقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وإذا انتفى وجود هذا الرجل في مكة، فكذلك في المدينة هو منتف أيضاً، لأن اليهود بمجرد مجيئه إلى المدينة عادوه بعد أن عرفوه، واستمروا على هذا العداء الشديد، حتى أجلى من أجلى منهم، وقتل من قتل منهم، وهم على حالهم في العداء، مما يجعل دعوى أنه أخذ منهم شيئاً منتفية انتفاءً كاملاً، ولا يمكن وقوعها. هذا بيان مختصر في رد دعوى أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه استفاد مادة القرآن الكريم من اليهود والنصارى، وأنها لا تعدو أن تكون من باب الخرص والتخمين الباطل، والاتهام الكاذب، الذي دأب عليه أعداء الرسول صلي الله عليه وسلم في كل زمان ومكان، وحقيقته أنها دعوى لتبرير تكذيبهم له، وعدم متابعته والإيمان به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الخاتمة الحمد لله يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، ولا يهلك على الله إلا هالك، وبعد: فهذه خاتمة أبرز فيها أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث السابق: 1- أن من أعظم أهداف المستشرقين هدم الإسلام، وتقويض أركانه. 2- أن المستشرقين أعداء الله وأعداء رسوله، حاولوا أن يغلفوا ذلك كله باسم العلم والتحقيق. 3- أن المستشرقين لم يأتوا بشيء جديد في هذا، بل رددوا ما ردده أبو جهل وأبو لهب والوليد بن المغيرة وغيرهم، جمعهم الكفر والحسد، وفرقهم الزمان والمكان. 4- أن زعم المستشرقين أن النبي صلي الله عليه وسلم افترى القرآن من عند نفسه دعوى باطلة ومستحيلة لعدة أسباب: أولاً: أنه قال إنه من عند الله، وهو الصادق الأمين، وشهد له أعداؤه بذلك. ثانياً: أن القرآن لم يكن متيسراً للنبي عليه الصلاة والسلام في كل حال. ثالثاً: أن الله تعالى عاتبه في القرآن في عدة مواطن. رابعاً: أن القرآن حوى علوماً فلكية وبحرية وعلم الأجنة وغير ذلك، مما لا يمكن لبشر أن يعلمها، وخاصة في زمان النبي صلي الله عليه وسلم. خامساً: أن القرآن حوى نصوصاً عن حوادث حدثت بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم علمها اللطيف الخبير. 5- أن المستشرقين زعموا أن النبي صلي الله عليه وسلم اقتبس القرآن، واستفاد مادته أو جزءاً كبيراً منها من التوراة والإنجيل، أو من اليهود والنصارى، وهذه دعوى باطلة لعدة أسباب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أولاً: أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يلق أحداً من اليهود والنصارى قبل البعثة، وإنما لقي اليهود في المدينة، ووقع بينه وبينهم العداء، فلا يمكن أن يعلموه شيئاً مما علمهم الله، وهم أهل الكبر والحسد. ثانياً: أن النبي صلي الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فكيف له أن يستفيد من كتبهم. ثالثاً: أن ما عند اليهود من العلم، وهو يوافق ما جاء في القرآن، فهذا دليل على أن المصدر واحد، وهو الله تعالى. رابعاً: أن هناك فوارق جوهرية بين ما ورد في القرآن، وما ورد في التوراة، مما يدل على أنه لا يمكن أن يكون استفاد منها، وإلا وقع في نفس أخطائها وأغلاطها. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 مصادر ومراجع ... قائمة المراجع 1- أبحاث في الفكر اليهودي. حسن ظاظا."بدون بيانات نشر". 2- اختلافات في تراجم الكتاب المقدس: اللواء/أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبه القاهره، ط الأولى 1407هـ 3- آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره. د.عمر إبراهيم رضوان. ط1.الرياض. دار طيبة/1413هـ. 4- الإستشراق والتاريخ الإسلامي. د.فاروق عمر فوزي. ط1.الأردن. الأهلية للنشر والتوزيع/1998م. 5- إظهار الحق: الشيخ رحمةالله الهندي، تحقيق د/ محمد ملكاوي، دار الحديث، القاهرة. 6- إعجاز القرآن للباقلاني. تحقيق: عماد الدين حيدر. ط1.بيروت. مؤسسة الكتب الثقافية/1406هـ. 7- البداية والنهاية: الحافظ ابن كثير، الناشر: مكتبة الفلاح الرياض، مطبعة الفجاله القاهرة. 8- تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم: محمد عزه دروزه، المكتبه العصريه، بيروت، ط جديده 1389هـ. 9- تاريخ الشعوب الإسلامية. كارل بروكلمان. ط13.بيروت. دار العلم/1998م. 10- تاريخ الطبري: طبعة دار المعارف، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. 11- تاريخ العرب العام. ل.أ. سيديو. نقله إلى العربية: عادل زعيتر. القاهرة. دار إحياء الكتب/1376هـ. 12- تأصيل الإعجاز العلمي. رابطة العالم الإسلامي. من أبحاث المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة المنعقد في باكستان/1408هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 3- تفسير الألوسي "روح البيان". بيروت. دار الفكر/1978م. 14- تفسير ابن جرير الطبري: مكتبة ومطبعة البابي الحلبي، ط الثانيه 1388هـ. 15- تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن".بيروت. دار الفكر. 16- تفسير ابن كثير: الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير مطبعة المنار 1410هـ. 17- خلق الإنسان بين الطب والقرآن. د.محمد علي البار. ط6.جدة. الدار السعودية للنشر والتوزيع/1406هـ. 18- دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية. سعود بن عبد العزيز الخلف. ط3.الرياض. مكتبة أضواء السلف. 19- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي. بيروت. ط1/1403هـ. 20- روعة الخلق أسرار كينونة الجنين. ترجوة ماجد طيفور. ط1.بيروت. دار العلم/1412هـ. 21- شرح القصائد العشر. يحي بن علي التبريزي. ط1.مكة. دار الباز/1405هـ. صحيح مسلم بشرح النووي. مسلم بن الحجاج. ط2.دار إحياء التراث/1392هـ. 22- علم اللاهوت النظامي: مجموعة من اللاهوتيين النصارى - دار الثقافة المسيحية. 23- العهد الجديد: دار الكتاب المقدس، القاهرة 1982م. 24- العهد القديم: دار الكتاب المقدس، القاهرة 1982 م. 25- فتح الباري شرح صحيح البخاري: الحافظ ابن حجر العسقلاني، نشررئاسة البحوث العلميه والافتاء، الرياض. 26- فضح التلمود. الأب. آي. بي. برانايتس. إعداد: زهدي الفاتح. ط2.دار النفائس/1405هـ.. 27- القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم: موريس بوكاى، دار المعارف بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 28- القرآن والمبشرون. محمد عزة دروزة. ط3.بيروت. المكتب الإسلامي/1399هـ. 29- قصة الحضارة: ول ديورانت، ت. محمد بدران إدارة الثقافة في جامعة الدول العربية. 30- الكتب المقدسة بين الصحة والتحريفزد. يحي محمد علي ربيع. ط1.مصر. دار الوفاء/1415هـ. 31- الكنز المرصود في قواعد التلمود: د/ روهلنج، ترجمة يوسف نصر الله، دار القلم، ط الأولى 1408هـ. 32- مباحث في إعجاز القرآن. د.مصطفى مسلم. الرياض. دار المسلم. ط2/1416هـ. 33- مجموع الفتاوى لابن تيمية. جمع: عبد الرحمن بن محمد الحنبلي وابنه محمد. ط1/1398هـ. 34- المدخل إلى العهد الجديد: القس/ فهيم عزيز، اصدار دار الثقافة المسيحية، مطبعة دار الجيل. 35- مسند الإمام أحمد بن حنبل: أحمد بن حنبل، بيروت، نشر دار صادر. 36- المعجم الوسيط. مجمع اللغة العربية. تركيا: المكتبة الإسلامية. 37- المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت. 38- مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية. مطبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج. الرياض/1405هـ. 39- النبأ العظيم. د.محمد عبد الله دراز. ط6.الكويت. دار القلم/1405هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197