الكتاب: داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب المؤلف: عبد العزيز شلبي سيد الأهل (المتوفى: 1402هـ) الناشر: دار العلم للملايين، بيروت، لبنان الطبعة: الثالثة، تشرين الثاني (نوفمبر) 1986م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب عبد العزيز سيد الأهل الكتاب: داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب المؤلف: عبد العزيز شلبي سيد الأهل (المتوفى: 1402هـ) الناشر: دار العلم للملايين، بيروت، لبنان الطبعة: الثالثة، تشرين الثاني (نوفمبر) 1986م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب تأليف: عبد العزيز سيد الأهل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس الآيات: 104-107] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 تقديم كانت ثورة الإمام أحمد على ردة المعتزلة والجهمية نابعة من صفوف الأمة ضد ما انحرفت نحوه الدولة ورجالها من الأفكار التي تحطم الدين وتفرق الصفوف. ولم تكن ضد نظام الدولة ولا أمنها ولا مبايعة خلفائها. وقد كان جديراً برجال الحكم أن يؤيدوها ويعتنقوا مبادءها لأنها كانت في عونهم على النجاة من التفكك والانحدار، غير أنهم عادوها وأخذوا بالتنكيل بها وأسرفوا غاية الإسراف. ومهما يكن الخليفة المتوكل قد بدأ بإخماد الفتنة وعمل على إحياء السنة فإن الآراء التي تسربت إلى فكر الأمة لم يصبح من اليسير طردها ولا التخفيف من وطأتها، بل إنها لم تلبث أن أصبحت من أفلاذ علوم المسلمين التي اشتغلت بها مدارس علم الكلام. وسارت الأفكار خليطاً من الصحيح والفاسد والنقي والكدر على مدى أزمنة طويلة فانطبع الناس عليها وصارت في جملتها كأنها دينهم الذي يدينون به. ولم يكن في قدرة الجهل والتأخر أن تعين العقول على التنقية لتسلم المعرفة، فمضى الأمر على سجيته حتى كان القرن السابع الهجري الذي نضجت فيه مدرسة حران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بسبب التفرق والانقسام العدائي كان خير معوان لحب التجمع مهما حدث من التردد الذي كان الدافع إليه حب الحياة وعزة السلطان، وحيث يكون المجال مفتوحاً لإمكان إقامة منظمة جديدة تلم شمل القبائل تحت عقائد كانت تعرفها وتؤمن بها وليست غريبة عنها فيكون الأمر أقل مشقة وأكثر قبولاً. أما أن ينسب إلى الحضارة وأدواتها أنها ربما قامت عوائق في طريق الدعوات الدينية والاجتماعية السليمة -ومن أجل ذلك تفاداها ابن عبد الوهاب- فإنه غير صحيح، إذ ربما كانت هذه الحضارة أيسر تسخيراً في التوصيل السريع والنشر العاجل أكثر مما تفعله شواسع الأمكنة وجفوة الطباع في البوادي التي لم تدخلها الحضارات، ولكن لم يوجد من يجسر على التجريب. وهذا كله لو افترضت نجد بادية كلها، ولكنَّ نجداً كانت ما بين حاضرة كثيرة القرى وبادية ذات عيش رتيب، وكان عيش الحضر رغداً وأدوات الحضارة وألوانها يأتي بها تجارهم من بلاد الترك ومصر والشام وفارس واليمن والهند، وعند أهلها صناعات الأسلحة والحياكة وصياغة المعادن، وكانوا على رفاهية في الطعام والشراب وفي عناية باقتناء الجواهر واختيار الثياب وأثاث البيوت. وأما البدو فكانوا في غنى بأنعامهم وخيامهم وكان لنسائهم شركة مع الرجال في أمور المعيشة وتنظيم الخيام. وتجارات نجد كان يجلبها أهل نجد لا الغرباء عنهم وهم قوم ذوو طاقة عجيبة على مزاولة الأسفار والأعمال، وقلما يوجد فيهم من هو راكن إلى الكسل والراحة، ولا يستبعد الرحالة السفار منهم أي بلد ولو كان الصين، كما لا يستطيل أي زمن ولو كان دهراً طويلاً. ثم لا يؤوب إلى موطنه في نجد إلا بعد أن يقضي حاجاته من الارتحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ولما كانت نجد في قلب الجزيرة العربية وكانت محوطة من كل جهاتها بالقبائل والحواضر المستقلة فقد كلف نجدا في انتصارها على هذه النطاقات المحيطة بها تضحيات كثيرة غالية في الأموال والأرواح. فلم تكن الدعوة أسهل وأيسر بها مما لو كانت في غيرها كما ظن بعض المؤرخين، ولكن هذا التوسط في الجزيرة مكّن نجداً من التحرك القوي للانتصار، إذ لم يكن لهذه الجهات المبعثرة حولها أن تتألف منها وحدة تهاجم نجدا لتحاجزها بعضها عن بعض بهضاب نجد، ولولا الحرب الوهابية التي جاءت من خارج الجزيرة بعدد وعديد لما خمد للوهابية حينا سراج. وفي المراحل الأولى لغزو القبائل والبلاد كان وجه الدعوة كله وهابياً سوى أن اليد كانت سعودية، فظهر الجد في الدعوة الذي سماه بعضهم عنفاً وسماه الجهلاء بحقائق الدين بدعة. وكان مبعث هذا الجد أو العنف أن الدعوة دينية في أساسها والسياسة تسايرها وتسندها فلم يكن هناك مجال لمراعاة المشاعر المنحرفة مهما كانت هذه المشاعر قد أصبحت من الأمور المقدسة عند أصحابها. وكانت الوهابية ذات نظرة عامة فلم تفترض المسلمين منقسمين بين الفرق الكبرى والمذاهب التي تتوزع كل فرقة من هذه الفرق، بل افترضت المسلمين وحدة واحدة، ولم يكن يصح أن تتهم الوهابية بأنها كانت ضد الإسلام ولا ضد رسوله العظيم أو آل بيته الأكرمين. فلما كانت المراحل الأخيرة إبان الحرب العظمى كانت الوهابية قد لبست أثواباً سعودية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها وكانت السياسة والدين قد اصطحبا في دولة وسارا معا يراعيان بعض الرفق الذي تعودته مشاعر الناس، وما دامت الأنظمة والقوانين تسير طبقاً لأنظمة الملة الإسلامية وقوانينها فليس من بأس بذلك الرفق بعد أن عرف العالم الإسلامي كله أن الوهابية فيما فعلت لم تكن تريد غير إرجاع الأمة عن الردة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 خرجت إليها عن التوحيد الصافي. ومن قبل الوهابية وقف عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في عزم وشدة ضد كل عمران يراد به الزينة والأبهة دون الحصب والإنتاج، وكان العدل عنده وإسعاد الناس أولى من هندسة المدن وتنظيمها وترميم المساجد وتذهيبها، فلم يجدد كسوة الكعبة حين بليت وباع سلاسل الذهب من مسجد دمشق وعوضها صفراً وحديداً، وكان يريد طمس كل زينة في المسجد، حتى عرف أنه صار شوكة في عين الروم فتركه باقياً بزينته وغناه. وكذلك أرادت الوهابية والسعودية، ولكن الأمر حين صار إلى السياسة فعلت كما فعل عمر، وكان حين دخل سعود الأكبر ابن عبد العزيز حاجا إلى مكة لأول مرة في عام 1227 هـ دخل إليها حاملا كسوة الكعبة من العباء الثمين الذي يغزل من الصوف ويجلب من الحساء. ومحمد علي وتركيا معا قد جنيا الشوك من جراء الحرب الوهابية، فَقَدْ فَقَدَ محمد علي من جنده وماله كثيراً، وأوقع مصر في فقر وضنك وخراب -وسنأتي على وصفه في الباب الأخير بالكتاب من كلام المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي معاصر هذه الحروب- ولم يجد محمد علي ما كان يأمله من ثروة في بلاد العرب في الجنوب الذي كان انصرف إليه حينا، ثم لم تشفع له انتصاراته لدى الباب العالي، بل تعقدت المشاكل بينهما، وبان أن الأتراك أوقعوا والي مصر في مشكلة لا تحل، ولم تكن في صالحهم أو صالحه سواء حلت أو تعقدت، لأنها أعضل من أن تسهل أو تهون. ومن ناحية الفكر فقد صار الجدل في حركة الإصلاح على كفتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وعلى ضوء ساطع بنظر سليم وحجة راجحة سار بنو تيمية وخفقت في آخر مسيرتهم راية تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الذي أفرغ جهده في التنقية والتصفية والتخريج، واعتزم في جد وصرامة أن يبعثر الركام المختلط ليكشف عن حقيقة الشريعة الصافية، فصرخ الناس في وجهه وأصلَوْهُ بنار عداوتهم. وكان حراس هذا الخليط المضطرب من رجال الحكم ورجال الدين، فأصلَوْهُ عداوتهم على سواء. غير أن مبادئ الثورة التي أشعلها الإمام أحمد وصولة الحق في أصوات المدرسة الحرانية كانت ذات أثر بالغ فحثت قلوب البصراء على البحث والنظر حتى تتكشف حقيقة المبادئ الصافية التي جاء بها الإسلام أول ما جاء وآخر ما ترك. فلما كان محمد بن عبد الوهاب كانت النفوس على استعداد لقبول دعوته تحت ضوء السراج الذي أشعله الإمام أحمد وبنو تيمية، وعلى استعداد أيضاً لردها ومحاربتها رضوخاً للجبال المركومة فوق الرؤوس من الآراء والجهالات. أما البصراء فقد قبلوا وأما المتلفعون بأردية الباطل فقد رفضوا، ولكن الدعوة وجدت سبيلها- برغم أعدائها ورافضيها -إلى المضي والنفوذ. وكذلك تم بها للحنابلة خط سليم من المنطق والعقل، كانت مقدمته أحمد بن حنبل وكان وسطه بني تيمية وكانت النتيجة محمد بن عبد الوهاب، في قضية مستقيمة لم تتعدد طرقها ولم تنعرج، بل سارت في طريق محكم قويم. ومما صار علماً لدى الناس تسمية حركة الإصلاح التي قام بها ابن عبد الوهاب بالمذهب الوهابي وإطلاق الوهابية على المذهب وعلى الحروب التي شنت على أهله -ولا سيما حملات محمد علي خاصة- ومن الحق أن تطلق الوهابية على كل الحروب التي جرت في الجزيرة العربية وفي خارجها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 منذ بدأت دعوة الإصلاح إلى أن قامت الدولة السعودية الثالثة والقائمة الآن. وإطلاق الوهابية كما أطلقت على حركة الإصلاح والحروب التي خاضتها كانت من الخصوم لا من الأصحاب، ولكنها مهما كانت تسمية بغيضة إلى نفوس أولئك المصلحين فإنه لقب يبدو في ذاته غير بغيض، إذ هو نسبة إلى الوهاب الذي هو اسم من أسماء الله الحسنى، ولعل إطلاقه -من غير إرادة الخصوم- كان بشرى انتصار المصلحين بما رزقهم الوهاب من نصر وتأييد. والوهابية -كما سنظل ندعوها كذلك في كتابنا -لم تكن مذهبا جديدا في الإسلام ولا زائدا على مذهب أهل السنة، وإنما كانت حركة إصلاح ديني دعت إليها سيرة الحنابلة في ثورتهم على ردة المعتزلة والجهمية وفي تنقيتهم ركام الجهالة ومحاربة ما ابتدع في الإسلام من أفكار وطقوس. وانصب غرض الإصلاح على تنقية العقيدة الإسلامية مما لحق بها من الشبهات فكرا وعملا والرجوع بها إلى أصلها كما كان يعرف السلف الصالح. أما الفروع فقد أحيت المذهب الحنبلي لمواءمته للأصول، ولكنها وهي دعوة لم تبتدع فقد كانت غريبة على النفوس فكأنها كانت جديدة لم تعرف من قبل، لما غمر الناس من فساد الاعتقاد وانحراف الطباع ومناسك التعبد والتقرب. فلم يكن بد -وهي دعوة قديمة يتجدد إهابها- من أن يعتبرها صاحبها دعوة جديدة فيسلك بها الطريق التي تبدأ من أوله الدعوات حتى يضمن لها الفوز والثبات. ولم تمس الدعوة جوهر الإسلام، إذ هو لا يقبل إصلاحا يمس جذوره، لأنه واسع حر، وفيه لكل من أراد أن يجد غنى ووفرة وحياة. والقوانين الخلقية والعادات التي أورثها الإسلام بنيه كانت دائما عوامل زاجرة قادرة على ردع الإنسان عن الإذعان لاندفاعات خاطئة. وعناصر الثبات في هذه الزواجر في قدرتها أن تهيمن على الطباع والعادات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 والزي والرأي، وفي مكنونها أن تستيقظ لدفع الانحرافات التي تدخل عناصر السلوك. ولقد حاول كثير من كتاب التاريخ والاجتماع أن يربطوا بين الدعوة الوهابية والبداوة، ولاح لهم أن قسوة الدعوة لم يلائمها إلا البادية الجافة والبداوة القبلية دون المدن وحضاراتها، وهو ربط يبدو أنه خاطئ أو باطل، إذ الدعوة الوهابية هي الدعوة الإسلامية ذاتها والتي نشأت أول ما نشأت في مكة، وكانت مكة والمدينة من بعدها وسطا تجاريا متحضرا ضخم التعقد في حضارته، وكانت الكتل البشرية التي تشترك فيه مؤلفة من أجناس وأديان شتى، ومع ذلك فلم يقل أحد أنه كان أولى بهذه الدعوة أن تنشأ في البادية أولا. وقد ثبتت صلاحية الإسلام لكل الأمكنة والأزمنة، لا بادعاء الإسلام لنفسه، ولكن بالنظر من أهله وغير أهله في سمو مبادئه وصلاحية نظامه لكل المجتمعات، ومن وراء التجارب السعيدة التي مرت بالشعوب التي اعتقدته صافيا ونفذت مبادءه. ومن ثم وجب أن لا يقال شيء غير أن محمد بن عبد الوهاب لارتباطه بأهله وتاريخ بيته بالبادية بشكل شعوري أو لا شعوري فجعل موطن ولادته مسرحاً للقيام بدعوته والسهر على تطبيقها لم يجد بداً من أن يبدأ دعوته فيها، ولو كان الوضع مختلفاً وكان هو ابناً من أبناء الحضر لبدأ دعوته به ولكان كأحد الأفذاذ الذين دعوا في الحواضر فنجحوا أو أخفقوا. وإنما يجوز أن يقال فيما بعد -استنباطاً من النجاح الذي ظفرت به الدعوة -أن التفكك الذي كان بالجزيرة والإحساس بالضعف والهوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ميزان، وعرف -حين أفصح الصبح- أن اتهام الوهابية ورميها بأنها مبتدعة كان كذباً وتضليلاً، فخسر محمد علي وخسرت تركيا مرة ثانية جانب الحق في التاريخ، ولم يكن رجحان كفة الحق من انتصار السعوديين، ووقوع نجد والحجاز في حوزتهم وقيام وحدة البلاد تحت رايتهم بقدر ما كان هذا الرجحان من الرجوع إلى حقائق الدين ونصوصه المسطورة في القرآن والسيرة والحديث، وفي هدأة للتقدير الحق والوزن السليم. ويخطئ من يظن أن في قدرة قوة حربية إزالة شكل من التعبير الديني القوي. نعم إنها ستسكته حينا حين تنتصر، ولكنه سيظهر لا محالة عندما يحين له أن تغفل عنه تلك القوة. وقد ظهر أن الوهابية قد عادت إلى الظهور ثانية وثالثة بعد عدوان القوى الحربية عليها، وكان ظهورها الغالب عندما بدأ عبد العزيز الأخير (الملك) حركة من التوسع أضاف خلالها المجاهدون الوهابيون معظم بلاد العرب إلى موطنهم نجد، وظلوا طوال عشرين عاما يضمون البلاد جزءا جزءا حتى قامت المملكة العربية السعودية في سنة 1932 م وأعلنت أن عقيدتها هي عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة ولا خروج عنها قيد شعرة بفضل الله. وبقيام هذه الدولة ضرب مثل جديد لوجوب الابتعاد عن المغالاة في تقدير أثر العوامل الحربية على نتائج الصراع الديني، فليس في إمكان أي إجراء تتخذه سلطة أن يستبقي أهل العقيدة في حظيرته وحبسه، إذ العقيدة ليست سلعة تجارية تتيسر حيازتها وفقا للطلب عليها وامتلاكها، وإنما هي لو وقعت في اليد فإن بقاءها فيها حتى ينام القابض عليها أو تغفل عينه فيسترخي، وحينئذ تتفلت من يده وهي في كاملها لم تفقد من قوتها شيئا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 والحروب التي شنت على الوهابية بالسلاح والنار لم تكن بأقسى من التهم التي اصطلت بنارها من الألسنة والكلمات، فقد اتهمت بأنها تحط من قدر النبوة وتنَزل من أقدار الأولياء، واتهم الوهابيون -ظلماً- بأنهم حرفوا اسم النبي بحذف ميمه الوسطى، وأشيع في بعض البلدان أنهم هدموا الكعبة بدعوى أنها حجر، كما نسبوا إليهم أنهم يحكمون بكفر كل من عداهم من المسلمين. وكل ذلك بهتان وزور، وقد شهدت بأنه إفك -قبل كل شاهد- كتب محمد ابن عبد الوهاب ورسائله، وأهم هذه الكتب (كتاب التوحيد) الذي شرحه حفيده عبد الرحمن بن حسن ابن الإمام وسماه (فتح المجيد) ثم رسالة كشف الشبهات وثلاثة الأصول وأدلتها، وشروط الصلاة، وأربع القواعد، ورسالة المغربي. وقد طبعت هذه كلها ونشرت في القاهرة التي سخرت برغم مشيئتها في محاربة الوهابيين فكانت شهادة صدق من أهلها لدعوة التوحيد. وتصدت الدعوة لكل المظاهر التي تسيء إلى الإسلام وجوهره النقي الطاهر، ولكل ما دخل على أفكاره من غريب دخيل. واتهام الداعي بأنه اعتبر كل من لم يأخذ بتعاليمه كافراً مشركاً بالله ضرب من التخليط. بل إن ابن عبد الوهاب بين طريق الشرك الأكبر وطرائق الشرك الأصغر، واستمد كل أدلته من نصوص القرآن والحديث الصحيح، وفي هذه النصوص قول الله سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُون} [يوسف من الآية106] ، فلم يفصل الحق سبحانه الشرك بعد الإيمان عن الشرك الذي كان قبله إذا دخل علي التوحيد ما يجعله كدراً مدخولاً. بل إن من المشركين قبل الإيمان من كانوا يشركون في الرخاء ويخلصون التوحيد في الشدة ويلجؤون إلى الله وحده فيها، ويشهد القرآن لهم بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فيقول سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] . أما من أشركوا بعد أن آمنوا فقد صارت دعوتهم لشركائهم في الشدة والرخاء والسراء والضراء. وحتى لا يستطرد الكتاب فيخرج عن مدار فلكه الذي رسم له من إظهار سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب ومذهبه وأثره في قيام دول دينية أقواها وأبقاها السعودية الثالثة الأخيرة، فقد رأينا أن نحيد عن التوسع والإطالة في الأسماء والأمكنة ومواقع الحروب وتفاصيلها وكثير من أمور السياسة والمواثيق والمعاهدات التي تكفلت بنشرها كتب كثيرة، ورأينا أن نقصر البحث فيما نحن بسبيله على سيرة الإمام المصلح وسيرة مذهبه -قدر المستطاع- حتى لا يضل المراد في ثنايا أمور أخرى تغلبت في أحيان خيلت للمطلع أن الوهابية صارت أمراً ثانوياً، وربما كان لها أن تتغلب حتى ولو لم تكن الوهابية قد أعانها قوم وحاربها آخرون من العرب المتخاصمين. وقد تسنى أن يكون هذا الكتاب من ستة أبواب: الباب الأول كالمقدمة الثانية أو المدخل إلى عصر ابن عبد الوهاب. والباب الثاني في داعية الإصلاح. والثالث في بيان الدعوة. والرابع في مسيرتها. والخامس في أنظمتها. والسادس في نتائجها التي انتهت بالفوز وقيام دولة التوحيد. وكل باب من هذه الأبواب يحوي خمسة فصول تتناسب وتتقارب فيه، وتتبين عنواناتها وما تحويه في أثناء الكتاب. ولما كان من الحق أن ينسب الفضل إلى أهله فإن الشيخ الجليل وزير التعليم العالي بالمملكة السعودية الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 حسن عبد الله آل الشيخ قد أبدى ملاحظات على ما جاء في الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وكان مصدر ذلك الذي أبديت عليه الملاحظات من الكتب المتأخرة المؤرخة لداعية التوحيد ولا سيما كتاب لمع الشهاب الذي جهل مؤلفه، وكان من الفضل الذي يذكر أن ينبه إليه رجل من أسرة الشيخ ومن الحريصين على الحق وقول الصدق فنشكر له هذا الجميل. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى أقوم سبيل. عبد العزيز سيد الأهل بيروت في 1398 هـ - 1978 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 غاشية الليل اضطراب الأفكار منذ خمدت المعركة التي انتصر فيها أحمد بن حنبل وأنصار السنة على المعتزلة والجهمية وأضرابهم من الفرق المنحرفة وتباعدت بالمعركة الأيام رجعت الآراء إلى الاختلاط والامتزاج: آراء أصحاب الرأي وأقوال أهل السنة، وحين كثر أصحاب الرأي واشتطوا وقف لهم أهل السنة يردونهم بمثل أسلحتهم فنتج عن المشاحنات انسياب المياه من هاهنا ومن هاهنا إلى بحيرة واحدة ليس فيها ما يحجز تيارا عن تيار، ووجدت الأمة هذه المياه لجة صاخبة فاغترفت منها دون أن تفصل المزيج فتشرب الرنق الصافي وتلفظ الملح الأجاج. ومع أن الخليفة المتوكل رفع المحنة وأبطل القول بخلق القرآن وناصر أهل الحديث والسنة1 فإن أثر مناصرته لم يدم طويلا، إذ ارتكب المتوكل نفسه -فيما عمل- كثيرا من الأخطاء، وابتدع أفانين الجور والانتقام من كل من ظن فيه السوء، وضد كل ما لم يرقه من الآراء، فكان أن أكسب كثيرا من القلوب حقدا وخلق فيها النية على كسر ما نصره من الأفكار2.وبسبب غلبة الترك والفرس والمغول على الدولة وعلى الجنس العربي   1 - انظر بابي: فتنة المعتزلة والطود الراسخ, في كتاب شيخ الأمة أحمد بن حنبل. 2 - تاريخ العرب العام: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 منذ تولي المعتصم الخلافة، وبكثرة الفتن والقلاقل والانقسامات، ودخول الأجناس المختلفة في الإسلام -طغت موجات غريبة على الفكر الإسلامي الصافي اضطرت أهل الدين الحنيف إلى الوقوف عن الاجتهاد مخافة الخطأ والذوبان. واختلف في البلدان الإسلامية وفي أراضيها الواسعة الرحيبة تصوير الإسلام بسبب اختلاف الأجناس والأخلاق والعقول والديانات التي كان يدين بها سكان هذه الأرضين قبل أن يسلموا، فتسربت إلى تصورهم أشكال منها وألوان، ولم تستطع رؤوسهم أن تطرح عنها ما علق بها من الديانات ولا ما لزم نفوسهم من العادات، فنظرت كل أمة إلى الإسلام من خلال تاريخها ونظمها ودياناتها ومن خلال لغاتها وتقاليدها وثقافتها وتربيتها، فاختلطت من كل ذلك الأفكار الدينية وصارت إلى تداخل وتعقد كبير1. وكان كلما استتب أمر الاختلاط والامتزاج في الأفكار وتقادم عليه الزمن انتشر مبدأ التقديس لهذه الأفكار وما يجري بإيعازها من مظاهر وطقوس، دون تمحيص أو تنقية أو نقد تمشيا مع فكرة التقديس لكل ما هو قديم وتمسكا بما جرت عليه التقاليد2. ومثل هذا الشعور الذي ينطلق على غير هدى محنة تعتري النفوس فتضعفها فتقبل في أثناء ضعفها التحلل وتفقد الشهوة إلى النهوض والارتقاء، ويستحيل المجتمع بهذه المحنة من رجاله ونسائه إلى عبد راضخ للواقع سليب الإحساس. وكانت محنة المسلمين في غاشية ليلهم كذلك، أفقدتهم الشعور بأنهم   1 - ضحى الإسلام 1: 365/ 3: 351. 2 - تاريخ العرب المطول: 873. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 يسيرون في ضلالة، ونام الفكر الإسلامي الصافي نومة طويلة تحت غطاء كثيف من الظلام. ولكن كانت تتخلله أضواء نجوم ولمعات بروق ما تلبث أن تنطفئ وتختفي بعد ومضات قصيرة، وذلك لضآلتها وصغرها بجوار عظيم المحنة، ولضعف أضوائها وسرعة خطفها في ظلمات غامرة؛ ولأن عيون الناس لا تسهر لتكشف مطالعها، وهي إذا استبانت وطلعت لا تعبأ بها لأنها واقفة لا تريد أن تتحرك وعمياء لا تود أن تسري إلى غاية من الغايات. وكان للدين شيوخ في كل بلد ولكن لم يصر لأحد منهم من القدر والمكانة ما ينبه النقوس إليه إلا بقدر الحاجة إليه في الدروس أو الأحاديث في المدارس والندوات، وبقدر الرغبة فيه للتسلية أو الفتوى في المسائل والخلافات. ووجدت الطوائف الباغية سبلا لأفكارها حتى تنتشر وتثبت، ومن ذلك ما وجده الخوارج والقدرية والقرامطة والراوندية وغيرهم من نفوذ بين الجماهير وأحيانا كثيرة بين ذوي العقول والمفكرين. واصطنعت الطوائف الخارجة عقائدها كما تشاء، ولم تكن تخشى أن تصنعها مضطربة أو متضاربة ما دامت تجتاز السدود إلى مناطق الأوهام، ومن هذه الطوائف طائفة القرامطة فإنهم مع اعترافهم بالوحدانية فقد أنكروا الوحي، ومع نزولهم على كثير من أحكام القرآن فقد أذاعوا الزندقة وقوضوا جميع الحواجز التي تصد العباد عن الشر والفساد1. نزعات التحلل: ولقد رفض أحمد بن حنبل كل نزعة للتحلل مما جاءت به نصوص   1 - تاريخ العرب العام: 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الدين، فلم يقبل من ذوي الشبه والتخييل العقلي حججهم ليخمدوا بها حجج أهل السنة، ولم يرض طريقة المتصوفة في التأمل والخلوة ولبس الخرقة وحلقات الذكر، ولم ير موجبا لأن يتعرض أئمة الدين بالرد على المبتدعة حتى لا تفشو آراؤهم فتفتن الناس ويصير الأمر -كما يسمى في عصرنا الحديث- بجريان الآراء. فسد كل الأبواب التي تخرج منها الفتن والبدع إلى مشارع النور. وبرغم ما وقف له الإمام العظيم حياته فإن اختلاط الأمم وامتزاجها اخترق في السدود التي أقامها أهل السنة فجوات تدفقت منها آراء الجهمية ذوي التخييل العقلي، وآراء الصوفية ذوي التزيد على ما أوصى به الدين من الزهد، وآراء الفلاسفة الذين غالوا في تقدير العقل البشري وإخراجه إلى فناء لا حدود له من التخمين، وآراء علماء الكلام الذين قلبوا كل فكر ليصلوا إلى حقائق ترضاها عقولهم في خدمة الدين. وفي الليل الطويل الذي خيم على الأمة الإسلامية استقرت أفكار أولئك وغيرهم مجملة ومفصلة، وصارت عند معظم الناس هي الدين الإسلامي الذي يعرفونه ويدينون به، وصارت من المناسك القديمة المقدسة التي ولدوا أمام هياكلها وعلى أعتابها. أما هي عند النابهين من ذوي النوايا الطيبة فإنها تحرر فكري، وعند النابهين من ذوي النوايا الخبيثة تحلل من ربقة الأخلاق وربقة الدين. وفي تقاتل الآراء والمذاهب التي لا تعد لم يكن يقع صريعا إلا العقيدة السليمة والإسلام الصحيح. وترابطت مهابط النّزول عند هذه الآراء الخبيثة ترابطا يدعو إلى اتهامها بالاتفاق على الخديعة، فبينما يقول محترفو الصوفية قول الغرباء بالاتحاد ووحدة الوجود1 فينْزلون بمقام الألوهية الأعظم عن مكانه العلي فإنهم   1 - تاريخ العرب المطول: 521 - تاريخ العرب العام: 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 يرتفعون بمقامات الأولياء وصانعي الكرامات وخوارق العادات إلى أماكن من التقديس لا تقبل جدالا. ووجدت فرقة الراوندية من فكرة تقديس الأولياء طريقها إلى القول بوجوب عبادة الخلفاء كما يعبد الآلهة، وأوجبوا أن يعد بلاط الخليفة كعبة جديدة. وإذا وزعهم الخلفاء وطردوهم وجب أن يعودوا إلى الظهور والتجمع ليعبدوهم على الرغم منهم. وما هذه إلا نزعة إلى سنة العبودية التي سادت جميع الأجيال. وقالت طائفة بالإمام أو الولي المعصوم; وجعلت النبي المرسل الذي هو أعلى وسيط بشري بين الله وعباده أدنى درجة من الإمام أو الولي، لأنهم بينما قالوا إن قدرة النبي في تلقي الوحي فحسب قالوا إن الإمام الولي يتلقى الوحي ويبرز في الحكمة النظرية. وكان هذا هو مذهب السهروردي المقتول، فأصلاه تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية نارا محرقة أتت عليه فجعلته كالرميم1. وخرجت بعض الطوائف إلى نوع من التأويل سموه باطنيا، فأولوا الصلوات الخمس بأسماء أشخاص إذا ذكرها المصلي أغنت عن الصلاة والطهارة، وأولوا أيام الصيام الثلاثين بأسماء عددها من الأشخاص، ثم قالوا بقدم العالم وتناسخ الأرواح ليخلصوا من ذلك إلى إنكار البعث والنشور وتكذيب الثواب والعقاب2. ومن هذا وما هو أكثر منه وأشنع يبدو تاريخ هؤلاء الناس وكأنهم أصبحوا بلا عقل ولا دين، وربما كان جائزا للقبائل والأمم أن تفعله في جاهليتها قبل الإسلام لأنه لم يكن لها شرع يحرمه، أما وقد حرمه   1 - انظر الحوار في الإمام المعصوم بالقسطاس المستقيم - هياكل النور: المقدمة: 12. 2 - كتاب السلوك الجزء الثاني, القسم الثالث: 942. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الإسلام فالرجوع إليه ردة تستوجب حربا أشد من وجوبها ضد قبائل الجاهلية أو ضد مانعي الزكاة في الإسلام، إذ لا يوصف المرتد عن الزكاة بأنه مشرك من حيث يوصف المرتد إلى تقديس الأجداث بالإشراك. وقد أثر هذا التفرق والتخليط في الآراء على وحدة الأمة الإسلامية المشدودة إلى وحدة الاتجاه إلى القبلة عند كل صلاة. ولو كانت وحدة استقبال الكعبة تعد أهم رمز عملي إسلامي لوجوب التوحد في كل شيء فإن الانقسام إلى فرق وآراء وأوطان وقبائل عاد تفريقا للوحدة وتهوينا من شأن الرمز الموجب أن يكون الاتجاه إلى ناحية واحدة مهما اختلفت البقاع وتوزعت القلوب. وتمزق القبائل في الجزيرة العربية التي خرجت منها أول إشارة برمز التوحيد ما بين إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- كان أكبر دلالة على بلوغ التمزق غاية مداه في أرض التوحيد. ابتداع الطقوس: وبحسب الأفكار التي تأصلت وثبتت قامت عادات ورسخت تقاليد، فمن آثر العقل وحده كالفلاسفة جعل العبادة للعقل وحده، ومن خاف النفس البشرية كالمتصوفة أدخلها إلى حبس بالغ الضيق وأثقلها بالقيود والتكاليف، ولم يبق رحيما بالعقل والنفس إلا الشريعة التي أخرجتهما كليهما من الضيق ومن الشرود. وكانت الشريعة الإسلامية قد محت كل الطقوس الدينية الفاسدة من الجزيرة ومن البلاد التي فتحها المسلمون وأنقذت حياة العقل المطمورة في دياجير من مشاعر الأوهام، وخلصت البشر من همجية النفسية الأولى حين ضربت بالخرافات والأساطير وشعوذة السحر عرض الحائط، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وأخرجت من العدم عالما مؤلفا من الحقائق المائلة لا من الأشباح الهائمة في الظلام. ولم تكن الدولة التي تشكلت على هذه الصورة النقية كممالك الأباطرة التي سريعا ما تنحل وتزول، بل كانت طليعة مدنية جديدة تسطع منها الأنوار وتتلألأ وتبقى حية مضيئة حتى لو زال سلطانها الحربي ونفوذها السياسي، وذلك لأن العرب قهروا ممالك العالم باسم الدعوة لتوحيد الله ففتحوها فتحا روحيا استمر في التوسع والانتشار بعد توقف الانتصارات المادية في الوقائع والحروب، ووجهت القلوب والوجوه والألسنة لله وحده في النيات وأعمال الجوارح في كل عبادة ولا سيما في الصلاة والحج والدعاء من غير لجوء إلى وساطة نجوم أو كهان أو أصنام، ومن غير استعانة بأبدان أو أرواح، ومن غير مذلة بركوع أو سجود أو تقديم قرابين. وأمكن للقبائل العربية بفضل التوحيد والوحدة أن تقيم في أقل من خمسين سنة دولة حلي جيدها بقلائد من أعجب المفاخر وآيات الإعجاز. ولكن سرعان ما انحرف السلوك وأعوج الطريق ورجعت الجاهلية العربية والجاهلية العالمية فزحفت على اللجة الإسلامية تيارات من الجاهليتين ولم تدع قطرا من أقطار المسلمين إلا أغرقته إغراقا، ورجع إيمان القلب من حب وذل وخوف ورجاء وتعظيم وإنابة لغير الله، وصار عمل اللسان من ثناء وحمد ودعاء واستغاثة واستعاذة وحلف معقودا بغيره، واتجهت الأبدان في الصيام والصلاة وأموال الصدقات والنذور والذبائح وحبوس الأوقاف والهبات إلى غير وجهه، وأصبحت القدرة الخارقة مأمولة في التمائم والصيغ السحرية وأجواف الظلمات والكهوف وشياطين الزار1 مما أوجب هلاكا للناس أكثر مما فعلته الأوبئة وقذائف الحروب.   1 - انظر شرح القصيدة النونية: 508. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وصار من الكرامات ابتلاع الحجر والزجاج والأفاعي وتخريق الأجساد بالمسامير والسكاكين، وقامت من ذوي الكرامات حلقات للرقص والزمر والسماع يسمونها التغبير، يعنون به التهليل وترديد الصوت بالألحان في حلقة الذكر مع الضرب والتوقيع بالقضيب وغيره. وقد فزع الإمام الشافعي من ذلك التغبير فقال ـ رضي الله عنه ـ: وخلفت في العراق شيئا يسمى التغبير وضعته الزنادقة يشغلون الناس عن القرآن. ومع هذه الفزعة من الشافعي فإن التغبير امتد تقليده في المواضع حتى بلغ الحاج في عرفات، ولم يبطل أمره إلا في عهد صلاح الدين1. وإثم هذا الانحراف كله عن الجادة المستقيمة واقع على اثنين: أهل الرأي الذين اغتروا بهوس العقل وتخييله فهونوا من شأن النصوص، وأضعفوا الشعور بصحة كثير من الأحاديث. وأهل النقل الذين قصّر بعضهم في تحصيل النصوص، ولم يقصّر بعضهم ولكنهم جبنوا أن يردوا الأمة إلى حظيرة إيمانها بتكرار النصائح وتثبيت عقائد الناس السليمة باستمرار، وضرورة العناية بها في التعليم، حرصا منهم على الرزق الموصول والمنصب المرموق. وفي غيبة العقل الراجح المستنير بأضواء الشريعة وغيبة شجاعة المستنيرين بها هامت الجماهير تتخطف من رواسب الديانات والخرافات وتقيم ما اندرس من الطقوس، وذلك إن حسنت النيات والطوايا. أو تقضي على العقائد والأخلاق والأمن والنظام إن ساءت نياتها وفسدت طواياها. وتبدو الصلات وثيقة بين الدين والأخلاق وإن كان بعض علماء الاجتماع تصوروهما من أصلين مستقلين ولكنهما متصلان، فالديانة تؤثر في الخلق بطريق الإرشاد إلى الاعتدال والإخافة من العقاب والإطماع في الثواب،   1 - تاريخ العرب المطول: 526 - أيام صلاح الدين: 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وأعقل الحكماء لا يستطيع أن يخلص آراءه ومعتقداته من تأثير الأخلاق، ولا بد للمتدين أن يكون ذا خلق، لأنه إن كان غفلا منه فإنه يحاول أن يوفق بين غرائزه السيئة وطلب العون من السماء لإتمام منكراته فيكون بلية أسوأ من بلية العاطل من الدين والأخلاق معا. وفقدان الأمة الإسلامية لأرضها ومعاركها كان للتعري من الخلق والدين، وليس ذلك وحسب، بل إن الفجرة الكفرة قطعوا أوصال البلدان والقرى والقبائل وسدوا منافذ الطرقات وعطلوا سبيل الحج وخربوا مراكز البريد وهونوا السطو وسفك الدماء ونهب المال. وصيروا البلاد التي كانت قلب الإسلام أكثر من غيرها تحت وطأة المفسدين والأشرار. وليس في استطاعة أحد من أصحاب الأقلام أن يؤرخ لهذه الحقبة على التفصيل لا في البلاد الإسلامية كلها ولا في بلد إسلامي واحد، إلا ما كان من كتاب اليوميات والرحلات وتدوين الحوادث كالمقريزي والمقدسي وياقوت إذ المشاهدات متراكمة والأحداث منقضة على رؤوس الناس بغير انتظار. ومن كتب هؤلاء وأمثالهم يظهر صدق هذا القول من وصفهم لتخريب البلاد وقتل النفوس وهياج الفتن وتكفير الناس1. وقد صنف أبو عبد الله محمد بن العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج كتابه "المدخل" في القرن الثامن الهجري في أربعة أجزاء كبيرة جمع فيه أنواع البدع والمفاسد والطقوس المحرمة التي عم الاعتقاد بها في البلاد الإسلامية، وهي أكثر من أن تحصى وأصعب على الشفاء من أن يصنع لها دواء2.   1 - ظهر الإسلام 4: 103. 2 - انظر المدخل لابن الحاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وما دونه ابن الحاج في كتابه من بدعة القبور وحدها ومخالفة الشرع فيها شيء كثير من فوادح الأخطاء في اختيار أمكنتها وطريقة بنائها وبناء البيوت حولها وانحرافها عن القبلة وأطوال الحفر فيها والدفن بها والقراءة والكتابة عليها ونصب الخيام وإشعال الأضواء والنيران والإقامة أياما وليالي يطهى عندها الطعام ويسقى الشراب1. ويقول ابن الحاج: وقد صار هذا الحال في هذا الزمان أمرا معمولا به حتى لو تركه أحد منهم لكثر فيه القيل والقال فكيف لو أنكر ذلك! ولم يعلل ابن الحاج لما رآه من أنه أصبح عادة وهي إذا لزمت صار لها سلطان لا يقاوم ويعود البرهان غير مؤثر فيها. وإذا تنبه فرد وأراد الانفلات من تأثيرها فإنه لا يلبث أن يرى جميع الزمرة التي ينتسب إليها تعاديه. فإذا ثبت للعداوة ومضى في خلع العادة عد ذا خلق قوي ومزية تفوق المجتمع الذي ينتسب إليه. وهذا الذي دونه ابن الحاج في بدعة القبور صغير لو قيس بما قاله في السحر والزار والاستشفاع بأجداث الأولياء وغير ذلك من الاعوجاج والفساد. خفقات النجوم: ولم يكن ليل المسلمين طامسا بل كانت تتخله خفقات نجوم تضيء وومضات بروق تلمع، ولكنها لم تؤذن بطلوع الصبح من قريب. وكانت هذه الأضواء والومضات من رجال أتقياء أذكياء أفرغوا جهودهم الفردية في إنارة الطريق للسائرين، وربما لم يسلم واحد منهم من الخطأ والوهم أحيانا لكثرة المنعرجات في الأفكار، ومن هؤلاء أبو الحسن   1 - المدخل لابن الحاج 3: 258 إلى 281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الأشعري وأبو حامد الغزالي وكلاهما كان نقي النفس مخلصا، ومن أبرز من ظهروا في عهود التفكير الديني في الإسلام. وترك الأول مذهبا من الجدل ينصر فيه أهل السنة على المعتزلة، وقد كان أبو الحسن درس الاعتزال من قبل فتعرف طريقته وخبر عيوبه. وترك الثاني جحفلا من الكتب التي يرد فيها مسائل الزهد والتصوف إلى الفقه وشرائع الدين، وكان منها: إحياء علوم الدين، والمنقذ من الضلال ومقاصد الفلاسفة، وتهافتهم. ومع أن الرجلين لم يسلما من النقد والعتب على بعض ما أخطأ فيه، فإنهما قوما منعطفات الطريق وأضاءا منعرجات الظلام. واتخذ الأشاعرة مقالات أحمد بن حنبل تضيء لهم المسالك وتحل المشكلات كما فعل إمامهم فاقتدوا به، وقد كان من المعتزلة ثم تاب من القول بخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم جمعة، وكان ذلك بأن رقي كرسيا ونادى بأعلى صوته قائلا: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرف بنفسي أنا فلان ابن فلان. كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار.. وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم1. ثم كتب الأشعري في الرد على الملاحدة والمعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة، وكان المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم زمانا حتى أظهر الله الأشعري فلاذوا يستخفون في الجحور. واستقر الأشعري وأصحابه على السنة وإثبات الصفات للذات العلية. وحين تكلموا عن صفة الكلام قالوا ما قاله الإمام أحمد والأئمة معه ومن   1 - وفيات الأعيان 2: 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 قبله، قالوا: إن كنه هذه الصفة -كسائر صفات الله عز وجل- محجوب عن العقل كالذات العلية، فليس لأحد أن يخوض في كنه ما يجب لذاته أو صفاته سبحانه جل وعلا1. وكذلك فعل الغزالي، وقد رد على الدهريين الذين، آمنوا بخلود المادة وأنكروا وجود الخالق، ورد على الطبيعيين الذين آمنوا بوجود الخالق ولكنهم أنكروا رجوع الأرواح إلى الأجساد وبعثها من مراقدها للثواب والعقاب. وقد قال الغزالي بكفر الطائفتين جميعا2. وتمثلت طريقة الأشعري في مكافحة خصومه من المعتزلة والفلاسفة والفرق الضالة بالاستدلال الجدلي والبرهان المنطقي والاعتماد كل الاعتماد على القرآن والحديث. ولكن أضواء هذه النجوم لم تخترق كل الظلمات ولم تنفذ قوية إلى سطح الأرض كله فتنبه العامة إلى ما هم فيه من جهالة وضياع، فبينما كانت الآراء تتصارع وذوو الأفهام يطلعون فيعرفون أو ينكرون كان سواد الأمة ماضيا في غلوائه من التطبع بأسوأ الطباع والتزام أقبح العادات وتقديس أرذل المعتقدات. وذلك أن العامة مشحونة على استمرار بالانفعالات المتمردة والمزاج البعيد من العقل والسورة الجامحة، وهي في أشد الحاجة على الدوام إلى من يبصرها ويبعث فيها نخوة الاحتفاظ بمعتقدات سلفها أو الرجوع إليها، فإذا لم نجد هذا الذي يبصرها ليل نهار وفي كل آن ويشدها إليه شدا استسلمت لانفعالاتها وسورتها وتمردها. ومع أن الغزالي أوضح في كتابه "القسطاس المستقيم" أنه لا يمكن   1 - المدخل لابن بدران: 7. 2 - روح الإسلام: 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 لأحد أن يعرف جميع الحقائق والمعارف الإلهية لجميع الخلق فيرفع الاختلافات الواقعة بينهم، فإنه حاول أن يرسم طريق النجاة لكل الخلق، وأرشد إلى أن هذا الطريق قد بينه الله في كتاب بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد من الآية: 25] . وقد بينت الآية أن الناس ثلاثة أصناف، وكل واحد من الكتاب والميزان والحديد علاج قوم: فالخواص أهل القريحة النافذة والفطنة القوية الخالية بواطنهم من التقليد والتعصب، فهؤلاء علاجهم بالميزان، وهو ما رسمه القرآن في الجدل الإبراهيمي الذي فيه الحجة البالغة. والعامة الذين ليس لهم فطنة لفهم الحقائق، وإن كانت لهم فطنة فطرية فليس فيهم داعية الطلب ولا داعية الجدل، وهؤلاء ليس الخوض في الخلافات من عشهم، فهؤلاء لهم الاعتقاد وما في الكتاب من أصول وفروع، من غير أن يشغلوا أنفسهم بمواقع الخلاف، ويكفيهم معرفة الفرائض وما اتفقت عليه الأمة من الحلال والحرام. ومن هؤلاء قوم هم أهل الجدل، فيرى الغزالي علاجهم بالتلطف إلى الحق من غير تعصب عليهم أو تعنيف لهم، وإنما يعالجون بما قال الله سبحانه: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النّحل من الآية: 125] . وبقي الحديد الذي فيه بأس شديد، وهو علاج الصنف الثالث، وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. ورغم كل علاج فإن الخلاف لم يرتفع بين الخلائق، ولم تزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الإشكالات عن القلوب1 لأن اختلاف الخلائق حكم ضروري أزلي بينه قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود من الآيتين: 118-119] ؛ فالناس دائما في حاجة لرحمة الله في مطلع فجر جديد. مطلع الفجر: وطلع الفجر عندما استيقظت حران المسلمة العريقة في المعرفة فولدت أضواء صبح مستعرض. هم بنو تيمية، وكان أقربهم إلى أضواء النهار تقي الدين أحمد بن عبد الحليم وتلميذه الفذ شمس الدين محمد بن قيم الجورية2.وعلى رغم ما لقيه هذان الرجلان في نفسيهما وفيما رزقهما الله من علم وتقوى فإنهما تركا من بعدهما تراثا وقادا ما يكاد ينهتك عنه ستر الليل ويسفر صبحه حتى تبزغ الشمس عن نور منتشر مستفيض. وقد نشأت ببني تيمية مدرسة عقلية لا تقول بالرأي، وإنما تبحث عن الأدلة القاطعة التي يقدر عليها العقل الراشد والميزان السليم لإثبات أحكام الشرع. وقد فرغت هذه المدرسة من أن الأحكام الواردة في نصوص الشريعة الإسلامية لا بد أن تكون عن إرادة من الشارع الحكيم لمنفعة الناس. وتوسعت هذه المدرسة في الرد على كل مخالف لطريق السنة ولا سيما الجهمية القائلين بخلق القرآن، وتعطيل الباري جل وعلا عن صفاته،   1 - القسطاس المستقيم: 69. 2 - كني شمس الدين بابن القيم لأن أباه كان قيما على مدرسة يقال لها الجوزية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وإنكار رؤية المؤمنين له في القيامة. والقائلين من الصوفية بوحدة الوجود والمفرطين في الإيمان بالذوق والشطح الصوفي. وكان من وصايا الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ في زمانه الأول أن لا يشغل أحد من أهل السنة نفسه بالرد عليهم، ثم عاد هو فرد عليهم، فلما استفحل الأمر من بعده وسال الناس فيه سيل الماء أو سيل البحر لم تجد مدرسة بني تيمية بدا من الرد والعنف فيه. واتجه البحر الزاخر تقي الدين اتجاهين: اتجاه نظري يرد فيه على المؤولين والمخرجين ابتغاء إحياء السنة والرجوع في الأحكام إلى النصوص والوقوف عن التأويل. واتجاه عملي حرم فيه البدع كافة. وقصد قصد العامة التي هلعت نفوسها وراء كل ما هو مبتدع بلا علم منها ولا شعور وكأنه صار قدسا لا ينال بكيد ولا تجريح1. واتخذ تقي الدين من لسانه وقلمه سلاحا للجدال والمناظرة والوعظ والتدوين، ومن سيفه للجهاد والمدافعة، وكان في سلاحه البياني بليغا عنيفا يحامي به عن أفكار الإسلام النقية كارها أشد الكره ما فعله القرامطة والباطنية من التأويلات الكاذبة بدعوى أنه علم الباطن، وهو أمر لم يقفوا فيه عند حد من الإلحاد في أسماء الله وآياته وتحريف كلم القرآن والحديث عن مواضعه، ولم تكن لهم غاية من باطنهم إلا إنكار الإيمان ومحو شرائع الإسلام2. ثم كان تقي الدين في سلاحه القتالي جنديا مخلصا وزعيما متحمسا يدافع عن أرض المسلمين ويدعو أهلها لرد التتر الغزاة.   1 - دائر المعارف 2: 368. 2 - كتاب السلالة 1: 945. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وخلف ابن تيمية من الكتب والرسائل في الخلافات الجارية ما لم يبلغ مبلغه أحد من مصنفي المسلمين، تنقية وجدالا ومحاجة وتقريرا، وصارت كتبه ورسائله ينابيع ثرة يردها كل ذي غلة ويصدر عنها راويا، وأضواء ساطعة يسير فيها كل من أراد الهداية من الحيرة والسير في الطريق المستقيم. وقد تبعه في علمه ومزاجه وطريقته ابن القيم فوسع وأكمل وحرر، ثم خلف مثل شيخه كتبا ذات قيمة نفيسة في اللغة والحديث والسنة والسيرة والفقه والتفسير، لا يستغني عنها وارد ماء ولا راشف دواء. وليس من غارة شنت على آراء جهم بن صفوان المنحرفة عن جادة الحق بعد الظاهرية أشد من الغارة التي شنها تقي الدين وصاحبه شمس الدين، وقد رد هؤلاء جميعا استدلالات الجهمية وغيرهم، بالعقل والنقل، حتى كسروا جيوشهم وردوها فلولا وأشلاء1. وشيخ الظاهرية كان داود الأصفهاني، حارب القياس الباطل وأظهر أن في الكتاب والسنة ما يفي بمعرفة الواجبات والمحرمات، وقدم ظواهر آيات القرآن والحديث على التعليل الفعلي للأحكام، وكانت وفاته في سنة 270 هـ2 قريبا من وفاة شيخ الأمة أحمد بن حنبل الذي توفي في سنة 241 هـ. وآخر أعلام الظاهرية علي بن أحمد بن حزم القرطبي الذي قال ببطلان القياس ورد على أتباع المذاهب المقلدين وصنف في الصحاح وفتاوى الصحابة والتابعين وأقضيتهم، وذاد عن الإسلام ذودا شديدا وتوفي في سنة 456 هـ3.   1 - المدخل لابن بدران: 14, 41. 2 - ظهر الإسلام 1:223. 3 - الإحكام في أصول الأحكام: 1171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أما الشاميان الحنبليان فمع تقديمهما لظواهر القرآن والحديث فقد خالفا الظاهرية بأن بحثا عن التعليل العقلي لأحكام الشرع، معتقدين أنه لا بد أن يكون الشّارع الحكيم فرضها لخير النّاس، وكان من فضلهما أن صيّرا المعتقدات إلى معارف تبرّرها العقول ليتمّ رسوخ الإيمان. وحارب الفقيهان الحيلة على الدين وعدوها -كإمامهم أحمد- جبنا وغشا لتغطية الحق عن الناس، كما شجبا الإلهام الصوفي الذي سرى من جهة غلاة المتصوفة، واعتبره بعض المتأخرين منهم مسانيد لها قوة النصوص. وقد أقفل الحنابلة هذا الباب لأنهم رأوه مدخلا للمفاسد والشرور وطريقا واسعا للكذبة والمدلسين على الدين، وخافوا أن يدعي المدعون إثبات ما يلذ لهم بحجة الالهام والذوق والكشف، فيكون وحيا زائدا على وحي النبوات. وكذلك الرؤى والأحلام لا تكون حجة ولا تلزم العمل بها، ولا يثبت بها حكم شرعي -وإن كانت رؤية النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ رؤيا حق- ولكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية لانعدام قدرته على الحفظ، ومن أجل ذلك يسقط عنه التكليف1. والشريعة الإسلامية قد تمت واكتملت فلا تزيدها الإلهامات والرؤى والكشوف أحكاما، وقد منع هذه الزيادات وغيرها على الشريعة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة من الآية: 3] . وولد في مطلع هذا الفجر إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي نضو   1 - المدخل لابن بدران: 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ابن القيم في صحبته لتقي الدين ابن تيمية، وقد كان سلفي النّزعة سني المذهب، تبع شيخه في طريقته، فكان أحد الأعلام الذين نقوا الحديث ووضعوا علومه. وأزاحوا عنه الغيوم، وأما في تفسير القرآن فقد آثر أن لا يرجع إلى رأي وإنما يدون فيه ما ورد من أقوال السلف، من الصحابة والتابعين لئلا يكون هناك منفذ لرأي أو تأويل1.   1 - انظر تفسير القرآن العظيم وتعريف الحافظ ابن كثير بمقدمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 بزوغ الشمس مولد إمام وفي سنة 1115 هـ - 1703 م أذن الله أن يسفر الصبح وتبزغ الشمس فولد محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي من بني تميم الذين ينحدرون من مضر الحمراء من العرب الخلص من نزار من عدنان. وحين جاء الإسلام وأسلموا فرق النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فيهم عماله وصاروا من أقوى الجند الإسلامي وأكثفهم، ثم سكنوا البصرة والكوفة والحجاز، وكان منهم في خراسان بأقصى الشمال الشرقي من فارس جند كثيف، ولكثرتهم وقوتهم كانت لهم هبات وثورات، وكان الخلفاء والقواد يعتزون بهم في صدر الإسلام وفي دولة بني العباس ويخشونهم إذا ثاروا1. وتميم هذه من طابخة من عدنان وهم بنو تميم بن مر بن أد بن طانجة من خندف بن مضر. وكان لتميم من الولد زيد مناة وعمرو والحارث. وقد اتخذوا منازلهم بأرض نجد من هناك على البصرة واليمامة وامتدت إلى العذيب، من أرض الكوفة، ثم تفرقوا بعد ذلك في الحواضر2.وطابخة ومدركة أخوان من الياس بن مضر، وكان اسم طابخة عمرا،   1 - أسد الغابة 2: 477 - الدولة العربية وسقوطها: انظر دلالات الفهرس على تميم - الوهابية وزعيمها: مقال. 2 - نهاية الأرب: 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وقد سمي طابخة لأنه كان هو وأخوه عامر في إبل لهما يرعيانها فاصطادا صيدا وقعدا يطبخانه فعدت عادية على إبلهما، فقال عمرو لعامر: تدارك الإبل! فجاء بها وطبخ عمرو، فلما راحا على أبيهما إلياس أخبراه بشأنهما فقال لعامر: أنت مدركة، وقال لعمرو: أنت طابخة. فسمي بها من ذلك الحين1. وآل عبد الوهاب ينتمون بالأصالة إلى تميم، فابنهم محمد تميمي مضري. وإذا قيل تميمي أو مضري فإنما هو على طريقة القدماء ينسبون إلى الآباء الأعلين، فإذا قيل وهابي فإن ذلك على طريقة المتأخرين حين ينسبون إلى أقرب الآباء2 وإن كان هذا اللقب أطلقه خصومه على أتباعه كما أوضحنا في مقدمة الكتاب، وكذلك سمي بالشيخ النجدي على طريقة العجم في النسب للبلدان. أما النسب للآباء والقبائل فقد جرت به عادة العرب3. وقد أخبر الثقات أن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن سعد بن سلمة بن فلاح بن عبد الواحد بن حميد بن سالم بن سنان. وبنو سنان قبيلة من تميم. وبين سنان وتميم ثلاثة وعشرون أباً. وهو ما صح من نسبه لدى رواة الأنساب4. وجده سليمان كان عالم نجد وفقيهها انتهت إليه فيها الرياسة الدينية وتوافدت عليه وفود العلماء والطلاب. وكذلك كان أبوه عبد الوهاب عالما فقيها تولى القضاء والإفتاء في بلاد العارض من اليمامة وفي العيينة ثم في حريملاء.   1 - المرجع السابق: 322. 2 - المرجع السابق: 22. 3 - لمع الشهاب: 15. 4 - المرجع السابق: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 واستمر ذلك من أول القرن الثاني عشر الهجري إلى ما بعد منتصفه حيث مات هذا الأب في سنة 1153 هـ 1738 م. وكانت سن ابنه محمد حينذاك قد بلغت الثامنة والثلاثين. وولد محمد بالعيينة من بلدان العارض في شمالي الرياض قصبة نجد الحاضرة، وعاش حتى أوفى على التسعين، ثم مات -رحمه الله- عام 1206 هـ - 1791 م بعد أن قضى يدعو بدعوته أكثر من خمسين عاما انتهت باعتكافه في شيخوخته قليلا، كما انتهت بعد جهاد عنيف إلى أن أرست أسس الثبات والانتصار. وشب محمد في بيته فقرأ القرآن وحفظه وأتقنه قبل بلوغ العاشرة من عمره، ثم قرأ على أبيه وعلى علماء اليمامة مبادئ العلم والفقه على مذهب أحمد، ومنذ بلغ رشده واستوى قدمه أبوه لإمامة الصلاة. وفي أثناء هذه الدراسة الأولى حج محمد إلى بيت الله واعتمر، وكان لم يزل بعد في إبان الشباب، ثم قصد إلى المدينة فجاور بها نحوا من شهر، حتى إذا عاد إلى بلده فتزوج بها انكب على والده يكمل الفقه الحنبلي، ثم عاود الحجاز -من بعد- فقرأ على علماء الحرمين الكبار1. وانصرف الناشئ التميمي إلى تحصيل العلم والنَّهَم فيه انصرافا خالصا، ولم يَشُبْهُ بطلب شيء غيره من مطالب العيش من صناعة أو تجارة كما كان أهل نجد في ذلك الزمان. وقد قالوا إن رجلا من عنيزة اسمه سليمان بن راشد أغراه يوما بالتجارة وحسنها له وعرض عليه أن يعطيه مالا ليس له غير نصف   1 - عصر محمد علي: 127 - جزيرة العرب: 319 - الوهابية وزعيمها: مقال - أحمد بن حنبل إمام أهل السنة: 367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ربحه مضاربة، وكان ذلك في مجلس من الشهود أشاروا عليه جميعا أن يقبل فأبى قائلا: إن أنا اشتغلت بالتجارة بقيت بأسر الذل والطمع وفاتني فراغ البال في تحصيل العلم والعمل. والرزاق سبحانه يهيئ الرزق، فلست ساعيا بوجه من الوجوه يشغلني عنه ويلهيني1. ويبدو أن سليمان بن راشد وشهود مجلسه أيقنوا من صفات الفتى التي رأوها من صدق ظاهره وباطنه أن تجارته ستربح وأن ربحه مضمون، كما يبدو أن الفتى النجدي لم يرفض التجارة ويحرمها إلا أن تصبح له حرفة دائمة تشغله عما سواها. أما أن يكون له شيء من زرع أو ضرع يبيعه دون احتراف فهذا الذي كان فيه وقد أغناه عن أن يحترف لطلب المال. وكثيرون من أهل نجد كانت حرفتهم التجارة والسفر والإبعاد بها مهما طالت بهم الأسفار. وكان هذا الاحتراف من الكثرة أمرا مؤثرا معديا، بل ليس هناك ما يعدي بالفتنة أكثر منه، ولكن الفتى صان نفسه عن الداء فاستشفى برزق أهل بيته وما هو فيه من رخاء البال. حتى إذ اكتمل شبابه تزوج ورزق وشيكا بابنين وابنتين ثم لم ينصرف عن التحصيل ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مفضلا الكتاب الكريم، وما ثبت من الصحيح، ولا سيما ما كان من شيوخ الحنابلة وابن تيمية وابن القيم وتأثر بهم إلى حد كبير2. ثم التفت عن كتبه التي يقرؤها إلى الواقع من حوله فإنه كتاب أفصح منطقا وأبلغ تأثيرا، فرأى اليمامة قد ضمرت من ستة آلاف بيت وأكثر   1 - لمع الشهاب: 25. 2 - محمد بن عبد الوهاب (أ) : ص 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 إلى ثلثمائة بيت فأقل، فقرأ في تاريخها القريب أنها منيت بالظلم والجور فتردت من الرواج إلى الإفلاس ومن هناءة العيش إلى كدره ومشقته، ورأى على هذا المنحدر من تاريخ اليمامة كيف تمزق الناس أشلاء من فرق وقبائل، وكيف لم يبق في القلوب إلا إضمار الشر واحتدام العداء والاختلاف والنفاق. دراسته ورحلاته: وكان محمد بن عبد الوهاب كلما سار نحو الاكتمال ازداد ولعه بالعلم والمبالغة في تحصيله، فحرص على أن يطلبه في كل مظنة يستطيع الوصول إليها دون أن يمنعه مانع، وفي محيط بلاده التي يعيش فيها. وحان له أن يؤدى فريضة الحج فقصد إلى البلد الحرام، وجعل من موسم الحج ما جعله الأئمة الأعلام من قبله في عصور ازدهار الإسلام، وكانوا يتخذونه أوسع رحبة يلتقون فيها ويتشاورون، وتتلاقى قلوبهم وآمالهم، ثم يعود كل فائز منهم بما حمل من علم وفقه إلى بلده ليشعل فيها مصباحا من نور جديد. ولم يكن البلد الحرام يخلو من فقهاء أجلاء قد أقاموا به من أهله ومن غير أهله، ثم في الموسم من الوافدين عليه من أقطار المسلمين. وبنُزُوله إلى مكة وزيارته لفقهائها أو زيارتهم له أعاد إليها ما كان يموج فيها من حياة العلم الديني إذا قدم عليها أمثال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين من العراق وعبد الرزاق بن همام الصنعاني من اليمن ومهنا بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 يحيى من الشام، ويتبادلون علم ما يعرفه كل منهم، ثم يعود كل إمام إلى بلده وفي جعبته ما ملأها من علم وبحث مستفيض. وما إن التقى الشيخ الوهابي بعلماء مكة في الموسم وتبادلوا الأقوال والآراء حتى وجد منهم قبولا لآرائه وإعجابا بإقدامه وثباته وارتياحا لدعوته، فحثوه على الدأب والصبر، وهما أولى الأخلاق بالداعي إلى الحق، فزاده رضاهم اطمئنان قلب وقوة تصميم1. فلما أدى فروض حجته وحل من مناسكها، وتزود من علمائها مضى إلى المدينة المنورة -على ساكنها صلوات الله وسلامه- وما كاد ينْزل بأرضها حتى علم شيوخها آنذاك بمقدمه فأسرعوا إليه ليلقوه مرحبين. ولقي هناك فيمن لقي شيخ فقهاء المدينة وكبير محدثيها الشيخ محمد حياة بن إبراهيم السندي نشأة والمدني دارا. وكان أحد الأعلام الذين صنفوا الكتب والشروح. والسندي المدني هو صاحب المقدمة في العقائد وشرح الأربعين النووية للشيخ النووي الحجة في الرواية وتفسير الحديث2. وقد وجد ابن عبد الوهاب من الشيخ السندي إعجابا بسعة علمه وكريم خلقه، كما وجد منه قبولا لدعوته، وكأنما كان علماء مكة وعلماء   1 - محمد بن عبد الوهاب (ب) : 37. 2 - المرجع السابق والصفحة وانظر فيه تفصيل أسماء الشيوخ والمعلمين ص 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 المدينة على طريقة واحدة في النية والأمل، فوجدوا في ضيفهم ما يجعل النية عملا وما يملأ الغد أملا. وحين رأى هؤلاء وأولئك ما يحمله بين برديه من قصد ونبل أجازوه رواية الصحاح والمسانيد وسنن الحفاظ من المتقدمين والمتأخرين. وهكذا لم يفرغ الإمام من الحج والزيارة إلا وهو متزود بثروة كبيرة من العلم اللغوي والديني، وبثقة لا حد لها من قلوب علماء كبار، وشهادات منهم بما تأهل له من الرواية والفتوى، ومنذ ذلك الحين وقد شمر ساعده وجهده ليقلى الباطل بالحق والزيغ بالهدى والظلام بالنور. ومهما يكن العلم واسعا والرأي مستنيرا والحجة حاضرة فإنه لا ثمرة لكل هذه ما لم يكن من ورائها عزم باعث وقلب جريء وإقدام لا ارتداد منه إلى وراء، وكذلك كان الشيخ نية وهمة وإقداما، في إطار من العلم والحجة والرأي المستنير. ثم عاد إلى نجد، ولكنه لم يطل المقام بها، فرغب في أن يرتحل إلى بعض البلاد العربية القريبة، طلبا للازدياد من العلم، ومعرفة أدواء الناس ليعد لها الدواء. ومن رأي الإمام أحمد -رحمه الله- أن يظل طالب العلم مرتحلا أكثر منه مقيما، وقد سأله سائل: إذا لقيت في بلدي عالما يكفيني علمه أفأظل أو أرتحل؟ فقال الإمام: ارتحل فإن في الرحلة أنفاسا لا يشمها الطالب المقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وكان محمد بن عبد الوهاب قد صار منذ رجع من الحرمين فقيها عالما، ولكنه عمل بنصيحة شيخ الأمة أحمد، فارتحل يطلب مزيدا، وكان جديرا بأن يمنح ويعطى كما يأخذ ويجمع، فلما تهيأ له أن يرتحل إلى البصرة دخلها في تواضع الأئمة، لا يظهر ما عنده من العلم، وإن كان العلم ينم عن نفسه، ويتحدث بلا لسان عن فضله. وما كاد يجول أول جولة حتى بدا فضله وبان. ولم يلبث أن تهيأ في البصرة للوعظ والإرشاد، في سمت العالم ووقاره ورقته ورفقه، فاستيقظ داء الحسد في النفوس، وسعى به الوشاة يتهمونه بأنه يحدثهم بغرائب لم يحدثهم بها شيوخهم، ويدلي بآراء لم يسمعوا بأمثالها من وعاظهم ومرشديهم، ثم ألح بهم الحسد فانبروا له يجرحونه ويؤذونه، ثم لجوا في العدوان فاعتدوا على داره ونهبوا ما كان معه من مال وكتب ومتاع، واضطروه إلى الخروج من البصرة ماشيا عاري الرأس حافي القدمين. وحين مضى في طريقه على هذه الحال، بلغ به الإعياء في الطريق حدا موجعا، فمال به أحد من رآه إلى بلدة الزبير، فلبث بها أياما يستجم مما أصابه، ثم خرج منها معرجا على الأحساء، وكأنما دفعه القدر إليها، فرأى فيها علماء أجلاء على طريقته ومذهبه، فمسحوا عنه ما أصابه من الأذى في البصرة، حتى إذا استجم عاد إلى حريملا حيث كان والده مقيما بها. ولقد كان لهدوئه في ظل هذه البلدة وفي جوار أبيه بعضد هناءة النفس، والتمكن للاستعداد، وما كاد يشعر بذلك حتى وافى القدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 أباه فتوفي، فصار منذ هذه الوفاة على مفترق الطريق: فإما أن يكمل استعداده ويشد عزمه على لقاء الحساد والخصوم، من ظهر منهم ومن لم يظهر، وإما أن يستسلم فلا يحقق ما نوى أن يحققه لنفسه وللأمة الإسلامية، وينتصر خصومه وحساده وينْزوي وجه الحق عن الظهور. ثم بان له وجه الحق فرأى أن يتجهز بأقوى سلاح من حجج الدين، ونصوص القرآن والحديث الصحيح، ويمضي مضي الدعاة الأبطال، بعزم لا ينثني وقلب لا يقهر، والجنة محفوفة بالمكاره، ولا مطلب له إلا أن يرغم أنف الشيطان1. هذه كل رحلة الشيخ فلم تجاوز مكة والمدينة والبصرة، وهي كما، ذكرها الثقات من أهل عصره، وقد أضيفت إليها صور من تخيلات المتأخرين فأوسعوا في الكلام عن رحلات له طويلة ومدارس متعددة، وكما أوسع لهم الخيال والتصوير2. ولعل قصر الرحلة وضيقها وانصراف الشيخ إلى قراءة الصحاح والمسانيد، والمداومة عليها، قد سدد خطاه وحصره في مسار دعوة سليمة لم تختلط بأفكار جماعات متعددة، ولا بأوهام فاسدة، كما أن هذه الدراسة لم تكن بالأمر الهين أو الذي يحصله الطالب الذكي في وقت قصير، ولكن قدرته على التحصيل دلت على قوته وامتيازه.   1 - انظر مقال الوهابية وزعيمها للوزير الشيخ حسن عبد الله آل الشيخ وزير التعليم العالي بالمملكة السعودية: مجلة العربي بالكويت - محمد بن عبد الوهاب (ب) : 326-44. 2 - لمع الشهاب: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ومنذ أن سطع نجمه في نجد، وشاع بين النجديين حفظه وفهمه أقبل عليه كل ذي مسألة يستوعبه فأفتاه، وكل ذي همة فقبل دعوته وصار له نصيرا. نزعته وميله: ومما لم يكن معه بد أن محمد بن عبد الوهاب كان مطبوعا على ما نشأ عليه في أسرته ذات الدين والسمعة العريضة برعاية أحكامه، ثم تزود بكثير من نواحي المعرفة، ثم رأى مجتمعات مختلفة تموج بالصلاح والفساد، وعاشر أقواما وأجناسا تختلف طباعها وتتفق، وتتباين صفاتها أو تتقارب. أما المجتمعات فقد رأى الأجناس والأنواع وتباين الطباع والأخلاق وطرائق السلوك والمعايش، وأنواع العبادات والطقوس، ورأى فروق ما بين الحضر والبدو; وفروق ما بين الحواضر والحواضر. والمرتحل مع العلم والصدق يعود محتقبا جعابا كثيرة من الأفكار ويتردد بينها فيصل ويفصل ويجمع ويفرق ويكره ويستحسن، وتراه حريصا على أن يستفيد منها كلها دون أن يهون من شأن ما لا يستحق التهوين. ولكن الذي يرجع وقد ركز فكره في أمر واحد وجعل كل همه فيه لا بد أن يكون قد تملكته نزعة واستهواه ميل نحو عالم من العوالم التي رآها وعرفها فيوجه نشاطه إليه ويوليه هذا النشاط على ديمة واستمرار. ولا يسمى الميل أو النّزعة باسميهما إلا إذا اتجها إلى ناحية خاصة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 نواحي الحياة، واستمر هذا الاتجاه أبدا، وظهر هذا الميل أو النّزعة إلى خارج النفس كلما سنحت الفرصة لظهوره. وهذا هو ما صار لمحمد بن عبد الوهاب إذ آثر النّزعة الدينية وأولاها إدراكه وإرادته فتعلق بها وأحبها، ومن ثم أداه هذا الميل إلى الإكثار من المعلومات ومعرفة العلاقات والروابط بين الأشياء فيما اتجه إليه من الميل الديني، أما العلوم الأخرى فكانت أدوات وأسبابا تحمل على الانتفاع بها أو الحيدة عنها بقدر ما تخدم الدين أو تعكر صفوه وتحيد عنه. وثبت لمحمد بن عبد الوهاب أن الإغراق في التفكير الفلسفي كما أغرق المشاؤون والإشراقيون، وأن الشرود وراء الشطح والكشف كما شرد الصوفيون -لا يزيد عن أن يكون تخييلات عقلية وتلبيسات مسرفة ليس من شأنها إلا أن تميز من يعرفها بالشذوذ عن المجتمعات، وهم قليل، أما أن تقيم مجتمعا سليما قويما ينتظم فيه كل أفراد المجتمع فإن ذلك لا يكون إلا أن يشب العامة على معرفة الدين علما وعملا وفي الحدود الميسرة لكل العقول والجهود، وهذا هو الطريق الذي عرفه أهل السنة والمسلك الذي سلكوه. وكان ميل ابن عبد الوهاب وتخرجه على المذهب الحنبلي الذي يأبى الحيلة والتقليد والتأويل، فأوقعته رحلته على أنواع من الحيل والتأويلات فرجع منها ممتلئ النفس استنكارا لما ابتدعه المسلمون حاسبا أن تكون هذه الرحلة كالخلوة والتأمل لمن يريد أن يقدم لعالمه الذي هو منه والذي يحبه يدا تنجده ونورا يهديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ولقد أكثر الفتى النجدي في أثناء رحلته من الخلوة والتأمل، وكان لجوؤه إلى المدارس التي في طريقه انزواء عن الناس لئلا يفسدوا عليه فكره وتأمله، ولم يزل في كثير من المواضع التي نزل بها لا يذكر اسمه ولا قومه ولا بلده تواضعا وزهدا قد نسي كل هذه الأشياء ثم أعلن عن نسيانها في أصفهان حين حسر عن رأسه ولبس جبته الخضراء1. وهكذا صار السفار الرحالة من العلوم التي حصلها على بصيرة، وأيقن أن انتكاس المسلمين لم يحدث إلا بمفارقة عامة الناس للشريعة وحدودها وآدابها، أما علوم الدنيا ومعارفها فقد ينال منها ما يشاؤه الصالحون والطالحون، فرأى وجوب بذل الهمة في إرجاع عامة المسلمين إلى الحقائق الميسرة في شريعتهم والتي انخلعوا عنها. وأعجبته من بين النّزعات نزعة ابن تيمية فانكب على رسائله ينقلها بخطه ويحملها في حقائبه ويسافر -ولعلها كانت أنسه في خلوته- وقد رسمت له هذه الرسائل حدود الدين وخلصته من البدع والمنكرات وتخليط الفرق وتهافت الفلاسفة، فود ابن عبد الوهاب لو أتيح له أن يحقق للمسلمين ما عجز ابن تيمية عن تحقيقه2! ثم فكر في الخطوة العملية فرأى أن يبدأ بقومه ويدعو بدعوته بين القبائل ثم يقاتل ويهاجر من بلد إلى بلد في الجزيرة وفي أطرفها ليرجع بالدين إلى نقاوته الأولى، فإذا خلص له ما أراد في بلاده التي نشأ فيها   1 - انظر الفصل السابق: دراسته ورحلاته. 2 - زعماء الإصلاح: 10 - الوهابية وزعيمها: مقال - عصر محمد علي: 127 وهذه الرسائل بخط الشيخ النجدي بالمتحف البريطاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الإسلام، فإن فكرته تكون فد بلغت غاية الصواب وخطوته قد بلغت غاية السداد1. وفي غيبة علماء الأمصار عن محاربة البدع والخرافات لانصرافهم إلى الدنيا وتمرغهم في أبهة المناصب ومتابعة أهواء الحكام والمحكومين رجع محمد بن عبد الوهاب إلى نجد آخذا على نفسه أن يتفرغ لدعوة الإصلاح بمحاربة البدع والعقائد الفاسدة وإخلاص التوحيد لله2. ولم تكن النّزعة الدينية التي نزع إليها لتغض من شأن العلوم التي حصلها ولكنه جعلها أدوات ووسائل للفهم والإدراك وتمييز الخطأ من الصواب والحق من الباطل، وليس يجوز أن يتهم بقصر النظر أو الجمود. ولو كان أتباعه من بعده -ككل أتباع المذاهب- قد حاربوا العلوم المدنية حينا ثم لم يجدوا دليلا يظاهرهم على هذه الحرب فألقوا السلاح، فإن التهم التي كيلت للوهابية من أتباع النّزعة العقلية التي كانت بعد جمال الدين لم يلحق ابن عبد الوهاب ولا الوهابية السليمة شيء منها وهم من هذه التهم براء3. وإن لم بكن ذلك فما قيمة الاجتهاد الذي فتحت الوهابية بابه ودعا إليه شيخهم النجدي وألح في الدعوة إليه؟! ولم يسمع أحد منه دعوة إلى نبذ علم من العلوم سوى ما رفضه أهل السنة مما ذهب بالعقول إلى   1 - عصر محمد علي: 127. 2 - جزيرة العرب: 319. 3 - جمال الدين الأفغاني: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 التخييلات والتلبيسات وذهب بالنفوس إلى الخرافات والضلالات، ولكن نزعته مالت إلى أمور الدين فأرخت سترا على ما عداها من غير أن يكون ما وراء الستر كله محرما أو مكروها. صفاته ومناقبه: ويصف المؤرخون محمد بن عبد الوهاب بالحفظ والذكاء وحدة الفهم وما إلى ذلك من الصفات التي تتوفر في كثير من أئمة الدين والعلم، ولكنها لا تؤهلهم لأن يقودوا حركة ثورية ناجحة كما قاد حركته محمد بن عبد الوهاب. والأولى أن يكون أول ما يوصف به أنه رجل بليغ واضح قوي التأثير مقل من الكلام مكثر من العمل، وكان في كل ما رسم وسار من خطوط وخطوات قدوة لغيره، من غير أن يكون مملولا كالمكثرين من الأقوال المقلين من الأعمال. ويعرف إيجازه وبلاغته في كل ما تركه من كتابات واضحة زيدت عليها من بعده تفصيلات تضرب الأمثلة وتنصر الأدلة لا شروح تفسر الغوامض كما حدث لكتاب التوحيد. وقد وصف بأنه رجل متواضع مجامل غير مترفع، ولكن كان لتواضعه شأن في علمه وسياسته ظهر فيهما بأجلى وضوع أما في العلم فكان استخفاؤه من التظاهر بعلمه على خلق الأئمة الأولين. وأما في السياسة فإنه حين انتصر وفازت مبادئه لم يطمع فيعتدي وينتهب سلطان ذوي السلطان وينفرد به، وقد كان متاحا له في يسر أن يصل إلى مثل ذلك ما دامت الدعوة قد استجاب لها جحفل جرار من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المتطوعين، ولكنه بقي في المكان الذي نبعت منه قوته وهو مكان الوعظ والفتوى. ويوصف ابن عبد الوهاب بالصبر والصمود، وقد خرج من العارض باليمامة إلى الرحلة أكثر من عشرين عاما جمع فيها من العلم والمعرفة ولقي فيها من شظف العيش وسطوة الظلم ما اصطبر عليه. فلما خرج من العيينة محتميا بالدرعية ثم هزمت صفوفه هزائم كثيرة لم يعدل من مسيرته ولم يخفض من جهده، وكان كلما زاد عدوه عدوانا وضراوة ازداد هو رباطة وثباتا، وكان فيما اتصف به من رباطة الجأش مقتديا بالرسول الأعظم ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ومؤتسيا بصحبه وأتباعه ممن نصعت سيرتهم في البلاد والأجيال والأزمان، ثم كان هو قدوة لكل صاحب دعوة في سبيل الله. ولم يكن الداعية النجدي قائدا متهورا، وطالما نصح للأمراء والقادة والجند بالتريث قبل دخول المعارك اتقاء للهزيمة. والقادة الحكماء هم الذين لا يتمنون لقاء العدو بل يرجون أن يكون النصر يجنونه بغير خسائر أو بأقلها. وكذلك كان قائد بني تميم. ومن صفته أنه كان رجلا صادقا خالص الإيمان وفيا، وشاهد ذلك ما تركه في أولاده وذريته واتباعه من الصدق والإيمان والوفاء، وقد كان مخوفا أن تخمد الدعوة لو أنها انبعثت من صوت رجل يريدها لنفسه وجاهه، فإذا مات انتهت بموته، ولكن هذا الداعية الصادق الوفي ترك من بعده أمة كاملة تتبع دعوته وتحرص عليها. ولأنه لم يكن طامعا في ملك ولا رياسة فقد حصر همه في تخليص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 عقائد الناس إلى التوحيد الخالص، وبذل كل جهده في بيانه بلسانه وقلمه وفي جهاده بتدبيره وسيفه، ولم يتعرض لشيء سوى الشريعة التي تنتظم بها شؤون الحياة. وكان وفيا هو وبنوه وحفدته للعقد الذي عقده مع محمد بن سعود أول الأمر في أن يتولى هو الدعوة الدينية ويتولى الأمير ابن سعود شؤون الدولة وتنفيذ الأحكام. ولقد كان الرجل ذا نفس نزاعة عن الانعزالية -سوى فترات قليلة عكف فيها على التفكير والتأمل- إلى أن بلغ الثمانين من عمره فانقطع انقطاع الفقهاء كمالك والأوزاعي وأحمد. ولو وصف -من بعض اعتزاله- بالانعزالية لكان أحد المتصوفة الذين تخلوا عن الناس ولم يذكروا إلا أنفسهم وخصوها بطلب القربة والوصول، ولكنه أراد أن يعيش مع قومه ثم مع المسلمين كافة عيشا متكافلا ساميا يكون من شأنه إسعاد الناس. ولم يسقط من حسابه العامل الحربي الذي يكون عليه آخر الأمر تقريب المسافات وتقصير الأزمان. من الممكن بعد هذه الصفات العود إلى صفتي الحفظ والذكاء. وفي الاعتقاد أنهما ضرورتان لرجل يبدأ دعوة ويصنع تاريخا. أما الحفظ فالمراد منه أكثر من حفظ العلوم -وعي التاريخ والاتعاظ بالتجارب الماضية للناجحين والمخفقين والسير على خطة منجحة بقدر الإمكان. أما الذكاء فهو معين على الحذر وتفادي الخطأ ووقوع النظر والقلب الناجع من السلوك ومسايرة الزمن وحسن سياسة الناس. وهذا وذاك ما اتصف به ابن عبد الوهاب فكان حافظا ذكيا. والذكاء ليس وظيفة ساذجة أو ملكة مستقلة، وإنما وظيفة مركبة ذات تعقيد تتكامل فيها عدة مقومات عقلية وإرادية واجتماعية. وقد عرفه علماء النفس بأنه القدرة الفعلية على تكييف المواقف الجديدة والقدرة على التصرف والابتكار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وقد دفعه ذكاء النظر وفطنة القلب والاتعاظ بالتجربة أن يلجأ إلى محمد بن سعود في الدرعية عند أول صدام في دعوته. وما من شك في أنه كان قد عرف ميول الأمير واستقامة خلقه ومدى استعداده قبل هذا الالتجاء. وكانت المعرفة بالأمير سهلة ميسرة، فإن الدرعية لم تكن عنه ببعيد، ثم لا بد أن تكون الدرعية قد آوت من الهاربين من الظلم من اليمامة أناسا شهدوا عدل الأمير في الدرعية -ومن بينهم من هو من بني تميم- فأقاموا بها. وبهذا الالتجاء ضمن الداعية النجاح، لأنه وإن كانت القواعد الدينية تفرض عادة من القاعدة على القمة إذ القاعدة مصدر النظم ومنبعها، فإن بدايتها من القاعدة والقمة معا مسرع بها إلى الانتشار والرسوخ والاستقرار. أشعة الضياء: ولما بلغ شيخ بني تميم الثمانين من عمره اعتزل الناس ولجأ ملجأ مالك والأوزاعي وأحمد وأضرابهم إلى الزهد والتعبد، ولم تعد له يد في تصريف الأمور، وترك أمر المشيخة لابنه حسين. حتى إذا كانت سنة 1206 - 1791 م كان قد بلغ التسعين من عمره فتوفي في ذلك العام بعد أن مضى على دعوته منذ أن أعلنها في حريملاء أكثر من نصف قرن من الزمان. ومن نافلة القول أن يذكر أن موته كان غما وحزنا أصاب الأمراء من آل سعود ومن آله وأتباعه وكل منصف من أهل الدين والعرب وغير العرب، فإن موت العظماء كالأحداث الداهمة تصيب الناس بالحزن والذهول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وجريا على التقاليد في الصلاة على الأئمة صلى عليه عبد العزيز بن محمد ومعه آل سعود صلاة الجنازة في أول الناس، وكانت صلاتهم عليه في بيته، فلما حملت جنازته إلى المسجد صلى عليه الناس فوجا بعد فوج، ثم حمل جثمانه إلى مقبرة السعوديين. وقد خلف الشيخ مبادئ دعوته في رسائله وكتبه مبادئ ميسرة في وضوح وجلاء وقرب إلى الناس جميعا وأيدها بنصوص القرآن والحديث، فلم يدع للشك أن يتسرب إلى حقائقها ولا إلى الغموض أن يذهب ببيناتها ومواضحها. وخلف من الأولاد أربعة ذكور وست إناث: والذكور هم: حسين وعبد الله وسليمان وعلي والأخير أصغرهم. وذكر له من قبل هؤلاء ولدان هما ناصر وعبد الوهاب كانا ولدا له قبل النجعة والارتحال ثم لم يفض عنهما ذكر بعد1. والإناث هن: سلمى وصفية وفاطمة وسعدى وعاندة وحبيبة والأخيرة صغراهن. لم يترك الإمام غير أرض ذات نخيل وزرع وأشجار وفاكهة كان قد اشتراها في بدء حياته. أما الكتب التي كان قد اقتناها فتركها فقد قيل إنها بلغت مائتي كتاب أو نحوها، حبسها أولاده باتفاقهم جميعا وقفا على دار القضاء والفتيا. وبقيت الأرض لم تقسم، يأكل منها الورثة. وقد اقتدى الشيخ أو أهله في شأن التركة بإمامهم أحمد، إذ كان قد أوصى بما يخرج من لواحق داره ببغداد من الطرز2 والزرع ليكون نفقة على أولاده وأحفاده، وللذكر   1 - لمع الشهاب: 30. 2 - الطرز جمع طراز وهو أشبه بما يسمى اليوم بالدكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 مثل حظ الأنثى في النفقة، بعد سداد الدين1. وتولى الشيخ النجدي مكانه في الإمامة أيام محمد بن سعود أمير الدرعية ومعظم أيام ابنه عبد العزيز. فلما قبض تولى ابنه حسين الإمامة بقية أيام عبد العزيز وفي أيام ابنه سعود. وكان حسين وهو أكبر أولاد الإمام مكفوف البصر، غير أن ذلك لم يحل بينه وبين العلم والإمامة وحسن القيادة وقد كان أبوه يستشيره لما يعرف من فهمه وبصيرته2. ثم تولى بعده أخوه علي الإمامة بقية أيام سعود، وكان علي أصغر الأبناء. وكما لم يخرج محمد بن سعود وابنه عبد العزيز عن مشورة الإمام صاحب الدعوة ولزومه حتى مات لم يخرج عبد العزيز ولا سعود عن إرشاد حسين ومشورته وولياه أمر الحكومة الشرعية ومنصب القضاء. ولم يقصر الشيخ البصير القلب عن رتبة أبيه. وكان مرهف الإحساس بحيث تهديه بصيرته إلى السير في الطرق بغير قائد وإلى تمييز الألوان باللمس. ثم كان عفيفا حلو الحديث ضحوك السن. ولما آثر السنة ولبس الثياب البيض أو المصبوغة بالورس والزعفران قلده أهل الدرعية فصارت كلها مدينة شهباء3. ومات حسين قبل موت سعود بثلاث سنوات فغسله أخوه علي وصلى عليه سعود ثم عامة الناس ودفن بجوار أبيه4. ثم صارت الفتوى إلى علي فأعزه سعود وأولاه الطاعة كما كان لأخيه. وربما كان علي أقل من أخيه وأبيه علما ولكن مهابته وترفعه عن   1 - انظر فصل الدين والوصايا في باب آثار الأيام بكتاب شيخ الأمة أحمد بن حنبل. 2 - لمع الشهاب: 103. 3 - المرجع السابق: 173. 4 - المرجع السابق: 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المجالس وتشدده في أمور الدين عوضته عما نقص من علمه، وكان كأخيه حسين في الثياب والتجمل. ثم امتدت شياخته إلى أيام عبد الله بن سعود1. وكان عهد الشيخ الإمام وابنيه أيام السعودية الأولى التي انتهت بالحرب الوهابية. فلما قامت السعودية الثانية -في زمن الفترة ما بين الأولى والثالثة التي أنشأت الدولة الحاضرة- ظهرت مكانة عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمن. وقد حفلت هذه الدولة الثانية -مع كثرة ما أصيبت به من كيد- بالتحام قوي بين الدين والسياسة والأمير والشيوخ، فقد قاد الدولة أمير إمام هو فيصل بن تركي وعاونه الشيخان عبد الرحمن وابنه، وكان عبد الرحمن إماما جليلا واسع العلم بالمنقول سعة الأئمة الأعلام، وهو الذي شرح كتاب التوحيد لجده محمد شرحا مفصلا سماه: (فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد) 2 ثم كانت نجد في عهد فيصل الإمام والشيخين ملجأ لكل مسلم يريد الإسلام الصحيح وخالص التوحيد3. والتف حول هذا العمود من أولاد الشيخ وأحفاده آخرون من بني العمومة، ناصب بعضهم الإمام -أول عهده بالدعوة- عداوة وإيلاما، وأرادوا إخراجه من بيته باليمامة قهرا، ولكنها كانت بداية هجرة أيدته ونصرته. وقد أعانه أخوه علي ابن عبد الوهاب فنصح له بالخروج قبل أن يجتمع عليه الأعداء ليخرجوه4. ثم التف حول الإمام وبنيه أربعة من بني عمه القريب المسمى حسين، ناصروا الإمام على أخيهم عبد الله بن حسين الذي تولى مدافعة الإمام   1 - المرجع السابق 178. 2 - جزيرة العرب: 328. 3 - المرجع السابق 235. 4 - لمع الشهاب: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 عن دعوته في أول ما دعا، وكانت مدافعته له بحوار مسلح أصاب فيه بسيفه يد الإمام1. وكان له أخ غير علي اسمه سليمان بن عبد الوهاب، وهو الذي شهد بما كان عليه أخوه محمد من الذكاء مذ كان صغيرا2. وهذه أصول الشجرة الزكية التي تفرعت أغصانها مع الأيام وجادت ثمراتها على الأنام. وأشعة الضياء التي أرسلتها على المسلمين ذات صباح شمس نهار. وفي الدولة الجديدة القائمة صارت الرياض مقر آل الشيخ المصلح من ذريته وما زالوا هم موئل الدين ومنبع العرفان ومقاصد ذوي الحاجات3.   1 - المرجع السابق: 28-30. 2 - الوهابية وزعيمها: مقال. 3 - جزيرة العرب: 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 دعوة التوحيد جوهر الدعوة ولما درس ابن عبد الوهاب علوم الحرب الأصيلة والدخيلة وغلبت عليه النّزعة الدينية واطلع على أقوال المذاهب واعتنق مذهب الحنابلة وقصد البلدان سائحا، معلما ومتعلما1 أنعم النظر في ثلاثة أمور: الأمر الأول: حال المسلمين وبني قومه في غرائزهم وميولهم وطبيعة قواهم وما صاروا إليه من فساد في العقائد وابتداع للطقوس. والأمر الثاني: علاج هذه الأدواء باستخدام الغرائز والميول والمقدرات، ثم اهتدى إلى الثالث وهو الدواء، ولما كانت قد غلبت عليه النّزعة الدينية فإنه لم ير في غير استقامة الناس على الشريعة دواء ولا شفاء. وأس هذه الشريعة عقيدة التوحيد. وهي في الإسلام موجبة أن يترك الناس آلهتهم المتفرقة إلى إله واحد، إذ كل عابد يتصور إلهه عظيما وأعظم الآلهة، فكل من لا يقبل على عقيدة التوحيد مصغر لآلهته مدن لها من الأرض.. والعقل المسيطر الجبار لا يرضى أن يخضع لإله صغير محدود، بل هو في الملحدين يحاول أن يحطم فكرة غير المحدود. فالدعوة إلى التوحيد في الإله الأعظم ذي الأسماء والصفات مكمل لعظمة الفكرة مقبول من كل عقل سديد2.   1 - تاريخ العرب العام: 509. 2 - من حضارة الإسلام 1، 13،14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 والتوحيد الذي يطابق شرف الذات والعقل جاء به الإسلام، فرفع الوجوه عن السجود للأوثان البشرية وغير البشرية من كل كائن مخلوق، وبدأ به أولا لأنه أخطر وأشق، وبغيره لا يكون الانتقال من عبادة إلى عبادة، بل هو بمثابة الإقرار بالحق، وبدونه تكون الاستهانة، وهذا سر أسبقية الشهادتين في الإسلام وكونهما الركن الأول فيه1. وكان أمرا ضروريا لانتظام الناس في سلك عقيدة موحدة ومساواة عادلة أن تتقدم مرتبة الإيمان فيطلب إليهم قبل كل شيء أن يؤمنوا. ولو ترك للعقل والعلم ما وكل للإيمان لما استطاعا أن ينظما الناس في سلك واحد، إذ كما يقع الاختلاف بين العالم والجاهل يقع بين العالم والعالم، فلا يمكن جمع العلماء على نظريات علمية يختلفون في إدراكها إلا إذا أصبحت عندهم من البدائه -أي في درجة الإيمان- ولكن العقيدة في إمكانها أن تجمع بين المختلفين مهما اتسعت مسافات الاختلاف بينهم. ولا سيما إذا كانت سهلة ميسرة كالعقيدة الإسلامية التي بدأت بالتوحيد. وفي الإمكان أن تكون مسؤولية الجميع متساوية أمام العقيدة، من حيث تختلف المسؤولية ولا يمكن أن تتساوى أمام العلم والعمل، لأن إدراكات العقل متفاوتة بنسبة الذكاء وما يدرك من مسائل العلم. ودرجات العمل متفاوتة بحسب الذكاء والفكر والقوى المبذولة. أما العقيدة فلا تحتاج إلى جهد من عمل أو موفور من عقل وذكاء، بل يكفي فيها صحة العقل وسلامته من الآفة، ولذلك بدئ بالعقيدة لإمكان التساوي فيها بين من يعرف الدليل ومن لا يستطيع أن يتهجى حروف الاستدلال. وقد بدأ الإسلام بالإيمان وجعله الفرض الأول ليكون حصنا يحمي الحضارة التي تبنيها العقول والجهود من أن تتسلط عليها معاول الهدم التي   1 - المرجع السابق: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 هي الأدوات الدائمة في يد الكفر والإلحاد. وليس بدعا ما بدأ به الإسلام، فكل شريعة منظمة تفرض الإيمان بها أول ما تفرض، ثم تطلق الأيدي والأفكار في داخل نظامها، فإذا جاوزت هذا النطاق وتعدت حدوده عدت هدما وتدميرا. ولا يحتاج إدراك هذه الحقائق إلى ذكاء. أما من يطلبون أن يعمل العقل أولا ليدرك من نفسه وجه الإيمان فأولئك دعاة السير في الظلام، وفي الظلام لا يهتدى إلى حق ولا باطل، وهي منْزلة أشد خطرا على الإنسان من انعدام الإيمان. ولئلا يحس العقل نفسه وحيدا في وحشة الدنيا مضطربا في استبانة الطريق عجل له الإسلام فلقنه الإيمان ليثبته إذا اضطرب ويؤنسه إذا استوحش، ثم يدفعه ليرى في ضوء ساطع ونور واضح. والقلب لا يندفع إلى حركة عادلة إلا إذا هدأ، ولا يتناول الأفكار والأعمال تناولا قاصدا إلا إذا اطمأن. والإيمان - مع أنه في منْزلة البديهة إذ هو استجابة للشعور بالقوى الجبارة الخفية التي تسير الكون كله -فإنه هيوب- كما قال الرسول الكريم - يمنع صاحبه أن يقدم على الآثام والذنوب إقدام المرتكس الضال1. والحقيقة الأولى التي هي الإله الواحد الذي ليس كمثله شيء نادى الإسلام أن يستيقظ لها العقل ويتنبه، وكانت دعوته مناسبة لجوهر العقل ذاته، إذ كل ما انحط تحت الحواس فأدركته صورة المادة أو توهمه الخيال صورة منسوجة الخيوط منها أو قعد عن إدراكه الجهل فأطلق لغريزة العناد أن تقابله بالجحود والنكران - كل ذلك حمى الإسلام العقل منه وناداه أن يعبد غير المحدود، فإذا عبد العقل غير الذات المبرأة عن   1 - انظر المجازات النبوية: 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الحدود فقد أنكر ذاته أو تدهور، إما إلى دركات الحواس وإما إلى ظلمات الجهل والخيال. وحين سبق الإسلام بمرتبة الإيمان وعبادة الإله الواحد المنَزه عن الشبيه ترك للعقول أن تتقلب في حدود مقدرتها لتصنع الدليل، وهي رحمة بالعقول ودفع للثقة بما تفعل. فقد حرّضها على أن ترى الغائب من الشاهد والصانع من الصنعة والوحدانية من اتساق النظام وتناقضه في الكون المخلوق، وإذا لم يفعل العقل ذلك جهل ذاته وجوهره. ومهما اعتورته في استدلالاته شكوك وريب واعترضته مشاق وجهود فعليه أن يجري في مجراه حتى يأتي اليوم الذي يكون علمه بالله تعالى فيه علم اضطرار غير مشوب بكلفة ولا معقود بمشقة. ولن يكون ذلك إلا في الدار الآخرة كما ورد في آيات القرآن وأحاديث الرسول1. وحفاظا على كيان العقل وجوهر ذاته، وتسديدا له ليسير في طريق العلم النافع، وتيسيرا للجهود أن تسلك طريق السلامة -حارب الإسلام السحر والتخرص والتنجيم والأخيلة الكاذبة والخرافات، ولم يرض بغير ما يسمو بالعقيدة ويسدد طريق العبادة ويقوم الخلق ويرقق الطباع ويرهف الملكات وينظم المعاملات ويحسن كل مقومات الحياة2. وقدم الإسلام دواءه الناجع في تعاليم وأحكام بناها على الحوادث اليومية في مدى ثلاثة وعشرين عاما هي زمن الوحي والنبوة، ولم تجئ تعاليم منقطعة عن الحوادث البشرية فصحت دعوى الإسلام بأنه من بين الديانات   1 - المرجع السابق: 53 - ودليل القرآن قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} سورة القيامة: 22 - ودليل الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم – "ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته" المسند 4: 360 , 362 - المجازات النبوية: 45. 2 - من حضارة الإسلام 1: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 كلها كان حلا لحوادث الأزمنة التي لا بد أن تكون متشابهة مهما تكررت، وليست تعاليمه غريبة عن أي زمن منها، إذ هي الأصل في تلك الحلول. وهذا كان جوهر الدعوة أول ما جاء الإسلام، وقد رآه محمد بن عبد الوهاب جوهرها في كل مرة نسي فيها الإسلام، ولم ير غيرها صالحا للإصلاح وتسديد خطى المسلمين كلما فسد الزمان واعوج الإنسان. الأسباب والوسائل: ولم تهدأ فكرة الإصلاح الديني عند المسلمين يوما ما، وكانت الفكرة تعلو وتشتد كلما فسد المجتمع الإسلامي وضعف وكثرت شروره، لأن المسلمين يشعرون شعورا قويا بأن كل فساد وضعف يصيبهم فإنما مرده إلى الدين. وقد نهض بنو تيمية في القرن السابع الهجري ينبهون المسلمين إلى ما وقعوا فيه من الانحراف عن الطريق القويم، وأخذ تقي الدين يصلي الحكام علانية تهمة المروق من الدين، ولا يرحم علماء عصره الذين ضلت طرقهم في الإرشاد والإفتاء وأهملوا هداية الناس، وكان في ذلك متبعا لإمامه أحمد الذي أنحا باللائمة على أئمة الأمصار في كتاب الصلاة لتقصيرهم في تعليم الناس. واستنكر تقي الدين ما شاع في زمانه من العادات والطقوس المخالفة للشريعة فحث العامة حثا عنيفا على تركها. ومع اختلاف الناس في تقدير دعوته ودعوة تلميذه ابن القيم فقد شغلتهم غارات التتر حينا وانصرف تقي الدين نفسه مع العامة إلى القتال والمدافعة باليد واللسان، وحتى لو لم تكن غارات التتر قد صادفت زمانه للقيت ثورته عنتا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الجامدين والمغرضين، لأن حضارتهم الدينية كانت قد صارت خليطا غير فصيح من الإسلام والإلحاد1. فلما مضى الزمن واعتنق هذه المبادئ محمد بن عبد الوهاب، استطاع أن يجعل منها برنامجا عمليا ينقذ الناس، ووقع في حسابه أن الدولة العثمانية المسيطرة على بلاد العرب جميعا لم تدع إصلاحا يسير في طريقه خوفا من أن يهدد كيانها ويزيدها مرضا وعناء. وكانت تجارب ابن تيمية قد أكدت أن لا أمل في عون من رجال الدين الذين تنتظمهم الحواضر الإسلامية والذين تحولوا بفعل الأنظمة السياسية البشرية إلى موظفين رسميين جامدين لا يميلون إلى تغيير أو تبديل بسبب أرزاقهم ومناصبهم، وحتى من كان منهم ذا نفس تواقة إلى الإصلاح فإنه كان يخشى الفشل والإخفاق2. وأفادت هذه التجارب شيخ نجد فباعد بينه وبين الحواضر، ورأى القدر قد أعانه بأن كان أحد أبناء البادية التي تغرق طبيعتها فيما هو أكثر من الزهد والتقشف، فصمم على أن يبدأ دعوته بها، وكانت أجدر بالدعوة وأولى، إذ كانت هي الأخرى قد صارت مرتعا لفاسد العقائد والطقوس، وقد تمزقت أفلاذا بين القبائل المتعادية المتحاربة، وبات الناس فيها محكومين بأهواء الأمراء والعمال بلا شريعة ولا قانون3 فلعلها -على ما بها من فساد- تقبل الإصلاح وتسرع إليه. وعاد شيخ نجد من رحلته إلى العارض وبدأ بالاحتجاب عن الناس وانصرف للقراءة والتأمل، وظل على تلك العزلة ثمانية أشهر، حتى إذا   1 - الشرق الإسلامي: 188. 2 - المرجع السابق: 190. 3 - جزيرة العرب: 320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 استوى له النظر وصدق العزم خرج إلى قومه بني تميم يحمل في يده كتيبا صغير الحجم -ولعله هو الذي أعده من أصول التوحيد وكتبه واضحا موجزا مجملا- ثم قال: أشهد الله أني مقتف ما في هذا الكتاب، وأنا أقول: إن الذي سُطِّر فيه هو الحق وحده لا غير. وكان هذا بدءا من الداعية فيه كمال الروعة إذ بدأ بنفسه لتكون قدوة، وأشهد عليها أنه عامل بما في كتابه، ولم يقل كلاما يصح أن يغبر عليه ويتهم بما لم يقله، بل قدمه مدونا مكتوبا لتكون الحجة له فلا يغيَّر قوله ولا يزيَّف، وكأنما كان يحس بما حدث من بعد من اتهامه بالابتداع، فأراد أن يفقأ عيون متهميه بما هو مدون مكتوب. وتقدم منه كبير من قومه الذين كانوا اجتمعوا له ونظر في الكتاب فإذا هو الحق، إلا أنه لم يرسم فيه طريق الدعوة له وضمان نجاحها فسأله عنهما فقال الشيخ: بالنصيحة فإن لم تجد فإلى السيف1. وبدت وسائل الدعوة عند الشيخ كلاما وكتابة وسيفا، ومن وراء هذه كلها علم وسياسة وإرادة وتصميم، وسير في حدود الشريعة التي لا ينكرها منكر وركز الشيخ دعوته ودون أركانها في رسائل موجزة مستندة إلى النصوص حتى تكون حجة لا تغلب، فدون ثلاثة الأصول وأدلتها وأربع القواعد وشروط الصلاة وكشف الشبهات ورسالة المغربي وكتاب التوحيد2. أما ثلاثة الأصول فمعرفة العبد ربه بآياته ومخلوقاته، والله هو مستحق   1 - لمع الشهاب: 27. 2 - انظر هذه الرسائل في مجموع رسائل المنار المطبوعة بالقاهرة سنة 1340 هـ - ما عدا رسالة المغربي وكتاب التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 العبادة دون شريك له من مخلوقاته التي هي الكائنات، وأدلة المعرفة وأنواع العبادة مبثوثة في القرآن، ثم معرفة الدين على مراتبه من الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، وكل مرتبة من هذه المراتب الثلاث لها أركان، ثم معرفة النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بنسبه ونبوته ورسالته التي ختمت بها الرسالات التي بدأت بأبي البشر الثاني نوح عليه السلام1. وأما أربع القواعد - وقد ساق عليها الأدلة من القرآن - ففيها دراسته التاريخية لدعوة التوحيد حتى صار الأمر إلى ما صار إليه. وأولها أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كانوا يعلمون ويقرون بأن الله هو الخالق المدبر، ولكن ذلك لم يدخلهم في الإسلام حيث جانبوا تقوى الله وإخلاص العبادة له وحده. وثانيا أنهم لم يدعوا الشركاء إلا ليقربوهم إلى الله زلفى فعد ذلك منهم شركا، فلم يقبل منهم أن يتخذوهم زلفى وشفعاء إليه. وثالثها أن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ظهر على أناس تفرقت عباداتهم بين الملائكة والأنبياء والصالحين والكواكب والأشجار والأحجار، وقد قاتلهم الرسول جميعا إذ هم في الضلال سواء. ورابعها أن مثل هذا الشرك قد صار إلى زماننا الأخير، بل صار أغلظ من شرك الأولين، من أنه طمس الإسلام الصحيح ومن أنه صار شركا دائما يلجأ فيه إلى الشركاء في الشدة والرخاء، بينما كان المشركون قبل الإسلام يلجؤون إلى شركائهم في السراء ويخلصون اللجوء إلى الله في الضراء. وأما شروط الصلاة فقد أوضح أنها تسعة: الإسلام والعقل والتمييز ورفع الحدث وإزالة النجاسة وستر العورة ودخول الوقت واستقبال القبلة والنية. وقد فصل في رسالته هذه الشروط وأوضحها وجاء بأدلتها من   1 - وقد نشر سعود بن عبد العزيز في السعودية الأولى هذه الرسالة بمكة ونسب إليه أنه يوضح فيها آراء معلمه. تاريخ العرب العام: 510 ... "حديث الرسول عن نوح أنه أول الرسل إلى أهل الأرض": انظر البخاري: 4: 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 القرآن والحديث الصحيح. ثم استطرد ففسر الفاتحة وذكر كثيرا من سنن الأقوال والأفعال. ورسالة كشف الشبهات فصل فيها ما أثبته في ثلاثة الأصول. ثم استطرد إلى سد أبواب الحيلة لتقديس الموتى مستدلا بما عمله النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وما عمله خلفاؤه في البقية التي كانت قد بقيت من الشرك. ثم ختم الرسالة بتعريف التوحيد وبيان حده مبينا أنه يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل من هذه شيء لم يكن العابد مسلما، بل يكون كافرا أو يكون منافقا. ورسالة المغربي -وقد أرسلها في الموسم إلى شيخ الحاج المغربي- جمع فيها أنواع العبادات الفاسدة كلها، وأرشد إلى وجوب إقامة الصلاة في الجماعات على الوجه المشروع -ولعله كان تلبية لدعوة إمامه أحمد الذي دعا لكل من يبلغ كتابه في الصلاة إلى الناس1 ثم أوضح في الرسالة فروض الإسلام وأمر الحسبة فيه2.وأما التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، فقد صنف فيه كتابا هو أجمع ما كتب. وقد جعله أبوابا بلغت سبعة وستين بابا تختلف طولا وقصرا مع اتصافها جميعا بالإيجاز والوضوح. وكل باب منها أسانيد من القرآن أو الحديث أو هما معا على ما يريد أن يثبته من التوحيد الصحيح أو العبادة المشوبة بالشرك. وقد تلقف أهل نجد هذا الكتاب في أيام صاحبه وانتشر سريعا في أرجائها3. ويبدو أن محمد بن عبد الوهاب كان قد جرد قلمه لكل بدعة يراها   1 - انظر فصل علوم الدين في باب صنوف العلم بكتاب شيخ الأمة. 2 - انظر الحسبة في الإسلام لابن تيمية وباب الحسبة في الأحكام السلطانية لابن أبي يعلى الحنبلي. 3 - الوهابية وزعيمها: مقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وهو في رحلته، ثم صار يدون من القرآن والحديث ما يبرهن به على كل بدعة ويثبت فسادها، ومن أجل ذلك جاء كتابه في التوحيد حافلا بالكلام عن العبادات والعادات والطقوس الزائفة والبدع التي عمت الأمصار والبوادي، ولم ينس فيه فساد آداب المجتمعات ومغالاة الناس في الهزل وإطلاق الألقاب، كما لم ينس أن يحارب التأويل وجحدان أسماء الصفات وبدع الجهمية في التعطيل، ثم أوضح كراهة الحلف والتصوير والسماع. وربما جاء في الكتاب ببابين أو أكثر في موضوع واحد كما فعل في السحر، مما يثبت أنه كان يكتب ما يراه ثم يعود إليه فيكمله إذا رأى فيه جديدا ويجعله بابا مستقلا1. هذا ولم يغفل محمد بن عبد الوهاب أن يكون من أسباب دعوته ووسائلها الاستعداد والرمي وبناء الجيوش والحصون وموازنة الأموال وإقامة العدالة وتأليف القلوب وتأمين السبل ولا سيما طريق الحج، وباتخاذ الأنظمة التي تكفل قيام الدولة وبقاءها في حدود الشريعة الإسلامية وحمايتها2. خلق الوفاء: ولقد كان محمد بن عبد الوهاب وآله أوفياء بكل عقد عقدوه بينهم وبين الله أو بينهم وبين الناس، وهي صفة المؤمن الخالص في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة من الآية: 1] . أما وفاؤه ووفاء أهله لما عاهدوا الله عليه فإنهم صبروا جميعا   1 - انظر كتاب فتح المجيد ثم انظر بابي السحر: 207 , 214. 2 - جزيرة العرب: 220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 لما أصابهم من الأذى في سبيل الله، وكان أول ما لقي شيخهم من الأذى ما أصابه في اليمامة من ابن عمه عبد الله بن حسين من آل سنان حين جادله فيما سماه عبد الله بالابتداع ولوح له بالسيف فجرحه في يده وجمع له بني تميم فأخرجوه، ولم يبد من الشيخ أنه رد على هذه الأذية بعد أن اقتدر، وكأنه اهتدى بهدي رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حين دعا الله لقومه الذين أخرجوه وقاتلوه قائلا: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون "، فلم يقتصر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ على السكوت، بل عفا عنهم وأشفق عليهم ثم اعتذر عما جهلوا لتكون الرحمة مرجوة والغفران مقبولا1. ثم وفَّى محمّد وأهله في بيعتهم لله فصبروا في كال هزيمة نزلت بهم ولم ينكسوا لدعوة راية، ولم يحوروا فيها بالتليين والترقيق لئلا تخرج عن الجادة المستقيمة بل مضوا قدما يحملون الراية واحدا في إثر واحد وهم يؤمنون بنصر الله. وضرب الله وقعة أحد مثلا رائعا لأصحاب الحق إذا انكسروا عن خطأ أو ظلم. فاتخذها ابن عبد الوهاب درسا لنفسه وللأمراء والجند إذا انهزموا في معركة من المعارك، وكان يؤثر الوعظ بها فيؤثر في النفوس تأثيرا بالغا، فترتد القلوب إلى الصدور إذا بلغت الحناجر وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا2. وحين خرج محمد بن عبد الوهاب من العيينة إلى الدرعية ولقيه أميرها محمد ابن سعود هو وابنه عبد العزيز وكثير من أهل بلده وتلقوه جميعا بالإجلال والترحيب وأنزله ابن سعود في منْزله بعد أن أخلاه له وآثره به، وتبايعا على نشر الدعوة وتقويم الطريقة، وتعاقدا على أن تكون   1 - الشفا 1: 79. 2 - جزيرة العرب: 220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 إمامة الدين لمحمد بن عبد الوهاب -وهي الإمامة الكبرى- ومعها ما يقيم أمور الدنيا ومصالح المؤمنين من تدبير مال أو شن حرب وعقد صلح. وأن تكون رياسة الدولة لمحمد بن سعود رياسة تحت راية الدين منذ حدث ذلك وفّى كل منهم لصاحبه أو لعقده الذي عقده وصفت قلوبهما عن صدق ظاهر وباطن، ثم انتقل هذا الصدق في الوفاء والصفاء إلى ذريتهما فحلا مقيمين لا يرتحلان من نفوس الأولاد والأحفاد. وكان مظهر الحب والإخلاص باديا في الدرعية بأجلى المظاهر، فكانت دار الشيخ حافلة بالأمير وآله من آل سعود لا ينقطعون عنها ليلا ولا نهارا، يتلقون عنه دروس التوحيد، ويجلسون بين يديه في حشمة ووقار، فأعادوا هيبة دروس القرآن والحديث وهيبة شيوخ الأمة حيث لم يكن الطلاب يجرؤون أن يسألوهم إلا إذا بدؤوهم بالكلام1. وكما حدث من محمد بن سعود من الطاعة للشيخ والاهتداء به حدث من ابنه عبد العزيز له، وسار كل منهما وفيّا لصاحبه عاملا بأقصى ما فيه من جهد وإخلاص على تجديد ما اندرس من معالم الدين، وعلى توحيد ما فرق من القلوب والبلدان. فلما صرع عبد العزيز في سنة 1318 هـ - 1804 م بويع لابنه الأمير سعود، وكان الشيخ الإمام هو الذي أخذ له البيعة بعد أبيه في 1302 هـ أي قبل مصرع أبيه بستة عشر عاما عاشها سعود كلها وليا لعهد أبيه، وقد كان أحق بها لأنه كان أكبر أبنائه سنا وأشدهم بأسا وأنفذهم بصيرة وأكثرهم تفانيا في الدعوة إلى خالص التوحيد2. ومن بعد الشيخ كان حسين وعلي وعبد الرحمن وعبد اللطيف ومن   1 - لمع الشهاب: 35. 2 - جزيرة العرب: 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بعدهم ذريتهم، كانوا هم الهداة والأئمة. وكانت لهم المنْزلة الأولى في الدين والثانية في الدولة بعد الأمراء، ولم يبد من واحد من هؤلاء أو هؤلاء طمع أو بغي، بل ساروا صفا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. ولقد كان لهذا الوفاء المخلص المتبادل بين الجانب الديني والجانب السياسي أثر عظيم في نفوس القبائل قريبها وبعيدها حبيبها وعدوها، وفي نفس الأحداث التي وقعت من هزائم وانتصارات، فسارت فتوح آل سعود في الجزيرة قدما تحت راية الوهابية، وكان على من لم يطع الدعوة الخالصة عن رضا أن يطلبها عن هيبة أو رهبة، وتوحدت الجزيرة بعد زمان طويل تلقت آلامه وتشبثت بآماله الأسرتان العربيتان المجيدتان. سواعد الأنصار: منذ انتهى عصر الخلفاء الراشدين انفصلت قوة الدولة الدينية عن قوتها السياسية وصار الأمير العباسي صاحب السلطان الأول بل المطلق في الدولة الإسلامية. أما رجال الدين فصاروا بين اثنين، واقف على باب السلطان وممتنع أبي على السلطان. وقد ثبت أن الأئمة الأباة قد اكتسبوا مجد السيرة وإكبار الأجيال. ومع رفعة مقاماتهم في النفوس وانعطاف القلوب عليهم في الحياة والموت وبعد الموت أكثر مما نال الملوك والأمراء فإنه يعز على الباحث أن يجد أميرا قد اشتهى أن يكون إماما من أئمة الدين ويبيع به منصب الأمير. ولو أنه حدث حينا فإنه لا يتم، كما حدث من المأمون العباسي في أول عهده بالخلافة. إذ أحب أن يحدث بحديث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ فحدث مجلسا واحدا ثم انقطع، لأنه لم يجد في حديثه لذة في نفسه، ولأنه حدث حاشيته المشغولة بالمناصب العليا ولم يحدث أهل الخلقان والمحابر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولأنه لم يكن منصرفا حقا إلى أن يكون أحد أئمة الحديث1. ومضى الأمر في الدول الإسلامية على طراز واحد أو متقارب حتى جاء محمد بن عبد الوهاب وتعاقد مع الأمراء السعوديين فأقبل كثير منهم على الإمامة مع الإمارة، ولم يأنف واحد منهم أن يتلقى دروسه ومواعظه على الشيخ وأن يبلغ في العلم والعمل والحرص على معرفة التوحيد والدعوة إليه كما حرص عليه وعرفه الإمام. وفي السعودية الأولى بلغ عبد العزيز بن محمد بن سعود درجة الإمامة لما اتصف به في ظاهره وباطنه من التواضع والإخلاص والبعد عن زخارف العيش ورافه الملبس والمأكل، وقد تشدد في الدين ونفذ أحكامه وواصل عمل أبيه في القضاء على البدع والخرافات والمفاسد، ونشر راية التوحيد الخالص، ثم قسا كل القسوة على قطاع الطرق في البادية والعابثين بالأمن في البلاد وجعل عقوبة هؤلاء وهؤلاء في الأبدان والأموال حتى يرتدعوا2. وقد حدثوا عن إمامته بأحاديث لم ينسب أمثالها إلا للخلفاء الأولين، فقد سلبت امرأة من أهل بريدة ذات ليل وغاب السالب، وبعد أربعة عشر عاما جاء به الأمير مكبولا وغرمه المال ونكل به أشد تنكيل. ولو وقع مثل هذا الحادث في أشد البلاد ضبطا وغاب السارق كل هذه الأعوام لغابت المعالم واطمأن السارق، ولكنها لم تغب عن الأمير الإمام بعد أن كانت المعالم القوية قد اختفت في طيات الأزمان3. وحدث أن سب الأمير رجلا من جلاسه، وكان هو قد حرم   1 - انظر فصل رحبات الحديث في باب فتنة المعتزلة بكتاب شيخ الأمة. 2 - جزيرة العرب: 221. 3 - لمع الشهاب: 53 وتفصيل القصة يأتي في باب بناء الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الشتم والسب على الناس، فشكا الرجل أميره إلى الإمام الذي أمر بإحضار أمير المسلمين. ومثل الأمير وخصمه بين يدي الشيخ وأقر الأمير بذنبه وأبدى رغبته بأن يفدي الشتم بالمال فأبى الشاكي، فما كان من محمد بن عبد الوهاب إلا أن نال الأمير بعصا التأديب1. ولم ينكسر طوق العدالة في أيام السعودية الأولى وفي حياة الإمام ومن بعد موته حتى انتهت بعبد الله بن سعود، ومرت أيامها عدالة ومساواة برغم ما أصيبت به دولتهم بحروب طاحنة من قبائل الجزيرة ومن الغرباء. وانفتحت أبواب العلم الديني والتاريخ والأدب وشعر الحماسة فولجها الأمراء وبنوهم. ولم يقف الإمام سدا أمام أي من العلوم إلا إذا كان محظورا من الدين2. وانتقلت الإمامة والإمارة في هذه الدولة من عبد العزيز إلى ابنه سعود فكان أكثر حظا من العلم بأصول الدين والفقه والحديث. وقد أعانه على هذا التوسع العلمي أن كان الشيخ جده لأمه، فكان الشيخ إذا ألقى دروسه على أفراد الأسرة لقي منه إقبالا أكثر، فآثره بالعناية والزيادة مما يرغب فيه3. وألغى سعود الألقاب وبدأ بنفسه فلم يحفل بلقب الأمير فتنادى الناس فيما بينهم بالأسماء والكنى، ولم يفرق بين أمير ومأمور ورئيس ومرؤوس، ولكنه أبقى على لقب الشيخ للأئمة من أهل العلم، كما لبس من الزي ما يلبسه الناس ولم يميز نفسه عن قومه بإشارة ولا لباس4.   1 - المرجع السابق: 54. 2 - المرجع السابق: 56. 3 - المرجع السابق: 35 - جزيرة العرب: 222. 4 - جزيرة العرب: 223 - لمع الشهاب: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وامتدت قوة الإمامة وبقيت آثارها في أبناء الشيخ وأحفاده فلم يسيروا على غير الجادة، ومن ثم طلب فيصل بن تركي في السعودية الثانية مكان الإمامة مع مقام الإمارة. ومع أنه لم يخرج بالدعوة عن نجد والأحساء وعمان وقطر وعسير مسالمة للأتراك فإنه أدنى منه حفيد الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن فكان في الدولة في المكان الذي يليه1. وعني الإمام فيصل بمظهر التواضع وإشاعة العدل وكفالة الأيتام وإعادة الطمأنينة للقلوب ونشر الأمن، فاستمتعت نجد والبلاد التي امتد إليها ملكه - وهي أرض السعودية الأولى ما عدا الحجاز - بالهدوء والرخاء. وفيما بين سنة 1259 هـ وسنة 1281 هـ التي تولى فيصل فيها الإمامة والإمارة وهي مدة تربو على عشرين عاما خضعت قبائل وبلاد شتى، وما لم يدخل تحت رايته وظله أدى إليه ضريبة الخضوع. أما مذهب التوحيد فقد ظفر ظفرا كبيرا ودخل فيه الناس أفواجا2. ولم يقف معظم الأمراء بعيدا عن العلم وتحصيله أو الدعوة والجهاد في سبيلها، بل اجتمعوا على نصرتها، ومن لم يكن له حظ واسع من العلم كان له حظ واسع من الجهاد، فكان لهم جميعا سواعد قوية في نصرة مذهب التوحيد. تهافت الخصوم: ولقد كان لاجتماع شيوخ الموحدين والأمراء السعوديين على الوفاء للعهود ونصرة التوحيد أهداف تحققت وآثار بقيت. ومهما اجتمعت نواحي   1 - جزيرة العرب: 235. 2 - المرجع السابق: 234, 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الجزيرة وقبائلها في أيام الدولتين الأوليين وتفرقت فإن مذهب التوحيد الخالص قد عرف وتجاوز الجزيرة كلها إلى خارجها ودق أسماع الناس في سائر البلدان. وإذا كانت سياسة القمع والاضطهاد من الترك وعمالهم على الأقاليم قد أنزلت بأرباب الدعوة ضربات، وحشدت من علماء الأمصار وكل المذاهب عملة منافقين يرمون الدعوة بأنها بدعة، والجد فيها بأنه عنت، والأمل بأنه طمع، فإن حجة الدعوة قد قامت وتعلقت بضمير التاريخ الذي حكم عليها -فيما بعد- بأنها كانت حقا ظلم ونصرا مني بالهزيمة، وضوءا ألقيت عليه ستائر الظلمات. ونفوس المسلمين التي أرهقتها الشروح المطولة والمقالات الغامضة فلعبت بها الحيرة والضياع كانت كالأرض الخصبة التي سيبوا عليها سيلا من الماء كالطوفان رجاء أن يرويها فأغرقها -هذه النفوس حين أضاءت لها مبادئ التوحيد التي نشرها الشيخ المعلم في كلمات موجزة واضحة ما لبثت أن عرفت أنها غرقى في طوفان من الآراء المقلقة والطقوس المريبة، وحتى لو كانت من بينها نفس تهوى ما يسمى بحرية الرأي وسعة آفاق العلم فإنها من داخل وجدانها كانت قلقة ضائعة لا ترى طريقا قويما تسير فيه. وجزيرة العرب التي رضخت زمانا لوطأة القرامطة الذين تذرعوا بأسوأ المناحي ولم يبالوا بغير قضاء المآرب العاجلة والشهوات الفانية أفاقت على حركة مطهرة تدعو إلى الفضيلة ولا تتذرع إلى قضاء مأرب، وإنما تشيع مبادئ الرسالة التي هجرها أهلها فوطئ أرضهم قرامطة الفكر والطمع والفساد1. وأول ما اكتسبت الدعوة آل سعود كان إيذانا باجتماع قبائل نجد   1 - تاريخ العرب العام: 511. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 المتفرقة المتحاربة تحت قيادة واحدة ومذهب ذي حدود من الشريعة الغراء، واستطاع مقاتل باسل هو محمد بن سعود أن يقضي على مقاومة شيوخ العروض والأحساء ويصل بفرسان التوحيد إلى حدود الحجاز وإلى صحارى الشام وأطراف العراق مبلغين الأعراب الضاربين في تلك الصحارى والأطراف أن جزيرة العرب قد استيقظت من النوم1 فعليهم هم أيضا أن يستيقظوا. وكثيرا ما رمي العرب بأنهم أهل فرقة واختلاف ولم تزل فيهم طباع القبلية الجاهلية وهم إذا اجتمعوا لا يلبثون أن يتفرقوا ويختلفوا. وجاء الموحدون حجة تبطل هذه الدعوى، إذ الأمة التي لم تزل قبائل في مساكن جافة متباعدة وطباع قاسية جافية تقبل على الوحدة وتتوحد وتطيع الوعظ حينا وتخضع للقوة حينا، بينما الأمصار التي ترفل في المدنية، تخضع منها أقطار واسعة تحت حكم مدني موحد، تظل قلقة متفرقة تعشق التميع باسم الحرية، وقلوب سكانها متفرقة بعدد البيوت والأفراد. وظهرت العداوة الحقة والخصومة المريرة من الأنظمة المدنية القائمة في تركيا وولاياتها، وتهيبت السلطة السياسية لآل عثمان وعيا دينيا لو اعتنقته لكان شفاء للرجل المريض الذي كان يطلق لقبا عليها، ولكنها حاربت هذا الوعي وسلطت عليه من فورها ولاة البصرة وبغداد وجدة ومصر والشام، وحضت أشراف مكة أن لا يألوا جهدا في استئصال ما دعوه بالإلحاد الخطر، وفي ضرورة المحافظة على الحرمين الشريفين لما سيكون من امتلاك الوهابية لهما من النفوذ البعيد المدى2. وثارت ثائرة الصوفية وأرباب الطرق وأهل الفلسفة والكلام والمناصب فأوغروا الصدور وصوروا الدعوة خطرا داهما على الدولة والفكر وبدعة في الإسلام.   1 - المرجع السابق: 512. 2 - تاريخ العرب العام: 513. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ولو كان من حق تركيا السياسي أن تغضب لسلطانها فما لهؤلاء العلماء من رجال الدين والمذاهب يتهمون المبادئ السامية الواضحة بأنها بدعة ويرضى بعضهم أن ينتظم في حملات الحرب عليها ليوهموا الجند المحاربين أنهم على حق ديني في محاربة الوهابية المبتدعة في الدين؟! لقد ساق محمد علي مع ابنه أحمد طوسون أربعة من أئمة مذاهب أهل السنة، حتى المذهب الحنبلي ساق إمامه أيضا، ليوهم بأنه مهتم بحرية الفكر وسلامة الدين، وليتخذهم حجة أكبر في الحرب على الوهابيين في نظر عامة الناس، ولكن كان من الشيوخ أئمة أفذاذ، فقد اعتذر عن الذهاب شيخان من رشيد ودمياط فأعفيا من السفر فاكتسبا لثغريهما تاريخا مجيدا1. وبمسوق هؤلاء الأئمة أثبت محمد علي لابن تيمية حجته على علماء الأمصار الذين رآهم ابن تيمية في زمانه لا يصلحون لدعوة إصلاح خوفا على أرزاقهم الموصولة ومناصبهم المرموقة، فجاء أمثالهم بعد زمانه، ويجيؤون في كل زمان، وتبقى حجة ابن تيمية ثابتة على الدوام. وبامتناع شيخي دمياط ورشيد أثبت الإمام أحمد وأتباعه من الحنابلة أن التعفف في رجال الدين يمنحهم الحرية التي تصرفهم عن الذل إن أريد بهم، ثم لا يكون في غير ذوي العفة الأحرار أمل في إصلاح ولا رجاء.   1 - عصر محمد علي: 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 مسيرة الدعوة بدء الدعوة وبدأ ابن عبد الوهاب دعوته وهو في رعاية أبيه وكنفه، وبدأها في حريملاء، ناهيا عشيرته وأهله الأدنين من بني تميم عن البدع والطقوس التي هي شرك بالله، فلما رآه أبوه فاعلا ما يفعله عن حماسة من الشباب نصح له أن يتمهل في دعوته ويترفق في عظاته مخافة أن يصاب بأذى ممن لا يعرف الحق من الناس1 فترفق ولم يعنف حتى مات أبوه في سنة 1153 هـ - 1740 م وكان قد انتقل إلى الدرعية منذ ثلاث سنوات. واستمر يدعو وهو يتعالى في سنه ويبلغ أشده ويجد في الدعوة ويجتهد مركزا تعاليمه في بطلان كل عبادة لغير الله. ومن توسل أو أستغاث أو استشفع بكائن -مهما كان قدره ومظهره في الوجود- فقد عبد غيره فكان مشركا. وكل نذر لغير الله أو طواف بغير الكعبة فإنه شرك. ومن ادعى علما من غيب لا دليل له عليه من كتاب الله وسنة رسوله كسحر أو تنجيم أو كشف فقد أشرك بالله. وهذه نفسها رؤوس المسائل التي طرحها محمد بن عبد الوهاب على علماء عصره ليذودوا الناس عنها، فقد رآها في كل الأمكنة التي زارها في رحلاته. وفيما كان يدأب على دعوته متكلما واعظا أو كاتبا سائلا ومجيبا كان صيته يعلو في نجد يوما بعد يوم، حتى إذا كان آخر سنة   1 - الوهابية وزعيمها: مقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 1150هـ جاءه أفذاذ وجماعات من أهل نجد من أهله ومن غير أهله يبايعونه على النصرة والتأييد. وفي كلمات قليلة كان يصوغ عظاته وتعاليمه، فإذا طلب إليه أو رأى الحال تدعو إلى مزيد زاد كلامه شرحا وإثباتا بالأدلة. ولم يكن معه من قوة تسنده غير حجته وعصبيته في أهله -شأن كل داع في أيامه الأولى. ولكن كان في أهله -ككل أهل- حساد له وجهلة مدعون، والحسد دنيء -كما قال ابن المقفع- ومن دناءته أنه موكل بالأقرب فالأقرب. فجادله ابن عمه السناني عبد الله بن حسين وجرحه بسيفه، ثم احتشد له شذاذ القبائل فلم يجد بدا من الهجرة إلى تميمي يكون أقوى من هؤلاء فرحل إلى العيينة، واتفق مع حاكمها عثمان بن حمد بن معمر على إقامة الدين علما وعملا، واجتمع إليهما الوجوه والأعيان، وقاموا بأول خطوة عملية في تقويض الطقوس المبتدعة في الدين فهدموا القباب المنصوبة على الأضرحة لمخالفتها لعقيدة التوحيد1. ووجه الداعية المصلح بكتبه إلى علماء المسلمين في كل مصر يعرفه مبديا لهم ما أصاب الإسلام بين أعينهم، وجعل يحضهم على أن يدخلوا معه في دعوته، وكل في بلده، فتكثر بهم زمرة المصلحين2. وما لبث مارد الحسد أن انطلق من حبسه مرة أخرى، فرأى شيوخ القبائل أنها دعوة إلى التوحيد والاجتماع، وهم متفرقون أعزة بتفرقهم ولكل منهم سلطان وجاه، وقد صارت الأحكام إلى العرف والعادة وهي مقبولة من المحكومين مهما كانت باطلة أو حراما.   1 - جزيرة العرب: 320 - لمع الشهاب: 28 - الشرق الإسلامي 1: 190 - الوهابية وزعيمها: مقال بمجلة العربي الكويتية. 2 - جزيرة العرب: 320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ووكل شيوخ نجد إلى حاكم الأحساء والقطيف وقطر وأطراف عليا من نجد أن يطلب إلى حاكم العيينة أن يجلي محمد بن عبد الوهاب من بلده، أو يمنع تجار العيينة من الطواف في كل بلد تنالهم يده فيه، وتهدد أموال عثمان نفسه وتجارته، وكان في مال ومنعة وجند كثيف مطيع. وبلغ الطلب عثمان بن معمر فوقع في حيرة بين متعته بجنده وماله وبين حبه لِضَيْفِهِ، ثم ارتكب أخف المحظورين فأبدى رغبته لضيفه في أن يخرج عن العيينة إلى أي بلد شاء، فرضخ الشيخ للأمر، وخرج إلى الدرعية وهو عالم بما انطوى عليه قلب صاحبه الحاكم، فرغب إليه أن يظل على إيمانه وأن يكتمه بين جنبيه حتى يحكم الله بما يريد1. ولم تغب متابعة ابن معمر لمذهب التوحيد وإيمانه به عن عيون أهل العيينة فتربصوا به وقتلوه غيلة، فجرحوا بقتله داعية الإصلاح في مذهبه وأهله إذ كان ابن معمر تميميا، فجعل ابن عبد الوهاب يتهددهم وينذرهم من مهجره الجديد، وكان كلما بلغهم عنه تهديد ووعيد طارت قلوبهم شعاعا، وما فتؤوا يصيبون أنفسهم ويخربون بيوتهم بأيديهم. فانصرفوا عن الغرس والزرع والكسب فرارا بأنفسهم وخوفا عليها، ثم هربوا بأموالهم في قرى نجد وغير نجد، ثم أتى السيف والنفي عليهم ولم يبق منهم بقية إلا كما بقيت ثمود2. في الدرعية: وموضع الدرعية كان اسمه الوادي، فلما عمر بالبيوت والسكان وقامت عليه إمارة قوية أطلق عليه اسم الدرعية تشبيها بالقميص أو درع   1 - لمع الشهاب: 34. 2 - المرجع السابق: 38 - الوهابية وزعيمها: مقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الحرب1. وكان الأمير الحاضر هو محمد بن سعود الذي ينتهي نسبه إلى بكر بن وائل من ربيعة، وهو نسب يلتقي في ذروته العليا بأحمد بن حنبل الإمام. وقد ذكره النسابون منه إلى ربيعة في عدد كبير من الآباء أقربها له أنه ابن سعود بن محمد بن مقرن بن عمر بن فيصل بن أحمد بن سعدان، وكان أبوه سعود وجده محمد واليين على الدرعية من قبله. ووقعت عين ابن عبد الوهاب وبصيرته على محمد هذا لا لما كان عليه من المقدرة والسعة في الرزق والزروع والنخيل والأنعام، بل لما كان عليه من السخاء وحب الخير. وقد عرف من سخائه أنه كان يسد عن الغارم دينه ويعطي صداق الزوجات ومهور الأزواج من بيت ماله - كما كان يفعل عمر بن عبد العزيز2 -ويضمن من النفقة الزوجية ما يقصر عنه الأزواج. وكان محمد بن سعود ذا رأي في سياسة قومه وذا دين في خاصة نفسه. أما في السياسة فقد أبطل عصبية الجاهلية في الزواج، وزوج الأكفاء من غير تقيد بالنسب وحده، وكانت هذه إحدى التهم التي ارتدت عنه. وكان يهدف بالتزويج المبكر إلى إقامة السنة التي قضت بهذه الحكمة في الزواج على الفساد وأكثرت النسل وقاربت بالمصاهرة بين المتباعدين. وربما رأى ببصيرته وفهمه غلظة البداوة في أهل ولايته -ومن بدا جفا- فكان يتألف الشارد ويطفئ الفتن ويحارب الخداع والحقد.   1 - لمع الشهاب: 30. 2 - الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز: 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وأما في تدينه فقد كان زاهدا كثير التعبد في السر دءوبا على العبادة دون التفاخر بها رياء وسمعة. وهذه المحاسن في الشيخ ابن سعود رآها الشيخ ابن عبد الوهاب فرآه أصلح الأمراء لقبول مذهبه في تجريد التوحيد من شوائبه كما رآه أهلا للذود عنه والاقتدار على إذاعته ونصرته. وما كاد ابن عبد الوهاب يدخل إلى الدرعية مهاجرا حتى قبل الأمير دعوته، ووشيكا خلع عن نفسه لقب الشيخ وأمر أن لا يطلق إلا على رجل من أهل العلم والدين. وكان ابن سعود قد سمع بصاحبه وراقت له دعوته إلى الاستقامة والجد وإصلاح المعوج، ومن أجل ذلك هب إليه عجلا في بيت تلميذ من تلاميذه نزل عليه بالدرعية وكان ذلك في سنة 1150 هـ - 1737 م1 فذهب إليه مرحبا به مؤمنا هو وابنه عبد العزيز، وسرعان ما اتفق الرجلان على التعاون فيما بينها؛ الشيخ لدعوته ورعايتها ولزعامة دينية يرثها من بعده أبناؤه وأحفاده وذريته -متى صلحوا لها-. والأمير للرياسة الزمنية ويرثها بنوه وذريته من بعده، ولا تنعقد معاهدات أو تمضي أمور ذات شأن من حرب أو صلح إلا باتفاق منهما. واتفق الرجلان. وانبرى الشيخ يدرس للأمراء ولمن يحضره كل يوم كتاب التوحيد - ولعله الذي كان أشار إليه وهو في يده يوم اليمامة- وظل يرغب أهل الوادي في اتباع خالص التوحيد لله من غير شائبة من شرك أو شبهة. فلم يمض غير عام واحد حتى صار أهل الوادي كلهم على التوحيد الخالص، سوى أربعة رجال ادعوا أنه مبتدع، فلما رأوا قومهم قد اتبعوه وأحسوا بانفرادهم رحلوا بأهلهم وأموالهم من الدرعية إلى قرية من قرى القصيم2.   1 - جزيرة العرب: 219 - لمع الشهاب: 39 , 45. 2 - لمع الشهاب: 31 - وانظر العهد التاريخي في الوهابية وزعيمها: مقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وواصل الشيخ أيامه في نشر الدعوة بالوعظ وكتابة الرسائل لعلماء الأمصار مكتفيا بهذه الوسائل السلمية زمانا1. حتى إذا لمح ببصيرته مستقبل الأيام أخذ يعد للمستقبل من القوة ومن رباط الخيل ما استطاع، وأمر شباب الدرعية أن يتعلموا رمي البندق وتسديد الرمي. والرمي سنة عن النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ومن بعض حديثه يحث على الرمي قوله: " ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا "2 ومنه في تفسير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال من الآية: 60] ، قوله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو على المنبر: " ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي" 3. وقد حرص عليه الأئمة وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أشد الناس حرصا عليه وأجاده الشافعي الإمام حتى قالوا: إنه كان يرمي فيصيب من عشرة الأهداف العشرة بكاملها4. ولم يقتصر الشيخ على الكلام في التوحيد وتدريب الشباب على الرمي ولكنه دخل في المعركة الحامية قبل أن تبدأ فجعل يحث النفوس على الصبر وتحمل الأذى إذا احتدمت بينهم وبين خصومهم العداوة، ولا بد أن تحتدم، وكان -من قبل- قد رأى الخصومة في اليمامة، وليست البلدان والبوادي أفضل من اليمامة إيثارا للحق وصبرا عليه. واجتمع الأمير والشيخ وأهل الدرعية ومن والاهم فشادوا مسجدا جامعا5 يؤمه المصلون من رجال ونسوة للصلاة والدرس. وفرش المسجد بالحصباء تشبها بمسجد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وجعل التعزير عقوبة مَنْ لا يحضر الجماعة، فلما قويت الدعوة اشتد التعزير6.   1 - جزيرة العرب: 320. 2 - البخاري: الجهاد والسير (2899) , وأحمد (4/50) . 3 - مسلم: الإمارة (1917) , والترمذي: تفسير القرآن (3083) , وأبو داود: الجهاد (2514) , وابن ماجه: الجهاد (2813) , وأحمد (4/156) , والدارمي: الجهاد (2404) . 4 - آداب الشافعي ومناقبه: 30 - صحيح البخاري 4: 45 - رياض الصالحين: 504. 5 - المسجد للصلاة والجامع للدرس والمسجد الجامع لهما كليهما. 6 - لمع الشهاب: 31, 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 واحتدمت الخصومة بين الدرعية من جانب وبين الرياض والعيينة من الجانب الآخر، إذ رأى البلدان معونة الدرعية للدعوة قد شددت من أزرها وأعانت على انتشارها، وشن شيخ الرياض الغارة على الدرعية فاستشهد في الغارة ولدان للأمير ابن سعود. فلم يكن من الدرعية إلا أن ساقت عسكرا جرارا من الموحدين المطهرين لتأديب المعتدين، غير أن التناوش ظل بينهما ثمانية وعشرين عاما كان يعلو فيها شأن الشيخ والأمير وينتشر مذهبهما، ويسفل فيها شأن أعدائهما حتى ظفر عبد العزيز بن محمد بعدوه ودانت الرياض له ولأبيه1. وأما العيينة فلم تزل تطغى حتى قتلت أميرها عثمان بن معمر غيلة فاستفز الغضب أمير الدرعية واستفز أهلها، فنصح الشيخ له ولابنه أن يصبرا، حتى إذا مضت تسع سنوات جهز عبد العزيز جيشا من أربعة آلاف مقاتل ودخل به العيينة عنوة وقوضها تقويضا، فلم يبق بها من أهلها إلا من دخل في الطاعة والمذهب إيمانا أو خوفا. وبفتح العيينة دخلت نجد كلها تحت لواء سياسي واحد ومذهب في الدين صاف سليم2. القبائل والأطراف: وحين توحدت نجد تحت راية المذهب والإمارة السعودية قويت الدولة، وسواء أكانت قوتها3 من المذهب أم كانت قوة المذهب منها فقد أقبلت القبائل من حول نجد تدخل في وحدة سياسية دينية كان من شرف القبائل دخولها والسبق إليها، كما كان شرفا لكل سابق إلى الإسلام من الجاهلية القديمة فلا يحسب دخوله فيه ذلة ولا انقهارا.   1 - المرجع السابق: 36. 2 - المرجع السابق: 38 - الوهابية وزعيمها: مقال. 3 - لمع الشهاب: 65, 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فما لبثت قبائل قحطان أن دخلت في مذهب التوحيد وبالغت فيه كل مبالغة. وكان أكثر القحطانيين يسكن بأطراف العارض من نجد، فأخذوا على أنفسهم عهدا لآل سعود أن يطوعوا تهامة اليمن وأهل حضرموت والشحر وما جاورهم من أرض الحجاز. واعتنقت زعاب -أهل جزيرة الحمراء- مذهب التوحيد، وكانوا تحت إمرة القواسم أصحاب رأس الخيمة، فلما دخلت زعاب في المذهب كان دخولها سببا في تحررها من إمرة القواسم وظلمهم. فلم يمض غير قليل حتى صاروا أندادا لسادتهم الأقدمين في البر والبحر. وحين قويت زعاب كل هذه القوة أغرى ذلك القواسم فدخلت في المذهب حتى تحتفظ بمكانتها وقوتها1. وكان بنو عتبة على خوف دائم من العجم فلم يروا منقذا لهم من هذا الخوف إلا أن يدخلوا في الوحدة العربية الجديدة وتحت راية مذهبها فدخلوا وأخلصوا الدين لله فأمنوا على أنفسهم وسكنوا نواحي البحرين في أقرب جوار للعجم من غير أن يفزعهم عدو أو يقلقهم خوف. وأقبل بدر حاكم مسقط في أخريات أيامه فاعتنق المذهب وأخلص في اعتناقه، وكان دخوله فيه دخولا مثيرا أكثر من دخول الحكام والقبائل. إذ كان بدر إباضيا من الخوارج وكان مقاتلا شجاعا وطالما ناصب آل سعود العداء. وقد أحسن بدر لاسمه في التاريخ إذ لا يبقى في هذه الحياة إلا الاسم والذكرى، وأحسن إذ دخل في وحدة عربية وحتى لو لم تدم غير أيام ومهما كان جزاؤه ظالما من قومه الإباضية بأن اغتالوه لخروجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 من مذهبهم1 فإنه لم يعمل إلا ما يحسد عليه من تحري الحق ومن الشجاعة والإقدام. وبلغت الدعوة الطائف فكاتب أهلها الأمير الإمام عبد العزيز على البيعة له والدخول في مذهبه، ثم طلبوا إليه معلمين يعلمونهم المذهب وقضاة يقضون بينهم بأحكامه أصولا وفروعا، وبات المذهب والإمارة الموحدة الجديدة بدخول أهل الطائف في ظلهما يهددان عتبة الحجاز وتقويض حكم أشرافه الذين طالما ردوا سعود ين عبد العزيز عن دخول مكة لأداء الفريضة كلما أراد أن يؤديها2. ودخل الخوالد في الطاعة والمذهب بعد قتال مرير سنوات طويلة وانقلبوا يعملون على النصرة والتأبيد بعد الحرب والعداوة، ونصبت السعودية حكاما على الخوالد بالتراضي وفتح الطريق إلى الأحساء ففتح سعود بن عبد العزيز شرقيها ودخل قراها. وحين غلب سعود على البحرين أرسل إلى أهلها معلمين من لدنه يعلمونهم ويرشدونهم إلى طريق الحق والتوحيد الخالص، ويبدو أنه كان لدى البحرين معلمون قد درسوا المذهب ولكن سعودا أصر أن يكونوا من نجد فأرسل عشرين من علماء نجد للتعليم والإرشاد3. والحق أنه لا يغيب عن ذي وعي من المعلمين المسلمين في كل بقاع الأرض وفي شتى المذاهب أن يعرف الحق من الباطل والصحيح من الزائف متى برئ من التقليد والعناد، وكان مرجعه كتاب الله وحديث رسوله وسنته، فلم يبعد أن تكون دعوى أهل البحرين من المعلمين العارفين   1 - المرجع السابق: 86. 2 - المرجع السابق: 100. 3 - لمع الشهاب: 84, 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 المنصفين صحيحة، ولكن سعودا لحرصه على أن يسير الحق سيرا سليما سريعا أراد أن يرسل هو بالمعلمين الذين يطمئن إليهم والذين خبرهم بنفسه وجربهم، فلم يكن ذلك عنتا منه ولم يكن ضيما لمعلمي البحرين. ولقد هدأت العداوات بين القبائل من داخلها حين هدأت المنافسات على رياستها، وكان هذا الهدوء بفضل كل ما سن الإمام التميمي من عقوبة قاسية للتقاتل على الرياسات، ولم يجعل حدا لهذه العقوبة، وإنما تتصاعد بقدر البغي والنهم في الباطل، فلم يكن هناك دواء أنجع مما رأى هذا الطبيب وكان في دوائه كل الشفاء1. ولم تمض سنة 1216 هـ - 1805 م حتى كان شبه الجزيرة العربية بما فيه جزء كبير من اليمن وعمان يخضع لآل سعود ويدخل في مذهب التوحيد2. ثم رأى سعود بعد أن دخلت الجزيرة - ما عدا الحجاز- تحت لوائه أن يغزو أطراف الشام والعراق فبدأ غزوها، وما لبث أن توغل في الشام حتى بلغ حلب، وكان في دخوله إلى سورية قائدا لبيبا إذ تفادى أن يحارب المدن، بل تركها جيوبا في طريقه يقضي عليها حين يقوى ويشتد عليها الحصار ويطول، وقد تفاداها لئلا يضطر جنده إلى الوقوف أمامها وأمام حصونها، وكان عصره لم يزل عصر الحصون والقلاع. وحتى يخضع العواصم هدد الطرق بين بغداد ودمشق، وبين دمشق وحلب، وكاد يصل في غزوه إلى أرض القادسية من العراق. وغزا سعود بنفسه أطراف السماوة ثم سار في عشرين ألفا من جنده ومن انضم إليهم من الأعراب فدخلوا مشهد كربلاء وهدموا طرفا من القبة. ثم قصد   1 - المرجع السابق: 70. 2 - جزيرة العرب: 321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 إلى البصرة بعد كربلاء بأربع سنوات فغزاها بنفسه في جند من أربعين ألفا وغزا في طريقه أطراف الكويت ثم رجع إلى الدرعية. وأعاد سعود الكرة على البصرة بعد ست سنوات في عشرين ألفا، وكانت هذه الكرة عرضا بينما كان راجعا من أطراف السماوة، ولأمر ما لم يدخلها سعود، وقد قيل إنه ارتد عنها لاستبسال أهلها فمنعوه من دخولها، ولعله آثر أن يعود بجنده قويا سليما1. واستمر سعود يضيق السبل في أطراف الشام والعراق. ثم ابتدأ دور الرجوع عن الأطراف إذ مات سعود ونشطت تركيا لرد الغزاة عن ولاياتها وانتقاص أطرافها2. إلى الحرمين: وكان الحرمان الشريفان تحت أشراف من بني حسن منذ زمن بعيد يتوارثون إمارتهما. وفي سنة 1205 هـ قبل موت ابن عبد الوهاب بعام واحد -وكان قد مضى على أحدهم في الولاية أربع سنوات وكان اسمه غالب- حدث أن لجأ قوم من العرب إلى الشريف غالب هربوا من الأمير عبد العزيز حين غزاهم لأنهم نقضوا عهدا كانوا قد عقدوه معه فبدأ الشريف غالب يعد العدة لمقاتلة السعوديين ونجدة اللاجئين. ولم يكن ذلك من الشريف إلا حين رأى نجدا كلها قد دانت لآل سعود، ثم بدأت الأطراف تدين، فخاف أن تعتدي السعودية على الحرمين فتنتقص الحجاز من أطرافه أو تبتلعه كله، فأخذ يستميل القبائل التي لم   1 - لمع الشهاب: 94. 2 - المرجع السابق: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 تدخل في طاعة نجد أو المعاندة لها حتى يتخذها ردءا له، فعقد حلفا مع بعض بني خالد على مهاجمة الملك النجدي الجديد؛ الشريف من جهة الحجاز والخوالد من الجهة المقابلة، ونصب الشريف أخاه أميرا على الجيش وسيره إلى مكان يقال له تربة وأمره أن يقيم فيه حتى يفد عليه بعسكر آخر يقوده. وخرج سعود بن عبد العزيز ليرد عسكر الشريف عن بلاده، ولكنه رأى أن يتريث فلا يهاجمه وقدم طلائع من خمسة وعشرين رجلا فنَزلوا حصنا صغيرا كالقصر يقال له الأشيقر، فحمل القائد الحجازي على الحصن ورماه بالمدافع فرمته الحامية من أعلى الحصن بالبندق، وما زال الطرفان يتراميان حتى وهن عسير الحجاز وانكسر فسقطت هيبة الأمير من النفوس حينما أعجزه أن يتغلب على قصر تحميه طليعة من عدد قليل1. وأسرع الشريف غالب لنجدة أخيه ثم أخذ يبالغ في الحملة على القصر بالمدافع والرجال فلم يستطع التغلب على حاميته وفقد من عسكره وذخيرته كثيرا فارتد هو الآخر عاجزا، وبقيت في قلبه حسرة الانكسار من ضعف التدبير وضياع الأمل عمرا طويلا2. فلما انكسر الشريف هذه الكسرة الخاذلة تركه حلفاؤه وحالفوا آخرين على حرب سعود، فمال سعود على الحلف الجديد بجيشه تقتيلا وتشريدا، ثم اندفع يسوق فلولهم بخيله ورجله، فانهزمت جموع البوادي وكثر القتلى والجرحى والأسرى وغنم سعود في معاركه معهم غنائم لا تحصى، ومات من رؤسائهم من مات وفر من فر إلى العراق. ولجأت فلول المنكسرين إلى سعود تطلب الأمان فأمن من وثق فيه ورد له ماله، وأما من لم   1 - المرجع السابق: 97, 98. 2 - المرجع السابق: 98, 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 يثق فيه فقد رحمه وشاطره المال1. ومنذ هذا الانتصار على الحليفين أخذ بداة نجد يدقون أبواب الحجاز، وما لبث أن أطاعت عتبته وأطرافه، فلما كان الموسم قدم سعود أميرا للحاج في عهد أبيه عبد العزيز فأباح له الشريف أن يأتي عرفة للوقوف دون أن يدخل مكة للطواف2 وذلك بحجة أن الحج إنما هو عرفة فلا يتهم الشريف بأنه منع سعودا عن أداء الفريضة، فأتى سعود عرفة، ولكنه أضمرها لخصمه وأذاع اتهامه بأنه يصده عن البيت. وصرع عبد العزيز بعد وفاة الشيخ الإمام بثماني سنوات بيد متطوع شيعي يسمى عليا أغراه وزير الترك في بغداد بمال وعيش رغد له ولأهله من بعده يدوم بدوام الدولة العثمانية. وذهب الرجل إلى الدرعية في ثياب ناسك وأظهر أنه راغب في مذهب التوحيد، وكان داهية فصيحا جذابا فلما اطمأن له الناس وملكهم الإعجاب بخلابته ومظهره وتفانيه انقض على فريسته فأرداه. ففي يوم الجمعة وكان الأول من رجب لسنة 1220 هـ أقدم الآثم على غدرته فاستل خنجره وانسل بين صفوف المصلين وأغمده في الأمير فخر من فوره صريعا. وانهال أهل الدرعية على الغادر فقطعوه إربا إربا. ثم طار الخبر إلى بغداد فبلغها بعد شهر، فوفى الوزير لأهله بما وعدهم من مال3. ثم جرت الأحداث فلم تدم العثمانية ولم يدم العطاء! وتولى سعود بعد مصرع أبيه إمرة نجد والأطراف، وفي سنة 1222 هـ. وبعد عامين من ولايته سار إلى الحج في جيش جرار من مائة وعشرين   1 - المرجع السابق: 99, 100. 2 - المرجع السابق: 100, 101. 3 - المرجع السابق: 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ألف مقاتل ومدافع محمولة على ظهور الإبل، كان بدأ إعداده من أربعة أعوام1 -وأعلن أنه يريد أداء الفريضة وتأدية المناسك كلها فإذا منع وقسر على الموقف وحده في عرفات دخل مكة قهرا وعنوة. ولم يكن في مذهبه ولا في الإسلام كله ما يرده عن القتال في الحرم إذا منع من دخوله حاجا، فإذا كان دخوله إلى مكة لإنقاذ أهلها من الضيم والخسف الذي هم فيه كان دخولها واجبا حتى يرد عليها من هجرها من أهلها يطلبون العيش في ظلال الأمن والعدل في شتى البلدان. فلما كان سعود على فرسخين من مكة أرسل بكتابين مع عشرين فارسا من فرسانه، أحدهما لغالب الشريف وثانيهما لأهل مكة كافة. وكتب لغالب أن الجدال معه على دين الحق قد طال، وأنه لم يعد كفئا ليقاتل الجند الكثيف السائر إليه، وخيره بين التسليم بدخول مكة صلحا أو بترك الحكم للسيف. أما كتابه لأهل مكة ففيه أن غالبا قد عصى الله ورسوله، ومنع المسلمين من أداء الفريضة، وليس يرضى المسلمون أن يصد أحد منهم عن المسجد الحرام، وأنه قد كتب له ليؤوب إلى الحق ولكنه لم يؤب وليس بآيب. وذكر له أنه يريد دخول الحرم، ولن يتردد في دخوله. وترك لأهل مكة الخيار، فمن دخل في عهده صار آمنا في دمه وماله، ومن اعترض طريقه صار دمه هدرا2. وأتى الكتاب غالبا فأخذه الرعب فركب من فوره بحاشيته وأهله وماله إلى جدة وترك على مكة نائبا له، فكتب النائب إلى سعود يخبره خبر الشريف فكتب إليه سعود يقول: ما كان على الشريف ضرر منا   1 - جزيرة العرب: 225. 2 - المرجع السابق: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 لو بقي، وكيف ونحن ضيوف الله وهو جار بيته! وإننا سندخل البلدة بعد الوقوف بعرفات1. ووقف سعود ونائب الشريف وأهل مكة مع الناس على عرفات في يوم التاسع. فأما أهل مكة فقد أقبل كثير منهم يعاهدون سعودا. وأما النائب فأخذ للشريف الأمان.. وأما سعود فمضى بعد الإفاضة من عرفات إلى مكة يطوف بالبيت ويؤدي المناسك. وبقي فيها كل أيام التشريق. ورأى سعود كثرة ما بمكة من فقير فمد إليهم يد معونته وسد حاجاتهم، ثم مضى إلى المدينة تاركا للشريف كتابا يقول له فيه: إن هذه مكة، وأنت صاحبها، وقد عملنا فيها ما هو الحق. وإن شئت -حسبما أخبرنا وليك الذي جعلته مكانك- فأرسل إلينا من نأخذ العهد عليه ويأخذ العهد علينا نائبا عنك. ورد شريف مكة يد الرجل العظيم وسماحته وخاشنه قائلا: ليس بيني وبينك عهد ولا صداقة. فإن سلمت لي جميع البلاد التي أخذتها من ملك الحجاز عاهدتك، وإلا فلا، واصنع ما بدا لك. ووصل رد الشريف وسعود على باب المدينة عند الثنية يريد دخولها. وكأنما عرف أهل المدينة برد الشريف فتألبوا على سعود ووقفوا لرده ونكثوا عهده وكانوا قد عاهدوه على نصرته قبل عامه هذا بثلاث سنوات، فحمل عليهم سعود حملة قاسية استمرت خمسة وعشرين يوما ثم دخل المدينة فاستباح دماء الناكثين2. وكان نكث أهل المدينة سببا في عنف سعود فاستنقذ منهم أموال المسجد والتحف والقناديل والجواهر، وهدم قباب البقيع وأحد، وولى   1 - المرجع السابق: 107. 2 - المرجع السابق: 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 على المدينة سعوديا من أهله، وبعد أربعة أيام أقامها عند أحد وقف خطيبا في جنده، فحمد الله وبشر قومه والمسلمين بالفتوح، ثم فرق من الغنائم على جنده بقدر المنازل والدرجات1. ولم يقف الأمر عند فتح الحرمين والحجاز فتحا عسكريا، وإنما كان وراء هذا الفتح أن يدخل الناس في التوحيد الخالص ويتركوا الأرباب والطقوس المبتدعة في الإسلام، فدخل الناس وصاروا جميعا من أنصار التوحيد وأتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب وأخلصوا العبادة لله ودام اتباعهم وانقيادهم ثمانية أعوام امتدت من سنة 1220 إلى سنة 1228 هـ حيث بدأت تركيا في محاربة المذهب وأتباعه بأقصى ما لديها ولدى ولاتها من عسف وحديد2. الحرب الوهابية: لم يقع اختيار أتباع محمد بن عبد الوهاب على لقب الوهابية ولم يرضوا بإطلاقه عليهم. ولكنه أطلق من قبل خصومهم إرادة تنفير الناس منهم وإيهاما بأنهم ابتدعوا مذهبا جديدا يزيد على مذهب أهل السنة. وإنما هم يرضون لأنفسهم بلقب السلفيين أو المحمديين3 وكذلك سموا بالموحدين والمطهرين، ثم أطلق على أتباعهم وأمثالهم في الهند لقب أهل الحديث4. وسواء رضوا باللقب أو لم يرضوا به فإن نسبته إلى اسم الوهاب سبحانه -وإن كان خصومهم لم يتنبهوا له- فيه ضد ما أراد خصومهم، إذ كانت بشرى بأنهم موهوبون نصرا مؤزرا قريبا.   1 - لمع الشهاب: 109. 2 - جزيرة العرب: 225. 3 - الوهابية وزعيمها: مقال. 4 - دائرة المعارف 5: 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أما الحرب الوهابية فإن تركيا كلفت واليها على مصر "محمد علي" بمحاربة الوهابيين بعد أن لم تتمكن من إخضاعهم أو إيقافهم عن التوسع في الجزيرة وتهديد مقام الخلافة ومهابتها بانتقاص أرضها وكسر جيوشها وتعلل محمد علي في أول الأمر باشتغاله بتصفية المماليك، ثم لم يجد مفرا من تنفيذ الرغبة حتى تتجدد ولايته ويتمكن سلطانه ويرتفع شأنه. ويبدو أنه كان متيقنا من النصر لقوة سلاحه ولاستطاعته أن يسخر مصر كلها رجالا ومالا، فمضى إلى الحرب بعد أن تلكأ عن الإجابة ثلاث سنوات، ثم خاضها بحجة استرداد الحرمين وتأمين سبيل الحاج، وسير جندا كثيفا خليطا من الفلاحين والأتراك والمرتزقة وشذاذ الأعراب إلى أرض الجزيرة1. وجهز محمد علي أول حملة بقيادة ابنه أحمد طوسون وكان لم يزل بعد في السابعة عشرة من عمره فسارت الحملة برا وبحرا في قسمين يلتقيان في ينبع. وقد حانت الفرصة لمحمد علي فاتخذها تكأة ليبني له أسطولا ودور تجارة وصناعة لجلب مواد البناء والتشييد والإصلاح، وخبأ القدر عن تركيا أن هذا الأسطول سيتوجه إلى شواطئها وشواطئ ولاياتها في مستقبل الأيام. واستخدم محمد علي في الحملة طوائف الصناع من كل الحرف كما استخدم عددا من العربان الذين خبروا البادية وعرفوا مواقعها وطرق السير فيها. ولم يفته أن يوهم بأنه مهتم بالفكر والدين، فزود الحملة بأربعة من أئمة مذاهب أهل السنة- حتى المذهب الحنبلي مذهب الوهابيين، ساق إمامه أيضا ليكون قوله حجة أقوى على الوهابيين في نظر الناس واعتذر عن الذهاب شيخان من رشيد ودمياط فأعفيا من السفر2. ووقف الجيش المصري موقفا ضنكا أمام صلابة سعود بن عبد العزيز   1 - عصر محمد علي: 123. 2 - عصر محمد علي: 132 - وانظر فصل تهافت الخصوم في الباب السابق من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الذي التزم خطة الدفاع، واستطاعت حملة طوسون أن تحتل ينبع وأن تتقدم في البر فتحتل موقع بدر المشهور. وفي وادي الصفراء انهالت القذائف من القمم على جيش طوسون وهو يمر بجنده في أسفل الوادي فهلك الجيش وتراجعت فلوله إلى ساحل البحر1. ووصلت الأمداد إلى طوسون الذي غير خطته فبذل صناديق الأموال والكسى للقبائل التي في طريق مكة والمدينة فمهدت خطته لاستيلائه على الحرمين ثم على جدة والطائف. ولكن سعودا تربص بجيش الغزاة وظل يرقب سيره ويدرسه أساليبه، حتى إذا احتل طوسون الطائف وأغفلته سكرة الانتصار غافله سعود قبل أن يصحو من سكرته ولم يدعه يلتقط أنفاسه، فزحف على رأسه جيش يقوده هو، وجيش آخر يقوده ابنه فيصل في اتجاه الحرمين. وفي مكان يقال له تربة التقى الخصمان فلقي جيش طوسون قتلا وهلاكا فارتدت فلوله إلى الطائف تاركة سلاحها وذخيرتها في أرض المعركة غنيمة للوهابيين الذين كانوا في هذه المعركة أكثر حمية وأشد حماسا، لأن امرأة من نبلائهم "عالية" تولت إثارة الحمية في نفوس الموحدين2. وأخذ موقف طوسون يتحرج، ودبت الأمراض في جنده ففتكت بهم فتكا ذريعا، فاعتصم طوسون بالحرمين وثغريهما جدة وينبع وأرسل يطلب مددا من أبيه، فقاد محمد علي بنفسه حملة جديدة وركب من السويس إلى جدة فمكة فحصنها واحتمى بها وأرسل ابنه طوسون ليهاجم خصومه فلم يزد طوسون إلا هزيمة وانكسارا. وبانهزام محمد علي نفسه في بعض المواقع أرسل يطلب المدد من مصر   1 - المرجع السابق: 135. 2 - المرجع السابق: 126 إلى 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 فجاءه مدد من أخلاط الناس والمرتزقة محملا مصر تضحيات جديدة -وكانت في كل حملة تضحيات من النفوس والأموال- وشكا الناس واستغاثوا بمشايخ العلماء فلم تجد الشكاوى ولم يقف سيل التضحيات1. ومات سعود فوافى الحظ والي مصر إذ لم يجد الوهابيون بدا من فك حصارهم للطائف وكانوا قد حاصروها، وحان لمحمد علي أن يكسب معركته عند سبل، ثم توالت مكاسبه، فطلب عبد الله بن سعود الصلح -وكان قد تولى الإمارة بعد أبيه- فأجيب إلى طلبه وتهادن الطرفان، ورجع محمد علي إلى مصر ليراقب مؤامرة توشك أن تنصب له2. ولم تنفذ شروط الصلح من الطرفين فانتهت الهدنة واستؤنف النّزاع، وقاد الحملة الجديدة إبراهيم بن محمد علي. وبعد معارك طويلة مريرة انتهى الأمر بإبراهيم إلى احتلال الدرعية مكان انبثاق الدعوة والتعاقد على نصرتها. وقد بذل أهل الدرعية جهد ما فوق الطاقة دفاعا عن بلدهم مما استوجب عنف الغازي عليهم بعد هزيمتهم عنفا بالغ الجسارة. وسلم الأمير عبد الله نفسه ووقف القتال بعد حرب دامت سبع سنوات. وقد انتهى هذا النّزاع الأول بأن تصور محمد علي أنه بسط نفوذه على بلاد العرب، ولكنه كان واهما، إذ سرعان ما تقلص ظل الوهم وتبين له خطأ تصوره، وتحققه قبل أن يموت، فتنازل عن الحرمين منصرفا لأمر علاقاته مع الباب العالي، بعد أن كلفته هذه الحملات ثمنا باهظا أثمن ما فيه سخرية التاريخ3. ولقد كثرت نتائج الحروب الوهابية وآثارها وشملت الأمكنة التي وقع فيها القتال والتي حشدت له والتي لم تحشد، وتناولت العباد والعتاد والأفكار.   1 - عصر محمد علي: 140 إلى 144. 2 - المرجع السابق: 145 إلى 148. 3 - المرجع السابق: 158 إلى 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أما في مصر فمع ما تحمله سكانها جميعا من تضحيات وأعباء فإن الحكومة لم تكتف بالضرائب والإتاوات، فاحتكرت الأرزاق وصادرت الأراضي الزراعية والممتلكات، وجعلت حياة الناس كلها ضنكا وذلا وبؤسا. ومذ موهت انتصارات محمد علي عليه مضى مغترا بقوته إلى حروبه في السودان والمورة، ثم عادى الباب العالي طمعا في سورية، وكانت النهاية الأليمة إغراق أسطوله الذي كلفه غاليا في وقعة "نافارين". وقد نتج عن إنشاء دور الصناعة والتجارة أن نشأت طائفة من الفلاحين اتجهت إلى الصناعات وكانت نواة التحول في مصر للصناعة التي خمدت في آخر العصر العلوي ولا سيما بعد دخول الإنجليز إلى البلاد في عهد توفيق، ثم استيقظت بعد زوال ذلك العصر كله. وفي أثناء هذه الحرب أنشئت في الجزيرة العربية حصون وحفرت خنادق وعبدت طرق وحفرت آبار، ثم نظر في تجديد السلاح واستخدام المدافع وقذائف البارود. ثم رئي أن تقام دولة دينية تقوم على مذهب التوحيد ووحدة البلاد1.   1 - تاريخ الشعوب الإسلامية 3: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بناء الدولة مقام الأمير لأول مرة في التاريخ الحديث للجزيرة العربية قامت إمارة لها نظام وطيد يسود فيه القانون وتنتظم العدالة وتنفذ أحكام الدين. وقد عهد إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب أن يضع هذا النظام فتلتزمه الدولة أتم التزام. ولقد نزل شيخ الإمارة الأول محمد بن سعود عن لقبه وعن قيام الناس له مهابة وإجلالا، ولم يعد من حق أحد أن يحمل لقب الشيخ إلا رجل من رجال الدين، ثم يتساوى في الدولة الغني والفقير، وكما فرض الإسلام من مساواة. وكان نزول الأمير عن لقبه وعن قيام الناس له بداية هذه المساواة، بل هي بداية انحسام داء الرياء الذي هو الشرك الأصغر -كما كانوا يعدونه على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وكذلك انسد باب الغلو والإطراء1. وكان الكبار جميعا من قبل محمد بن سعود يتخذون الحجاب والحراس، فأزال الروح الديني الجديد هذه الأبهة والفخامة- ودام ذلك التقليد طوال أيام محمد بن سعود وابنه عبد العزيز، فلما صرع عبد العزيز عاد الأمير اضطرارا إلى اتخاذ الحراس والحجاب وتحصنت بيوت الأمراء وفرض الإذن للدخول عليهم.   1 - أسد الغابة 2: 509 - فتح المجيد: 163, 290 في بابي الإطراء والرياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 والإذن بالدخول كان بادئ ذي بدأة ومن غير هذه الغدرة فريضة الإسلام بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النّور الآيتان: 27-28] . ولكن الأمراء كانوا قد أمنوا الناس فلم يفرضوا الإذن عليهم، فلما وقعت هذه الغدرة رجعوا إلى الإذن والتحصن والتحجب وأحاطوا منازلهم بحراس الليل1.وكان صلاح الدين يوسف بن أيوب أحسن حظا من عبد العزيز بن سعود إذ حذر فاحتجب منذ أخطأته طعنة الغادر. وكان صلاح الدين يدني الناس منه ويتحبب إليهم، وما لبث أن أقلع عن عادته هذه وأقلع عنها مضطرا فامتنع واحتجب ولم يعد يلقى أحدا عن قريب إلا من أراده هو وضرب للقائه موعدا. وقد وقع منه التمنع والاحتجاب حين اعتدت عليه طائفة الحشاشين مرتين فأخطأه الاعتداء فاحتجب عن العامة احتياطا، إلا في المواقع وقد أمن من حوله فيها، فقد صار يضرب حول سرادقه سرادقات تحميه ويقف عليها الحراس2 وكأنها الأسلاك الشائكة في زماننا. وإنه لمن الحق على كل زعيم صارت للناس عليه جرأة أو لم يمتنع ويحتجب، ولا سيما حين يصير ملك الناس وحصن آمالهم، وإن ذلك وإن كان يظهر فيه بعض الترفع والكبرياء فإنه من خيرهم وصالح   1 - لمع الشهاب: 56. 2 - مفرج الكروب 2: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 بلادهم ومستقبل أيامهم، وذلك حين يصير أميرهم ملك الأمة وحصن المسلمين1. وقد أصبح على جلساء الأمير شروط لم تكن هي أيضا بدعة محمد بن عبد الوهاب أو بدعة الأمير، وإنما كانت الشروط التي اشترطها عمر بن عبد العزيز على جلسائه ورآها لخير الوالي ولخير الناس وخير الجلساء أنفسهم، إذ الأمير هو ولي العدل، وولي العدل مشغول عن سوى ما يصلحه ويصلح الرعية. وقد روى الأوزاعي أن " عمر قال لجلسائه: من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي إليه. ويكون لي على الخير عونا. ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحدا. ويؤدي الأمانة التي حملها بيني وبين الناس. فإذا كان ذلك فحيهلا، وإلا فقد خرج من صحبتي والدخول علي "2. ونفذ الأوزاعي هذه النصيحة فلم يصحب واليا إلا على شرط عمر، ولم يجد بدا من التزامها. ولقد كان أحيان يتردد في أن ينصح أو يصرح بالنصح، ولكنه كان يدفع عنه هذا التردد حين يتمثل وقوفه بين يدي الله فيسأله عن صحبة الولاة. ولذا فقد قال للمنصور: يا أمير المؤمنين، مهلا فإن مثلك لا ينبغي أن ينام. وإنما جعلت الأنبياء وعاظا لعلمهم بالرعية، يجبرون الكسير ويسمنون الهزيلة ويردون الضالة. وإن الله ـ عزّ وجلّ ـ أوحى إلى داود -عليه السلام- فقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [صّ من الآية: 26] . وقيل إنه أوحى إليه: يا داود،   1 - أيام صلاح الدين: 54. 2 - الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز: 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 إذا جاءك الخصمان فلا يكونن لأحدهما على صاحبه الفضل فأمحوك من ديوان نبوتي1. فهذه قولة قالها الأوزاعي لأبي جعفر المنصور، وفيها من العظات ما لم يكن خافيا على أبي جعفر المنصور الذي نشأ وربي في المدينة بين جلة الفقهاء وعلية العلماء، ولكنه رضيها من الإمام إذ كان له فيها ناصحا أمينا. وكذلك فتح محمد بن عبد الوهاب بين يدي الأمراء باب هذا الأدب الجم للجلساء، وكأنه حدد أصنافهم، فاختار أن يكونوا من أهل العلم والصلاح. وكذلك رحب الأمراء بجلسائهم من هؤلاء، فكان حتما للدولة أن تسلم من عثراتها وأن تقوم بعد هزائمها، إذ تنَزه مقام الأمير عن كل هون إلا ما كان في صلاحه وصلاح الأمة وصلاح الدين. تنظيم الأمور: وقد كان للإمارة نظام أشبه بالنظام العسكري أو هو ذاته، تتقلب حياتها فيه، وكان ذلك بسبب العداوات التي منيت بها فاضطرتها إليه، فبنيت الحصون والقلاع وحفرت الخنادق وألفت الحاميات، ودرب الشبان على الفروسية والرمي. وعلى قدر ما تسع موارد البلاد تدفع الأجور. وجعل شرط انتظام الرجل في الحاميات أن يكون من أتباع مذهب التوحيد عن صدق وإيمان، ويعرف ذلك منه بالممارسة والتجربة والاختبار. وكان من الخير لهذه الدولة بل لمثيلاتها أن تقوم حمايتها على أسس من الخلق والدين، ولا يتسنى لها القيام إلا على أيدي جند من المؤمنين   1 - الإمام الأوزاعي: 150, 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المتطوعين، وقد فرض ذلك في الإمارة الجديدة على الجند، وجند الحاميات خاصة، كما كان شرطا أكيدا في اختيار أمراء الجيش فكانوا كلهم من الموحدين. وانقسمت الإمارة إلى كور يتولى كل كورة منها أمير، يعاونه -إن كانت كورته كبيرة- عالم في درجة المفتين، ويعاونه عالم في درجة القضاة -إن كانت الكورة صغيرة- وكذلك عين في كل كورة إمام للصلاة وعامل على الزكاة. وقد يتعدد العمال إذا اتسعت الكورة على عامل واحد للزكاة. وقد روعي أن يبقى رؤساء القبائل في البادية كما هم رؤساء على قبائلهم ما لم يتمردوا، فإذا تمردوا خلعوا. ونصب مع هؤلاء الرؤساء شيوخ من شيوخ الدين على القضاء والإفتاء والصلاة والتعليم وكان الاهتمام بتعليم حدود الله في البوادي والأعراب بالغا مبلغه، لأن أهلها وقعوا في فوضى من العصبية وحميتها أزمنة طويلة، وصاروا عبيدا لعاداتهم الطليقة من الخضوع للشرائع التي تردع عن ارتكاب المظالم وتقيد المعتدين عن العدوان. ومما لم يكن منه بد أن تتألف قلوب رؤساء البدو رويدا رويدا، فكان يكتفى منهم بإظهار الطاعة، فإن أظهروها تركت لهم الأموال المجبية خراجا من بواديهم، تأليفا لقلوبهم - كفعل النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ مع المؤلفة قلوبهم من ملء جعابهم بالعطايا. فإذا لم يظهر الطاعة رئيس من هؤلاء الرؤساء أدب بالعزل أو الحبس أو أشد منهما حسب درجة التمرد والعصيان، وكان النفي إلى منأى من منائي البادية الفسيحة إحدى عقوبات المتمردين. وجعل للإمارة بيت مال عام تأتي موارده من عامة كور الدولة وأطرافها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 والخاضعين لها في الأطراف، كما تأتي الموارد من أموال الغنائم إذ افترض الموحدون أن البلاد التي لم تدخل في التوحيد الخالص لهم أن يغنموا منها وأن يسبوا ويأسروا. وكذلك أحلت لهم الغنائم، لأن كل الأقاليم التي كان الدين فيها ملتبسا بصور من الكفر والإشراك كانت دار حرب لا دار سلام. ويتبع بيت المال مراقبة حسابه وموازنة الدخل والخرج فيه، وهو ما أمر به أن يراعى أشد مراعاة الإمام محمد بن عبد الوهاب، فتتسع النفقات أو تضيق بحسب ما تكون السعة أو يكون الضيق، وعلى حسبها تكثر المشروعات أو تقل، وتعلو الأجور أو تنخفض، وكان صاحب الدعوة وأولاده وذريته يأخذون أرزاقهم ضيقة أو واسعة حسبما يفد إلى بيت المال من أموال أسوة بكل المستحقين فيه1. وروقبت أسواق البيع والشراء وأقيم عليها محتسبون يتولون الحسبة فيها ويراقبون المعاملات والموازين وتنفيذ شرائع الأموال والتجارات في الإسلام. والحسبة ومراقبة الأسواق كان لها شأن أي شأن في الإسلام يتولاها المحتسب نائبا عن ولي الأمر أو متطوعا. وبدأ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بتولية المحتسبين والمراقبين على الأسواق وكان أن استعمل سعيد بن سعيد بن العاص يوم الفتح على سوق مكة2. " واستعمل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سليمان بن أبي حثمة على سوق المدينة ". وكان سليمان معدودا في كبار التابعين3.   1 - لمع الشهاب: 49 إلى 51. 2 - أسد الغابة 2: 390. 3 - المرجع السابق: 449. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وقد عني بالحسبة علماء المذهب الحنبلي أشد العناية وصنف في أركانها وأبوابها كثير من علمائهم الأولين والآخرين1 ولم تنس حقوق أهل الصلاح والتعفف والشهداء في الحروب على بيت المال، فوظفت لهم ولأولادهم وذراريهم الوظائف فيه، وجعلت حقوق هؤلاء حقوقا ذات قدسية، فيجب أن تؤدى لهم حتى لو عجز بيت المال، وكان على ذوي اليسار من الناس عند عجز بيت المال أن يسدوا حاجات هؤلاء، وعلى من يطوع فيعطي مع أهل اليسار. وقد سد الأغنياء وذوو المروءات هذه الحاجات عن رضا وطيب خاطر، لا عن خوف أو انقهار. ولم يكن فرض هذه الأنظمة بمانع من الشر أو قاطع لدابر الأشرار. ومن أجل هذه الطبائع البشرية فرض الثواب وضرب العقاب، ومن ثم فقد كان على هذه الدولة وهي تبذل أقصى جهدها في تسديد خطى الناس وإسعاد حياتهم وقضاء حقوقهم أن تأخذ حقها، وأخذ الحق كثيرا ما يكون بإنزال العقاب. وقد رأى الإمام محمد بن عبد الوهاب أن ينْزل العقاب خفيفا وثقيلا، ولكنه أنف أن ينْزل عقابا بمذنب غدرا أو سرا، بل أمر أن يؤخذ المذنبون بذنوبهم جهرا حتى يبدي المجرم صفحته وعذره، وحتى يرتدع من تحوم في صدره نية الإثم والتمرد والفساد. طريق الحاج: ولقد وقع طريق الحاج في عصور مظلمة استمرت طويلا، فلم يكن   1 - انظر الحسبة في الإسلام لابن تيمية. وانظر فصل الحسبة في باب إحياء السنة بكتاب شيخ الأمة. وفصلها في الأحكام السلطانية لابن أبي يعلى الفراء الحنبلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 يأمن أحد ممن يقصد أداء الفريضة على ماله أو نفسه، وكان إقبال المسلمين من أرجاء الأرض على الموسم برغم ما يتعرضون له من الشر والأذى يزيد كل عام في أعداد الضحايا، فلا المسلمون يمتنعون ولا الأشرار يتوبون. والحج في الإسلام "أحد الجهادين" كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وكثيرا ما اقترنت أحاديثه بأحاديث الجهاد، وكان من حكمته تدريب الأمة على الجهاد، ولزوم الطاعة فيه، فلم تتخلف الأمة قط عن هذا الجهاد مهما أصابها فيه من تضحيات. وليس من حق دولة تكون الجزيرة والحجاز تحت ولايتها بمستطيعة أن تدعي لها سلطانا عليها ومهابة في أعين المسلمين وكل الناس ما لم تؤمن طريق الحج، فإذا لم تعمل لتأمينه أو لم تستطع لم تكن ولايتها عليها إلا شكلا من أشكال الضعف والمهانة التي تتشبث بهما ليكونا ثوبين من أثواب الزيف والرياء. وكذلك كانت الدول التي حكمت الجزيرة بعد ضعف الدولة الإسلامية، ثم استمرت الحال كما هي حتى العهد التركي كله في الجزيرة والأشراف في الحجاز، وطالما اعترض شذاذ الأعراب طريق الحاج وفرضوا عليهم المكوس، ولم يكونوا يعفون من المكس عربيا ولا عجميا، وامتد ذلك في طول الجزيرة وعرضها حتى أبواب مكة والمدينة وفي دائرة الحرم كله، وكان أعراب جهينة في جباية هذه المكوس أشد الأعراب. فلما قام بإصلاحه محمد بن عبد الوهاب رأى تأمين طريق الحاج أول الواجبات، إذ البلاد المقدسة هي قبلة العالم الإسلامي كله. وما جزيرة العرب إلا مكة والمدينة واليمامة واليمن وتهامة كما ذكر في الأحاديث1.   1 - صحيح البخاري 4:85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فما لم تكن الطريق إلى حرميها ومناسكها آمنة فإنها تكون وصمة عار في جبين المهيمنين على الطريق ووصمة عار في جبين كل مؤمن لا يسعى جهده في تأمينها وتيسير السبيل. واتفق شيوخ المذهب ورجال الدولة أن تفرض على الفور أحكام الشريعة وتنفذ على اللصوص وقطاع الطريق، ونظر في أمر القبائل التي تفعله، فإن كان ما تفعله عن حاجة عوضت عن حاجتها من بيت المال بعد أن تؤخذ عليها العهود والمواثيق بأن لا تعود إلى فعله، وإن كانت تفعله عن هوى السرقة وحب الأذى فإن أحكام الشرع التي فرضت القطع كفيلة بأن تقضي على السراق واللصوص وتؤمن الطريق. وكان هذا فرضا فرضه الإمام والأمير معه على كل من أصبحوا تحت سلطانهم من أعراب نجد أو الحجاز، ومن أي قبيلة في الأطراف لهم عليها سلطان أو بينهم وبينها حلف وعهود. وسرعان ما قضت هذه السياسة على الفوضى والسرقة، ودخلت القلوب في الصدور، وسار الحاج آمنا في الجزيرة العربية وفي أي ناحية منها بادية أو حضرا. فلا يعترضه معترض بأذى، حتى المرأة كانت تسير في أمان في الأسواق وفي البرية وتحمل من حليها ما تشاء نهارا أو ليلا فلا يتعرض لها إنسان1. ولقد بين رسول الله لعدي بن حاتم فرق ما بين الجاهلية والإسلام في أمن الجزيرة بعد تسعيرها فقال له في بعض حديث له: "يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قال: لم أرها وقد أنبئت عنها. قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله. فقال عدي في نفسه: فأين دُعَّارُ طيء   1 - لمع الشهاب: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الذين قد سعروا البلاد؟! ثم عاش عدي وطالت به حياة ورأى ما نبأ به رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ حقا ماثلا. فقال: رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله " 1. ثم غاب الإسلام عن الجزيرة زمانا طويلا، ولقي الركب من الرجال عنتا وشقاء وقتلا، فما بال أمر النسوة إذا ارتحلن في طريق الحج، وكان أكثر السير بالإبل والدواب والمشي على الأقدام سيرا بطيئا، فلا يستطعن من الأشرار نجاة ولا فرارا؟! فلما كان أول ما جاء ابن عبد الوهاب وأمن هو وعبد العزيز بن محمد بن سعود طريق الحج وكل طريق، تعرض سارق مقنع لامرأة من بريدة، في طريق البرية، كانت قد خرجت إليها في إهلال الربيع -كعادة العرب في استقباله خارج قراهم- وبينما هي راجعة من البرية اعترضها رجل لمحت فيه سمات الخبث والإثم، فسألها عن اسمها فأجابته في صدق وشجاعة باسمها ونسبها. ثم قالت له: انظر إلى من وراءك! فارتعب الرجل ونظر خلفه فلم ير أحداً. فقال لها: من ذا الذي ترهبيني به؟ قالت: عبد العزيز بن سعود! ولم يفق الرجل من سكرته ولم يرجع إلى عقله فاندفع غير ناظر إلى عاقبة أمره وكانت عاقبة أمره خسرا.. فطلب إليها أن تنْزع عنها حليها فنَزعتها ليخلي سبيلها، فأخذ الحلي ومضى ورجعت المرأة إلى دارها. ورفع الأمر إلى عبد العزيز فجعل يسأل ويتفحص ويبحث ويلح في البحث معلنا ومسرا، وكلما مرت الأيام اقتربت منه المعرفة وكشفت الجريمة عن بعض ملامحها. أما السارق الأثيم فكان كلما مرت الأيام   1 - صحيح البخاري 4: 239, 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وكرت الشهور والسنين اطمأن وهدأ وأيقن أن الجريمة قد ماتت في أكفان الزمان. وبعد أربعة عشر عاما من التسآل والفحص عرف عبد العزيز، فأرسل إلى مرتكب الجريمة من يأتي به، فلما جاءه قال له: أتدري ما لنا عليك من الدين؟ قال: أيها الإمام، إني لم أقترض منك دينا! قال عبد العزيز: بل الحلي التي سلبتها! فإنها دين يجب أن يؤدى فراغ الرجل على الأمير احتيالا على الخلاص وكذبا، فحاصره الأمير بالأدلة، ولم يزل به حتى خارت قواه فأقر بجريمته، فحكم عليه الأمير برد ما لديه من الحلي وضمان ما فقد منها، ثم أوقع به عقوبة الدين1. وحين يستقر أمن الطريق استقرارا كاملا وتؤدى المناسك كما كانت تؤدى فرض نظام الدولة على أمراء الحج الوافدين من كل أقطار المسلمين أن يمروا بالدرعية، وفرضت لهم الضيافة فيها ثلاثة أيام، وقد أبلغت البلدان كافة بهذا الأمر، فمن خالف وأبى أن يمر كما أُمِرَ أنزل به العقاب والردع على قدر ما أظهر من خلاف. وفي الظن أنها كانت أيام لا تخلص كلها للضيافة، وإنما يتلقى فيها أمير الحاج التعاليم الإسلامية عرضا وفي رفق عن المناسك التي يجب أن تؤدى وعن الغلو والمبالغات التي يجب أن لا تؤدى، حتى يمر موسم الحج خالصا لله وحده دون شوب من شرك أو رياء، وفي مراقبة ذلك فرض أن يتولى أمير من الدرعية الموسم كله في كل عام. ولكن ذلك لم يتم لهم كاملا حتى فتحوا الحجاز -فيما بعد- فالتزموه.   1 - لمع الشهاب: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 التأديب والتعليم: وسادت بين الناس في هذه الدولة أخلاق وآداب في المبادلات والمعاملات هي أخلاق الإسلام وآدابه، ورسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول: " الدين المعاملة ". وامتنع الجدال الآثم بين الناس، وما داموا قد رجعوا إلى نصوص الدين وامتنع الرأي والتأويل -كما هو مذهب أحمد وأهل السنة- فقد امتنع ذلك الجدال، وإن كان الرجوع لم يمنع العلماء من الاجتهاد في نطاق النصوص والفروع، وهو مجال الاجتهاد عند أئمة المسلمين. وفي الآداب العامة اختفي السب والشتم، وكان قد صار أقل ما يرمى به خصم من خصمه عند النّزاع أو بغيره، وقد كانت المساواة التي فرضت بين الأفراد عامة سببا في ارتفاع السب والشتم من الأسواق. ومع هذا الارتفاع فقد كان الإمام يعظ أن يرتفع دائما، وكان الأمير يراقبه فلا يقع بين الخصوم على سبيل الجد أو سبيل المزاح1. فإذا وقع فيه آثم رفع أمره إلى الحاكم الشرعي فإن ثبت أنه ارتكبه حكم عليه بالتعزير2. وكما حرم السب والشتم على الناس عامة حرم على الأمير، أليس الناس متساوين؟! وارتكب الأمير عبد العزيز الذنب أو هفا الهفوة فسب رجلا لعله أضجره في مجلسه، ولكنه لم يقترف ما يدعو إلى أن يخرج الأمير عن وقاره فلما انقضى المجلس مضى الرجل إلى محمد بن عبد الوهاب فشكا إليه الأمير، فأرسل إليه الشيخ أن يأتيه، فلما جاءه أجلسه مع خصمه ولم يفرق بين مجلسيهما وقال: إن الدين لا يسعه إلا هذه المساواة. ثم تخاصما، فاعترف الأمير بذنبه، وعرض على خصمه أن يشتري   1 - وانظر السب والهزل المحرم في أبواب مختلفة بفتح المجيد: 338 , 345 , 373 -. 2 - لمع الشهاب: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 المسبة بالفداء، فأبى الرجل، فعزز حاكم الشرع -وكان هو الإمام محمد بن عبد الوهاب- أن يؤدب المذنب بالعصا ككل الناس، وتلقى الأمير الضرب وهو يقول: سمعا وطاعة لما يحكم به الشرع الحنيف. وسرى الخبر إلى آل سعود وإلى الرعية، فحمد جميع الناس هذه العدالة التي تنتمي إلى الفضل والنبل، وصارت سابقة في الحكم أقرها من بعده ولده سعود وحفيده عبد الله بن سعود1. وأما في التعليم فقد حرص محمد بن عبد الوهاب على نشر العلوم المرغوبة، وحث أن يتعلم الناس ما تعلمه هو من قبل، من علوم الآلات: آلات العربية من نحو وشعر وبلاغة وبيان، وحض على أن يتعلم المتعلمون في مدارسهم وبيوتهم ومجتمعاتهم شعر الحماسة، والشعر الذي يحث على التخلق بالمكارم والاستمساك بأهداب الدين. وهذا الباب في لغتنا أهملته الدول العربية فلم يعد له من ظهير يشد ظهره ويقوي شأنه، وأطلقوا للمعلمين وطلبة العلم أعنة البرامج، يعرفون من الشعر ما يسلك بهم كل سبيل إلا سبيل الجد، وشاعت في فصول الدراسة القاعدة التي تقول "إذا سلك الشعر سبيل الخير لان" 2، وفي ذلك إطلاق للغرائز وتحسين للشر ومخالفة لآداب الدين وسنة الأولين. ولكن ابن عبد الوهاب لم يفته ذلك، وكأنه وحده الذي بقي على القويم من دينه والإخلاص لأمته، ففرض أن يكون الشعر الذي يقبل عليه المتعلمون هو شعر الحماسة وشعر الدين، وكان ذلك منه اقتداء بإمامه أحمد بن حنبل الذي كانت له قصة في هذا الشأن مع أبي العباس ثعلب نضو أبي العباس المبرد -وكانا معا إمامي العصر العباسي كله في اللغة والأدب والشعر-:   1 - المرجع السابق والصفحة نفسها. 2 - لان = ضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 سمع ثعلب من الإمام أحمد شعرا أملاه أحمد عليه، وروى في شأنه ثعلب قال: كنت أحب أن أرى أحمد بن حنبل فصرت إليه فرأيت رجلا كأن النار توقد بين عينيه، فسلمت عليه فرد وقال: من الرجل؟ قلت: ثعلب. قال: ما الذي تطلب من العلم؟ قلت: القوافي والشعر ونحو العربية، ولقد وددت أني قلت غير ذلك -فلعله رأى الإمام قد تغير- فقال أحمد: اكتب، ثم أملي علي: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفي عليه يغيب لهونا عن الأيام حتى تتابعتْ ... ذنوب على آثارهن ذنوب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ... ويأذن في توباتنا فنتوب1 وهكذا ضرب أحمد بن حنبل لمعلم عصره مثل الشعر الذي يجب أن يستمليه وأن يعلمه. وقد تأثر ثعلب فكان له شعر في الباب الذي علمه إياه الإمام يقول فيه: رب ريح لأناس عصفت ... ثم ما إن لبثت أن ركدت وكذاك الدهر في أفعاله ... قدم زلت وأخرى ثبتت وترى الأيام من عاداتها ... أنها مفسدة ما أصلحت ثم تأتيك مقادير لها ... فترى مصلحة ما أفسدت2 وأوصى محمد بن عبد الوهاب أن يتعلم المتعلمون جميعا السير والتاريخ إذ لا غنى عنها لأمير أو معلم أو فقيه أو متعظ. ثم أوصى بإيثار علوم   1 - تاريخ بغداد 5: 205 - طبقات الحنابلة 1: 83 - مناقب الإمام أحمد: 205. 2 - الذيل على طبقات الحنابلة 1: 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الدين والتفرغ لها، ولن يكون أئمة في هذه الملة إلا إذا تفرغوا لهذه العلوم. وقد حسب بعض الأتباع -فيما بعد- أن الإمام كان خصما لما عدا علوم الدين من علوم، ولكن أحدا منهم لم يدل بحجة في أن الإمام منع الناس أن يتعلموا ما ينفعهم ويرفع شأنهم في دنياهم من علوم الدين وعلوم الدنيا، وقد تعلم هو منها حتى ارتوى، فمضى أمر التعلم على سجيته السمحة في الدولة الأخيرة، وكان الفضل لذوي العلم البصراء من آل الشيخ الإمام. وقد تشبثت الإمارة السعودية الأولى في نجد بأن ترسل معلميها إلى النواحي لئلا يقتصر التعليم الديني على نجد ففرض أيضا على القبائل والبلدان التي تطلبه والتي لا تطلبه، لأن علماء نجد درسوا على الشيخ الإمام وكانوا من أهله ومن غير أهله، فصاروا أوسع الناس معرفة بحدود التوحيد وبكل ما يخرجه عن هذه الحدود. مطاردة الأوهام: ولقد يكون في الإمكان أن تنشأ دولة قد انتظمت فيها الأمور وتحددت الحدود وعني فيها بالتعليم واستقرار الأمن من حيث تكون دولة كافرة بالألوهية أو وثنية مشركة، ولا تكون دولة إسلامية إلا إذا برئت عقيدتها من الكفر وتنَزهت هي وطقوسها عن عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء، وصار مآل أنظمتها كلها في خدمة عقيدة التوحيد. وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران من الآية 110] ، إنما هو تقرير بأن الأمة الإسلامية هي الوسط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أو هي خير أمة أخرجت للناس، وكان ذلك لأن الإسلام افترض على متبعيه أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، فلا يميل بهم الجور على أنفسهم ولا على الناس، وهذا خلق الأمة الإسلامية والذي لم يزل يميزها فلا يشتط لها هوى ولا يمتد منها أذى. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسا شيئا واحدا، وإنما هما قسيمان، وأولهما أيسر من ثانيهما، والأمر بالمعروف أيسر من الائتمار به فقد يأمر به آمر ولا يعمل به، لأن العمل أثقل على النفس من القول، ولأن العمل عبئه على النفس لا على الغير. والنهي عن المنكر أيسر من الانتهاء عنه، إذ النفس لو وقعت في عادة من عادات السوء كرهت من ينهاها عنها، وهي أشد كرها لمن يعمل على انتزاعها منها. وهذه الحال الأخيرة من النهي عن المنكر والانتهاء عنه هي التي تعرض لها محمد بن عبد الوهاب حين جاء بإصلاحه لتجريد التوحيد، فكان إصلاحه كله قولا بالنهي وعملا للانتزاع، فبدا الأمر بالغ الصعوبة عصيا على الإصلاح، ولكنه لم يأبه بصعوبة ولا عصيان. وكانت أوهام العادات قد سيطرت على الناس رؤوسا وأوساطا وأذنابا، فالأمراء والرؤساء غارقون في أوهام الألقاب والمناصب والشهوات، والأوساط غارقون في أوهام الرياء والنفاق للتقرب إلى الرؤساء والتغلب على الأذناب، وخشاش الناس غرقى في أوهام الذل لرؤسائهم يستشفعون بالأوساط لديهم لعلهم يرحمون. وعمل ابن عبد الوهاب على إنقاذ الغرقى جميعا من أوهامهم وانتزاعهم من الأعماق التي غاصوا إليها، ولم يفرق بين ذنب ووسيط ورئيس، إلا بقدر الصورة التي غشيته من الوهم والخداع. أما الرؤساء فبأن ينخلعوا عن الألقاب والتعالي على الناس وجحدان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أحكام الشرع وتسمية الضعفاء بالعبيد والإماء1. وأما الأوساط فبأن ينخلعوا عن التشبه بالأمراء والرؤساء فيسمي الرجل منهم نفسه برئيس الرؤساء وسلطان العلماء وقاضي القضاة، أو يحاول ذو العقل الواهم منهم أن يتألى2 على الله أو يشتط في التأويل أو ينكر القدر أو يجحد أسماء الله وصفاته، أو يدعي الكهانة أو السحر أو التنجيم. وأما عامة الناس فبأن ينخلعوا عن الذل والخوف والجهل فلا يعبدوا غير الله وحده ولا يستشفعوا بسواه ولا يتقربوا إلا له، وأن يطرحوا عنهم كل وهم في ند أو شريك أو وسيلة من الوسائل تستجلب نفعا أو تدفع ضرا غير الدعاء الخالص والعمل الصالح الذي يكون لوجه الله وحده وباسمه وحده3. وانتزاع العادات السيئة من هذه الطوائف الثلاث التي تكون الأمة جميعها قد تعرض لها محمد بن عبد الوهاب ثلاث مرات: مرة بالنصح، ومرة بالكتابة والتدوين اللذين يدل عليهما كتاب التوحيد، ومرة ثالثة بالتنفيذ حينما تولى إدارة شؤون الدولة هو ومحمد بن سعود حينا، وحينا ثانيا مع عبد العزيز بن محمد بن سعود. وعلى طريق واحد اجتمعت الأمة في الجزيرة العربية في الفهم والوعي والقصد، واتجهت الأفئدة والأبصار، وتيقظت المشاعر والعقول، واحتشدت الأبدان والجهود في الطريق الواحد الذي يخلو من أهواء الشبع والجشع والرغبة في الثراء والجاه وحب التحكم والسلطان، كما تحررت نفوس الضعفاء من الخوف ومن المذلة والهوان.   1 - فتح المجيد: 362. 2 - يتألى = يقسم ويحلف أنه يقول حقا وليس كذلك. 3 - انظر رءوس الأبواب في كتاب التوحيد وفتح المجيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وظهرت لعيون المسلمين - بعد طمس دامس في زمان طويل- صورة زاهية لمحاسن دينهم الكريم، وما صوره الدين للحياة الشريفة والموت الشريف، وما رسمه من القول المسموع والعمل المقبول. وفي طريق واحد ذي تيار واحد اختلطت حبات مياهه فصارت لجة واحدة وبحرا هادرا وسلوكا قويما من إخلاص وصدق وعمل حق، وتصاعدت به القوة كل يوم وكل ساعة، وما لبثت الدولة أن عوضت ما فات الناس في أزمنة الجهل والضياع، إذ رجعت إلى البداية الكريمة التي بدأ عندها الإسلام فانتظم البلاد والأقوام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ضمان الانتصار فضل البادية دعوة نجد الجديدة -أو الإصلاح النجدي- تأثيرا بالغا، فأرجع الناس في نجد والجزيرة وفي خارجها من قريب ومن بعيد إلى معرفة وحدانية الله خالصة من شوائب الشركين: الأكبر والأصغر. وسواء في ذلك من قبل الدعوة طائعا ومن عارضها منكرا ومن افترى عليها كاذبا. وقضت الدعوة قضاء مبرما على كل ما كان شائعا في نجد خاصة من خرافة الأغوار والأشجار والرفات المبعثرة في القبور. وعرف الناس ما صفا من الفكر وما استقام من المناسك والعبادات مما أرشدتهم إليه الدعوة أو نهتهم عنه في العظات والدروس التي ألقاها الإمام، وفي الرسائل التي تركها، وفي الشروح التي صنفها أولاده وأحفاده، وأصبحت صلاة الجماعة الركن الركين في مجتمع الجزيرة لا يتخلف عنها قائم ولا قادم، فتحقق ما أوصى به الإمام أحمد في كتابه "الصلاة" وكان محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من أول المستجيبين. وفي عهد السعودية الأولى من أيام محمد بن سعود إلى أيام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز كانت نظم الشريعة الغراء أسسا قام عليها البناء وأرسي الحكم في كل مرفق من مرافق الحياة. وفرض هذا النظام مقاما كريما لعلماء الدين -من غير غلو- لم يحلم به علماء أي مصر من الأمصار- بعد العز بن عبد السلام وابن دقيق العيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 والنووي في عصر المماليك وأول حكم العثمانيين1 -وصار لمن يتولى القضاء أو الإفتاء منهم مكان مرموق. أما آل الشيخ جميعا فقد صار إجلالهم في النفوس إجلال الهداة المرشدين. واقترن اسم آل الشيخ وآل سعود بعقيدة التوحيد وأعمال التطهير فأطلق عليهم اسم الموحدين واسم المطهرين ولقبوا بأهل السنة وأهل الحديث، وكان جديرا بأن يطلق عليهم أيضا أهل القرآن. وكان الحماس للمذهب في إقليم العارض باليمامة أشد ظهورا منه في أي جهة من جهات الجزيرة2. وذلك لأمرين متضادين: الأول أنهم كانوا أول من عارض المصلح فعوضوا التأخر في الاتباع بالحماس، والثاني أن الداعية المصلح كان منهم فهو حماس الاعتزاز بالقريب ينهض للحق وينهض أهله معه، وكان حماسا مشكورا لأنه للإسلام الذي يدين به من قديم أهل هذا الحماس. وهذان الأمران كلاهما لسبب قريب، وربما كان هناك سبب خفي بعيد، ربما كان أثره باقي الوراثة في هذا الإقليم: فاليمامة كانت بلد يحيى بن أبي كثير الذي كان في الطبقة الرابعة من علماء الرواية، ولحق به عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وسمع منه الحديث وأعجب بزهده وتحزنه وعلمه. ويحيى هذا مات في آخر الأموية أيام مروان بن محمد آخر خلفائها3. وكان العلم والفقه في أيامه قد انتشر في البادية فأينعت منه واخضرت، وصارت فيها مدارس الحديث ومقاصده، ولم ينحصر في المدن التي تكثر فيها الغاشية من العلماء والطلاب وجمهور   1 - ظهر الإسلام 4: 214. 2 - جزيرة العرب: 231. 3 - النجوم الزاهرة 1: 310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الناس، وكان يحيى يلقي دروسه في هذا المنأى عن الحواضر ويراسل بعلمه من أراد من علماء البوادي والأمصار. ولم يجهل أحد أن اليمامة كان فتحها وقتل مسيلمة الكذاب في أيام أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في السنة الثانية عشرة من الهجرة على يد خالد بن الوليد عنوة، ثم صولحوا1. وهو أمر يبعث على الفخر والدهشة؛ أما الفخر فلأن مكانا من أمكنة الردة والدعوة الكاذبة قد أصبح مكان كثير مشايخ الفقه الإسلامي وأعلامه. وأما الدهشة فلأنه لم يحدث مثله في عمرنا، ووسائل نقل العلم وغيره قد بلغت شأوا مذهلا، ولم يكن العالم حين ذاك قد كانت فيه وسائل للنقل سوى الإبل والدواب والسير على الأقدام. وأعظم من الفخر والدهشة أن التعليم بالمراسلة -الذي عظم أمره في عصرنا- كان موجودا، ولم يكن مقصورا على تعليم الحروف والكلمات وأوائل العلم، بل كان قد بلغ القمة وتخرج فيه الأئمة. وهو يبعث على الرضا عن تلك العصور التي لم تأل جهدا في النهوض بالعلم وتيسير وصوله للراغبين برغم المصاعب والأبعاد. ومن الغريب أن تكون البادية أحد مصادره، والبادية التي عبرت بسرعة مذهلة -لا تكاد تقاسم بالزمن- تاريخها الجامد القديم الذي وقف قبل الإسلام عند الفطرة والأمية والعناد، ثم لم تلبث أن أصبحت هكذا تصدر العلم للقرى والمدائن التي ترفل في المدنية منذ آلاف السنين ومن أمثالها أن صار يحيى بن أبي كثير يعلم عبد الرحمن بن عمرو   1 - معجم البلدان في اليمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الأوزاعي وصارت اليمامة تعلم بيروت1. فهل يا ترى كان هذا الذي حدث من جديد ومن محمد بن عبد الوهاب وعلماء اليمامة ميراثا باقيا في البادية منذ ذلك العهد القديم؟ لئن كانت وراثة هذا المجد قد بقيت راسخة قي إقليم اليمامة فقد نبتت من بذرتها دوحة مجد طارف من دوحة مجد تليد! الشجاعة والدين: ومع الوراثة كانت الشجاعة والدين في رجال الإصلاح من شيوخ وأمراء وأتباع من أسباب دوام النصر والظفر لدعوة التوحيد وتجريده من شوائه، وكذلك كان للعلم واليقظة، كما كان للجهل والغفلة اللذين اتصف بهما الخصوم، وكل اثنين من هذه الصفات: الشجاعة والدين ثم العلم واليقظة ثم الجهل والغفلة -كل اثنين منهما صديقان لا يفترقان. وليس يطرد نجاح كل اثنين من هؤلاء الإخوة أو يطرد إخفاقهما، ولكنها في تقدير البشر ضمانات النجاح في الصفات الأربع الأولى وضمانات الانخذال في الأخيرين، وكان عدم الاطراد لأن من وراء كل ذلك حكمة الله فقد تكون سرا يجري على حسبها القدر من غير أن تكون أمرا منظورا. وقد اتصف بالشجاعة والدين والعلم واليقظة -بعد صاحب الدعوة- أمراء كانوا كالعقد النظيم تتساوى حباته في جواهرها وأوزانها، وكان أمراء السعودية الأولى كلهم من هذه الحبات فلم ينَ ِواحد منهم أن ينصر الدين مهما كلفته نصرته وأن يصبر للأذى والانكسار حتى لو اقتحموا بأرواحهم الأوار.   1 - الإمام الأوزاعي: 41: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فلما أبعد عبد الله بن سعود آخر أمراء السعودية الأولى من نجد بعد انتصار إبراهيم بن محمد علي ورجوعه إلى مصر في سنة 1234هـ واختلف أبناؤه فيما بينهم على الإمارة -طمع أمراء العيينة واجترؤوا على الدرعية وصار لهم الأمر في ظاهره، إلا أنه لم يمض غير عام واحد أو أقل من عام حتى انتصر في المصاولة أمير سعودي شجاع هو تركي بن عبد الله الثاني ابن محمد بن سعود. وفي شجاعة وجسارة استطاع تركي أن يهرب من حصار ضربه الأتراك على الرياض، وسرعان ما تحول إلى مهاجمة المحاصرين. وجد في المهاجمة فاسترد الرياض وجعلها مقرا له، وظهر ما كان قد بطن من حب الناس له ولآل الشيخ فدانت له نجد كلها، كما انتصرت مرة أخرى لأحكام الشرع الحنيف. وما من ريب في أن غزاة البلاد كانوا فيما بين انتصارهم وفك الحصار عن الرياض قد أشاعوا الفوضى وأطلقوا الأشرار وقطعوا الطريق وشجعوا الخلاف بين الرؤساء ليقيموا ملكا على الخرائب، ثم لم يلبثوا أن عجزوا أن يقيموا ملكا على الصالحين أو الطالحين. وكما استشهد عبد العزيز في السعودية الأولى اغتيالا استشهد تركي في هذه السعودية الثانية اغتيالا، فأعلن فيصل ابنه نفسه إماما وأميرا على نجد، وكان جديرا بهما معا، إذ كان شجاعا لا يهاب، كما كان من أكثر آل سعود تقى وحمية وغيرة على الدين1. وهكذا في الأنصار والخصوم معا ظهر شرف الدعوة النجدية، فقد رفعت من صفات أتباعها وأخلاقهم في كل سلوك فردي أو جماعي في   1 - جزيرة العرب: 232, 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 السلم أو الحرب وكانوا إذا شالت بهم كفة الميزان حينا وقعت المحنة على النفوس والبلاد وأهلكت الطريف والتلاد. وقد وقعت المحنة بفيصل فحاربته تركيا وواليها على مصر إذ رأينا نجدا والجزيرة تكاد تظلهما الوحدة تحت لوائه، فلم يجد مفرا من الاستسلام فحمل إلى مصر وظل بها من سنة 1254هـ إلى 1259هـ. وفي غفلة الرقباء فر الشجاع وعاد إلى بلاده سياسيا حكيما يهادن الأتراك ليفرغ إلى وطنه فأعاد الطمأنينة وأمن الطرق وحمى البلاد. وبموت فيصل في سنة 1282 – 1866م انتهت السعودية الثانية وتنافس ولداه وتقاتلا، وفي ظل تنافسهما وتقاتلهما استفاد الأعداء من العرب والترك فأجهزوا على الدولة الثانية التي شادها الشجاعان تركي وابنه فيصل الإمام1. ثم لم يَغِضْ ميراث الشجاعة والإقدام في ذرية فيصل حين استسلم أبناؤه إلى الخلاف والعناد فانتقلت منهم الإمارة إلى غيرهم، وبرز هذا الميراث في عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل الذي قرر أن يُخْطِرَ بنفسه ويمضي من سكناه مع أهله بالكويت إلى الرياض مستحثا آله في نجد وفي بلاد الجنوب. وبرز الفتى الشجاع ذو الدين إلى أمله في بناء الدولة وتصفية التوحيد ووحدة الجزيرة، ولعله لم يكن يبغي كل ذلك أو يحسبه في قدرته، ولكل حمية الدين والعرق قد دفعت به إلى الاقتحام. والتقت على صفحتي هذا الرجل المقدام نصائح أبيه عبد الرحمن ومواعظ أمير الكويت وهو الخوف من الترك والعرب والعطش في البادية وقلة   1 - جزيرة العرب: 234 إلى 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الأنصار، وكل ذلك على صفحة، وعلى الصفحة الأخرى إرادة وتصميم وحكمة من قائد حكيم. وفي طريقه إلى المعركة التقى به رجال تبعوه ثم تفرقوا، فلم يبال بأحد غير من خرجوا معه من الكويت من آله ومن حلفائه، ثم جعل يختار منهم كلما تقدم، فيتقدم معه قوم قليلون ويتأخر عنه قوم كثيرون، حتى وقف في الرياض ليلا على قصر الأمير. وعند الصباح خرج الأمير من قصره إلى مصرعه واستبسل عبد العزيز ورجاله فأزاحوا حرس القصر عن موقفهم. وما كاد النهار ينتصف حتى أذن المؤذن أن الحكم لله ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل، فسمع الناس وأطاعوا وقامت السعودية الثالثة على ساعد شجاع ذي دين كانت شجاعته ودينه ضمانا جديدا للفوز ودوام الانتصار1. غفلة الظلم: وفيما قاله المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي بألفاظه كشف لحقيقة من الحقائق التي عاشها، وكانت السعودية الأولى في ظل مذهب التوحيد يظن أنها ذهبت معه ولن يعودا، ولكنها عادت وعاد المذهب، ولم يذهب إلا الظلم عاضا على نابيه حسرة وندما. قال الجبرتي: "وفي سابع ذي الحجة الحرام من سنه 1233 هـ وردت البشرى من شرقي الحجاز بكتاب من أمير ينبع أن إبراهيم باشا استولى على الدرعية والوهابية، فسر الباشا الكبير -محمد علي- لهذا الخبر سرورا عظيما وانجلى عنه القلق والضجر وأنعم على من بشر بالخبر.   1 - المرجع السابق: 241 إلى 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وعندئذ دوت طلقات المدافع من القلعة والجيزة وبولاق والأزبكية وكلها مواقع بالقاهرة ما عدا الجيزة فإنها على الشاطئ الغربي للنيل ولكنها متصلة بالمدينة -وانتشر المبشرون على بيوت الأعيان- ومن المسلم به أن يكون هؤلاء الأعيان من الأتراك وغيرهم من رجال الوالي- لأخذ البقاشيش. وفي اليوم الثاني عشر -وكان اليوم الثالث من أيام التشريق وصل المرسوم بمكاتبات من ينبع ومن السويس، وكان وصوله قبل عصر ذلك اليوم، فهللت المدافع ودوت طلقاتها من كل جهة، واستمر تهليل الطلقات من العصر إلى المغرب، وأطلقت مدافع القلعة وحدها ألف قذيفة وصدر الأمر بإعداد الزينات داخل المدينة وخارجها، وأُمِرَ أن يُعَدَّ مهرجان كبير يسير في موكب من أهل الحرف والصناعات كافة، ونصبت السرادقات خارج باب النصر وباب الفتوح حتى يفد عليها المهنؤون. فلما كان يوم الثلاثاء السادس والعشرون من هذا الشهر نودي على الناس بأن يزينوا الحوانيت والخانات وأبواب الدور ويشعلوا القناديل أمامها طول الليل، وأن يبذلوا من مظاهر اللعب والفرح والابتهاج ما هو جدير بأن يكافئ هذا الانتصار العظيم. واستطرد المؤرخ الجبرتي يقول: وكل ذلك مع ما كان الناس فيه من ضيق الحال، وما صاروا إليه من الكد في تحصيل المعاش، ولم يكن عند أحد من العامة ما يسرج به بيته من أي نوع من أنواع الزيت، بل إن السمن شح وجوده وصار سلعة مهربة، لا يبيع منه الزيات أكثر من أوقية لمن لا يستطيع أن يرده من عملائه، أو لمن يغليه عليه وهو آمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وأقفلت مخازن القمح أبوابها وامتنع الخبز من الأسواق، فأغاث الوالي الناس بالقمح الذي أكله السوس يباع لهم على مكاييل صغيرة، وحين شكا الشاكون من أنهم لا يجدون زيتا دفع إلى الزياتين بمقادير قليلة منه تباع للناس على قدر ما يشعلون به قناديل الأفراح في الشوارع والبيوت وقدام الحوانيت" 1. وهذا الذي قاله الجبرتي -وهو شاهد عيان- يصف به للأجيال صورة فرح زائف مفتعل وسط هم ثقيل مقيم. وما من بد في أن يكون الشعب المصري قد لقي فرجا وسط هذا التناقض، بإطلاق النكتة على طبيعته لينفس من كربه ويضحك مما هو فيه. ولكن مما يؤسف له أن المؤرخ الجبرتي لم يذكر شيئا من هذا الباب، ولعله خاف الحساب. ولقد دكت الدرعية حقا وأخذ أهلها بعقاب أليم، ولكن الذي وقع عليه العقاب فيها كان من المباني والأجساد التي تزول، والزوال من طبعها، وحتى لو لم يكن زوالها بالحديد والنار. ولكن هل زالت تلك التي سموها بالوهابية عن القلوب؟ وهل تزول حقيقة التوحيد الأبدية من النفوس التي تعرف الله أو يبطل ميراثها من جيل إسلامي بعد جيل، حتى ولو لم تبق إلا في سطور وحروف؟! والعصبية القبلية الضيقة التي تؤلف بين أفراد القبيلة مهما أوغلت عصبيتها في الشر، فهل في الإمكان أن تبيدها من النفوس حملة ظالمة تقهر وتمضي في زمن يجيء ويمضي؟ أو هل في الإمكان أن تبيد الحملات الظالمة عصبية موروثة زادتها العصبية للإسلام قوة وتمكينا؟! ومن عجيب أحكام القدر أننا نكتب هذا الكتاب في عصر زالت   1 - عجائب الآثار 7: 432. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 فيه كل دولة محمد علي وبادت من الوجود ولم تبق غير صفحات يتغير التلفيق فيها بعد التمحيص إلى صدق حقيق فتظهر سوداء كثيرة الأسواء في حين تقوم دولة للتوحيد في الجزيرة العربية ومن الدرعية ونجد ذاتها، تلك التي بدأ فيها دعوته محمد ابن عبد الوهاب، وأمراؤها هم ذرية أولئك السعوديين الذين عاهدوا شيخهم على النصرة ونصروه، وأشياخ الدولة هم ذرية الداعي والعلماء الذين تعلموا منهم حقيقة الإسلام وجوهر الإيمان. ولو استقامت الطريقة في أوانها لكان أولى الناس بالابتهاج والفرح أهل الدرعية حين قاتلوا لتجريد التوحيد وقتلوا، ولكان أولى الناس بأن يكون مخذولا كسيفا أولئك الذين قاتلوا لينقذوا الرجل المريض فقذفوا به إلى الجفير. وعادت أغاني العرس رجع نواح. توحيد الجزيرة: وقد ضمن انتصار مذهب التوحيد حين يوحد القلوب أن يوحد البلدان، ومنذ ظفر المذهب في الدرعية على يد السعودية الأولى بدأت القبائل تجتمع بعد تفرق والبلاد تتصل بعد تمزق، وكان أن توحدت أجزاء كبرى من الجزيرة تحت راية عبد العزيز بن محمد بن سعود ثم تم توحيدها تحت راية ابنه سعود بن عبد العزيز. ولم يكن في قدرة الغزاة ولا المتألبين أن يمنعوا ميل القلوب إلى التوحد إذا ظفروا حينا بتفريق الرؤساء وتمزيق البلاد، ذلك لأن تجريد التوحيد لم يكن بدعة كما ادعوا، ولكنه كان أمرا قديما في الإسلام، ولو لم يجمع محمد بن عبد الوهاب الأفكار التي نقضها والطقوس التي رفضها لكانت مجتمعة من نفسها في تفاريق القرآن والحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وما جاء الداعي للإصلاح بشيء من عنده، بل جاء بما عند المسلمين، وكان يكتفي في الباب بقليل من السطور ليس فيها كلمة ولا حرف من عنده، وإنما هي آيات أو كلمات من جوامع كلم رسول الله. فلم يكن في استطاعة إمام في الدين أو طالب يشدو في أول طلب العلم أن يرد شيئا مما قال. ولم تكد تخمد جذوة الحرب الوهابية حتى عادت الجزيرة العربية إلى التجمع والتوحد تحت راية السعودية الثانية، ولولا أن فيصلا الإمام وادع الأتراك واعترف بسيادتهم الاسمية ليتقي شرهم لوثب إلى الحجاز أو وثب إليه الحجاز. وقد ظهر أن الجيوش الغازية حين أثرت في الجزيرة العربية ونجد والدرعية بالإهلاك والتدمير -لم تستطع أن تجتث جذور الإصلاح ولا أن تذود القبائل عن اعتناق الحق والالتفاف حول آل الشيخ وآل سعود، بل ولا أن تعوق انتشار الحق عن عبور الجزيرة إلى أقصى المشارق وأقصى المغارب. وبرغم كل التدابير الإرهابية فإن الجزيرة العربية أصبحت صدرا رحيبا للمضطهدين كما انقلب المغلوبون إلى قوة سياسية عاتية كونت دولة اشتركت في إقامتها القبائل التي وقع فيها القتل والإرهاب، وكان الاضطهاد كالأساس الوطيد الذي بنيت عليه شاهقات الحصون. ثم كانت آثار العنف في هذه الحروب داعية -في الداخل- إلى الاعتدال في تطبيق المذهب -فيما بعد- تطبيقا رفيقا دون تضييع لحدود الله أو تشويه لخالص التوحيد. كما كانت داعية -في الخارج- إلى التقرب من الدولة التي جاءت لإصلاح الدين ونصرة المؤمنين. وعاد التجمع والتوحد سيرته الأولى بعد التفرق الذي حدث فيما بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 السعودية الثانية والسعودية الأخيرة، ولكنه كان هذه المرة شاملا معظم أرض الجزيرة تؤيده الدول وتشد أزره المعاهدات. ولقد مكث عبد العزيز بن عبد الرحمن -الملك فيما بعد- يغالب خصومه عشرين عاما، وكانوا خصوما ذوي قوة وعناد من العرب وحكام الحرمين والأتراك، ومرة بعد أخرى استطاع أن يقصي الأتراك عن الجزيرة كلها بمعاونة الظروف التي شغلت تركيا في حرب البلقان سنة 1330 - 1913 م. ثم استدار الملك يقضي على أطماع البدو ويعيد إلى نجد والأقاليم التي استولى عليها أمنها وسكينتها1. غير أن الحجاز ظل يناوؤه ويتربص به الدوائر، ولكن الملك السعودي اجتذب قلوب المسلمين إليه في أنحاء الأرض كافة، إذ أعلن عن تبنيه للأماني التي يرجوها المسلمون لمهبط الوحي والدين. وفي لقاء بين جنده وجند الحجاز أصيب خصومه بأفدح هزيمة في الطائف كانت بداية استيلائه على الحجاز، وسرعان ما دخل جنده والمطوعة معهم إلى مكة، ودخلوها صلحا لا عنوة، ودخلوها في خشوع، وغنموا ما نالته أيديهم، غير أنهم لم يقتلوا أحدا، ولم يهدروا دماً. وفي الثالث عشر من ربيع الثاني سنة 1343 هـ - والحادي عشر من نوفمبر سنة 1924 م أعلن الملك أنه داخل مكة لا للتسلط عليها، بل لرفع المظالم التي أرهقت كاهل العباد، وليس دخوله إلى مهبط الوحي إلا لبسط سلطان الشريعة وتأييد أحكامها2. ودخل الملك مكة في اليوم الثامن من جمادى الأولى- الخامس من ديسمبر في الشهر التالي لإعلانه، ثم دخلها خاشعا خاضعا غير متجبر ولا   1 - جزيرة العرب: 247. 2 - المرجع السابق 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 متكبر، ومن ثم دخل الحجاز كله تحت راية آل سعود وفي مذهب التوحيد، ولم يبق لغير الشرع سلطان على البلد الحرام، ووشيكا دخلت المدينة والثغران جدة وينبع فيما دخل فيه أهل جزيرة العرب فيما عدا اليمن وقليل من الأطراف1 امتداد الآمال: لقد عزي النصر كله في الدول السعودية الثلاث إلى صحة مذهب التوحيد وقوته في القلوب وبركته على العباد، ولم يكن النصر باكتساب المعارك وحسب، ولكنه كان أيضا بالانهزام فيها والصبر على ذلك الانهزام. وعزي إلى المذهب ائتلاف القلوب بعد تفرقها واجتماع البلاد بعد تمزقها، وعزي إليه رونق الجزيرة الذي عاد لها براقا أخاذا بعد عصور طويلة كانت فيها الجزيرة وأهلها أحاديث مملولة وحكايات تخيف. وعزي الزيت الذي تفجر تحت الأقدام فأغنى الجزيرة بعد فقرها وعمر البوادي بعد خرابها وشاد الدور والقصور وبنى المدارس والملاجئ والمشافي وأحدث مرافق الحياة -عزي ذلك كله إلى انتصار المذهب واعتناق الناس له، وليس ما عزي إليه بوهم ولا باطل فإن الله سبحانه يقول على لسان نوح ـ عليه السلام ـ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح الآيتان: 10-12] . ويقول سبحانه على لسان هود ـ عليه السلام ـ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً   1 - المرجع السابق: 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52] . وقوله تعالى في أهل الكتب السماوية جميعا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة من الآية: 66] . ولقد استوى لأهل نجد كافة حين انتصروا بإخلاصهم للدين وتفانيهم في نصرته والاستشهاد في سبيله أن الله لم يمكن لهم من الملك إلا بما أخلصوا وعملوا، وقد تمت لهم الثقة بأنه لن يدوم لهم هذا النصر والتمكين إلا إذا جعلوا للتوحيد سلطانه الأقوى دون أن يشاب بشرك كبير أو صغير. وما من نصر فازوا به منذ محمد بن سعود إلى عبد العزيز بن عبد الرحمن وفيما بينهما ومن بعدهما إلا أشاروا إلى سببه الديني في كل خطبة وكتاب وكل تقرير. ويرون أن الله1 لم يصب آباءهم وبلادهم بما كان من عذاب وشقاء إلا من التهاون في أمر الدين، ومن أجل ذلك مكن الأمراء لشيوخ الدين من حولهم، وسمعوا لنصائحهم وأصغوا لوصاياهم ونفذوا ما يشيرون به ما وجدوا لتنفيذه سبيلا، يسدون بذلك كل ثلمة، ويفتحون به كل باب لإعلاء كلمة الله. ولم يقتصر نفع الرزق الذي فاض في الجزيرة على أهل الجزيرة بل تعداها إلى المواطن العربية والإسلامية، فانتفع به المعلمون والأطباء والخبراء من كل صنف، وكان مال الجزيرة عدة في كثير من النكبات التي تصيب العرب أو المسلمين، فلم تتأخر عنهم يد المعونة لمسح الدموع والأحزان، وبذلك باتت الأرض السعودية أملا ومقصدا دنيويا كما كانت الحجاز أملا ومقصدا أخرويا.   1 - جزيرة العرب: 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 والأمل الذي تحقق من دعوة التوحيد في داخل الجزيرة ما لبث أن امتد واستعرض فلم يقتصر عليها بل عبروا إلى معظم أقطار المسلمين في الشرق وفي الغرب، وكان موسم الحج في إبان الدعوة وبعدها سوقا رائجة لعرض الدعوة على حجاج الآفاق فإذا عادوا إلى بلادهم دعوا الناس إليها. وبرغم ما دس على الدعوة من التشويه فقد صارت الأيام تفصح عن حقيقتها بأنها إنما قامت لرتق الفتوق ونسخ الشبهات وإبطال الأوهام1. وبهذه القوة المدخرة فيها والمنبثقة عنها أمكنها أن تشعل ثورات أخرى للإصلاح في معظم البقاع. ففي جبهات الشرق قامت دعوة شريعة الله وسيد أحمد في بنجاب الهند ضد المغول والسيخ والبريطانيين، وكان هذا الزعيم الأخير قد أتى موسم الحج في سنة 1822 م وسمع صوت الدعوة فاستجاب له وعاد إلى بلاده حربا عوانا على البدع والخرافات والتقليد، وأنشأ في البنجاب شبه دولة وهابية لم تنقرض حتى تعرض لها الإنجليز فأخضعوها بعد جهد جهيد، ثم استمرت الدعوة في الذين سموا أنفسهم أهل الحديث، والذين ساهم أعداؤهم هناك بالوهابيين لتشابه الدعوتين2. كما امتد نفوذ الحركة الوهابية إلى قلب سومطرة3. وفي باكستان قامت حركة (إقبال) التي دعا فيها إلى الإصلاح والتجديد والسير في ركاب العلم من غير خروج عن إطار الدين، بل الدين يحوي في داخله كل ما يحث على العلم ويحض على تحصيله والتوسع فيه. ولم تتعرض دعوة محمد بن عبد الوهاب إلا للبدع والأوهام التي شغلت الناس عن العلم وأبعدتهم من الحقائق. ومحمد إقبال وإن كان في تفاصيل دعوته   1 - محمد بن عبد الوهاب: 124 من حاضر العالم الإسلامي 1: 264. 2 - دائرة المعارف 5: 143. 3 - الاتجاهات الحديثة في الإسلام: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 لم يكن كالوهابيين فإنه لم يخرج عما أراده ابن عبد الوهاب من النور الذي يبدد الظلمات. ثم كانت في الشرق كله دعوة جمال الدين الأفغاني، وهي إن لم تكن وليدة الوهابية فإن الوهابية مهدت لها وشجعت النفوس. وكذلك كانت الأفغانية في تفاصيلها غير الوهابية ولكنها في طبيعتها لم تخرج عنها، بل رجعت مثلها إلى عوالي الدين وانحصرت في إطار الفكر السامي للإسلام. ومن بعد جمال الدين قام تلميذه محمد عبده ومن حوله تعاليم ابن عبد الوهاب تملأ الجو فنبهته إلى الرجوع إلى بداية الإسلام، ثم أداه اجتهاده إلى أن يسير في طريق ابن عبد الوهاب فيحارب البدع وفساد العقيدة ثم يفتح باب الاجتهاد ويحل الفكر من التقليد والجمود في دائرة المعارف السلفية، وعمل على إصلاح الأساليب الغريبة في التحرير، ثم كان من دعاة التأليف بين الحاكم والمحكوم فللحاكم الطاعة وللمحكومين العدالة، ولا يسود المجتمع إلا بهما1. وفي اليمن ظهر أعلم أئمته الإمام الشوكاني المولود في سنة 1172 هـ والمتوفى سنة 1250 هـ فكانت حياته في إثر الدعوة الوهابية واشتعالها فسار على نهج التوحيد الخالص وإن لم يتلقه عن ابن عبد الوهاب2. وأما في إفريقية الغربية فقد قامت حركات للإصلاح تأثرت بالفكر الوهابي وبما تأثر به المذهب من مدرسة ابن تيمية وابن القيم، وكان منها حركة الإصلاح التي قام بها عثمان بن محمد بن فودي حيث أسس نهضة دينية في القرن الهجري الثالث عشر وهو القرن الذي اشتدت فيه حركة التوحيد، وبلغت آثار الوهابية إلى نيجريا.   1 - أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث: 157. 2 - زعماء الإصلاح: 18 إلى 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وقد صنف ابن فودي نحوا من نيف وعشرين كتابا كان منها كتاب "إحياء السنة وإخماد البدعة" وقد أوجب هذا المصلح في كتابه هذا فصل الآراء الدخيلة على الإسلام عن آرائه الأصيلة فسلك طريقا ميسرة واضحة، فبين للناس حقيقة السنة وباطل البدعة في كل باب من أبواب الفقه كاشفا عن الأصل الذي هو السنة وما طرأ عليه من الابتداع1. وبانتشار المبادئ التي قامت بالدعوة إليها هذه الحركات الإصلاحية نشط زعماء المذهب السلفي في بلاد الأمة الإسلامية كلها في آسيا وإفريقية. وقد لقيت كل هذه الحركات اضطهادا وعنادا من المسلمين ومن أعدائهم، ولكنها ما لبثت أن انتصرت وقامت عليها دول وأشباه لها من قوة الرأي وسداد الحكم وحسن السلوك. وقد امتاز بعض هذه الدعوات بامتشاق الحسام، وذلك من شدة تأثيره وامتلاكه للنفوس والتقائه بالأقوياء الذين استطاعوا أن يبسطوا أيديهم لنصرة الحق وتأييد الدين، بل ربما كان السلاح أحيانا نوعا من الرفق إذا ما حصل به الداعي نصرا للحق وإزهاقا للباطل2. ولم تنته بعد آمال النفوس في أن ينتصر الدين وينتصر أهله حتى يعود للمسلمين ما كانوا فيه من قوة ومنعة، وليس بعد الإسلام من دين تحق له النصرة، وليس بعد إسعاده للناس من يد تمتد للخير والنفع والإسعاد، لكل العباد.   1 - انظر كتاب إحياء السنة وإخماء البدعة - الاتجاهات الحديثة في الإسلام: 55. 2 - انظر فصل البعث الجديد في إحياء السنة بكتاب شيخ الإسلام أحمد بن حنبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 مصادر ومراجع مراجع الكتاب 1- أربع القواعد: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، المنار مجموعة رسائل، القاهرة 1340هـ. 2- التوحيد: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، مكتبة المشهد الحسيني القاهرة. 3- ثلاثة الأصول وأدلتها: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، المنار مجموعة رسائل، القاهرة 1340. 4- شروط الصلاة: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، المنار مجموعة رسائل، القاهرة 1340هـ 5- كشف الشبهات: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، المنار مجموعة رسائل، القاهرة 1340هـ. 6- آداب الشافعي ومناقبه: ابن أبي حاتم الرازي، مكتب نشر الثقافة الإسلامية مكتبة الخانجي، القاهرة 1372هـ. 7- الاتجاهات الحديثة في الإسلام: هـ. ا. جيب، ترجمة المكتب التجاري، بيروت 1961م. 8- إحصاء العلوم: الفارابي، دار الفكر العربي، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 9- أحمد بن حنبل إمام أهل السنة: عبد الحليم الجندي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة 1395هـ. 10- الأحكام السلطانية: ابن أبي يعلى الفراء، البابي الحلبي، القاهرة. 11- الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الأندلسي، مطبعة الإمام القاهرة. 12- إحياء السنة وإخماد البدعة: عثمان بن محمد بن فودي، المشهد الحسيني، القاهرة. 13- أسد الغابة في. معرفة الصحابة: ابن حجر العسقلاني، كتاب الشعب، القاهرة. 14- أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث: أحمد تيمور، لجنة نشر المؤلفات التيمورية، القاهرة. 15- الإمام الأوزاعي: عبد العزيز سيد الأهل، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة. 16- أيام صلاح الدين: عيد العزيز سيد الأهل، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة. 17- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان، ترجمة منير البعلبكي ونبيه فارس، دار العلم للملايين، بيروت. 18- تاريخ العرب العام: ل. ا. سيديو، ترجمة عادل زعيتر، البابي الحلبي، القاهرة. 19- تاريخ الحرب المطول: يوسف حتي، الترجمة العربية، دار العلم للملايين، بيروت. 20- تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي، مكتبة الخانجى، القاهرة. 21- تفسير القرآن العظيم: الحافظ ابن كثير، كتاب الشعب، القاهرة. 22- جزيرة العرب في القرن العشرين: حافظ وهبة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 23- جمال الدين الأفغاني: محمود أبو رية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة. 24- الحسبة في الإسلام: تقي الدين ابن تيمية، دار الكتب العربية، دمشق. 25- من حضارة الإسلام: عبد العزيز سيد الأهل، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة. 26- الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز: عبد العزيز سيد الأهل، دار العلم للملايين، بيروت. 27- دائرة المعارف الإسلامية، أئمة المستشرقين الترجمة العربية، كتاب الشعب، القاهرة. 28- الدولة الحديثة وسقوطها: يوليوس ولهاوزي، ترجمة يوسف العش مطبعة الجامعة السورية، دمشق. 29- الذيل على طبقات الحنابلة: ابن رجب، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة. 30- روح الإسلام: سيد أمير علي، ترجمة عمر الديراوي، دار العلم للملايين، بيروت. 31- رياض الصالحين: الإمام النووي مختارات، المشهد الحسيني، القاهرة. 32- زعماء الإصلاح: أحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر: القاهرة. 33- كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك: المقريزي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1908م. 34- الشرق الإسلامي في العصر الحديث: د. حسين مؤنس، المكتبة التجارية، القاهرة. 35- الشفا بتعريف حقوق المصطفى: القاضي عياض، المشهد الحسيني، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 36- شيخ الأمة أحمد بن حنبل: عبد العزيز سيد الأهل، دار العلم للملايين، بيروت. 37- صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري، كتاب الشعب، القاهرة. 38- ضحى الإسلام: أحمد أمين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة. 39- ظهر الإسلام: أحمد أمين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة. 40- عجائب الآثار، عبد الرحمن الجبرتي، لجنة البيان العربي، القاهرة. 41- العرب في التاريخ، برنارد لويس ترجمة نبيه فارس ومحمود زايد دار العلم للملايين، بيروت 1954. 42- عصر محمد علي: عبد الرحمن الرّافعي، مكتبه النهضة المصرية، القاهرة. 43- عنوان المجد في تاريخ نجد: عمان بن بشر، مكة. 44- القسطاس المستقيم: أبو حامد الغزالي، سلسلة الثقافة الإسلامية، القاهرة. 45- القصيدة النونية: ابن القيم شرح الهراس، مطبعة الإمام، القاهرة. 46- فتح المجيد: عبد الرحمن بن حسن حفيد الإمام، المطبعة السلفية القاهرة 1347هـ. 47- لمع الشهاب: مؤلف مجهول، دار الثقافة، بيروت. 48- المجازات النبوية: الشريف الرضي، البابي الحلي، القاهرة. 49- محمد بن عبد الوهاب (أ) : عبد الكريم الخطيب، دار الباب العربي القاهرة. 50- محمد بن عبد الوهاب (ب) : أحمد عبد الغفور عطار، مطابع دار العلم للملايين، بيروت. 51- محمد بن عبد الوهاب (ج) : أمين سعيد،، بيروت. 52- المدخل: ابن الحاج، المكتبة التجارية، القاهرة 1348هـ. 53- المدخل إلى مذهب أحمد: ابن بدران الدمشقي، المكتبة التجارية، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 54- مسند أحمد، أحمد بن حنبل الإمام، المكتب الإسلامي، بيروت. 55- معجم البلدان: ياقوت الحموي، دار بيروت، بيروت. 56- مفرج الكروب: ابن واصل، وزارة التربية والتعليم، القاهرة. 57- مناقب الإمام أحمد: ابن الجوزي، مكتبة الخانجي، القاهرة. 58- النجوم الزاهرة: أبو المحاسن، دار الكتب المصرية، القاهرة. 59- نهاية الأرب (معجم القبائل) : القلقشندي، مطبعة مصر، القاهرة. 60- وفيات الأعيان- ابن خلكان، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة. 61- الوهابية وزعيمها: مقال لمعالي الأستاذ حسن عبد الله آل الشيخ وزير المعارف بالسعودية (مجلة العربي- الكويت) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150