الكتاب: خبر الواحد وحجيته المؤلف: أحمد بن محمود بن عبد الوهاب الشنقيطي الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1422هـ/2002م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- خبر الواحد وحجيته أحمد بن عبد الوهاب الشنقيطي الكتاب: خبر الواحد وحجيته المؤلف: أحمد بن محمود بن عبد الوهاب الشنقيطي الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1422هـ/2002م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] خبر الواحد وحجيته تأليف: أحمد بن محمد عبد الوهاب الشنقيطي ال مقدمة الحمد لله الكريم المنان. المتفضل على عباده بعظيم الالآء والإحسان. جلت نعمه عن العدّ والإحصاء فكان من أعظمها أن هدى المؤمنين إلى الإيمان به، وخصّ الأمّة الإسلامية بعلم الإسناد، فكان من علمائها الجهابذة الحفاظ والنقاد الذين ذبوّا عن السنة المطهرة منذ فجر الإسلام، بالتآليف التي حفظتها من الزيادة والنقصان. فحفظها الله بهم مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. أحمده سبحانه أجل الحمد وأعظمه على نعمه المتوالية والتي من أجلّها نعمة الإيمان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ننجو بها من سخطه وننال بها رضاه. وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله إلى النّاس كافة أنزل عليه القرآن، وأمره بتبيينه للناس في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2 فبينه أتم بيان، فكمل بذلك دستور الأمة الإسلامية، الذي اختاره الله لأن يكون الدستور الخالد إلى يوم القيامة. وأمره بتبليغ ما أرسل به إلى الناس كافة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ   1 سورة الحجر آية: 9 2 سورة النحل آية: 44 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 1 فبلّغ كما أمره الله بنفسه وبرسله أتمّ بلاغ، وأقام على الناس بذلك الحجة في الجمع العظيم واليوم العظيم والمكان العظيم، وأمرهم أن يبلغوا عنه بقوله: "ليبلغ الشاهد الغائب" 2 صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، فكانوا سادة الدنيا، وأئمة الهدى، ونقلة وحيه إلى من بعدهم. وبعد: فلعل من توفيق الله لي أن هيأ لي أسباب إتمام الدراسة بعد أن انقطعت للتدريس سنين. فكان أن طلب مني تقديم موضوع رسالة الماجستير، فوقع اختياري على خبر الواحد وحجيته، فرأيته مناسباً. ذلك أني طالما سمعت بعض العلماء أثناء دراستي، وخارجها يمنع الاحتجاج به في العقائد، ويعيب على من يحتج به في إثباتها بدعوى أنه لا يفيد إلا الظن، وأن العقائد لا تثبت إلا بما يفيد القطع. مما جعلني أفكر طويلاً في هذا القول، وأسأل عن خبر الواحد ما هو؟ فأجاب بأن المراد بخبر الواحد هنا هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ليست متواترة.   1 سورة المائدة آية: 67 2 صحيح البخاري: 1/ 26-27، في كتاب العلم باب رب مبلغ أوعى من سامع من حديث أبي بكرة، وأخرجه أيضاً في ج 206/2 في كتاب الحج باب الخطبة أيام منى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ويعود السؤال مرة أخرى: كم نسبة خبر الواحد في السنة؟ فأجاب مرة أخرى بأن السنة المتواترة في نظر الأصوليين، يعز وجودها، إذ منهم من يرى عدها على الأصابع. ثم أعود فأسأل مرة أخرى هل هناك أحاديث خاصة بالعقائد دون الأحكام، أم أن الحديث الواحد قد يتضمن عقيدة وحكماً معاً؟ وإذا كان يتضمنهما معاً، فما حكم العمل به؟ فأجاب بأنه كثيراً ما يتضمن الحديث الواحد حكماً وعقيدة، وأنه حينئذ يعمل بالحديث فيما تضمنه من أحكام دون عقائد. فأعود للسؤال، وأقول لماذا فرق بين مدلولات الحديث الواحد في العمل بها، حيث يعمل ببعضها دون بعض؟ فيقال: إن العمل بخبر الواحد في الأحكام ثابت بدليل قطعي. أما العقائد فلا تثبت إلا بما يفيد القطع، وخبر الواحد إنما يفيد الظن. فرأيت صلاحية الموضوع للبحث، ودعتني الرغبة في الوقوف على أقوال العلماء، والإطلاع على أدلتهم، وأسباب خلافهم، ومعرفة أيهم أسعد بالدليل على خوض غمار البحث رجاء أن أكون ممن يخدم السنة المطهرة، والأمة المحمدية. والبحث وإن كان في السنة، إلا أنني بحثته من الناحية الأصولية فقط، لأن السنة هي: المصدر الثاني بعد كتاب الله لإثبات الأحكام الشرعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وقد أخذت طريقة في البحث رأيت أنها توصل إلى الغاية التي أردت. وهي: أنني أستعرض آراء العلماء وأدلتهم، وما ورد عليها من اعتراضات وإجابات عن تلك الاعتراضات مع مناقشتها وترجيح ما ظهر لي رجحانه بالدليل كل ما رأيت ذلك مناسباً، وربما تركت الترجيح في موضع لاتحاده مع الذي بعده تقليلاً للتكرار الممل. ورأيت أن الدليل الذي يحسم النزاع إنما هو الكتاب، أو السنة، أو الإجماع القطعي. على أنني أحياناً أذكر رأي كل طرف، ثم أتبعه برأي الطرف الآخر، ثم أذكر دليل كل من الطرفين وما ورد عليه من اعتراضات وإجابات مرتبة بعد ذلك. وأحياناً أتبع الدليل بالاعتراضات الواردة عليه والإجابة عنها، دفعاً للسآمة عن القارئ مما قد يصيبه من إتباع طريقة واحدة. وهنا ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن الموضوع مشتبك العناصر والأدلة، لأن كل دليل يستدل به لأي عنصر من عناصره يكاد يكون هو عين دليل العنصر الآخر مما اضطرني إلى التكرار، ولم أكن بدعاً في ذلك، بل إنما أنا متبع، وواقع الموضوع يفرض ذلك. ثم إن الموضوع وإن كان قد قيل لي: إنه قد كتب فيه غير أنني ما عثرت على غير المراجع المعتمدة التي أحلت عليها في محالها. وقد قسمت هذا البحث إلى تمهيد وبابين وخاتمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أما التمهيد فهو يشتمل على ما يأتي: 1- حقيقة الخبر عند العلماء، وأقسامه. وقد بينت فيه تعريف الخبر لغة واصطلاحاً عند العلماء، والأنواع التي ينحصر فيها من حيث الصدق والكذب، ورأي الجاحظ في ثبوت الواسطة وأقسامه التي علم صدقها، أو علم كذبها، والتي لم يعلم صدقها ولا كذبها. 2- السنة لغة وشرعاً. وقد عرفتها لغة وشرعاً، وأشرت إلى الفرق بين اصطلاحات العلماء في تعريفها. 3- أقسامها باعتبار ذاتها، بينت فيه أن من العلماء من قسمها إلى: قول وفعل، ولم ير التقرير قسماً لدخوله في الفعل، وأن البعض الآخر رأى أنه قسم ثالث. 4- منزلتها من القرآن، ذكرت فيه أنواعها معه من حيث الاتفاق والبيان، والاستقلال بتشريع ما لم يتعرض له نفياً أو إثباتاً، وخلاف العلماء في ذلك. 5- تقسيم الخبر إلى: متواتر وآحاد. ذكرت فيه أن من العلماء من رأى القسمة ثنائية: متواتر، وآحاد، ومنهم من زاد قسماً ثالثاً هو المشهور، وأنه جعله واسطة بين المتواتر والآحاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الباب الأول: فيما يفيده خبر الواحد، وفيه ثلاثة فصول: الأول: في أن خبر الواحد العدل، إنما يفيد الظن فقط. وقد ذكرت فيه أدلة القائلين بذلك وما ورد عليها من اعتراضات وإجابات. الثاني: في إفادته العلم. وقد استعرضت فيه آراء وأدلة القائلين بذلك وما ورد عليها من اعتراضات أيضاً. الثالث: في إفادته العلم إذا احتف بالقرائن. وسلكت فيه نفسه الطريقة السابقة. ثم ختمت الباب بذكر ثمرة الخلاف. الباب الثاني: في حكم العمل به، وفيه سبعة فصول: الأول: في وجوب العمل به. الثاني: في ذكر أدلة منكري العمل بخبر الآحاد، والرد عليها. الثالث: في العمل بخبر الواحد في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية. الرابع: حكم قبول خبر الواحد العدل في الحدود. وقد استعرضت فيها أدلة كل طرف وما ورد عليها من اعتراضات وإجابات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الخامس: خبر الواحد وعمل أهل المدينة. تعرضت فيه لبيان عمل أهل المدينة وأقسام ذلك العمل، وبينت محل الاتفاق والاختلاف. السادس: خبر الواحد فيما تعم به البلوى. السابع: إذا خالف الراوي مرويه. بينت أدلة وآراء العلماء في كل من الفصلين الأخيرين، وفي الثاني أنه الدليل المخالف من حيث الإجمال والظهور والنص. خاتمة في نتائج البحث: ضمنتها بعض ما توصلت إليه من نتائج. هذه هي عناصر البحث التي بحثتها، فأرجو من الله أن أكون قد وفقت فيما أردت، وأن يجعله وسيلة إلى مرضاته إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على سيّدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 تمهيد ... تعريف الخبر لغة: الخبر لغة: النبأ، وجمع الخبر أخبار، وجمع الجمع أخابير. وأما قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} 1 فمعناه: يوم تزلزل تخبر بما عمل عليها. والخَبَار أرض رخوة تتعتع فيها الدواب، قال الشاعر: تتعتع في الخبار إذا علاه ... ويعثر في الطريق المستقيم وفي المثل: من تجنب الخبار أمن العثار"2. قال الشوكاني: "الخبر مشتق من الخبار كسحاب، وهي الأرض الرخوة، لأن الخبر يثير الفائدة، كما أن الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه، وهو نوع مخصوص من القول، وقِسم من الكلام اللساني، وقد يستعمل في غير القول، كقول الشاعر: تخبرك العينان ما القلب كاتم وقول المعرى: نبي من الغربان ليس على شرع ... يخبرنا أن الشعوب إلى صدع ولكنه استعمال مجازي لا حقيقي، لأن من وصف غيره بأنه أخبر بكذا لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول"3.   1 سورة الزلزلة آية: 4 2 لسان العرب لابن منظور أبي الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم 4/227-228، بيروت للطباعة والنشر، سنة 1374هـ –1955م. 3 إرشاد الفحول للشوكاني محمّد بن علي ص: 42، الطبعة الأولى 1356هـ – 1937م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، وأولاده بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الخبر في الاصطلاح عند العلماء اختلف العلماء في حد الخبر، فذهب بعضهم إلى أنه لا يحد، والبعض الآخر إلى أنه يحد، والقائلون بحده اختلفوا في تعريفه، حيث عرفته كل طائفة بما لم تعرّفه به الطائفة الأخرى. وها أنا أذكر أهمّ ذلك فيما يلي: الخبر عند القائلين بأنه لا يحد: قالوا: لا يحد لعسره، ويحتمل أن يكون لوضوحه، لأن توضيح الواضحات من المشكلات1. أو لأنه ضروري. واستدل لذلك من وجهن: الأول: أن كل أحد يعلم أنه موجود، وهذا خبر خاص، وإذا كان الخبر المقيد ضرورياً، فالخبر المطلق الذي هو جزؤه أولى بأن يكون ضرورياَ. واعترض على هذا بأمرين: أحدهما: أن الاستدلال على كونه ضرورياً ينافي كونه ضرورياً، لأن الضروري لا يقبل الاستدلال2.   1 المختصر لابن الحاجب أبي عمر عثمان بن عمر مع شروحه2/45، وحاشية العطار على المحلى على جمع الجوامع للشيح حسن العطار:2/137. 2 المختصر لابن الحاجب: 2/45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الآخر: أنه وإن سلم أن مثل هذه الأخبار الخاصة معلومة بالضرورة، فلا يلزم أن يكون الخبر المطلق من حيث هوخبركذلك، لأن الخبر المطلق أعم من الخبر الخاص، فلو كان جزءاً من معنى الخبر الخاص، لكان الأعم منحصراً في الأخص، وهو محال1. الثاني: أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر، ولولا العلم بذلك ضرورة لما كان كذلك. وأجيب عنه بأن العلم الضروري إنما هو واقع بالتفرقة بين ما يحسن فيه بيان الأمر، وبيان ما يحسن فيه الخبر بعد معرفة الأمر والخبر، أما قبل ذلك فهو غير مسلم2. وإذا سلم أن العلم بمعناه غير ضروري، فقد أجمع الباقون على أن العلم بمفهوم الخبر إنما يعرف بالحد والنظر، وإن اختلفوا فيه3.   1 نفس المصدر 2/45 فما بعدها، الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي الآمدي: 2/4 فما بعدها. 2 الإحكام للآمدي: 2/4-5، المختصر مع شرحه وحواشيه: 2/46. 3 انظر: الإحكام للآمدي: 2/6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 حد الخبر عند الأصوليين قالت المعتزلة: إن الخبر هو: " الكلام الذي يدخله الصدق والكذب " واعترض على تعريفهم هذا من أربعة أوجه: الأول: أنه يرد عليه خبر الله تعالى، لأنه لا يتصور فيه دخول الكذب. وأجاب عنه القاضي عبد الجبار1 بأن المراد دخوله لغة، بحيث لو قيل فيه صدق أو كذب لم يخطأ لغة، وكل خبر كذلك، وإن امتنع صدق البعض أو كذبه. ورد هذا الجواب بأن الصدق لغة الخبر الموافق للمخبر به، والكذب الخبر المخالف للمخبر به، وبهذا عرفهما أهل اللغة، فهما لا يعرفان إلا بالخبر فتعريف الخبر بهما دور. الثاني: أن ما قالوه منقوض بقول القائل محمد صلى الله عليه وسلم، ومسيلمة صادقان في دعوى النبوة، فهذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب، إذ لو   1 هو: القاضي عبد الجبار بن أحمد بن خليل الهمذاني، إمام في وقته، الأصولي المتكلم، صاحب التصانيف الكثيرة في أصول الفقه العمد الذي شرحه تلميذه أبو الحسن البصري المعتزلي المعروف بالعمدة في أصول الفقه، وله المغني والتفسير الكبير، وغيرها، اختلف في وفاته فقيل: 415، وقيل: 416هـ. انظر: القاضي عبد الجبار للدكتور عبد الكريم عثمان، دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيورت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 قيل: إنه صدق لكان مسيلمة صادقاً، ولو قيل: إنه كذب لكان محمد صلى الله عليه وسلم كاذباً1. وأجاب أبو هشام2 "بأن هذا الخبر جار مجري خبرين: أحدهما خبر بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، والآخر بصدق مسيلمة، والخبران لا يوصفان بالصدق ولا الكذب، فكذلك ههنا، وإنما الذي يوصف بالصدق والكذب الخبر الواحد من حيث هو خبر. وليس بحق فإنه إنما ينزل منزلة الخبر من حيث إنه أفاد حكماً لشخصين، وهو غير مانع من وصفه بالصدق والكذب، بدليل الكذب في قول القائل: كل موجود حادث، وإن كان يفيد حكماً واحداً لأشخاص متعددة"3. الثالث: أن تعريف الخبر بما يدخله الصدق والكذب، يؤدي إلى الدور لما تقدم أن الصدق لغة الخبر الموافق للمخبر به، والكذب الخبر   1 انظر: الإحكام للآمدي: 2/6 فما بعدها، المختصر مع شرحه العضد له: 2/47، وإرشاد الفحول ص: 42 فما بعدها. 2 هو: عبد السلام بن محمّد بن خالد بن حمدان بن أبان مولى عثمان كنيته أبو هاشم، ولقبه الجبائي، متكلم فيلسوفي، معتزلي، وله آراء في الأصول خاصة به كقوله: "إن الأمر لا يوجب الأجزاء" له مؤلّفات منها: الجامع الكبير، وكتاب الاجتهاد، توفي سنة: 321هـ ببغداد. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين: 1/173. 3 الإحكام للآمدي: 2/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 المخالف للمخبر به، وبهذا عرفهما أهل اللغة، فلا يعرفان إلا بالخبر، فتعريف الخبر بهما دور. وأجاب القاضي عنه "بأن الخبر معلوم لنا، وما ذكرناه لم نقصد به تعرِيف الخبر، بل فصله وتمييزه عن غيره، فإذا عرفنا الصدق والكذب بالخبر فلا يكون دوراً". ورد بأن تمييز الخبر عن غيره إنما يكون بالنظر إلى الصدق والكذب. فتمييز الصدق والكذب بالخبر يوجب توقف كل واحد من الأمرين في تمييزه عن غيره على الآخر، وهو عين الدور. ولذا قال ابن الحاجب ولا جواب عنه1. الرابع: أن الصدق والكذب متقابلان، والواو للجمع، فيلزم الصدق والكذب معاً، وذلك محال، فيلزم أن لا يوجد خبر. وأجيب عنه "بأن المحدود إنما هو جنس الخبر، وهو قابل لدخول الصدق والكذب فيه، كاجتماع السواد والبياض في جنس اللون. ورد بأن الحد وإن كان لجنس المحدود، فلابد وأن يكون الحد موجوداً في كل واحد من آحاد الأخبار، وإلا لزم وصف الخبر دون حد الخبر، وهو ممتنع"2.   1 نفس المصدر 2/6 فما بعدها، والمختصر مع العضد 2/47. 2 الإحكام للآمدي 2/6 فما بعدها، والمختصر مع شرحه 2/45 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وقال أبو الحسين1 البصري:" الأولى أن نحده بأنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفياً أو إثباتاً"2. وقيده بنفسه احترازاً عن الأمر المقتضى لوجوب الفعل لا بنفسه، بل بواسطة ما اقتضاه من طلب الفعل. ورد بأنه منتقض بالنسب التقييدية فيما لو قيل: حيوان ناطق، فإنه أفاد بنفسه إثبات النطق للحيوان، مع أنه ليس بخبر. فإن قال: إن هذا ليس بكلام، وأنه قيد الحد بالكلام. أجيب بأن ما ادعاه لا يصح، لأن حد الكلام هو: "ما انتظم من الحروف المسموعة المميزة من غير اعتبار قيد آخر، وحد الكلام بهذا الاعتبار متحقق في هذا، فكان من أصله كلاماً"3. وعرفه القرافي4بأنه هو: "المحتمل للتصديق والتكذيب لذاته"، وقيده بقوله: لذاته احترازاً من تعذر الصدق والكذب لأجل المخبر عنه،   1 هو: محمّد بن عليّ بن الطيب البصري المعتزلي، أحد أئمة المعتزلة، كان يشار إليه بالبنان في أصول الفقه والكلام، ولد بالبصرة ونشأ بها، له تصانيف كثيرة منها: كتاب المعتمد في أصول الفقه المطبوع، توفي سنة: 436هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي 1/137. 2 المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري 2/544. 3 انظر: الإحكام للآمدي 2/9، مع تصرف. 4 هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن أبو العباس شهاب الدين الصنهاجي، القرافي، له تصانيف منها: الذخيرة، وشرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول، والفروق. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/86، والإعلام للزركلي 1/90، الطبعة الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 كخبر الله تعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وخبر مجموع الأمة، أو ما علم صدقه بالضرورة. قال: "لكن جميع هذه الأخبارات بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن المخبر به، والمخبر عنه، تقبلهما من حيث هي أخبار"1. واعترض عليه من وجهين: الأول: أن تعريف الخبر بالتصديق والتكذيب، يستلزم الدور، لتوقف التصديق والتكذيب على معرفة الصدق والكذب، المتوقف على معرفة الخبر، وقد تقدم ما فيه من الدور2. الثاني: أنما ذكره من قبول تلك الأخبار للتصديق والتكذيب من حيث هي أخبار مقتضاه أن خبر الله تعالى من حيث هو خبر يقبل الكذب لذاته، وهذا ليس بصحيح، لأن خبر الله تعالى لا يقبل الكذب بحال3.   1 انظر: الفروق للقرافي 1/18-19، والمختصر مع شرح العضد له 2/48، وإرشاد الفحول ص: 43. 2 الإحكام للآمدي 2/9. 3 انظر: حاشية ادرار الشروق على أنواء الفروق لأبي القاسم قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط 1/19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قال الآمدي1 "والمختار فيه أن يقال: الخبر عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها"2. فقيده باللفظ، لأنه كالجنس للخبر وعده من أقسام الكلام، ويمكن أن يحترز به عن الخبر المجازي، وبالدال، احترازاً عن اللفظ المهمل، وبالوضع احترازاً عن اللفظ الدال على جهة الملازمة، وبقوله: على نسبة عن أسماء الأعلام، وعن كل ما ليس له دلالة على نسبة، وبمعلوم إلى معلوم، حتى يدخل فيه الموجود والمعدوم، وبقوله: سلباً وإيجاباً، حتى يعم مثل نحو "زيد في الدار، ليس في الدار"، وبقوله: يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام احترازاً عن اللفظ الدال على النسب التقييدية، وبقوله: مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها، احترازاً عن صيغة الخبر المراد بها غير الخبر، كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ   1 هو: عليّ بن أبي عليّ بن سالم التغلبي، الملقب بسيف الدين الآمدي المكنى بأبي الحسن، الفقيه الأصولي، ولد سنة: 551هـ، له مؤلّفات منها: الإحكام في أصول الأحكام، ومنتهى السول، وغيرهما. توفي سنة: 631هـ بدمشق. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/57-58. 2 الإحكام للآمدي 2/9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أَوْلادَهُنَّ} 1 وقوله جل شأنه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} 2 ونحو ذلك، حيث إنه لم يقصد به الدلالة على النسبة ولا سلبها3.   1 سورة البقرة آية: 233. 2 سورة البقرة آية: 228. 3 انظر: تفاصيله في الإحكام للآمدي 2/9-10، مع تصرف واختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 تعريف الخبر عند علماء البلاغة: الخبر هو: الكلام الذي له نسبة1 تامة2 خارجية، تطابق ذلك الكلام في الخارج، بأن يكونا ثبوتيين، أو سلبيين، أولا يطابقه، بأن تكون النسبة المفهومة من الكلام ثبوتية، والتي بينهما في الخارج والواقع سلبية أو بالعكس. ويكون تاما بحيث يحسن السكوت عليه. فإن لم يكن له نسبة في الخارج تطابقه، فهو الإنشاء3. والذي أراه والله تعالى أعلم- أن هذا التعريف سالم من الاعتراضات، اللهم إلا أن يقال: إن الكلام غير مقيد باللفظ، وهو وإن كان حقيقياً في اللفظ إلا أنه يطلق على غيره مجاراً، وهذا الاعتراض وارد لو لم يصرح التفتازاني في التفريق بين الخبر والإنشاء بما يدفعه، وهو قوله: "إن الكلام إما أن يكون له نسبة بحيث تحصل من اللفظ … " إلخ4. فأنت تراه صرح هنا   1 لأن النسب ثلاثة: كلامية، ذهنية، وخارجية، فلو قلت: زيد قائم فثبوت القيام لزيد يقال له: نسبة كلامية باعتبار فهمه من الكلام، وذهنية باعتبار ارتسامه في الذهن وحضوره فيه، ونسبة خارجية باعتبار حصوله في نفس الأمر اهـ من حاشية الدسوقي على التفتازاني على تلخيص المفتاح 1/164. 2 احترازاً عن الناقصة كالتقييدية، والتوصيفية، نحو غلام زيد، والحيوان الناطق، فلا يشتمل عليها الكلام، ولا يدل عليها، اهـ من حاشية الدسوقي على التفتازاني على تلخيص المفتاح 1/164. 3 انظر: تفاصيله في شرح التلخيص 1/163-166. 4 نفس المصدر 1/167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 بأن الكلام مقيد باللفظ، مع أنه لو لم يذكر هذا، لكان الاعتراض مدفوعاً بأن الأصل الحقيقة، إذ لا يعدل عنها إلا بدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 تعريف الخبر عند النحويين عرف النحويون الخبر بأنه هو الجزء الذي تحصل الفائدة به مع المبتدأ غير الوصف، فخرج فاعل الفعل، لأنه ليس مع المبتدأ، وخرج فاعل الوصف الذي يسد مسد الخبر. وقد عرفه ابن مالك في ألفيته وبين أنواعه بقوله: والخبر الجزء المتم الفائدة ... كالله بَرٌّ والأيادي شاهدة ومفرداً يأتي ويأتي جملة ... حاوية معنى الذي سيقت له وأورد ابن عقيل على ابن مالك في تعريفه هذا الفاعل من نحو قام زيد، فإنه يصدق على زيد أنه الجزء المتمم للفائدة، وليس بخبر1. وأجيب عنه بأن دلالة المقام والتمثيل بقوله: "كالله بَرٌّ والأيادي شاهدة" يدلان على اعتبار كون الجزء المتمم للفائدة مع المبتدأ وغير الوصف2. وهذا التعريف كما ترى لا ينطبق على تعريف الخبر عند الأصوليين والبلاغيين، وذلك لأنه خاص بالنحويين، ولذا فهو شامل عندهم لنوعي الكلام: الخبر، والإنشاء. وأقرب من هذا التعريف إلى التعريفات السابقة تعريف موفق الدين بن يعيش حيث قال: "واعلم أن   1 انظر: تفاصيله في ضياء السالك إلى أوضح المسالك لمحمّد عبد العزيز النجار1/180، وشرح ابن عقيل لألفية ابن مالك 1/201-202. 2 منهج السالك إلى ألفية ابن مالك للأشموني 1/90-91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 خبر المبتدأ هو الجزء المستفاد الذي يستفيده السامع، ويصير مع المبتدأ كلاماً تاماً والذي يدل على ذلك أنه به يقع التصديق والتكذيب، ألا ترى أنك لو قلت: عبد الله منطلق، فالصدق والكذب إنما وقعا في انطلاق عبد الله، لا في عبد الله، لأن الفائدة في انطلاقه، وإنما ذكر عبد الله وهو معروف عند السامع، ليسند إليه الخبر الذي هو الانطلاق"1. غير أنه يرد عليه ما أسلفت من أن الخبر عندهم شامل لنوعي الكلام: الخبر، والإنشاء.   1 شرح المفصل لموفق الدين يعيش بن علي بن يعيش 1/87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الخبر عند المحدثين يرى بعض المحدثين أن الخبر مرادف للحديث مراعاة لمدلول اللفظ اللغوي في اللفظين، فيطلقان على المرفوع1 والموقوف والمقطوع2 فيشمل ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي، والتابعي. ويدل لذلك قول الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر: "الخبر عند علماء هذا الفن مرادف للحديث"3. ويفرق البعض الآخر بينهما بأن "الحديث ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخبر ما جاء عن غيره"، ومن ثم قيل لمن يشتغل بالتواريخ وماشاكلها الإخباري، ولمن يشتغل بالسنة النبوية المحدث. وقيل بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل حديث خبر من غير عكس"4. هل لاختلاف العلماء في تعريف الخبر أثر؟   1 المرفوع هو: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، سواء كان بإسناد متصل أم لا. والموقوف هو: ما انتهى إلى الصحابي. والمقطوع هو: ما انتهى إلى التابعي. انظر: شرح نخبة الفكر لابن حجر ص: 30 وتدريب الراوي للسيوطي 1/183-194. 2 تدريب الراوي للسيوطي 1/42. 3 شرح نخبة الفكر لابن حجر ص: 3. 4 نفس المصدر ص: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 لم يترتب على اختلاف العلماء في تعريف الخبر أثر، وغاية ما هناك أن الأصوليين أرادوا الدقة في الحد فصعبوه بما أورده بعضهم على بعض من استشكالات، وبما أجاب به البعض الآخر عن تلك الاستشكالات كما هو واضح مما نقلته عنهم. أما غيرهم فكان طابع تعريفه البساطة والوضوح، ولذا لم يورد عليه مثل ما أورد على الأصوليين من الاستشكالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 هل الخبر منحصر في الصدق والكذب؟ اختلف الناس في الخبر هل هو منحصر في الصدق والكذب؟ أم أنه غير منحصر فيهما؟ بل منه ما ليس بصدق ولا كذب، وهو واسطة. تم إن القائلين بأنه منحصر في الصدق والكذب، اختلفوا في تفسير الصدق والكذب. فقالت طائفة: صدق الخبر مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر سواء كان ذلك الاعتقاد صواباً أم خطأ، وكذبه عدم مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر، فقول القائل السماء تحتنا معتقداً ذلك، صدق، وكذلك قوله: السماء فوقنا غير معتقد لذلك، كذب. واستدلوا لذلك بأمرين: الأول: أن من أخبر عن أمر يعتقده، ثم ظهر خلافه، لا يقاله في حقه إنه كاذب، ولكن يقال: أخطأ، بدليل ما روي عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، أنها قالت فيمن هذا شأنه: "ما كذب، ولكنه أخطأ ووهم." ورد بأن المنفى هنا تعمد الكذب، بدليل تكذيب الكافر الكتابي إذا قال: الإسلام باطل، وتصديقه إذا قال: الإسلام حق. الثاني: قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 1 فإن الله تعالى كذبهم في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} وإن كان مطابقاً للواقع، لعدم مطابقته لاعتقادهم. وأجيب عما استدلوا به بما يأتي: 1 بأن المعنى: نشهد شهادة واطأت قلوبنا فيها ألسنتنا، فالتكذيب راجع إلى الشهادة باعتبار تضمنها خبراً كاذباً، لكونها لم تكن عن اعتقاد، بدليل تأكيد الجملة في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} بإن، واللام، وكونها اسمية. 2 أو أن المعنى لكاذبون في تسمية هذا الإخبار شهادة، لأن الشهادة هي الإخبار بما يطابق الاعتقاد، فإن خلا عن الاعتقاد لم يكن شهادة. 3 أو أن المراد: لكاذبون في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} عند أنفسهم، لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه2. وقال الجمهور: صدق الخبر مطابقة حكمه للواقع، وهو الخارج الذي يكون مطابقاً لنسبة الخبر، وكذبه عدم مطابقته للنسبة التي تكون في الخارج، وهذا هو المشهور، وعليه التعويل.   1 سورة المنافقون آية: 1. 2 انظر تفاصيله في: شروح التلخيص 1/174-181، مطبعة البابي الحلبي وشركاه بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وأنكر الجاحظ1 انحصار الخبر في الصدق والكذب، وأثبت الواسطة، وزعم أن صدق الخبر مطابقته للواقع مع اعتقاد المطابقة، وكذبه عدم مطابقته للواقع مع اعتقاد أنه غير مطابق، وغيرهما ليس بصدق ولا كذب، وهي أربعة: المطابقة مع اعتقاد عدم المطابقة، أو بدون الاعتقاد أصلاً، وعدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة، أو بدون الاعتقاد أصلاً، ليس بصدق ولا كذب. بدليل قوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} 2 وجه الاستدلال بالآية: أن الكفار عقلاء من أهل اللسان عارفون باللغة، حصروا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، بالبعث على ما يدل عليه تعالى: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 3 في الافتراء والإخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو، وليس إخباره حالة الجنة كذباً، لأنهم جعلوه قسيم الافتراء، ولا صدقاً لأنهم اعتقدوا عدم صدقه، فمرادهم   1 هو: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ، الأديب المعتزلي، وإليه تنسب فرقة الجاحظية منهم، له تصانيف كثيرة منها: كتاب الحيوان، والبيان والتبيين وأدب الجاحظ وغيرها. ولد بالبصرة سنة: 162هـ، وفلج في آخر عمره. توفي بالبصرة سنة: 255هـ انظر: الأعلام للزركلي 5/239 2 سورة سبأ آية: 8. 3 سورة سبأ آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 بكونه أخبر حالة الجنة غير الصدق، وغير الكذب، ليكون ذلك بزعمهم بعض الخبر، فثبتت الواسطة1. ورد بأن معنى: {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} أي أم لم يفتر، فعبر عن عدم الافتراء بالجنة، لأن المجنون لا افتراء له، لأن الكذب ما كان عن عمد، والمجنون لا عمد له، فالثاني ليس قسيماً للكذب، بل لما هو أخص منه، أعني الافتراء. وإن سلم فقد لا يكون خبراً، فيكون هذا حصراً للكذب بزعمهم في نوعيه: الكذب عن عمد، والكذب لا عن عمد2. وأيضا ً"أنهم إنما حصروا أمره بين الكذب والجنة، لأن قصد الدلالة به على مدلوله شرط في كونه خبراً، والمجنون ليس له قصد صحيح، فصار كالنائم، والساهي إذا صدرت منه صيغة الخبر، فإنه لا يكون خبراً، وحيث لم يقصدوا صدقه، لم يبق إلا أن يكون كاذباً، أو لا   1 انظر تفاصيله في شروح التلخيص 1/182-188، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي السيد محمود 22/110، عنيت بنشره وتصحيحه والتعليق عليه للمرة الثانية إدارة الطباعة المنيرية لمحمّد منير الدمشقي. مصر. والمختصر لابن الحاجب 2/50، وحاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/139 فما بعدها، وحاشية البناني على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/113 فما بعدها، مطبعة إحياء العلوم العربية لعيسى البابي الحلبي. 2 انظر: شروح التلخيص 1/189-190، وروح المعاني 22/110، وإرشاد الفحول ص: 14، والمختصر لابن الحاجب2/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 يكون ما أتى به خبراً، وإن كانت صورته صورة الخبر. أما أن يكون خبراً، وليس صادقاً فيه ولا كاذباً فلا"1. ووافق الراغب الجاحظ في إثبات الواسطة، وإن زاد عليه اصطلاحاً لم يذهب إليه الجاحظ، وإليك ذلك فيما ذكره البناني قال: "حاصل مذهبه أن ما طابق الواقع مع اعتقاد المطابقة يسمى صدقاً، ومالم يطابق الواقع مع اعتقاد عدم المطابقة يسمى كذبا، ويخص هذين بالصدق، والكذب التامين وما طابق الواقع مع اعتقاد عدم المطابقة، أو طابق الاعتقاد دون الواقع، فيسمى كل منهما صدقاً وكذباً، من جهتين: فالأول: صدق من جهة مطابقة الواقع، كذب من جهة عدم المطابقة للاعتقاد. والثاني: صدق من جهة مطابقة الاعتقاد، كذب من جهة عدم مطابقة الواقع، ويسمى الصدق والكذب المشتمل عليهما هذان القسمان بالصدق والكذب غير التامين، لما علم أنه صدق من جهة دون جهة، كذب من جهة دون جهة، فهذه أربعة أقسام، وبقي قسمان وهما: مطابقة الواقع وعدمها مع عدم اعتقاد شيء، وهذان واسطة عنده لا يوصفان بصدق ولا كذب"2.   1 الإحكام للآمدي 2/11. 2 حاشية البناني على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/112-113، وانظر: حاشية العطار على شرح المحلى2/140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وحيث إن الراغب موافق للجاحظ في الدليل، ففي ما تقدم من الرد على ما استدل به الجاحظ كفاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الخلاف في تعريف الخبر لفظي: والخلاف في هذه المسألة لفظي، وذلك لأن العرب إنما وضعت الخبر للصدق دون الكذب، فقول القائل: زيد قائم، معناه عند أهل اللسان العربي حصول القيام منه وصدوره منه في الزمن الماضي، ولم ينقل عن أحد من أئمة اللغة خلاف ذلك. "ولقد أحسن من قال: إن مدلول الخبر هو الصدق، إنما الكذب احتمال عقلي، ألا يرى أنه إذا قيل لك من أين علمت أن زيداً قائم؟ تقول له: سمعته من فلان"1. واحتمال الخبر للصدق والكذب إنما هو من جهة المتكلم، لا من جهة الوضع اللغوي، لأن المتكلم قد يستعمله صدقاً على وفق الوضع، وقد يستعمله كذباً على خلافه. ومن هنا كان الخبر لا يخرج عن كونه صدقاً، أو كذباً، للإجماع على أن اليهودي إذا قال: الإسلام حق حكمنا بصدقه، وإذا قال: خلافه حكمنا بكذبه. فالخبر لا يعرى البتة عن الصدق والكذب، فما ثبت صدقه لا يصح كذبه بعد، وما ثبت كذبه، لا يصح صدقه بعد، لاستحالة ارتفاع الواقع2.   1 حاشية العطار على المحلى على جمع الجوامع 2/142. 2 انظر تفاصيله في الفروق للقرافي1/24، وحاشية ادرار الشروق على أنواء الفروق لابن الشاط قاسم بن عبد الله1/19، وحاشية السعد على شرح العضد للمختصر2/51، وإرشاد الفحول ص: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أقسام الخبر:باعتبار ما علم صدقه، وما علم كذبه، وما لا يعلم صدقه ولا كذبه الأول: ما علم صدقه، وهو نوعان: متفق عليه، ومختلف فيه. المتفق عليه وهو: 1- ما علم صدقه بالضرورة، مثل: الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، أو الاستدلال، نحو: العالم حادث. 2- خبر الله تعالى، لأن الصدق صفة كمال، والكمال واجب له تعالى، والكذب صفة نقص، وهو محال عليه سبحانه. 3- خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما يخبر به عن الله لدلالة المعجزة على صدقه. 4- خبر كل الأمة، لأنها لا تجتمع على ضلالة، لثبوت عصمتها. 5- كل خبر يوافق ما أخبر الله تعالى عنه، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الأمة. 6- الخبر المتواتر، وسيأتي الكلام عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وأما المختلف فيه، فمنه: خبر من أخبر بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، فقيل عدم إنكاره دليل صدقه، وقد عده الغزالي1 من المعلوم صدقه، فقال: "كل خبر صح أنه ذكره المخبر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن غافلا عنه فسكت عليه، لأنه لو كان كذباً لما سكت عنه. ولا عن تكذيبه، ونعني به ما يتعلق بالدين"2. ونفى الآمدي صحته، لأنه من الجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غير سامع له، بل ذاهل عنه، وإن غلب على الظن السماع وعدم الغفلة، فمن الجائز أن لا يكون فاهماً لما يقول! وإن غلب على الظن فهمه، وكان متعلقاً بالدين وقدر كونه كاذباً فيه، فيحتمل أن يكون قد بينه له، أو علم أن إنكاره عليه ثانياً غير منجع فيه، فلم ير في الإنكار عليه فائدة، ورأى المصلحة في إهماله إلى وقت آخر.   1 هو: محمّد بن محمّد بن محمّد أحمد أبو حامد الغزالي، الإمام الجليل الأصولي الفيلسوفي المتصوف، كان أبوه يغزل الصوف ويبيعه، له مصنافات كثيرة منها: المستصفى في علم الأصول والمنخول فيه أيضاً، وشفاء الغليل في مسالك التعليل، وإحياء علوم الدين وغيرها، ولد سنة: 450هـ. وتوفي سنة: 505هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/8، ومقدمة المنخول لمحمّد حسن هيتو ص: 19 فما بعدها. الطبعة الأولى. 2 المستصفى للغزالي مع فواتح الرحموت 1/141، طبعة جديدة بالأوفست الحلبي، عن الأولى، الأميرية سنة: 1322هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وإن كان في أمر دنيوي، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم لكونه كاذباً فيما أخبر به، أو أنه امتنع عن الإنكار لمانع، أو لعلمه أنه لا فائدة في إنكاره، وعلى هذا فعدم الإنكار لا يدل على صدقه قطعاً، وإن دل عليه ظناً1. وأجاب عنه الجلال المحلى بقوله: "وأجيب في الديني بأن سبق البيان أو تأخيره لا يبيح السكوت عند وقوع المنكر لما فيه من أفهام تغيير الحكم في الأول، وتأخير البيان عن وقت الحاجة في الثاني. وفي الدنيوي بأنه إذا كان كاذباً، ولم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم، يعلمه الله به عصمة له عن أن يقر أحداً على كذب كما أعلمه بكذب المنافقين في قوله: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} 2من حيث تضمنه أن قلوبهم وافقت ألسنتهم في ذلك. وإن كان دينياً. أما إذا وجد حامل على الكذب والتقرير كما إذا كان المخبر ممن يعاند النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينفع فيه الإنكار، فلا يدل السكوت على الصدق قولاً واحداً"3. ومنه خبر من أخبر بحضرة جمع عظيم عن أمر محس وسكتوا عن تكذيبه، والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وعدم السكوت لو كان كذباً.   1 انظر: تفاصيله في: الإحكام للآمدي 2/39. 2 سورة المنافقون آية: 1 3 المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فذهب قوم إلى أن ذلك دليل على صدقه قطعاً. وقد عده الغزالي من المقطوع بصدقه حيث قال: "كل خبر ذكر بين يدي جماعة أمسكوا عن تكذيبه والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وامتناع السكوت لو كان كذباً، وذلك بأن يكون للخبر وقع في نفوسهم، وهم عدد يمتنع في مستقر العادة التواطؤ عليه بحيث ينكتم لو تواطؤا ولا يتحدثون به، وبمثل هذه الطريقة ثبتت أكثر أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان ينقل بمشهد جماعات، وكانوا يسكتون عن التكذيب مع استحالة السكوت عن التكذيب على مثلهم، فمهما كمل الشرط وترك النكير كما سبق نزل منزلة قولهم صدقت"1. وقيل: إنه يفيد الصدق ظناً لجواز أن لا يكون لهم إطلاع على ما أخبر به، ولأن العادة لا تحيل سكوت الواحد أو الاثنين عن تكذيبه، ولاحتمال أن مانعاً منعهم من تكذيبه، ومع هذه الاحتمالات يمتنع القطع بتصديقه وإن كان صدقه مظنوناً2. الثاني: ما علم كذبه وهو: الأول: ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس المشاهد أو أخبار التواتر.   1 المستفصى للغزالي مع فواتح الرحموت 1/141. 2 الإحكام للآمدي 2/40 مع تصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الثاني: ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة. الثالث: ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب. الرابع: ما سكت الجمع الكثير عن نقله، والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله، كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلد قتل في السوق على ملأ من الناس، ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه، إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله، ولإحالة العادة اختصاصه بحكايته1. وخالفت الشيعة فقالت: إن عدم تواتر الخبر لا يدل على كذبه، لأن العقل يجوّز صدقه. وقد قالوا: بصدق ما رووه في إمامة علي رضي الله عنه من نحو: " من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه"، وما كان مثله مما استدلوا به على خلافته من الأحاديث التي لم تصح عند أهل السنة، ولم تسلم للشيعة، مشبهين لها بما لم يتواتر من آحاد المعجزات، كحنين الجذع2 وتسليم الحجر، وتسبيح الحصى، وغيرها مما   1 انظر تصانيفه في: الإحكام للآمدي2/12، فما بعدها، والمستصفى مع فواتح الرحموت1/142، وشرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 355-356. 2 حديث حنين الجذع رواه البخاري ع ابن عمر باب علامات النبوة4/237. وحديث تسليم الحجر رواه مسلم عن جابر بن سمرة باب فضل نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم 7/58-59. وحديث تسبيح الحصى رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي ذر. انظر: مجمع الزوائد منبع الفوائد للهيثمي 8/298-299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لم ينقل بطريق التواتر مع توفر الدواعي على نقلها متواترة، ولم يكن ذلك دليلاً على كذبها. وأجيب بأن آحاد المعجزات كانت متواترة ثم استغني عن استمرار تواترها بتواتر القرآن المستمر إلى الأبد، بخلاف ما استدلوا به في إمامة علي، فإنه لا يعرفه أهل الحديث فضلاً عن غيرهم، ولوكان حقاً لما خفى على أهل بيعة السقيفة من الصحابة رضي الله عنهم الذين بايعوا أبا بكر، كما بايعه علي رضي الله عنه1. الثالث: ما لم يعلم صدقه ولا كذبه، وهو ثلاثة أقسام: الأول: ما ترجح احتمال صدقه كخبر العدل. الثاني: ما ترجح احتمال كذبه كخبر الفاسق.   1 انظر تفاصيله في: شرح المحلى لجمع الجوامع مع حاشية العطار2/147، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي6/192 فما بعدها، وحاشية البناني على المحلى2/118-119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الثالث: أن يتساوى الأمران كخبر مجهول الحال1.   1 انظر: نهاية السول للأسنوي، شرح منهاج الوصول للبيضاوي مع البدخشي2/230 فما بعدها. مطبعة محمّد علي صبيح وأولاده بالأزهر بمصر، والإحكام للآمدي2/12-13، وإرشاد الفحول ص: 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 السنة لغة وشرعاً السنة لغة: الطريقة والسيرة، حسنة كانت أو قبيحة. قال خالد الهذلي: فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها وقال لبيد في معلقته: من معشر سنت أمم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها1 وقد تكرر إطلاق السنة في القرآن بمعنى الطريقة والسيرة، كقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 2 وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 3 وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا   1 انظر: لسان العرب لابن منظور13/225، وتاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي الإمام أبي الفضل السيد محمّد مرتضى9/244، ومختار الشعر الجاهلي2/399، وشرحه وحققه وضبطه محمّد سيد كيلاني. الطبعة الأولى سنة: 1379هـ – 1959م. وأصول الحديث للدكتور محمّد عجاج الخطيب ص: 17. دار الفكر. الطبعة الثانية سنة: 1391هـ – 1971م. 2 سورة آل عمران آية: 137. 3 سورة النساء آية: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} 1 وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} 2والآيات في مثل ذلك كثيرة. وورد في الحديث لفظ السنة وما تصرف منها، ومنه بمعنى الطريقة والسيرة حديث جرير بن عبد الله: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء"3. وفي الحديث الآخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "4. ونقل الزبيدي عن الأزهري أن السنة الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذا قيل فلان من أهل السنة، معناه من أهل الطريقة المحمودة   1 سورة الأنفال آية: 38. 2 سورة الكهف آية: 55. 3 صحيح مسلم مع النووي16/226، المطبعة المصرية ومكتبتها بسوق الأوقاف. 4 صحيح مسلم مع النووي16/219-220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المستقيمة1. وعزاه الشوكاني للخطابي قال: قال: "أصلها الطريقة المحمودة، فإذا أطلقت انصرفت إليها، وقد تستعمل في غيرها مقيدة كقوله: "من سن سنة سيئة""2. والذي تؤيده النصوص هو ما ذهب إليه الجمهور من إطلاقها على الطريقة: محمودة كانت أم غير محمودة. فما استدل به الخطابي من قيدها في الحديث بالسيئة لا دليل فيه، لورودها مقيدة بالحسنة في نفس حديث جرير بن عبد الله "من سن في الإسلام سنة حسنة "الحديث3. وكذلك ما تقدم من شواهد اللغة، والآيات القرآنية. فالإطلاق فيما تقدم يدل على صحة ما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم. والسنة بالضم الوجه لصقالته وملاسته، كما تطلق على الصورة، قال ذو الرمة: تريك سنة وجه غير مقرفة4 ... ملساء ليمس بها خالد ولا ندب وأنشد ثعلب:   1 تاج العروس للزبيدي9/244. 2 إرشاد الفحول مع شرح الورقات ص: 33. 3 صحيح مسلم مع النووي16/226. 4 القرف بالكسر القشر. انظر: القاموس المحيط لمجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزابادي 3/190، ط الثانية سنة: 1371هـ – 1952م- مطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 بيضاء في المرآة سنتها في البيت تحت مواضع اللمس أو السنة الوجه والجبينان، وكله من الصقالة والإسالة1.   1 تاج العروس للزبيدي9/244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 السنة شرعاً: إذا أطلق لفظ السنة في الشرع، فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو نهى عنه، أو دعا إليه قولا كان أو فعلا، ولذا يقال في أدلة الشرع: الكتاب والسنة، أي القرآن والحديث، غير أنه اختلف في معنى السنة باختلاف اصطلاح العلماء، لاختلاف أغراضهم واختصاصاتهم، فهي عند المحدثين غيرها عند الأصوليين والفقهاء. فالسنة عند المحدثين: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أوتقرير، أو صفة خلقية أو خلقية، أو سيرة، سواء كانت قبل البعثة ... كالتحنث في غار حراء أو بعدها. وهي بهذا المعنى ترادف الحديث عند بعضهم. والسنة عند علماء أصول الفقه: كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير القرآن الكريم من قول أو فعل أو تقرير، مما يصلح لأن يكون دليلاً لحكم شرعي. والسنة عند الفقهاء: كل ما ثبت من أحكام الشرع عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ليس بفرض ولا واجب، وهي بهذا المعنى تقابل الواجب وغيره من أحكام الشرع الخمسة. وقد عرفها فقهاء المالكية بأنها ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع ترك ما بلا عذر، وأظهره في جماعة، وقد يسمي بعضهم ما أكد منها بالواجب. قال صاحب مراقي السعود: وسنة ما أحمد قد واظبا ... عليه والظهور فيه وجبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وبعضهم سمى الذي قد أكدا ... منها بواجب فخذ ما قيدا يعنى أن السنة هي: ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأظهره في جماعة. وبعض أصحاب مالك يسمي السنة المؤكدة بواجب، وعليه درج ابن أبي زيد في الرسالة حيث يقول:"سنة أو واجبة"1. فكان لاختلاف أغراض العلماء أثر في الاختلاف في اصطلاحاتهم. فأعم تلك الاصطلاحات اصطلاح المحدثين الذين قصدوا بالسنة كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية سواء أثبت ذلك حكما أم لا. وأخص منه اصطلاح الأصوليين، والفقهاء، لأن الأصوليين بحثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث إنه يضع القواعد للمجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فاعتنوا بأقواله وأفعاله وتقريراته التي تثبت الأحكام الشرعية وتقررها. والفقهاء إنما بحثوا عنها من حيث إنها لا تخرج عن حكم شرعي، فهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوبا وحرمة وإباحة وغيرها.   1 انظر تفاصيل تعريف السنة عند المالكية في ما ذكر صاحب المراقي في فتح الودود شرح مراقي السعود لمحمّد يحيى الولاتي ص: 95، الطبعة الأولى المطبعة المولوية بفاس سنة: 1321هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وقد تطلق عند العلماء على ما عمل به الصحابة -رضوان الله عليهم- سواء كان ذلك في القرآن أم الحديث، أم باجتهاد منهم كجمع المصحف، وتدوين الدواوين، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة ويقابل ذلك البدعة1. ويدلك على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من حديث العرباض بن سارية: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 2.   1 انظر تفاصيله في السنة ومكانتها في التشريع للدكتور مصطفى السباعي ص: 47 فما بعدها، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، بيروت، سنة: 1396هـ – 1976هـ، وأصول الحديث وعلومه ومصطلحه للدكتور محمّد عجاج الخطيب ص: 17 فما بعدها. 2 أبو داود 2/506، الطبعة الأولى سنة: 1371هـ، والترمذي مع تحفة الأحوذي7/439 فما بعدها، وقال حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أقسام السنة باعتبار ذاتها اختلف العلماء في تقسيم السنة: فذهب علماء المالكية إلى أنها تنقسم إلى: قول، وفعل، ولم يروا التقرير قسماً لدخوله عندهم في الفعل، قال صاحب مراقي السعود: والقول والفعل وفي الفعل انحصر ... تقريره كذى الحديث والخبر يعني أن تقريره لأحد على فعل رآه يفعله ولم ينكر عليه داخل في الأفعال دخول انحصار بحيث لا يخرج منه عنها شيء1. وقال الأسنوي في تعريف السنة وبيان أقسامها: "وتطلق على ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من الأفعال أو الأقوال التي ليست للإعجاز، وهذا هو المراد هنا، ولما كان التقرير عبارة عن الكف عن الإنكار، والكف فعل ... استغنى المصنف عنه به أي عن التقرير بالفعل"2. وذهب الجمهور إلى انقسامها إلى قول، وفعل، وتقرير3.   1 انظر: فتح الودود شرح مراقي السعودي للولاتي ص: 203-204، وشرح المحلى لجمع الجوامع مع حاشية العطار2/128. 2 نهاية السول شرح منهاج الوصول مع البدخشي2/196. 3 الإحكام للآمدي1/155، أصول الفقه لمحمّد أبي النور زهير3/108، دار الطباعة المحمدية بالأزهر، القاهرة، والتلويح على التوضيح2/2، يطلب من مطبعة ومكتبة محمّد عليّ صبيح. الأزهر، دار المعهد الجديد للطباعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أمثلة أقسام السنة: مثال القول: أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قالها في مختلف الأغراض والمناسبات، مما يتعلق بتشريع الأحكام كحديث عمر بن الخطاب: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى ... " الحديث1. وحديث علي: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " 2، وقوله: "لا ضرر ولا ضرار "3، وأبي هريرة " هو الطهور ماؤه الحل ميتته "4. مثال الفعل: ما نقله الصحابة رضي الله عنهم من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون العبادات وغيرها، كأداء الصلوات، ومناسك الحج، وآداب الصيام وقضائه صلى الله عليه وسلم "باليمين والشاهد "5.   1 صحيح البخاري1/4، مكتبة الجمهورية العربية لعبد الفتاح عبد الحميد مراد، مطبعة محمّد عليّ صبيح، مصر، وصحيح مسلم5/48، دار الطباعة القاهرة سنة: 1332هـ. 2 الموطّأ مع تنوير الحوالك2/210، وأخرجه الترمذي وأحمد والطبراني، قال الهيثمي: "رجالههما ثقات" وحسنه النووي في الأذكار وصحّحه ابن عبد البر، انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/13. 3 الموطأ مع تنوير الحوالك2/122، الطبعة الأخيرة، سنة: 1370هـ – 1951م، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر. 4 الترمذي انظر: تحفة الأحوذي1/225، مطبعة المدني، القاهرة، الناشر محمّد عبد المحسن الكتبي ومالك في الموطأ1/35. 5 أبو داود 2/277، ومسلم مع شرح النووي له 12/4 عن ابن عباس وأم سلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ومثال التقرير: ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم مما صدر من بعض أصحابه من أقوال وأفعال، بسكوت منه وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسان وتأييد. فيعتبر ما صدر عنهم بهذه المثابة صادراً عن النبي صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك ما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد رضي الله عنه: أنه خرج رجلان في سفر وليس معهما ماء فعرضت الصلاة، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك" وقال للذي توضأ وأعاد: " لك الأجر مرتين "1. ومنه أيضاً: إقراره لاجتهاد الصحابة في صلاة العصر في غزوة بني قريظة حين قال لهم: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" ففهم بعضهم هذا النهي على حقيقته، فلم يصل إلا في بني قريظة بعد المغرب، وقال: "لا نصلي حتى نأتيها"وفهم البعض أن المقصود الحث على   1 أبو داود 1/82، وسبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني 1/97-98، وأخرجه أبو داود 1/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الإسراع، فصلاها في وقتها. وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل الفريقان، فأقرهما ولم ينكر على أحدهما1.   1 الحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر، انظر: الفتح 7/408، وانظر تفاصيل ذلك كله في أصول الحديث للدكتور محمّد عجاج الخطيب ص: 19 فما بعدها، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي 47 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 تمهيد منزلة السنة من القرآن مقدمة: اختار الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فختم به الرسالات السماوية وأرسله إلى الناس كافة، وأنزل عليه القرآن العظيم {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 1 فالقرآن الكريم هو أساس الشريعة الإسلامية، ففيه التوحيد والأحكام، والآداب، والترغيب والترهيب والقصص، وهو كلام الله تعالى المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك جبريل الأمين، المتواتر لفظه جملة وتفصيلا، المتعبد بتلاوته، المكتوب في المصاحف. ولما كان القرآن الكريم دستور المسلمين وأساس قواعد الأحكام الشرعية، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين لكتاب الله، إذ لا يمكن أن يفهم القرآن على حقيقته، وأن يعلم مراد الله من كثير من آيات الأحكام إلا من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن ليبينه للناس. وذلك البيان: إما بوحي من الله تعالى، وإما باجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ. وعلى هذا فمرد السنة إلى الوحي.   1 سورة البقرة آية: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فالقرآن الكريم هو الوحي المتلو المتعبد بتلاوته، والسنة وحي غير متلو ولا متعبد بتلاوتها. قال ابن حزم: "لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه، فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفاً لرسوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 1. فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى قسمين: أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفاً معجز النظام وهو القرآن. والثاني: وحي مروى منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو، لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا، قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2 ووجدناه قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني، كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق3. فالقرآن والسنة مصدران للتشريع متلازمان، لا يمكن لأي مسلم طالب علم أو مجتهد الاستغناء بأحدهما عن الآخر.   1 سورة النجم آيتان: 3-4. 2 سورة النحل آية: 44. 3 الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم1-4/87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 قال الألوسي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 1، قال: "وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقرونة بطاعة الله اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام، وقطعاً لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن، وإيذاناً بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثم لم يعد في قوله تعالى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} إيذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم "2. وقال ابن حجر: "النكتة في إعادة العامل في الرسول دون أولى الأمر مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى، كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف هما: القرآن، والسنة، فكأن التقرير أطيعوا الله فيما نص عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن، وما ينصّه عليكم من السنة. أو المعنى أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحيِ الذي ليس بقرآن"3.   1 سورة النساء آية: 59. 2 روح المعاني للألوسي 5/65. 3 فتح الباري 13/111، رقم كتبه وأبوابه وأحاديث … محمّد فؤاد عبد الباقي المطبعة السلفية ومكتبتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 رتبة السنة من القرآن: رتبة السنة من القرآن التأخر عنه في الاعتبار، لأن القرآن مقطوع به جملة وتفصيلاً، أما السنة فإنما يقطع بها في الجملة لا على التفصيل، ولأن القرآن هو الأصل، والسنة له بمثابة الفرع، لأنها تبينه وتوضحه، فالأصل مقدم على الفرع، والمبين متقدم على المبين، ويدل لذلك ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه، ولفظه: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟، قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي" 1. ومما كتبه عمر رضي الله عنه إلى شريح " إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك بما ليس في كتاب الله، فاقض بما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم … إلخ ". وفي رواية عنه: "إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره". وقد بين المراد من هذا في رواية أخرى أنه قال: "انظر   1 أبو داود 2/272، ورواه الترمذي في باب الأحكام، والبخاري في التاريخ الكبير، والإمام أحمد في مسنده، وابن حزم في إحكام الأحكام، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وقال الحافظ في التلخيص: "قال الدارقطني في العلل: رواه شعبة عن أبي عون هكذا وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه والمرسل أصح" وأخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه وقال:"إن أهل العلم تلقوه بالقبول" انظر: تحفة الطالب للإمام ابن كثير ص: 151 فما بعدها، تحقيق عبد الغني بن حميد الكبيسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ما تبين لك في كتاب الله، فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروي مثل هذا عن ابن مسعود: "من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله، فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أوجه السنة مع القرآن لا خلاف بين العلماء في أن السنة مع القرآن لها ثلاث حالات: الأولى: أن تكون موافقة للقرآن من كل وجه، كما في حديث ابن عمر: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاَ"1. فهو موافق لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2، ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 3 الآية، ولقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 4. الثانية: أن تكون مبينة لأحكام القرآن من تقييد مطلق، أو تفصيل مجمل، أو تخصيص عام، كالأحاديث التي فصلت أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج والبيوع والمعاملات، التي وردت مجملة في القرآن.   1 صحيح البخاري 1/10. 2 سورة البقرة آية: 83. 3 سورة البقرة آية: 183. 4 سورة آل عمران آية: 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وهذا النوع هو أغلب ما في السنة، وأكثرها وروداً1. وها أنا أذكر أمثلة لبيان السنة لمجمل القرآن، وتقييدها لمطلقه، وتخصيصها لعامه فيما يلي: 1- مثال تبيين السنة لمجمل الكتاب كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 2 فإن هذا اللفظ لم يتضمن بيان أوقات الصلاة، وأفعالها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله وفعله لغيره بعد أن بينه له جبريل عليه السلام. وكذلك قوله جل شأنه: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب، وصفة المواشي التي تجب فيها الزكاة، وغيرها من الأموال التي تجب فيها الزكاة شيئاً فشيئاً، كما بين الحج.   1 انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للسباعي ص: 379، فما بعدها مع تصرف. 2 سورة البقرة آية: 83. 3 سورة البقرة آية: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 هل الفعل يكون بياناً؟ اختلف العلماء في الفعل هل يكون بياناً أولا؟ فالأكثرون على أنه يكون بياناً، خلافاً لطائفة شاذة. قال الآمدي: "مذهب الأكثرين أن الفعل يكون بياناً، خلافاً لطائفة شاذة، ويدل على ذلك النقل والعقل. أما النقل فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرف الصلاة والحج بفعله، حيث قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي، وخذوا عني مناسككم" 1. وأما العقل فهو أن الإجماع منعقد على كون القول بياناً، والإتيان بأفعال الصلاة والحج، لكونها مشاهدة أدل على معرفة تفصيلها من الإخبار عنها بالقول، فإنه ليس الخبر كالمعاينة، ولهذا كانت مشاهدة زيد في الدار أدل على معرفة كونه فيها من الإخبار عنه بذلك. وإذا كان القول بياناً، مع قصوره في الدلالة عن الفعل المشاهد، فبكون الفعل بياناً أولى"2.   1 لفظه عند مسلم عن جابر بن عبد الله: "لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" انظر: صحيح باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر4/79. وحديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أخرجه البخاري عن مالك بن الحويرث في باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة1/155. وفي كتاب الدب باب رحمة الناس بالبهائم7/77، وفي كتاب أخبار الآحاد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدق8/232. 2 انظر: الإحكام للآمدي3/24، مؤسسة الحلبي وشركاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 2- مثال تقييد السنة لمطلق الكتاب كما في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 1 فاليد تصدق من الأصابع إلى المنكب، ووردت هنا مطلقة، فقيدتها السنة بما جاء في الصحيحين واللفظ للبخاري قال: "جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقالت: إني أجنبت فلم أصب الماء. فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، أما أنا فتمعكت2 فصليت، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي لا: "كان يكفيك هكذا " فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه" 3 فالحديث كما ترى قيد لفظ اليد بالكفين مع أن اليد تصدق مطلقاً على أكثر من ذلك.   1 سورة المائدة آية: 6. 2 أي: تحككت وتقلبت اهـ من هدي الساري مقدمة فتح الباري ص: 189. قام بإخراجه وتصحيح تجاربه محب الدين الخطيب. المطبعة السلفية ومكتبتها. 3 أخرجه البخاري عن عبد الرحمن بن ابزي عن أبيه أنظره مع فتح الباري1/443، رقم أبوابه وأحاديثه محمّد عبد الباقي، وأشرف على طبعه محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة سنة: 1380هـ، وجامع أحكام القرآن لأبي عبد الله محمّد بن أحمد القرطبي5/239، مصورة عن دار الكتاب. الناشر دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة سنة 1387هـ – 1967م، والمغني لابن قدامة عبد الله بن أحمد بن محمّد المتوفى سنة: 620هـ 1/224، تصحيح د/ محمّد خليل هراس. مطبعة الإمام. مصر، والنووي شرح صحيح مسلم 4/61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 كما قيدت السنة القطع في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 الآية بالقطع من منتهى الكف دون المرفق. 3- أ- مثال تخصيص السنة لعام القرآن كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2 الآية. فلفظ السارق عام، وهو قاض بقطع كل سارق سواء كان المسروق نصاباً، أم أقل، وسواء كان من حرز أم من غير حرز، إلا أن السنة خصصت ذلك بمن سرق نصاباً محرزاً. فمن الأحاديث الدالة على ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن 3 " ثمنه ثلاثة دراهم. وفي لفظ بعضهم " قيمته ثلاثة دراهم "4. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت:" قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً "5 وفي رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً" 6.   1 سورة المائدة آية: 38. 2 سورة المائدة آية: 38. 3 المجن: الترس. 4 صحيح البخاري 8/200، وصحيح مسلم 5/113، ونيل الأوطار للشوكاني 7/131. 5 صحيح البخاري 8/199، وصحيح مسلم 5/112، ونيل الأوطار 7/131. 6 صحيح مسلم 5/112، ونيل الأوطار 7/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فدلت الأحاديث على اعتبار النصاب، وبمدلولها قال العلماء لما روى رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع في ثمر ولا كثر "1. ومحل عدم القطع في الثمر مالم يجذ ويحرز، فإن أحرز وبلغ النصاب ففيه القطع لما في رواية الترمذي وغيره إلا ما آواه الجرين2 والحديث أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان من طريق مالك3. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق فقال: "من أصاب منه بغية من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يأويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ". وأخرجه أيضاً الحاكم وصححه، والنسائي وأبو داود والترمذي مختصراً في باب الرخصة في أكل الثمرة للمار بها، وحسنه4.   1 الموطأ 2/839، ونيل الأوطار 7/134، والكثر: الجمار وهو شحم النخل. القاموس 1/408، 2/129. 2 موضع الثمر الذي يجفف فيه اهـ مختار الصحاح للإمام محمّد بن أبي بكر الزاري ص: 101، ربته محمود خاطر بك. الناشر دار الفكر. سنة: 1392هـ – 1972م. 3 انظر تفاصيل ذلك والكلام في الحديث في الزرقاني على الموطأ 5/119، تحقيق إبراهيم عطوه عوض مطبعة الحلبي مصر، الطبعة الأولى، سنة: 1382هـ – 1962م، والحديث أخرجه مالك في الموطأ. 4 انظر: تحفة الأحوذي شرح الترمذي للمباركفوري 5/10 مع تصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ب - ومنه قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1 قال الألوسي: "أشار إلى ما تقدم من المحرمات أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفراداً واجتماعاً "2. غير أن هذا العموم خصص بما رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها "3. وما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " لا يجمع بين المرأة، وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها" 4. قال ابن حجر: "قال الشافعي: "تحريم الجمع بين من ذكر هو قول من لقيته من المفتين، لا اختلاف، بينهم في ذلك". وقال الترمذي بعد تخريجه: "العمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافاً، في أنه لا يحل للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، ولا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها … " وكذلك نقل الإجماع ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي.   1 سورة النساء آية: 24. 2 روح المعاني للألوسي 5/4. 3 البخاري مع فتح الباري 9/160. 4 نفس المصدر 9/160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 واستثنى ابن حزم عثمان البتي، وهو أحد الفقهاء القدماء من أهل البصرة. واستثنى النووي طائفة من الخوارج والشيعة. واستثنى القرطبي الخوارج. قال الحافظ: قال النووي: "احتج الجمهور بهذه الأحاديث وخصوا بها عموم القرآن في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1. ج- ومنه قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} 2 فإن عموم الآية يدلى على أن كل أب خلف أولاداً ذكوراً وإناثاً، أن الذكر منهم يرث مع أخته من تركة الأب نصيب أنثيين، ومحل ذلك ما لم يقم مانع من الإرث كالرق واختلاف الدين، والقتل، أو كون الموروث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لما جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تخصيص عموم الآية بمنع الإرث في حق أولئك. فمن ذلك: ما جاء عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم "3.   1 فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/162. والآية من سورة النساء آية: 24. 2 سورة النساء آية: 11. 3 صحيح البخاري 8/194، والموطأ 2/519، ونيل الأوطار 6/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ومنه: عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس لقاتل ميراث" 1. ومنه: حديث أبي بكر: "لا نورث ما تركناه صدقة" 2، فإن هذا الحديث أخرج الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم من عموم الميراث الذي دلت عليه الآية لغة كما لا يخفى. إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا يتسع لها المجال هنا. وقد رأى البعض أن السنة مقدمة على الكتاب. قال يحيى بن أبي كثير: "السنة قاضية على الكتاب، ليس الكتاب قاضياً على السنة"3 لأن الكتاب قد يكون فيه ما يحتمل أمرين، فتأتي السنة فتعين أحدهما، فيعمل به دون الآخر. وقد يكون ظاهره الأمر، فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره. وهذا يدل على تقديم السنة.   1 نيل الأوطار 6/84، وقال رواه مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه، فيض القدير 5/380 5 عن رجل ح. 2 صحيح البخاري 8/185-186، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا نورث ما تركناه صدقة"، الزرقاني على الموطأ 5/482-483. 3 الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص: 47، تقديم محمّد الحافظ التيجاني، ومراجعة عبد الحليم محمّد عبد الحليم وغيره، الطبعة الأولى مطعبة السعادة، الناشر: دار الكتب الحديثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وأجيب عنه بأن ليس المراد إطراح الكتاب وتقديم السنة، وإنما المراد بقضائها عليه كونها بياناً وشرحاً له، فلا يتوقف مع إجماله واحتماله إذا بنيت السنة المقصود منه، ويدل لذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1. فالآية كما ترى صريحة في أن السنة بيان للقرآن، فهي تباين مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه. فهذا هو وجه تقديمها عليه، وهو المنقول عن السلف"2. روى الخطيب البغدادي: "أن عمران بن حصين كان جالساً ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: أدنه، فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بين الصفا والمروة سبعاً؟ ثم قال: أي قوم خذوا عنا فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلن"3.   1 سورة النحل آية: 44. 2 انظر تفاصيله في: الموافقات للشاطبي 4/8-9. 3 الكفاية للخطيب البغدادي ص: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المرتبة الثالثة: "ما دل على حكم سكت عنه القرآن، فلم يثبته، ولم ينفه، كالأحاديث التي أثبتت حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وأحكام الشفعة، ورجم الزاني المحصن، وتغريب الزاني البكر، وإرث الجدة، وغير ذلك"1. ولا خلاف بين العلماء في المرتبتين الأوليين، وإنما الخلاف في الثالثة التي أثبتت أحكاماً لم يتعرض لها القرآن نفياً أو إثباتاً. قال الشافعي -رحمه الله-: " وسنن رسول الله مع كتاب الله وجهان: أحدهما: نص كتاب، فاتبعه رسول الله كما أنزل الله. والآخر: جملة، بين رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها: عاماً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد، وكلاهما اتبع فيه كتاب الله." قال: "فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين: والوجهان يجتمعان ويتفرعان: أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبين رسول الله ما نص الكتاب.   1 انظر السنة ومكانتها في: التشريع الإسلامي للسباعي ص: 380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 والآخر: مما أنزل فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد. وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما. والوجه الثالث: ما سنّ رسول الله فيه فيما ليس فيه نص كتاب. فمنهم من قال: جعل الله له، بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب. ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب. كما كانت سنته لتبين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من الشرائع، لأن الله قال: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1. وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2. فما أحل وحرم، فإنما بيّن فيه عن الله، كما بين الصلاة. ومنهم من قال: جاءته به رسالة الله، فأثبتت سنته بفرض الله. ومنهم من قال: ألقى في روعه كل ما سن، وسنته الحكمة التي ألقى في روعه عن الله، فكان ما ألقى في روعه سنته3.   1 سورة النساء آية: 29. 2 سورة البقرة آية: 275. 3 الرسالة للإمام الشافعي ص: 52-53. تحقيق محمّد سيد كيلاني الطبعة الأولى سنة: 1388هـ – 1969م. مصطفى البابي الحلبي. مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فاختلف العلماء في المرتبة الثالثة من حيث إثباتها لأحكام لم يتعرض لها القرآن، لا من حيث وجودها. فذهب الجمهور إلى أن السنة أثبتت أحكاماً لم ترد في القرآن. وذهب جماعة ومنهم الشاطبي1 إلى أنه ليس في السنة أمر إلا وله أصل في القرآن. قال ابن القيم2 بعد أن ذكر انقسام السنة إلى ثلاثة أقسام، وبين كل قسم قال: "فما كان منها زائداً على أصل القرآن، فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم، تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديماً لها على الكتاب، بل امتثالا لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسوله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم، لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به،   1 هو: إبراهيم بن موسى، أبو إسحاق، الإمام المحقق الناظر الأصولي المفسر الفقيه. له مؤلّفات جليلة منها: كتاب الموافقات في أصول الفقه. توفي سنة: 790هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي 2/204-205. 2 ابن القيم هو: العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، الحنبلي، الفقيه المفسر، الأصولي، النحوي، المتكلم الشهير بابن القيم الجوزية. تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية. مصنفاته كثيرة منها: زاد المعاد، وأعلام الموقعين، والصواعق المرسلة وغيرها. ولد سنة: 691هـ وتوفي سنة: 751هـ. انظر: مختصر مقدمة الصواعق المرسلة لزكريا علي يوسف. مطبعة الإمام، مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وأنه إذا لم تجب إلا فيما وافق القرآن، لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 1. وكيف يمكن أحداً من أهل العلم أن لا يقبل حديثاً زائداً على كتاب الله، فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب، ولا حديث خيار الشرط، ولا أحاديث الشفعة، ولا حديث الرهن في الحضر، مع أنه زائد على ما في القرآن، ولا حديث ميراث الجدة، ولا حديث تخيير الأمة إذا عتقت تحت زوجها، ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة، ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، ولا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة"2. أدلة القائلين بأن السنة لم تثبت من الأحكام إلا ما له أصل في القرآن: قال الشاطبي: "السنة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، وذلك لأنها بيان له، وهو الذي دل عليه قوِله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 3، فلا تجد في السنة أمراً إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو   1 سورة النساء آية: 80. 2 أعلام الموقعين لابن القيم 2/314-315، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، يطلب من دار الكتب الحديثة، مطبعة السعادة. مصر. 1389هـ – 1969م. 3 سورة النحل آية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 تفصيلية، وأيضاً فكل ما دل على أن القرآن هوكلية الشريعة وينبوع لها، فهو دليل على ذلك، لأن الله تعالى قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1. وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن، واقتصرت في خلقه على ذلك، فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن، لأن الخلق محصور في هذه الأشياء، ولأن الله جعل القرآن تبياناً لكل شيء، فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة، لأن الأمر والنهي أول ما في الكتاب. ومثله قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2. وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 3.وهو يريد إنزال القرآن. فالسنة إذن في الأمر بيان لما فيه. وذلك معنى كونها راجعة إليه، وأيضاً فالاستقراء التام دل على ذلك"4. أدلة القائلين بإثبات السنة لأحكام لم يتعرض لها القرآن: 1- أن الله تعالى قرن الإيمان به بالإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، فقال جل شأنه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه} 5 وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ   1 سورة القلم آية: 4. 2 سورة الأنعام آية: 38. 3 سورة المائدة آية: 3. 4 الموافقات للشاطبي 4/12-13. 5 سورة النساء آية: 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2. قال الشافعي: "فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تبع له: الإيمان بالله، ثم برسوله"3. والإيمان به صلى الله عليه وسلم، يقتضي تصديقه واتباعه في كل ما جاء به، سواء كان قرآناً، أم سنة، وسواء كانت مثبتة لحكم لم يتعرض له القرآن، أم تعرض له، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّّ وَحْيٌ يُوحَى} 4. 2- وجوب طاعة الرسول: دلت نصوص القرNن على وجوب اتباعه وطاعته فيما يأمر به وينهى عنه، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 5.   1 سورة النور آية: 171. 2 سورة الأعراف آية: 158. 3 الرسالة للإمام الشافعي ص: 43. 4 سورة النجم آية: 3، 4. 5 سورة النساء آية: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 "والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته"1. وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} 2. قال الشاطبي: "وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله، فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه لا كتابه، وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن، إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله. وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3 فاختص الرسول عليه الصلاة والسلام بشيء يطاع فيه، وذلك السنة التي لم تأت في القرآن"4. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 5. وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 6. وقال: {إِنَّ   1 الموافقات للشاطبي 4/14، والسنة ومكانتها ص: 429، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/229، دار الفكر. بيروت. 2 سورة المائدة آية: 92. 3 سورة النور آية: 63. 4 الموافقات للشاطبي 4/14. 5 سورة النساء آية: 80. 6 سورة الحشر آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} 1. وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2. فهذه الآيات وغيرها من أدلة القرآن، تدل على لزوم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، في كل ما أمر به، ونهى عنه، ولو كان زائداً على ما في القرآن. 3- وردت أحاديث كثيرة دلت على ذم ترك السنة، والاكتفاء بالقرآن، ولو كان ما في السنة في القرآن لما كان الاكتفاء به تركاً لها. - منها ما أخرجه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته3يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من   1 سورة الفتح آية: 10. 2 سورة النساء آية: 65. 3 الأريكة: السرير المزين. انظر: تعليق الشيخ أحمد سعد علي على سنن أبي داود2/505. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا، لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا أكل كل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغتي عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم1بمثل قراه" 2. - ومنها ما أخرجه أيضاً عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" 3. - ومنها: ما أخرجه الخطيب البغدادي عن المقدام بن معد يكرب الكندي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم أشياء فذكر الحمر الإنسية، ثم قال: " يوشك رجل متكيء على أريكته يحدث بالحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا حلالا أحللناه، وما وجدنا حراماً حرمناه، ألا وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله عز وجل" 4.   1 من الأعقاب. وهو المجازاة بالصنيع. أي: يأخذ منهم بدل ما فاته من قراه. انظر: تعليق الشيخ أحمد سعد علي على سنن أبي داود 2/505. 2 أبو داود 2/505. 3 أبو داود 2/505. 4 الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص: 39، أبو داود 2/505، والموافقات 4/15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 4- "أن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة، لم ينص عليها في القرآن، كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع والعقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر … "1. أجاب القائلون بأن السنة لم تثبت من الأحكام إلا ما له أصل في القرآن، عن أدلة الفريق الآخر بما يأتي: أما عن الدليل الأول: فقالوا: إن السنة بيان وشرح للقرآن، قال الشاطبي: "لأنا إذا بنينا على أن السنة بيان للكتاب، فلا بد أن تكون بياناً لما في الكتاب احتمال له ولغيره، فتبين السنة أحد الاحتمالين دون الآخر. فإذا عمل المكلف على وفق البيان أطاع الله فيما أراد بكلامه، وأطاع رسوله في مقتضى بيانه، ولو عمل على مخالفة البيان عصى الله تعالى في عمله على مخالفة البيان، إذ صار عمله على خلاف ما أراد بكلامه، وعصى رسوله في مقتضى بيانه، فلم يلزم من إفراد الطاعتين تباين المطاع فيه بإطلاق، وإذا لم يلزم ذلك، لم يكن في الاَيات دليل على أن ما في السنة ليس في الكتاب"2.   1 الموافقات للشاطبي 4/16. 2 نفس المصدر 4/19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وأيضاً قالوا: إن زيادة الأحكام في السنة إنما هي زيادة الشرح على المشروح، وإلا لم يكن شرحاً، وهذا ليس بزيادة في الواقع. وعلى هذا المعنى ينزل الدليل الثاني1. وأجابوا عن الدليل الثالث بما يتلخص في أن الكتاب دل على وجوب العمل بالسنة، لأنها بيان له وشرح، وإن اختلفت مآخذ العلماء في ذلك بما يأتي: 1- فمنهم من سلك سبيل العموم، وجعل العمل بالسنة عملاً بالقرآن، ومن هؤلاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فروى أن امرأة من بني أسد أتته فقالت: "بلغني أنك لعنت ذيت وذيت، والواشمة والمستوشمة، إني قد قرأت ما بين اللوحين، فلم أجد الذي تقول". فقال لها عبد الله: "أما قرأت {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} 2؟ "قالت: "بلى". قال: "فهو ذاك". وفي رواية قال عبد الله: "لعن الله الواشمات والمستوشمات3 والمتنمصات4 والمتفلجات للحسن   1 نفس المصدر 4/20، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي ص: 385. 2 سورة الحشر آية: 7. 3 الوشم غرز الجلد بإبره وحشوه كحلاً أو غيره ليخضر مكانه اهـ هدي الساري ص: 205. 4 النامصة: التي تنتف الشعر، المتنمصة التي تطلبه اهـ هدي الساري ص: 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 المغيّرات خلق الله" قال: "فبلغ ذلك امرأة من بني أسد" فقالت: "يا أبا عبد الرحمن بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت" فقال: "وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله! ". فقالت المرأة: "لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته". فقال: "لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه"،قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1. فظاهر قوله في هو في كتاب الله ثم فسر ذلك بقوله {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} دون قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} 2 أن تلك الآية تضمنت جميع ما في الحديث النبوي. وروي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرماً عليه ثيابه، فنهاه فقال: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي. فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية. وروي أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: "أتركهما". فقال: "إنما نهى عنهما أن تتخذ سنة". فقال ابن عباس: "قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر" فلا أدري أتعذب عليهما   1 صحيح البخاري 7/212 فما بعدها، وصحيح مسلم 6/166، وجامع بيان العلم وفضله 2/230. 2 سورة النساء آية: 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 أو تؤجر؟ لأن الله قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} .1 2- أن السنة بيان لما أجمل ذكره من الأحكام، إما بحسب كيفيات العمل، أو أسبابه، أو شروطه، أو موانعه، أو لواحقه، أو ما أشبه ذلك، كبيانها للصلوات على اختلافها، في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها، وبيانها الزكاة ومقاديرها، ونصب الأموال المزكاة، وتعين ما يزكى مما لا يزكى، وبيان أحكام الصوم، وما فيه مما لم يقع النص عليه في الكتاب، وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية، والحج والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل، والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق، والرجعة والظهار واللعان، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره، كل ذلك بيان لما وقع مجملاً في القرآن. وهو الذي يظهر دخوله تحت الآية الكريمة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2. وقد روي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: "إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعاً لا يجهر فيها بالقراءة؟ " ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: "أتجد هذا في كتاب الله مفسراً؟ إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك".   1 الموافقات 4/24-25، والآية من سورة الأحزاب 36. 2 سورة النحل آية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير: "لا تحدثونا إلا بالقرآن". فقال مطرف: "والله لا نريد بالقرآن بدلاً، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا". وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: "كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك". قال الأوزاعي: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب". قال ابن عبد البر: "يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه". وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب، فقال: "ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكني أقول: السنة تفسر الكتاب وتبينه"1. 3- "أن القرآن قد ينص على حكمين متقابلين، ويكون هناك ما فيه شبه بكل واحد منهما؟ فتأتي السنة فتلحقه بأحدهما أو تعطيه حكماً خاصاً يناسب الشبهين، وقد ينص القرآن على حكم بشيء لعلة فيه، فيلحق به الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجدت فيه العلة، عن طريق القياس"2.   1 الموافقات 4/25-26، والسنة ومكانتها للسباعي ص: 386 فما بعدها، وجامع بيان العلم وفضله 2/234. 2 السنة ومكانتها ص: 388، وا نظر تفاصيل ذلك كلهـ في الموافقات 4/32 فما بعدها. وإليك مثالاً لكل من الأنواع الثلاثة التي أشار إليها السباعي أعلاهـ ثم ذكرها: مثال الحكمين المتقابلين: "أن الله أحل الطيبات وحرم الخبائث، فبقيت هناك أشياء لا يدري أهي من الطيبات أم من الخبائث، فبين عليه السلام أنها ملحقة بإحداهما، فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، كما ألحق عليه السلام الضب والحبارى والأرنب وأشباهها بالطيبات" اهـ السباعي. السنة ومكانتها ص: 389. مثال لما أعطي حكماً خاصاً بين شبهين: "جعل الله النفس بالنفس، وأقص من الأطراف بعضها من بعض، أما في الخطأ: ففي القتل الدية، وفي الأطراف دية بينتها السنة، فأشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بضربة من غيرها، فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف، ويشبه الإنسان التام لخلقته، فبينت السنة أن ديته الغرة عبد أو أمة وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين فيه" اهـ السباعي، السنة ومكانتها ص: 389-390. مثال لما ألحق بطريق القياس: "حرم الله الجمع بين الأختين في النكاح وجاء في القرآن: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] فجاء نهيه عليه السلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس، لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع بين الأختين موجود هنا، وهو ما عبر عنه في الحديث: " فإنكم إذا فعلتم ذلك، قطعتم أرحامكم" والتعليل يشعر بوجه القياس" اهـ السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص: 390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 4- أن القرآن تضمن المقاصد الكلية للتشريع التي يقصدها في مختلف نصوصه وإنما في السنة من أحكام لا يعدو هذه المقاصد، لأن القرآن جاء بما يكفل مصالح العباد في الدارين، وجماع سعادة العباد في الدارين في ثلاثة أشياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 1- الضروريات وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. 2- الحاجيات وهي: كل ما يؤدي إلى التوسعة ورفع الضيق والحرج كإباحة الفطر في السفر والمرض. 3- التحسينيات وهي: ما يتعلق بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات كالطهارة وأخذ الزينة في اللباس ومحاسن الهيئات والطيب1. وقد دل الاستقراء على أن هذه المقاصد الثلاثة ومكملاتها قد جاء بها القرآن الكريم أصولاً يندرج تحتها كل ما في القرآن من أحكام، وجاءت بها السنة بياناً وتفصيلاً لما ورد في القرآن منها. فالسنة إذن في مجموعها ترجع بالتحليل إلى هذه الأصول الثلاثة2. الإجابة عما أجيب به عن أدلة الجمهور: للجمهور أن يردوا على تلك الإجابات بما يأتي: أما عن الجواب الأول والثاني: فإنما كان من السنة بياناً لما احتمله الكتاب، فهذا لا نزاع في أنه بيان للكتاب وشرح له، وإنما الخلاف، فيما استقلت السنة بتشريعه مما لم   1 الموافقات 4/31. 2 انظر تفاصيل ذلك في السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للسباعي ص: 388، والموافقات للشاطبي 4/27 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 يتعرض له الكتاب نفياً أو إثباتاً، وهو الذي دلت النصوص السابقة على وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وطاعته صلى الله عليه وسلم فيه طاعة لله لأمره تعالى بطاعة رسوله فيما شرعه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 1 الآية. وقال جل شأنه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وقول الشاطبي: -رحمه الله- إن قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3 وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} 4 وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 5 وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 6 والآيتين اللتين ذكرتهما قبل هذه الآيات آنفا، لم يكن فيها دليل على أن   1 سورة النساء آية: 59. 2 سورة النور آية: 63. 3 سورة النساء آية: 65. 4 سورة المائدة آية: 92. 5 سورة السناء آية: 80. 6 سورة الحشر آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ما في السنة ليس في الكتاب، تقدم1 توجيه دلالة النصوص على أن في السنة من التشريع مالم يتعرض له القرآن نفياً أو إثباتاً. ويرد على الجواب الأول مما أجابوا به عن دليل الجمهور الثالث والرابع بأن ما استدلوا به مما نقلوه عن عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن يزيد، وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهم- فإنما يدل على وجوب اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتثال ما يأمر به واجتناب ما ينهى عنه، لأن قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} 2الآية، لا يدل بمنطوقه أو مفهومه على لعن الواشمة والمستوشمة … إلخ، وإنما يدل على لزوم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، واتباعه صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به محل اتفاق. ويجاب على الدليل الثاني عن دليل الجمهور الثالث والرابع: بأن ما استدلوا به من أن السنة بيان لما أجمل ذكره من الأحكام ... إلخ. يقال فيه: إن الخلاف فيما أثبتته السنة مما لم يتعرض له القرآن نفياً أو إثباتاً، أما ما كان داخلاً تحت نصوصه فلا خلاف فيه. وما رووه عن عمران بن حصين وغيره، لا يرد علينا، لأنا لا نرى الاكتفاء بالقرآن، وعدم الاحتجاج بالسنة، بل نرى أن السنة بيان للقرآن فيما يمكن أن يدخل تحت منطوقه أو مفهومه، وأما ما لا يمكن دخوله   1 انظر: ص: 42 من هذا البحث فما بعدها. 2 سورة الحشر آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 تحته، مما لم يتعرض له القرآن نفياً أو إثباتاً، نرى أنه تشريع استقلت به السنة، يجب اتباعه بنص كتاب الله1. ويجاب عن الثالث منه: بأنه لا داعي إلى الإلحاق بالشبه والقياس، لثبوت تلك الأحكام بالسنة، لا سيما وأننا متفقون جميعاً على وجوب العمل بما ثبت بالسنة. ويجاب عن الرابع منه: بأن ما استدلوا به من أن القرآن تضمن المعاني الكلية الكفيلة بسعادة الدنيا والآخرة، وإنما في السنة لا يعدو تلك المعاني وهي: 1- الضروريات. 2- الحاجيات. 3- التحسينيات ومكملاتها، حيث كان القرآن أصولا يندرج تحتها كل ما في القرآن من أحكام، والسنة بياناً وتفصيلاً لما فيه منها. فإن ذلك لا يمنع أن تثبت السنة من الأحكام مالم يكن في القرآن، ويتضمن تلك المقاصد، لا سيما وقد ثبت في السنة من ذلك ما يعسر استنباطه من نصوص القران. - فمن ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه "من قتل قتيلاً فله سلبه "2.   1 انظر: ص: 42 من هذا البحث فما بعدها. 2 مسلم مع النووي 12/59، وسبل السلام 4/52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 - ومنه حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى بيمين وشاهد" 1. - ومنه حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الكاليء بالكاليء"، يعني الدين بالدين2. - ومنه حديث عائشة -رضيٍ الله عنها- قالت: "اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاماً بنسيئة، فأعطاه درعا له رهناً "3. - ومنه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مالم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة "4. - ومنه ما أخرجه مالك عن قبيصة بن أبي ذئب أنه قال: "جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال أبو بكر: "مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى   1 الموطأ 2/721، أبو داود 2/277، الأم للشافعي 7/182، الأميرية ببولاق سنة: 1324هـ مصر. 2 سبل السلام 3/44-45، وقال:" رواه أبو إسحاق، والبزار بإسناد ضعيف، ورواه الحاكم والدارقطني من دون تفسير، لكن في إسناده موسى بن عبدة الربذي وهو ضغيف". قال أحمد:" ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين" اهـ الصنعاني من نفس المصدر. 3 صحيح مسلم مع النووي 11/39، صحيح البخاري 3/176. 4 صحيح البخاري 3/98-99، والموطأ 2/713. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أسأل الناس". فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: "حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس". فقال أبو بكر: "هل معك غيرك؟ " فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق"1. - ومنه ما أخرجه البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- في تخيير الأمة إذا عتقه تحت عبد. قالت عائشة: "فدعاها- تعني بريرة- النبي صلى الله عليه وسلم، فخيرها من زوجها. فقالت: "لو أعطيتني كذا وكذا ما ثبت عنده، فاختارت نفسها"2. - ومنه في إحداد المتوفى عنها زوجها، ما أخرجه مسلم عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" 3. - ومنه في العقل وفكاك الأسير ما أخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة قال: " سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه هل عندكم من شيء مما ليس في القرآن؟ "وقال ابن عيينة مرة: "ما ليس عند الناس". فقال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهماً يعطى رجل في   1 الموطأ مع تنوير الحوالك 1/335، والكفاية للخطيب البغدادي ص: 66، ونيل الأوطار 6/175، وابن ماجة 2/84. 2 صحيح البخاري 3/182، وصحيح مسلم 4/214. 3 صحيح مسلم 4/202، والموطأ 2/596. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 كتابه، وما في الصحيفة". قلت: "وما في الصحيفة؟ " قال: "العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر"1. - ومنه ما أخرجه مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة "2. - ومنه ما أخرجه الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى أن الخراج بالضمان " قال: هذا حديث صحيح غريب3. - ومنه ما أخرجه البخاري عن عروة عن عبد الله بن الزبير-رضي الله عنهما- أنه حدثه "أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة4 التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: "سرح الماء يمر" فأبى عليه فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق يا زبير،   1 صحيح البخاري 9/16. 2 صحيح مسلم 4/162، والموطأ 2/601. 3 الترمذي مع تحفة الأحوذي، 4/508، قال ابن حجر بعد أن أخرجه في بلوغ المرام: "رواه الخمسة وضعفه البخاري وأبو داود وصحّحه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان" قال الصنعاني: "الحديث أخرجه الشافعي وأصحاب السنن بطوله، وهو: "أن رجلاً اشترى غلاماً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عنده ما شاء الله، ثم رده من عيب وجده، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم برده بالعيب، فقال المقضى عليه: "قد استعملته"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان". والخراج هو: الغلة والكراء. اهـ من سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام 3/30. 4 شراج الحرة: مسائل المياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ثم أرسل الماء إلى جارك"، فغضب الأنصاري، فقال: "أن كان ابن عمتك"، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" 1. - ومنه ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال: "يا رسول الله هلكت"، قال: "مالك؟ " قال: "وقعت على امرأتي وأنا صائم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال: "لا". قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: "لا". فقال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ " قال: "لا". قال فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أوتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر، والعرق المكتل، قال: "أين السائل" فقال: "أنا"، قال: "خذ هذا فتصدق به"، فقال الرجل: "أعلي أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها- يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي"، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: "أطعمه أهلك "2. - ومنه ما أخرجه البخاري أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أليس إذا حاضت -يعني المرأة-لم تصل ولم تصم؟ "3.   1 صحيح البخاري 3/138، وسنن أبي داود 2/283-284. 2 صحيح البخاري 3/39-40، وصحيح مسلم مع النووي 7/224 فما بعدها، وسبل السلام شرح بلوغ المرام 2/163. 3 صحيح البخاري 3/43، وسبل السلام 3/33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 - ومنه ما أخرجه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه مالم يتفرقا إلا بيع الخيار" 1. فقد تضمنت هذه الأحاديث وغيرها من الأحكام ما لم يتعرض له القرآن نفياً أو إثباتاً، بل أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنص عنها"2. هل للخلاف أثر؟ لم يترتب على اختلاف، الفريقين أثر، لاتفاقهما على وجوب العمل بكل ما ثبت بالسنة. وغاية الخلاف: أن أحدهما يقول بإثبات السنة لأحكام ليست في القرآن، والفريق الآخر يقول: لم تثبت إلا ما هو مندرج تحت نص من القرآن، أو تحت قاعدة عامة من قواعده.   1 صحيح مسلم 5/9، وصحيح البخاري 3/80، والموطأ مع تنوير الحوالك 2/79، وتحفة الأحوذي شرح الترمذي 4/448. 2 أعلام الموقعين لابن القيم 3/316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 أقسام الخبر باعتبار عدد رواته، وبيان ما يفيده كل قسم: ينقسم الخبر باعتبار عدد رواته إلى: متواتر، وآحاد: الأول التواتر: التواتر في اللغة: تتابع أمور واحداً بعد واحد بفترة بينهما، مأخوذ من الوتر، ومن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} 1. أي واحداً بعد واحد بينهما فترة، والتاء الأولى مبدلة من واو كتاء تقوى. وقيل: التواتر التتابع مطلقا، ومنه قول لبيد في معلقته: يعلو طريقة متنها متواتراً ... في ليلة كفر النجوم غمامها2 وقول حميد: قرينة سبع إن تواترن مرة ... ضربن وصفت أرؤس وجنوب3 الخبر المتواتر في اصطلاح الأصوليين: اختلفت عبارات الأصوليين تعريف الخبر المتواتر، وإن كانت متفقة في المعنى، وإليك تعريفاتهم:   1 سورة المؤمنون آية: 44. 2 انظر: البيت في مختارات الشعر الجاهلي 2/391، بشرح محمّد سيد كيلاني. 3 انظر: تاج العروس 3/596 فما بعدها، ولسان العرب 5/275 فما بعدها، والمختصر لابن الحاجب 2/51، والإحكام للآمدي 2/14، ومذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص: 99-100، وروح المعاني للألوسي 18/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فقد عرفه ابن الحاجب1 بأنه: " خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه"2. وقال الآمدي: "والحق أن المتواتر في اصطلاح المتشرعة عبارة عن خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بمخبره"3. فكل منهما قيده بكونه خبر جماعة، احترازاً من خبر الواحد، وبكونه مفيداً بنفسه العلم احترازاً من خبر جماعة لا يفيد العلم بنفسه، وإنما أفاد العلم بغير نفسه كالخبر المحتف بالقرائن، أو بغير القرائن، كالعلم بمخبره ضرورة أو نظراً، فهما متفقان كما ترى4. وعرفه البيضاوي5 بأنه " خبر بلغت رواته في الكثرة مبلغاً   1 هو: الإمام جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر، الفقيه الأصولي، النحوي، المالكي، كان علامة زمانه ورئيس أقرانه، وكان أبوه حاجباً فعرف به، له مؤلفات غاية في التحقيق منها: الكفاية في النحو، مختصر منتهى السول والأمل في الأصول. توفي سنة: 646هـ. انظر: الأعلام للزركلي 4/374، والفتح المبين في طبقات الأصوليين2/65-66. 2 المختصر لابن الحاجب 2/51. 3 الإحكام للآمدي 2/15. 4 انظر تفاصيله في: المختصر 2/52، والإحكام للآمدي 2/15. 5 هو: عبد الله بن عمر بن محمّد بن عليّ البيضاوي الشافعي، الملقب بناصر الدين، المكنى بأبي الخير، المعروف بالقاضي. المفسر المحدث الفقيه، الأصولي المتكلم، الإمام، له مؤلفات عديدة منها: منها الوصول في أصول الفقه وشرح المختصر لابن الحاجب، وشرح المنتخب في أصول الفقه. توفي سنة: 685هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أحالت العادة تواطؤهم على الكذب"1. وهذا التعريف كما ترى لا يختلف عن التعريفين السابقين، وكلها خلت عن قيد كون الخبر عن أمر محسّ، فيرد على تلك التعريفات ما كان متواتراً بالنظريات، وما كان كذلك لا يفيد العلم، لأن الجم الغفير إذا أخبروا عن قدم العالم، فإن خبرهم قد لا يفيد العلم، وقد يقال بأن قيدهم بإفادته للعلم يخرج ما كان متواتراً بالنظريات. وعرفه القرافي بأنه "خبر أقوام عن أمر محسّ، يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة"2. فقيده بكونه خبر أقوام احترازاً من خبر الواحد، وبكونه عن أمر محسّ، احترازاً عن النظريات، فإن الجمع العظيم إذا أخبروا عن حدوث العالم أو غير ذلك، فإن خبرهم لا يحصل العلم، ويعني بالمحسِّ ما يدرك بإحدى الحواس الخمس. وقيده باستحالة تواطئهم على الكذب، احترازاً عن أخبار الآحاد، وبقوله: عادة احترازاً من العقل، لأن العلم   1 منهاج الوصول مع شرحيه نهاية السول والبدخشي 2/214. 2 شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول ص: 349. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المتواتر عادي لا عقلي، إذ العقل يجوز الكذب على كل عدد وإن عظم1. فهذه التعريفات ترجع إلى أنه كل خبر بلغ رواته في الكثرة عدداً يستحيل عادة معه تواطؤهم وتوافقهم على الكذب، عن أمر مدرك بإحدى الحواس الخمس، نحو سمعت ورأيت، لأن تواطؤ العدد الكثير في المعقولات غير مستحيل، بل واقع فقد تواطأ الجم الغفير على قدم العالم، وهو باطل.   1 نفس المصدر ص: 349-350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 تعريف الخبر المتواتر عند أهل الحديث ذكر ابن الصلاح1 أن: "أهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الحافظ الخطيب2 قد ذكره، ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في رواياتهم، فإنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولابد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه"3. ولعل ما ذكره ابن الصلاح من عدم ذكر أهل الحديث لتعريفه خاص بالقدماء منهم، لأن متأخريهم يعرفونه بما يتفق مع تعريف أهل الأصول وإن لم يفصلوا فيه القول مثل أهل الأصول.   1 هو: عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن أبي موسى، المعروف بابن الصلاح، الإمام المحدث الفقيه الأصولي الشافعي له مؤلفات كثيرة منها: طبقات الفقهاء، وأدب المفتي والمستفتي، وعلوم الحديث. ولد سنة: 577هـ وتوفي سنة: 643هـ. انظر: مقدمة علوم الحديث للدكتور نور الدين العتر ص: 21-27، والفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي 2/63-64. 2 هو: أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت بن أحمد، المعروف بالخطيب البغدادي الحافظ الإمام محدث الشام والعراق، صحاب التصانيف الكثيرة، منها: تاريخ بغداد، والكفاية في علم الرواية. ولد سنة: 392هـ وتوفي سنة: 463هـ. انظر: تقديم محمّد الحافظ التجاني للكفاية في علم الرواية ص: 17-21. 3 علوم الحديث لابن الصلاح ص: 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وما أشار إليه من تعريف الحافظ الخطيب له فهو قوله: "فأما الخبر المتواتر، فهو ما يخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حداً يعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة، أن اتفاق الكذب منهم محال، وأن التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذر، وإنما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم، فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم قطع على صدقه، وأوجب وقوع العلم ضرورة"1. كما عرفه ابن حجر2 بقوله: " المتواتر هو الخبر الذي جمع أربعة شروط، وهي: - عدد كثير أحالت العادة تواطؤهم، وتوافقهم على الكذب. - رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء. - وكان مستند انتهائهم الحس.   1 الكفاية في علم الرواية ص: 50. 2 هو: أحمد بن عليّ بن أحمد أبو الفضل الكناني، الشافعي، المعروف بابن حجر العسقلاني، حامل لواء السنة، وقاضي الفضاة أوحد الحفاظ والرواة. ولد سنة: 773هـ. له مؤلفات كثيرة جليلة على جلالة قدره، ورسوخه في العلم. منها: الإصابة في أسماء الصحابة، وتهذيب التهذيب، والتقريب، ونخبة الفكر، وشرحها، وفتح الباري شرح صحيح البخاري. توفي سنة: 852هـ. انظر: مقدمة سبل السلام شرح بلوغ المرام ص: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 - وانضاف إلى ذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه1. ثم قال: "وإنما أبهمت شروط المتواتر في الأصل، لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد، إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أوضعفه، ليعمل به أو يترك من حيث صفات الرجال وصيغ الأداء، والمتواتر لا يبحث عن رجاله، بل العمل به من غير بحث"2. فلاح بما ذكر أن التعريف لعلماء أصول الفقه، وأن من عرفه من المحدثين إنما اتبع طريقة الأصوليين. وقد عرفه السيوطي في ألفيته في المصطلح بقوله: وما رواه عدد جم يجب إحالة اجتماعهم على الكذب فالمتواتر ... 3. هل فيه فرق بين تعريف الأصوليين والمحدثين له؟ لا فرق بين التعريفين كما هو واضح مما أسلفت نقله عنهما، ولعل ذلك راجع إلى أن من عرفه من أهل الحديث اتبع في تعريفه تعريف الأصوليين، ويدل لذلك ما تقدم آنفا من قول ابن الصلاح إن أهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، ولذا فقد عرفه   1 نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر مع شرحه ص: 3. 2 نفس المصدر ص: 4. 3 ألفية السيوطي في المصطلح مع شرحها لمحمّد محي الدينن عبد الحميد ص: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 بأنه عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، وهذا التعريف مثل تعريف الآمدي، حيث قال: "خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بمخبره " 1. وما ذكره الخطيب، والحافظ ابن حجر، والسيوطي -رحمهم الله- لا يختلف عن ذلك كما ترى. والله أعلم.   1 الإحكام للآمدي 2/15، والمختصر لابن الحاجب 2/51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 شروط التواتر يشترط في الخبر لتواتره عند الأصوليين شروط: منها ما اتفق عليه، ومنها ما اختلف فيه. الشروط المتفق عليها هي: 1- أن يبلغ رواته عدداً يستحيل معه التواطؤ على الكذب عادة. 2- أن يكون مستند خبرهم إلى أمر محسوس نحو قولهم: رأينا وسمعنا. 3- أن لا يقل عدد رواته في كل طبقة من طبقات السند من أوله إلى آخره عن عدد التواتر، من غير قيده بعدد معين، لأن ضابطه حصول العلم الضروري، فمتى حصل علم أنه متواتر، وإلا فهو غير متواتر. وبهذا قال الجمهور. وذهب البعض إلى أنه لا يحصل بأقل من خمسة للاتفاق على تزكية الأربعة في شهادة الزنا. وقيل: خمسة، لأن الخمسة عدد أولي العزم من الرسل، وقيل: سبعة عدد أهل الكهف، وقيل: عشرة، لأن ما دونها جمع قلة. وقيل: اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل لقوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} 1. وقيل: عشرون لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ   1 سورة المائدة آية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 1. وقيل: أربعون، لأنه العدد المعتبر في الجمعة. وقيل: سبعون لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} 2 وقيل: ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر. وبالنظر إلى هذه الأدلة نجد أنها لا تمت لموضوع الخلاف بصلة، ولذا قال الشوكاني: "يا لله للعجب من جري أقلام أهل العلم بمثل هذه الأقوال التي لا ترجع إلى عقل، ولا نقل، ولا يوجد بينها وبين محل النزاع جامع"3. وذكر الغزالي أن ما ذكروه "تحكمات فاسدة باردة لا تناسب الغرض ولا تدل عليه، ويكفي تعارض أقوالهم دليلاً على فسادها، فلا سبيل لنا إلى حصر عدده، لكنا بالعلم الضروري نستدل على العدد الذي هو الكامل عند الله تعالى. قد توافقوا على الأخبار"4.   1 سورة الأنفال آية: 65. 2 سورة الأعراف آية: 155. 3 إرشاد الفحول، وبهامشه شرح العبادي على شرح المحلى للورقات ص: 47، وانظر تفاصيل ذلك في نفس الصفحة فما بعدها، والإحكام للآمدي 2/24 فما بعدها. 4 المستصفى للغزالي 1/138، وروضة الناظر لابن قدامة ص: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 واختاره الآمدي قال: "وذلك لأنا لا نجد من أنفسنا معرفة العدد الذي حصل علمنا بوجود مكة، وبغداد وغير ذلك من المتواترات عنده"1. الشروط المختلف فيها: 1- اختلفوا في اشتراط كونهم عالمين بالمخبر عنه، فعده الآمدي والغزالي من الشروط المتفق عليها2. وقال ابن الحاجب: "إنه غير محتاج إليه، لأنه إن أريد الجميع فباطل، لأنه لا يمتنع أن يكون بعض المخبرين مقلداً فيه، وإن أريد البعض فلازم مما قبل"3 أي أن توفر الشروط الثلاثة المتقدمة يقتضي حصول العلم للبعض. 2- اختلفوا في اشتراط العدالة والإسلام، كما في الشهادة، ولأن الكفر عرضة للكذب والتحريف، والعدالة والإسلام ضابط الصدق والتحقيق وإلا أفاد إخبار النصارى بقتل المسيح العلم. وأجيب بأن أخبارهم لم تستوف شروط التواتر في المرتبة الأولى.   1 الإحكام للآمدي 2/26. 2 الإحكام للآمدي 2/25، والمستصفى 1/134. 3 المختصر لابن الحاجب مع شرحه 2/53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ورد بأنا نجد من أنفسنا العلم بما نقله عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب وإن كانوا كفاراً كما لو أخبر أهل قسطنطينية وإن كانوا غير عدول أو كفار بقتل ملكهم، لأن الكثرة تمنع من الكذب. 3- واختلفوا في عدم الاجتماع في البلد والنسب والدين والوطن، كما اشترطت الشيعة أن يكون منهم معصوم، وإلا لم يمنع الكذب. واشترط اليهود أن يكون فيهم أهل الذلة، فإنهم يمتنع تواطؤهم عادة للخوف بخلاف أهل العزة، فإنهم لا يخافون. والكل فاسد، للعلم بحصول العلم بدون ذلك1. وقد عرفه صاحب مراقي السعود مشيراً إلى ما تقدم وإلى قسميه الآتيين بقوله: واقطع بصدق خبر التواتر ... وسو بين مسلم وكافر واللفظ والمعنى وذاك خبر ... من عادة كذبهم منحظر من غير معقول، وأوجب العدد ... من غير تحديد على ما يعتمد وقيل بالعشرين أو بأكثر ... أو بثلاثين أو اثنى عشرا الغاء الأربعة فيه راجح ... وما عليها زاد فهو صالح وأوجبن في طبقات السند ... تواترا وفقاً لدى التعدد2   1 انظر تفاصيل ذلك في شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/55، والإحكام للآمدي 2/27. 2 فتح الودود شرح مراقي السعود ص: 215 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ولا يخفى أن قوله: "ما زاد على الأربعة صالح لأن يكون خبره خبراً متواتراً" أنه رأى لبعض العلماء، وقد تقدم إبطاله آنفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أقسام التواتر: المتواتر قسمان: أ- تواتر في اللفظ: وهو ما تواتر عليه رواته في اللفظ نحو: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"1. 2- معنوي: وهو ما اتفق رواته في المعنى دون اللفظ، كأحاديث الشفاعة2، وأحاديث رؤية المؤمنين لله يوم القيامة، وغير ذلك3. ما يفيده الخبر المتواتر: اتفق العقلاء أن الخبر المتواتر بشروطه يفيد العلم بصدقه، وخالفت   1 صحيح البخاري 1/38، وصحيح مسلم 1/7 فما بعدها، أبو داود 2/287، ابن ماجة 1/9. 2 صحيح البخاري 9/179، فما بعدها، وصحيح مسلم 1/117 فما بعدها. 3 انظر تفاصيله في أصول الحديث ومصطلحه، د. محمّد عجاج الخطيب ص: 301، الإحكام لابن حزم 1-4/94 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 السمنية1 والبراهمة2 في ذلك، حيث قالوا: "لا علم في غير الضروريات إلا بالحواس دون الأخبار". وما ذكروه من نفي إفادة الخبر المتواتر للعلم مكابرة وخلاف باطل لا يستحق قائله الجواب عليه. فإنا نجد من أنفسنا العلم الضروري بالبلاد النائية، والأمم الخالية، والقضايا الماضية بما يرد علينا من الأخبار، كما نجد العلم بالمحسوسات من غير فرق بينهما فيما يعود إلى الجزم بالعلم بالصدق في كل ذلك. وليس ذلك إلا بالأخبار قطعاً، ومن أنكر حصول العلم بذلك، فقد سقطت مكالمته وظهر جنونه أو مجاحدته.   1 السمنية بضم السين وفتح الميم طائفة تعبد الأصنام، دهرية تقول بالتناسخ، وتنكر حصول العلم بالأخبار، تنسب إلى صنم يسمى سمن أو بلد يسمى سمونات. انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص: 98، والمسودة لآل تيمية ص: 234، وتعليق عبد الرؤوف سعد علي، على شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 350. 2 البراهمة: طائفة من طوائف الهند تنكر النبوات أصلاً، وتنسب إلى رجل يقال له: برهام، قرر لهم استحالة النبوات، بأن ما يأتي به الرسول إن كان معقولاً، فالعقل كافٍ في إدراكه، ولا حاجة إلى الرسول، وإن كان غير معقولٍ فلا يقبل، لأن في قبوله خروجاً عن حد الإنسانية إلى البهيمية، وإن الله حكيم يستحيل عليه أن يتعبد المخلوقات بما لا تدركه العقول، وإن العقل دل على أن للعالم صانعاً، والحكيم لا يتعبد الخلق بما تستقبحه العقول. انظر: الملل والنحل للشهرستاني مع الفصل 5/174-176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 أقوال العلماء في نوع العلم الحاصل به: 1- أن الخبر المتواتر يفيد العلم النظري، وهو ما كان عن نظر واستدلال، وهذا منقول عن الكعبي، وأبي الحسين البصري. 2- أنه يفيد العلم الضروري، وهو الذي يضطر الإنسان إليه بحيث لا يمكنه دفعه، وهذا هو المعتمد، وبه قال الجمهور. احتج الجمهور على كون العلم الحاصل بخبر التواتر ضرورياً، بأنه لو كان نظرياً لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر كالصبيان المراهقين. وكثير من العوام، إذ النظر ترتيب أمور معلومة، أو مظنونة ليتوصل بها إلى علوم، أو ظنون، وليس في الصبيان، ولا العوام أهلية لذلك، فلوكان نظرياً لما حصل لهم العلم به، فلما حصل لهم به العلم علمنا أنه غير نظري1. الثاني الآحاد. الآحاد جمع أحد، وهو بمعنى الواحد، وهمزة أحد مبدلة من واو، فأصلها وحد، وربما جاءت على الأصل كما في قول نابغة ذبيان: كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنس وحد2   1 انظر تفاصيل ذلك في الإحكام للآمدي 2/15، ومختصر ابن الحاجب مع شروحه 2/52، وإرشاد الفحول مع شرح العبادي للورقات ص:46-47، ونخبة الفكر مع شرحها لابن حجر ص: 3-4. 2 انظر البيت في كتاب مختارات الشعر الجاهلي 1/150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ويجمع الواحد على أحدان، والأصل وحدان، فقلبت الواو همزة لانضمامها. قال الهذلي: يحمى الصريبة أحدان الرجال له صيد ومجتريء باللين هماس1 وأما تعريف خبر الآحاد عند الأصوليين فقد اختلفوا فيه: فقيل: "ما أفاد الظن". وهذا التعريف غير مطرد ولا منعكس. أما عدم الاطراد، فلأن القياس يفيد الظن، وهو ليس بخبر. أما عدم الانعكاس، فهو فيما إذا أخبر واحد بخبر لم يفد الظن. وقيل: "ما لم يصل إلى حد التواتر، وإن روته جماعة". وهذا التعريف كما ترى شامل للخبر الذي لم يترجح جانب الصدق فيه. وأجيب عنه بأن المقصود تعريف الخبر الذي يعتد به في الأحكام، ولا يكون متواتراً. وعلى هذا يصح أن نعرفه: بأنه الخبر الذي لم ينته إلى حد التواتر، ولم يقصر عن درجة الاحتجاج به، وإن روته جماعة، وعليه فالمشهور منه، إذ لا واسطة بين المتواتر والآحاد.   1 انظر لسان العرب لابن منظور 3/447-448، والقاموس المحيط 1/283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وخالفت الحنفية، فجعلت القسمة ثلاثية: متواتراً، ومشهوراً، وآحاداً. المشهور عند الحنفية: عرفت الحنفية المشهور بأنه ما كان من الآحاد في الأصل ثم تواتر في القرن الثاني والثالث، وهو عندهم يفيد علم طمأنينة، وبمنزلة المتواتر في الاحتجاج به، ويضلل جاحده ولا يكفر، وهو دون المتواتر، وفوق الآحاد، ومثلوا له: بحديث المسح على الخفين1، وحديث الرجم2. وعرف صاحب مراقي السعود خبر الآحاد بقوله: وخبر الآحاد مظنون عرا ... عن القيود في الذي تواترا والمستفيض منه وهو أربعة ... أقله وبعضهم قد رفعه عن واحد وبعضهم عما يلي ... وجعله واسطة قوله جلي3   1 صحيح البخاري 1/60، وصحيح مسلم 1/156 فما بعدها، والموطأ 1/36. 2 انظر: المختصر لابن الحاجب مع شروحه 2/55، والإحكام للآمدي 2/31، وكشف الأسرار 2/368، والمنار وحواشيه ص: 618-619، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص: 180. 3 فتح الودود شرح مراقي السعود ص: 219 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 المشهور عند المحدثين: عرفه ابن حجر بأنه: "ما له طوق محصورة بأكثر من اثنين، سمي بذلك لوضوحه، وهو المستفيض على رأي جماعة، سمي بذلك لانتشاره من فاض الماء يفيض، ومنهم من غاير بين المستفيض والمشهور: بأن المستفيض ما يكون في ابتدائه وانتهائه سواء، والمشهور أعم من ذلك، وهو يشمل ما له إسناد واحد فصاعداً، وما ليس له إسناد أصلاً"1.   1 شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ص: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الباب الأول: فيما يفيد خبر الواحد الفصل الأول: في أن خبر الواحد العدل إنما يفيد الظن فقط ... الباب الأول فيما يفيده خبر الواحد اختلف العلماء فيما يفيده خبر الواحد العدل1 الضابط2 عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلى من انتهى إليه من صحابي أو غيره.   1 العدل في اللغة: التوسط، واصطلاحاً يراد به هنا المسلم البالغ العاقل الذي له ملكة تحمله على ملازمة التقوى، والمروءة، وذلك بأن لا يرتكب كبيرة، ولا يصر على صغيرة، ويترك من المباحات ما يقدح في المروءة. قال ابن عاصم معرفاً له في منظومته: العدل من يجتنب الكبائر ... ويتقي في الأغلب الصغائرا وما أبيح وهو في العيان ... يقدح في مروءة الإنسان انظر: تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام لابن عاصم ص: 9، الناشر عبد الحميد أحمد حنفي. مصر. مطبعة الفجالة الجديدة، وانظر تفاصيل ذلك كله في الأحكام للآمدي2/64 فما بعدها، ومختصر ابن الحاجب2/63، ومذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص:113، مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة. 2 الضبط حفظ الراوي مرويه، بحيث يكون حافظاً إن حدث من حفظه، ضابطاً لكتابه إن حدث فمنه، عالماً بما يحيل المعنى إن روى به، ويعرف بقلة مخالفته للثقات. قال صاحب طلعة الأنوار معرفاً للضابط من غيره: كذاك لا يقبل إلا من ضبط ... من زايل الخطأ كثيراً والغلط بالضابطين اعتبرن فإن غلب ... وفق فضابط وإلا يجتنب انظر: تدريب الراوي1/301، ومذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص:112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فمن قائل: إنه يفيد العلم، وهؤلاء منهم من قال: يفيد العلم على اطراد، ومنهم من قال: يفيده لا على اطراد. وذهب البعض الآخر إلى أنه إنما يفيد العلم بانضمام القرائن غير اللازمة للتعريف. وقالت طائفة أخرى: إنه إنما يفيد الظن، واستدلت كل طائفة بأدلة واعترض على كل طائفة من مخالفيها. وها أنا أذكر ذلك إن شاء الله في الفصول الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الفصل الأول: في أن خبر الواحد العدل إنما يفيد الظن فقط ذهب جمهور الأصوليين إلى أن خبر الواحد العدل، لا يفيد إلا الظن، واستدلوا على ذلك بأدلة، أهمها ما يأتي: 1- قالوا: لأنا نعلم ضرورة أنا لا نصدق كل خبر نسمعه. 2- أنه لو أفاد العلم لأدى إلى تناقض المعلومين، فيما لو أخبر ثقة آخر بضد ما أخبر به الأول. 3- أنه لو أفاد العلم، لحصل العلم بنبوة من يخبر بكونه نبيا من غير حاجة إلى معجزة دالة على صدقه. 4- لو أفاد العلم، لجاز نسخ القرآن والأخبار المتواترة به، لكونه بمنزلتها في إفادة العلم. 5- لو أفاد العلم، لوجب تخطئة مخالفه بالاجتهاد، وتفسيقه وتبديعه، فيما يفسق فيه ويبدع. 6- لو أفاد العلم، لوجب الحكم بالشاهد الواحد من غير حاجة إلى شاهد آخر، ومن غير افتقار إلى تزكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 7- قالوا: لجواز الكذب، والغلط على الراوي، لكونه غير معصوم1، لأن صفة كل خبر واحد هي أنه يجور عليه الكذب والوهم2. الأجوبة عن أدلة الجمهور: أما عن الأول: فإن المخالفين لا يقولون: بإفادة خبر كل واحد العلم، بل يشترطون لإفادة الخبر العلم أن يرويه العدل الضابط على مثله حتى ينتهي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى من انتهى به إليه. ولهذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله-:"ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً: منها: أن يكون من حدث به ثقة في دينه؟ معروفاً بالصدق في حديثه، عاقلاً، لما يحدث به، عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدت به على المعنى، لأنه إن حدث به على المعنى وهو غير عالم بها يحيل معناه، لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام. فإن أداه بحروفه، فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته   1 انظر تفاصيله في روضة الناظر لابن قدامة ص: 52. القاهرة، المطبعة السلفية ومكتبتها، شارع الفتح بالروضة، والمستصفى مع فواتح الرحموت 1/145، ومختصر ابن الحاجب مع شروحه2/56، والإحكام للآمدي2/32 فما بعدها، ومذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص:130. 2 الإحكام للآمدي2/107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الحديث، حافظاً إذا حدث به من حفظه حافظاً لكتابه إن حدث من كتابه، إذا شرك أهل الحفظ في الحديث، وافق حديثهم، بريئاً من أن يكون مدلساً، يحدث عن من لقي مالم يسمع منه، ويحدث عن النبي ما يحدث الثقات خلافه عن النبي. ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه، حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى من انتهى به إليه دونه، فإن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه، ومثبت عن من حدث عنه، فلا يستغنى في كل واحد منهم عن وصفت"1. ونقل الخطيب البغدادي إجماع أهل العلم على أنه لا يقبل إلا خبر العدل2. وكتب مصطلح الحديث طافحة بأنه لا يقبل من الحديث إلا ماتوفرت فيه الشروط المعتبرة لقبول الرواية الاَنفة الذكر في قول الشافعي -رحمه الله-.   1 الرسالة للإمام الشافعي ص:160، الطبعة الأولى سنة: 1388هـ – 1969م. مطبعة مصطفى الحلبي، مصر، تحقيق محمّد سيد كيلاني. وانظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص: 10، تحقيق نور الدين العتر، الناشر المكتبة العلمية للنمنكاني بالمدينة. 2 انظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فكيف يسوغ والحالة هذه أن يساوى بين العدل وغيره؟ حتى يقال: لأنا نعلم ضرورة أنا لا نصدق كل خبر نسمعه، كيف؟ وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} 1، فهذه الآية نصت على وجوب التبين في خبر الفاسق، وهي تدل بمفهوم الشرط على وجوب قبول خبر العدل المعتبر عند الأصوليين عدا الأحناف، وهم وإن خالفوا في حجية مفهوم الشرط، فقد استدلوا بالآية على وجوب قبول خبر الواحد العدل. فقالوا: "أمر بالتبين، وعلل بمجيء الفاسق بالخبر، إذ ترتيب الحكم على الوصف المناسب يشعر بالعلية ولوكان كون الخبر من أخبار الآحاد مانعاً من القبول، لم يكن لهذا التعليل فائدة، إذ علية الوصف اللازم، تمنع من علية الوصف العارض"2. وأجابوا عن الثاني: بأنه يمتنع أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من كل وجه، بحيث لا يكون مع أحدهما ما يرجح به على الآخر3.   1 سورة الحجرات آية: 6. 2 كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري شرح البزدوي 2/372-373، طبعة جديدة بالأوفست، سنة: 1394هـ – 1974م. دار الكتاب العربي، بيروت. 3 المسودة لآل تيمية ص: 306، تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد. مطبعة المدني. القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فإن فرض وجود خبرين متناقضين،؟ وكانا صدرا معاً، فكل واحد منهما قرينة كذب الآخر، وإلا بان تقدم أحدهما على الآخر، فالمتأخر ناسخ للمتقدم. قال ابن حزم:"وكذلك نقطع ونبت في كل خبرين صحيحين متعارضين، وكل آيتين متعارضتين، وكل اثنين متعارضين لم يأت نص بيّن بالناسخ منهما، فإن الحكم الزائد على الحكم المتقدم من معهود الأصل هو الناسخ، وأن الموافق لمعهود الأصل المتقدم، هو المنسوح قطعاً يقيناً للبراهين التي قدمنا1 من أن الدين محفوظ، فلو جاز أن يخفى فيه ناسخ من منسوخ، أو أن يوجد عموم لا يأتي نص صحيح بتخصيصه، ويكون المراد به الخصوص، لكان الدين غير محفوظ، ولكانت الحجة غير قائمة على أحد في الشريعة، بل بالعمل بما لم يأمر الله تعالى قط به، وهذا باطل مقطوع على بطلانه"2. وأجاب ابن حزم عما لوكان أحد النصين حاظراً لما أبيح في النص الآخر بأسره، أو كان أحدهما موجباً، والآخر مسقطاً لما وجب في النص الآخر فقال:"الواجب في هذا النوع أن ننظر إلى النص الموافق لما كنا   1 ما أشار إليه لخصه هنا، وسيأتي في الدليل التاسع من أدلة إفادة الخبر للعلم في الفصل الآتي بعد هذا إن شاء الله. 2 الإحكام لابن حزم1-4/123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 عليه لولم يرد واحد منهما، فنتركه ونأخذ بالآخر، لا يجوز غير هذا أصلاً. وبرهان ذلك أننا على يقين من أننا قد كنا على ما في ذلك الحديث الموافق لمعهود الأصل، ثم لزمنا يقيناً العمل بالأمر الوارد بخلاف ما كنا عليه بلا شك، فقد صح عندنا يقيناً إخراجنا عما كنا عليه، ثم لو لم يصحّ عندنا نسخ ذلك الأمر الزائد الوارد بخلاف معهود الأصل. ولا يجوز لنا أن نترك يقيناً بشك، ولا أن نخالف الحقيقة للظن، وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} 1. وقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} 2. وقال تعالى ذاماً لقوم حاكمين بظنهم: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 3. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن الظن أكذب الحديث" 4. ولا يحل أن يقال فيما صح الورود به: هذا منسوخ إلا بيقين، ولا يحل أن يترك أمر قد تيقن وروده خوفاً أن يكون منسوخاً، ولا أن يقول   1 سورة النجم آية: 28. 2 سورة الأنعام آية: 116. 3 سورة الجاثية آية: 32. 4 الموطّأ2/7-9، والبخاري عن أبي هريرة8/23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 قائل: لعله منسوخ، وكيف ونحن على يقين مقطوع به من أن المخالف لمعهود الأصل هو الناسخ بلا شك ولا مرية عند الله تعالى، برهان ذلك ما قد ذكرناه آنفاً من ضمان الله تعالى حفظ الشريعة والذكر المنزل، فلو جاز أن يكون ناسخ من الدين مشكلاً بمنسوخ، حتى لا يدري الناسخ من المنسوخ أصلاً، لكان الدين غير محفوظ والذكر مضيعاً قد تعلقت الحامق هكذا فيه، وحاشا لله من هذا، وقد صح بيقين لا شك فيه نسخ الموافق لمعهود الأصل من النصين بورود النص الناقل عن تلك الحال، إذ ورد ذلك النص. فهذا يقين … ومدّعي خلاف هذا كاذب مقطوع بكذبه إذ لا برهان له على دعواه إلا الظن، والله تعالى يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس بصادقٍ أصلاً2. ويجاب عن الثالث: بأن النبوة أمر في غاية الندرة، ونهاية العظمة، والعادة تحيل صدق مدعيها من غير معجزة دالة على صدقه، والطباع تستبعد وقوع مثل ذلك، لذا كان لا بد لمدعي الرسالة من معجزة دالة على صدقه، لأنه يخبرنا عن الله تعالى، أما من يخبرنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم،   1 سورة النمل آية: 64. 2 الإحكام لابن حزم1-4/159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فإنما يشترط فيه ما اتفق عليه من العدالة والإسلام والحفظ والضبط عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلى من انتهى إليه دونه1. قال السرخسي2:"وما قالوا: إن في هذا إثبات زيادة درجة لخبر غير المعصوم على خبر المعصوم غلط بيّن، فإن الحاجة إلى ظهور المعجزات لثبوت علم اليقين بنبوته، وليكون خبره موجباً علم اليقين، ولا يثبت مثل ذلك بخبر مثل هذا المخبر"3.   1 انظر: التقرير والتحبير شرح تحرير الكمال لابن أمير الحاج2/272، الطبعة الأولى. الأميرية ببولاق. مصر. سنة: 1316هـ. 2 هو: أبو بكر محمّد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، المعروف بشمس الأئمة الإمام الكبير، الفقيه، الأصولي النظار، أحد فحول الإئمة الكبار وأصحاب الفنون، له مؤلّفات منها: المبسوط في الفقه، وله في الأصول أصول السرخسي. ذكر أبو الوفاء أنه توفي سنة: 490هـ. وقال المراغي: توفي سنة: 483هـ. انظر: مقدمة أصول السرخسي لأبي الوفاء الأفغاني ص: 4 فما بعدها، والفتح المبين في طبقات الأصوليين1/264. 3 أصول السرخسي1/328، وحقّقه أبو الوفاء الأفغاني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وذكر الآمدي: أن تجويز التعبد بخبر الواحد، لابد أن يستند إلى دليل قاطع من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا كذلك المدعي للرسالة، إذا لم تقترن بقوله معجزة دالة على وجوب العمل بقوله1. فبان بذلك الفرق بين: مدعي الرسالة، وبين خبر الواحد العدل، لأن مدعي الرسالة مشروع عن الله، وناقل خبر الواحد مبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجاب عن الرابع: بأنه استدلال بمحل النزاع، حيث إن من العلماء من قال بأن خبر الواحد العدل ينسخ القرآن والسنة المتواترة، وها أنا أسوق بعض ذلك. قال ابن حزم:"اختلف الناس في هذا بعد أن اتفقوا على جواز نسخ القرآن بالقرآن، وجواز نسخ السنة بالسنة. فقالت طائفة: لا تنسخ السنة بالقرآن، ولا القرآن بالسنة. وقالت طائفة: كل ذلك جائز، والقرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة، والسنة تنسخ بالقرآن والسنة. قال أبو محمد: وبهذا نقول، وهو الصحيح، وسواء عندنا السنة المنقولة بالتواتر، والسنة المنقولة بأخبار الآحاد، كل ذلك ينسخ بعضه بعضاً، وينسخ الآيات من القرآن، وينسخه الآيات من القرآن، وبرهان ذلك ما بيناه في باب الأخبار من هذا الكتاب من وجوب   1 الإحكام للآمدي2/46-47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الطاعة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، كوجوب الطاعة لما جاء في القرآن ولا فرق، ولأن كل ذلك من عند الله بقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 1. فإذا كان كلامه وحياً من عند الله عز وجل والقرآن وحي، فنسخ الوحي بالوحي جائز، لأن كل ذلك سواء في أنه وحي"2. وفي المسودة ما لفظه:"وذكر ابن عقيل عن أحمد رواية أخرى بجواز النسخ بأخبار الآحاد احتجاجاً بقصة أهل قباء، وبه قال أهل الظاهر. قلت: ويحتمله عندي قول الشافعي، فإنه احتج على خبر الراحد بقصة قباء. قلت: ومن حجة النسخ بخبر الواحد حديث أنس في الخمر إذا أراقها هكذا وكسر الدنان3.   1 سورة النجم آية: 3، 4. 2 الإحكام لابن حزم1-4/477. 3 المسودة ص: 206-207، والدنان: بكسر الدال جمع دن بالفتح وهي الخابية اهـ من هدي الساري مقدمة فتح الباري شرح صحيح البخاري. ص: 117، كما بإخراجه محب الدين الخطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقال والدنا وشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: "والتحقيق الذي لا شك فيه هو جواز وقوع نسخ التواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، والدليل الوقوع. أما قولهم: إن التواتر أقوى من الآحاد، والأقوى لا يرفع بما هو دونه، فإنهم قد غلطوا فيه غلطاً عظيماً مع كثرتهم وعلمهم. وإيضاح ذلك: أنه لا تعارض ألبتة بين خبرين مختلفي التاريخ لا مكان صدق كل منهما في وقته. وقد أجمع جميع النظار أنه لا يلزم التناقض بين القضيتين إلا إذا اتحد زمنهما، أما إن اختلفا، فيجوز صدق كل منهما في وقتها. فلو قلت: النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس، وقلت أيضاً: لم يصل إلى بيت المقدس، وعنيت بالأولى ما قبل النسخ، وبالثانية ما بعده، لكانت كل منهما صادقة في وقتها. ومثال نسخ القرآن بأخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه نسخ إباحة الحمر الأهلية مثلاً المنصوص عليها بالحصر الصريح في آية: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} 1الآية، بالسنة الصحيحة الثابت تأخرحا عنه، لأن الآية من سورة الأنعام، وهي مكية أي نازلة قبل الهجرة بلا خلاف،   1 سورة الأنعام آية: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وتحريم الحمر الأهلية بالسنة واقع بعد ذلك في خيبر، ولا منافاة ألبتة بين آية الأنعام المذكورة، وأحاديث تحريم الحمر الأهلية لاختلاف زمنهما"1. ومقصودي مما سقته أن ما استدل به المخالف محل النزاع، فلا يصلح دليلاً له، ومن أراد الوقوف على أدلة الجمهور على منع نسخ القرآن والسنة المتواترة بأخبار الآحاد، فليرجع إلى ذلك في محله. وبجاب عن الخامس: بأنه ثبت عن الصحابة تخطئة مخالف السنة بالرأي. فعن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهبٍ بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية: "ما أرى بهذا بأساً! " فقال أبو الدرداء: "من يعذرني2 من   1 مذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين بن محمّد المختار الشنقيطي ص:86-87، وحديث تحريم الحمر الأهلية أخرجه البخاري انظر صحيح البخاري7/123، عن ابن عمر، صحيح مسلم5/63، أبو داود2/205. 2 بكسر الذال، أي: من يلومه على فعله، ولا يلومني عليه، ومن يقوم بعذري إذا جازيته بصنيعه ولا يلومني على ما أفعل به، أو من ينصرني. يقال: عذرته إذا نصرته اهـ الزرقاني على الموطأ4/225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 معاوية! أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه؟! 1. لا أساكنك بالأرض"2. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-قال: "تمتع النبي صلى الله عليه وسلم،فقال عروة بن الزبير: "نهى أبو بكر وعمر عن المتعة"، فقال ابن عباس: "أراهم سيهلكون"، أقول: "قال: النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: نهى أبو بكر وعمر"3. فهذان نصان في محل النزاع كما ترى، نصاً على إنكار أبي الدرداء على معاوية عدم أخذه بما روى له عن النبي صلى الله عليه وسلم له، وإنكار ابن عباس على عروة معارضة ما روى له عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمر المتعة بنهي أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-عن المتنعة. وفي المنار: "قال صاحب القواطع: الشافعي حكى عن مالك -رضي الله عنه- أن خبر الواحد إذا خالف القياس لا يقبل، وهذا القول   1 أنف من رد السنة بالرأي، وصدور العلماء تضيق عن مثل هذا، وهو عندهم عظيم رد السنن بالرأي، اهـ الزرقاني4/225. 2 الرسالة للشافعي ص: 192، الموطأ انظر الزرقاني4/225، صحيح مسلم5/43 فما بعدها. 3 جمع بيان العلم وفضله لابن عبد البر2/239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 بإطلاقه قبيح، وأنا أجل منزلته عن مثل هذا القول، وليس يدري ثبوته منه"1. وشاهدنا منه استقباحه لهذا الفعل، وإنكاره على صاحبه. ونقل صاحب التيسير عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه قال: "من أنكر المسح على الخفين يخاف عليه الكفر، فإنه ورد فيه من الأخبار ما يشبه التواتر"2. ومعلوم أن حديث المسح على الخفين عند جمهور الأصوليين أنه من أحاديث الآحاد. وذكر ابن عبد البر أن كثيراً من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة -رحمه الله- برده كثيراً من أخبار الآحاد العدول3. أما عدم تفسيقه وتبديعه فلأن من ردّ خبر الآحاد إنما ردّه لعذر قام عنده كاعتقاد غلط الراوي، أو كذبه، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول مثل هذا.   1 شرح المنار مع حواشيه لابن مالك ص: 623، طبعة دار سعادة. 2 تيسير تحرير الكمال لمحمّد أمير. أمير باد شاه على التحرير لابن همام الدين3/38. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر. سنة: 1350هـ. 3 انظر: الانتقاء لابن عبد البر ص: 149، مكتبة القدسي. القاهرة. سنة: 1350هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وفي المسودة: "ولهذا كان الصواب أن من ردّ الخبر الصحيح كما كانت تردّه الصحابة اعتقاداً لغلط الناقل أو كذبه، لاعتقاد الراد، أن الدليل قد دلّ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول هذا، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق، وإن لم يكن اعتقاده مطابقاً، وقد ردّ غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث"1. قال الشافعي -رحمه الله-: "إن المرء قد يجهل السنة فيكون له قول يخالفها، لا أنه عمد خلافها، وقد يغفل المرء ويخطئ في التأويل"2. ومثل هذا لا يكفر ولا يفسق لمكان العذر. ولأن المجتهد إنما يفزع إلى الاجتهاد عند عدم الدليل، وهو حينئذٍ يعلم قطعاً أنه إما أن يصيب الحق أو يخطئه، لما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر "3. ولأنه لا واسطة بين   1 المسودة لآل تيمية ص: 247. 2 الرسالة للإمام الشافعي ص: 102. 3 الرسالة للإمام الشافعي ص: 215، صحيح مسلم5/131، سنن ابن ماجة2/27، الطبعة الأولى سنة: 1313هـ مع حاشية السندي، تحفة الأحوذي شرح الترمذي للمباركفوري4/555. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 إصابة الحق أو الخطأ في الاجتهاد، ولذا عرف السلف بسرعة الرجوع إلى الدليل عند ظهوره، وإن خالف ما ذهبوا إليه. فعن سعيد بن المسيب: "أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع إليه عمر"1. وعن ابن أبي ذئب عن مخلد بن خلف قال: "ابتعت غلاماً فاستعملته ثم ظهر لي منه عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي بردّه وقضى عليّ بردّ غلّته، فأتيت عروة فأخبرته، فقال: "أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان، فعجلت إلى عمر، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر: "فما أيسر عليّ من قضاء قضيته، الله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحقّ، فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأردّ قضاء   1 الرسالة للإمام الشافعي ص: 184-185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 عمر وأنفذ سنة رسول الله. فراح إليه عروة، فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به عليّ له"1. وروى الشافعي" عن ابن أبي ذئب قال: قضى سعد بن إبراهيم2 على رجل بقضية، برأى ربيعة ابن أبي عبد الرحمن3 فأخبرته عن النبي بخلاف ما قضى به، فقال سعد لربيعة: هذا ابن أبي ذئب، وهو عندي ثقة، يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيت به، فقال له ربيعة: قد اجتهدت ومضى حكمك، فقال له سعد: واعجبا! أنفذ قضاء سعد بن أم سعد، وأرد قضاء رسول الله، بل أرد قضاء سعد بن أم سعد، وأنفذ قضاء رسول الله، فدعا سعد بكتاب القضية فشقه، وقضى للمقضي عليه"4. فهكذا يجب على كل مسلم الرجوع إلى الحديث متى صح.   1 نفس المصدر ص: 193، سبل السلام شرح بلوغ الرام3/30، الترمذي مع تحفة الأحوذي شرح الترمذي4/508. وقد تقدم التعليق على قول عائشة الخراج بالضمان ص:56 من هذا البحث. 2 هو: سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، كان قاضياً بالمدينة وهو ثقة باتفاق، مات سنة: 127هـ اهـ محمّد سيد كيلاني تعليقاً على الرسلة للإمام الشافعي ص: 193. 3 هو: ربيعة الرأي ثقة حجة مات سنة: 136هـ اهـ نفس المصدر ص: 193. 4 الرسالة للإمام الشافعي ص: 193-194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ويجاب عن السادس: بأن "الفرق بين الشاهد الذي يشهد بقضية معينة، وبين المخبر عن رسول الله بشرع يجب على جميع الأمة العملُ بينّ، هذا لو قدر أنه كذب على الرسول، ولم يظهر ما يدل كلما كذبه للزم من ذلك إضلال الخلق، والكلام إنما هو في الخبر الذي يجب قبوله شرعاً، وما يجب قبوله شرعاً لا يكون باطلاً، في نفس الأمر"1. ومعلوم أن الشهادة تخالف الرواية في أشياء وإن وافقتها في أخرى. قال الشافعي:"أقبل في الحديث الواحد والمرأة، ولا أقبل واحداً منهما وحده في الشهادة، وأقبل في الحديث"حدثني فلان عن فلان" إذا لم يكن مدلساً، ولا أقبل في الشهادة إلا"سمعت" أو"رأيت" أو"أشهدني" وتختلف الأحاديث فآخذ بعضها استدلالاً بكتاب أو سنة أو إجماع، أو قياس، وهذا لا يؤخذ به في الشهادات هكذا. ولا يوجد فيها بحال، ثم يكون بشر كلهم تجوز شهادته، ولا أقبل حديثه، من قبل ما يدخل في الحديث من كثرة الإحالة وإزالة بعض ألفاظ المعاني"2. وأما الحكم بالشاهد الواحد فغير لازم، لأن الحاكم لا يحكم بعلمه، وإنما يحكم بالبيّنة التي هي مظنة الصدق. ويدل على أن الحاكم يعتمد على مظنة الصدق حديث أم سلمة:" إنما أنا بشر وإنكم تختصمون   1 المسودة لآل تيمية ص: 245. 2 الرسالة للإمام الشافعي ص: 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنماأقطع له قطعة من النار" 1. فهذا الحديث نص في أن الحاكم يعتمد على البيّنة التي هي مظنة الصدق. وذكر ابن حزم فروقاً بين الشهادة والرواية ننقلها هنا لزيادة الإيضاح وهي: أحدها: أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله، وتبيينه من الغيّ، ومما ليس منه. ولم يتكفل تعالى قط بحفظ دمائنا، ولا بحفظ فروجنا، ولا بحفظ أبشارنا، ولا بحفظ أموالنا في الدنيا، بل قدر تعالى بأن كثيراً من كل ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا. وقد نصّ على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: " إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجّته من الآخر، فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما   1 صحيح البخاري واللفظ له 9/86، صحيح مسلم5/129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 أقطع له قطعة من النار" 1. وبقوله عليه السلام للمتلاعنين: "الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب" 2، أو كما قال عليه السلام في كل ذلك. الفرق الثاني: أن حكمنا بشهادة الشاهد، وبيمين الحالف، ليس حكماً بالظن كما زعموا، بل نحن نقطع ونبت بأن الله عز وجل افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع شهادة العدل، ويمين المدعى عليه إذا لم يقم بينة، وبشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا، وإن كانوا في باطن أمرهم كاذبين أو واهمين، والحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى، وعندنا مقطوع على غيبه. برهان ذلك أن حاكماً لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي، فلم يحكم للمدعى عليه باليمين، أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما، فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله عز وجل، مجرح الشهادة ظالم سواء كان المدعى عليه مبطلاً في إنكاره أو محقاً، أو كان الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين، إذا لم يعلم باطن أمرهم. ونحن مأمورون يقيناً بأمر الله عز وجل لنا بأن نقتل هذا البريء المشهود عليه بالباطل، أو نبيح هذا الفرج الحرام المشهود فيه بالكذب، وأن نبيح هذه البشرة المحرمة، وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل، وحرم على المبطل أن يأخذ شيئاً من ذلك،   1 نفس المصدرين السابقين بأرقامهما واللفظ لمسلم. 2 صحيح البخاري7/69، صحيح مسلم4/208 من حديث ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وقضى ربنا بأننا إن لم نحكم بذلك، فإننا فساق عصاة له تعالى، ظلمة متوعدون بالنار على ذلك. وما أمرنا تعالى قط أن نحكم في الدين بخبروضعه فاسق أو وهم فيه واهم. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1. فهذا فرق في غاية البيان. وفرق ثالث: وهو أن تقول: إن الله تعالى افترض علينا أن نقول في جميع الشريعة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرنا الله تعالى بكذا، لأنه تعالى يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 2، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3. ففرض علينا أن نقول: "نهانا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن كذا، وأمرنا بكذا. ولم يأمرنا تعالى قط أن نقول شهد بحق، ولا حلف هذا الحالف على حق، ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق له يقيناً، ولا قال تعالى: ما قال هذا الشاهد، لكن الله تعالى قال لنا: احكموا بشهادة العدول، وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم عليه بيّنة. وهذا فرق لا خفاء به. فلم نحكم بالظن في شيء من كل ذلك أصلاً ولله الحمد"4.   1 سورة الشورى آية: 21. 2 سورة المائدة آية: 92. 3 سورة الحشر آية: 7. 4 الإحكام لابن حزم1-4/118-119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ويجاب عن السابع: وهو ما ذكروه من جواز الكذب والغلط على الراوي لكونه غير معصوم - بأن خبر العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن جاز فيه كذب الراوي، أو غلطه، فإن جانب الصدق فيه يترجح، لما قيض الله تعالى لرواته من الحفظ والضبط وشدة الحيطة في الأخذ والتحمل عن الشيوخ،"ولكن هذا الذي قلناه لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته وأيامه مشغولاً بالحديث والبحث عن سيرة النقلة والرواة ليقف على رسوخهم في هذا العلم، وكبير معرفتهم به، وصدق ورعهم في أقوالهم وأفعاهم وشدة حذرهم من الطغيات والزلل، وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر، والبحث عن أحوال الرواة والوقوف على صحيح الأخبار وسقيمها وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة واحدة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك، وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، وأدوا كما أدى إليهم، وكانوا في صدق العناية والاهتمام بهذا الشأن ما يجل عن الوصف، ويقصر دونه الذكر، وإذا وقف المرء على هذا من شأنهم وعرف حالهم وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم، ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه"1.   1 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة1-2/507. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قال القرافي: "إذا علم أنهم من أهل الديانة والصدق حصل له العلم بالعدد اليسير منهم"1. وقال السرخسي: "ينبغي أن يثبت ترجح جانب الصدق في خبر كل عدل كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم "2. ويؤيد ما ذهبوا إليه من ترجح جانب الصدق فيه وإفادته للعلم ما ورد في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 3. قال القرطبي: " {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي لمحمّد صلى الله عليه وسلم من أن يتقول علينا، أو نتقول عليه"4 فأنت تراه هنا فسر الآية بما يدل على شمول الذكر للقرآن والسنة، وشهد لهذا التفسير قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 5، وقوله تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 6.   1 شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول للقرافي ص:351. 2 أصول السرخسي1/325. 3 سورة الحجر آية: 9. 4 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي10/6. 5 سورة النحل آية: 44. 6 سورة النجم آية: 3-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيّ} 1. وإذا صح دخول السنة في الذكر، فالذكر محفوظ بحفظ الله تعالى له. وممن ذهب إلى ذلك الإمام ابن حزم -رحمه الله- فقد صحح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل، وأنه محفوظ بحفظ الله تعالى له2. ونقل ابن القيم عن الإمام أبي المظفر3أنه قال: "فإن قالوا: فقد كثرت الآثار في أيدي الناس، واختلطت عليهم، قلنا: ما اختلطت إلا على الجاهلين بها، فأما العلماء بها، فإنهم ينقدونها انتقاد الجهابذة هكذا الدراهم والدنانير فيميزون زيوفها ويأخذون خيارها، ولئن دخل في أغمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث وورثة العلماء حتى إنهم عدوا أغاليط من غلط في الإسناد والمتون، بل نراهم يعدون على كل واحد منهم كم في حديث   1 سورة الأحقاف آية: 9. 2 انظر: الإحكام لابن حزم1-4/109 فما بعدها. 3 هو: منصور بن محمّد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمّد أبو المظفر المعروف بالسمعاني، من أهل مرو، الشافعي، السلفي العقيدة، صاحب اليد الطولى في الفنون، له مصنفات منها: "القواطع في الأصول"، وكتاب "الانتصار"، توفي سنة: 489هـ بمرو. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/266، ومختصر الصواعق المرسلة لابن القيم1-2/504. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 غلط، وفي كل حرف حرف، وماذا صحف، فإذا لم ترج عليهم أغاليط الرواة في الأسانيد والمتون والحروف فكيف يروج عليهم وضع الزنادقة! وتوليدهم الأحاديث التي يرويها الناس حتى خفية على أهلها، وهو قول بعض الملاحدة. وما يقول هذا: إلا جاهل ضال مبتدع كذاب، يريد أن يهجن بهذه الدعوى الكاذبة صحاح أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره الصادقة، فيغالط جهال الناس بهذه الدعوى وما احتج مبتدع في رد آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أوهن ولا أشد استحالة من هذه الحجة، فصاحب هذه الدعوى يستحق أن يسف في فيه وينفى من بلد الاسلام. فتدبر- رحمك الله - أيجعل حكم من أفنى عمره في طلب آثاز النبي صلى الله عليه وسلم شرقاً وغرباً، براً وبحراً، وارتحل في الحديث الواحد فراسخ واتهم أباه وأدناه في خبر يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان موضع التهمة ولم يحابه في مقال ولا خطاب غضباً لله وحمية لدينه، ثم ألف الكتب في معرفة المحدثين وأسمائهم وأنسابهم وقدر أعمارهم، وذكر أعصارهم وشمائلهم وأخبارهم، وفصل بين الرديء والجيد، والصحيح والسقيم حباً لله ورسوله وغيرة على الإسلام والسنة، ثم استعمل آثاره كلها حتى فيما عدا العبادات من أكله وطعامه وشرابه ونومه ويقظته وقيامه وقعوده، ودخوله وخروجه، وجميع سننه، وسيرته حتى في خطراته ولحظاته، ثم دعا الناس إلى ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وحثهم عليه وندبهم إلى استعماله، وحبب إليهم ذلك بكل ما يملك حتى في بذل ماله ونفسه"1. وقال:"ومما يدل على أن أهل الحديث على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أوّلها إلى آخرها، وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم في قطر من الأقطار – في باب الاعتقاد – على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون عنها، قلوبهم في ذلك على قلب واحد، ونقلهم لا ترى فيه اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما، وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 2. وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} 3.   1 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة1-2/507-508. 2 سورة النساء آية: 82. 3 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة1-2/518، والآية من سورة آل عمران آية: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 فكيف يرمى من هذه حاله بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهو يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" 1، ويعتقد صدقه. إنهم براء من ذلك، ولذا فقد كانوا يفضحون كل من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشتهر كذبه، ويرد حديثه، وقد صنفوا في ذلك المصنفات التي ميزت من يقبل حديثه، وممن لا يقبل حديثه. فحفظ الله بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا معلوم لا يحتاج إلى استدلال.   1 صحيح البخاري1/37، صحيح مسلم1/7 فما بعدها، واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أبو داود2/288، وابن ماجة1/9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الفصل الثاني: في إفادته العلم ذهب الإمام أحمد -رحمه الله- في إحدى الروايتين عنه إلى أن خبر الواحد العدل يفيد القطع إذا صح، واختارها جماعة من أصحابه، منهم ابن أبي موسى1 وغيره، ونصرها القاضي في الكفاية. واختار هذا القول الحارث المحاسبي2، وهو قول جمهور أهل الظاهر، وجمهور أهل الحديث3.   1 لعله عثمان بن موسى بن عبد الله الطائي الأربلي ثم الآمدي، إمام حطيم الحنابلة بالحرم الشريف تجاه الكعبة، كان شيخاً جليلاً عالماً فاضلاً زاهداً عابداً ورعاً، أقام بمكة نحو خمسين سنة. توفي ضحى يوم الخميس 22 محرم سنة 674هـ، وخلفه ولده. انظر: ذيل طبقات الحنابلة2/286-287. 2 هو: أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي، البصري، المولود ببغداد، والمتوفى بها سنة 243هـ. أخذ عن الشافعي وغيره. كان صوفياً، وفقيهاً، ومتكلماً محدثاً، له مصنفات في أصول الدين، ورد على المعتزلة والرافضة والقدرية، وبعضها في الفقه وأحكامه، من مؤلفاته: رسالة المسترشدين. انظر: مقدمتها لعبد الفتاح أبو غده ص: 16 فما بعدها. الطبعة الثانية، المطبوعات الإسلامية، حلب. 3 المسودة لآل تيمية ص: 240، مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم 1-2/480. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قال ابن حزم:"وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته، إلا أن اضطراره ليس بمطرد، ولا في كل وقت، ولكن على قدر ما يتهيأ ... فهذا قسم. والقسم الثاني من الأخبار: ما نقله الواحد عن الواحد، فهذا إذا اتصل برواية العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب العمل به، ووجب العلم بصحته أيضاً"1. وقال ابن القيم:"فممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم مالك2 والشافعي، وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه، كأبي محمد بن حزم ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي3، والحارث بن أسد المحاسبي.   1 الإحكام لابن حزم1-4/97. 2 ذكر ابن القيم أنها رواية عنه، وأنها اختارها جماعة منهم: ابن خويز منداد. انظر: مختصر الصواعق المرسلة1-2/484. 3 هو: أبو عليّ الحسين بن عليّ بن زيد الكرابيسي البغدادي، صاحب الإمام الشافعي وأشهر تلاميذه بحضور مجلسه وحفظه لمذهبه، له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه، عارف بالحديث، توفي سنة: 245هـ تقريباً اهـ من تعليق زكريا علي أبي يوسف على الإحكام لابن حزم1-4/134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 قال ابن خويز منداد1 في كتاب أصول الفقه - وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا واحد واثنان - ويقع بهذا الضرب أيضاً العلم الضروري، نص على ذلك مالك. وقال أحمد في حديث الرؤية:2 نعلم أنها حق، ونقطع على العلم بها، وكذلك روى المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: ههنا اثنان يقولان: "إن الخبر يوجب عملاً، ولا يوجب علماً"، فعابه، وقال: "لا أدري ما هذا". وقال القاضي: "وظاهر هذا أنه يسوي بين العلم والعمل إذا صح سنده ولم تختلف الرواية فيه، وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول فيه، وأنه يوجب العلم، وإن لم تتلقه بالقبول". قال: "والمذهب على ما حكيت لا غير"3".   1 هو: محمّد بن أحمد بن عبد الله أبو بكر بن خويز منداد. له كتاب كبير في الخلاف، كتاب في أصول الفقه، كتاب في أحكام القرآن، وله شواذ عن مالك، اختيارات كقوله: إن العبد لا يدخل في خطاب الأحرار. وقال: إن خبر الواحد يوجب العلم. وكان يجانب الكلام، وينافر أهله. انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب لابن فرحون المالكي 2/229، تحقيق الدكتور محمّد الأحمدي أبو نور، مكتبة دار التراث القاهرة، وترتيب المدارك3-4/606، تحقيق أحمد بكير محمود منشورات مكتبة الحياة. بيروت. 2 انظر أحاديث الرؤية في صحيح مسلم1/112 فما بعدها، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري2/33 باب فضل صلاة العصر. 3 مختصر الصواعق المرسلة1-2/474-475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وللحنفية في المشهور- الذي هو عندنا من الآحاد- رأيان: أحدهما: أنه يفيد العلم اليقيني بطريق النظر والاستدلال، وبهذا قال: أبو بكر الجصاص1. والثاني: أنه يفيد علم طمأنينة، فهو دون المتواتر وفوق الآحاد، وبه قال: عيسى ابن أبان، وصرح به السرخسي في أصوله، فجوزوا به الزيادة على كتاب الله تعالى التي هي عندهم نسخ، ومن أمثلته عندهم حديث المسح على الخفين2، وحديث الرجم3، وثمرة خلافهم في كونه يفيد علم اليقين، أو علم الطمأنينة هي: هل يكفر جاحده أو يضلل.   1 هو: أحمد بن عليّ أبو بكر الجصاص، إمام الحنفية في عصره، الفقيه الأصولي، له مؤلفات منها:"أحكام القرآن"، "أصول الجصاص في أصول الفقه"، "شرح مختصر الكرخسي" وغيرها، ولد سنة: 300هـ وتوفي سنة: 370هـ. انظر ترجمته في أوّل من كتابه "أحكام القرآن" ص: 4. طبعة مصورة عن الأولى، الناشر دار الفكر، بيورت، لبنان. الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/203-204. 2 البخاري مع الفتح1/305، صحيح مسلم1/156 فما بعدها. عن سعد بن أبي الوقاص رضي الله عنه. 3 الموطأ2/165 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، البخاري8/204 فما بعدها. 4 انظر تفاصيله في كشف الأسرار2/368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قال ابن القيم: "وصرحت الحنفية في كتبهم بأن الخبر المستفيض يوجب العلم، ومثلوه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث "1، قالوا: ومع أنه إنما روى من طريق الآحاد. قالوا: ونحوه حديث ابن مسعود في المتبايعين إذا اختلفا، إن القول قول البائع أو يترادان2، قالوا: ونحوه حديث عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس3، قالوا: وكذلك حديث المغيرة بن شعبة ومحمّد بن مسلمة في إعطاء الجدة السدس4، فقد اتفق السلف على استعمال حكم هذه الأخبار حين سمعوها، فدل ذلك من أمرهم على صحة مخرجها، وسلامتها، وإن كان قد خالف فيها قوم، فإنها عندنا شذوذ ولا يعتد بهم في الإجماع.   1 جزء من حديث أبي أمامة، قال ابن حجر: أخرجه الأربعة إلا النسائي وإسناده قوي. قال وأخرجه أحمد وصححه الترمذي. الدراية في تخريج أحاديث الهداية2/290. وانظر فيض القدير شرح الجامع الصغير6/440. 2 الدارقطني3/20-21، تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني. المحاسن للطباعة. القاهرة. سنة: 1386هـ ـ 1966م. 3 الموطأ في كتاب الزكاة جزية أهل الكتاب والمجوس1/207، والشافعي في المسند وفي الرسالة، والبيهقي في السنن الكبرى، وابن المنذر، الدارقطني. انظر: تحفة الطالب لابن كثير ص: 337. 4 الموطأ1/335، الدارقطني2/154، ابن ماجة2/84، نيل الأوطار6/175، سبل السلام3/100، الكفاية ص: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 قال: وإنما قلنا: ما كان هذا سبيله من الأخبار، فإنه يوجب العلم بصحة مخبره من قبل أنا إذا وجدنا السلف قد اتفقوا على قبول خبر هذا وصفه من غير تثبت فيه، ولا معارضة بالأصول، أو خبر مثله مع علمنا بمذاهبهم في قبول الأخبار، والنظر فيها، وعرضها على الأصول، دلنا ذلك من أمرهم على أنهم لم يصيروا إلى حكمه إلا من حيث ثبت عندهم صحته واستقامته، فأوجب لنا العلم بصحته. هذا لفظ أبي بكر الرازي في كتابه أصول الفقه1.   1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/475-476. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أدلة القائلين: بإفادة خبر الواحد العدل العلم 1- "أنه لو لم يفد العلم لما جاز اتباعه، لنهيه تعالى عن اتباع الظن بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1، وذمه على اتباعه في قوله جل جلاله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} 2، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. وقد انعقد الإجماع على وجوب الاتباع على ما تبيّن، فيستلزم إفادة العلم لا محالة"4. وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع الظن فيما ثبت عنه "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" 5. 2- قال السرخسي: "إن العمل يجب بخبر الواحد، ولا يجب العمل إلا بعلم، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 6، ولأن الله تعالى قال في نبأ الفاسق: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} 7،وضد الجهالة   1 سورة الإسراء آية: 36. 2 سورة النجم آية: 28. 3 سورة البقرة آية: 169. 4 كشف الأسرار2/371. 5 الموطأ2/907، صحيح البخاري8/23. 6 سورة الإسراء آية: 36. 7 سورة الحجرات آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 العلم، وضد الفسق العدالة، ففي هذا بيان أن العلم إنما لا يقع بخبر الفاسق وأنه يثبت بخبر العدد. ثم قد ثبت بالآحاد من الأخبار ما يكون الحكم فيه العلم فقط، نحو: عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ورؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة. فبهذا ونحوه يتبين أن خبر الواحد موجب للعلم1. 3- قوله جل شأنه: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 2، فقد أمرتعالى بأن تنفر من كل فرقة طائفة لتتفقه في الدين، وتنذر قومها إذا رجعت إليهم، وذلك يقتضي وجوب قبول إنذارها، ولفظ الطائفة - في لغة العرب التي بها خوطبنا- يقع على الواحد فصاعداً، وطائفة من الشيء بمعنى بعضه، هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة3.   1 أصول السرخسي1/329. 2 سورة التوبة آية: 122. 3 انظر تفاصيله في الإحكام لابن حزم1-4/98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وذكر ابن حجر أن البخارى يريد من سياق قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} أن لفظ"طائفة" يتناول الواحد فما فوقه، ولا يختص بعدد معين. وهو منقول عن ابن عباس وغيره كالنخعي ومجاهد نقله الثعلبي وغيره. وعن عطاء وعكرمة وابن زيد أربعة، وعن ابن عباس أربعة إلى أربعين، وعن مالك أن الأربعة أقل من يحضر رجم الزاني، وعن الراغب أن لفظ طائفة يراد بها الجمع والواحد طائفة، ويراد بها الواحد. قال البخاري: ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 1، فلو اقتتل رجلان دخلا، في معنى الآية2. قال ابن حجر:"وهذا الاستدلال سبقه إلى الحجة به الشافعي، وقبله مجاهد، ولا يمنع ذلك قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3، لكون سياقه يشعر بأن المراد أكثر من واحد، لأنا لم نقل أن الطائفة لا تكون إلا واحداً"4. والطائفة وإن اختلفوا في عدد ما تطلق عليه، فما ذكروه من الأعداد فيها، لا يخرج قوله عند الجمهور عن كون خبره خبر آحاد.   1 سورة الحجرات آية: 9. 2 انظر: فتح الباري13/234، مع تصرف. 3 سورة النور آية: 2. 4 فتح الباري13/234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 4- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} 1 الآية، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} 2، في هاتين الآيتين نهى لكل واحد عن الكتمان، وأمر بالبيان على ما هو الحكم في الجمع المضاف إلى جماعة أنه يتناول كل واحد منهم، ولأن أخذ الميثاق من أصل الدين. والخطاب للجماعة بما هو أصل الدين يتناول كل واحد من الآحاد، ومن ضرورة توجه الأمر بالإظهار على كل واحد أمر السامع بالقبول منه والعمل به، إذ أمر الشارع لا يخلو من فائدة حميدة، ولا فائدة في النهي عن الكتمان، والأمر بالبيان سوى هذه. ولا يدخل عليه الفاسق، فإنه داخل في عموم الأمر بالبيان، ثم لا يقبل بيانه في الدين لأنه مخصوص من هذا النص بنص آخر، وهو ما فيه أمر بالتوقف في خبر الفاسق، ثم هو مزجور عن اكتساب سبب الفسق مأمور بالتوبة عنه، ثم يترتب البيان عليه، فعلى هذا الوجه بيانه يفيد وجوب القبول والعمل به3.   1 سورة البقرة آية: 159. 2 سورة آل عمران آية: 187. 3 أصول السرخسي1/322، كشف الأسرار2/371-372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 5- قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1، أمر بسؤال أهل الذكر، ولم يفرق في المأمورين بين المجتهد وغيره، وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الأخبار بما سمع دون الفتوى، لأن المجتهد لا يقلد غيره، ولو لم يكن القبول واجباً، لما كان السؤال واجباَ. 6- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} 2 الآية، أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله، ومن أخبر عن رسول الله بها سمعه، فقد قام بالقسط وشهد لله، وكان ذلك واجباً عليه بالأمر، وإنما يكون واجباً، لو كان القبول واجباً، وإلا كان وجوب الشهادة كعدمها، وهو ممتنع3. 7- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 4، وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 5، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بلغوا   1 سورة النحل آية: 43. 2 سورة النساء آية: 135. 3 كشف الأسرار2/372. 4 سورة المائدة آية: 67. 5 سورة النور آية: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 عني" 1، وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة: " أنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ " قالوا: "نشهد إنك قد بلغت وأبديت ونصحت" 2، ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلغ ويحصل به العلم، فلوكان خبر الواحد لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العباد، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسننه، ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو دون عدد التواتر، وهذا من أبطل الباطل. فيلزم من قال: إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم أحد أمرين: إما أن يقول: إن الرسول لم يبلغ غير القرآن وما رواه عنه عدد التواتر، وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ.   1 البخاري مع الفتح6/496 عن عبد الله بن عمرو، تحفة الأحوذي شرح الترمذي7/431 فما بعدها. 2 صحيح مسلم4/41، جزء من حديث جابر بن عبد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وإما أن يقول: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علماً ولا يقتضي عملاً، وإذا بطل هذان الأمران بطل القول بأن أخباره صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد علماً، وهذا ظاهر لا خفاء به1. 8- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} 2، ومن المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة، ومعلوم يقيناً أنه ما أتى كل واحد بنفسه فبلغه مشافهة، ولكنه بلغ قوماً بنفسه، وآخرين برسول أرسله إليهم، وآخرين بكتاب، وكتبه إلى ملوك الآفاق مشهورة، لا يمكن إنكارها، فقد بعث صلى الله عليه وسلم لكل ملك من ملوك الأرض المجاورين لبلاد العرب كتاباً يدعوه فيه هو وقومه إلى الإسلام، وقد ألزم كل ملك ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه إليهم من شرائع دينهم. من ذلك ما أرسله مع دحية الكلبي رضي الله عنه إلى هرقل، ولفظه: " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله   1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/497-498. 2 سورة السبأ آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أجرك مرتين، وإن توليت فعليك إثم الأريسيين" 1، "ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون "2. وقد صرح النووي -رحمه الله-بأن دعاية الإسلام هي: كلمة التوحيد3، ولم ينقل عن هرقل أنه قال لدحية: إن خبرك خبر آحاد، وإنما نقل عنه أنه قال: "فسيملك موضع قدمي هاتين"4، ولولم يكن خبر الواحد حجة، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغاً رسالات ربه بهذه الطريقة إلى الناس كافة. 9- قال ابن حزم: قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 5، وقال تعالى آمراً لنبيّه   1 اختفلوا في المراد بهم على أقوالٍ أصحها وأشهرها الأكارون أي: الفلاحون والمزارعون، معناه: عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك ونبه بهم على جميع الرعية لأنهم الأغلب، والأسرع اتباعاً اهـ النووي شرح مسلم12/109. 2 صحيح مسلم مع شرح النووي12/103، صحيح البخاري1/8. 3 شرح النووي لصحيح مسلم12/110. 4 صحيح البخاري1/8 فما بعدها، وهو جزء من حديث أبي سفيان مع هرقل. 5 سورة النجم آية: 3-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيّ} 1 وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2. وقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 3. فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه وأن لا يحرف منه شيء أبداً، تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه، إذ لوجاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذباً وضمانه خائساً4، وهذا لا يخطر ببال ذى مسكة عقل، فوجب أن الدين الذى أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل من طلبه ممن يأتي أبداً إلى انقضاء الدنيا. قال تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 5.   1 سور الأحقاف آية: 9. 2 سورة الحجر آية: 9. 3 سورة النحل آية: 44. 4 هو الذي فسد وتغير. 5 سورة الأنعام آية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فإذ ذلك كذلك فبالضرورة ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول صلى الله عليه وسلم في الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز عن أحد من الناس بيقين إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ، ولكان قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1كذباً ووعداً مخلفاً، وهذا لا يقوله مسلم. فإن قال قائل: إنما عنى الله تعالى بذلك القرآن وحده فهو الذي ضمن تعالى حفظه، لا سائر الوحي الذي ليس قرآناً. قلنا له، وبالله تعالى التوفيق: هذه دعوى كاذبة مجردة عن البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2. فصح أن من لا برهان له على دعواه فليس بصادق فيها، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحي بيّن به القرآن، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 3.   1 سورة الحجر آية: 9. 2 سورة النمل آية: 64 3 سورة النجم آية: 3- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 10- وأيضاً فإن الله تعالى يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1، فصح أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم مما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، لكن ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه، فقد بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه، فإذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها، فما أخطأ فيه المخطيء أو تعمد فيه الكذب الكاذب ومعاذ الله من هذا2. 11- حث النبي صلى الله عليه وسلم على استماع الحديث منه، وحفظه وتأديته لإقامة الحجة على من بلغ إليه، ولا تقوم الحجة إلا بما يفيد العلم، ويدل لهذا ما رواه الشافعي -رحمه الله- عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيهٍ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم". قال: فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرءا يؤديها والامرء -هكذا-واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا   1 سورة النحل آية: 44. 2 الإحكام لابن حزم1-4/109-110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 من تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا. قال: ودل على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه، يكون له حاففاً، ولا يكون فيه فقيهاً. وأمر رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في أن إجماع المسلمين- إن شاء الله- لازم1. 12- ما تواتر من بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه وسعاته إلى البلاد، المفتوحة لتعليم أهلها الدين وأحكام الشرع ولأخذ الزكاة. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا من تقوم به الحجة، فكانوا يقبلون من كل واحد منهم ما يعلمهم من القرآن وأحكام الدين، ولا خلاف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث من بعث من رسله إلى الآفاق لينقلوا إليهم عنه القرآن، والسنة والشرائع. ومعلوم أن أهم أمور الدين إنها هو العقيدة، فهي أول شيء كان الرسل يدعون الناس إليه، ويدل لذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن معاذاً رضي الله عنه قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنك تأتي قوماً   1 الرسالة للإمام الشافعي ص:175، والحديث أخرجه الترمذي في باب العلم، والضياء في مختارة عن زيد بن ثابت قال الترمذي: صحيح. وقال ابن حجر في تخريج المختصر: حديث زيد بن ثابت هذا صحيح أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان وابن أبي حاتم والخطيب وأبو نعيم والطيالسي والترمذي، وفي الباب عن معاذ بن جبل، وأبي الدرداء وأنس وغيرهم. وقال في موضع آخر: صحيح المتن وإن كان بعض أسانيده معلولاً اهـ من فيض القدير للمناوي شرح الجامع الصغير6/285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب "1. وجاء في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: "الله ورسوله أعلم"، قال: " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس "، ونهاهم عن أربع .... وقال: " احفظوهن، وأخبروا بهن من وراءكم "2. فهذان حديثان دالان على وجوب الأخذ بالآحاد في العقائد، وذلك مما يقتضي إفادة العلم عند الجمهور. 13- اتفاق الصحابة والتابعين على أن من نزلت به النازلة منهم سأل الصاحب عنها وأخذ بقوله فيها بروايته له من النبي صلى الله عليه وسلم، "فصح بهذا إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم.   1 صحيح مسلم1/37-38، صحيح البخاري9/140. 2 صحيح البخاري1/21-22، صحيح مسلم1/35 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وأيضاً فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجري على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة والخوارج1 والشيعة2 والقدرية3 حتى حدث متكلمو المعتزلة4 بعد المائة من   1 هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه أوّل الأمر على معاوية وأهل الشام إلى أن أوشك على الانتصار عليهم طلب معاوية التحكيم فحمل الخوارج عليّاً على الاستجابة، وعلى إنابة أبي موسى الأشعري، ولما تم ما حصل في التحكيم خرجوا على عليّ وادعوا كفره لتحكيمه الرجال، واجتمعوا بحروراء ناحية من الكوفة برآسة عبد الله بن الكواء وعتاب بن الأعور وعبد الله بن وهب، فأولهم ذو الخويصرة، وآخرهم ذو الثدية. انظر: الملل والنحل2/23 فما بعدها. 2 هم الذين شايعوا عليّاً على الخصوص، وقال بإمامته نصاً، ووصاية، إما خفياً، أو جليّاً، وادعوا أن الخلافة لا تخرج عن أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقيّه من عنده، وهم فرق. انظر: الملل والنحل للشهرستاني مع الفصل2/68-69. 3 فرقة ضالة تقول: إن أفعال العباد محدثة فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله عز وجل. وأوّل من قال ذلك: معبد الجهني وغيلاني الدمشقي ثم سلك سبيلهم واصل بن عطاء العزال. انظر: الملل والنحل مع الفصل1/68-74، الفصل3/41. 4 المعتزلة يسمون أصحاب العدل، والتوحيد، ويلقبون بالقدرية. وقد جعلوا لفظ القدر مشتركاً بين القدر خيره وشرّه من الله تعالى هرباً مما ألصق بهم مما قالوه من أن الله لا يخلق فعل العبد، وقد نوه عنهم حديث: "القدرية مجوس هذه الأمة". وقد قالوا بخلق القرآن، ونفوا رؤية الله تعالى بالأبصار يوم القيامة، وأولوا آيات الصفات. انظر: الملل والنحل مع الفصل1/65-68، والفصل3/41، العقدية الطحاوية مع شرحها ص: 215 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 التاريخ، فخالفوا الإجماع في ذلك"1. 14- ما ورد من الوعيد في حقّ من خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2، فالضمير في قوله {عَنْ أَمْرِهِ} راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى الله تعالى، ولا منافاة، لأن الأمر لله تعالى في الحقيقة، والرسول مبلغ عن الله، وهو المقصود هنا3. قال الألوسي: "والمخالفة كما قال الراغب: أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو فعله، والأكثر استعمالها بدون عن. فيقال: خالف زيد عمراً، وإذا استعملت بعن فذلك على تضمين معنى الإعراض"4. قال: "وقيل: على تضمين معنى الصد. وقيل: إذا عدى بعن يراد به الصد دون التضمين، ويتعدى إلى مفعولين بنفسه، يقال: خالف زيداً   1 الإحكام لابن حزم1-4/102. 2 سورة النور آية: 63. 3 انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمّد الأمين بن محمّد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:6/255، مطبعة المدني مصر. 4 روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي28/76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 عن الأمر، أي صده عنه، والمفعول عليه هنا محذوف، أي يخالفون المؤمنين أي يصدونهم عن أمره. وحذف المفعول، لأن المراد تقبيح حال المخالف، وتعظيم أمر المخالف عنه، فذكر الأهم، وترك ما لا اهتمام به"1. واستدل ابن القيم -رحمه الله- بالآية على إفادة خبر الواحد العلم فقال:"وهذا يعم كل مخالف بلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ولوكان ما بلغه، لم يفد علماً، لما كان متعرضاً بمخالفته ما لا يفيد علماً للفتنة والعذاب الأليم، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر"2. وهذه الآية الكريمة قد استدل بها الأصوليون على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، لأنه جل وعلا توعد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم، وحذرهم من مخالفة الأمر. وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب، مالم يصرف عنه صارف، لأن غير الواجب لا يوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير. وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب دلت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {وَإِذَا   1 نفس المصدر28/76، وانظر أضواء البيان6/252-253. 2 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة1-2/500. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} 1، فإن قوله: {ارْكَعُوا} أمر مطلق، وذمه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله {لا يَرْكَعُونَ} يدل على أن امتثاله واجب. وكقوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 2، فإنكاره تعالى على إبليس موبخاً له بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} ألا تسجد إذ أمرتك يدل على أنه تارك واجباً، وأن امتثال الأمر واجب، مع أن الأمر المذكور مطلق، وهو قوله: {اسْجُدُوا لآدَمَ} 3. وكقوله عن موسى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} 4، فسمى مخالفة الأمر معصية، وأمره المذكور مطلق، وهو قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} 5.   1 سورة المرسلات آية: 48. 2 سورة الأعراف آية: 12. 3 سورة الأعراف آية: 11. 4 سورة طه آية: 93. 5 سورة الأعراف آية: 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وكقوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 1. وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدلّ على أن مخالفه عاص، ولا يكون عاصياً إلا بترك واجب، أو ارتكاب محرم. وكقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2، فإنه يدل على أن أمر الله وأمر رسوله مانع من الاختيار موجب للامتثال، وذلك يدل على اقتضائه الوجوب. وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 3. واقتضاء الأمر المطلق الوجوب هو مذهب الجمهور، وإن خالف فيه بعض العلماء، ومن أراد تحقيق ذلك فليرجع إليه في محله، إذ غرضنا إنما هو بيان وجوب طاعة رسول الله رضي الله عنه في كل ما صح نقله عنه المقتضي إفادة العلم على ما ذهب إليه القائلون بذلك.   1 سور التحريم آية: 6. 2 سورة الأحزاب آية: 36. 3 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن6/253، والآية من سورة الأحزاب آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 15- "أن الرسل - صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم - كانوا يقبلون خبر الواحد، ويقطعون بمضمونه، فقبله موسى من الذي جاء من أقصى المدينة قائلا له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} 1، فخرج بخبره وخرج هارباً من المدينة، وقبل خبر بنت صاحب مدين لما قالت له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} 2. وقَبِلَ خبر أبيها في قوله: هذه ابنتي، وتزوجها بخبره. وقبل يوسف الصديق خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك، وقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} 3. وقبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الآحاد الذين كانوا يخبرونه بنقض عهد المعاهدين له وغزاهم بخبرهم، واستباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم. ورسل الله صلواته وسلامه عليهم، لم يرتبوا على تلك الأخبار أحكامها، وهم يجوزون أن تكون كذباً وغلطاً، وكذلك الأمة لم تثبت الشرائع العامة الكلية بأخبار الآحاد، وهم يجوزون أن يكون كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الأمر، ولم يخبروا عن الرب تبارك وتعالى في أسمائه   1 سورة القصص آية: 20. 2 سور القصص آية: 25. 3 سورة يوسف آية: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وصفاته وأفعاله بما لا علم لهم به، بل يجوز أن يكون كذباً وخطأ في نفس الأمر، هذا مما يقطع ببطلانه كل عالم متبصر"1. 16- "أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وفعل كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وهذ معلوم في كلامهم بالضرورة. وفي صحيح البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من صحابي غيره، وهذه شهادة من القائل وجزم على الرسول صلى الله عليه وسلم بما نسبه إليه من قول أو فعل، فلوكان خبر الواحد لا يفيد العلم، لكان شاهداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم. 17- أن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك جزم منهم بأنه قاله، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين: إن المراد بالصحة صحة السند لا صحة المتن، بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم صحة الإضافة إليه، وأنه قال، كما كانوا يجزمون بقولهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر ونهى وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك يقولون: يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى عنه، ونحو ذلك، ومن له خبرة   1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/503. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 بالحديث يفرق بين قول أحدهم: هذا الحديث صحيح وبين قوله: إسناده صحيح، فالأوّل جزم بنسبة صحته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني شهادة بصحة سنده، وقد يكون فيه علة، أو شذوذ، فيكون سنده صحيحاً ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه1. اعتراض الجمهور على القائلين بإفادة خبر الواحد العلم اعترض الجمهور على القائلين بأن خبر الآحاد العدل المستوفي لشروط القبول يفيد العلم بما سبق أن استدلوا به في الفصل الأوّل على إفادته الظن. وأهم ما اعترضوا به هو:"أنك لو سئلت عن أعدل رواة خبر الواحد أيجوز في حقه الكذب والغلط؟ لاضطررت أن تقول: نعم، فيقال: قطعك إذن بصدقه مع تجويزك عليه الكذب والغلط لا معنى له"2. وأجيب عنه بأنا وإن كنا لا ندعي عصمة الرواة، إلا أنا نقول: إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها، فلا بد أن يكون في الأمة من يكشف غلطه وكذبه وسهوه، وهذا هو واقع السنة المطهرة بحمد الله، فقد قيض الله لها من جهابذة العلماء ذوي الصدق والورع والتحري من دوّنها في الأسفار، وبين صحيحها، وضعيفها، والموضوع منها. كما صنفوا في   1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/496-487. 2 مذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الرواة مصنفات مكنتنا ومن يأتي بعدنا إلى يوم القيامة من التمكن من معرفة صحة ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان العلماء اليوم يمكنهم الحكم على الحديث بالصحة حتى يقول أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بالك بمن أفنى معظم أوقاته وأيامه مشتغلاً بالحديث والبحث عن سيرة النقلة والرواة، ليقف على رسوخهم في هذا العلم وكبير معرفتهم به، وصدق ورعهم في أقوالهم وأشعالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر والبحث عن أحوال الرواة، والوقوف على صحيح الأخبار وسقيمها، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة واحدة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك، وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، وأدوا كما أدى إليهم، وكانوا في العناية والاهتمام بهذا الشأن ما يجل عن الوصف ويقصر دونه الذكر، فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم وعرف حالهم وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه1. قال ابن حزم: "فنقول لمن قال: إن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجب العلم، وأنه يجوز فيه الكذب والوهم، وأنه غير مضمون الحفظ، أخبرونا هل يمكن عندكم أن تكون شريعة فرض أو   1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/507. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 تحريم أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات عنها وهي باقية لازمة للمسلمين غير منسوخة، فجهلت حتى لا يعلمها علم يقين أحد من أهل الإسلام في العالم أبداً، وهل يمكن عندكم أن يكون حكم موضوع بالكذب أو بخطأ بالوهم قد جاز ومضى واختلط بأحكام الشريعة اختلاطاً لا يجوز أن يميزه أحد من أهل الإسلام في العالم أبداً، أم لا يمكن عندكم شيء من هذين الوجهين؟ فإن قالوا: لا يمكننا أبداً، بل قد أمنا ذلك، صاروا إلى قولنا وقطعوا أن كل خبرٍ رواه الثقة عن الثقة مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الديانة فإنه حق قد قاله عليه السلام كما هو، وأنه يوجب العلم، ونقطع بصحته، ولا يجوز أن يختلط به خبر موضوع أو موهوم فيه لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم قط اختلاطاً لا يتميز الباطل فيه من الحق أبداً. وإن قالوا: بل كل ذلك ممكن، كانوا قد حكموا بأن الدين دين الإسلام قد فسد وبطل أكثره واختلط ما أمر الله تعالى به مع مالم يأمر به اختلاطاً لا يميزه أحد أبداً. وأنهم لا يدرون أبداً ما أمرهم به الله تعالى مما لم يأمرهم به، ولا ما وضعه الكاذبون والمستخفون مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث، والذي لا يغني من الحق شيئاً. وهذا انسلاخ من الإسلام، وهدم للدين، وتشكيك في الشرائع"1.   1 الإحكام لابن حزم1-4/110-111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 هذا، وإن مما استدل به القائلون بإفادة خبر الواحد العلم، ما استدل به الجمهور على وجوب العمل به، مما سيأتي تفصيله - إن شاء الله- في باب وجوب العمل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 العلم بمعنى الظاهر: ذهب بعض القائلين بإفادة خبر الواحد العلم إلى أن المراد بالعلم فيه هو العلم الظاهر، وممن نقل عنه ذلك الحسين بن علي الكرابيسي، وأبو بكر القفال، وصرح به السرخسي أثناء استدلاله على وجوب العمل بخبر الواحد حيث قال: "فإنه عندنا عمل هو ثابت من حيث الظاهر، ولكنه غيرمقطوع به، وقد سمى الله تعالى مثله علماً، فقال: {وَمَا شَهِدْنَا إلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} 1، وإنما قالوا ذلك سماعاً من مخبر أخبرهم به، وقال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 2وإنما قالت ذلك باعتبار غالب الرأي واعتماد نوع من الظاهر، فدل على أن مثله علم لا ظن إنما الظن عند خبر الفاسق، ولهذا أمر الله بالتوقف في خبره، وبين المعنى فيه بقوله: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} 3فيكون بالتوقف في خبره ذلك بياناً أن من اعتمد خبر العدل   1 سورة يوسف آية: 81. 2 سورة الممتحنة آية: 10. 3 سورة الحجرات آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 في العمل به يكون بعلم لا بجهالة، إلا أن ذلك علم باعتبار الظاهر، لأن عدالته ترجح جانب الصدق في خبره"1. واعترض عليه بأن العلم ليس له ظاهر وباطن، وبأن العلم في الآَية محمول على"الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات، وإنما سماه علماً إيذاناً بأنه كالعلم في وجوب العمل به"2. ونقل الخطيب البغدادي عن القاضي أبي بكر محمد بن الطيب أنه قال:"فأما من قال من الفقهاء: إن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر دون الباطن، فإنه قول من لا يحصل علم هذا الباب، لأن العلم من حقه أن لا يكون علماً على الحقيقة بظاهر أو باطن، إلا بأن يكون معلومه على ماهو به ظاهراً وباطناً، فسقط هذا القول". قال: "وتعلقهم في ذلك بقوله عز وجل: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 3 بعيد، لأنه أراد تعالى وهو أعلم، فإن علمتموهن في إظهارهن الشهادتين،   1 أصول السرخسي1/326-327، وانظر فتح المغيث للسخاوي شرح ألفية العراقي في المصطلح1/21، تحقيق عبد الرحمن عثمان، الناشر المكتبة السلفية لمحمّد عبد المحسن، الطبعة الثانية، مطبعة العاصمة، القاهرة، وتوضيح الأفكار1/26، الطبعة الأولى سنة: 1366هـ. مطبعة السعادة. 2 تفسير البيضاوي ص: 731. 3 سورة الممتحنة آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ونطقهن بهما، وظهور ذلك منهن معلوم يدرك إذا وقع، وإنما سمى النطق إيماناً على معنى أنه دال عليه، وعلم في اللسان على إخلاص الاعتقاد ومعرفة القلب مجازاً واتساعاً، ولذلك نفى الله تعالى الإيمان عمن علم أنه غير معتقد له في قوله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 1، أي قولوا أسلمنا فزعاً من أسيافهم"2. وأجاب عنه الصنعاني بقوله: "كيف يقال: إنه قول من لا يحصل علم هذا الباب؟ على أنه لا يخفى أن من أخبر عن نفسه بأنه حصل له العلم بأي سبب من الأسباب المحصلة له يصدق في نفسه. وأما حكمه بأنه يحصل لغيره ما حصل له من العلم بذلك السبب، فهذه دعوى على الغير مستندها القياس على النفس واختلاف الإدراكات معلوم، فلا يكاد يستوي اثنان في رتبة. فالقول: بأن هذا السبب الفلاني مثلاً يفيد العلم أو لا يفيده، لكل من حصل له ليس بمقبول"3.   1 سورة الحجرات آية: 14. 2 الكفاية في علم الرواية للخطيب ص: 65. 3 توضيح الأفكار لمحمّد بن إسماعيل الأمير1/28، الطبعة الأولى سنة: 1366هـ. مطبعة السعادة، تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وأما استبعاده التعلق بقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} فهو خلاف الظاهر، لأن الأصل حمل اللفظ على ظاهره مالم يأت دليل يدل على صرفه عن ظاهره، ولم يذكر ما يصرف اللفظ هنا عن ظاهره، بل في السياق ما يدل على إرادة الظاهر وذلك ما ورد في سياق الآية من ترتيب العلم على الامتحان بالنطق بالشهادتين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} الاَية. قال ابن كثير:"فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقيناً"1. وأما استدلاله بقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} على اعتبار المجاز في الآية الأولى، فيعكره ما ورد من تفسير الآية الثانية في أحد وجهي التفسير فيها أن المراد بنفي الإيمان في قوله: {لَمْ تُؤْمِنُوا} نفى كمال الإيمان لا نفيه من أصله. وعليه فلا إشكال، لأنهم مسلمون مع أن إيمانهم غيرتام، وهذا لا إشكال فيه عند أهل السنة والجماعة القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص"2.   1 تفسير ابن كثير4/350، الناشر عبد الفتاح عبد الحميد مراد. الحلبي، مصر. 2 أصواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن7/638. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 هل معنى هذا أنه يفيد العلم؟ الحق أن ما ذكره الجمهور من احتمال غلط الراوي ووهمه وارد قطعاً لعدم عصمته، وأن جانب صدق الراوي وإن كان راجحاً، وسلم عدم إفادته العلم اليقيني لهذا الاحتمال، فإن العمل بكل ما دل عليه الحديث الصحيح السالم من معارض واجب، سواء كان في الأحكام، أم في العقائد، لأن العمل به هو مقتضى ما دل عليه ظاهر الكتاب العزيز من وجوب طاعة رسول الله لم تؤمنوا، واتباعه في كل ما جاء به، سواء كان في العقائد أم الأحكام كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 1، فقد ذكر ابن جرير الطبري في تفسيرها أن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله، لأنها طاعة لله وذلك باتباع سنته. قال: "وذلك أن الله عم بالأمر بطاعته، ولم يخص ذلك في حال دون حال، فهو على العموم حتى يخص ذلك بما يجب التسليم له"2. وكذلك مثلها من الآيات التي يدل عمومها على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا   1 سورة النساء آية: 59. 2 جامع البيان في تأويل القرآن5/147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 1. فالأخذ بعمومهما وما كان على مثلهما من آيات القرآن، وهو كثير هو مقتضى ما نقله الجمهور من إجماع السلف2 على العمل بأخبار الآحاد. وما ادعاه المفرق بين ما يعمل به من السنة في الأحكام دون العقائد يحتاج إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع قطعي، لأن الله تعالى يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3، والتحاكم هنا إنما هو لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لقوله جل جلاله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 4، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى سنته. ونحن إذا رجعنا إليهما نجد أن ظاهرهما يوجب العمل بكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم من معارض من غير تفريق فيما دل عليه سواء كان في العقائد، أم الأحكام.   1 سورة النور آية: 54. 2 الإحكام للآمدي2/57، المعتمد2/591، المستصفى1/148، المنار وحواشيه ص: 621، الأسنوي لى منهاج الصول2/238، وروضة الناظر ص: 53. 3 سورة النمل آية: 64. 4 سورة النساء آية: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قال ابن كثير في تفسير الآية: "قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 1. فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق. وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولهذا قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمناً بالله، ولا باليوم الآخر"2. وسيأتي لهذا زيادة بيان -إن شاء الله - في أثر الاختلاف3.   1 سورة الشورى آية: 10. 2 تفسير ابن كثير1/518. 3 انظر ص: 117 فما بعدها من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الفصل الثالث: في إفادته العلم إذا احتف بالقرائن ذهب بعض العلماء إلى أن خبر الواحد العدل المحتف بالقرائن الزائدة على ما لا ينفك عنه التعريف، أنه يفيد العلم النظري، لأن القرينة قد تفيد الظن مجردة عن الخبر، فإذا اقترن بالخبر المفيد للظن قرينة مفيدة للظن، فإنها تقوم مقام خبر آخر، ثم لا يزال التزايد في الظن بزيادة اقتران القرائن بالخبر إلى أن يحصل العلم كل في خبر التواتر. وممن اختار هذا القول سيف الدين الآمدي وابن الحاجب، وإمام الحرمين1 والبيضاوي والشيخ أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي وغيرهم2 ومثلوا له بأمثلة:   1 هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمّد بن حيوية المكنى بأبي المعالي المعروف بإمام الحرمين لمجاورته مكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي بهما، الفقيه الأصولي النظار الأديب، له مؤلفات منها: البرهان والورقات في أصول الفقه وغيرهما، توفي سنة: 545هـ، انظر: طبقات الشافعية لابن سبكي7/189-190، الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/260-262. 2 انظر: نهاية السول شرح منهاج الوصول2/215،الأحام للآمدي2/32، والمختصر لابن الحاجب مع العضد2/56، غاية الوصول شرح لب الأصول ص: 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 منها: أنه لو أخبر واحد بموت ولد الملك المشرف على الموت، وانضم إلى ذلك إحضار الكفن والنعش، وخروج الجنازة مع الصراخ وخروج المخدرات على حالة منكرة مع تغير حال الملك عما كان من عادته من التزام الهيئة، والمحافظة على أسباب المروءة، فإن كل عاقل سمع مثل هذا الخبر، وشاهد هذه القرائن، يحصل له العلم بصدق مخبره، كما يحصل له العلم بصدق خبر التواتر. ومنها:"إذا أخبر واحد، مع كمال عقله، وحسه بحياة نفسه وكراهيته للألم، وهو في أرغد عيشة، نافذ الأمر، قائم الجاه، أنه قتل من يكافئه عمداً عدواناً، بآلة يقتل مثلها غالباً، ومن غير شبهة له في قتله، ولا مانع له من القصاص، كان خبره مع هذه القرائن موجباً بصدقه عادة. ومنها: أنه إذا كان بجوار إنسان امرأة حامل، وقد انتهت مدة حملها، فسمع الطلق من وراء الجدار، وضجة النسوان حول تلك الحامل، ثم سمع صراخ الطفل، وخرج نسوة يقلن إنها قد ولدت، فإنه لا يستريب في ذلك، ويحصل له العلم بها قطعاَ"1. وبهذا نعلم خجل من هجن، ووجل من خوف، باحمرار هذا، واصفرار هذا، ونعلم وصول اللبن إلى جوف الطفل عند ارتضاعه، بكثرة   1 الأحكام للآمدي2/37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 امتصاصه وازدراده، وحركة حلقه، مع كون المرأة شابة نفساء، وبسكون الصبي بعد بكائه إلى غير ذلك من القرا ئن1. الاعتراضات التي أوردت على ذلك، والإجابة عنها. 1- أن العلم يكون حاصلاً بالقرائن، لا بالخبر. وأجيب عنه بأن العلم إنما حصل بالخبر مع ضميمة القرائن،"إذ لا يمتنع أن يكون سبب ما وجد من القرائن موت غير ولد الملك فجأة، فإذا انضم إليها الخبر بموت ذلك المريض بعينه، كان اعتقاد موته آكد من اعتقاد موته مع القرائن دون الخبر"2. 2- قال المخالفون:"أدلتكم على امتناع إفادته للعلم بلا قرينة، تأبى كونه مفيداً له بقرينة للزوم الاطراد، وتناقض المعلومين، والقطع بتخطئة مخالفه. والجواب: أنها لا تتأتى في الخبر مع القرائن. أما الاطراد فلأنه ملتزم في مثله، فإنه لا يخلو عن العلم، وأما تناقض المعلومين فلأن ذلك إذا حصل في قضية، امتنع أن يحصل مثله في نقيضها عادة.   1 انظر تفاصيله في الأحكام للآمدي2/36 فما بعدها، والمختصر لابن الحاجب مع العضد2/56، نهاية السول شرح منهاج الوصول مع البدخشي2/215. 2 الأحكمام للآمدي2/38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وأما تخطئة المخالف قطعاً، فلأنه ملتزم، ولو وقع لم يجز مخالفته بالاجتهاد، إلا أنه لم يقع في الشرعيات"1. وعدّ بعض العلماء من الخبر المحتف بالقرائن المفيد للعلم، ما في الصحيحين سوى ما انتقده الحفاظ عليهما. قال ابن حجر: "والخبر المحتف بالقرائن أنواع: منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ حد التواتر، فإنه احتف به قرائن: منها جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهها في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا يختص بما لم ينتقضه أحد من الحفاظ مما في كتابيهما، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد النقيضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته"2.   1 العضد على المختصر2/56-57. 2 شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ص: 6-7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ونقل السخاوي عن أبي إسحاق الإسفراييني1 قوله: "أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذلك اختلاف في طرقها، ورواتها، قال: فمن خالف حكمه خبراً منها وليس له تأويل سائغ للخبر نقضنا حكمه، لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول"2 وتلقي الأمة للخبر المنحط عن درجة التواتر بالقبول يوجب العلم النظري"3. وقال ابن الصلاح: "وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لقول من نفى ذلك محتجاً بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن، وأنما تلقته الأمة بالقبول، لأنه يجب بالظن والظن قد يخطيء، وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أوّلاً هو الصحيح، لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطيء،   1 هو: إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني المحدث الفقيه الأوصولي المتكلم الشافعي، المكنى بأبي إسحاق، الملقب بركن الدين، عد من المجتهدين في المذهب، وكان ثقةً ثبتاً في الحديث. من مؤلّفاته: رسالة في الأصول. توفي سنة: 418هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/228-229. 2 فتح المغيث شرح ألفية الحديث1/51. 3 نفس المصدر1/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المنبني على الاجتهاد حجة مقطوعاً بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك، وهذه نكتة نفيسة نافعة، ومن فوائدها القول بأن ما انفرد به البخاري أومسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره وهي معروفة عند أهل هذا الشأن"1. وتعقب النووي2 ابن الصلاح فقال:"الذي ذكره الشيخ في هذا الموضع خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن، فإنها آحاد والآحاد إنما تفيد الظن على ما تقرر، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك،   1 علوم الحديث لابن الصلاح ص: 24-25، تحقيق د. نور الدين العتر. 2 هو: الإمام الحافظ الأوحد القدوة شيخ الإسلام محي الدين أبو زكرياء يحيى بن شرف ابن مرى الحرامي الشافعي صاحب التصانيف النافعة أستاذ المتأخرين وحجة الله على اللاحقين، والداعي إلى سبيل السالفين، ولد رحمه الله سنة: 631هـ، سمع من الرضي بن برهان، وشيخ الشيوخ عبد العزيز بن محمّد الأنصاري وزين الدين عبد الدائم وغيرهم. كان حافظاً للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعليله رأساً في معرفة المذهب، من مؤلّفاته: شرح صحيح مسلم، رياض الصالحين، الأذكار، وغيرها. توفي بنوى سنة: 676هـ. انظر: مقدمة شرح صحيح مسلم1/هـ-ح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وتلقي الأمة بالقبول إنما يفيد وجوب العمل بما فيهما، وهذا متفق عليه"1. وقد أجاب ابن حجر عما ذكره النووي بما نقله عن شيخ الإسلام بن تيمية2 وغيره. فقال:"الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له وعملاً بموجبه أفاد العلم عند جماهير العلماء من السلف والخلف، وهو الذي ذكره جمهور المصنفين في أصول الفقه كشمس الأئمة السرخسي وغيره من   1 مقدمة شرح صحيح مسلم1/20، المطبعة المصرية ومكتبتها. 2 هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني الدمشقي، الملقب بتقي الدين، المكنى بأبي العبّاس، الإمام المحقق، والحافظ المجتهد، المحدث، المفسر، الأصولي، النحوي الخطيب، الكاتب، القدوة الزاهد، نادرة عصره، شيخ الإسلام وقدوة الأنام، نقل محمّد حامد الفقي عن ابن سيد الناس في وصف شيخ الإسلام قوله: "إن تكلم في التفسير فهوه حامل رايته، أو في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر الحديث فهو صاحب علمه، وروايته، أو حاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من روايته برز في كل فنّ على أبناء جنسه" اهـ. وقد امتحن رحمه الله في مصر ودمشق فسجن بكل منهما ولم يثنه ذلك عن قول الحق الذي يراه. توفي سنة: 728هـ. مؤلّفاته كثيرة منها: الفتاوى، واقتضاء الصراط المستقيم، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، والسياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ومنهاج السنة النبويّة في نقد كلام الشيعة والقدرية. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين2/130-133، ومقدمة اقتضاء الصراط المستقيم ص: هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الحنفية، والقاضي عبد الوهّاب1 وأمثاله من المالكية، والشيخ أبي حامد الإسفراييني2، والقاضي أبي الطيب3 الطبري، والشيخ أبي إسحاق   1 هو: القاضي عبد الوهّاب بن نصر البغدادي المالكي، أحح أئمة المذهب المالكي، النظّار، ثقة، حجة، وحيد داره وفريد عصره، ولي قضاء الدينور وغيرها. له مؤلّفات كثيرة مفيدة تدل على سعة علمه ومكانته منها: كتاب النصرة لمذهب إمام دار الهجرة، الأدلة في مسائل الخلاف، الإفادة في أصول الفقه، التلخيص فيه، الإشراف على مسائل الخلاف، وغيرها. ولد سنة: 362هـ، وتوفي بمصر ـ بعد أن حمل لوائها وملأ أرضها وسمائها، واستتبع سادتها وكبرائها ـ سنة: 422هـ. انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب2/26- 29، والأعلام للزركلي4/335. 2 هو: أحمد بن أبي طاهر محمّد بن أحمد الإسفراييني، الفقيه، الشافعي، الأصولي، كنيته أبو حامد، المعترف له بقوة الجدل والمناظرة، انتهت إليه رياسة الدين والدنيا، له مؤلّف في الأصول، وشرح مختصر المزني، توفي بغداد سنة: 410هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/224- 225، وطبقات الشافعي لابن السبكي3/24. 3 هو: طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري، الفقيه، الأصولي، الشافعي، الشاعر الأديب، ولد سنة: 348هـ بعاصمة طبرستان، أخذ عنه الخطيب البغدادي، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو نصر أحمد بن الحسن الشيرازي وغيرهم. كان إماماً جليلاً عظيم القدر، ورعاً عارفاً بالأوصول والفروع محققاً فريداً في زمانه. له مصنفات كثيرة منها: شرح مختصر المزني، وصنف في الفقه وفي الخلاف والأصول والجدل. توفي سنة: 450هـ بغداد. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/238-239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الشيرازي1، وأمثالهم من الشافعية، وأبي عبد الله بن حامد2، والقاضي أبي يعلى3، وأبي الخطاب4 وغيرهم من الحنبلية، وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشاعرة وغيره-هكذا-كأبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن   1 هو: إبراهيم بن عليّ بن يوسف الفيروزأبادي، صاحب اللمع وشرحه، والتبصرة في أصول الفقه. ولد سنة: 353هـ، وتوفي سنة: 476هـ. انظر: طبقات الشافعية3/88-89، الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/228. 2 هو: الحسن بن حامد بن عليّ بن مروان أبو عبد الله البغدادي، إمام الحنابلة في زمانه. من مؤلفاته: أصول الفقه، والجامع في المذهب، وشرح الخرفي، توفي سنة: 403هـ. انظر: طبقات الحنابلة20/171 فما بعدها. 3 هو: محمّد بن الحسين بن محمّد بن خلف بن أحمد الفراء أبو يعلى، الأصولي، الفقيه، المحدث، كان عالم زمانه وفريد عصره، عارفاً بالقرآن، صاحب فتاوى وجدل، ولا يعرف الشك والعناء أثناء المناظرة عرف بالزهد والورع والقناعة. ولد سنة: 380هـ، وتوفي سنة: 458هـ، له مؤلفات كثيرة منها: العدة في أصول الفقه. انظر: طبقات الحنابلة لابن يعلى2/193-216. 4 هو: محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب، إمام الحنابلة في عصره ولد وتوفي بغداد. من مؤلفاته: التمهيد طبع بعد مناقشة هذه الرسالة، في أصول الفقه، الهداية وقد طبع في الرياض وهو في الفقه. انظر: الأعلام للزركلي6/178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فورك1، وأبي منصور التميمي 2 وابن السمعاني وأبي هاشم الجبائي وأبي عبد الله البصري. قال: "وهو مذهب أهل الحديث قاطبة، وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح، في مدخله في علوم الحديث، فذكر ذلك استنباطاً، ووافق فيه هؤلاء الأئمة، وخالفه في ذلك من ظن أن الجمهور على خلاف قوله لكونه لم يقف إلا على تصانيف من خالف في ذلك، كالقاضي أبي بكر الباقلاني3، والغزالي، وابن عقيل، وغيرهم، لأن هؤلاء يقولون: إنه لا يفيد العلم مطلقاً، وعمدتهم: أن خبر الواحد لا يفيد العلم بمجرده والأمة   1 هو: محمّد بن الحسن بن فورك، أبو بكر، الفقيه، المتكلم، الأصولي، كانت له مناظرات تدل على رسوخه في العلم، وتمكنه من الحجة، له مؤلفات في أصول الفقه، وأصول الدين، ومعاني القرآن، توفي سنة: 406هـ بالحيرة. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/226-227. 2 هو: عبد القادر بن طاهر بن محمّد التميمي البغدادي الإسفراييني الإمام، الأصولي، الفقيه، الشافعي، له تصانيف منها: الفصل في أصول الفقه، والتحصيل في أصول الفقه أيضاً. توفي سنة: 429هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/234-235. 3 هو: أبو بكر محمّد بن الطيب بن محمّد بن جعفر الباقلاني، المالكي، الملقب بشيخ الأسنة ولسان الأمة، المتكلم، إمام وقته من أهل البصرة، وإليه رياسة المالكيين في وقته، اشتهر بالبحث والمناظرة له مؤلّفات منها: التعديل والترجيح، وفضل الجهاد. انظر: الديباج المذهب2/228-229، وشذرات الذهب3/168 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 إذا عملت بموجبه فلوجوب العمل بالظن عليهم، وأنه لا يمكن جزم الأمة بصدقه في الباطن، لأن هذا جزم، بل علم. الجواب أن إجماع الأمة معصوم عن الخطأ في الباطن، وإجماعهم على تصديق الجمة –هكذا-كإجماعهم على وجوب العمل به، والواحد منهم وإن جاز عليه أن يصدق في نفس الأمر من هو كاذب أو غالط، فمجموعهم معصوم عن هذا كالواحد من أهل التواتر، يجوز عليه بمجرده الكذب والخطأ، ومع انضمامه إلى أهل التواتر ينتفي الكذب والخطأ من مجموع الأمة، ولا فرق انتهى كلامه. قال: وأصرح من رأيت كلامه في ذلك ممن نقل الشيخ تقي الدين عنه ذلك فيما نحن بصدده: الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني فإنه قالت: أهل الصنعة يجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع، وإن حصل الخلاف في بعضها، فذلك خلاف في طرقها وكثرة رواتها، كأنه يشير بذلك إلى ما نقده بعض الحفاظ. وقد احترز ابن الصلاح عنه. وأما قول الشيخ محي الدين: لا يفيد العلم إلا إن تواتر، فمنقوض بأشياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أحدها: الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم النظري. وممن صرح به إمام الحرمين، والغزالي، والرازي1، والسيف الآمدي وابن الحاجب ومن تبعهم. ثانيها: الخبر المستفيض الوارد من وجوه كثيرة لا مطعن فيها يفيد العلم النظري للمتبحر في هذا الشأن. وممن ذهب إلى هذا الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، والأستاذ أبو منصور التميمي، والأستاذ أبو بكر بن فورك. وقال الأنباري شارح البرهان- بعد أن حكى عن إمام الحرمين أنه ضعف هذه المقالة- بأن العرف واطراد الاعتبار لا يقتضي الصدق مطلقاً، بل وقصاراه غلبة الظن لعلية الإسناد، أراد أن النظر في أقوال المخبرين من أهل الثقة والتجربة يحصل ذلك، ومال إليه الغزالي. وإذا قلنا: إنه يفيد العلم، فهو نظري لا ضروري، وبالغ أبو منصور التميمي في الردّ على من أبى ذلك، فقال: المستفيض- وهو الحديث الذي له طرق كثيرة صحيحة لكنه لم يبلغ التواتر- يوجب العلم المكتسب ولا عبرة بمخالفة أهل الأهواء في ذلك. ثالثها: ما قدمنا نقله عن الأئمة في الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول، ولا شك أن إجماع الأمة على القول بصحة الخبر أقوى في إفادة العلم من القرائن المحتفة ومن مجرد كثرة الطرق.   1 هو: محمّد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن عليّ التميمي البكري، الملقب بفخر الدين، المكنى بأبي عبد الله، المعروف بابن الخطيب الفقيه الشافعي، الأصولي، المتكلم النظّار، المفسر، الفيلسوفي، صاحب المكانة بين الأمراء والعلماء، ولد بالري سنة:544هـ له مؤلفات منها: أساس التقديس في علم الكلام، المسائل الخمسون في أصول الكلام، المحصول في أصول الفقه، توفي سنة: 606هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين2/48-49، والأعلام للزركلي7/203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ثم بعد تقرير ذلك كله جميعاً، لم يقل ابن الصلاح ولا من تقدمه: إن هذه الأشياء تفيد العلم القطعي كما يفيده الخبر المتواتر، لأن المتواتر يفيد العلم الضروري ولا يقبل التشكيك، وما عداه مما ذكر يفيد العلم النظري الذي يقبل التشكيك، ولذا تخلفت إفادة العلم عن الأحاديث التي عللت من الصحيحين1. قال الشوكاني: "واعلم أن الخلاف الذي ذكرناه في أوّل هذا البحث من إفادة خبر الواحد الظن أو العلم مقيد بما إذا كان خبر واحد لم ينضم إليه ما يقوّيه، وأما إذا انضم إليه ما يقوّيه، أو كان مشهوراً أو مستفيضاً فلا يجري فيه الخلاف المذكور، ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه، فإنه يفيد العلم، لأن الإجماع عليه قد صيّره من المعلوم صدقه، وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، فكانوا بين عامل به ومتأول له، ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم، فإن الأمة تلقت ما فيهما بالقبول، ومن لم يعمل بالبعض من ذلك فقد تأوله والتأويل فرع القبول"2.   1 النكة على كتاب ابن الصلاح وألفية العراقي لابن حجر ص: 81-84، مخطوط مصورة بالجامعة الإسلامية بالمدينة. 2 إرشاد الفحول ص:49-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وحمل بعض العلماء الرواية عن الإمام أحمد -رحمه الله- بإفادة خبر الواحد العلم على ما قامت القرائن على صدقه دون غيره. قال ابن قدامة: "قال بعض العلماء: إنما يقول أحمد بحصول العلم بخبر الواحد فيما نقله الأئمة الذين حصل الاتفاق على عدالتهم وثقتهم وإتقانهم ونقل من طرق متساوية، وتلقته الأمة بالقبول ولم ينكره منهم منكر، فإن الصدّيق والفاروق رضي الله عنهما لو رويا شيئاً سمعاه أو رأياه لم يتطرق إلى سامعهما شك ولا ريب، مع ما تقررها نفسه لهما، وثبت عنده من ثقتهما وأمانتهما، ولذلك اتفق السلف على نقل أخبار الصفات، وليس فيها عمل، وإنما فائدتها وجوب تصديقها واعتقاد ما فيها، ولأن اتفاق الأمة على قبولها إجماع منهم على صحتها، والإجماع حجة قاطعة"1. وقال القاضي في مقدمة المجرد: "وخبر الواحد يوجب العلم إذا صح ولم تختلف الرواية فيه وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول به وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه بالقبول، والمذهب على ما حكيت لا غير"2.   1 روضة الناظر ص: 42، وانظر: تفاصيله أيضاً في المسودة ص: 240-243. 2 المسودة ص: 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 يتضح مما تقدم أن القائلين بإفادة خبر الواحد المحتف بالقرائن، لم يقولوا: إنه يفيد العلم من جهة العادة والاطراد بحيث يساوي خبر التواتر، فيفيد العلم لكل الناس، وإنما قالوا: إنه يفيد العلم النظري الناتج عن النظر والاستدلال بما احتف به من قرائن بعضها يرجع إلى: المخبر، وبعضها يرجع إلى المخبر عنه، وبعضها يرحع إلي المخبر المبلغ. وها أنا أسوق ما قاله ابن القيم -رحمه الله- في هذا. قال: "وأهل الحديث لا يجعلون حصول العلم بمخبر هذه الأخبار الثابتة من جهة العادة المطردة في حق سائر المخبرين، بل يقولون: ذلك الأمر يرجع إلى المخبر، وأمر يرجع إلى المخبر عنه، وأمر يرجع إلى المخبر المبلغ. فأما ما يرجع إلى المخبر فإن الصحابة الذين بلغوا الأمة سنة نبيم كانوا أصدق الخلق لهجة، وأعظمهم أمانة، وأحفظهم لما يسمعون، وخصهم الله تعالى من ذلك بما لم يخص به غيرهم، فكانت طبيعتهم قبل الإسلام الصدق والأمانة، ثم ازدادوا بالإسلام قوة في الصدق والأمانة، وكان صدقهم عند الأمة وعدالتهم وضبطهم وحفظهم عن نبيهم أمراً معلوماً لهم بالاضطرار، كما يعلمون إسلامهم وإيمانهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من له أدنى علم بحال القوم يعلم أن خبر الصّدّيق وأصحابه لا يقاس بخبر من عداهما، وحصول الثقة واليقين بخبرهم فوق الثقة واليقين بخبر من سواهم من سائر الخلق بعد الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فقياس خبر الصّدّيق على خبر آحاد المخبرين من أفسد قياسٍ في العالم، وكذلك الثقات العدول الذين رووا عنهم هم أصدق الناس لهجة، وأشدهم تحرياً للصدق والضبط حتى لا تعرف في طوائف بني آدم أصدق لهجه ولا أعظم تحرياً للصدق منهم"1. وأما ما يرجع إلى المخبر عنه فإن الله سبحانه تكفل لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يظهر دينه على الدين كله، وأن يحفظه حتى يبلغه الأوّل إلى من بعده، فلا بد أن يحفظ الله سبحانه حججه وبيّناته على خلقه، لئلا تبطل حججه وبيّناته، ولهذا فضح الله من كذب على رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وبيّن حاله للناس، قال سفيان بن عيينة: ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث. قال عبد الله بن المبارك: "لو هَمَّ رجل أن يكذب في الحديث، لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب". وقد عاقب الله الكاذبين عليه في حياته بما جعلهم به نكالاً وعبرة حفظاً لوحيه ودينه، وقد روى أبو القاسم البغوي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا علي بن مسهر عن صالح بن حبان عن ابن بريدة عن أبيه قال: جاء رجل في جانب المدينة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي في أموالكم وفي كذا وكذا، وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن   1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/484-485. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 يزوجوه، ثم ذهب حتى نزل على المرأة، فبعث القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كذب عدو الله"، ثم أرسل رجلاً فقال: "إن وجدته حياً فاقتله، فإن أنت وجدته ميتا فحرقه بالنار"، فانطلق فوجده قد لدغ فمات، فحرقه بالنار فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار" 1. وروى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازعي عن أبي سلمة عن أسامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تقوّل عليّ مالم أقل فليتبوأ مقعده من النار "2 وذلك أنه بعث رجلاً فكذب عليه فوجد ميتاقد انشق بطنه ولم تقبله الأرض. فالله سبحانه لم يقر من كذب عليه في حياته وفضحه، وكشف ستره للناس بعد مماته. وأما ما يرجع إلى المخبر به، فإنه الحق المحض، وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كلامه وحي، فهو أصدق الصدق، وأحق الحق بعد كلام الله، فلا يشتبه بالكذب والباطل على ذى عقل صحيح، بل عليه من النور والجلالة والبرهان ما يشهد بصدقه، والحق عليه نور ساطع يبصره ذو   1 حديث من كذّب عليّ متعمداً … أخرجه مسلم في صحيحه8/229، باب التثبت في الحديث، أبو داود2/287، ابن ماجة1/9، البخاري1/37، باب من كذّب عليّ متعمداً … 2 صحيح البخاري1/37، ولفظه "من يقل عليّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 البصيرة السليمة، فبين الخبر الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الخبر الكاذب عنه من الفرق كما بين الليل والنهار، والضوء والظلام، وكلام النبوة متميز بنفسه عن غيره من الكلام الصدق، فكيف يشتبه بالكذب، ولكن هذا إنما يعرفه من له عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره وسننه1. قال: "وأما ما يرجع إلى المخبر، فإن المخبر نوعان: نوع له علم ومعرفة بأحوال الصحابة وعدالتهم وتحريهم للصدق والضبط، وكونهم أبعد خلق الله عن الكذب وعن الغلط والخطأ فيما نقلوه إلى الأمة، وتلقاه بعضهم عن بعض بالقبول، وتلقته الأمة عنهم كذلك، وقامت شواهد صدقهم فيه، فهذا المخبر باسم المفعول يقطع بصدق المخبر باسم الفاعل، ويفيده خبره العلم واليقين لمعرفته بحاله وسيرته. ونوع لا علم لهم بذلك، وليس عندهم من المعرفة بحال المخبرين ما عند أولئك، فهؤلاء قد لا يفيدهم خبرهم اليقين، فإذا انضم عمل المخبر وعلمه بحال المخبر وانضاف إلى ذلك معرفة المخبر عنه ونسبة ذلك الخبر إليه، أفاد ذلك علماً ضرورياً بصحة تلك النسبة، وهذا في إفادة العلم أقوى من خبر رجل مبرز في الصدق والتحفظ، عن رجل معروف بغاية الإحسان والجود، أنه سأله رجل معدم فقير ما يعينه، فأعطاه ذلك، وظهرت شواهد تلك العطية على الفقير، فكيف إذا تعدد المخبرون عنه   1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/485-486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وكثرت رواياتهم وأحاديثهم بطرق مختلفة، وعطايا متنوعة في أوقات متعدده؟ "1. قلت: ففي ما ذكر شواهد تدل على صدق رواة الحديث، وبعدهم عن الكذب والخطأ، وإن جاز عليهم عقلاً. فقد ثبت امتناع وجود كذب وخطأ في حديث لا يكشف أمره ويظهر حاله، والتاريخ شاهد، فقد عرف كذب الكاذبين في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع الوضاعين، فدوّن ما صحت نسبته من الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف حال مالم تصح نسبته إليه، كما دوّن من يروى عنه ممن لا يروى عنه حتى أصبح من المستحيل قبول حديث ليس معروفاً في الكتب التي دونت فيها السنة، ولم يبق مجال لطعن مقبول إلا بما هو مدوّن في كتب علوم الحديث، وكتب علوم الرجال، اللهم إلا ما قد يفرضه العقل، والعقل قد يفرض المحال، وإذا كان هذا هو واقع حال السنة علىالعموم، فإن ما احتف منها بالقرائن، لا يرد عليه ما افترض من احتمال كذب الراوي أو وهمه أوغلطه، لأن القرائن وحدها قد تفيد العلم، فكيف إذا انضم إليها ما صحت نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقامت الشواهد على صحته برواية العدل الضابط له عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.   1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/486-487. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فالذي يظهر لي أن الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم النظري، لأن وجود القرائن يدفع ما قد يفترض من خطأ الراوي ووهمه لاسيما أن تلقته الأمة بالقبول كما في أحاديث الصحيحين مما لم ينتقده الحفاظ، لأن تلقي الأمة وحده أقوى في إفادة العلم من القرائن، ومن مجرد كثرة الطرق القاصرة عن حد التواترولذا فقد ذهب إليه جماهير العلماء من السلف والخلف علىما تقدم نقله، تفصيله في هذا الفصل قريبا، الله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 هل للخلاف أثر كان لاختلاف العلماء في إفادة خبر الواحد العلم، وعدم إفادته العلم أثر نبينه فيما يلي: 1- أن القائلين بأن خبر الواحد العدل إنما يفيد الظن، قالوا: يحتج به في الأحكام دون العقائد، لأن الآحاد لا تفيد اليقين، والعقائد لابد فيها من اليقين1. وما ذكروه من التفريق بين ما يقبل فيه خبر الواحد، وما لا يقبل فيه يعترض عليه بما يأتي: الأول: أن للخصم أن يطالبهم بفرق صحيح بين ما يجوز إثباته بخبر الواحد العدل من الدين، وبين ما لا يجوز إثباته به، وبالفرق بين ما المطلوب فيه القطع اليقيني، وما يكفي فيه الظن، ولا سبيل إلى تقرير شيء من ذلك البتة2.   1 انظر: مختصر ابن الحاجب مع شروحه2/55، 57، وتنقيح الفصول للقرافي ص: 358، التقرير والتحبير شرح تحرير الكمال2/270، تيسير التحرير3/78-79، الأحكمام للآمدي2/47، حاشية العطار على المحلى2/157، ومذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين ص: 105. 2 مختصر الصواعق المرسلة1-2/513. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الثاني: أن القائلين بإفادته للعلم، والقائلين بإفادته للظن اتفقوا على نقل إجماع الصحابة والتابعين على العمل به1، ولم يرد عن أحد منهم أن أحداً من الصحابة منع الاستدلال بخبر الواحد العدل في العقائد لكونه لا يفيد إلا الظن، وأن العقائد لا يحتج فيها إلا بما يفيد القطع، بل الوارد عنهم قبول الخبر متى صح مطلقاً، وتخصيص ذلك بالأحكام دون العقائد يحتاج إلى دليل من: كتاب، أو سنة، أو إجماع قطعي2. الثالث: ما تواتر من إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله وسعاته إلى الآفاق والملوك المجاورين لجزيرة العرب، والقبائل، لتبليغ الرسالة، وتعليم الأحكام، وحل العهود وتقريرها، وقبض الزكوات، وفصل الخصومات، ونحو ذلك. فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل عظيم بصرى، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي بكتابه إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة، وعثمان بن العاص إلى الطائف، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وشجاع بن وهب   1 مختصر ابن الحاجب2/58، الأحكام للآمدي2/57، المعتمد لأبي الحسين البصري2/591، نهاية السول في أصول الفقه لأبي يعلى ص:129، مصورة مكروفيلم عند الدكتور عبد الوهّاب أبو سليمان وغيرها. 2 الإجماع القطعي هو: الإجماع القولي المنقول بالتواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بدمشق، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن خليفة باليمامة، وأمرّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الحج سنة تسع، وأرسل في أثره عليّاً لإنفاذ سورة براءة، وحمله فسخ العهود والعقود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وبعث عليّاً أيضاً إلى اليمن أميراً، وبعده بعث معاذاً أيضاً إلى اليمن لتعليم الشرائع وإقامة الأحكام، وبعث عتاب بن أسيد أميراً على أهل مكة ومعلماً للشرائع، وبعث لقبض الزكاة وجبايتها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيس بن عاصم، ومالك بن نويرة، والزبرقان بن بدر، وزيد بن حارثة، وعمرو بن العاص، وعمرو بن حزم، وأسامة بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم ممن يطول ذكرهم -رضي الله عنهم-. ولم يبعث هؤلاء إلا ليقيم بهم الحجة على من بعثوا إليهم، ومن المعلوم أن أهم ما بعث به هؤلاء هو الدعوة إلى التوحيد، كما سيأتي قريباً نص ذلك في كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، ولم يقل أحد إنه بعث عدد التواتر في وجه واحد. وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يلزم من بعث إليهم رسله بقبول قول رسله وحكامه وسعاته، ولو احتاج في كل رسالة إلى إرسال عدد التواتر لم يف بذلك جميع أصحابه، ولخلت دار هجرته صلى الله عليه وسلم من أصحابه وأنصاره، وتمكن منه أعداؤه، وفسد النظام والتدبير، وهذا أمر باطل، لا شك في بطلانه، فتبين بما ذكر أن خبر الواحد حجة توجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 العمل مثل خبر التواتر. فكما يجب العمل بخبر التواتر في كل ما دل عليه سواء كان في الأحكام أم العقائد، فكذلك ما دل عليه خبر الواحد العدل1. فإن قيل: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث رسله وسعاته لتعليم الأحكام، وجباية الزكاة، وتوزيعها، دون الدعوة إلى التوحيد. أجيب عنه بأنه ورد التصريح في كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك بالدعوة إلى التوحيد، وها أنا أسوق أمثلة لذلك. فمن ذلك ما أخرجه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى نحو أهل اليمن قال له: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم تؤخذ مق غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس "2. فالحديث نص في محل النزاع.   1 انظر: تفاصيله في المستصفى للغزالي مع فواتح الرحموت1/151، كشف الأسرار2/373-374، الأحكام للآمدي2/56، المنار مع حواشيه ص:62، مختصر ابن الحاجب مع شروحه2/59 فما بعدها. 2 صحيح البخاري مع فتح الباري13/347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ومنها ما أخرجه البخاري أيضاً عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، ويدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: "فدعا عليهم رسول صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق "1. قال ابن حجر:"المبعوث لعظيم البحرين وإن لم يسم في هذه الرواية، فقد سمي في نحوها، وهوعبد الله بن حذافة"2. ومنها ما أخرجه البخاري أيضاً عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "إن وفد عبد القيس لما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من الوفد؟ " قالوا: ربيعة. قال: "مرحباً بالوفد والقوم غير خزايا، ولا ندامى." قالوا: "يا رسول الله، إن بيننا وبينك كفار مضر، فمرنا بأمر ندخل به الجنة ونخبر به من وراءنا"، فسألوه عن الأشربة، فنهاهم عن أربع وأمرهم بأربع: أمرهم بالإيمان بالله قال: " هل تدرون ما الإيمان بالله؟ " قالوا: "الله ورسوله أعلم"، قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، -وأظن فيه صيام رمضان-، وتؤتوا من المغنم   1 صحيح البخاري مع فتح الباري13/241. 2 فتح الباري13/242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الخمس"، ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير1، قال: " احفظوهن، وأبلغوهن من وراءكم "2. قال ابن حجر: "والغرض من قوله في آخره "احفظوهن، وأبلغوهن من وراءكم" فإن الأمر بذلك يتناول كل فرد، فلولا أن الحجة تقوم بتبليغ الواحد ما حضهم عليه"3. وذكر ابن حجر أيضاً أن البخاري ذكر في خبر الواحد اثنين وعشرين حديثاً كلها مكررة، وذكر من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ثمانية وخمسين أثراً4، فادعاء تخصيص مهمة الرسل بتعليم الأحكام وجباية الزكاة وغير ذلك، دون الدعوة إلى التوحيد يحتاج إلى دليل قطعي، لاسيما وقد دلت الأحادحث السالفة الذكر وغيرها مما لم أذكره على الدعوة إلى التوحيد.   1 الدباء: القرعة يخرط فيها عناقيد العنب ثم تدفن فتترك حتى تهدر ثم تموت، والنقير: هو أن ينقر أصل النخلة فيشدخ فيه الرطب والبسر فيترك حتى يهدر ثم يموت، والحنتم: جراح يحمل فيها الخمر، والمزفت: هو المقير، وعاء فيه الزفت. انظر: فتح الباري10/45. 2 البخاري مع الفتح13/242-243. 3 فتح الباري شرح صحيح البخاري13/243. 4 انظر تفاصيله في نفس المصدر13/244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الرابع: أن القائلين بأنه لا يحتج به في العقائد ثبت عنهم قبول ما ورد منه في عذاب القبر1، وسؤال منكر ونكير،2 ورؤية المؤمنين لله تعالى بالأبصار يوم القيامة3، وما ورد في نعيم الجنة4، وعذاب النار5، والحوض6، والصراط7 وغيرها. وإليك بعض أقوالهم: قال السرخسي: "ثم قد ثبت بالآحاد من الأخبار ما يكون الحكم فيه العلم فقط، نحو عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ورؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، فبهذا ونحوه يتبين أن خبر الواحد موجب للعلم"8. وقال صاحب التوضيح: "والأخبار في أحكام الآخرة لا توجب إلا الاعتقاد، وهي مقبولة، ولأنه يحتمل الصدق والكذب، وبالعدالة   1 صحيح البخاري8/97، صحيح مسلم8/160-164. 2 صحيح مسلم8/161 فما بعدها. 3 صحيح مسلم1/112 فما بعدها، صحيح البخاري8/216. 4 صحيح مسلم8/128 فما بعدها. 5 صحيح مسلم8/149 فما بعدها، 1/135. 6 صحيح مسلم1/149-150. 7 صحيح مسلم1/116. 8 أصول السرخسي1/329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 يترجح الصدق. ولنا هذه الدلائل لكن لا نسلم أنه لا عمل إلا عن علم قطعي، والعقل يشهد أنه لا يوجب اليقين، والأحاديت في أحكام الآخرة منها ما اشتهر، ومنها ما دون ذلك، وكل ذلك يوجب ذكرنا، لأنها توجب عقد القلب، وهو عمل فيكفي له خبر الواحد. وفي هذا نظر، لأنه يجب أن لا يختص هذا بأحكام الآخرة، بل يكون كل الاعتقاديات كذلك"1. وذكر سعد الدين التفتازاني أن خبر الواحد في أحكام الآخرة من عذاب القبر، وتفاصيل الحشر والصراط والحساب والعقاب، وغير ذلك مقبول بالإجماع2. وقال البزدوي: "فأمّا الآحاد في أحكام الآخرة فمن ذلك ما هو مشهور، ومن ذلك ما هو دونه، لكنه يوجب ضرباً من العلم على ما قلنا، وفيه ضرب من العمل أيضاً، وهو عقد القلب عليه"3. فما اعترفوا به هنا من قبول ما ورد في أحكام الآخرة وغيرها يلزمهم قبول ما ورد منها في العقائد، لأنه لا يخرج عن عقد القلب الذي جعلوه عملاً يجب قبول خبر الواحد فيه، ولذا "اتفق السلفي على نقل   1 التلويح شرح التوضيح2/4. 2 نفس المصدر2/4. 3 كشف الأسرار على البزدوي2/376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أخبار الصفات وليس فيها عمل، وإنما فائدتها وجوب تصديقها واعتقاد ما فيها، ولأن اتفاق الأمة على قبولها إجماع منهم على صحتها، والإجماع حجة قاطعة"1. قال الشوكاني: "ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمال بمقتضاه فإنه يفيد العلم، لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه"2. وقال ابن القيم:"ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى، وفي مسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة والحوض، وإخراج الموحّدين من المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وفي فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ومناقب الصحابة، وأخبار الأنبياء المتقدمين، وأخبار الرقاق وغيرها مما يكثر ذكره. وهذه الأشياء علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم، حملنا أمر الأمة في نقل   1 روضة الناظر لابن قدامة ص: 52. 2 إرشاد الفحول ص: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 هذه الأخبار على الخطأ وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً، ولا ينفعه، ويصيركأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه"1. ولذا فإننا نرى طوائف الأمة "يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد، نرى أصحاب القدر يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" 2، وبقوله: "خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم" 3، ونرى أهل الإرجاء يستدلون بقوله: " من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة "، قيل: "وإن زنى وإن سرق؟ " قال: "وإن زنى وإن سرق ""4. ونرى الرافضة يحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: " يجاء بقوم من أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم" 5.   1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/505. 2 صحيح مسلم8/52 فما بعدها. ولفظه:"ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة … ". 3 شرح النووي لصحيح مسلم17/197، ولفظ مسلم: "خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم … ". 4 صحيح مسلم1/66 عن أبي ذر، ولفظه: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله ومات على ذلك … ". 5 صحيح مسلم8/157، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو جزء من حديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ونرى الخوارخ يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 1، وبقوله: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" 2، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يستدل بها أهل الفرق"3. وفي المسودة عن ابن عبد البر4 أنه قال: "وكلهم يروي خبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي، ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وحكماً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنه، ولهم في الأحكام ما ذكرناه". قلت: هذا الإجماع الذي ذكره في خبر الواحد العدل في الاعتقادات يؤيد قول من يقول: إنه يوجب العلم، وإلا فما لا يفيد علماً ولا عملاً كيف يجعل شرعاً وديناً يوالى عليه ويعادى؟ 5.   1 صحيح البخاري1/20، 8/18، شرح النووي لصحيح مسلم2/54 عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه. 2 صحيح مسلم1/54 عن أبي هريرة رضي الله عنه. 3 مختصر الصواعق المرسلة1-2/505، والاعتصام2/254. 4 هو: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البرّ الحافظ، القرطي، شيخ علماء الأندلس، وكثير محدّثيها في وقته وأحفظ من كان فيها. ولد سنة: 368هـ، وتوفي سنة: 463هـ، مؤلّفاته تنبئ عن جلالة علمه منها: التمهيد لما في الموطّأ من المعاني والأسانيد، والاستذكار على الموطّأ، وجامع بيان العلم وفضله. انظر: الديباج المذهب2/367-370. 5 المسودة لآل تيمية ص:245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 والحق أن احتمال الغلط والوهم واردان عقلاً على راوي خبر الواحد العدل الخالي عن القرائن إلا أن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها، في الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر، هذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولاسيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأن شرع كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته"1. ومما تقدم يتضح أن القول بعدم الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد مخالف لظاهر الكتاب والسنة اللذين أجمع الجميع على وجوب الأخذ بهما في قبول خبر الآحاد في الأحكام الشرعية، وذلك لعمومهما وشمولهما لوجوب الأخذ بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، سواء عقيدة أم حكماً فرعياً، فتخصيص ذلك بالأحكام دون العقائد يحتاج إلى دليل   1 مختصر الصواعق المرسلة1-2/509. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 قاطع، ثم إنه مخالف لما نقله المخالفون من إجماع الصحابة على قبول خبر الآحاد متى صحّ، ومع ذلك فلم ينقل عن أحد التفريق بين العقيدة وغيرها، ولم يرد عن أحد منهم أنه استظهر في غير أحاديث الأحكام. والقول بعدم قبول خبر الآحاد في العقائد يستلزم ردّ السنة لندرة المتواتر، ولأن كلّ حكم شرعي عملي يقترن به عقيدة ولا بد، ترجع إلى الإيمان بأمر غيبي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولولا أنه أخبرنا به في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لما وجب التصديق به والعمل به. ولذلك لم يجز لأحد أن يحرم أو يحلل بدون حجة من كتاب أو سنة، قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} 1، فأفادت هذه الآية الكريمة أن التحريم والتحليل بدون إذن منه كذب على الله تعالى وافتراء عليه، فإذا كنا متفقين على جواز التحليل والتحريم بحديث الآحاد، وأننا به ننجوا من القول على الله فكذلك يجوز إيجاب العقيدة بحديث الآحاد، ولا فرق، ومن ادعى الفرق فعليه البرهان من كتاب الله وسنة رسوله، ودون ذلك خرط القتاد"2.   1 سورة النحل آية: 116. 2 رسائل الدعوة السلفية 5، وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة للشيخ محمّد ناصر الدين الألباني ص: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ولأن كثيراً من الأحاديث العملية يتضمن الاعتقادية. فمن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تشهد أحدكم، فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" "1. ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن فقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" 2، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تضمنت عقائد وأحكاماً فهل ترى أن نردها ولا نعمل بها مطلقاً لكونها أحاديث الآحاد تضمنت عقائد، أم نعمل بها في الأحكام دون العقائد من غير دليل يدل على ذلك، وهذا ما يأباه العقل، أم نعمل بها في تضمنته من عقائد وأحكام، وهذا هو الحقّ الذي قام عليه دليل.   1 صحيح مسلم2/93، صحيح البخاري1/200، 2/118. 2 صحيح البخاري2/134، صحيح مسلم1/37 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 2- أن القائلين بأن خبر الواحد العدل يفيد العلم، قالوا: يحتج به في العقائد والأحكام من غير فرق، فمتى صحّ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب العمل به لقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 1، وقوله جل شأنه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 2، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3، وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4،وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 5، وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ   1 سورة المائدة آية: 92. 2 سورة النور آية: 54. 3 سورة النور آية: 56. 4 سورة الحشر آية: 7. 5 سورة النساء آية: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الْكَافِرِينَ} وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 1، إلى غير ذلك من الآيات التي يدل عمومها على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو داود عن المقدام بن معديكرب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه. ... الحديث"2. فمثل هذه النصوص كثير، وهو يدل بعمومه على وجوب قبول ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان في العقائد، أم في الأحكام. وذكر العلامة الشيخ محمّد الأمين بن محمد المختار الجكني -رحمه الله- أن التحقيق الذي لا يجوز العدول عنه قبول خبر الآحاد في الأصول والفروع على حد سواء، وأن عدم قبولها يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم 3.   1 سورة النساء آية: 69. 2 أبو داود2/505، الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص:39. 3 انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص: 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الباب الثاني: في حكم العمل بخير الآحاد الفصل الأول: في وجوب العمل به ... الباب الثاني: في حكم العمل بخير الآحاد أختلفت العلماء في حكم العمل به: فذهب الجمهور الى العمل به، وذهب فريق من العلماء الى إنكار العمل به. وفي ذلك سبعة فصول: الأول: في وجوب العمل به. الثاني: فيذكر أدلة منكري العمل به والرد عليها. الثالث: في العمل بخبر الواحد في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية. الرابع: حكم قبوله خبر الواحد العدل في الحدود. الخامس: خبر الواحد وعمل أهل المدينة. السادس: خبر الواحد فيما تعم به البلوى. السابع: إذا خالف الراوي مرويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الفصل الأول: في وجوب العمل به استدل الجمهور على وجوب العمل بخبر الآحاد: 1- الكتاب. 2- الآثار. 3- الإجماع. الأول: الكتاب: فقد استدلوا منه بما يأتي: الأول: قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 1،فالفرقة اسم للثلاثة فصاعداً، والطائفة من الفرقة: بعضها، وقد اختلف في عدد الطائفة فقيل: واحد، وقيل: اثنان، وقيل: ثلاثة، وقيل: غير ذلك، إلا أنه لم يقل أحد بشرط بلوغها عدد التواتر مع أن الله ألزم بقبول خبرها في قوله: ? {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ،بل قد   1 سورة التوبة آية: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 تصدق الطائفة على الواحد، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 1الآية، فلو اقتتل رجلان دخلا في حكم الآية. وقد نقل في سبب نزولها أنهما كانا رجلين، ثم في سياق الآية ما يدل على ذلك، فإنه تعالى قال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ،وقال في الآية الأخرى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 2،ونقل عن محمّد بن كعب في قوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} 3 الآية، كان هذا رجلاً واحداً4. وقال السرخسي: "ولا يقال: الطائفة اسم للجماعة، لأن المتقدمين اختلفوا في تفسير الطائفة فقال محمّد بن كعب: اسم للواحد، وقال عطاء: اسم للاثنين، وقال الزهري: لثلاثة، وقال الحسن: لعشرة. فيكون هذا اتفاقاً منهم أن الاسم يحتمل أن يتناول كل واحد من هذه   1 سورة الحجرات آية: 9. 2 سورة الحجرات آية: 10، انظر تفاصيله في: كشف الأسرار2/372، وأصول السرخسي1/323. 3 سورة التوبة آية: 66. 4 انظر العدة لأبي يعلى ص: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الأعداد، ولم يقل أحد بالزيادة على العشرة"1.ومعلوم أن خبر العشرة غير متواتر عند الجمهور. "فلو لم يكن خبر الواحد حجة لوجوب العمل، لما وجب الإنذار بما سمع، ثم لما ثبت بالنص أنه مأمور بالإنذار ثبت أنه يجب القبول منه، لأنه في هذا بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم،فإنه كان مأموراً بالإنذار، ثم كان قوله ملزماً للسامعين كيف وقد بين تعالى حكم القبول والعمل به في إشارة بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أي لكي يحذروا عن الرد، والامتناع عن العمل بعد لزوم الحجة إياهم، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 2،والأمر بالحذر لا يكون إلا بعد توجه الحجة. فدل أن خبر الواحد موجب للعمل"3. واعترض عليه الغزالي بقوله: "هذا فيه نظر، لأنه إن كان قاطعاً، فهو في وجوب الإنذار لا في وجوب العمل، على المنذر عند اتحاد   1 أصول السرخسي1/323، وانظر العدة لأبي يعلى ص: 128 فما بعدها، مصورة فيلم. 2 سورة النور آية: 63. 3 أصول السرخسي1/324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 المنذر، كما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة لا ليعمل بها وحدها، لكن إذا انضم إليها غيرها"1. ويجاب عنه بأن الشاهد إذا كان وحده فليس عليه أداء الشهادة على كل حال، لأن ذلك لا ينفع المدعي في ما لا يقوم اليمين فيه مقام الشاهد، بل ربما ضرت به تأدية الشهادة عند نقص النصاب كما لو كان الشهادة في القذف. واعترض عليه بأن الإنذار "المراد به الفتوى، وذلك لأن الإنذار متوقف على التفقه إذ الأمر به إنما هو لأجل التفقه، والموقوف على التفقه هو الفتوى لا الخبر- وما دام الأمر كذلك فالآية إنما تفيد وجوب العمل بخبر الواحد في الفتوى فقط، وليس ذلك من محل النزاع. ويجاب عن هذا بأن تخصيص الإنذار بالفتوى يوجب تخصيص القوم في قوله تعالى: {قَوْمَهُمْ} بالمقلدين، لأن المجتهدين لا يقلد بعضهم بعضاً في فتواه، وذلك يجعل الآية مخصصة في موضعين: "الإنذار - والقوم" والتخصيص خلاف الأصل. أما جعل الإنذار غير مخصص بالفتوى، فإنه لا يوجب تخصيص القوم بالمقلدين بل يجعله عاماً في المقلدين والمجتهدين، ولا شك أن المجتهد   1 المستصفى للغزالي مع فواتح الرحموت1/152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 يستفيد من الرواية باستنباط الأحكام منها، والمقلد يستفيد منها كذلك الانزجار، وحصول الثواب، وبذلك يكون عدم التخصيص أرجح، فيجب المصير إليه"1. واعترض بأن الضميرين في قوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا} و {وَلِيُنْذِرُوا} راجعان إلى الفرقة الباقية للتفقه، لا إلى الطائفة النافرة للجهاد، وعليه فليست الآية مثبتة للعمل بخبر الواحد، لأن المنذرين هم الفرقة الباقية، وهي التي تنذر الطائفة النافرة للجهاد إذا رجعت. ويدل عليه أن الله لما توعد المتخلفين عن الجهاد في غزوة تبوك كان المؤمنون يتسارعون إلى الغزو حتى لا يبقى مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم من يسمع الوحي ويتعلم الدين، فأمر الله أن ينفرللجهاد من كل فرقة طائفة، ويقعد الباقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين، ولإنذار من خرج للجهاد إذا رجع. وعلى هذا فلابد من إضمار، والتقدير: فلولا نفر من كل فرقة طائفة، وأقام طائفة ليتفقهوا. أما على التفسير الثاني: فلا حاجة إلى إضمار، ولا إلى تقدير، ومعلوم أن الاستغناء عن التقدير أولى من التقدير2.   1 أصول الفقه لأبي النور زهير3/140-141. 2 انظر تفاصيله في أصول فقه أبي النور زهير3/141-142، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي11/44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قال الألوسي: "وذهب كثير من الناس إلى أن المراد من النفر الخروج لطلب العلم، فالآية ليست متعلقة بما فيها من أمر الجهاد، بل لما بينّ سبحانه وجوب الهجرة والجهاد، وكل منهما سفر لعبادة، فبعدما فضل الجهاد ذكر السفر الآخر، وهو الهجرة لطلب العلم، فضمير يتفقهوا وينذروا للطائفة المذكورة، وهي النافرة، وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد، فقد أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما أنه قال: إن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفاً ومن الخصب ما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا، فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجاً، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبيصلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ ... } الخ. وذكر بعضهم أن في الآية دلالة على أن خبر الواحد حجة، لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر قومها كي يتركوا ويحذروا، فلو لم يعتبر الإخبار مالم يتواتر لم يفد ذلك. وقرر بعضهم وجه الدلالة بأمرين: الأول: أنه تعالى أمر الطائفة بالإنذار، وهو يقتضي فعل المأمور به وإلا لم يكن إنذاراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الثاني: أمره سبحانه القوم بالحذر عند الإنذار، لأن معنى قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ليحذروا، وذلك أيضاً يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد، وهذه الدلالة قائمة على أي تفسير شئت من التفسيرين، ولا يتوقف الاستدلال، بالآية على ما ذكر مع صدق الطائفة على الواحد الذي هو مبدأ الأعداد، بل يكفي فيه صدقها على ما لم يبلغ حد التواتر وإن كان ثلاثة فأكثر، وكذا لا يتوقف على أن يكون الترجي من المنذرين، بل يكون من الله سبحانه، ويراد به الطلب الجازم كما لا يخفى"1. قال البخاري: "باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والأحكام، وقول الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 2.   1 روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني11/44 فما بعدها. 2 سورة التوبة آية: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 1،فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية، وقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 2،وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراء واحداً بعد واحد، فإن سها منهم أحد رد إلى السنة"3،ثم ساق -رحمه الله- اثنين وعشرين حديثاً كلها تدل على قبول خبر الواحد، ومراده بالإجازة أنه حجة، وواضح من صنيعه أن العمل بخبر الآحاد دل عليه: الكتاب والسنة.4 الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} 5،وقوله جل شأنه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 6 الآية.   1 سورة الحجرات آية: 9. 2 سورة الحجرات آية: 6. 3 فتح الباري شرح صحيح البخاري13/231. 4 نفس المصدر13/233 فما بعدها. 5 سورة البقرة آية: 159. 6 سورة آل عمران آية: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فهاتان الآيتان وإن كانتا نزلتا في أهل الكتاب لكتمانهم ما يجب عليهم بيانه من صفة نبينا محمّدصلى الله عليه وسلم فإنهما عامتان في كل من تعلم علماً، فإنه منهي عن الكتمان مأمور بالبيان. وقد صرح بذلك الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره، فقال في الآية الأولى: "وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاص من الناس، فإنها معني بها كل كاتم علماً فرض الله تعالى بيانه للناس، وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار "1. وقال في الآية الثانية: "إن أهل التأويل اختلفوا في من عني بذلك فقيل: نزلت في اليهود خاصة، لأن الله أخذ عليهم العهد ليبيّنوا للناس محمداًصلى الله عليه وسلم ولا يكتمونه، وقال آخرون: عني بذلك كل من أوتي علماً من أمر الدين" ثم ساق عن قتادة ما يدل على ذلك"2.   1 جامع البيان في تأويل القرآن للإمام الطبر2/53. والحديث أخرجه أبو داود في سننه2/288 عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 انظر تفاصيله في تفسير ابن جرير الطبري4/202 فما بعدها مع تصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 قال الألوسي: "واستدل بالآية على وجوب إظهار العلم، وحرمة كتمان شيء من أمور الدين لغرض فاسد"1. ومعلوم أن المظهر والمبيّن للدين قد يكون واحداً، ولولا وجوب قبول خبره لما وجب عليه إظهاره وحرم عليه كتمانه، ويدل على ذلك ما ذكره الألوسي. قال: "وروى الثعلبي بإسناده عن الحسن بن عمارة قال: "أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث، فلقيته عام بابه، فقلت: "إن رأيت أن تحدثني؟ " فقال: "أما علمت أني تركت الحديث؟ " فقلت: "إما أن تحدثني، وإما أن أحدثك؟ " فقال: "حدثني". فقلت: "حدثني الحكم بن عتيبة عن نجم الخراز قال: "سمعت علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-يقول: "ما أخذ الله تعالى على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا"2. وقال السرخسي: "في هاتين الآيتين نهي لكل واحد عن الكتمان وأمر بالبيان على ما هو الحكم في الجمع المضاف إلى جماعة أنه يتناول كل واحد منهم، ولأن أخذ الميثاق من أصل الدين، والخطاب للجماعة بما هو أصل الدين يتناول كل واحد من الآحاد، ومن ضرورة توجه الأمر   1 روح المعان للألوسي4/150. 2 نفس المصدر4/150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 بالإظهار على كل واحد أمر السامع بالقبول منه والعمل به، إذ أمر الشرع لا يخلو عن فائدة حميدة ولا فائدة في النهي عن الكتمان والأمر بالبيان سوى هذا"1. ففيما ذكروه -رحمهم الله- من توجيه الآيتين ما يدل على وجوب العمل بخبر الآحاد. الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 2،فقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة بإبلاغ جميع ما أرسله الله به إلى الناس كافة، ولو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة، لتعذر خطابهصلى الله عليه وسلم لجميع الناس شفاها، وتعذر إرسال عدد التواتر لكلّ فرد معلوم أيضاً، ومعلوم أنهصلى الله عليه وسلم،بلغ الرسالة على أتم وجه وأكمله، وقد استشهد الناس على ذلك كما جاء في حديث جابر-رضي الله عنه- في حجة الوداع: " وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ " قالوا: "نشهد إنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء   1 أصول السرخسي1/322. 2 سورة المائدة آية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وينكتها1إلى الناس: "اللهم أشهد اللهم أشهد ثلاث مرات" 2. قال الألولسي: "لما أن بعضها - يعني الشريعة - ليس بأولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها - هكذا- وكونها لذلك في حكم الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ مؤمناً به غير مؤمن به، ولأن كتمان بعضها يضيع ما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة، فإن غرض الدعوة ينتقض به"3. قلت: إذا كانت مشاهدته للجميع متعذرة، وإرسال عدد التواتر لكل فرد متعذر كذلك، وكان يرسل الآحاد للدعوة، لزم حينئذ قبول خبر الواحد العدل، وهو المطلوب، ومعلوم أنه لم يكتم شيئاً صلى الله عليه وسلم وأنه بلغ كما أمر. الرابع: قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 4،فالآية تدل بمنطوقها على الأمر بسؤال أهل الذكر، وهم   1 قال النووي: "هكذا ضبطناه ينكتها بعد الكاف تاء مثناه فوق، قال القاضي: كذا الرواية بالتاء المثناه فوق، قال: وهو بعيد المعنى. قال: قيل: صوابه ينكبها بباء موحده … ومعناه: يلقبها ويردها إلى الناس مشيراً إليهم، ومنه نكب كنانته إذا قلبها".اهـ شرح النووي لصحيح مسلم8/184. 2 صحيح مسلم4/41. 3 روح المعاني للألوسي6/118-119. 4 سورة النحل آية:43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وإن رجح ابن كثير أن المراد بهم أهل الكتاب، إلا أنها عامة في سؤال كل من أوتي علماً. وقد استدل بها على وجوب سؤال العلماء فيما لا يعلم حكمه، والأمر في الآية بسؤال أهل الذكر لم يفرق فيه بين المجتهد وغيره، وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الإخبار بما سمع دون الفتوى، ولو لم يكن العمل به واجباً لما كان السؤال واجباً1. الخامس: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 2 الآية، أمر بالقسط والشهادة لله، ومن أخبر عن الرسول بما سمعه فقد قام بالقسط وشهد لله وكان ذلك واجباً عليه بالأمر، وإنما يكون واجباً لو كان القبول واجباً، وإلا كان وجوب الشهادة كعدمها، وهو ممتنع"3. السادس: قوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 4. فالخطاب في الآية عام، ومفهومه أن الجائي بنبأ إن كان   1 انظر تفاصيله في روح المعاني للألسوي14/147 فما بعدها، وتفسير ابن كثير2/570. 2 سورة النساء آية: 135. 3 كشف الأسرار في أصول الفقه2/372. 4 سورة الحجرات آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 معروف العدالة والصدق فإنه يجب قبول خبره، لأنه لو لم يقبل خبره لما كان عدم قبول خبر الفاسق معللا بالفسق، ولأن الأمر بالتبيّن مشروط بمجيء الفاسق، ومفهوم الشرط معتبر على الصحيح، فيجب العمل به إن لم يكن فاسقاً، كما لا يجب التثبت في قراءة فتثبتوا"1. الثاني: آثار كثيرة تثبت وجوب العمل بخبر الواحد منها ما يأتي: 1- قال الشافعي: "أخبرنا سفيان بن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم". فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها إمرءً يؤديها، والامرء -هكذا- واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا من تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال، وحرام   1 انظر تفاصيله في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي24/146، كشف الأسرار2/372 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا، ودل على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه، يكون له حافظاً، ولا يكون فيه فقيهاً. وأمر رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في أن إجماع المسلمين- إن شاء الله- لازم"1. 2- قال: "أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار "أن رجلاً قَبَّلَ امرأته وهو صائم، فوجد في ذلك وجداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك فدخلت على أم سلمة أم المؤمنين فأخبرتها. فقالت أم سلمة: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم. فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شراً. وقال: "لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء". فرجعت المرأة إلى أم سلمة، فوجدت رسول الله عندها، فقال رسول الله: "ما بال هذه المرأة؟ " فأخبرته أم سلمة، فقال: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ " فقالت أم سلمة: "قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شراً"،وقال: "لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء"،فغضب رسول الله ثم قال: "والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده". وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذكر من وصله.   1 الرسالة للإمام الشافعي ص:175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 قال الشافعي: "في ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ " دلالة على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله، لأنه لا يأمرها بأن تخبر عن النبي إلا وفي خبرها ما تكون الحجة لمن أخبرته. وهكذا خبر امرأته إن كانت من أهل الصدق عنده". 3- أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ أتاهم آت فقال: "إن رسول الله قد أنزل عليه قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة" وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار وفقه، وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها، ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة، ولم يلقوا رسول الله ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة، فيكونون مستقبلين بكتاب الله وسنة نبيه، سماعاً من رسول الله، ولا بخبر عامة، وانتقلوا بخبر واحد إذا كان عندهم من أهل الصدق، عن فرض كان عليهم، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي أنه أحدث عليهم من تحويل القبلة، ولم يكونوا ليفعلوه- إن شاء الله- بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله، إذا كان من أهل الصدق. ولا يحدثوا أيضاً مثل هذا العظيم في دينهم إلا عن علم بأن لهم إحداثه. ولا يدعون أن يخبروا رسول الله بما صنعوا منه. ولو كان ما قبلوا من خبر الواحد عن رسول الله في تحويل القبلة، وهو فرض، مما يجوز لهم لقال لهم- إن شاء الله- رسول الله: قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 كنتم على قبلة، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة من سماعكم مني، أو خبر عامة، أو أكثر من خبر واحد عني. 4- أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: "كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح، وأبي بن كعب شراباً من فضيخ وتمر، فجاءهم آت فقال: "إن الخمر قد حرمت" فقال أبو طلحة: "قم يا أنس إلى هذه الجراري فاكسرها". فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت". وهؤلاء في العلم والمكانة من النبي وتقدم صحبته بالموضع الذي لا ينكره عالم. وقد كان الشراب عندهم حلالاً يشربونه، فجاءهم آت وأخبرهم بتحريم الخمر، فأمر أبو طلحة، وهو مالك الجرار بكسر الجرار، ولم يقل، هو، ولا هم، ولا أحد منهم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله، مع قربه منا، أو يأتينا خبر عامة، وذلك أنهم لا يهرقون حلالاً، إهراقه سرف، وليسوا من أهله، والحال أنهم لا يدعون إخبار رسول الله مافعلوه، ولا يدع، لو كان ما قبلوا من خبر الواحد ليس لهم أن ينهاهم عن قبوله. 5- وأمر رسول الله أنيسا أن يغدو على امرأة رجل ذكر أنها زنت "فإن اعترفت فارجمها" فاعترفت فرجمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وأخبرنا بذلك مالك وسفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد، وساقا عن النبي، وزاد سفيان مع أبي هريرة وزيد بن خالد شبلاً1. 6- أخبرنا عبد العزيز عن عبد الهاد –هكذا- عن عبد الله بن أبي سلمة عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قالت: "بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل يقوله: "إن رسول الله يقول: "إن هذه أيام طعام وشراب فلا يصومن أحد" فاتبع الناس وهو على جمله، يصرخ فيهم بذلك ". ورسول الله لا يبعث بنهيه واحداً صادقاً إلا لزم خبره عن النبي، بصدقه عند المنهيين عن ما أخبرهم أن النبي نهى عنه. ومع رسول الله الحاج، "وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم أو يبعث إليهم عدداً فبعث واحداً يعرفونه بالصدق.   (شبل) بكسر الشين المعجمة وسكون الباء الموحدة ابن معبد ويقال: ابن خليد، وقيل: غير ذلك. وزيادة شبل في الإسناد انفرد بها ابن عيينة. قال ابن حجر في التهذيب: ولم يتابع على ذلك، ورواه النسائي والترمذي وابن ماجة … اهـ أحمد شاكر من تعليقه على الرسالة ص: 411. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله، فإذا كان هكذا مع ما وصفت من مقدرة النبي على بعثه جماعة إليهم، كان ذلك- إن شاء الله- فيمن بعده ممن لا يمكنه ما أمكنهم وأمكن فيهم، أولى أن يثبت به خبر الواحد الصادق. 7- أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن عبد الله بن صفوان عن خال له- إن شاء الله- يقال له: يزيد بن شيبان قال: "كنا في موقف لنا بعرفة، يباعده عمرو من موقف الإمام جداً، فأتانا ابن مريع الأنصاري فقال لنا: "أنا رسول الله إليكم يأمركم أن تقفوا على مشاعركم هذه، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم"1. 8- ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله وأمره وقضاته وسعاته إلى الأطراف، لتبليغ الرسالة وإقامة الأحكام والقضاء، وقد كان يجب عليهم تلقي ذلك بالقبول، وإلا لما كان الإرسال مفيداً، وهم آحاد، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعث إلا واحداً تقوم الحجة بخبره على من بعث إليه مما تقدم. فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمّر أبا بكر على الحج سنة تسع، وعلياً على تقسيم الغنيمة وإفراد الخمس باليمن، وقراءة سورة براءة على المشركين في حجة أبي بكر، وتحميله فسخ العهود والعقود التي كانت بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم،   1 الرسالة للإمام الشافعي ص: 176-179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وأمّر على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص وعلى البحرين العلاء بن الحضري، وعلى عمان عمرو بن العاص، وعلى نجران أبا سفيان بن حرب، وعلى صنعاء وسائر جبال اليمن باذان ثم ابنه شهرا وفيروز والمهاجر بن أمية، وعلى الجند وما معها معاذ بن جبل، وعلى وادي القرى عمرو بن سعيد بن العاص، وعلى تيماء يزيد بن أبي سفيان، وعلى اليمامة ثمامة، وأمّر أبا عبيدة لقبض الجزية من أهل البحرين، وعبد الله بن رواحة لخرص خيبر، وولى على الصدقات عمرو ابن حزم، وأسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم ممن تقدم ذكر بعضهم ويطول ذكرهم1. قال الشافعي:"وبعث في دهر واحد اثني عشر رسولاً، إلى اثني عشر ملكاً يدعوهم إلى الإسلام، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة فيها، وألا يكتب فيها دلالات لمن بعثهم إليه على أنها كتبه. وقد تحرى فيهم ما تحرى في أمرائه، من أن يكونوا معروفين، فبعث دحية إلى الناحية التي هو فيها معروف.   1 انظر تفاصيل ذلك في فتح الباري شرح صحيح البخاري13/241، وص: 135 من هذا البحث فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ولو أن المبعوث إليه جهل الرسول، كان عليه طلب علم أن النبي بعثه ليستبريء شكه في خبر الرسول، وكان على الرسول الوقوف حتى يستبرئه المبعوث إليه. ولم تزل كتب رسول الله تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي، ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولاً إلا صادقاً عند من بعثه إليه. وإذا طلب المبعوث إليه علم صدقه وجده حيث هو. ولو شك في كتابه، بتغيير في الكتاب، أو حال تدل على تهمة، من غفلة رسول حمل الكتاب، كان عليه أن يطلب علم ما شك فيه، حتى ينفذ ما يثبت عنده من أمر رسول الله. وهكذا كانت كتب خلفائه بعده، وعمالهم، وما أجمع المسلمون عليه، من أن يكون الخليفة واحداً والقاضي واحد، والأمير واحد والإمام -هكذا-"1. فإن قيل: هذه أخبار آحاد، فكيف يثبت بها كون خبر الواحد حجة؟   1 الرسالة للإمام الشافعي ص: 181-182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أجيب بأنها وإن كانت آحادها آحاداً، فهي متواترة من جهة المعنى، كالأخبار الواردة بسخاء حاتم، وشجاعة عليّ. قال ابن حجر: "واعترض بعض المخالفين بأن إرسالهم إنما كان لقبض الزكاة والفتيا ونحو ذلك. وهي مكابرة، فإن العلم حاصل بإرسال الأمراء لأعم من قبض الزكاة وإبلاغ الأحكام، وغير ذلك. ولو لم يشتهر من ذلك إلا تأمير معاذ بن جبل وأمره له، وقوله له: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب فأعلمهم أن الله فرض عليهم … " الخ. والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد منهم كانوا يتحاكمون إلى الذي أمر عليهم، ويقبلون خبره، ويعتمدون عليه من غير التفات إلى قرينة، وفي أحاديث هذا الباب كثير من ذلك"1.   1 فتح الباري شرح صحيح الباري13/235، وانظر ص: 115 من هذا البحث فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الثالث: الإجماع: أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على العمل بخبر الآحاد في وقائع خارجة عن العد والحصر. فقد عمل أبو بكر رضي الله عنه بخبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة السدس لما أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس1. وقبل عمر خبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" 2. وعمل بخبر حمل ابن مالك في دية الجنين أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى فيه بغرة: عبد أو وليدة "3،وعمل بخبر الضحاك ابن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها" 4،وعمل عثمان بخبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم "أمرها بالسكنى في دار زوجها لما قتل حتى تنقضي   1 الموطّأ1/335، ابن ماجة2/84. 2 الرسالة للإمام الشافعي ص: 186، الدارقطني2/154، الموطّأ1/207، وتقدم في ص: 85 من هذا البحث. 3 صحيح البخاري عن أبي هريرة9/14 فما بعدها، الموطّأ2/855، الرسالة ص: 185. 4 أبو داود2/117، الرسالة ص: 184-185، نيل الأوطار7/373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 عدتها" 1. وقبل عمر خبر عمرو بن حزم في أن دية الأصابع سواء2. وقبل خبر عبد الرحمن بن عوف في أمر الطاعون3،وقبل خبر سعد ابن أبي وقاص في المسح على الخفين4. وقبل الصحابة خبر أبي بكر: " إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة "5،وحديث: "الأنبياء يدفنون حيث ماتوا" 6.   1 الموطّأ2/591، الرسالة ص: 189-190، أبو داود1/536-537. 2 الرسالة ص: 183-184، ومقتضى كلام الشافعي أن الذي رجع هم الصحابة، أما عمر فلم يبلغه لقوله: ((ولو بلغ عمر هذا صار إليه … كما صار إلى غيره)) انظر الرسالة نفس الصفحة، وأخرجه أبو داود2/494 عن أبي موسى. 3 صحيح البخاري7/169، الرزقاني على الموطّأ5/221-222. 4 صحيح مسلم1/156، فتح الباري شرح صحيح البخاري1/213. 5 صحيح البخاري8/185-186، الزرقاني5/482-483. 6 ابن ماجة1/255، الموطّأ مع تنوير الحواليك1/179 عن أبي بكر رضي الله عنه ولفظه: ((ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وعمل ابن عباس في خبر أبي سعيد الخدري في الربا في النقد بعد أن كان لا يحكم بالربا في غير النسيئة1، وعمل زيد بن ثابت بخبر امرأة من الأنصار أن الحائض تنفر بلا وداع2، وعمل الصحابة بفرض الغسل من التقاء الختانين لخبر عائشة3، واشتهر عن علي رضي الله عنه العمل بخبر   1 قال ابن قدامة: "إنه رجع إلى قول الجماعة، روى ذلك الأثرم بإسناده قال الترمذي وابن المنذر وغيرهم. وقال سعيد بإسناده عن أبي صالح: "صحبت ابن عباس حتى مات، فوالله ما رجع عن الصرف". وعن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف فلم ير به بأساً وكان يأمر به اهـ. المغني لابن قدامة4/3، قال ابن حجر: "وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي، وهو بالمهملة والتحتانية:سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأساً زماناً من عمره، ما كان منه عيناً بعينٍ يداً بيدٍ، وكان يقول: إنما الربا في النسيئة، فلقيه أبو سعيد" فذكر القصة والحديث وفيه: " التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والفضة بالفضة يداً بيد مثلاً بمثلٍ" فمن زاد فهو ربا، فقال ابن عباس: أستغفر الله وأتوب إليه، فكان ينهى عن ذلك أشد النهي" اهـ ابن حجر من فتح الباري شرح صحيح البخاري4/382. 2 الرسالة للإمام الشافعي ص: 190، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه1/86. 3 الموطّأ1/46، صحيح مسلم1/187، دار الطباعة العامرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الواحد قال: "كنت إذا سمعت من رسول الله حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني غيره حلفته، فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر1 وعمل الصحابة بخبر رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة2 قال ابن عمر: "كنا نخابر ولا نرى بذلك بأساً، حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك"3. واشتهر عن الصحابة الرجوع إلى عائشة، وأم سلمة، وميمونة، وحفصة، وفاطمة بنت أسد، وأسامة بن زيد، وغيرهم. من الصحابة رضوان الله عليهم4.   1 الكفاية في علم الرواية للخطيب ص: 68. 2 هي المزارعة، مشتقة من الخبار وهي الأرض اللينة، والمزارعة هي دفع الأرض إلى من يزرعها أو يعمل عليها، والزرع بينهما. وهي جائزة عند أكثر أهل العلم، وكرهها بعض العلماء. ومن أراد الوقوف على أقوال العلماء فيها فليرجع إلى ذلك في محله. انظر المغني لابن قدامة5/343. 3 صحيح البخاري3/134 فما بعدها، الرسالة ص: 192. 4 انظر تفاصيله في فتح الباري13/235، المستصفى1/148 فما بعدها، الإحكام للآمدي2/57 فما بعدها، وكشف الأسرار2/374 فما بعدها، والتقرير والتحبير شرح تحرير الكمال2/272، ومذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين ص: 107 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 قال الشافعي: "ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدناه هذه سبيل –هكذا-. وكذلك حكى لنا عمن حكى لنا عنه من أمل العلم بالبلدان، قال: وجدنا سعيداً بالمدينة يقول: أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي في الصرف، فيثبت حديثه سنة. ويقول: حدثني أبو هريرة عن النبي فيثبت حديثه سنة. ويروى عن الواحد غيرهما فيثبت حديثه سنة. ووجدنا عروة يقول: حدثني عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان" فيثبته سنة. ويروى عنها عن النبي شيئاً كثيراً، فيثبتها سننا، يحل بها جرم. وكذلك وجدناه يقول: حدثني أسامة بن زيد عن النبي ويقول: حدثني عبد الله بن عمر عن النبي وغيرهما. فيثبت خبر كل واحد منهما على الانفراد سنة. ثم وجدناه أيضاً يصير إلى أن يقول. حدثني عبد الرحمن بن عبد القارئ عن عمر. ويقول: حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر. ويثبت كل واحد من هذا خبراً عن عمر. ووجدنا القاسم بن محمد يقول: حدثتني عائشة عن النبي ويقول: في حديث غيره: حدثني ابن عمر عن النبي. ويثبت خبر كل واحد منهما على الانفراد سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ويقول: حدثني عبد الرحمن ومجمع ابنا زيد بن حارثة عن خنساء بنت خدام عن النبي، فيثبت خبرها سنة، وهو خبر امرأة واحدة. ووجدنا علي بن حسين يقول: أخبرنا عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن النبي قال: "لا يرث المسلم الكافر". فيثبتها سنة ويثبتها الناس بخبره سنة. ووجدنا كذلك محمد بن علي بن حسن يخبر عن جابر عن النبي وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي فيثبت كل ذللك سنة. ووجدنا محمد بن جبير بن مطعم، ونافع بن جبير بن مطعم، ويزيد بن طلحة بن ركانة، ومحمد بن طلحة بن ركانة، ونافع بن عجير بن عبد يزيد، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، وحميد بن عبد الرحمن، وطلحة بن عبد الله بن عوف، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن كعب بن مالك، وعبد الله بن أبي قتادة، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وغيرهم من محدثي أهل المدينة، كلهم يقول حدثني فلان لرجل من أصحاب النبي عن النبي أومن التابعين عن رجل من أصحاب النبي عن النبي، فيثبت ذلك سنة. ووجدنا عطاء وطاوسا، ومجاهدا، وابن أبي مليكة، وعكرمة بن خالد، وعبيد الله بن أبي يزيد وعبد الله بن باباه، وابن أبي عمارة، ومحدثي المكيين، ووجدنا وهب بن منبه باليمن، وهكذا، ومكحولا بالشام، وعبد الرحمن بن غنم والحسن، وابن سيرين بالبصرة، والأسود وعلقمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 والشعبي بالكوفة، ومحدثي الناس وأعلامهم بالأمصار، كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله، والانتهاء إليه، والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه، ويقبله عنه من تحته. ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة، أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته، جاز لي"1. ولم يبلغنا أنه أنكر على أحد منهم في عصر، ولو كان نكير لنقل إلينا عنه ذلك، ولوجب في مستقر العادة اشتهار الإنكارعليه، لتواتر الدواعي على نقله كما توفرت على نقل العمل به، فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه بين السلف والخلف، وإنما الخلاف حصل بعدهم، كما أجمعوا على قبول أخبار الآحاد من الوكلاء والمضاربين والرسل وغيرهم2. قال الخطيب البغدادي: "وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار ذلك، ولا اعتراض عليه، فثبت   1 الرسالة ص: 194-196. 2 انظر المستفصى للغزالي1/150، وكشف الأسرار لبعد العزيز البخاري2/375. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 أن من دين جميعهم وجوبه، إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه"1. فإن قيل لعلهم عملوا بها لما احتف بها من قرائن، أو لأخبار صاحبتها لا بمجردها. أجيب عنه بأنهم صرحوا بأنهم إنما عملوا بها بمجردها: قال الشافعي: "أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب "أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته".فرجع إليه عمر"2. وقال: "إن عمر قال: أذكر الله امرأ سمع من النبي في الجنين شيئاً؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: "كنت بين جارتين لي، يعني ضرتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح3 فألقت جنينها ميتاً، فقضى   1 الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص: 72. 2 الرسالة للإمام الشافعي ص: 184-185. 3 المسطح العود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة" 1 فقال عمر: لو لم نسمع فيه لقضينا بغيره. وقال غيره: إن كدنا نقضي في مثل هذا برأينا"2. ورجع عمر بالناس عن الشام لما بلغه خبر الطاعون بخبر عبد الرحمن بن عوف3، وقال في المجوس: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" 4. وقال ابن عمر: كنا نخابر، ولا نرى بذلك بأساً حتى زعم رافع أن رسول الله نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك5. وأما ما اعترض به المخالف من توقف بعض الصحابة في العمل بخبر الآحاد، فسيأتي الجواب عنه في الفصل الآتي بعد هذا إن شاء الله.   1 العبد أو الأمة. 2 الرسالة ص: 185. 3 الرسالة ص: 186. 4 نفس المصدر ص: 186. 5 نفس المصدر ص: 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الفصل الثاني: في ذكر أدلة منكري العمل بخبر الآحاد والرد عليها ذهب قوم من أهل البدعة من الرافضة1،ومن المعتزلة إلى منع العمل بخبر الآحاد، ومنعه الفاشاني وابن أبي داود، وحكى عن النهرواني وإبراهيم بن إسماعيل بن علية، والأصم، والشيعة. وأهم ما استدلوا به ما يأتي: 1- من الكتاب: قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 2،وقوله جل شأنه: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3،   1 هم: الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه، لما سألوه عن أبي بكر وعمر فأثنى عليهما خيراً، فانصرفوا عنه، فقال: "رفضتموني"، فسموا بذلك. وقيل: لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر. وقالوا: "إن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على إمامة علي وأظهر ذلك، وأن أكثر أصحابه ضلوا بترك الاقتداء به بعد وفاته". انظر الملل والنحل للشهرستاني مع الفصل1/86، المقالات لأبي الحسن1/87، ومذكرة الأديان والفرق والمذاهب العاصرة لعبد القادر شيبة الحمد ص:137، مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة. 2 سورة الإسراء آية: 36. 3 سورة البقرة آية: 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} 1، {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} 2. قالوا: ذكر ذلك في معرض الذم، وهو يقتضي التحريم، والعمل بخبر الآحاد عمل بغير علم. 2- قالوا: لو جاز التعبد به في الفروع، لجاز في الأصول والعقائد، وهو خلاف الإجماع بيننا وبينكم، فكما لا يقبل في العقائد، لا يقبل في الفروع. 3- قالوا: توقف النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ذي اليدين حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم عن اثنتين، وهو قوله: "أقصرت الصلاة أم نسيت" حتى أخبره أبو بكر وعمر ومن كان في الصف، فصدقه، فأتم وسجد للسهو، ولو كان خبر الواحد حجة لأتم النبي صلى الله عليه وسلم من غير توقف ولا سؤال. 4- وَرَدَ عن عدد من الصحابة ردّ خبر الآحاد، فردَّ أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة، وردّ عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى رواه معه أبو سعيد الخدري، وردّ أبو بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن   1 سورة النجم آية:28. 2 سورة النجم آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أبي العاص، وردّ علي خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة، وأنه كان لا يقبل خبر الواحد حتى يحلفه سوى أبي بكر، وردّت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه1. الأجوبة عن تلك الأدلة: أما عن الأوّل: فإن المراد من الآيات من الشاهد عن الجزم بالشهادة فيما لم يبصر ولم يسمع، والفتوى بما يرو ولم ينقله العدول، وبأن وجوب العمل بخبر الآحاد معلوم بالإجماع، وهو دليل قاطع، وأن إنكارهم للعمل به حكم بغير علم. والحكم بغير علم باطل، ولأن تجويز الكذب والخطأ لو كان مانعاً من العمل لمنع العمل بشهادة الاثنين والأربعة والرجل والمرأتين، وقد دل النص القرآني على وجوب الحكم   1 انظر تفاصيله في الإحكام للآمدي2/60 فما بعدها، كشف الأسرار2/370، نزهة المشتاق شرح اللمع ص:424-425، المعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي2/604، والمستصفى للغزالي1/153، المسودة لآل تيمية ص:238، السنة ومكانتها للدكتور مصطفى السباعي ص:168، إرشاد الفحول للشوكاني ص:48-49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 بها مع جواز الكذب والخطأ فيها، وإذا كنا متفقين على العمل بها، فما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالعمل1. ويجاب عن الثاني: بأنه قد دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة2،على العمل بالخبر متى صح وتوفرت فيه شروط القبول فيما تضمنه من فروع وأصول من غير تفريق. وما ادعاه المخالف من إجماع على عدم قبول خبر الآحاد في العقائد، يحتاج إلى إثبات حتى يكون إجماعاً قطعياً تقوم به الحجة3،ويقدم على خبر الآحاد. أما ولم يرد غير دعوى مجردة عن الدليل فلا يترك العمل بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما دل عليه سواء كان أصولاً أو فروعاً،   1 انظر المستصفى1/154 فما بعدها، الإحكام للآمدي2/46، المختصر لابن الحاجب مع شروحه2/57، تيسير التحرير3/86. 2 انظر المستفصى1/148، نهاية السول شرح منهاج الوصول2/138، المنار مع حواشيه ص: 621، الإحكام للآمدي2/57، المعتمد لأبي الحسن2/591، مختصر الصواعق المرسلة1-2/524، العدة لأبي يعلى ص: 129، فليم عند الدكتور عبد الوهّاب أبو سليمان. 3 الإجماع القطعي هو: الإجماع القولي المشاهد المنقول بعدد التواتر. مذكرة أصول الفقه للشيخ محمّد الأمين ص:315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 لأنه مقتضى ما دلت عليه آيات الكتاب وأحاديث السنة، وما نقل من إجماع الأمة. قال ابن حزم: "فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجري على ذلك كل فرقة في عملها، كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ، فخالفوا الإجماع في ذلك"1. وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- عن الإمام الشافعي والإمام أحمد -رحمهما الله- إنكارهما على من رد أخبار الآحاد بدعوى الإجماع، مما يوهم القارئ إنكارهما لوقوعه، وإنما حملهما على ذلك ما ابتليا به ممن كان يرد عليهم السنة الصحيحة بدعوى إجماع الناس على خلافها. وليس مرادهما منع وقوع الإجماع. فذلك خلاف واقعهما. "قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا. هذه دعوى بشر المريسي والأصم"2. ومنع ابن القيم تصور وقوع إجماع الأمة على خلاف سنة إلا أن تكون هناك سنة معلومة ناسخة فيكون الإجماع على القول بالسنة   1 الإحكام لابن حزم1-4/103. 2 مختصر الصواعق المرسلة1-2/528. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الناسخة، وإما أن تتفق الأمة على عدم العمل بحديث لا ناسخ له فهذا لم يقع أصلاً، ونسبته للأمة قدح فيها1. ويجاب عن الثالث: "بأنه عليه السلام إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهمه غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير. ومع ظهور الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه، فحيث وافقه الباقون على ذلك ارتفع حكم الأمارة الدالة على وهم ذي اليدين، وعمل بموجب خبره. كيف وأن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر أبي بكر وعمر وغيرهما مع خبر ذي اليدين عمل بخبر من لم ينته إلى حد التواتر، وهو موضع النزاع وفي تسليمه تسليم المطلوب"2. ويجاب عن الرابع: بأن ما ذكره المخالف اعتراف بقبول خبر الآحاد لأن شهادة محمد بن مسلمة مع المغيرة، وشهادة أبي سعيد مع أبي موسى لا تنقل الخبر عن كونه آحاداً، لأن خبر الاثنين خبر آحاد، وأن ما توقفوا فيه إنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض، أو فوات شرط، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها مع كونهم متفقين على العمل بها، بدليل قبولهم لها بعد الاستظهار، لأن تلك الأحاديث لم تخرج بالاستظهار   1 انظر تفاصيله في نفس المصدر1-2/528. 2 الإحكام للآمدي2/62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 عن كونها آحاداً، وهم قبلوها بعد الاستظهار، ولذا قال عمر لأبي موسى: "إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم "1. وبين رضي الله عنه سبب رده لخبر فاطمة بنت قيس بقوله: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها صدقت أم نسيت" 2،فقوله: "نسيت" صريح في سبب الرد3. قال الغزالي: "الذي رويناه قاطع في عملهم، وما ذكرتموه رد لأسباب عارضة تقتضي الرد، ولا تدل على بطلان الأصل، كما أن ردهم بعض نصوص القرآن، وتركهم بعض أنواع القياس، ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل"4. وأما رد عائشة -رضي الله عنها- خبر ابن عمر -رضي الله عنهما- فلأنه عارض القطعي، حيث استدلت بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 5.فهي لم ترده لكونه خبر واحد.   1 المستصفى للغزالي1/154. 2 المستصفى للغزالي1/154. 3 انظر الإحكام للآمدي2/61، المستصفى1/154. 4 المستصفى1/153. 5 فتح الباري شرح صحيح البخاري13/235، والآية من سورة فاطر آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 "وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم، وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط، وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال، فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة في الصحة، أو تهمة في الراوي، أو وجود معارض راجح ونحو ذلك"1.   1 إرشاد الفحول ص:49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الفصل الثالث: في العمل بخبر الواحد العدل في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية اتفق العلماء على العمل بخبر الواحد العدل في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية. واختلفوا في حكم العمل به. فمنهم من قال: يجب العمل به في الكل، ومنهم من قال: يجوز العمل به فيها، ومنهم من فصل فقال: يجب العمل به في الفتوى والشهادة ويجوز في الأمور الدنيوية وإليك تفاصيل ذلك: قال البيضاوي: "اتفقوا على الوجوب في الفتوى والشهادة، والأمور الدنيوية"1،وقرر الأسنوي ذلك بقوله: "اتفق الكل على وجوب العمل بخبر الواحد في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية كإخبار طبيب أو غيره بمضرة شيء مثلاً، وإخبار شخص عن المالك أنه منع من التصرف في ثماره بعد أن أباحها، وشبه ذلك من الآراء والحروب ونحوها. قال: "وهذه العبارة التي ذكرها المصنف ذكرها صاحب الحاصل"2.   1 نهاية السول شرح منهاج الوصول مع البدخشي2/230. 2 نفس المصدر2/231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وقال ابن السبكي: "يجب العمل به في الفتوى والشهادة إجماعاً، وكذا سائر الأمور الدنيوية"،وتابعه على الوجوب في الكل الجلال المحلي، والبناني والشيخ حسن العطار في حاشيتيهما عليه، فلم يفرقوا بين المذكورات في الحكم1. وأشار صاحب المراقي إلى ذلك بقوله: وفي الشهادة وفي الفتوى العمل ... به وجوباً اتفاقا قد حصل كذاك جاء في اتخاذ الأدوية ... ونحوها كسفر والأغذية أي يجب العمل إجماعاً بخبر الواحد العدل في الشهادة بشرطها، وفي الفتوى وحكم الحاكم من لدن محمد إلى الآن من غير نكير من أحد من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من تابعيهم، كما جاء الأخذ إجماعاً بخبر الواحد العدل في الأمور الدنيوية كاستعمال الأدوية لمعالجة المرضى، وارتكاب الأسفار إلى البلاد، واستعمال الأغذية اعتماداً على خبر عدل عارف مؤتمن2.   1 حاشية البناني على المحلى على جمع الجوامع2/131، وحاشية العطار على المحلى2/158. 2 اتظر فتح الودود شرح مراقي السعود ص:221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وأما القول بالجواز فيها كلّها، فقد نقله الأسنوي عن صاحب المحصول حيث قال. إنه قال: "إن الخصوم بأسرهم اتفقوا على جواز العمل بالخبر الذي لا يعلم صحته في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية"1. ووجه البدخشي عبارة المحصول بما ينفى الفرق بين العبارتين حيث قال: "إلا أن الظاهر أنه أراد بالجواز معناه الأعم الشامل للوجوب القطعي بتأثيم العامي بترك العمل بقول المجتهد الذي قلده، وتأثيم القاضي بترك الحكم بعد شهادة الشهود العدول"2.لكن بقي عليه حكم الأمور الدنيوية فإنه لم يتعرض لها في التوجيه كما هو ظاهر منه. وفرق القرافي بين المذكورات لا الحكم حيث أجاز العمل به في الأمور الدنيوية، وأوجبه في الفتوى والشهادة فقال: "ومعنى قولي: اتفقوا على أنه حجة في الدنيويات: أنه يجور الاعتماد على قول العدل في الأسفار، وارتكاب الأخطار إذا أخبر أنها مأمونة، وكذلك سقي الأدوية ومعالجة المرضى وغير ذلك من أمور الدنيا، ويجوز، بل يجب الاعتماد على قول المفتي وإن كان قوله لا يفيد عند المستفتين إلا الظن، ولذلك   1 نهاية السول شرح منهاج الوصول مع البدخشي2/231. 2 نفس المصدر2/231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 أجمعت الأمة على أن الحاكم يجب عليه أن يحكم بقول الشاهدين، وإن لم يحصل عنده إلا الظن"1. قلت: التفصيل الذي ذكره القرافي أولى، لأن العمل بالأحكام واجب، أما العمل به في الأمور الدنيويه، فأصله الجواز ما لم يترتب عليه حكم شرعي كما إذا أخبر طبيب مريضاً أنه إذا لم يستعمل العلاج أدى ذلك إلى هلاكه، فإنه يجب عليه العمل بقوله، لأن الله تعالى قال: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 2. فالمريض إذا لم يأخذ بقول الطبيب العارف عرض نفسه للتهلكة لعدم أخذه بالأسباب المأمور بها شرعاً، والله تعالى أعلم.   1 شرح تنقيح الفصول ص:358. منشورات مكتبة الكليات الأزهرية. تحقيق طه عبد الرؤوف. 2 سورة البقرة آية: 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الفصل الرابع: في حكم قبول خبر الواحد في الحدود ذهبت الشافعية والحنابلة وأبو يوسف وأبو بكر الرازي من الحنفية، وأكثر الناس إلى قبول خبر الواحد في كل ما يوجب الحد، ويسقط بالشبهة1. وقال صاحب التحرير: "ومنعه الكرخي وأبو عبد الله البصريَ وأكثر الحنفية2،وما ذكره من قوله: "وأكثر الحنفية" يعكره ما قال الراهوي وهو: "ما يندريء بالشبهات كالحدود والكفارات ذهب جمهور العلماء وأكثر أصحابنا إلى أن إثبات الحدود بأخبار الآحاد جائز، وهو المنقول عن أبي يوسف في الأمالي، واختاره الجصاص، وتبعه المصنف، وذهب الكرخي إلى أنه لا يجوز، وإليه مال فخر الإسلام وشمس الأئمة وصاحب التنقيح"3.   1 انظر الإحكام للآمدي2/106. 2 التقرير والتحبير شرح تحرير الكمال2/276. 3 حاشية الراهوي على المنار ص: 649. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 استدل المانعون بأن في اتصال الخبر بالنبي صلى الله عليه وسلم شبهة، وهي احتمال الكذب، فلا يقام الحد به لحديث "ادرؤوا الحدود بالشبهات" أخرجه أبو حنيفة1.   1 ذكر الشيخ محمّد إسماعيل العجلوني من الطعن في هذا الحديث ما نصه: "ادرؤوا الحدود بالشبهات "قال في الأصل: "رواه الحارثي في مسند أبي حنيفة عن ابن عباس مرفوعاً، وأخرجه ابن السمعاني عن عمر بن عبد العزيز، فذكر قصة طويلة فيها قصة شيخ وجدوه سكراناً فأقام عليه عمر الحدّ ثمانين، فلما فرغ قال: يا عمر، ظلمتني فإنني عبد فاغتم عمر ثم قال: إذا رأيتم مثل هذا في سمته وهيئته وعلمه وفهمه وأدبه فاحملوه على الشبهة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ادرؤوا الحدود بالشبهات ". قال شيخنا يعني الحافظ ابن حجر: "وفي إسناده من لا يعرف انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث مسند الفردوس: اشتهر على الألسنة والمعروف في كتب الحديث أنه من قول عمر بن الخطاب بغير لفظه انتهى. وعزاه في الدرر إلى الترمذي بلفظ: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". وأخرجه ابن أبي شيبة عن عمر بلفظ: "لأن أخطئ الحدود بالشبهات أحب إليّ من أن أقيمها بالشبهات". وأخرجه ابن حزم في الإيصال بسند صحيح. وأخرجه مسدد عن ابن مسعود أنه قال: "ادرؤوا الحدود عن عباد الله عز وجل ". ورواه البيهقي عن عاصم بلفظه: " ادرؤوا الحدود بالشبهات، وارفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم " وقال: إنه أصح ما فيه. وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي وأبو يعلى عن عائشة مرفوعاً بلفظ: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن أخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". ثم قال في المقاصد: ورويناه عن عليّ مرفوعاً بلفظ: " ادرؤوا الحدود، ولا ينبغي للإمام أن يعطل الحدود ". وفيه المختار بن نافع منكر الحديث. وأخرجه ابن ماجه بسند فيه ضعف عن أبي هريرة مرفوعاً: " ادرؤوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً ". وقال النجم: "ورواه ابن عدي في جزء له من حديث مصر والجزيرة عن ابن عباس بزيادة: "وأقيلوا الكرام عثراتهم إلا في حدّ من حدود الله تعالى" ثم قال: "وقال عمر ابن الخطاب: "لأن أخطئ في الحدود بالشبهات أحبّ إليّ من أن أقيمها بالشبهات" انتهى من كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس1/71-72. الطبعة الثانية، دار التراث العربي، بيروت. سنة: 1351هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وخبر الواحد إنما يفيد الظن. وعدم إفادة القطع شبهة فيدرأ بها الحد1. ويجاب عن الحديث الذي استدلوا به بأن كل طرقه ضعيفة. وأيضاً أن المراد بالشبهة التي يُدْرَأُ بها الحد: الشبهة في نفس السبب، لا المثبتة للسبب وإلا لو كان المراد بها الشبهة في مثبت السبب لانتفت الشهادة وظاهر الكتاب في الحدود لانتفاء القطع فيها، إذ احتمال الكذب في الشهادة، واردة غير ظاهر الكتاب فيه تخصيص وإضمار ومجاز قائم لكن الحد يجب بها اتفاقاً2. استدل الجمهور بما يأتي: 1- قالوا: خبر عدل ضابط جازم روى في حكم عملي، فتقبل روايته في الحدود كما تقبل في غير الحدود من العمليات. 2- أن الاتفاق حاصل على ثبوت الحدود بالبينات، وهي أخبار آحاد، فكذلك تثبت بخبر العدل، ولا يلتفت إلى احتمال الكذب فيه، كما لا يلتفت إلى احتمال الكذب في البينات.   1 انظر تفاصيله في: التقرير والتحبير2/276، تيسير التحرير3/88، المنار مع حواشيه ص:649. 2 انظر: التقرير والتحرير شرح التحرير2/276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ويدل على عدم الالتفات إلى احتمال الكذب في البينات حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما أنا بشر1وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" 2. فهذا الحديث كما ترى نص في ورود الاحتمال في البينات، وأن الاحتمال فيها لا يمنع من إيجاب الحكم بها كما هو محل الاتفاق، فيكون إيجاب الحدود بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى.   1 قال ابن حجر: "لعل السرّ في إنما أنا بشر" امتثال قول الله تعالى: {قل إنما أنا بشر} الآية، سورة الكهف آية: 110 أي: في إجراء الأحكام على الظاهر الذي يحتوي فيه جميع المكلفين، فأمر أن يحكم بمثل ما أمروا أن يحكموا به، ليتم الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد إلى الأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن اهـ من فتح الباري13/175. 2 البخاري مع فتح الباري شرح صحيح البخاري13/172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 قال ابن حجر: "والحديث حجة لمن أثبت أنه قد يحكم بالشيء في الظاهر ويكون الأمر في الباطن بخلافه، ولا مانع من ذلك إذ لا يلزم محال عقلاً ولا نقلاً"1. 3- استدلوا "بدلالة النص الذي ورد في زنا ماعز، فإن حد الزنا ثابت في غير ماعز بدلالة هذا النص مع أنه فيه شبهة"2. "ولا عبرة بالشبهة بعد ما ثبت كون الحديث حجة على الإطلاق بالدلائل القطعية"3. 4- المشهور جواز القياس في الحدود قال الأزميري: "وقد يستدل عليه بما أوجب أبو يوسف حد الزنا باللواط بدلالة نص الزنا، مع أن مواضع الشبهة مخصوصة عنه، والعام المخصوص دليل فيه شبهة، والدلالة الظنى ظنى أيضاً –هكذا-،فإذا جوز إثباته فبالخبر الواحد أولى، إذ القياس يعارض العام المخصوص دون الخبر الواحد"4. وعقده صاحب المراقي بقوله:   1 فتح الباري13/174. 2 حاشية الأزميري على مرآة الأصول2/230، الناشر أحمد خلوصي، سنة: 309هـ. دار الطباعة العامرة. 3 حاشية أنوار الحلك على المنار ص: 649. 4 حاشية الأزميري على مرآة الأصول ص: 230-231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 والحدوالكفارة التقدير ... جوازه فيها هو المشهور والضمير في"جوازه" راجع إلى القياس وإذا جاز فيها القياس فخبر الواحد أولى منه 1. 5- "أن الحدود شرع عملي من الشرائع فجاز إثباتها بخبر الواحد كسائر الشرائع، واحتمال مجرد الشبهة مع صحة الخبر غير معتبر في سقوط الحدود، إذ لو كان ذلك الاحتمال شبهة، لكان احتمال كذب الشاهد وغلطه ونسيانه على ما شهد به شبهة"2. والحق الذي يجب اتباعه هو: قبول الخبر متى صح وسلم من معارض راجح سواء كان في الحدود، أم في غيرها، لأن ذلك هو مقتضى ما دل عليه ظاهر القرآن الكريم والسنة المطهرة، وإجماع السلف الصالح، فلا يعدل عن العمل بالحديث الصحيح إلا لدليل أقوى منه، والله تعالى أعلم.   1 مذكرة الأصول للشيخ محمّد الأمين الشنقيطي ص: 146. 2 حاشية الأزميري على مرآة الأصول ص:2/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الفصل الخامس: خبر الواحد وعمل أهل المدينة مقدمة حظيت المدينة بما لم تحظ به مدينة أخرى، فقد اختارها الله دار هجرة النبيصلى الله عليه وسلم ومهبط الوحي وموضع قبره، ومستقرّ الإسلام، ومجمع الصحابة، وفيها نزل أكثر الأحكام الشرعية، وفيها بدأ تطبيق الأحكام في العبادات، والمعاملات من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وبيع، وأنكحة ومواريث، وجهاد، وحدود، وأقضية، إلى غير ذلك من أحكام الشرع إلى أن أكمل الله الدين الإسلامي للأمة الإسلامية. ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتلقون تلك الأحكام من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة حياته في حله وترحاله وفي جميع أوقاته، فكانوا أشد الناس حرصاً على اتباعه في كلّ ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم،إذ كان بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعون، ويسن لهم فيتبعون حتى توفاه الله، واختار له ما عنده، صلوات الله عليه ورحمته وبركاته1.ثم   1 ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض1/14، تحقيق أحمد بكير محمود، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 كان لتلك الصحبة ما ميز المجتمع المدني عن غيره، بما اكتسبه من علم وأدب وأخلاق، أخذها أصحاب ذلك المجتمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً. وطبيعي أن يستوطن المدينة من الصحابة زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يستوطن غيرها، وكان في مقدّمتهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، كما كانت المدينة مجتمع الصحابة في عصر الخلفاء الراشدين، خصوصاً أهل السبق والشورى الذين كان الخليفة يستبقيهم عنده عوناً له على تدبير شؤون الأمة الإسلامية، واستعانة بعلمهم، واسترشاداً بآرائهم ومشورتهم، وقد استمرّوا على ذلك إلى أن انتقل بعضهم إلى الأمصار الإسلامية بعد وفاة عمر -رضي الله عنهم أجمعين-، فلا عجب أن تكون المدينة أغنى من أي مصر آخر في الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان فيها أكثر أيام التشريع، كما كان فيها الخلفاء الراشدون، وكانت حاضرة الخلافة في أيام ثلاثة منهم تصدر منها الآراء في المسائل الفقهية، كما كان المدنيّون أكثر الناس تمكناً من مشاهدة التشريع العملي، فهم أعرف الناس بما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه وصلاته، وما كما يحكم به، وما كان يفعله كبار الصحابة. وكان كل جيل يتلقى ذلك عمن قبله، فأخذ التابعون عن الصحابة وبعض التابعين عن بعض، فكان لتلك الثروة التي توارثوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر في تثبيت قواعد الفقه بصفة عامة، وفي الفقه المدني بصفة خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ومن تلك القواعد عمل أهل المدينة الذين أخذ عنهم مالك بن أنس، وعليهم تعلم وتفقه، فكان فقهه وأصوله يعتمدان على فقه وأصول أهل المدينة، لأنه عاش فيها وعن علمائها أخذ، فكان -رحمه الله-أعلم أهل المدينة بتلك الثروة. قال ابن المديني: نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة وهم: - محمد بن مسلم بن شهاب لأهل المدينة. - وعمرو بن دينار لأهل مكة. - وقتادة بن دعامة السدوسي، وأبو الخطاب، ويحيى بن أبي كثير، وأبو نصر لأهل البصرة. - وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله بن عبيد، وسليمان بن مهران لأهل الكوفة ثم إن علم هؤلاء صار لأصحاب التصانيف ممن صنف، وكان لأهل المدينة مالك بن أنس1. وقال: "وأصحاب زيد بن ثابت كانوا يأخذون عنه، ويفتون بفتواه، منهم من لقيه ومنهم من لم يلقه اثنا عشر رجلاً: سعيد بن   1 انظر تفاصيله في العلل لابن المديني ص: 39-40، مع تصرف، تحقيق مصطفى الأعظمي. المكتب الإسلامي. سنة: 1392هـ/1972م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصمة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبان بن عثمان، وعبيد الله بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو سلمة بن عبد الرحمن .... قال: ولم يكن بالمدينة بعد هؤلاء أعلم بهم من ابن شهاب، ويحيى بن سعيد، وأبي الزناد، وبكير بن عبد الله الأشج، ث م لم يكن أحد أعلم بهؤلاء بمذهبهم من مالك ابن أنس"1. ولقد كان اعتبار مالك إجماع أهل المدينة أصلاً من أصول الأحكام اتباعاً لسلفه من أهل المدينة، حيث إن هذا المفهوم ظهر مبكراً، ويدل لذلك ما ذكره القاضي عياض عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: "إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة". وقال ابن عمر: "لو أن الناس إذا وقعت فتنة ردوا الأمر فيها إلى أهل المدينة، فإذا أجمعوا على شيء يعني فعلوه صلح الأمر، ولكنهم إذا نعق ناعق تبعه الطاس".   1 العلل لابن المديني ص: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 قال: وقال مالك: "كان ابن مسعود يسأل بالعراق عن شيء فيقول فيه، ثم يقدم المدينة، فيجد الأمر على غير ما قال. فإذا رجع لم يحط راحلته ولم يدخل منزله حتى يرجع إلى ذلك الرجل، فيخبره بذلك"1. مثاله: قال يحيى عن مالك عن غير واحد إن عبد الله بن مسعود استفتى وهو بالكوفة عن نكاح الأم بعد الابنة إذا لم تكن الابنة مست، فأرخص في ذلك. ثم إن ابن مسعود قدم المدينة فسأل عن ذلك فأخبر أنه ليس كما قال، وإنما الشرط في الربائب فرجع ابن مسعود إلى الكوفة، فلم يصل إلى منزله حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك فأمره أن يفارق امرأته. انظر الموطأ مع الزرقاني:4 ص 28،ط الحلبي. تحقيق إبراهيم عطوه عوض. فسلك مالك طريقهم في اعتبار إجماع أهل المدينة على أنه "ضرب من طريق النقل والحكاية الذي يؤثره الكافة عن الكافة وعملت به عملاً لا يخفى، ونقله الجمهور عن الجمهور عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم"2وما كان هذا حاله فهو حجة.   1 ترتيب المدارك1/61-62. 2 نفس المصدر1/68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أما مكانة هذا العمل، ومدى تقديم المالكية له على خبر الواحد العدل فهذا ما قصدت بالترجمة له في هذا الفصل، وما أريد أن أبينه إن شاء الله. مكانة عمل أهل المدينة، ومدى تقديمه على خبر الواحد نسب إلى مالك -رحمه الله- تقديم عمل أهل المدينة على خبر الواحد العدل، لاعتبار أن إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين حجة. فقيل: ذلك محمول على إجماعهم في المنقولات المستمرّة كالأذان، والإقامة والصاع والمدّ. وقيل محمول على أن روايتهم مقدّمة على رواية غيرهم، وصحح ابن الحاجب التعميم. وهذا الإجماع: إما أنه في مقام إجماع الأمة، وإما أنهم إذا أجمعوا على شيء صار إجماعاً وإن خالفهم غيرهم، خلافاً للجمهور الذين لا يرون الإجماع إلا لمجموع الأمة. واستدل لذلك بما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 1- قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المدينة طيبة، تنفي خبثها كما ينفى الكير1 خبث الحديد"، والخطأ خبث وقد نفي عنهم، ونفيه عنهم يوجب متابعتهم2 كما استدلوا بالأحاديث الدالة على فضل المدينة. وأجيب عن الحديث الذي استدلوا به بأنه وإن دل على خلوص المدينة من الخبث، فليس فيه ما يمنع أن يكون الخارج عنها خالصاً من الخبث ولأن إجماعهم دون غيرهم لا يكون حجة، لأنهم بعض الأمة، وبأن تخصيصها بالذكر في الحديث وغيره من الأحاديث الدالة على فضلها   1 الكير بكسر الكاف، وسكون التحتانية، وفيه لغة أخرى بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ فيه. وأكثر أهل اللغة على أنه حانوت الحداد والصائغ اهـ من فتح الباري شرح صحيح البخاري4/88. المكتبة السلفية. 2 انظر مختصر ابن الحاجب مع شروحه2/35، الإحكام للآمدي1/221، شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 334. والحديث أخرجه البخاري بلفظ: " المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد" وفي رواية: " أنها تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديث" انظر فتح الباري4/87، 96، وانظر الأحاديث الواردة في فضل المدينة فيه من ص: 87 فما بعدها. ولم أر فيها ما يدل على اعتبار إجماع أهل المدينة حجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 إنما هو لبيان شرفها، وما اشتملت عليه من صفات موجبة لذلك، ولا تأثير للبقاع في الإجماع1. 2- أن المدينة دار هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وموضع قبره، ومهبط وحيه، ومستقرّ الإسلام، ومجمع الصحابة، وفيها خرج العلم، ومنها صدر، فلا يجوز أن يخرج الحق عن قولها2. وأجيب عنه بأن اشتمالها على تلك الصفات الموجبة لفضلها، لا يدل على انتفاء الفضيلة عن غير أهلها، ولا على الاحتجاج بإجماع أهلها، فمكة اشتملت على أمور موجبة لفضلها كالبيت العظيم، والمقام وزمزم … ولم يدل ذلك على الاحتجاج بإجماع أهلها، لأن الاعتبار بعلم العلماء واجتهاد المجتهدين، وليس للبقاع أثر في ذلك3.   1 انظر الإحكام للآمدي1/221، الأحكام لابن حزم1-4/554، كشف الأسرار3/242. 2 الإحكام للآمدي1/221، الأحكام لابن حزم1-4/553، كشف الأسرار3/241، والتقرير والتحبير شرح تحرير الكمال3/100، ومختصر ابن الحاجب2/35. 3 الإحكام للآمدي1/221-222، والأحكام لابن حزم1-4/554. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 3- أن أهل المدينة شاهدوا التنزيل، وسمعوا التأويل، وكانوا أعرف بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم من غيرهم، فوجب أن لا يخرج الحقّ عنهم1. وأجيب عنه بأن شهودهم التنزيل، لا يدل على انحصار أهل العلم فيها، والمعتبرين من أهل الحل والعقد، ومن تقوم الحجة بقولهم، فإنهم كانوا منتشرين في البلاد، ومفترقين في الأمصار، وكلّهم فيما يرجع إلى النظر والاعتبار سواء2. 4- قالوا: إنهم شهدوا آخر العمل من النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا ما نسخ وما لم ينسخ3. وأجيب عنه بأن الخارجين من الصحابة عن المدينة شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم بها منهم سواء كعليّ وابن مسعود وأنس وغيرهم ولا فرق4.   1 الأحكام لابن حزم1-4/553، والإحكام للآمدي1/221. 2 الأحكام لابن حزم1-4/554، والأحكام للآدي1/222، والمستصفى1/187، وإعلام الموقعين لابن القيم2/408. 3 الأحكام لابن حزم1-4/553. 4 نفس المصدر1-4/555. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 5- أن من خرج من الصحابة عن المدينة اشتغل بالجهاد. وكان ابن مسعود إذا أفتى بفتيا أتى المدينة فيسأل عنها، فإن أفتى بخلاف فتياه، رجع إلى الكوفة وفسخ ما عمله1. وأجيب عنه بأن الخروج إلى الجهاد لم يمنع من تعليم الدين، فالتعليل به قول باطل، وأما ما وقع من ابن مسعود فإنما جاء في مسألتين فقط، فأمر عمر بفسخ ذلك، وهو الخليفة، فلم يمكن ابن مسعود خلافه2. 6- أن رواية أهل المدينة مقدّمة على رواية غيرهم، ولأن أخلافهم تنقل عن أسلافهم، فيخرج نقلهم عن خبر الظن إلى اليقين، فكان إجماعهم حجة على غيرهم3. وأجيب عنه بأن تمثيلهم الاجتهاد بالرواية في التقديم، تمثيل من غير دليل، موجب للجمع بين الرواية والدراية، لأن الرواية مستندها السماع ووقوع الحوادث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرته، ولما كان أهل المدينة أعرف بذلك، وأقرب إلى معرفة المروي كانت روايتهم أرجح. وأما   1 نفس المصدر1-4/562. 2 نفس المصدر1-4/562. 3 المختصر لابن الحاجب2/35، والتقرير والتحبير3/100، وتيسير التحرير3/245، والإحكام للآمدي1/221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الاجتهاد فطريقه النظر والبحث بالقلب والاستدلال على الحكم، وذلك مما لا يختلف بالقرب والبعد، ولا يختلف باختلاف الأماكن1. 7- أن من الممتنع أن يخفي حكم النبي صلى الله عليه وسلم على الأكثر، وهم الذين بها، ويعلمه الأقل، وهم الخارجون عنها، وأن العادة تقتضي بأن مثل هذا الجمع المنحصر من العلماء الأحقين بالاجتهاد، لا يجمعون إلا عن راجح. فإن قيل لا نسلم بذلك، لأنهم بعض الأمة، ويجوز أن يكون متمسك غيرهم راجحاً، فرب راجح لما يطلع عليه البعض. قلنا لا نقول: العادة قاضية باطلاع الكل، فيرد ذلك، بل اطلاع الأكثر، والأكثر كاف في تتميم الدليل، فإذا وجب اطلاع الأكثر، امتنع أن لا يطلع عليه من أهل المدينة أحد، ويكون ذلك الأكثر غيرهم، وما فيه أحد منهم، والاحتمالات البعيدة لا تنفي الظهور2. وأجيب عنه بأن ذلك ممكن لو وجدت مسألة رويت من طريق كل من بالمدينة من الصحابة -رضي الله عنهم-، وأفتى بها كل من بقي   1 الإحكام للآمدي1/222، والمختصر لابن الحاجب2/36. 2 مختصر ابن الحاجب مع شروحه2/35-36، الأحكام لابن حزم1-4/553. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 بالمدينة من الصحابة، وأما ولا يوجد هذا أبداً، ولا في مسألة واحدة، فممكن أن يغيب حكم النبيصلى الله عليه وسلم عن النفر من الصحابة، ويعلمه الواحد والأكثر منهم، وقد يمكن أن الذي حضر ذلك الحكم يخرج عن المدينة، ويمكن أن يبقى بها، ويمكن خلاف ذلك. ولا فرق1. وبالرجوع إلى احتجاج مالك بإجماع أهل المدينة، واستدلاله عليه، نرى أنه يحكى إجماعهم فقط، فيقول في الموطأ: "الأمر المجتمع عليه عندنا كذا، ولم ينقل عنه أن إجماعهم حجة قاطعة لازمة لجميع الأمة، وإنما هو اختيار منه لما رأى عليه العمل، ولذا فإنه كتب إلى الليث بن سعد يقول له: "إنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك، حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله تعالى يقول في كتابه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ   1 الأحكام لابن حزم1-4/555. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وَالأَنْصَارِ} 1الآية. وقال تعالى: {فَبَشِّرْ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 2. فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن وأحل الحلال، وحرم الحرام، إذ رسول الله بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله واختار له ما عنده، صلوات الله عليه ورحمته وبركاته، ثم قام من بعده أتبعُ الناسِ له من أمته ممن ولي الأمر من بعده، فما نزلت بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم، وإن خالفهم مخالف، أو قال: امرؤ غيره أقوى منه وأولى ترك قوله، وعمل بغيره. ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل، ويتبعون تلك السنن، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به، لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا،   1 سورة التوبة آية: 100. 2 سورة الزمر آية: 17، 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وهذا الذي مضى عليه من مضى منا، لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم"1. فإن قيل: فقد جاء في هذه الرسالة ما يدل على أن مالكاً يرى أن الإجماع هو إجماع أهل المدينة، وذلك في قوله: "إنما الناس تبع لأهل المدينة". أجيب عنه بأن مالكاً لا يرى في هذا تخصيص الإجماع بأهل المدينة، وأن إجماعهم إجماع قاطع لا تجوز مخالفته، وإنما أوضح -رحمه الله- مكانة أهل المدينة، وأنهم قدوة لغيرهم لما اختصوا به من ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدة الوحي وتطبيق الأحكام … وغاية ما يدل عليه أن عمل أهل المدينة حجة عنده، ولا يلزم من كونه حجة عنده أن يكون إجماعاً بمنزلة إجماع الأمة، ولو كان مالك يرى إجماع أهل المدينة لازماً للأمة لما وسعه منع الرشيد من إلزام الناس بالموطأ، حتى قال له: "قد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد، وصار عند كل طائفة منهم علم ليس عند غيرهم". وهذا يدل على أن عمل أهل المدينة ليس عنده حجة لازمة لجميع الأمة، وإنما هو اختيار منه لما رأى عليه العمل، ولم يقل قط في   1 ترتيب المدارك1/64-65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 موطّئه ولا غيره: "لا يجوز العمل بغيره"، بل يخبر إخباراً مجرداً أن هذا عمل أهل بلده"1. وقد رد القاضي عياض وغيره من علماء المالكية ما نسبه إليهم مخالفوهم مما لم يقولوه. فقال: "اعلموا أكرمكم الله، أن جميع أرباب المذاهب من الفقهاء والمتكلمين وأصحاب الأثر والنظر، أَلْبٌ واحد على أصحابنا على هذه المسألة، مخطئون لنا في زعمهم، محتجون علينا بما سنح لهم حتى تجاوز بعضهم حدّ التعصب والتشنيع إلى الطعن في المدينة وعدّ مثالبها، وهم يتكلمون في غير موضع الخلاف، فمنهم من لم يتصور المسألة، ولا تحقق مذهبنا، فتكلموا فيها على تخمين وحدس، ومنهم من أخذ الكلام فيها من لم يحققه عنا، ومنهم من أطال، وأضاف إلينا ما لا نقوله فيها، كما فعل الصيرفي والمحاملي والغزالي، فأوردوا عنا في المسألة مالا نقوله، واحتجوا علينا بما يحتج به على الطاعنين على الإجماع. وها أنا أفصل الكلام فيها تفصيلاً، لا يجد المنصف إلى جحده بعد تحقيقه سبيلاً، وأبين موضع الاتفاق فيه، والخلاف، إن شاء الله تعالى"2.   1 إعلام الموقعين لابن القيم2/410. 2 ترتيب المدارك للقاضي عياض1/67-68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 مراتب عمل أهل المدينة، ومتى يقدم العمل على خبر الواحد قال القاضي عياض: "اعلموا أن إجماع أهل المدينة على ضربين: ضرب من طريق النقل والحكاية، الذي تؤثره الكافة عن الكافة وعملت به عملاً لا يخفى، ونقله الجمهور عن الجمهور عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا منقسم إلى أربعة أقسام: أوّلها: ما نقل شرعاً من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل، كالصاع والمدّ، وأنه عليه السلام كان يأخذ منهم بذلك صدقاتهم وفطرتهم، وكالأذان والإقامة وترك الجهر بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، وكالوقوف والأحباس. فنقله لهذه الأمور من قوله وفعله كنقل موضع قبره ومسجده ومنبره ومدينته وغير ذلك مما علم ضرورة من أحواله وسيره، وصفة صلاته، من عدد ركعاتها وسجداتها وأشباه هذا. أو نقلهم إقراره عليه السلام لما شاهده منهم، ولم ينقل عنهم إنكاره، كنقل عهدة الرقيق وشبه ذلك. أو نقل تركه لأمور، وأحكام لم يلزمهم إياها مع شهرتها لديهم، وظهورها فيهم، كتركه أخذ الزكاة من الخضروات مع علمه عليه السلام بكونها عندهم كثيرة. فهذا النوع من إجماعهم في هذه الوجوه حجة يلزم المصير إليها، ويترك ما خالفه من خبر واحد، أو قياس، فإن هذا النقل محقق معلوم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 موجب العلم القطعي، فلا يترك لما توجبه غلبة الظنون، وإلى هذا رجع أبو يوسف وغيره من المخالفين، ممن ناظر مالكاً، وغيره من أهل المدينة في مسألة الأوقاف والمد والصاع، حين شاهد هذا النقل وحققه. ولا يجب لمنصف أن ينكر الحجة هنا، وهذا الذي تكلم عليه مالك عن أكثر شيوخنا، ولا خلاف في صحة هذا الطريق، وكونه حجة عند العقلاء، وتبليغه العلم يدرك ضرورة، وإنماخالف في تلك المسائل من أهل المدينة من لم يبلغه النقل الذي بها. قال القاضي عبد الوهاب: "ولا خلاف بين أصحابنا في هذا، ووافق عليه الصيرفي1وغيره من أصحاب الشافعي، كما حكاه الآمدي، وقد خالف بعض الشافعية عناداً، ولا راحة للمخالف في قوله: إن ما هذا سبيله، فهم وغيرهم من أهل الآفاق من البصرة، والكوفة، ومكة   1 هو: محمّد بن عبد الله البغدادي الشافعي، المكنى بأبي بكر، الملقب بالصيرفي، الفقيه الأصولي، المتكلم، قيل فيه: إنه كان أعلم خلق الله بالأصول بعد الشافعي، له في الأصول كتاب البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام، كتاب في الإجماع، وشرح شرح رسالة الإمام الشافعي. توفي بمصر سنة: 330هـ، ترجم له في طبقات السبكي2/169، شذرات الذهب2/325، الأعلام للزركلي7/56. انظر الفتح المبين في طبقات الأصوليين1/180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 سواء، إذ قد نزل هذه البلاد وكان بها جماعة من الصحابة، ونقلت السنن عنهم، والخبر المتواتر من أي وجه ورد، لزم المصير إليه، ووقع العلم به، فصارت الحجة في النقل، فلم تختص المدينة بذلك، وسقطت المسألة، وهذه من أقوى عمدهم. فتقول لهم: كذلك نقول لو تصورت المسألة في حق غيرهم، لكن لا يوجد مثل هذا النقل كذلك عند غيرهم، فإن شرط نقل التواتر تساوي طرفيه ووسطه، وهذا موجود في أهل المدينة، ونقلهم الجماعة عن الجماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو العمل في عصره، وإنما ينقل أهل البلاد غيرها عن جماعتهم، حتى يرجعوا إلى الواحد أو الاثنين من الصحابة، فرجعت المسألة إلى خبر الآحاد، وبالحري أن تفرض المسألة في عمل أهل مكة في الأذان، ونقلهم المتواتر عن الأذان بين يدي النبي عليه السلام بها، لكن يعارض هذا آخر أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي مات عليه بالمدينة، ولهذا قال مالك لمن ناظره في المسألة: ما أدري أذان يوم وليلة، هذا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن فيه من عهده، ولم يحفظ عن أحد إنكار على مؤذن فيه. النوع الثاني: إجماعهم على العمل من طريق الاجتهاد والاستدلال، وهذا النوع اختلف فيه أصحابنا. فذهب معظمه إلى أنه ليس بحجة، ولا فيه ترجيح، وهذا قول كبراء البغداديين: منهم ابن بكير، وأبو يعقوب الرازي، وأبو الحسن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 المنتاب، وأبو الحسن بن القصار، قالوا: لأنهم بعض الأمة، والحجة إنما هي لمجموعها، وهو قول المخالفين أجمع. ولهذا ذهب القاضي أبو بكر بن الخطيب وغيره، وأنكر هؤلاء أن يكون مالك يقول هذا، أو أن يكون مذهبه، ولا الأئمة أصحابه، وذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة، ولكن يرجح به على اجتهاد غيرهم، وهو قول جماعة من متفقهيهم، وبه قال بعض الشافعية، ولم يرتضه القاضي أبو بكر، ولا محققو أئمتنا وغيرهم. وذهب بعض المالكية إلى أن هذا النوع حجة كالنوع الأول، وحكوه عن مالك. قال القاضي أبو نصر: "وعليه يدل كلام أحمد بن المعدل، وأبي مصعب، وإليه ذهب القاضي أبو الحسين بن عمر من البغداديين، وجماعة من المغاربة من أصحابنا، ورآه مقدّماً على خبر الواحد والقياس، وأطبق المخالفون أنه مذهب مالك، ولا يصح كذا عنه مطلقاً". قال القاضي أبو الفضل -رحمه الله تعالى-: "ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة وجوه: 1- إما أن يكون مطابقاً لها، فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل، وترجيحه إن كان من طريق الاجتهاد بلا خلاف في هذا، إذ لا يعارضه هنا إلا اجتهاد آخر بيّن، وقياسهم عند من يقدم القياس على خبر الواحد وإن كان مطابقاً لخبر يعارضه خبر آخر، كان عملهم مرجحاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 لخبرهم، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت، وإليه ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ومن تبعه من المحققين من الأصوليين، والفقهاء من المالكية وغيرهم. 2- وإن كان مخالفاً للأخبار جملة، فإن كان إجماعهم من طريق النقل، ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في ذلك، وعند المحققين من غيرنا، على ما تقدم، ولا يجب عند التحقيق تصور خلاف في هذا، ولا التفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبات الظنون، وما عليه الاتفاق لما فيه من الخلاف، كما ظهر هذا للمخالف المنصف فرجع، وهذه نكتة مسألة الصاع والمد والوقوف وزكاة الخضروات وغيرها. 3- وإن كان اجتماعهم اجتهاداً قدم خبر الواحد عليه عند الجمهور، وفيه خلاف كما تقدم من أصحابنا"1. والذي يتضح من كلام عياض -رحمه الله- أنه قسم عمل أهل المدينة إلى قسمين: قسم اعتبره من طريق النقل المتواتر الذي تؤثره الكافة عن الكافة، وعملت به عملاً لا يخفى، وأنه مبتدأ من رسول اللهصلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، فهذا النوع حجة يلزم اتباعها، وبترك ما خالفها من خبر واحد   1 ترتيب المدارك1/68-71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 أو قياس، لأنه رآه قطعياً موجباً للعلم، فلا يترك لما يوجب غلبة الظنون، ولذا رجع إليه أبو يوسف، وبهذا قال القاضي عبد الوهاب، ووافق عليه الصيرفي من الشافعية. القسم الثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال، ذكر أنهم اختلفوا فيه، فكان منهم من يرى أنه ليس بحجة، ولا يرجح به، ونسبه إلى أكثر البغداديين، وأنكر أن يكون مذهب مالك، والأئمة من أصحابه تقديمه على الخبر. وقال: إن بعض المالكية يرى أنه حجة كالنوع الأول وحكوا ذلك عن مالك، وأنه مقدم على خبر الواحد والقياس. وصحح ابن الحاجب اعتبار عملهم حجة مطلقاً1 سواء كان من طريق النقل، أو من طريق الاجتهاد، خلافاً للجمهور، وأكثر البغداديين من أصحاب مالك. ولم يتعرض عياض لبيان حال العمل القديم المنقول عن الصحابة -رضى الله عنهم- ولعله ألحقه بالمنقول، لأنه يستحيل "أن يجمعوا على   1 مختصر ابن الحاجب مع شروحه2/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 شيء نقلاً أو عملاً متصلاً من عندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وتكون السنة الصحيحة الثابتة قد خالفته، هذا من أبين الباطل"1. ووافقه ابن القيم في ما كان نقلاً فقال: "بل نقلهم للصاع والمد والوقوف والأخابر وترك زكاة الخضروات حق، ولم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تخالفه البتة. ولهذا رجع أبو يوسف إلى ذلك كله بحضرة الرشيد لما ناظره مالك وتبين له الحقّ، فلا يلحق بهذا عملهم من طريق الاجتهاد، ويجعل ذلك نقلاً متصلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،وتترك له السنن الثابتة، فهذا لون وذلك لون، وبهذا التمييز والتفصيل يزول الاشتباه ويظهر الصواب"2. وقال أيضاً: "وهذا العمل حجة يجب اتباعها، وسنة متلقاة بالقبول على الرأس والعينين، وإذا ظفر العالم بذلك قرت عينه، واطمأنت إليه نفسه"3. وقال ابن تيمية: "والتحقيق أن مسألة إجماع أهل المدينة، أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين،   1 إعلام الموقّعين لابن القيم2/423. 2 نفس المصدر2/423-424. 3 نفس المصدر2/421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ومنه مالا يقول به إلا بعضهم. وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب: الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم،مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد، وكتركهم صدقة الخضروات، والأحباس. فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء. وأما الشافعي وأحمد وأصحابهما، فهذا حجة عندهم بلا نزاع كما هو حجة عند مالك، وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه. المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان رضي الله عنه. فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي. قال في رواية يونس بن عبد الأعلى: "إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء، فلا تتوقف في قلبك ريباً أنه الحق". وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنّه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها. المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان: كحديثين وقياسين، جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة. فيه نزاع. فمذهب مالك والشافعي، أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة، ولأصحاب أحمد وجهان: أحدهما: وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل أنه لا يرجح. الثاني: وهو قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 قيل هذا هو المنصوص عن أحمد، ومن كلامه قال: إذا رأى أهل المدينة حديثاً وعملوا به فهو الغاية، وكان يبني على مذهب أهل المدينة، ويقدّمه على مذهب أهل العراق تقديماً كثيراً1. فهذه مذاهب من نقلت عنهم توافق مالكاً في حجية ما كان نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من العمل القديم قبل مقتل عثمان رضي الله عنه، ويوافقه أغلبهم في ترجيح الخبر على الخبر الآخر بعمل أهل المدينة. أما العمل المتأخر، فالجمهور لا يعتبرونه حجة على غيرهم من العلماء، لأن المدينة لم تجمع علماء المسلمين لا قبل الهجرة، ولا بعدها، لأن العصمة لم تضمن لهم دون غيرهم. المرتبة الرابعة: قال ابن تيمية: العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعها أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية. هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك القاضي عبد الوهاب في   1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام20/303-310، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمّد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، الطبعة الأولى سنة: 1382هـ بأمر جلال الملك سعود بن عبد العزيز، وصحة عمل أهل المدينة ص:13-21، معه تصرف واختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 كتابه أصول الفقه، وغيره، ذكر أن هذا ليس إجماعاً ولا حجة عند المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه، وليس معه للأئمة نص ولا دليل، بل هم أهل تقليد. قلت: ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في الموطّأ إنما يذكر الأصل المجتمع عليه عندهم، فهو يحكي مذهبهم. وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير؟ إلى الإجماع القديم وتارة لا يذكر"1. وقال ابن عقيل: "وعندي أن إجماعهم حجة فيما طريقه النقل، وإنما لا يكون حجة في باب الاجتهاد، لأن معنا مثل ما معهم من الرأي، وليس لنا مثل ما معهم من الرواية، ولاسيما نقلهم فيما تعم به بلواهم، وهم أهل نخيل وثمار، فنقلهم مقدم على نقل غيرهم، لاسيما في هذا الباب"2. وقال الآمدي: "ولما كان أهل المدينة أعرف بذلك يعني السماع من النبي صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى معرفة المروي، كانت روايتهم أرجح.   1 صحة عمل أهل المدينة ص:21-22، الفتاوى20/310-311. 2 المسودة ص: 333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وأما الاجتهاد فطريقه النظر والبحث بالقلب، والاستدلال على الحكم وذلك مما لا يختلف بالقرب والبعد، ولا يختلف باختلاف الأماكن"1. وقال ابن القيم: "وهذا الأصل قد نازعهم فيه الجمهور، وقالوا: عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار، ولا فرق بين عملهم وعمل أهل الحجاز والشام، فمن كانت السنة معهم، فهم أهل العمل المتبع، وإذا اختلف علماء المسلمين لم يكن عمل بعضهم حجة على بعض، وإنما الحجة اتباع السنة، ولا تترك السنة لكون عمل بعض المسلمين على خلافها، أو عمل بها غيرهم، ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها، لتركت السنن، وصارت تبعاً لغيرها، فإن عمل بها ذلك الغير عمل بها وإلا فلا. والسنة هي العيار2 على العمل، وليس العمل عياراً على السنة. ولم تضمن لنا العصمة قط في عمل مصر من الأمصار، دون سائرها"3. فكانت المالكية هدفاً لمخالفيهم نتيجة لأخذهم بعمل أهل المدينة، لتوسع بعضهم في هذا الباب حتى قيل عليهم مالم يقولوه.   1 الإحكام للآمدي1/222. 2 عاير بينهما معايرة وعياراً بالكسر، قدرهما ونظر ما بينهما. وقال الليث بن سعد: "العيار ما عايرت به المكاييل، فالعيار صحيح تام واف". تقول: عايرته أي: سويته، وهو العيار والمعيار. انظر تاج العروس3/431، في باب (ع ور) . 3 إعلام الموقعين لابن القيم2/407-408. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 قال القاضي عياض: "وكثر تحريف المخالف فيما نقل عن مالك، من ذلك سوى ما قدمناه، فحكى أبو بكر الصيرفي وأبو حامد الغزالي أن مالكاً يقول: لا يعتبر إلا إجماع أهل المدينة دون غيره، وهذا مالا يقوله هو، ولا أحد من أصحابه. وحكى بعض الأصوليين أن مالكاً يرى إجماع الفقهاء السبعة بالمدينة إجماعاً، ووجه قوله بأنه لعلهم كان عنده أهل الاجتهاد في ذلك الوقت دون غيرهم، وهذا مالم يقله مالك ولا روي عنه. وحكى بعضهم عنا أنا لا نقبل من الأخبار إلاّ ما صححه عمل أهل المدينة وهذا جهل أو كذب، لم يفرقوا بين قولنا: يرد الخبر الذي في مقابلة عملهم، وبين من لا يقبل منه إلاّ ما وافقه عملهم"1. وعلى أصلهم هذا ردوا كثيراً من أخبار الآحاد لمعارضتها عمل أهل المدينة. منها حديث خيار المجلس الثابت بحديث الصحيحين عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البيعان بالخيار مالم يتفرقا" 2 لعمل أهل المدينة بخلافه3.   1 ترتيب المدارك للقاضي عياض1/71-72. 2 صحيح البخاري3/80، صحيح مسلم5/9. 3 حاشية العطار على المحلى على جمع الجوامع2/161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وأجاب القاضي عياض عن هذه الدعوى "بأن قول مالك هذا ليس مراده به ردّ البيعين بالخيار، وإنما أراد بقوله ما قال في بقية الحديث وهذا قوله: "إلا بيع الخيار" فأخبر أن بيع الخيار ليس له حد عندهم، لا يتعدى إلاّ قدر ما تختبر فيه السلعة، وذلك يختلف باختلاف المبيعات فيرجع فيه إلى الاجتهاد، والعوائد في البلاد وأحوال المبيع. وإنما ترك العمل بالحديث لغير هذا، بل تأول التفرق فيه بالقبول وعقد البيع، وأن الخيار لهما ما داما متراوضين ومتساومين. وهذا هو المعنى المفهوم من المُتَفَاعِلَيْنِ، وهما المتكلفان للأمر الساعيان فيه، وهذا يدلّ أنه قبل تمامه، ويعضده قوله: "لا يبع أحدكم على بيع أخيه "، وهذا أيضاً في المُتَسَاوِمَيْنِ. فقد سماه بيعاً قبل تمامه وانعقاده. وقال بعض أصحاب الحديث: منسوخ بقوله في الحديث الآخر "إذا اختلف المتبايعان، فالقول ما قال البائع، ويترادان" 1،ولو كان لهما الخيار لما احتاجا إلى تحالف وتخاصم، وقد يكون قول مالك عن طريق   1 الدارقطني3/20-21، بألفاظ متفقة مع هذا في المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الترجيح لأحد الخبرين بمساعدة عمل أهل المدينة لما خالفهم كما تقدم. وقد قال بالخيار والعمل به كثير من أصحابنا ابن حبيب"1. وأجيب عنه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأن الترجيح لا يصار إليه ما أمكن الجمع، وهو هنا ممكن بين الأدلة المذكورة من غير تعسف ولا تكلف2. قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على ثبوت هذا الحديث، وقال به أكثرهم، وردّه مالك وأبو حنيفة وأصحابهما، ولا أعلم أحداً ردّه غيرهم". وقال بعض المالكية: رفعه مالك بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به، وذلك أقوى عنده من خبر الواحد كما قال أبو بكر بن عمرو ابن حزم: إذا رأيت أهل المدينة أجمعوا على شيء فاعلم أنه الحق. وقال بعضهم: لا تصحّ هذه الدعوى، لأن سعيد بن المسيب وابن شهاب روي عنهما نصاً ترك العمل به، وهما من أجل فقهاء المدينة ولم يرد عن أحد من أهلها نصاً ترك العمل به إلا عن مالك وربيعة بخلف عنه، وأنكر ابن أبي ذئب، وهو من فقهائها في عصر مالك عليه ترك   1 ترتيب المدارك1/72. 2 فتح الباري شرح صحيح البخاري4/330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 العمل به حتى جرى في ذلك قول فحش، حمله عليه الغضب لم يحسن مثله عنه، وهو قوله: من قال: البيعان بالخيار حتى يتفرقا، استتيب"1. وذكر ابن حجر "أنه قال به ابن عمر ثم سعيد بن المسيب ثم الزهري ثم ابن أبي ذئب كما مضى. وهؤلاء من أكابر علماء أهل المدينة في أعصارهم ولا يحفظ عن أحد من علماء المدينة القول بخلافه سوى ربيعه"2. يتضح مما تقدم أن مالكاً -رحمه الله- لم يترك العمل بالحديث في إثبات خيار المجلس، لأن أهل المدينة أجمعوا على عدم إثبات خيار المجلس، وإنما ترك العمل بخيار المجلس، لأنه أول التفرق الوارد في الحديث بالتفرق بالأقوال، وعلى هذا فهو خارج عن الموضوع، لأنه ليس من باب تقديم عمل أهل المدينة على خبر الواحد، ويؤيد ذلك ما سبق نقله عن القاضي عياض من أن مالكاً إنما أراد أن بيع الخيار ليس له حد عندهم لا يتعداه إلا بقدر ما تختبر فيه السلعة، وذلك يختلف باختلاف المبيعات، فيرجع فيه إلى الاجتهاد والعوائد في البلاد وأحوال المبيع، وذكر أن أئمة المالكية فسروا التفرق في الحديث بالتفرق بالأقوال وعقد البيع.   1 الزرقاني على الموطّأ4/282. 2 فتح الباري4/330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وأما ما نقل عن بعض المالكية من أن مالكاً ترك العمل بالحديث لإجماع أهل المدينة على ترك العمل به، وذلك عنده أقوى من خبر الواحد. فهو منقوض من وجهين: الأول: ما تقدم من أنه إنما تركه لتفسيره التفرق في الحديث بالتفرق بالأقوال. الثاني: أنه كيف يدعي إجماع أهل المدينة على ترك العمل بالحديث مع مخالفة من ذكروا؟ وقد اشتد إنكار ابن عبد البر وابن العربي على من زعم من المالكية أن مالكاً ترك العمل به لكون عمل أهل المدينة على خلافه. قال ابن عبد البر: "إنما يأخذ به مالك، لأن وقت التفرق غير معلوم فأشبه بيوع الغرر كالملامسة"1. ومنها: ردهم للأخبار الواردة في السجود في ثانية الحج عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2. وفي السجدة التي في آخر   1 نفس المصدر4/330. 2 سورة الحج آية: 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 سورة النجم عند فوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} 1. وفي التي في إذا السماء انشقت عند قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} 2،ولا في القلم عند قوله تعالى،: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} 3، تقديماً لعمل أهل المدينة على الأخبار الواردة فيها. وادعوا أن الأخبار الواردة فيها منسوخة لعدم عمل أهل المدينة بها. قال الدردير بعد أن ذكر مواضع سجود التلاوة: "لا ثانية الحج عند قوله تعالى: واركعوا واسجدوا إلخ، ولا في النجم لعدم سجود فقهاء المدينة وقرائها فيها،ولا في الانشقاق ولا القلم، ت قديم للعمل على الحديث لدلالته على نسخه".   1 سورة النجم آية: 62. 2 سورة الانشقاق آية: 21. 3 سورة العلق آية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 قال الدسوقي: "قوله تقديماً للعمل أي عمل أهل المدينة في ترك السجود في هذه المواضع الأربعة. وقوله على الحديث أي الدال على طلب السجود فيها"1. قال الأبي عند الكلام على قول خليل في مختصره في قوله: "لا ثانية الحج والنجم والانشقاق والقلم" لعدم سجود فقهاء المدينة وقرائها فيها، وعملهم مقدّم على الحديث الصحيح، لدلالته على نسخه عند تعارضهما، لأنهم أعلم الأمة بآخر ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأشدها حرصاً على اتباعه صلى الله عليه وسلم "2. واستدل الخرشي على عدم السجود فيها بما نقله عن الذخيرة من "أن إجماع فقهاء المدينة وقرائها على ترك السجود فيها مع تكرر القراءة ليلاً ونهاراً يدلّ على النسخ إذ لا يجمعون على ترك سنة ... قال: تقديماً للعمل على الحديث"3.   1 الدسوقي على الشرح الكبير1/307-308. دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي. 2 جواهر الإكليل شرح مختصر خليل1/71. 3 الخرشي على مختصر خليل1/350، الطبعة الثانية، الأميرية، مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وحمل الأخبار الواردة فيها على النسخ عند مالك، وأن الذي استقر من أمره صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة1. وأيدوا ذلك بما رواه أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل2 منذ تحول إلى المدينة3. وبما ورد من إنكار أبي سلمة وأبي رافع على أبي هريرة لما سجد في "إذا السماء انشقت"،حتى قال له أبو سلمة: "لقد سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها"،فدل على أن الناس تركوه، وجرى العمل على تركه"4.   1 نفس المصدر1/350. 2 المفصل: ما يلي قصار السور، سمي مفصلاً لكثرة الفصول التي بين السور بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل: لقلة المنسوخ فيه. وآخره {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . وفي أوّله اثنا عشر قولاً: أحدها: الجاثية، وثانيها القتال، وثالثها الحجرات، ورابعها ق … وقيل غير ذلك. انظر البرهان في علوم القرآن للإمام بدر الدين محمّد بن عبد الله الزركشي1/245، الطبعة الثانية، عيسى البابي الحلبي وشركاه. 3 الزرقاني على الموطّأ2/197. 4 انظر تفاصيله في نفس المصدر2/194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ويجاب عمّا استدلوا به بما يأتي: أمّا عن دعوى الإجماع، فيجاب عنها بما رواه أبو عمر بما حاصله: "أي عمل يدعى مع مخالفة المصطفى صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده"1. وأما دعوى النسخ فإن إثبات النسخ يحتاج إلى دليل، ولم يذكروا من الدليل غير ما ادعوه من إجماع أهل المدينة، وسبق آنفاً ما ورد من قول أبي عمر: "أي عمل يدعى مع مخالفة المصطفىصلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده". وأما استدلالهم بأنهم أعلم الأمة بآخر ما كان عليه صلى الله عليه وسلم بحرصهم على اتباعه، فذلك لا يثبت نسخ ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي لردّه. ويدلّ لذلك عدم معارضة أبي سلمة وأبي رافع لأبي هريرة حين بين لهما السنة في ثبوت السجود في {إذا السماء انشقت} وذلك يدل على عدم إجماع أهل المدينة، إذ كيف يتصوّر إجماع أهل المدينة مع مخالفة الخلفاء الراشدين؟ اللهم إلا أن يراد إجماع فقهائها وقرائها، غير الصحابة، وهم حينئذٍ بعض الأمة، وذلك لا ينسخ ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مما رواه مالك -رحمه الله- وغيره عن الصحابة من السجود فيها، مما سأورده- إن شاء الله- أثناء الجواب عمّا استدلوا به هنا.   1 نفس المصدر2/194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وأما حديث ابن عبّاس -رضي الله عنهما-،فيجاب عنه بأن المحدثين ضعفوه "لضعف في بعض رواته، واختلاف في بعض إسناده، وعلى تقرير ثبوته، فالمثبت مقدّم على النافي"1،ويدل على ذلك ما رواه مالك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن "أن أبا هريرة قرأ لهم: إذا السماء انشقت، فسجد فيها، فلمّا انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها"2،وفي لفظ عند البخاري "لو لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يسجد لم أسجد"3. ويجاب عن إنكار أبي سلمة وأبي رافع السجود على أبي هريرة بأنهما لم ينازعاه بعد أن أعلمهما بالسنة في هذه المسألة. قال ابن عبد البر: "أي عمل يدعى مع مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم،والخلفاء الراشدين بعد"4. وأما ما استدلوا به من قول مالك5 -رحمه الله- الأمر عندنا أن   1 الزرقاني على الموطّأ2/197. 2 الموطّأ مع تنوير الحوالك1/162. 3 صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري2/556، صحيح مسلم مع شرح النووي له5/76-77. 4 فتح الباري شرح صحيح البخاري2/556، وانظر تفاصيل ما قبله فيه. 5 الموطّأ مع تنوير الحوالك1/167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 عزائم1 سجود القرآن إحدى عشرة سجدة2، ليس في المفصل منها شيء، وفي رواية لابن بكير وغيره: الأمر المجمع عليه عندنا3. فيجاب عنه بما نقله المواق عن القاضي عبد الوهاب من أن مالكاً "لم يمنع السجود في المفصل، وإنما منع أن يكون من عزائم السجود التي يعزم على الناس في السجود فيها، ومن أحكام ابن العربي: ثبت في الصحيح أن أبا هريرة قرأ إذا السماء انشقت فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. وقد قال مالك: إنها ليست من عزائم السجود، والصحيح أنها منه، وهي رواية المدنيين عنه، وقد اعتضد فيها القرآن والسنة"4.   1 العزائم: جمع عزيمة. أي: التي يؤمر الناس بالسجود فيها. وسميت عزائم مبالغة في فعل السجود فيها مخافة أن تترك، وقيل: هي المأمورات. وقيل: ما ثبت بدليل شرعي. اهـ العدوي على الخرشي على مختصر خليل المالكي1/350. 2 وهي: التي في آخر الأعراف، والآصال في الرعد، ويؤمرون في النحل، وخشوعاً في سبحان، وبكياً في مريم، وإن الله يفعل ما يشاء في الحجّ، ونفوراً في الفرقان، والعظيم في النمل، ولا يستكبرون في ألم السجدة، وأناب في ص، اهـ من الزرقاني على الموطّأ2/197. 3 المقدّمات لابن رشد1/139. الطبعة الأولى، مطبعة السعادة مصر. 4 التاج والإكليل لمختصر خليل لمحمّد بن يوسف المواق2/61، بهامش مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب. ملتزم الطبع مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا. الحديث أخرجه البخاري. انظر الفتح2/556. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وحتى يتضح عدم الإجماع على عدم السجود فيها، فإنني أسوق من النصوص وأقوال العلماء ما يثبت السجود فيها لكل طالب علم منصف إن شاء الله. 1 قال الربيع1: "قلت للشافعي: فإنا نقول: اجتمع الناس على أن سجود القرآن إحدى عشرة سجدة، ليس في المفصل منها شيء". فقال الشافعي: "إنه يجب عليكم أن لا تقولوا: اجتمع الناس إلا لما إذا لقي أهل العلم، فقيل لهم: اجتمع الناس على ما قلتم إنهم اجتمعوا عليه، قالوا: نعم، وكان أقل قولهم لك أن يقولوا: لا نعلم من أهل العلم مخالفاً فيما قلتم اجتمع الناس عليه، فإما أن تقولوا: اجتمع الناس وأهل المدينة معكم يقولون: ما اجتمع الناس على ما زعمتم أنهم اجتمعوا عليه، فأمران أسأتم النظر بهما لأنفسكم: في التحفظ في الحديث، وأن تجعلوا السبيل إلى من سمع قولكم اجتمع الناس إلى ردّ قولكم، ولاسيما إن كنتم إنما أنتم معتضدون على علم مالك -رحمنا الله وإياه-، وكنتم تروون عن النبي صلى الله عليه وسلم   1 هو: الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي مولاهم، الشيخ أبو المؤذن، صاحب الإمام الشافعي، وراوية كتبه، الثقة الثبت في روايته، ولد سنة: 174هـ. وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم. توفي سنة: 270هـ. انظر طبقات الشافعية للسبكي2/132-134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 أنه سجد في "إذا السماء انشقت" وأن أبا هريرة سجد فيها، ثم تروون عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر من يأمر القراء أن يسجدوا فيها"1. 2 أخرج مالك في موطّئه، والبخاري في صحيحه، في سجود {إذا السماء انشقت} ، واللفظ لمالك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قرأ هم {إذا السماء انشقت} ،فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها"2، زاد البخاري قلت: "يا أبا هريرة، ألم أرك تسجد؟ " قال: "لو لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يسجد لم أسجد"3. والحديث كما ترى نص صريح في ثبوت السجود في {إذا السماء انشقت} " وأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها بالمدينة، لتصريح أبي هريرة بذلك، ولأنه رضي الله عنه إنما أسلم بالمدينة. 3 وأخرج مالك أيضاً عن ابن شهاب عن الأعرج "أن عمر بن الخطاب قرأ بالنجم إذا هوى، فسجد فيها، ثم قام فقرأ سورة أخرى"4.   1 الأم للإمام الشافعي7/202. 2 الوطّأ مع الزرقاني2/194. 3 صحيح البخاري مع الفتح2/556، صحيح مسلم مع النووي5/76-77، الأم للشافعي7/202. 4 الموطّأ مع الزرقاني2/195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 قال الباجي: "فذهب مالك إلى أنها ليست من عزائم السجود، وذهب ابن وهب وابن حبيب إلى أنها من عزائم السجود، وبه قالت أبو حنيفة، والشافعي. ووجه ما تعلق به مالك: ما روى عن زيد بن ثابت "قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم، فلم يسجدفيها". ووجه ما قاله ابن وهب: "ما روى عن عبد الله بن مسعود: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد فيها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد"، فأخذ رجل من القوم كفا من حصى وتراب، فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: "لقد رأيته قتل بعد كافراً". وما تعلق به ابن وهب أجرى على أصولها، لأن قول مالك -رحمه الله-: "إن سجود التلاوة ليس بواجب، ولا يمنع أن يمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود حين رآه زيد بن ثابت ترك السجود، ليرى ترك جواز السجود، ويعلم أنه ليس بواجب، وقد فعل ذلك عمر ابن الخطاب، ويحتمل أن يترك ذلك، لأنه لم يكن على طهارة"1.   1 المنتقى للباجي1/350. الطبعة الأولى، سنة: 1331هـ. مطبعة السعادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 4 قال النووي: "وأما قوله: وزعم1 أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد، فاحتج به مالك -رحمه الله تعالى- ومن وافقه في أنه لا سجود في المفصل، وأن سجدة النجم، وإذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك منسوخة بهذا الحديث، أو بحديث ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة". وهذا مذهب ضعيف، فقد ثبت حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور بعده2 في مسلم. قال: "سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك"، وقد أجمع العلماء على أن إسلام أبي هريرة رضي الله عنه كان سنة سبع من الهجرة فدل على السجود في المفصل بعد الهجرة. وأما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- فضعيف الإِسناد، لا يصح الاحتجاج به. وأما حديث أبي زيد3 فمحمول على بيان جواز ترك السجود، وأنه سنة، ليس بواجب. ويحتاج إلى هذا التأويل للجمع بينه وبين حديث أبي هريرة4.   1 يعني زيد بن ثابت لأنه راوي الحديث. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي5/75. 2 انظر: صحيح مسلم بشرح النووي5/77-78. 3 لعله زيد بن ثابت، لأنه هو راوي الحديث. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي5/75. 4 صحيح مسلم بشرح النووي5/76-77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 5 وأخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة، فسجد فيها، وسجد من معه، غير شيخ أخذ كَفًّا من حصى" الحديث1. 6 قال ابن حجر: "وروى البزار والدارقطني من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في سورة النجم، وسجدنا معه ". الحديث رجاله ثقات. وروى ابن مردويه في التفسير بإسناد حسن عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه رأى أبا هريرة يسجد في خاتمة النجم، فسأله فقال: "إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها "2. وأبو هريرة إنما أسلم بالمدينة. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن الأسود بن يزيد عن عمر أنه سجد في إذا السماء انشقت. ومن طريق نافع عن ابن عمر أنه سجد   1 البخاري مع فتح الباري شرح صحيح البخاري2/551، صحيح مسلم بشرح النووي5/74-75. 2 انظر: صحيح مسلم بشرح النووي5/78، في سجود النبي صلى الله عليه وسلم في إذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 فيها. وفي هذا ردّ على من زعم أن عمل أهل المدينة استمر على ترك السجود في المفصل"1. 7 أخرج مالك عن نافع مولى ابن عمر أن رجلاً من أهل مصر أخبره أن عمر بن الخطاب قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين، ثم قال: "إنّ هذه السورة فضلت بسجدتين"2. 8 روى مالك أيضاً عن عبد الله بن دينار أنه قال: "رأيت عبد الله بن عمر يسجد في سورة الحج سجدتين"3. 9 قال الشافعي: "أخبرنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، أن عمر بن الخطاب صلى بهم بالجابية بسورة الحج فسجد فيها سجدتين. فقلت للشافعي: فإنا لا نسجد فيها إلا سجدة واحدة. فقال الشافعي: فقد خالفتم ما رويتم عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر معا، فكيف تتخذون قول عمر وحده حجة، وابن عمر وحده حجة حتى تردوا بكل واحد منهما السنة، وتبنون عليهما عدداً من الفقه ثم تخرجون عن قولهما لرأي أنفسكم؟ "4.   1 فتح الباري شرح صحيح البخاري20/55. 2 الموطّأ مع الزرقاني2/195، الأم للشافعي7/246. 3 الموطّأ مع الزرقاني2/195. 4 الأم للشافعي7/246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 والذي ظهر لي أن مالكاً -رحمه الله-قدّم عمل أهل المدينة هنا على الأخبار وإن كان بعض المالكية وجه تركه للأخبار، بأنه لم ير السجود في تلك السجدات من عزائم السجود. وكون تلك السجدات ليست من عزائم السجود لا يكفي لردّ الأخبار الواردة فيها، لأن المالكية لا يقولون بوجوب سجود التلاوة وإنما المشهور في المذهب اختلافهم في حكم السجود في العزائم هل هو سنة غير مؤكدة، أو فضيلة1. مما تقدم: يتضح للقاريء المنصف أنه لم يكن هناك إجماع من أهل المدينة ترد به النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،ويكون ذلك الإجماع خالياً عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم-،ولم يثبت نسخ تلك الأخبار. وسواء كان ترك المالكية للأخبار في هذين المثالين لعمل أهل المدينة، وفي غيرهما من الأمثلة التي قيل عليهم: إنهم تركوا الأخبار فيها لعمل أهل المدينة أم كان تركهم لها لسبب آخر، فإن الحقّ الذي لا غبار عليه هو اتباع السنة متى صحّت، وخلت عن معارض، وأنه لا يعدل عنها لأي عمل مالم تصحبه سنة راجحة على غيرها، إذ لو تركت السنن   1 انظر الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل على هامش الدسوقي1/308، وشرح الزرقاني لموطّأ الإمام مالك2/194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 لعمل لتعطلت سنن رسول اللهصلى الله عليه وسلم،وَدَرَسَتْ رسومها، وعفت آثارها، وكم من عمل قد اطرد بخلاف السنة الصريحة على تقادم الزمان وإلى الآن، وكل وقت تترك سنة، ويعمل بخلافها، ويستمر عليها العمل، فتجد يسيراً من السنة معمولاً به على نوع تقصير ..... فقد تقرر أنّ كلّ عمل خالف السنة الصحيحة لم يقع من طريق النقل البتة، وإنما يقع من طريق الاجتهاد، والاجتهاد إذا خالف السنة كان مردوداً، وكل عمل طريقه النقل، فإنه لا يخالف سنة صحيحة ألبتة"1. ويدل على اعتبار تقديم السنة على العمل ما ثبت من رجوع الصحابة -رضوان الله عليهم- إلى الأخبار متى ثبتت. فمن ذلك رجوع عمر إلى خبر الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فقضى به عمر. ورجوع الصحابة إلى خبر عائشة في الغسل من التقاء الختانين، ورجوعهم إلى خبر أبي بكر الأئمة من قريش، والأنبياء يدفنون حيث ماتوا، ونحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة إلى غير ذلك من   1 إعلام الموقعين لابن القيم2/425-426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الأمثلة مما هو موجود بكثرة1. "فالسنة هي العيار على العمل، وليس العمل عياراً على السنة"2. وحيث إن غرضي من التعرض لهذه المسألة في هذا البحث كان مقصوراً على معرفة ما قيل عن المالكية من تقديم عمل أهل المدينة على خبر الواحد، وبيان الحقّ في ذلك، وقد كتبت في ذلك ما يسّر الله لي، ورأيت أنّ فيه كفاية لكلّ طالب علم، ولم يكن من موضوعي تتبع المسائل التي قيل: إن المالكية قدموا فيها عمل أهل المدينة على خبر الواحد، فإنني أقتصر على المثالين اللذين ذكرتهما كنموذج لغيرهما لكل باحث عن الحقّ. وأسأل الله تعالى أن يرينا الحقّ حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً، ويرزقنا اجتنابه، إنه على كل شيء قدير وبالإِجابة جدير آمين.   1 انظر ص: 59 من هذا البحث فما بعدها. 2 إعلام الموقعين لابن القيم2/408. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الفصل السادس: خبر الواحد فيما تعم به البلوى تعريف ما تعم به البلوى. هو ما يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة تقتضي السؤال عنه، مع كثرة تكرره، وقضاء العادة بنقله متواتراً1. حكم العمل به. اختلف العلماء في وجوب العمل بخبر الواحد العدل فيما تعم به البلوى. كحديث بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ" 2. وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه في غسل اليدين عند القيام من نوم الليل، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في الوضوء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" 3.   1 انظر التقرير والتحبير شرح التحرير2/295، وحاشية البناني على المحلى2/119، الزرقاني على الموطّأ1/127. 2 الموطّأ مع تنوير الحوالك1/49، تحفة الأحوذي شرح الترمذي1/270 فما بعدها، المنتقى في السنن المسندة لابن الحارود ص: 17. 3 الموطّأ مع شرح تنوير الحوالك1/34، صحيح مسلم1/160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وكحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود" 1. فمنعه بعض الأحناف، بل عامة الحنفية كما قال ابن الهمام2،وقبله الجمهور3. دليل الأحناف على عدم قبوله: قالوا: إن العادة تقضي بإلقائه إلى كثيرين لحاجة الناس إلى معرفة حكم ما ابتلوا به، دون تخصيص الواحد والاثنين به، وذلك يستلزم اشتهاره وقبوله، وتلقي الأمة له بالقبول، لأنه مما يتكرر السؤال عنه   1 صحيح البخاري1/177 فما بعدها، صحيح مسلم2/6 فما بعدها، الموطّأ مع تنوير الحوالك1/74. 2 تيسير التحرير3/112، التقرير والتحبير شرح التحرير2/295. 3 انظر: الإحكام للآمدي2/101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 والجواب، وتتوفر الدواعي على نقله، وحيث لم يشتهر، ولم تتلقه الأمة بالقبول، وتفرد به الواحد، دلّ ذلك على خطأ الراوي أو النسخ1. قال السرخسي: "والغريب فيما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته للعمل به، فإنه زيف: لأن صاحب الشرع كان مأموراً أن يبيّن للناس ما يحتاجون إليه، وقد أمرهم بأن ينقلوا عنه ما يحتاج إليه من بعدهم، فإذا كانت الحادثة مما تعم به البلوى، فالظاهر أن صاحب الشرع لم يترك بيان ذلك للكافة وتعليمه، وأنهم لم يتركوا نقله على وجه الاستفاضة، فحين لم يشتهر النقل عنهم، عرفنا أنه سهو، أو منسوخ، ألا ترى أن المتأخرين لما نقلوه اشتهر فيهم، فلو كان ثابتاً في المتقدمين، لاشتهر أيضاً، وما تفرد الواحد بنقله مع حاجة العامة إلى معرفته"2. أدلة الجمهور: استدل الجمهور بالنص، والإجماع، والمعقول، والإلزام: أما النص: فقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 3،   1 التقرير والتحبير شرح تحرير الكمال2/296 فما بعدها، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى2/192 فما بعدها. 2 أصول السرخسي1/368. 3 سورة التوبة آية: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أوجب الإنذار على كل طائفة خرجت للتفقه في الدين، وإن كان آحاداً، وهو مطلق فيما تعم به البلوى، وما لا تعم، ولولا أنه واجب القبول لما كان لوجوبه فائدة. وأما الإجماع: فهو أن الصحابة اتفقت على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى. فمن ذلك: ما روي عن ابن عمر أنه قال: "كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً، حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم،نهى عن ذلك، فانتهينا"1. ومن ذلك رجوع الصحابة بعد اختلافهم في وجوب الغسل من، التقاء الختانين من غير إنزال إلى خبر عائشة، وهو قولها: "إذا التقى الختانان، وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم،واغتسلنا" 2.   1 صحيح البخاري3/134، صحيح مسلم5/22 فما بعدها. 2 الموطّأ مع تنوير الحوالك1/51، صحيح مسلم1/187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ومن ذلك رجوع أبي بكر وعمر في سدس الجدة، لما قال لها: "لا أجد لك في كتاب الله شيئاً" إلى خبر المغيرة، وهو قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم أطعمها السدس1،وصار إجماعاً. وأما المعقول: فمن وجهين: الأول: أن الراوي عدل ثقة، وهو جازم بالرواية فيما يمكن فيه صدقه، وذلك يغلب على الظن صدقه، فيجب تصديقه كخبره فيما لا تعم به البلوى2. الثانى: أن ما تعم به البلوى "يثبت بالقياس، والقياس مستنبط من الخبر وفرع له، فلأن يثبت بالخبر الذي هو أصل أولى"3. وأما الإلزام: فسيأتي قريباً- إن شاء الله- أثناء الجواب عن أدلة الأحناف على منع العمل به. الإجابة عن أدلة الأحناف: 1- بالإلزام حيث إن الأحناف عملوا بأخبار الآحاد في وجوب الوضوء من القهقهة في الصلاة لما روى أبو العالية، قال: "جاء رجل في   1 نفس المصدر2/335، وابن ماجة1/84. 2 الإحكام في أصول الأحكام للآمدي2/102. 3 نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر1/317، العضد على مختصر ابن الحاجب2/72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 بصره ضر فدخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فتردى في حفرة كانت في المسجد، فضحكت طوائف منهم، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة "1،وفي وجوب الوضوء من الفصد والحجامة والقيء والرعاف، لما روى أبو مليكة عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أصابه قيء أو رعاف، أو قلس، أو مذيء فليتوضأ … " الحديث2. ولحديث " الوضوء من كل دم سائل" 3،كما عملوا بها في الوتر، وتثنية الإقامة، لما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد قال: " كان أذان رسوله الله صلى الله عليه وسلم شفعاً شفعاً، في الأذان والإِقامة" 4.   1 أبو داود في المراسيل ص:3، الطبعة الأولى، المطبعة العلمية، سنة: 1310هـ. 2 الدارقطني1/162 فما بعدها، أبو داود في المراسيل ص:3، فتح القدير لكمال الدين محمّد بن عبد الواحد1/40، مطبعة مصطفى البابي، الطبعة الأولى، سنة: 1389هـ/1970م. مصر. 3 فتح القدير1/40. 4 الترمذي مع تحفة الأحوذي1/580 قال في التحفة: وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في سننه نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وما رواه خارجة بن حذافة أنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال: "إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، الوتر، جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر" 1. فهذه أخبار آحاد، قبلوها فيما تعم به البلوى، ومس الذكر وإن كان أعم في الوقوع من تلك الصور، فذلك لا يخرج تلك الصور، عن كونها واقعة في عموم البلوى. قال الغزالي: "فإن زعموا أن ليس عموم البلوى فيها كعمومها في الأحداث، فنقول: فليس عموم البلوى في اللمس والمس كعمومها في خروج الأحداث. فقد يمضي على الإنسان مدة لا يلمس ولا يمس الذكر إلا في حالة الحدث، كما لا يفتصد ولا يحتجم إلا أحياناً، فلا فرق. 2- قال: "وهو التحقيق أن الفصد والحجامة، وإن كان لا يتكرر كل يوم ولكنه يتكرر، فكيف أخفي حكمه حتى يؤدي إلى بطلان صلاة خلق كثير؟ وإن لم يكن هو الأكثر فكيف وكل ذلك إلى الآحاد؟   1 الترمذي مع تحفة الأحوذي2/533-534، فتح القدير1/433 فما بعدها. قال ابن حجر في الحديث أخرجه الأربعة إلا النسائي، وصحّحه الحاكم وأخرجه أحمد والطبراني والدارقطني وابن عدي، وانظر لمزيد من التفصيل الدراية في تخريج أحاديث الهداية1/188 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ولا سبيل له إلا أن الله تعالى لم يكلف رسوله صلى الله عليه وسلم إشاعة جميع الأحكام بل كلفه إشاعة البعض، وجوز له ردّ الخلق إلى خبر الواحد في البعض، كما جوز له ردّهم إلى القياس في قاعدة الربا وكان يسهل عليه أن يقول: لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم، أو المكيل بالمكيل حتى يستغنى عن الاستنباط من الأشياء الستة الواردة في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" 1. فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما تقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد، ولا استحالة فيه، وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكناً، فيجب تصديقه. وليس علة الأشياء عموم الحاجة، أو ندورها، بل علته التعبد والتكليف من الله، وإلا فما يحتاج إليه كثير كالفصد والحجامة، كما يحتاج إليه الأكثر، في كونه شرعاً لا ينبغي أن يخفى"2.   1 صحيح مسلم5/44، سبل السلام3/37. 2 المستصفى للغزالي مع فواتح الرحموت1/172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومعلوم أن أحاديث نقض الوضوء من مس الذكر أثبت وأعرف من أحاديث القهقهة، فإنه لم يرو عن أحد منها في السنن شيئاً،وهي مراسيل ضعيفة عند أهل الحديث، ولهذا لم يذهب إلى وجوب الوضوء من القهقهة أحد من علماء الحديث لعلمهم أنه لم يثبت فيها شىء"1. 3- وأما ما ادعوه من أنه يشترط لقبوله أن يشتهر، وتتلقه الأمة بالقبول، فهذه الدعوى تحتاج إلى دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع ولا سبيل إلى ذلك ألبتة. كما أنه "لا تلازم كلياً بين الاشتهار، وبين تلقي الأمة له بالقبول،إذ قد يوجد الاشتهار للشيء بلا تلقي جميع الأمة له بالقبول، وقد تتلقى الأمة الشيء بالقبول بلا روايته على سبيل الاشتهار"2. ومما يدلّ على قبول خبر الواحد متى صح، وإن كان فيما تعم به البلوى ما ثبت عن الصحابة -رضي الله عنهم- من الرجوع إلى خبر الواحد، فقد رجعوا إلى خبر عائشة: "إذا التقى الختانان، فقد وجب   1 الفتاوى لشيخ الإسلام بن تيمية30/367. 2 التقرير والتحبير شرح التحرير2/296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الغسل" 1 وإن لم ينزل، ولم يرد عن أحد منهم أنه كان يشترط لقبول الخبر ما اشترطه الأحناف من لزوم الاشتهار، وتلقي الأمة له بالقبول. بل في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- ما يصح أن يكون نصاً في محل النزاع، ولفظه عند مسلم: "عن نافع أن ابن عمر كان يكرى مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من خلافة معاوية حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع ابن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم،فدخل عليه وأنا معه، فسأله. فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن إكراء المزارع ". فتركها ابن عمر بعد، وكان إذا سئل عنها بعد قال: "زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى منها"2. وعمل عمر رضي الله عنه بخبر أبي موسى في الاستئذان، ولفظه عند مسلم: "عن بسر بن سعيد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: كنت جالساً بالمدينة في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً. قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إليّ أن آتيه، فأتيت بابه، فسلمت ثلاثاً، فلم يرد عليّ، فرجعت. فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت إني أتيتك، فسلمت على بابك ثلاثاً، فلم يردّ عليّ، فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   1 الموطّأ مع تنوير الحوالك1/51، صحيح مسلم1/187. 2 صحيح مسلم5/21-22، البخاري، انظر فتح الباري5/23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يؤذن له، فليرجع ". فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتك. فقال أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: أنا أصغر القوم. قال: فاذهب به"1. فهذان الحديثان كلّ منهما نصّ في محل النزاع، لأن ابن عمر ثبت عنه أنه ترك المخابرة بقول رافع بن خديج الذي لم يبلغه إلا في آخر خلافة معاوية وذلك ينافي اشتهار هذا الحديث إذ لو اشتهر لعلمه ابن عمر الأثري الراوية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقيم بالمدينة دار الحديث. كما أن عمر رضي الله عنه مع ملازمته لرسول الله مدة حياته، ثم أبي بكر رضي الله عنه مدة خلافته خفي عليه هذا الحديث حتى توعد أبا موسى الأشعري رضي الله عنه إن لم يأته بمن يشهد له على ما حدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يعلمه عمر. وفي توعد عمر لأبي موسى على ما ذكر في الاستئذان إن لم يأته بمن يشهد معه على ما قال، ما يدلّ على أن الدين كله تعظم به البلوى. قال ابن حزم: "إن الدين كله تعظم به البلوى، ويلزم الناس معرفته، وليس ما وقع في الدهر مرة من أمر الطهارة والحج بأوجب في أنه   1 صحيح مسلم6/177-178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فرض أو حرام مما يقع في كل يوم"1. وقال: "وخفي على عمر -رضي الله عنه- أمر جزية المجوس، والأمر بقبض رسوله الله صلى الله عليه وسلم لها من مجوس هجر عاماً بعد عام، وأبي بكر … عاماً بعد عام، أشهر من الشمس. ولم تكن فضة قليلة بل قد ثبت أنه لم يقدم قط على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه على قلة المال هناك حينئذ، وخفي على عمر وابن عمر الوضوء من المذي، وهو مما تعم به البلوى"2. وأما النسخ فلا، يثبت إلا بدليل، ولم يذكروا ما يدل عليه، وحيث لم يرد دليل عليه فيجب العمل بالدليل الثابت حتى يثبت النسخ. وإذا كان قد خفي على هؤلاء الصحابة الأجلاء -رضي الله عنهم- مثل هذه الأخبار التي يجب في مستقر العادة أن لا يخفى مثلها على مثلهم، وثبت عنهم العمل بها بمجرد ثبوتها. وكان قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحثّ على التبليغ عنه فيما ثبت عنه في الجمع الغفير يوم عرفة في قوله صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد الغائب" 3. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: " نضر الله امرأ سمع منا   1 الإحكام لابن حزم1-4/104. 2 الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم1-4/105. 3 صحيح البخاري من حديث أبي بكرة2/206، صحيح مسلم بشرح النووي9/128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" 1. فإن الحقّ الذي لا يجوز العدول عنه هو قبول أخبار الآحاد متى صحت وسلمت من معارض راجح، سواء كانت فيما تعم به البلوى، أم كانت فيما لا تعم به البلوى. والله تعالى أعلم.   1 تحفة الأحوذي شرح الترمذي7/416-417، الرسالة ص: 175، والحديث صحّحه الترمذي، والحاكم وابن حبان، وأخرجه أبو داود، وابن ماجة. انظر المصدر السابق 416 فما بعدها، وفيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي6/283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الفصل السابع: إذا خالف الراوي مرويه اختلف العلماء فيما إذا خالف الراوي مرويه من أخبار الآحاد، هل يقدم مذهب الراوي أو يقدم الخبر؟ وهذا الخبر لا يخلو من أن يكون: مجملاً1،أو ظاهراً2، أو نصاً3.   1 المجمل هو: اللفظ المتردد بين احتمالين فأكثر على السواء. مأخوذ من الجمل، وهو الخلط، ومنه حديث: " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها، فباعوها، فأكلوا ثمنها" أي: خلطوها بالسبك والإذابة. والتردد فيه يكون من جهة الوضع كالمشترك وقد يكون من جهة العقل، كالمتواطئ بالنسبة إلى أشخاص مسماه. نحو قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} سورة الأنعام آية: 141 فهو ظاهر بالنسبة إلى الحقّ. مجمل بالنسبة إلى مقاديره. انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 37. 2 الظاهر في اللغة: الواضح، ومنه الظهر، وفي اصطلاح الأصوليين هو اللفظ المتردد بين احتمالين فأكثر، هو في أحدهما أرجح منه في غيره بحيث يدلّ عليه دلالة ظنية، وهو مقابل للنصّ عندهم. انظر: شرح تنقيح الفصول ص: 37، العضد على مختصر ابن الحاجب2/168. 3 النصّ أصله في اللغة وصول الشيء إلى غايته، ومنه حديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق، فإذا وجد فجوة نصّ" أي: رفع السير إلى غايته، وفي اصطلاح الأصوليين: اللفظ الدال على معنى واحد دلالة قطعية، وهو مقابل للظاهر عندهم. انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 36-37، العضد على مختصر ابن الحاجب2/168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فإن كان مجملاً وحمله الراوي على أحد محمليه، فذهب أكثر الأحناف إلى عدم قبول مذهب الراوي، وذهب الجمهور إلى قبول مذهبه. دليل الأحناف: استدلّ الأحناف بأن تعيين الراوي بعض محتملات الخبر إذا كان اللفظ مجملاً وحمله الراوي على أحد معنييه، فإن ذلك لا يمنع من العمل بظاهر الحديث، لأنه غير خلاف بيقين، والحديث هو الحجة، وبتأويله لا يتغير، فيبقى الحديث معمولاً به على ظاهره، ولأنهم لا يرون تقليد الصحابي1. دليل الجمهور: استدل الجمهور بأن الحديث إذا كان مجملاً، فقد سقطت الحجة منه، إذ لا يمكن العمل بأحد محتملاته إلا بدليل،وحيث وجد تفسير الراوي فيعتمد عليه، لأنه أعلم بحال المتكلم، ولم يعارضه ظاهر شرعي.2 قال الآمدي: "وإن قلنا بامتناع حمله على جميع محامله، فلا نعرف خلافاً في وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه، لأن الظاهر من   1 انظر تفاصيله في: المنار وحواشيه ص:662-663، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى2/162، كشف الأسرار 3/65. 2 انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص:371، مع تصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 حال النبي صلى الله عليه وسلم،أنه لا ينطق باللفظ المجمل، لقصد التشريع وتعريف الأحكام، ويخليه من قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلام. والصحابي الراوي الشاهد للحال أعرف بذلك من غيره، فوجب الحمل عليه. ولا يبعد أن يقال: بأن تعيينه لا يكون حجة على غيره من المجتهدين حتى ينظر، فإن انقدح له وجه يوجب تعيين غير ذلك الاحتمال، وجب عليه أتباعه، وإلا فتعيين الراوي صالح للترجيح، فيجب أتباعه"1. وهذا الاعتراض الذي أورده مدفوع بأن الصحابي الراوي للحديث مشاهد من قرائن الأحوال ما يرجح مذهبه على غيره من المجتهدين في حمل الخبر على أحد محمليه. ويجاب عن دليل الأحناف بأنه جاء في دليلهم التعبير بالظاهر عن المجمل. ومن المعلوم أن الظاهر غير المجمل، لأن الظاهر لا يعدل عنه إلا بدليل راجح. وعن عدم تقليدهم للصحابي بأن العمل بما ذهب إليه الصحابي الراوي للحديث المجمل دليل مرجح للمراد من محتملاته، لأن "تفسير الصحابي الراوي لأحد محتملات الخبر أولى من تفسير غيره، وحجة يترك لها تفسير من خالفه، لمشاهدته الرسول، وسماعه ذلك   1 الإحكام للآمدي2/104-105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الحديث منه، وفهمه من حاله، ومخرج ألفاظه وأسباب قضيته ما يكون له به من العلم بمراده ما ليس عند غيره، فرجح تفسيره لذلك"1. مثاله حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "البيعان بالخيار مالم يتفرقا" 2. فلفظ التفرق في الحديث مجمل. محتمل: للتفرق بالأقوال، وللتفرق بالأبدان، وقد حمله ابن عمر راوي الحديث على التفرق بالأبدان. ولم ير الحنفية ما ذهب إليه ابن عمر، لأنهما رأوا أن الحديث من قبيل المشترك3 وأن عمله ذلك اجتهاد منه، وهم لا يرون تقليد الصحابي، وفسروا التفرق في الحديث بالتفرق بالأقوال. قال صاحب كشف الأسرار بعد أن ذكر احتمال التفرق في الحديث للتفرق بالأقوال، والتفرق بالأبدان: "وهذا الحديث في احتمال هذه المعاني المختلفة المذكورة بمنزلة المشترك، وإن لم يكن   1 ترتيب المدارك1/74. 2 البخاري مع فتح الباري شرح صحيح البخاري4/328. 3 المشترك: مأخوذ من الشركة، شبهت اللفظة في اشتراك المعاني فيها بالدار المشتركة بين الشركاء. وهو: اللفظ الموضوع لأكثر من معنى كالعين للباصرة، والجارحة، والنقد، والقرء للحيض، والطهر، والجون للأبيض والأسود. انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 29-30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 مشتركاً، لفظه، فلا يبطل هذا الاحتمال بتأويله، وكان للمجتهد أن يحمله على وجه آخر بما يتضح له من الدليل"1. وذكر أن محمداً -رحمه الله- فسر التفرق في الحديث بالتفرق بالأقوال لأن البائع "إذا قال: بعت، والمشتري إذا قال: اشتريت، فقد تفرقا بذلك القول، وانقطع ما كان لكل واحد منهما من خيار إبطال كلامه بالرجوع وإبطال كالأم صاحبه بالرد وعدم القبول"2. ويجاب عما استدلوا به على تفسير التفرق في الحديث بالتفرغ بالأبدان، ومنع خيار المجلس بما يأتي: 1- بأنه ورد تفسير الحديث من راويه عبد الله بن عمر كما قدمت، كما فسره بذلك أبو برزة الأسلمي، وهو راوي الحديث أيضاً. قال الحافظ في الفتح: "فلا يعلم لهما مخالف من الصحابة"3. قال محمد عبد الرحمن المبارك فوري: "وقد اعترف صاحب التعليق الممجد من الحنفية بأنه أولى الأقوال حيث قال: "ولعل المنصف   1 كشف الأسرار2/65. 2 نفس المصدر3/65، وانظر تفاصيله في المنار وشرحه وحواشيه ص:662-663، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستفصى2/162-163. 3 تحفة الأحوذي شرح الترمذي4/449. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الغير المتعصب يتيقن بعد إحاطة الكلام من الجوانب في هذا البحث أن أولى الأقوال هو ما فهمه الصحابيان الجليلان، يعني ابن عمر وأبا برزة الأسلمي -رضي الله عنهما-. وفهم الصحابي إن لم يكن حجة، لكنه أولى من فهم غيره فلا شبهة، وإن كان كل من الأقوال مستنداً إلى حجة"1. 2- استدل الإمام الترمذي على أن المراد بالتفرق، التفرق بالأبدان بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار مالم يتفرقا"،إلا أن تكون صفقة خيار. ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله". قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن. ومعنى هذا، أن يفارقه بعد البيع خشية أن يستقيله، ولو كانت الفرقة بالكلام، ولم يكن له خيار بعد البيع، لم يكن لهذا الحديث معنى. حيث قال: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله "2. يتضح مما تقدم أن ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح في اعتبار تفسير الراوي مرجحاً لأحد محتملات المجمل لما ذكرت والله تعالى أعلم.   1 نفس المصدر4/449-450. 2 الترمذي مع تحفة الأحوذي4/452-453. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وإن كان ظاهراً، فحمله على غير ظاهره، إما بصرف اللفظ عن حقيقته أو بصرفه عن الوجوب إلى الندب، أو عن التحريم إلى الكراهة ولم يأت بدليل يدلّ على صرف اللفظ عن ظاهره1. فذهب أكثر الحنفية إلى وجوب العمل بمذهب الراوي بحمل الخبر على ما عينه. وذهب الجمهور من أهل الأصول والفقهاء، ومنهم الشافعي وأبو الحسن الكرخي إلى أنه يجب العمل على ظاهر الخبر دون تأويل الراوي2. وقال القاضي عبد الجبار: "إن لم يكن لمذهب الراوي، وتأويله وجه إلا أنه علم قصد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك التأويل ضرورة وجب المصير إلى تأويله، وإن لم يعلم ذلك، بل جوز أن يكون صار إلى ذلك التأويل لنص أو قياس، وجب النظر في ذلك الوجه. فإن اقتضى ذلك ما ذهب إليه الراوي وجب المصير إليه".قال أبو الحسين: "وهذا صحيح"3.   1 الإحكام للآمدي2/104-105. 2 انظر تفاصيل ذلك في الإحكام للآمدي2/165، تيسير التحرير 3/71-72، التقرير والتحبير شرح التحرير2/265، وإرشاد الفحول ص:59، شرح تنقيح الفصول ص: 371. 3 المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري2/670. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 حجة الحنفية: قالوا: ليس يخفى على الصحابي الراوي للخبر تحريم ترك الظاهر إلا لما يوجب تركه، فلولا تيقنه لما يوجب ترك ظاهر ما رواه لما تركه. ولو سلم انتفاء تيقنه، فلولا أغلبية ظنه بما يوجب تركه لم يتركه. ولو سلم انتفاء أغلبية الظن لم يكن عنده إلا مجرد الظن، فشهود الراوي ما هناك من قرائن الأحوال عند المقال يرجح ظنه بالمراد على ظن غيره، فيجب العمل بالراجح، وبهذا التقرير يندفع تجويز خطئه بظن ما ليس دليلاً دليلاً لبعد ذلك منه مع عدالته وعلمه بالموضوعات اللغوية، ومواقع استعمالها، وحالة من صدر عنه ذلك، بل الظاهر أن ذلك منه إنما هو لدليل في نفس الأمر أوجب ذلك وقد اطلع عليه1. استدل الجمهور على وجوب العمل بظاهر الخبر بما يأتي: 1 قالوا: إن الراوي عدل، وقد جزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم،وهو الأصل في وجوب العمل بالخبر2.   1 انظر تفاصيله في تيسير التحرير3/72، والتقرير والتحبير شرح التحرير2/265. 2 انظر: الإحكام للآمدي2/105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 2 أن الحديث إذا كان له ظاهر يرجع إليه، لأن الحجة في ظواهر الشريعة لا في مذهب الرواة. ولأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر، لا بما فهمه الراوي، والحجة إنما هي في الرواية لا في رأيه، إذ قد يحمله وهماً منه1. قال الشافعي: "كيف أترك الخبر لأقوال أقوام، لو عاصرتهم لحاججتهم بالحديث"2. الإِجابة عما استدل به السادة الأحناف: يجاب عما استدل به الأحناف: بأن الراوي ربما خالف ما رواه لما يراه دليلاً في ظنه، وليس هو بدليل في نفس الأمر، فلا يلزم القدح لظنه، ولا التخصيص لعدم مطابقته، وليس لغيره اتباعه فيه، لأن المجتهد لا يقلد مجتهداً آخر، ولأن الحجة في ظاهر الخبر لا في مذهب الراوي3. قال الآمدي: "والمختار أنه إن علم مأخذه في المخالفة، وكان ذلك مما يوجب عمل الخبر إلى ما ذهب إليه الراوي، وجب اتباع ذلك   1 انظر تفاصيله في تنقيح الفصول ص: 371، وإرشاد الفحول ص: 59. 2 حاشية العطار على المحلى على جمع الجوامع2/270، الإحكام للآمدي2/165. 3 انظر: نهاية السول على منهاج الوصول2/133، حاشية العطار2/162،170، والآيات البينات للعبادي3/220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الدليل لا لأن الراوي عمل به، فإنه ليس عمل أحد المجتهدين حجة على الآخر. وإن جهل مأخذه، فالواجب العمل بظاهر اللفظ، وذلك لأن الراوي عدل وقد جزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأصل قي وجوب العمل بالخبر، ومخالفة الراوي له، فيحتمل أنه كان لنسيان طرأ عليه، ويحتمل أنه كان لدليل اجتهد فيه، وهو مخطئ، أو هو مما يقول به دون غيره من المجتهدين، كما في مخالفة مالك لخيار المجلس بما رآه من إجماع أهل المدينة على خلافه"1. ويحتمل أنه علم ذلك علماً لا مراء فيه من قصد النبي له2،وإذا تردد بين هذه الاحتمالات، فالظاهر لا يترك بالشك والاحتمال. وعلى كل تقدير فبمخالفته للخبر، لا يكون فاسقاً حتى يمتنع العمل بروايته.   1 انظر ص: 165 من هذا البحث. 2 هذه العبارة هي الصحيحة كما في طبعة المعارف سنة 1332هـ/1914م. مصر. أما التي في الطبعة الأخرى المطبوعة سنة: 1387هـ/1967م فهي: "ويحتمل أنه ذلك علما لا مراد فيه" انظر الإحكام للآمدي2/105، الموضح قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وبهذا يندفع قول الخصم إنه إن أحسن الظن بالراوي حمل الخبر على ما حمله عليه، وإن أسيء به الظن امتنع العمل بروايته"1. وأما ما استدلوا به من أن مشاهدة الراوى لقرائن الأحوال ترجح ظنه على ظن غيره، فهذا لا يصلح لرد ظاهر الخبر، وإنما يصح لو كان ظنه معارضاً بظن غيره. أما وقد ثبت الخبر فلا يعدل عن ظاهره إلا لدليل مصرح به راجح. وقد كان يلزم الأحناف أن يأخذوا بهذه القرائن في ترجيح عمل الراوي بأحد محتملات المجمل على مالم يعمل به لأنه أنسب لما ذكرت هناك. مثاله: حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عند البخاري "من بدل دينه فاقتلوه" 2. فقد خالفه ابن عباس بما أسند أبو حنيفة عنه ما لفظه "لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام، لكن يحبسن، ويدعين إلى الإسلام يجبرن عليه"، فلزم تخصيص المبدل دينه بكونه من الرجال3.   1 انظر: الإحكام للآمدي2/105-106. 2 البخاري مع شرحه فتح الباري12/267. 3 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير2/265-266. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فذهب الأحناف إلى مذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- في عدم قتل المرتدة تقديماً لعمله على ما رواه. وذهب الجمهور إلى العمل بظاهر الحديث القاضي بقتل كلّ مرتدة لعدم ثبوت ما يخرجها من عموم ظاهر الحديث. ويجاب عما ذهب إليه ابن عباس بما ورد من قتل المرتدة من ذلك. قال البخاري: "وقال ابن عمر والزهري وإبراهيم: تقتل المرتدة"1. قال ابن حجر: "أما قول ابن عمر فنسبه مغلطاي إلى تخريج ابن أبي شيبة، وأما قول الزهري وإبراهيم فوصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في المرأة تكفر بعد إسلامها، قال: تستتاب، فإن تاب وإلا قتلت. وعن معمر عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم مثله، وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم، وأخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبيدة بن مغيث عن إبراهيم قال: إذا ارتدّ الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيبا، فإن تابا تركا، وإن أبيا قتلا. وأخرج ابن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم لا تقتل. والأول أقوى. فإن عبيدة ضعيف، وقد اختلف نقله عن إبراهيم.   1 فتح الباري شرح صحيح البخاري12/268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 مقابل قول هؤلاء حديث ابن عباس: " لا تقتل النساء إذا هن ارتددن " رواه أبو حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس عن ابن أبي شيبة والدارقطني، وخالفه جماعة من الحفاظ في لفظ المتن. وأخرج الدارقطني عن ابن المنكدر عن جابر أن امرأة ارتدت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها، وهو يعكر على ما ذكره ابن الطلاع في الأحكام أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل مرتدة"1. قال ابن حجر: "وقد وقع في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له: "أيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها". وسنده حسن. وهو نصّ في موضع النزاع، فيجب المصير إليه"2. فالراجح هو مذهب الجمهور، لما ذكرت، والله تعالى أعلم. وإن كان الحديث نصّاً في دلالته. فمذهب الحنفية العمل بمذهب الراوي.   1 نفس المصدر12/268. 2 فتح الباري شرح صحيح البخاري12/272 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 واستدلوا على ذلك بأن ترك الصحابي له لم يكن إلا عن دليل علمه، إذ لا يظن به أن يخالف النصّ لغير دليل هو الناسخ1. قال محب الله: "ولو ترك الصحابي نصّاً مفسراً غير قابل للتأويل تعين علمه بالناسخ، لأن مخالفة المفسر عسى أن يكون كبيرة، والصحابي أجل من أن يرتكبه، ولا يحتمل التأويل حتى يكون مؤولاً، فتعين النسخ لا غير"2. ومذهب الجمهور العمل بالخبر. واستدلوا على ذلك بأن الحجة في لفظ صاحب الشرع لا في مذهب الرواي3. قال الشوكاني: "ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه، لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال. وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن منسوخاً"4.   1 انظر تيسير التحرير3/72، وفواتح الرحموت مع المستصفى2/163، التقرير والتحبير شرح التحرير2/266. 2 فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى2/163. 3 انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 371، مع تصرف واختصار. 4 إرشاد الفحول ص: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وقال ابن حزم: "ونحن نقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغنا: هذا نبينا إلينا. فهكذا نحمل أمر جميع ما روى من رواية الصاحب للحديث، ثم روي عنه مخالفته إياه أنه إنما أفتى بخلاف الحديث قبل أن يبلغه، فلما بلغه حدث بما بلغه. لا يحل أن نظن بالصحابي غير هذا"1. وأجيب عما استدل به السادة الأحناف بأن الراوي ربما رأى ناسخاً في نظره، ولا يكون ناسخاً عند غيره من المجتهدين، وما ظهر له في نظره لا يكون حجة على غيره، ومع إمكان الاحتمال لا يترك النصّ الذي لا احتمال فيه2. ومحل الخلاف فيما إذا تقدمت الرواية على العمل، أما إذا تقدم العمل أو تأخرت الرواية، أو جهل التاريخ، فلا خلاف حينئذ أن العمل بالحديث، لأن الحديث حجه في الأصل بيقين، وبهذا صرح الحنفية. قال البزدوي: "وأما إذا عمل بخلافه، فإن كان قبل الرواية وقبل أن يبلغه، لم يكن جرحاً، لأن الظاهر أنه تركه بالحديث إحساناً للظن به"3.   1 الإحكام لابن حزم1-4/146. 2 الإحكام للآمدي2/167، البدخشي على منهاج الوصول مع نهاية السول2/255-256. 3 انظر كشف الأسرار3/63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وقال عبد العزيز البخاري: "وإن لم يعرف تاريخه أي لم يعلم أنه عمل بخلافه قبل البلوغ إليه والرواية، أو بعد واحد منهما، لا يسقط الاحتجاج به، لأن الحديث حجة في الأصل بيقين، وقد وقع الشك، لأنه إن كان الخلاف قبل الرواية والبلوغ إليه كان الحديث حجة، وإن كان بعد الرواية والبلوغ لم يكن حجة، فوجب العمل بالأصل، ويحمل على أنه كان قبل الرواية، لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه"1. ففي ما ذكراه تصريح بأن الخلاف، إنما هو فيما إذا كان العمل بعد الرواية. كما هو ظاهر من كلامهما. ومن أمثلته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً" 2. ولم ير الحنفية الأخذ بهذا الحديث، بل أخذوا بمذهب الراوي حيث صح عندهم عنه الافتاء بالاكتفاء بثلاث غسلات. وأيدوا ذلك بما رواه الدارقطني.   1 نفس المصدر3/64. 2 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه1/53، شرح النووي لمسلم3/183، تحفة الأحوذي1/299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 قال صاحب التحرير: " ولفظه عنه صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ1 في الإناء يغسل ثلاثاً أو خمسا ً، ثم قال: تفرد به عبد الوهّاب عن إسماعيل وهو متروك"2. وهذا الحديث الذي أيدوا به مذهبهم غير صالح للاحتجاج كما صرحوا هم أنفسهم بذلك. وحيث إن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- استعرض اعتراضاتهم، وأجاب عنها بما فيه الكفاية، فإليك ما أرى فيه كفاية منها في هذا المقام. قال: "واعتذر الطحاوي وغيره عنهم بأمور: منها: كون أبي هريرة راويه أفتى بثلاث غسلات، فثبت بذلك نسخ السبع. وتعقب بأنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها، أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ. وأيضاً فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعاً. ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النظر.   1 قال أهل اللغة: ولغ الكلب في الإناء يلغ بفتح اللام فيهما، إذا شرب بطرف لسانه. انظر: مختار الصحاح للشيخ محمّد بن أبي بكر الرازي ص: 735-736. 2 التقرير والتحبير شرح التحرير2/366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 أما النظر فظاهر، وأما الإسناد، فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه، وهذا من أصح الأسانيد. وأما المخالفة: فمن رواية عبد الملك بن سليمان عن عطاء عنه، وهو دون الأولى في القوة بكثير. ومنها: أن العذرة أشد في النجاسة من سؤر الكلب، ولم يقيد هكذا بالسبع، فيكون الولوغ كذلك من باب أولى. وأجيب عنه بأنه لا يلزم من كونها أشد منه في الاستقذار أن لا يكون أشد منها في تغليظ الحكم، وبأنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار. ومنها: أن دعوى أن الأمر بذلك كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نهى عن قتلها نسخ الأمر بالغسل. وتعقب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة، والأمر بالغسل متأخر جداً، لأنه من رواية أبي هريرة وعبد الله بن مغفل، وقد ذكر ابن مغفل أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالغسل، وكان إسلامه سنة سبع كأبي هريرة، بل سياق مسلم ظاهر في أن الأمر بالغسل كان بعد الأمر بقتل الكلاب"1.   1 فتح الباري شرح صحيح البخاري1/277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ولعله يريد ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن مغفل أنه قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال: إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات " ... الحديث1. ويعكر دعوى النسخ ما نقله المبارك فوري عن صاحب العرف الشذي من أنه قال: "وجواب الحديث من قبلنا أن التسبيع مستحب عندنا كما صرح به الزيلعي شارح الكنز، ثم وجدته مروياً عن أبي حنيفة في تحرير ابن الهمام انتهى". قال: قلت: "فبطل بهذا قولكم بادعاء نسخ التسبيع ... ثم حمل الأمر بالتسبيع على الاستحباب ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم ". الحديث2. وختام القول أن الراجح عندي هو العمل بالحديث، لأن ذلك هو الأصل، والأصل لا يعدل عنه إلا بدليل راجح مصرح به، أما مجرد الاحتمالات والفرضيات،فذلك غير كافٍ في ترك العمل بالنصوص، وفيما ذكرت كفاية لطالب الحق. والله سبحانه وتعالى أعلم.   1 صحيح مسلم1/162. 2 تحفة الأحوذي شرح الترمذي1/303، ومسلم1/162 من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 خاتمة في نتائج البحث هذه بعض النتائج التي انتهى إليها هذا البحث: 1- أن الخلاف في كون الخبر ينقسم إلى صدق وكذب أو أنه تضمن واسطة لا توصف بالصدق ولا بالكذب خلاف لفظي، لأن العرب إنما وضعت الخبر للصدق دون الكذب. واحتماله للصدق والكذب إنما هو من جهة المتكلم، ولا يخرج عنهما البتة. 2- أن السنة أثبتت من الأحكام ما لم يتعرض له القرآن نفياً أو إثباتاً. 3- أن الخلاف في إثبات السنة لأحكام لم يتعرض لها القرآن نفياً أو إثباتاً، أو أنها لم تثبت إلا ما هو مندرج تحت نصّ من نصوص القرآن، أو تحت قاعدة من قواعده، خلاف لفظي لم يترتب عليه أثر. 4- أن تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد، اصطلاح الأصوليين والفقهاء لأن المحدثين إنما يبحثون عن الحديث من حيث الصحة للعمل به أو الضعف للرد. 5- أن خبر الواحد المجرد عن القرائن وإن لم يفد العلم، فإنه يجب العمل بكل ما دل عليه سواء كان في الأصول أو الفروع. 6- أن اختلاف العلماء في كون خبر الواحد هل يفيد الظن أم العلم ترتب عليه اختلافهم في الاحتجاج به في العقائد. 7- خبر الواحد المحتف بالقرائن يفيد العلم، لأنه إذا كانت القرائن قد تفيد العلم مجردة عن الخبر فمن باب أولى إذا اقترنت بالخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 8- أن ما في الصحيحين من الأحاديث التي لم ينتقدها الحفاظ داخل في الخبر المحتف بالقرائن. 9- ما استدل به الجمهور على وجوب العمل بخبر الواحد في الأحكام يدل على وجوب العمل به في العقائد ولا فرق. 10- أن من منع العمل بخبر الواحد لم يأت بشيء يصلح للتمسك به على ما ذهبوا إليه. 11- أن خبر الواحد مقبول في الحدود كما هو مقبول في غيرها. 12- أن عمل أهل المدينة منقسم إلى ما هو حجة باتفاق، وهو ما نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم كنقلهم المد والصاع وترك زكاة الخضروات. وما كان منقولاً عن الصحابة على الراجح. ومنه ما ليس بحجة إلا عند بعض المالكية كعمل التابعين، فهذا لا يعارض الخبر الصحيح. 13- وجوب العمل بالخبر متى صحّ وسلم من معارض، وإن كان فيما تعم به البلوى. 14- أن ما خالف الراوي فيه مرويه، إن كان مجملاً، اعتبر عمل الراوي مرجحاً لما عمل به على غيره. وإن كان ظاهراً أو نصّاً فالعمل بما روى لا بما رأى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 مصادر ومراجع ... فهرس المراجع 1- القرآن الكريم مصحف مكة المكرمة. 2- أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء. الدكتور مصطفى سعيد الخن، مؤسسة الرسالة سنة 1392هـ/1972م. 3- أحكام القرآن. تأليف أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي، 468-543هـ. تحقيق محمد البجاوي، طبعة جديدة، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. 4- أحكام القرآن. تأليف الإمام أبي بكر أحمد به علي الرازي الجصاص، المتوفى سنة 270هـ، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. طبعة مصورة عن الطبعة الأولى. 5- الإحكام في أصول الأحكام في أصول الفقه. تأليف أبي محمد علي بن حزم الظاهري، إشراف أحمد شاكر الناشر زكريا علي يوسف، مطبعة العاصمة، القاهرة. 6- الأحكام في أصول الأحكام. للإمام سيف الدين أبي الحسن علي بن علي الآمدي، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، شارع جواد حسني، القاهرة، دار الاتحاد للطباعة، 1387 هـ/1967 م. 7- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 تأليف محمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة: 1255هـ، وبهامشه أحمد بن قاسم العبادي على شرح المحلي للورقات، الطبعة الأولى. مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1356 هـ/1937م. 8- الإشراف على مسائل الخلاف. تَأليف القاضي عبد الوهّاب بن علي بن نصر البغدادي، المالكي المتوفى سنة 422هـ، مطبعة الإدارة. 9- أصول السرخسي. تأليف الإمام أبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي المتوفى سنة490هـ، حقق أصوله أبو الوفاء الأفغاني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت. لبنان، 1393هـ/ 1973م. 10- أصول الفقه. تأليف الشيخ محمّد الخضر بيك، الطبعة السادسة، سنة 1389هـ/1969م، يطلب من المكتبة الكبرى التجارية بمصر. دار الاتحاد للطباعة. 11- أصول الفقه. تأليف محمّد أبي النور زهير، دار الطباعة المحمّدية، القاهرة. 12- أصول الفقه. تأليف عبد الوهّاب خلاف، الطبعة العاشرة، سنة 1392هـ/1972م، الناشر دار القلم، كويت للطباعة والنشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 13- أصول التشريع. تأليف الأستاذ علي حسب الله، الطبعة الرابعة، سنة1391هـ/1971م، دار المعرفة بمصر. 14- أصول الحديث علومه ومصطلحه. تأليف الدكتور محّمد عجاج الخطيب، الطبعة الثانية، دار الفكر، سنة: 1386هـ/1967م. 15- أصول مذهب الإمام أحمد. تأليف الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى، سنة 1394هـ/1974م. مطبعة جامعة عين شمس. القاهرة. 16- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. تأليف الشيخ محمّد الأمين بن محمّد المختار الجكني الشنقيطي، مطبعة المدني لعلي صبح المدني. القاهرة. 17- الأعلام. تأليف خير الدين الزركلي، الطبعة الثانية. 18- أعلام الموقعين عن ربّ العالمين. تأليف الإمام الجليل ابن قيم الجوزية، 751هـ. تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل. مطبعة السعادة بمصر، سنة 1389هـ/1969م. 19- الإلماع في معرفة أصول الرواية وتقييد السماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 تأليف القاضي عياض بن موسى اليحصبي، الطبعة الأولى، سنة 1389هـ/1970م، تحقيق السيد أحمد صقر، الناشر دار التراث، القاهرة. 20- الأم. تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، الطبعة الأولى، المطبعة الأميرية ببولاق بمصر سنة:1321هـ الناشر السيد أحمد بك الحسيني. 21- أنوار الحلك حاشية على شرح ابن ملك للمنار. تأليف العالم شيخ الإسلام محمد بن إبراهيم الشهير بابن الحلبي. دار السعادة، 1315هـ. 22- الانتفاء في فضائل الثلاثة الفقهاء. تأليف الإمام أبي عمر يوسف (بن عبد البر) . مكتبة القدسي. القاهرة سنة 1350هـ. 23- الإيضاح شرح تلخيص المفتاح. تأليف الخطيب القزويني. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر. 24- بداية المجتهد ونهاية المقتصد. تأليف الإمام أبي الوليد محمّد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي (520-595هـ) . الطبعة الثالثة سنة 1379هـ/1960م. شركة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 25- البرهان في علوم القرآن. تأليف الإمام بدر الدين محمّد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم. الطبعة الثانية. عيسى البابي الحلبي وشركاه. 26- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث. للحافظ ابن كثير (701-774هـ) . تأليف أحمد محمد شاكر. الطبعة الثالثة سنة1370هـ/1951م. مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده بميدان الأزهر بمصر. 27- البهجة الوضية شرح متن البيقونية. تأليف الشيخ محمد نشابه. 28- تأويل مختلف الحديث. تأليف محمد بن عبد الله بن مسلم ابن قتيبة. دار الجيل، بيروت،: 1393هـ/1973م. صححه وضبطه محمّد زهير النجار. 29- التبصرة والتذكرة. تأليف الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن العراقي. المطبعة الحديدة بطالعة فاس، سنة1354هـ. 30- التحصيل. تأليف محمّد بن أبي بكر الأرموي. مصور مخطوط لدى الشيخ عبد الحميد أبي زنيد المدرس بدار الحديث بمكة المكرمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 31- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك. تأليف القاضي عياض بن موسى اليحصبي، تحقيق الدكتور أحمد بكير. منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت. دار مكتبة الفكر سنة: 1387هـ/1967م. 32- تدريب الراوي شرح تقريب النواوي. تأليف جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (849-911هـ) . تحقيق عبد الوهّاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية، سنة: 1385هـ/1966م. الناشر دار الكتب الحديثة شارع الجمهورية بعابدين. 33- تفسير القرآن العظيم. للإمام الحافظ كمال الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير، القرشي المتوفى سنة 774هـ. طبع بدار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه. 34- التقرير والتحبير شرح تحرير الكمال بن الهمام. تأليف ابن أمير الحاج. الطبعة الأولى سنة: 1316هـ، المطبعة الأميرية ببولاق بمصر. 35- تقرير الشربيني على المحلى على هامش حاشية البناني. للشيخ عبد الرحمن الشربيني. مطبعة دار إحياء الكتب العربية. عيسى البابي الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 36- تكملة المجموع. تأليف محمّد بخيت المطيعي. مطبعة الإمام بمصر. 37- التلويح على التوضيح. لسعد الدين بن مسعود التفتازاني. مكتبة ومطبعة محمّد علي صبيح بميدان عابدين بالأزهر بمصر. دار المعهد الجديد للطباعة سنة: 1377هـ/1957م. 38- تنوير الحوالك شرح موطّأ الإمام مالك. تأليف جلال الدين السيوطي. الطبعة الأخيرة سنة: 1370هـ/1951م. شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي. بمصر. 39- توضيح الأفكار. تأليف العلامة محمّد إسماعيل الأمير الصنعاني. الطبعة الأولى سنة: 1361هـ. مطبعة السعادة. تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد. 40- تاج العروس من جواهر القاموس. تأليف الإمام السيد محمّد مرتضى الزبيدي الحسيني الواسطي. 41- التاج والإكليل لمختصر خليل. لأبي عبد الله محمّد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق. المتوفى سنة: 897هـ. بهامشه مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب. ملتزم الطبع والنشر مكتبة النجاح، سوق الترك، طرابلس ليبيا. 42- تيسير التحرير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 تأليف محمد أمين المعروف بأمير بادشاه. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. بمصر. سنة: 1350هـ. 43- جامع بيان العالم وفضله. تأليف الإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر. دار الفكر بيروت. 44- جامع البيان في تأويل القرآن. تأليف الإمام أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري. الطبعة الثانية سنة: 1373هـ/1954م. الحلبي. مصر. 43- الجامع لأحكام القرآن. تأليف الإِمام أبي عبد الله محمد جمن أحمد الأنصاري القرطبي. الطبعة الثالثة عن طبعة دار الكتب المصرية. دار الكتب العربية للطباعة والنشر. 1387هـ/1967م. 46- جواهر الأصول في علم أحاديث الرسول. تأليف أبي الفضل محمد محمد الفارسي. طبعة هندية. سنة 1393هـ/1973م. 47- جواهر الإكليل شرح مختصر خليل. تأليف صالح عبد السميع الأبي. الطبعة الثانية، مطبعة مصطفى الحلبي. سنة: 1366هـ/1947م. 48- حاشية الأزميري على مرآة الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 تأليف سليمان بن عبد الله الأزميري. دار الطباعة العامرة. الناشر أحمد خلوصي. 49- حاشية البناني على شرح المحلى لجمع الجوامع. مطبعة دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي وشركاه. 50- حاشية السيد الشريف الجرجاني المتوفى سنة: 816هـ، على شرح القاضي عضد الملة والدين لمختصر المنتهى الأصولي. مراجعة وتصحيح شعبان محمد إسماعيل. سنة 1393هـ/1973م. الناشر مكتبة الكليات الأزهرية. شارع الصنادقية بالأزهر. 51- حاشية الدسوقي على شرح سعد الدين التفتازاني على تلخيص المفتاح. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر. 52- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير. تأليف العلامة الشيخ محمد بن عرفه الدسوقي. دار إحياء الكتب العربية. عيسى البابي الحلبي. 53- حاشية الرهوي على شرح المنار. للشيخ يحيى الرهوي المصري. طبع سنة: 1351هـ دار السعادة. 54- حاشية سعد الدين التفتازاني على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 مراجعة وتصحيح شعبان محمد إسماعيل، سنة 1393هـ/1973م. مكتبة الكليات الأزهرية. 55- حاشية عزمي زاده على ابن ملك، المصدر السابق. 56- حاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع. للشيخ حسن العطار. مطبعة مصطفى محمد بمصر. 57- حاشية العدوى على شرح الخرشي لمختصر خليل. الناشر الحاج الطيب التازي المغربي. الطبعة الثانية. المطبعة الأميريبة ببولاق بمصر سنة: 1317هـ. 58- الحديث والمحدثون. الدكتور محمد محمد أبو زهو. الطبعة الأولى. مطبعة مصر. 59- الديباج المذهب في معرفة علماء أعيان المذهب. لابن فرحون المالكي. تحقيق وتعليق الدكتور محمد الأحمدي أبو النور. دار التراث للطبع والنشر. القاهرة. 60- الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي (150-204هـ) . تحقيق محمد سيد كيلاني. الطبعة الأولى سنة 1388هـ/1969م. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. بمصر. 61- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. لشهاب الدين السيد محمود الألولسي، الطبعة الثانية. إدارة الطباعة المنيرية بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 مراجعة وتصحيح شعبان محمد إسماعيل، سنة 1393هـ/1973م. مكتبة الكليات الأزهرية. 55- حاشية عزمي زاده على ابن ملك، المصدر السابق. 56- حاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع. للشيخ حسن العطار. مطبعة مصطفى محمد بمصر. 57- حاشية العدوى على شرح الخرشي لمختصر خليل. الناشر الحاج الطيب التازي المغربي. الطبعة الثانية. المطبعة الأميريبة ببولاق بمصر سنة: 1317هـ. 58- الحديث والمحدثون. الدكتور محمد محمد أبو زهو. الطبعة الأولى. مطبعة مصر. 59- الديباج المذهب في معرفة علماء أعيان المذهب. لابن فرحون المالكي. تحقيق وتعليق الدكتور محمد الأحمدي أبو النور. دار التراث للطبع والنشر. القاهرة. 60- الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي (150-204هـ) . تحقيق محمد سيد كيلاني. الطبعة الأولى سنة 1388هـ/1969م. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. بمصر. 61- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. لشهاب الدين السيد محمود الألولسي، الطبعة الثانية. إدارة الطباعة المنيرية بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، المتوفى سنة: 458هـ. الطبعة الأولى سنة: 1344هـ. مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند بحيدر آباد الدكن. 68- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي. للدكتور مصطفى السباعي. الطبعة الثانية. المكتب الإسلامي. بيروت. سنة: 1396هـ/1976م. 69- السنة قبل التدوين. للدكتور محمد عجاج الخطيب. الطبعة الأولى سنة: 1383هـ/1963م. الناشر مكتبة وهبة شارع الجمهورية بعابدين. 70- شذرات الذهب في أخبار من ذهب. لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة:1089هـ. الناشر مكتبة القدس سنة:1350هـ. القاهرة. 71- شرح ابن عقيل. للقاضي شهاب الدين عبد الله بن عقيل الهمداني المصري (698-769هـ) على ألفية ابن مالك. علق عليه محمد محي الدين عبد الحميد. الطبعة 14، سنة 1384هـ/1964م. مكتبة السعادة. 72- شرح البدخشي منهاج العقول. للإمام محمد بن الحسن البدخشي ومعه شرح الأسنوي لمنهاج الوصول في علم الأصول، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 73- شرح المفصل. لابن يعيش موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش. إدارة الطباعة المنيرية. 74- شرح موطّأ الإمام مالك. تأليف أبي عبد الله محمّد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني (1055-112هـ) . مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. الطبعة الأولى سنة: 1381هـ/1961م. 75- شرح المنار. لعز الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز بن ملك، ومعه حواشيه. دار السعادة، سنة: 1315هـ. 76- شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول. للإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي، حققه طه عبد الرؤوف سعيد، منشورات مكتبة الكليات الأزهرية، شارع الصنادقية، القاهرة. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. الطبعة الأولى سنة: 1393هـ/1973م. 77- شرح ألفية السيوطي في المصطلح. تأليف محمّد محي الدين عبد الحميد. 78- شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر. تأليف أحمد بن علي الشهير بابن حجر العسقلاني. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. سنة: 1353هـ/1934م. مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 79- شرح الخرشي لمختصر خليل بن إسحاق. الطبعة الثانية الأميرية ببولاق بمصر سنة: 1317هـ. الناشر الحاج الطيب التازي المغربي. 80- صحيح البخاري. تأليف الإمام الحافظ محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري. مكتبة الجمهورية العربية لعبد الفتاح عبد الحميد مراد. مصر. 81- صحيح مسلم. تأليف الإمام الحافظ مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري. مكتبة ومطبعة محمّد علي صبيح وأولاده بميدان الأزهر بمصر. 82- صحة عمل أهل المدينة. تأليف الإمام العالم شيخ الإسلام ابن تيمية. مطبعة الزهور ببغداد، سنة: 1332هـ، نعمان أحمد الأعظمي. 83- طبقات الحنابلة. تأليف القاضي أبي الحسين محمّد بن أبي يعلى. وقف على طبعه وصححه محمّد حامد الفقي. مطبعة السنة المحمدية. القاهرة. 84- طبقات الشافعية. تأليف تاج الدين أبي نصر عبد الوهّاب بن عليّ بن عبد الكافي السبكي (727-771هـ) ، تحقيق محمود محمّد الطناحي وعبد الفتاح محمّد الحلو، الطبعة الأولى سنة: 1383هـ/1964م. مطعبة عيسى البابي الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 85- العدة في أصول الفقه. تأليف القاضي أبي يعلى الحنبلي، فيلم لدى الدكتور عبد الوهّاب أبو سليمان. 86- عروس الأفراح شرح تلخيص المفتاح. تأليف بهاء الدين السبكي. مطعبة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر. 87- علوم الحديث. تأليف الإمام أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن المشهور بابن الصلاح، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه الدكتور نور الدين العنز. الناشر مكتبة محمّد النمناكي، الطبعة الثانية سنة: 1972م. 88- علوم الحديث ومصطلحه. تأليف الدكتور صبحي الصالح، الطبعة الثامنة، دار العلم للملايين. بيروت. 1975م. 89- العلل لابن المديني. تأليف عليّ بن عبد الله بن جعفر السعدي المديني. الأميرية، تحقيق محمّد مصطفى الأعظمي، سنة:1392هـ/1972م. 90- غيث المستغيث في علم مصطلح الحديث. للدكتور محمّد محمّد السماحي. الطبعة الثامنة. دار المعهد الجديد للطباعة. 91- غاية الوصول شرح لب الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 تأليف الشيخ أبي يحيى زكريا الأنصاري. الطبعة الأخيرة. الحلبي. سنة: 1360هـ/1941م. 92- فتح القدير. تأليف الإمام كمال الدين محمّد عبد الواحد المعروف ب (ابن الهمام) الحنفي. شركة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. 93- الفتح المبين في طبقات الأصوليين. تأليف الشيخ عبد الله مصطفى المراغي. الطبعة الثانية. سنة: 1394هـ/1974م. الناشر محمّد دمج. بيروت. لبنان. 94- فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي. تأليف الإمام شمس الدين محمّد بن عبد الرحمن السخاوي. ضبط وتحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان. الناشر المكتبة السلفية لمحمّد المحسن مطبعة العاصمة، القاهرة، الطبعة الثانية سنة: 1388هـ/1968م. 95- فتح الودود شرح مراقي السعود. تأليف الشيخ محمّد يحيى بن محمّد المختار الطالب عبد الله الولاتي. الطبعة الأولى بالمطبعة المولوية بفاس سنة: 1321هـ. 96- الفروق. تأليف شهاب الدين أبي العبّاس أحمد بن إدريس القرافي. دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت. لبنان. 97- فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 تأليف الشيخ محب الله بن عبد الشكور. طبعة جديدة بالأوفست مؤسسة الحلبي. القاهرة. عن الأولى بالمطبعة الأميرية سنة: 1322هـ. 98- فيض القدير شرح الجامع الصغير. تأليف ظفر محمّد العثماني التهاوني، الناشر مكتبة المطبوعات الإسلامية. حلب، الطبعة الثالثة سنة: 1391هـ/1971م. تحقيق عبد الفتاح أبو غده. لبنان. 100- القاموس المحيط. تأليف الإمام مجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي. الطبعة الثانية، سنة: 1371هـ/1952م. مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. 101- كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي. تأليف الإمام علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري المتوفى سنة: 730هـ. دار الكتاب العربي. بيروت، لبنان. طبعة جديدة بالأوفست سنة: 1394هـ/1974م. 102- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. تأليف الشيخ إسماعيل محمّد العجلوني المتوفى سنة: 1162هـ. الطبعة الثانية سنة: 1351هـ. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 103- الكفاية في علم الرواية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن عليّ بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي. المتوفى سنة: 463هـ. تقديم محمّد الحافظ التيجاني، ومراجعة عبد الحليم محمّد عبد الحليم وغيره. الطبعة الأولى. مطعبة السعادة. 104- لسان العرب. تأليف الإمام أبي الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور. دار صادر للطباعة والنشر. بيروت. سنة: 1374هـ/1955م. 105- المحلى. تأليف الإمام أبي محمّد عليّ بن أحمد بن حزم. طبعة جديدة. تصحيح حسن زيدان. الناشر مكتبة الجمهورية العربية لعبد الفتاح عبد الحميد مراد. مصر. سنة: 1389هـ/1969م. دار الاتحاد للطباعة. 106- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. لابن القيم واختصار الشيخ محمّد بن الموصلي. تصحيح زكريا عليّ يوسف. مطعبة الإمام. شارع فرقول بالمنشية بمصر. 107- مختصر المنتهى الأصولي. للإمام ابن الحاجب المالكي المتوفى سنة: 646هـ. مراجعة وتصحيح شعبان محمّد إسماعيل. 1393هـ/1973م. الناشر مكتبة الكليات الأزهرية. شار الصنادقية بالأزهر. مع شرحه وحواشيه. 108- مختارات الشعر الجاهلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 شرح وتحقيق وضبط مصطفى السقا. مصطفى البابي الحلبي بمصر. الطبعة الثانية. سنة: 1368هـ/1948م. هذا بالنسبة للجزء الأوّل منه. أما الجزء الثاني فهو شرح وتحقيق وضبط محمّد سيد كيلاني. 109- مختار الصحاح. للإمام محمّد بن أبي بكر الرازي. رتبه محمود خاطر بك. الناشر دار الفكر. 1392هـ/1972. 110- المدخل في أصول الحديث. تأليف الإمام الحاكم أبي عبد الله محمّد بن عبد الله النيسابوري. المتوفى سنة: 405هـ. المطبعة العلمية بحلب سنة: 1368هـ/1932م. 111- المدخل إلى مذهب الإمام أحمد. تأليف الشيخ عبد القادر بن أحمد المعروف بابن بدران. دار الطباعة المنيرية بشارع الكحالين. 112- المدوّنة الكبرى لإمام دار الهجرة مالك بن أنس. رواية الإمام سحنون بن سعيد عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم. الطبعة الأولى. الناشر محمّد الساسي المغربي. مطبعة السعادة. مصر. سنة: 1323هـ. 113- مذكرة أصول الفقه. تأليف العلامة الشيخ محمّد الأمين بن محمّد المختار الجكني الشنقيطي من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 114- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح. تأليف عليّ بن سلطان محمّد القاري. 115- المستصفى من علوم الأصول. للإمام أبي حامد محمّد محمّد بن محمّد الغزالي. ومعه فواتح الرحموت. طبعة جديدة بالأوفست. مؤسسة الحلبي. عن الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية ببولاق بمصر. سنة: 1322هـ. 116- المسودة في أصول الفقه. لآل تيمية. تحقيق وضبط وتعليق محمّد محي الدين عبد الحميد. مطبعة المدني. القاهرة. 117- المعتمد في أصول الفقه. تأليف أبي الحسين البصري المعتزلي: تحقيق محمد حميد الله وغيره، دمشق سنة 1384هـ/1964م. 118- المغنى. تأليف أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى سنة620هـ. تصحيح الدكتور محمد خليل هراس. مطبعة الإمام. القاهرة. 119- المقدمات الممهدات. تأليف الإِمام الحافظ أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة520هـ. الطبعة الأولى. الناشر الحاج محمد أفندي الساسي، المغربي التونسي، مطبعة السعادة. مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 120- المنتقى شرح موطأ الإِمام مالك. تأليف القاضي أبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد الباجي. (403-494هـ) . الطبعة الأولى سنة 1331هـ. مطبعة السعادة. مصر. 121- المنتقى من السنن المسندة. تأليف أبي محمد عبد الله بن الجارودي المتوفى سنة307هـ. مطبعة العمالة سنة 1382هـ/1963م. تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني. 122- المنتقى من مناهج الاعتدال في نقض كلام أهل الزيغ والاعتزال. اختصار الحافظ أبي عبد الله محمد بن عثمان الذهبي (673-748هـ) حققه وعلق عليه محب الدين الخطيب. 123- المنخول من تعليقات الأصول. تأليف أبي حامد محمد بن محمد الغزالي. حققه وعلق عليه محمد حسن هيتو. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. 124- المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد. تأليف مجير الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن. حقق أصوله وفصله ... محمد محي الدين عبد الحميد. مطبعة المدني. مصر. 125- منهج السالك إلى ألفية ابن مالك. تأليف علي بن محمد الأشموني. حققه محمد محي الدين عبد الحميد. إدارة الكتاب العربي، بيروت، سنة 1375هـ/1955م. 126- موطأ الإمام مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقي. 127- الموافقات في أصول الشريعة. تأليف إبراهيم بن موسى الشاطبي. شرحه وضبطه ورقمه ووضع تراجمه الأستاذ عبد الله دراز. 128- مواهب الجليل شرح مختصر خليل. تأليف أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب، المتوفى 954هـ. ملتزم الطبع والنشر مكتبة النجاح، سوق الترك، طرابلس، ليبيا. 129- النحو الواضح. تأليف عباس حسن. الطبعة الرابعة، دار المعارف بمصر. 130- نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. تأليف الشيخ الحافظ ابن حجر العسقلاني. مطبوعات دار الترجمة والتأليف والنشر بالجامعة السلفية بنارس. (الهند) سنة 1394هـ/1974م. 131- نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر. تأليف الشيخ عبد القادر أحمد مصطفى بدران. المطبعة السلفية بمصر. سنة 1342هـ. محب الدين الخطيب. 132- نزهة المشتاق شرح اللمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 تأليف محمد يحيى بن الشيخ أمان. مطبعة حجازي. القاهرة. سنة 1370هـ/1951م. الناشر المكتبة العلمية بمكة. 133- نشر البنود شرح مراقي السعود. تأليف سيد عبد الله إبراهيم العلوي الشنقيطي، وبهامشه الضياء اللامع في شرح جمع الجوامع، الطبعة الحجرية بالمغرب. 134- النكت على كتاب ابن الصلاح وألفية العراقي. تأليف الحافظ ابن حجر. مخطوطة مصورة بالجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة. 135- نهاية السول شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول. تأليف جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي المتوفى سنة 772هـ. ومعه شرح البدخشي. مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بمصر. 136- نيل السول شرح مرتقى الأصول. تأليف العلامة محمد يحيى الولاتي، الطبعة الأولى المولوية بفاس سنة 1321هـ. بهامش فتح الودود للمؤلف. 137- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار. تأليف محمد بن عن بن محمد الشوكاني. الطبعة الأخيرة. ملتزم الطبع والنشر شركة مصطنى البابي الحلبي. مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 138- هدى الساري مقدمة فتح الباري. تأليف الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني. أخرجه وصححه محب الدين الخطيب. المطبعة السلفية ومكتبتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374