الكتاب: حصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول المؤلف: عبد الله بن صالح الفوزان الناشر: مكتبة الرشد عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- حصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول عبد الله الفوزان الكتاب: حصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول المؤلف: عبد الله بن صالح الفوزان الناشر: مكتبة الرشد عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: فإن رسالة "ثلاثة الأصول وأدلتها"1 للشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رسالة موجزة جامعة في موضوع توحيد الربوبية والألوهية والولاء والبراء وغير ذلك من المسائل المتعلقة بعلم التوحيد، الذي هو من أشرف العلوم وأجلها قدراً، كتبها الشيخ رحمه الله مقرونة بالدليل بأسلوب سهل ميسر لكل قارئ؛ فأقبل الناس عليها حفظاً وتدريساً؛ لأنها كتبت بقلم عالم جليل من علماء الإسلام نهج منهج السلف الصالح داعياً إلى التوحيد ونبذ البدع والخرافات وتنقية الإسلام مما علق به من أوهام. ويظهر ذلك جلياً في معظم مؤلفات الشيخ ورسائله، فجاءت هذه الرسالة خلاصة وافية لمباحث مهمة لا يستغني عنها المسلم ليبني دينه على أسس سليمة وقواعد صحيحة؛ ليجني ثمرات ذلك سعادة في الدنيا وفلاحاً في الدار الآخرة.   1 هذا العنوان هو أول ما عنونت به هذه الرسالة في طباعتها الأولى، ومنها على سبيل المثال مجيء الرسالة بهذا العنوان ص95 في مجموع طبع بدار المعارف في مصر بتصحيح ومراجعة أحمد محمد شاكر، وقال جامعها محمد النجار: إنه فرغ من جمعها في 24/3/1316هـ، ولها عناوين أخرى. فراجع: "عقيدة الشيخ محمد عبد الوهاب" للدكتور صالح العبود: ص132 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 لذا رأيت أن أكتب عليها شرحاً متوسطاً في تفسير آياتها وشرح أحاديثها وتوضيح مسائلها إسهاماً في تسهيل الاستفادة منها، والتشجيع على حفظها وفهمها بعد أن قمت بشرحها للطلبة في المسجد بحمد لله تعالى، وسميته: "حصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول". وقد اعتمدت على نسخة الأصول التي عليها حاشية الشيخ عبد الرحمن قاسم رحمه الله؛ لأنها مطابقة لما في مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي قوبلت على عدة نسخ أهمها مخطوطة المكتبة السعودية بالرياض كما قال مصححوها، وهي في قسم العقيدة والآداب الإسلامية ص183 من مؤلفات الشيخ رحمه الله. وختاماً أسأل الله تعالى أن يجزل الأجر والثواب لمؤلفها وكل من ساهم بتوضيح العقيدة وبيان البدع والتحذير منها، كما أسأله وهو أكرم مسئول أن يجعل عملي صالحاً ولوجهه خالصاً ولعباده نافعاً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه عبد الله بن صالح الفوزان مساء الجمعة 19/12/1417هـ في بريدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ترجمة موجزة لمؤلف الرسالة1 هو الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي "من المشارفة أحد فروع الوهبة" من قبيلة تميم. ولد الشيخ -عليه رحمة الله- عام 1115هـ في بلدة العيينة، وتلقى فيها علومه الأولية. فتعلم القرآن وحفظه على ظهر قلب قبل بلوغه عشر سنين، وكان حاد الفهم وقاد الذهن ذكي القلب سريع الحفظ، واجتمع له مع هذه الملكات وراثة علمية ووسط ديني صالح تربى فيه، فجده كان عالماً جليلاً، ووالده قاضي المدينة؛ فأخذ عن مشايخ بلده ثم رحل في طلب العلم إلى الحجاز واليمن والبصرة، فحاز علوماً وحفظ متوناً، قرأ كثيراً من كتب الحديث والتفسير والأصول، وعني عناية خاصة بمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، وتأثر بأفكارهما واستنار بآرائهما مما كان له أثر واضح على دعوة الشيخ ومنهجه. عاد الشيخ من هذه الرحلات العلمية المباركة إلى حريملاء حيث كان والده قد انتقل إليها من العيينة لخلاف بينه وبين أميرها، فدرس على والده في حريملاء ودعا إلى توحيد الله تعالى وبين بطلان ما عليه عباد القبور. ولما توفي والده عام 1153هـ أعلن دعوته إلا أنه ما لبث أن قرر أن "حريملاء" لا تصلح أن تكون منطلقاً للدعوة فانتقل منها فيما يقارب عام 1155هـ إلى "العيينة" فناصره أميرها عثمان بن معمر أول الأمر ثم خذله؛   1 هذه الترجمة مأخوذ من عدة مصادر، وقد ترجم للشيخ كثيرون، فانظر: "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للدكتور صالح العبود: ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فانتقل الشيخ إلى "الدرعية" وهيأ الله له الأمير محمد بن سعود فقويت وانتشرت دعوته فأخذ ينشر التوحيد ويجاهد في إحياء السنة وإماتة البدعة، ويدرس العلوم النافعة ويؤلف الكتب على طريقة السلف الصالح وأخذ عنه كثيرون وخلف من التلاميذ الكبار من نفع الله بهم الإسلام وأهله كما نفع به. وقد مد الله تعالى في عمر الشيخ فعاش في "الدرعية" بعد انتقاله إليها قرابة خمسين عاماً قضاها في الدعوة إلى الله وتطبيق مبادئها بهدم القباب المقامة على القبور وقطع الأشجار التي يتبرك بها الناس وإقامة الحدود والجهاد والعمل على نشر الدعوة فقرت عينه بانتصار كلمة الحق وشمولها أجزاء الجزيرة، وقد وافته المنية يوم الاثنين آخر شهر شوال سنة 1206هـ كان عمره نحو اثنين وتسعين سنة، ومات ولم يخلف ديناراً ولا درهماً، فلم يوزع بين ورثته مال ولم يقسم. رحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين الجزاء الأوفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بسم الله الرحمن الرحيم   بدأ المصنف هذه الرسالة بالبسملة اقتداء بكتاب الله تعالى، وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يبدأ كتبه بالبسملة. فقد ورد في "صحيح البخاري" في كتاب بدء الوحي: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ... "1 أما الأحاديث القولية في مسألة البسملة، كحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر" فهي أحاديث ضعفها العلماء2. والبدء بالبسملة يدل عليه أمران: الأول: كتاب الله تعالى حيث بدئ بالبسملة. والثاني: ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم في كتاباته إلى الملوك. وقوله: "بسم الله"، هذا جار ومجرور متعلق بمحذوف يقدر متأخراً، والقاعدة في متعلق الجار والمجرور أنه يقدر متقدماً، وهذا هو الأصل لكن في البسملة يقدر متأخراً؛ ليحصل التبرك بالبدء بالبسملة، وأما نوعية المقدر   1 "صحيح البخاري": "رقم7"، "صحيح مسلم": "رقم1773"، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. 2 هذا الحديث أخرجه الخطيب في "الجامع": "2/69، 70"، والسبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" المقدمة: "ص12"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث ضعيف جداً؛ لأنه من رواية أحمد بن محمد بن عمران المعروف بابن الجندي، قال الخطيب في "تاريخه""5/77": "كان يضعف في روايته ويطعن عليه في مذهبه"، أي: في التشيع. وقال ابن عراق في "تنزيه الشريعة المرفوعة" "1/33": "شيعي اتهمه ابن الجوزي بالوضع"اهـ. والحديث ضعفه الحافظ ابن حجر رحمه الله على ما نقله في "الفتوحات الربانية": "3/209". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   فإنه يقدر بما يناسب المقام، فالذي يقرأ يكون التقدير: "بسم الله أقرأ"، والذي يكتب إذا قال: "بسم الله الرحمن الرحيم"، يعني: بسم الله أكتب، وعلى هذا يقاس باقي الأفعال، فإذا قال: "بسم الله أكتب"؛ حصلت البداءة ببسم الله، ولكن لو قال: "أكتب بسم الله"؛ لصارت البداءة بغير البسملة لهذا يقدر المتعلق متأخراً. والمراد باسم الله هنا: كل اسم من أسماء الله تعالى، ولفظ الجلالة "الله" اسم من أسماء الله تعالى الخاصة به ومعناه: المألوه حبّاً وتعظيماً. وقوله: "الرحمن" هذا اسم من أسماء الله الخاصة به، ومعناه ذو الرحمة الواسعة. وقوله: "الرحيم" هذا اسم من أسماء الله ومعناه موصل رحمته إلى من يشاء من عباده. قال ابن القيم رحمه الله: "الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم , فكان الأول للوصف , والثاني للفعل , فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 1، {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2 ولم يجئ قط: رحمن ربهم. فعلم أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته"3.   1 سورة الأحزاب، الآية: 43. 2 سورة التوبة، الآية: 117. 3 "بدائع الفوائد": "1/24". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 اعلم رحمك الله   قوله: "اعلم رحمك الله"، هذا دعاء من المصنف رحمه الله لك أيها القارئ يدل على محبته لك وشفقته عليك وأنه راغب في حصول الخير لك، والشيخ رحمه الله يستعمل مثل هذه العبارة كثيراً، يقول: "اعلم رحمك الله"، "اعلم أرشدك الله لطاعته"، "أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة". وكلمة "اعلم" يؤتى بها من باب التنبيه وحث السامع على أن يصغي لما سيقال، فهي أمر بتحصيل العلم والتهيؤ لما سيلقى إليك من العلوم. ولهذا ينبغي للمتكلم إذا تحدث أمام الناس أن يستعمل معهم بين حين وآخر العبارات التي تشد أذهانهم معه؛ لأن السامع بطبيعته يحتاج إلى ما يحرك ذهنه ويثير انتباهه، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرح السؤال بين حين وآخر على الصحابة: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ "، "أتدرون ماذا قال ربكم؟ "، "أتدرون ما الغيبة؟ "، والقصد من هذا أن السامعين يستعدون لسماع ما سيقال لهم، وهذا يعتبر من باب اختيار المقدمات المناسبة للكلام. وقوله: "رحمك الله" جملة خبرية لفظاً، إنشائية معنى؛ لأن المراد بها الدعاء للمتعلم بالرحمة، أي: غفر الله لك ما مضى من ذنوبك ووفقك وعصمك فيما يستقبل، هذا إذا أفردت الرحمة، وإذا قرنت بالمغفرة: فالمغفرة لما مضى، والرحمة لما يستقبل بالتوفيق للخير والسلامة من الذنوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 المسائل الاربع العلم ... أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: "الأولى" العلم،   قوله: "يجب علينا تعلم أربع مسائل: ألأولى: "العلم"، المراد هنا: الوجوب العيني، وهو ما يجب أداؤه على كل مكلف بعينه. والتعلم: تحصيل العلم، والعلم: معرفة الهدى بدليله. والمراد بالعلم هنا: العلم الشرعي، والمقصود به ما كان تعلمه فرض عين، وهو كل علم يحتاج إليه المكلف في أمر دينه، كأصول الإيمان وشرائع الإسلام، وما يجب اجتنابه من المحرمات، وما يحتاج إليه في المعاملات، ونحو ذلك مما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب عليه العلم به. 1 قال الإمام أحمد رحمه الله: يجب أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه، قيل له: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله: صلاته وصيامه، ونحو ذلك2 فالواجب على المسلم أن يتعلم ما يجب عليه من أمر دينه مما يتعلق بعقيدته وعبادته ومعاملته، وعليه أن يسأل أهل العلم، ويحذر من الإعراض عما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وعليه أن يقبل النصح والتوجيه، وينقاد للحق. فهذه صفة المؤمن الحق. أما العلم الذي تعلمه فرض كفاية كتفاريع المسائل الفقهية والاطلاع على أقوال العلماء ومعرفة الخلاف ومناقشة الأدلة فهذا ليس بواجب على كل مسلم، فإذا وجد من يقوم به من أهل العلم صار في حق الباقين سنة.   1 أنظر: "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر: "ص31"، "حاشية ابن قاسم على ثلاثة الأصول": "ص14". 2 "الفروع" لابن مفلح: "1/525". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.   ومما يدل على أن العلم واجب حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" 1 وقد فسر الشيخ رحمه الله العلم الذي لابد من تعلمه بأنه يتناول ثلاثة أمور، فقال: "وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة".   1 أخرجه من أصحاب الكتب الستة ابن ماجه: "1/81"، وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": "رقم2837"، والطبراني في "الأوسط": "1/33"، وغيرهم كثيرون. وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث، فمنهم من صححه ومنهم من ضعفه، فقد نقل ابن الجوزي في "العلل" "1/66" قول الإمام أحمد: "لا يثبت عندنا في هذا الباب شيء". والحديث مروي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم وله طرق جمعها السيوطي في جزء مطبوع. ورواه ابن الجوزي في "العلل": "1/57" من أربعة عشر طريقاً، من حديث أنس رضي الله عنه ثم تكلم عليها. ولعل تعدد رواته وطرقه يدل على أن له أصلاً. وقد صححه بعض الحفاظ المتأخرين، قال ابن عراق في "تنزيه الشريعة" "1/258": "قال الحافظ المزي الشافعي: وله طرق كثيرة عن أنس، يصل مجموعها إلى مرتبة الحسن ... وفي "تلخيص الواهيات" للذهبي: روي عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وجابر وأنس وأبي سعيد، وبعض طرقه أوهى من بعض، وبعضها صالح، والله أعلم". ومال السخاوي في "المقاصد": "ص275" إلى تصحيحه، ونقل المناوي في "فيض القدير": "4/354" أن السيوطي حسنه. وممن صححه الألباني في "تخريج أحاديث مشكلة الفقر" وقال بعد أن تكلم عن طرقه: "إن طرقه يقوي بعضها بعضاً، بل أحدها حسن، فالحديث بمجموع ذلك صحيح بلا ريب عندي". قال السخاوي في "المقاصد" "ص277": "قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث "ومسلمة" وليس لها ذكر في شيء من طرقه، وإن كان معناها صحيحاً" اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وخص الشيخ رحمه الله هذه الأمور؛ لأنها هي أصول الإسلام التي لا يقوم إلا عليها، وهي التي يسأل عنها العبد في قبره. فالإنسان إذا عرف ربه وعرف نبيه وعرف دين الإسلام بالأدلة كمل له دينه، فهذا هو العلم الشرعي الذي لابد منه. وقوله: "معرفة الله"، أي: أن معرفة الله تعالى هي أساس الدين، ولا يكون الإنسان على حقيقة من دينه إلا بعد العلم بالله تعالى، وذلك بالنظر في الآيات الشرعية من الكتاب والسنة، والنظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات، وهذه المعرفة تستلزم قبول ما شرعه الله تعالى والانقياد له. وقول: "ومعرفة نبيه"، أي: أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مكلف، وأحد مهمات الدين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله تعالى. وهذه المعرفة تستلزم قبول ما جاء به من عند الله تعالى من الهدى ودين الحق1. سيأتي -إن شاء الله تعالى- تفصيل ذلك في محله. وقوله: "ومعرفة الإسلام بالأدلة"، الإسلام له معنيان: معنى عام ومعنى خاص؛ لأنه قد وردت أدلة تدل على أن الإسلام خاص بهذه الأمة ووردت أدلة على أن الإسلام في الشرائع السابقة، فتحريراً للمسألة نذكر كلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الموضوع2، وهو أن   1 انظر: "شرح الشيخ ابن عثيمين للأصول الثلاثة" "ص13"، و"حاشية ابن قاسم": "ص15". 2 "مجموع الفتاوى": "3/94". وانظر: "تفسير ابن كثير": "3/377". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الإسلام بالمعنى العام يراد به: عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا دين الأنبياء عموماً، قال الله -عز وجل- عن التوراة وأنبياء بني إسرائيل: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} 1، فوصف الله -سبحانه وتعالى- أنبياء بني إسرائيل بالإسلام مما يدل على أن الإسلام ليس خاصاً بهذه الأمة بل هو عام، وذكر الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 2، وعن أبناء يعقوب عليه السلام: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 3، فهذا هو الإسلام بالمعنى العام. أما الإسلام بالمعنى الخاص فيراد به: الدين الذي بعث الله نبيه محمداً به وجعله خاتمة الأديان لا يقبل من أحد دين سواه، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4، وقال تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} 5، فهذه الآية تفيد أن الله تعالى ارتضى لهذه الأمة الإسلام ديناً، فيفسر بالمعنى الخاص. وقوله: "بالأدلة" جمع دليل. والدليل فعيل بمعنى: فاعل. من   1 سورة المائدة، الآية: 44. 2 سورة يونس، الآية: 84. 3 سورة البقرة، الآية: 133. 4 سورة آل عمران الآية: 85. 5 سورة المائدة، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 العمل بالعلم، دليله ... الثانية العمل به.   الدلالة، وهي الإرشاد. فالدليل هو المرشد إلى المطلوب. وهو إما سمعي: وهو ما ثبت بالوحي من كتاب أو سنة. وإما عقلي: وهو ما ثبت بالنظر والتأمل. وسيأتي شيء من ذلك في أثناء الرسالة. وفي كلام الشيخ رحمه الله إشارة إلى أن التقليد لا ينفع في باب العقائد، وأنه لابد من معرفة دين الإسلام بالأدلة من كتاب أو سنة أو إجماع. قوله المصنف رحمه الله: "الثانية: العمل به"، أي: العمل بالعلم؛ لأن العلم لا يطلب إلا للعمل، وذلك بأن يتحول العلم إلى سلوك واقعي يظهر على فكر الإنسان وتصرفه، وقد وردت النصوص الشرعية في وجوب إتباع العلم بالعمل. وظهور آثار العلم على طالبه. وورد الوعيد الشديد لمن لا يعمل بعلمه. ولم يبدأ بإصلاح نفسه قبل إصلاح غيره، وهي أدلة معروفة معلومة1. وما أحسن قول الفضيل بن عياض رحمه الله: "لا يزال العلم جاهلاً حتى يعمل بعلمه فإذا عمل به صار عالماً". وهذا كلام دقيق؛ لأنه إذا كان عنده علم ولكنه لا يعمل بهذا العلم فهو جاهل؛ لأنه ليس بينه وبين الجاهل فرق إذا كان عنده علم ولكنه لا يعمل به، فلا يكون العالم عالماً حقاً إلا إذا عمل بما علم، ثم إن العمل إضافة إلى أنه حجة للإنسان فهو أيضاً من أسباب ثبات العلم وبقائه، ولهذا تجد الذي يعمل بعلمه يستحضر علمه، أما الذي لا يعمل بعلمه، فسرعان ما يضيع علمه، قال بعض السلف: "كنا   1 انظر كتابي: "العمل بالعلم"، ط1، دار المسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"1. أضف إلى هذا ما قاله بعض أهل العلم: "من عمل بما علم أورثه الله علم مالم يعلم، ومن لم يعمل بما علم أوشك الله أن يسلبه ما علم"، وهذا يذكره بعضهم على أنه حديث2، وهذا ليس بصحيح3، إنما هي عبارة مأثورة ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله، ومعنى أورثه الله علم ما لم يعلم، أي: زاده إيماناً ونور بصيرته وفتح عليه من العلوم أنواعاً وفروعاً؛ ولهذا تجد العالم العامل بازدياد، ويبارك الله في وقته وعلمه، ودليل هذا في كتاب الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 4، قال الشوكاني: "زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين، أي: والذي اهتدوا إلى طريق الخير فآمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين"5. فعلى المسلم أن يدرك أهمية العمل بالعلم، وأن الإنسان الذي لا يعمل بعلمه سيكون علمه حجة عليه. كما ورد في حديث أبي برزة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، ومنها: وعن علمه ماذا عمل فيه" 6، وهذا لا يخص العلماء كما قد   1 انظر: "اقتضاء العلم العمل": "ص90". 2 كالبيضاوي في "تفسيره" عند قوله تعالى: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} ، وراجع: "حلية الأولياء" لأبي نعيم: "10/15". 3 انظر: "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني: "1/432، رقم422". 4 سورة محمد، الآية: 17. 5 "فتح القدير": "5/35". 6 أخرجه الترمذي: "7/101-تحفة"، وقال: حديث صحيح. وانظر "الصحيحة" للألباني: "رقم 946"، "واقتضاء العلم العمل" للخطيب البغدادي: "ص16، وما بعدها"، و"صحيح الترغيب والترهيب": "1/125 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 "الثالثة" الدعوة إليه.   يفهم بعض الناس بل كل من علم مسألة من المسائل قامت عليه الحجة فيها، فإذا سمع إنسان فائدة في محاضرة أو خطبة جمعة تضمنت تحذيراً من معصية هو واقع فيها، فعلم أن هذه المعصية التي وقع فيها أنها أمر محرم، فهذا علم. فتقوم عليه الحجة بما سمع. وقد ثبت في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والقرآن حجة لك أو عليك" 1. قول المصنف رحمه الله: "الثالثة: الدعوة إليه"، أي: الدعوة إلى توحيد الله وطاعته ، وهذه وظيفة الرسل وأتباعهم، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 2؛ لأن الإنسان إذا كملت قوته العلمية بالعلم وقوته العملية بالعمل؛ فإن عليه أن يسعى إلى بذل الخير للآخرين تأسياً برسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام. والدعوة إلى الله تعالى أمرها عظيم، وثوابها جزيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" 3. والدعوة لا تؤتى ثمارها وتكون وسيلة إصلاح وبناء، إلا إذا كان الداعي متصفاً بما يكون سبباً لقبول دعوته وظهور أثرها. ومن ذلك:   1- أخرجه مسلم: "3/101" من حديث طويل. 2 سورة يوسف، الآية: 108. 3 أخرجه البخاري: "رقم4210"، ومسلم: "رقم2406". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   1- التقوى: ويقصد بها كل معانيها من امتثال المأمور واجتناب المحظور، والتحلي بصفات أهل الإيمان. 2- الإخلاص: بأن يقصد بدعوته وجه الله تعالى ورضاه، والإحسان إلى خلقه ويحذر من أن يقصد إظهار التميز على غيره. وإذلال المدعو بإشعاره بالجهل والتقصير. 3- العلم: فلا بد أن يكون الداعي عالماً بما يدعو به، ذا فهم لما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسير السلف الصالح. 4- الحلم وضبط النفس عن الغضب؛ لأن ميدان الداعية صدور الرجال ونفوس البشر، وهي متباينة ومختلفة كاختلاف صورهم وأشكالهم. 5- أن يبدأ بالأهم فالأهم على حسب بيئة التي يدعو فيها. فمسائل العقيدة وأصول الدين تأتي في المقام الأول. وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمداً رسول الله ... الحديث" 1. 6- أن يسلك في دعوته المنهج الذي نص الله عليه في كتابه الكريم، يقول سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 2، والحكمة معرفة الحق والعمل به والإصابة في القول والعمل، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع   1 أخرجه البخاري: "رقم1395"، ومسلم: "رقم19"، كتاب الإيمان. 2 سورة النحل، الآية: 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 "الرابعة" الصبر على الأذى فيه.   الإسلام وحقائق الإيمان {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، وإلانة القول وتنشيط الموعوظ. {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فيسلك كل طريق يكون أدعى للاستجابة: من الالتزام بالموضوع والبعد عن الانفعال والترفع عن المسائل الصغيرة في مقابل القضايا الكبرى حفظاً للوقت وعزة للنفس وكمالاً للمروءة1. قوله: "الرابعة: الصبر على الأذى فيه"، أي: الرابعة من المسائل الأربع: الصبر على الأذى في الدعوة إلى الله تعالى، بأن يكون الداعية صابراً على ما يناله من أذية الناس؛ لأن الدعاة من طبيعة البشر إلا من هدى الله كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} 2. فيجب على الداعية أن يكون صابراً على دعوته مستمراً فيها، صابراً على ما يعترض دعوته أو ما يعترضه هو من الأذى؛ لأن الداعية يطلب من الناس أن يتحرروا من شهواتهم ورغباتهم، وعادات أقوامهم، ويقفوا عند حدود الله تعالى في أوامره ونواهيه وأكثر الناس لا يؤمن بهذا المنهج. فلهذا يقاومون الدعوة بكل قوة، ويحاربون دعاتها بكل سلاح، قال   1 انظر: "مدارج السالكين": "2/478"، "تفسير ابن سعدي": "3/92"، ورسالة "مفهوم الحكمة في الدعوة" للدكتور صالح بن حميد. 2 سورة الأنعام، الآية: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .   تعالى عن لقمان الحكيم في وصيته لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 1. وعلى الداعية أن يتأسى بالرسل الكرام الذين قص الله علينا أخبارهم، وما حصل لهم من مشاق الدعوة ومتاعبها من إعراض الناس عن دعوتهم وأذيتهم بالقول والفعل مع طول الطريق واستبطاء النصر، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 2، وقد جعل الله تعالى العاقبة للمتقين، وكتب النصر لدعاة الحق، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} 3. قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 4" استدل المصنف رحمه الله على هذه المسائل الأربع بسورة عظيمة لا تزيد على ثلاث آيات وهي سورة العصر, فالمسألة الأولى والثانية في قوله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، فإن الإيمان لا يكون صحيحاً، والعمل لا يكون صالحاً إلا بعلم بأن يعبد الله   1 سورة لقمان، الآية: 17. 2 سورة الأحقاف، الآية: 35. 3 سورة البقرة، الآية: 214. 4 سورة العصر، الآيات: 1-3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   على بصيرة. والمسألة الثالثة في قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} . والرابعة في قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . وقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} هذا قسم، والعصر المراد به: الزمن الذي تقع فيه الأحداث من خير أو شر. أقسم الله به؛ لأن أفعال الناس وتصرفاتهم كلها تقع في هذا الزمن فهو ظرف يودعه العباد أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر فهو جدير أن يقسم به. وقيل: {وَالْعَصْرِ} ما بعد العشي وهو آخر النهار، ومنه صلاة العصر، والأول هو الأظهر في معنى الآية، والله أعلم1. وجواب القسم قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ، فالله تعالى يقسم بالعصر على أن الإنسان في خسر. والألف واللام للاستغراق والشمول بدليل الاستثناء بعده، أي: كل إنسان في خسر، كقوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} 2. والخسر: هو النقصان والهلكة؛ لأن حياة الإنسان هي رأس ماله، فإذا مات ولم يؤمن ولم يعمل صالحاً خسر كل الخسران. ولم يبين هنا نوع الخسران في أي شيء بل أطلق ليعم، فقد يكون مطلقاً كحال من خسر الدنيا والآخرة وفاته النعيم، واستحق الجحيم وقد يكون خاسراً من بعض الوجوه دون بعض.   1 انظر: "التبيان في أقسام القرآن": "ص61". 2 سورة النساء، الآية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والذي يستفاد من مفهوم الآية أن الخسران قد يكون بالكفر- والعياذ بالله- قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1، وقال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} 2، وقد يكون بترك العمل قال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} 3، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً4} ، وقال تعالى: {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 5، وقد يكون الخسران بترك التواصي بالحق كلية أو التواصي بالباطل. وليس بعد الحق إلا الضلال. وقد يكون بترك الصبر كلية أو بالوقوع في الهلع والجزع، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} 6. والمقصود أن الإنسان في خسر مهما كثر ماله وولده، وعظم قدره وشرفه إلا من اتصف بالصفات الأربع. فعلى الإنسان أن يتأمل حاله ويعلم يقيناً أنه لا نجاة للعبد من الخسران إلا بهذا الطريق الذي رسمه الله تعالى.   1 سورة الزمر، الآية: 65. 2 سورة الأنعام، الآية: 31. 3 سورة المؤمنون، الآية: 103. 4 سورة النساء، الآية: 119. 5 سورة المجادلة، الآية: 19. 6 انظر: "أضواء البيان" التتمة: "9/495"، "تفسير ابن السعدي": "5/453"، والآية من سورة الحج، رقم: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قال الشافعي رحمه الله: لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلا هذه السورة لكفتهم.   وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا هو الوصف الأول لمن يسلم من الخسار وهو وصف الإيمان، والمعنى: إلا الذين آمنوا بما أمر الله تعالى من الإيمان به، وهو الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين، وكل ما يقرب إلى الله تعالى من اعتقاد صحيح وعلم نافع. وقوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} المراد بالعمل الصالح: أفعال الخير كلها سواء كانت ظاهرة أو باطنة، وسواء كانت متعلقة بحقوق الله تعالى، أو متعلقة بحقوق العباد، وسواء كانت من قبيل الواجب أو كانت من قبيل المستحب إذا خالصة صواباً. وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} المراد بالحق في هذه الآية –والله أعلم- هو ما تقدم من الإيمان بالله والعمل الصالح {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} جميع أنواع الصبر، الصبر على طاعة الله وأداء فرائضه والقيام بحقوقه وحقوق عباده فهذا يحتاج إلى صبر، والصبر عن معصية الله؛ لأن النفس أمارة بالسوء فلابد للإنسان أن يصبر لئلا يقع في المعصية. ومن الصبر أيضاً: الصبر عن البطر عند كثرة النعم، فيصبر الإنسان عن البطر والإسراف والتبذير عند وجود النعم أو كثرتها، ومن الصبر أيضاً: الصبر على المصائب وهي ما يصيب الإنسان في هذه الدنيا من مصائب وحوادث فإنه عرضة لذلك. قوله: "قال الشافعي رحمه الله: "لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلا هذه السورة لكفتهم" معنى قول الشافعي: لو أن الله جل وعلا ما أنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   للبشرية منهاجاً، ولا جهل لها طريقاً إلا هذه السورة القصيرة ذات الثلاث الآيات لكانت كافية؛ لأن هذه السورة رسمت المنهج الذي شرعه الله تعالى طريقاً للنجاة وهو الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فهذه الأمور الأربعة هي التي تحصل بها النجاة، فلو أن الله تعالى ما أنزل إلا هذه السورة لكان من أراد الله هدايته يعرف أنه لا نجاة له إلا بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وهذا من الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى، آية واحدة تبين وظيفة الأمة الإسلامية ووظيفة كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية وهي التواصي بالحق والتواصي بالصبر. بعد الإيمان والعمل الصالح فما أعظمها من سورة ولهذا فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما نقل كلام الشافعي قال: "هو كما قال -يعني: ما قال الإمام الشافعي هو في محله- فإن الله جل وعلا أخبر أن جميع الناس خاسرون إلا من كان في نفسه مؤمناً صالحاً ومع غيره موصياً بالحق وموصياً بالصبر" انتهى كلامه1. وقد جاء في تفسير ابن كثير ما يختلف عن العبارة التي ذكرها المصنف فقد جاء فيه قال الشافعي رحمه الله: "لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم"، والمعنى واحد، والله أعلم.   1 "مجموع الفتاوى": "28/152"، وانظر "التبيان" لابن قيم: "ص26". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وَقَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "بَابُ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فبدأ بالعلم قبل القول والعمل".   قوله: "وقال البخاري رحمه الله تعالى"، يعني: في كتاب العلم من "صحيحه": "باب: العلم قبل القول والعمل". وقوله: "باب" يقرأ بالتنوين؛ لأنه مقطوع عن الإضافة، والعلم: مبتدأ، قبل القول: خبر المبتدأ، أفادت هذه الترجمة أن قول الإنسان وعمله لا اعتبار له في ميزان الشرع إلا إذا كان قائماً على العلم، فالعلم شرط لصحة القول والعمل. وقوله: "والدليل" هذا من كلام البخاري، والذي في "الصحيح" أن البخاري قال: "باب: العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى"1، ولكن الشيخ رحمه الله عبر بقوله "والدليل" ليكون أوضح. "قَوْلُهُ تَعَالَى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 2 فبدأ بالعلم قبل القول والعمل"، وهذا من كلام البخاري أيضاً، لكن ليس في "صحيحه" كلمة "قبل القول والعمل" إنما الذي فيه "فبدأ بالعلم"، فإما أن يكون قوله: "قبل القول والعمل" من كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله للتوضيح، أو أنه في نسخة أخرى، وقوله تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يشمل الأمة، وهذا هو العلم.   1 انظر: "صحيح البخاري": "1/159". 2 سورة محمد، الآية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 المسائل الثالث * ... اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مسلم ومسلمة تعلم هذه المسائل الثلاث والعمل بهن:   {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} هذا هو العمل، وقد استدل بعض السلف بهذه الآية على فضل العلم، فقد ذكر أبو نعيم رحمه الله في "الحلية" عن سفيان بن عيينة رحمه الله أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ به فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، ثم أمره بالعمل بعد ذلك فقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 1. ووجه الاستدلال على فضل العلم أن الله تعالى بدأ به فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالعلم قبل أن يأمره بالعمل، وهذا يدلنا على أمرين: أولاً: على فضل العلم. ثانياً: على أن العلم مقدم على العمل. ثم ذكر المصنف مسائل أخرى مفرعة على ما تقدم فقال: "اعلم رحمك الله"، وهذا دعاء من المصنف رحمه الله يدل على حرصه ونفعه لأخيه المسلم كما تقدم. قوله: "أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ تَعَلُّمُ هذه المسائل الثلاث2 والعمل بهن"، هذه المسائل الثلاث مجملها: الأولى في توحيد الربوبية، والثانية في توحيد الألوهية، والثالثة في الولاء والبراء.   1 "حلية الأولياء": "7/305". 2 في نسخة الأصول بحاشية ابن القاسم: "ثلاث هذه المسائل"، وفي "المجموع" المطبوع بدار المعارف في مصر: "تعلم هذه الثلاث مسائل"، ولعل المثبت في الأصل أوضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 توحيد الربوبية وأدلتة ... الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَلَمْ يَتْرُكْنَا هملاً،   وهذه المسائل الثلاث مسائل عظيمة لابد من تعلمها والعمل بها؛ لأنها قاعدة الدين وأساس العقيدة، فـ "الأولى" التي هي توحيد الربوبية "أن الله خلقنا وورزقنا ولم يتركنا هملاً"، هذه ثلاثة أمور: الأولى: أن الله تعالى خلقنا، والدليل على أن الله خلقنا هو السمع والعقل، أما السمع فآياته كثيرة كقوله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1، وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2، أما العقل فقد دل عليه قول الله تعالى في سورة الطور: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 3، ففي هذه الآية دليل عقلي على أنه لابد من خالق، وأنه لم يوجد هذا الكون صدفة؛ لأن القسمة العقلية تقتضي ثلاثة أمور لا رابع لها: إما أننا خلقنا بدون خالق، وهذا لا يمكن؛ لأن الخلق لابد أن يتعلق بخالق كالتحريك يتعلق بمحرك، فلا يمكن للشيء أن يتحرك من مكانه إلا بوجود محرك له، وهذا أمر ضروري يعرفه العقلاء، فكوننا خلقنا بدون خالق هذا لا يمكن، والناس بمقتضى عقولهم –حتى المعاندون منهم- يعرفون هذا، فلو قيل لشخص: إن هناك قصراً من القصور الذي جهز بكل ما تشتهيه الأنفس وتتمناه، ولكن هذا القصر وجد صدفة بدون بناء ولا إعداد لبادر الناس إلى التكذيب، وقالوا: هذا لا يمكن؛ لأن القصر يحتاج إلى بناء، وما فيه يحتاج إلى إعداد، فلابد من عمال وصُناع.   1 سورة الذاريات، الآية: 56. 2 سورة الزمر، الآية: 62. 3 سورة الطور، الآية: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الأمر الثاني: أننا خلقنا أنفسنا، وهذا أشد فساداً مما قبله؛ لأننا معدومون، والمعدوم لا يمكن أن يكون قادراً على إيجاد نفسه؛ لأن العدم نقص، والخلق كمال، فكيف يكون الناقص كاملاً، هذا لا يمكن، فيتعين الأمر الثالث وهو أنه لابد لنا من خالق وهو رب القادر، ولهذا قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} يعني: هل هم خلقوا هكذا دون خالق؟ هذا الأمر الأول، أم هم الخالقون؟ يعني لأنفسهم هذا الأمر الثاني، والأمر الثالث لم تذكره الآية؛ لأنه إذا امتنع الأمر الأول والثاني يتعين الأمر الثالث. وقد ورد في الحديث أن رجلاً مشركاً سمع هذا الآية فدخل الإيمان في قلبه وهو جبير بن مطعم رضي الله عنه كما في "صحيح البخاري"1 أنه جاء في موضوع أسارى بدر والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور فمرت الآية وجبير يسمع فيقول معبراً عن نفسه: "كاد قلبي أن يطير، ومنذ ذلك الوقت وقر الإيمان في قلبي"؛ لأنه من أهل اللسن والفصاحة والبلاغة، فعرف الآية ومعناها وما تدل عليه فوقر الإيمان في قلبه2. قوله: "ورزقنا"، هذا الأمر الثاني مما يتعلق بتوحيد الربوبية، والدليل على أن الله تعالى رزقنا آيات كثيرة من القرآن الكريم، كقول الله تعالى:   1 "2/ 247 – الفتح" في الصلاة، و"6/168" في الجهاد، و"7/323" في المغازي، "8/603" في التفسير. 2 انظر: "الأسماء والصفات" للبيهقي: "ص390". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} 1، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 2، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 3 إلى غير ذلك من الآيات. والرزق: اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله. قال في "القاموس": الرزق –بالكسر-: ما ينتفع به كل مرتزق. والرزق نوعان: 1- خاص: وهو الرزق الحلال للمؤمنين. وهذا هو الرزق النافع الذي لا تبعة فيه إذا كان عوناً على طاعة الله تعالى، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 4. 2- عام: وهو ما به قوام سواء كان حلالاً أو حراماً، وسواء كان المرزوق مسلماً أو كافراً، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 5. وقوله: "ولم يتركنا هملاً" هذا الأمر الثالث، والهمل بالتحريك: هو السدى المتروك ليلاً ونهاراً، ولم يرد اللفظ هذا في القرآن الكريم، إنما الذي ورد في القرآن الكريم: {أَيَحْسَبُ الْإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 6 وورد في   1 سورة الذاريات، الآية: 22. 2 سورة الذاريات، الآية: 58 3 سورة آل عمران، الآية: 37. 4 سورة الأعراف، الآية: 32. 5 انظر: "لوامع الأنوار البهية": "1/343"، والآية من سور هود، رقم: 6. 6 سورة القيامة، الآية: 36 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجنة، ومن عصاه دخل النار.   القرآن الكريم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 1، فالهمل والسدى والعبث بمعنى واحد، وهو المتروك الذي لا يؤمر ولا ينهى، والدليل من السمع على أن الله تعالى لم يتركنا سدى هو ما تقدم. أما الدليل من العقل فإن الله جل وعلا حكيم، فقد خلقنا ورزقنا، وأرسل إلينا الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأوجب علينا طاعتهم، وأمرنا بقتال المعاندين، فلو لم يكن هناك حساب ولا عقاب ولا ثواب ولا جزاء؛ لكان هذا من العبث الذي ينزه الله تعالى عنه. فالله تعالى شرع هذه الأمور لمعاد يحاسب عليه الإنسان المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فهذا الدليل العقلي يدل على أن الله تعالى لم يتركنا هملاً، وأن الجزاء الأخروي تعقبه الحياة الأبدية، وهي الحياة الحقيقية كما في قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} 2 سماها حياة مع أن الدنيا حياة لكنها حياة إلى زوال وانقضاء، وأما حياة البقاء والخلود فهي الحياة في الدار الآخرة، إما في عذاب سرمدي، وإما في نعيم دائم، -نسأل الله الكريم من فضله-. قوله: "بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجنة، ومن عصاه دخل النار". هذا دليل على أن الله تعالى لم يتركنا هملاً، والمراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بقول المصنف "أرسل إلينا"، أي: معشر الأمة، وقد جاء في القرآن الكريم آية عظيمة تبين الغاية من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال   1 سورة المؤمنون، الآية: 115. 2 سورة الفجر، الآية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1 فالغاية من إرسال الرسل: طاعتهم واتباعهم فيما جاءوا به عن الله تعالى، وأما الحكمة من إرسال الرسل فهي هداية البشرية إلى الصراط المستقيم، وبيان عبادة الله تعالى على الوجه المرضي؛ لأن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك. والتلقي لا يمكن عن الله تعالى إلا بواسطة الرسل، فالرسل واسطة بين الله تعالى وبين الخلق، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرع للأمة بعد تشريع الله تعالى {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 2. ثم بين المصنف رحمه الله مآل الطائعين والعصاة بقوله: "فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النار"، وهذا دل عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3، وفي الجانب الآخر: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} 4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" 5.   1 سورة النساء، الآية: 64. 2 سورة يوسف، الآية: 40. 3 سورة النساء، الآية: 13. 4 سورة النساء، الآية: 14. 5 أخرجه البخاري: "13/249 فتح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} .   قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} 1". هذا دليل على المسألة الأخيرة وهي قوله: "بل أرسل إلينا رسولا"، والخطاب في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ} ، يعني: شاهداً على أعمالكم كما في قوله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، وقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} ، هو موسى عليه الصلاة والسلام وعدم تعيينه؛ لعدم دخوله في التشبيه أو لأنه معلوم غني عن البيان2. والمقصود من هذه الآية –والله أعليم- تذكير هذه الأمة بهذه النعمة العظيمة، وهي إرسال هذا النبي الكريم وتحذيرها أن تفعل مثل ما فعل قوم فرعون فيصيبهم ما أصابهم. والمعنى: أن الله جل وعلا أرسل إليكم رسولاً كما أرسل إلى فرعون رسولاً فانظروا ماذا كان موفق فرعون وقومه من الرسول؛ لأن سنة الله واحدة لا تتغير ولا تتبدل قال تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} ، وأصل الوبيل في اللغة بمعنى: الثقيل الشديد، كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما3 "تقول   1 سورة المزمل، الآيتان: 15، 16. 2 "روح المعاني": "29/108". 3 أخرجه البخاري: "8/657 الفتح" معلقاً، ووصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدُ فِي عِبَادَتِهِ لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نبي مرسل   العرب: كلأ وبيل وطعام وبيل، أي: ثقيل رديء العقبى، والطعام الذي يستمرأ تهضمه المعدة براحة وفي وقت قصير، أما إذا كان الطعام لا يستمرأ فإن المعدة لا تهضمه بسهولة وتحتاج إلى وقت أطول، وقد يكون له عواقب وخيمة، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي"1، يعني: عاقبته وخيمة أما الحق فإنه وإن كان الإنسان يحسب أنه ثقيل عليه فهو مري خفيف، عاقبته حميدة، فالله تعالى أخذ فرعون أخذا شديداً مهلكاً؛ وذلك بإغراقه وجنوده في البحر فلم يفلت منهم أحد، ثم بعد ذلك في عذاب البرزخ إلى يوم القيامة ثم عذاب النار، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 2. قوله المصنف رحمه الله: "الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدُ فِي عِبَادَتِهِ لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نبي مرسل" هذه المسألة الثانية هو في توحيد الألوهية ، والمعنى: أن الله جل وعلا يوجب على المكلفين إفراده بالعبادة؛ لأنه هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق له الملك والأمر، فلا يرضى سبحانه وتعالى أن يشرك معه أحد مهما بلغ هذا الشخص من الطهارة والعلو والرفعة، لا ملك مقرب   1 "حلية الأولياء": 1/134"، وانظر: لسان العرب "1/190". 2 سورة غافر، الآية: 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .   ولا نبي مرسل، وإذا كان الله تعالى لا يرضى أن يشرك معه لا ملك مقرب وهو المقربون إلى الله تعالى ولا نبي مرسل وقد اصطفاهم الله سبحانه وتعالى فإن غيرهم من الخليقة من باب أولى؛ لأن العبادة لا تصلح إلا لله تعالى، وصرفها لغير الله ظلم، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1، والله جل وعلا لا يرضى لعباده الكفر، وإنما يرضى لهم الإسلام، كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} 2، وقال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ} 3. قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 4" المساجد جمع مسجد، وهو كل موضع بني للصلاة والعبادة وذكر الله تعالى، والدليل على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد: "إن هذا المسجد لا يصلح لشيء من ذلك إنما بني لذكر الله تعالى وللصلاة"5، وهذه وظيفة المساجد، وهذه الإضافة في الآية إضافة تشريف وتخصيص، ويكون المعنى على التخصيص: أنكم إذا دخلتم المساجد للعبادة فلا تدعوا فيها مع الله أحداً لأنها بيوت الله فكيف تدخل بيته وتدعو معه غيره؟ وقوله تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، {أَحَداً} نكرة، والنكرة في سياق النهي تفيد العموم، أي: فلا تدعوا مع الله أحداً كائناً من كان، لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، وما دون ذلك من باب أولى كما تقدم.   1 سورة لقمان، الآية: 13. 2 سورة المائدة، الآية: 3. 3 سورة الزمر، الآية: 7. 4 سورة الجن، الآية: 18. 5 أخرجه البخاري: "رقم221"، ومسلم: "رقم285". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ ورسوله.   قول المصنف رحمه الله: "الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ ورسوله". هذه المسألة الثالثة وموضوعها الولاء والبراء ، والمعنى: أن من أطاع الرسول فيما أمر، واجتنب ما عنه نهى وزجر، ووحد الله سبحانه، فهذه هي العقيدة الإسلامية، ومن أصول هذه العقيدة: أن يوالي أهلها، ويبغض أهل الشرك ويعاديهم، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوثق على الإيمان: الحب في الله والبغض في الله" 2. فالحب في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله: من مقتضيات ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن لوازم دين محمد صلى الله عليه وسلم، والدليل على هذا –أي: على الثاني- قول الله تعالى كما ذكر المصنف رحمه الله: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } 3 الآية.   1 سورة الممتحنة، الآية: 4. 2 أخرجه الطبراني في "الكبير": "رقم 10357،10531"، والحديث حسنه الألباني في تعليقه على كتاب "الإيمان" لابن أبي شيبة: "ص45". 3 سورة المجادلة، الآية:22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْماً   ومعنى قول المؤلف رحمه الله: "ولا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ" أي: عادى الله ورسوله هذا معنى المحادة. وأصل المحادة في اللغة: أن تكون في جانب، والشخص الذي تعاديه في جانب آخر، ولا ريب أن من لم يطع الله ورسوله فإنه يصدق عليه أنه محاد لله ورسوله، كأنه بتصرفه هذا في جانب، والله –سبحانه- ورسوله صلى الله عليه وسلم في جانب آخر. والموالاة معناها: المصادقة والموادة والمحبة، وهي تشعر بالقرب والدنو من الشيء. وقوله: "ولو كان أقرب قريب"، أي: الولد والوالد؛ لأنهما أقرب قريب للإنسان، إما الأصل وإما الفرع، ثم يأتي بعد هذا الإخوان-وهم الأعوان- ثم بعد هذا تأتي بقية القرابة. لكن في باب الموالاة، وفي باب المعاداة لا قيمة للنسب، فأخوك في العقيدة هو أخوك الحقيقي، وعدوك الحقيقي هو عدوك في العقيدة، فأخوك الحق هو أخوك في العقيدة ولو كان في أقصى الدنيا، وعدوك الحق هو عدوك في العقيدة ولو كان أقرب قريب؛ إذ ليس هناك اعتبار للأنساب في ميزان الإسلام إنما الاعتبار بهذه العقيدة ولهذا أكد الله تعالى هذا المعنى وضرب الأمثلة ببعض القرابة. فقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً} ، والفعل "لا تجد" بضم الدال، وإذا كانت مضمومة فهذا نفي، ويقول علماء البلاغة: إن النفي أبلغ من النهي؛ لأن النهي متعلق بالمستقبل، والنفي متعلق بالماضي والمستقبل، فيكون المعنى: لا تجد في أي وقت من الأوقات قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حاد الله ورسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ   ومعنى {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ، أي: يؤمنون الإيمان الصحيح الذي يتوافق فيه الظاهر مع الباطن، وهذا يفيد أن المعيار الصحيح لمعاداة الكفار هو الإيمان بالله واليوم الآخر، وهذا يوجب على الإنسان أن يتفقد إيمانه، فإن حصل عنده ميل أو ركن لمن يحاد الله ورسوله؛ فعليه أن يراجع نفسه ويتأمل في إيمانه؛ لأن موالاتهم قد تكون دليلاً عل فقد الإيمان بالكلية أو على ضعفه على حسب ما يقوم بالقلب، وعلى أي حال فموالاتهم أمرها حطير؛ لأن الله جل وعلا نفى اجتماع الإيمان مع موادتهم فقال سبحانه {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأخبر أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي موادته، كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب"1. وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي: لا يوادون من حاد الله ولو كانوا الأقربين، وقوله: {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ، قال الراغب: "العشيرة: اسم لكل جماعة من   1 "الإيمان": "ص13". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ   أقارب الرجل الذين يتكثر بهم"1ا. هـ. وقال الألوسي: "وليس المراد بمن ذكر خصوصهم، وإنما المراد الأقارب مطلقاً، وقدم الآباء لأنه يجب على أبناء طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، وثنى بالأبناء؛ لأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم، وثلث بالإخوان؛ لأنهم الناصرون لهم.. وختم بالعشيرة؛ لأن الاعتماد عليهم والتناصر بهم بعد الإخوان غالباً"2. ثم ذكر سبحانه أنه جازاهم بخمسة أشياء، وبدأ تعالى بألطافه الدنيوية فقال جل وعلا: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} ، أي: جمعه في قلوبهم وثبته وأرساه، فهي قلوب مؤمنة مخلصة لا تؤثر فيها الشبه ولا الشكوك {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} ، أي: قواهم {بِرُوحٍ مِنْهُ} ، أي بنور وهدى ومدد إلهي، وإحسان رباني، وسماه الله روحاً؛ لأنه للحياة الطيبة. ثم ذكر آثار رحمته الأخروية فقال سبحانه: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} وهي دار كرامته فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} هذا استئناف جرى مجرى التعليل، والمعنى: أن الله يحل عليهم رضوانه بطاعتهم إياه في الدنيا {وَرَضُوا عَنْهُ} في الآخرة   1 "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني: "ص335" 2 "روح المعاني": "28/36". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .   بإدخالهم الجنة وما فيها من الكرامات، وهذا أعلى مراتب النعيم. قال ابن كثير رحمه الله: "وفيه سر بديع وهو أنهم لما أسخطوا الأقارب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز والفضل العميم"1. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} إضافة تشريف ببيان اختصاصهم به تعالى {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفلاح هو الفوز والظفر بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة. وذكرت كلمة {حِزْبَ اللَّهِ} في الأول لبيان اختصاصهم به تعالى كما مر، والثانية لبيان اختصاصهم بسعادة الدارين. وموالاة الكفار لها مظاهر متعددة يكثر ظهورها من زمن إلى زمن آخر ولنذكر أهم هذه المظاهر فمتى تلبس بها أو بشيء منها إنسان مسلم فعليه أن يعلم أنه قدر والاهم بقدر ما قام به من هذه المظاهر. فال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 2، فمن هذه المظاهر: أولاً: الرضا بكفر الكافرين وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة. ثانياً: التشبه بعاداتهم وأخلاقهم وتقاليدهم؛ لأنه ما تشبه بهم إلا لأنه معجب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من تشبه بقوم فهو منهم" 3.   1 "تفسير ابن كثير": 8/280". 2 سورة المائدة، الآية: 51. 3 أخرجه أبو داود: "رقم 4031"، وأحمد: "9/123" وغيرهما والحديث له طرق، وشواهد، يتقوى بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدين.   ثالثاً: الاستعانة بهم، والثقة بهم، واتخاذهم أعواناً وأنصاراً. رابعاً: معاونتهم ومناصرتهم. خامساً: مشاركتهم في أعيادهم بإعانتهم إما بالحضور أو بالتهنئة. سادساً: التسمي بأسمائهم. سابعاً: السفر إلى بلادهم لغير ضرورة بل للنزهة ومتعة النفس. ثامناً: الاستغفار لهم والترحم عليهم إذا مات منهم ميت. تاسعاً: مجاملتهم ومداهنتهم في الدين. عاشراً: استعارة قوانينهم ومناهجهم في حكم الأمة وتربية أبنائها. فهذه بعض مظاهر موالاة الكفار، والمسألة تحتاج إلى بيان أكثر وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله1. قول المصنف رحمه الله: "اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدين" هذا الكلام من المؤلف رحمه الله في موضوع تقرير توحيد الألوهية، وقد بدأ هذا التقرير بالدعاء لك أيها القارئ أو السامع، فقال: "اعلم أرشدك الله لطاعته"، ومعنى أرشدك، أي: دلك وهداك إلى الرشد، والرشد: هو الاستقامة على طريق الحق وهو ضد الغي؛ لأن الغي هو الضلال الذي يفضي بصاحبه –والعياذ بالله- إلى الخسران. والطاعة: هي موافقة أمر الشرع بفعل المأمور واجتناب المحظور.   1 راجع كتاب "الولاء والبراء" تأليف محمد بن سعيد القحطاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والحنيفية: هي ملة إبراهيم، وملة إبراهيم هي الحنيفية، ولهذا جمع المصنف رحمه الله بينهما وأصل الحنيفية مأخوذ من الحنف، والحنف معناه: الميل، فالحنيف: هو المائل عن الشرك قصداً وإخلاصاً إلى التوحيد، والحنيف هو المقبل على الله سبحانه وتعالى المعرض عن كل ما سواه، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} 1، والقانت: هو الخاشع المطيع2. أما الملة: فهي بمعنى الدين، وهي اسم لكل ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة أنبيائه. قوله: "أن تعبد الله مخلصاً له الدين" هذا بيان لحقيقة ملة إبراهيم فهو خبر "أن" في قوله: "أن الحنفية ملة إبراهيم"، فـ"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر "أن"، والتقدير: اعلم أن الحنيفية ملة إبراهيم عبادة الله تعالى وحده بإخلاص. وأصل العبادة: التذلل والخضوع، تقول العرب: طريق معبد، أي: مذلل، مهيأ لسلوك الناس. قال العلماء: وسميت الوظائف التي طلبها الله تعالى من المكلفين عبادات؛ لأنهم يلتزمونها ويفعلونها متذللين خاضعين لله سبحانه وتعالى. وأما معناها الذي يبين متعلقاتها، فهو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية   1 سورة النحل، الآية: 120. 2 انظر: "تفسير ابن كثير": "4/530". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   رحمه الله في كتابه القيم "العبودية": "العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"1 من الصلاة والزكاة والصيام والحج والمحبة والخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والاستغاثة ونحو ذلك مما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. وقوله: "أن تعبد الله مخلصاً له الدين". الإخلاص: هو أن يقصد العبد بعمله رضا ربه وثوابه، لا غرضاً آخر من رئاسة أو جاه أو شيء من حطام الدنيا. فإذا قام العبد بالعبادة مريداً ببذلك: رضا الله سبحانه وتعالى، الذي هو المستحق للعبادة، وقصد بذلك الحصول على الثواب تحقق الإخلاص، وقصد ثواب الله تعالى ونيل رضوانه وجنته لا يخل بالإخلاص، بل يذم من يعبد الله تعالى وهو لا يريد الثواب، وهي طريقة من طرق الصوفية، وهي مخالفة لما دلت عليه النصوص الشرعية من أن الإنسان يقصد بعبادته وجه الله تعالى والوصول إلى رضوانه وطلب ثوابه وجنته. وللإخلاص ثمرات عظيمة: 1- أنه بتحقيق الإنسان لتوحيد ربه وإخلاصه العبودية له تكمل له الطاعة ويخرج من قلبه تأله ما يهواه. 2- من أخلص في عبادة ربه صرفت عنه المعاصي والذنوب كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} 2،   1 "العبودية": "ص38". 2 سورة يوسف، الآية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}   فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عبادة المخلصين له في عبادتهم، الذين أخلصهم الله، واختارهم، واختصهم لنفسه. 1- من أخلص في عبادة ربه في حرز من الشيطان. قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} 1، وقال الشيطان: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 2. 2- ثبت في حديث عتبان أنه قال: "إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"3. قوله: "بذلك" اسم إشارة يعود إلى العبادة الخالصة، أي: بإخلاص العبادة "أمر الله جميع الناس" بدليل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4. قوله: "وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 5"، أي: خلقهم لعبادته، وهذه الآية العظيمة بينت الحكمة من خلق الجن والإنس، وهي العبادة، فإن الله جل وعلا ما خلق إلا   1 سورة الحجر، الآية: 42، والإسراء، الآية: 65. 2 سورة ص، الآيتان: 82، 83. 3 انظر: "مجموع الفتاوى: "10/260-261"، والحديث أخرجه البخاري "رقم 42"، ومسلم "رقم 33". 4 سورة الأنبياء، الآية: 25. 5 سورة الذاريات، الآية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ومعنى يعبدون يوحدوني. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   لأجل أن يأمرهم بالعبادة، فمنهم من أطاع وأذعن فعبد الله، ومنهم من عصى وعاند فأشرك مع الله غيره. والجن: عالم غيبي قائم بذاته، يختلف عن الإنس؛ لأنه مخلوق من نار والإنس مخلوق من طين، قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} 1 سموا جناً لاجتنانهم، أي: استتارهم عن العيون، واجتماع الجيم مع حرف النون في لغة العرب يدل على الستر، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} 2. والإنس: البشر، الواحد "إنسي" سموا بذلك لأن بعضهم يأنس ببعض، والإنس الطمأنينة3. قوله: "ومعنى يعبدون يوحدوني" هذا تفسير لمعنى العبادة في الآية الكريمة، فمعنى "يعبدون، أي: يفردونني بالعبادة، والإفراد بالعبادة معناه: التوحيد. وقد ورد في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك" 4، فهذا حديث يدل على أن الوظيفة التي أنيطت بهذا المكلف:   1 سورة الرحمن، الآيتان: 14، 15. 2 راجع كتاب "عالم الجن والشياطين" للدكتور عمر الأشقر، والآية من سورة الأعراف رقم27. 3 "لسان العرب": "6/10". 4 أخرجه أحمد: "16/8681"، والترمذي: "4/2466". وصححه أحمد شاكر. وصححه الألباني في "صحيح الترمذي": "2/300"، وقد وقع عند الترمذي: "ملأت يديك شغلاً"، وفي معناه حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، أخرجه الحاكم: "4/326"، والطبراني: 20/500". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ إفراد الله بالعبادة.   هي عبادة الله والتفرغ لما خلق لأجله. قوله: "وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ إفراد الله بالعبادة" التوحيد معناه في اللغة: من وحد يوحد توحيداً، أي: جعله واحداً لا ثاني له، والمصنف رحمه الله عرف التوحيد بأنه: إفراد الله بالعبادة، وهو يريد بهذا التوحيد الذي بعثت الرسل لتحقيقه وإلا فهو بالمعنى العام: إفراد الله بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وهذه أقسام التوحيد الثلاثة، فيكون تعريف المصنف هنا للتوحيد بأنه إفراد الله بالعبادة إنما هو لبيان التوحيد الذي حصل به النزاع والجدال، والذي بعثت لأجله الرسل وأنزلت له الكتب وشرع من اجله الجهاد، وهو توحيد الألوهية. ومعنى "إفراد الله بالعبادة"، أي: قولاً وقصداً وفعلاً، فيفرد الله بالأقوال والأفعال والمقاصد، والمراد بالعبادة هنا في كلام المصنف: العبادة الشرعية، وهي الخضوع لأمر الله الشرعي، وأمر الله الشرعي هو القيام بالتكاليف. أما العبادة الكونية فهي الخضوع لأمر الكوني، والعبادة الكونية عامة لكل مخلوق فالذي ينقاد لأقدار الله تعالى داخل في المعنى الثاني للعبادة، وهي العبادة الكونية. والفرق بين أمر الله الكوني وأمر الله الشرعي، أن أمر الله الشرعي: ما شرعه الله لعباده من التكاليف. وأمر الله الكوني: ما يقضيه الله سبحانه وتعالى ويقدره على عباده مؤمنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وأعظم ما نهى عنه الشرك،   وكافرهم، برهم وفاجرهم، من مرض أو فقر أو فقد محبوب ونحو ذلك، والدليل على أن العبادة تكون كونية قول الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 1، فهذه هي العبودية المقصودة في هذا الباب -التي هي معنى التوحيد-: هي العبادة الشرعية التي لا ينقاد لها إلا المؤمن البر. قوله: "وأعظم ما نهى عنه الشرك" الشرك في الأصل بمعنى: النصيب، فإذا أشرك مع الله غيره، أي: جعل لغيره نصيباً. وإنما كان الشرك أعظم ما نهى الله عنه؛ لأن أعظم الحقوق حق الله تعالى، وحق الله تعالى إفراده بالعبادة، فإذا أشرك مع الله غيره ضيع أعظم الحقوق. وقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سألت –أو سئل- رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب عند الله أعظم؟ -وفي لفظ: أكبر- قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك ... " 2. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: "أتدري ما حق الله على عباده؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: "حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ... " 3، فدل هذا على أن الله سبحانه وتعالى له حق العباد، فمن ضيع هذا الحق فقد وقع في تضييع أظم الحقوق.   1 سورة مريم، الآية: 93. 2 أخرجه البخاري: "8/492-فتح"، ومسلم: "رقم86". 3 أخرجه البخاري: "رقم5986"، ومسلم: "رقم48/30". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وهو دعوة غيره معه.   وقوله: "وهو دعوة غيره معه" هذا تعريف الشرك، وهو أن يجعل مع الله إلها آخر ملكاً أو رسولاً أو ولياً أو حجراً أو بشراً يعبده كما يعبد الله، وذلك بدعائه والاستعانة به والذبح له والنذر له وغير ذلك من أنواع العبادة. وهذا هو الشرك الأكبر. وهو أربعة أنواع: 1- شرك الدعاء: وهو أن يضرع إلى غير الله تعالى من نبي أو ملك أو ولي بقربة من القرب –صلاة أو استغاثة أو استعانة- أو يدعو ميتاً أو غائباً أو نحو ذلك مما هو من اختصاص الله تعالى. والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 1. 2- شرك النية والإرادة والقصد: بأن يأتي بأصل العبادة رياء أو لأجل الدنيا وتحصيل أغراضها. والدليل قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 2. قال ابن القيم رحمه الله: "أما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئاً غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته ... "3.   1 سورة العنكبوت، الآية: 65. 2 سورة هود، الآيتان: 15، 16. 3 "الجواب الكافي": "ص115". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   واعتبار شرك النية والقصد من الشرك الأكبر محمول على ما ذكرنا، وهو أن يأتي بأصل العمل رياء أو لأجل الدنيا، ولم يكن مريداً وجه الله تعالى والدار والآخرة. وهذا العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن. فإن المؤمن وإن كان ضعيف الإيمان لابد أن يريد الله والدار والآخرة. لكن إن تساوى القصدان أو تقاربا فهذا نقص في الإيمان والتوحيد. وعمله ناقص لفقده كمال الإخلاص. وإن عمل لله وحده وأخلص في عمله إخلاصاً تاماً وأخذ عليه جعلاً معلوماً يستعين به على العمل والدين فهذا لا يضر؛ لأن الله تعالى جعل في الأموال الشرعية كالزكوات وأموال الفيء وغيرها جزءاً كبيراً يصرف في مصالح المسلمين1. 3- شرك الطاعة: وهو أن يتخذ له مشرعاً سوى الله تعالى، أو يتخذ شريكاً لله تعالى في التشريع، فيرضى بحكمه، ويدين به في التحليل والتحريم عبادة وتقرباً وقضاءً وفصلاً في الخصومات. والدليل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2، ولما سمع عدي بن حاتم رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية قال: "إنا لسنا   1 "القول السديد": "ص128". 2 سورة التوبة، الآية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى: فتلك عبادتهم"1. 4- شرك المحبة: وهو اتخاذ الأنداد من الخلق يحبهم كحب الله تعالى؛ فيقدم طاعتهم على طاعته ويلهج بذكرهم ودعائهم. والدليل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2. قال ابن قيم رحمه الله: "وهاهنا أربعة أنواع من المحبة يجب التفريق بينها، وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينها: أحدها: محبة الله. ولا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، فإن المشركين وعباد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله. الثاني: محبة ما يحبه الله. وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر, وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها. الثالث: الحب لله وفيه, وهي من لوازم محبة ما يحبه الله. ولا يستقيم محبة ما يحبه الله إلا بالحب فيه وله.   1 أخرجه الترمذي: "8/492-تحفة"، وابن جرير: "14/209"، تحقيق محمود شاكر، و"البيهقي": "10/116"، وغيرهم. وقد حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الإيمان": "ص64"، والألباني في "غاية المرام": "رقم6"، وفي "صحيح الترمذي": "3/56"، وفي سنده غطيف بن أعين. ذكره الدارقطني في "الضعفاء" وذكره ابن حبان في "الثقات". 2 انظر: "مجموعة التوحيد" "الرسالة الثالثة": "ص346". والآية من سورة البقرة: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} .   الرابع: المحبة مع الله. وهي المحبة الشركية، وكل من أحب شيئاً مع الله، لا لله ولا من أجله، ولا فيه، فقد اتخذه نداً من دون الله، وهذه محبة المشركين"1. وأما محبة الشرك الأصغر فهو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه، وجاء في النصوص تسميته شركاً: كالحلف بغير الله تعالى والرياء اليسير في أفعال العبادات وأقوالها وبعض العبارات مثل: "ما شاء الله وشئت"، ونحوها مما فيه تشريك بين الله وخلقه مثل: "لولا الله وفلان"، و"ما لي إلا الله وأنت"، "وأنا متوكل على الله وعليك"، "ولولاك أنت لم يكن كذا".. وقد يكون شركاً أكبر بحسب قائله ومقصده. قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2" هذه الآية جمعت بين أمرين: الأمر بالعبادة والنهي عن الشرك، مما يدل على أن العبادة لا تتم إلا باجتناب الشرك قليله وكثيره؛ لأن "شيئاً" نكرة في سياق النهي فتفيد العموم، أي، لا شركاً أصغر ولا أكبر لا ملكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا غيرهم من المخلوقين. كما أنه تعالى لم يخص نوعاً من أنواع العبادة لا دعاء ولا صلاة ولا توكلاً ولا غيرها ليعم جميع أنواع العبادة.   1 "الجواب الكافي": "ص164". 2 سورة النساء، الآية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثَّلاثَةُ التِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا؟ فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَدِينَهُ وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم.   وأما حكم الشرك الأكبر مخرج من الملة. وقد حرم الله الجنة على صاحبه؛ إذ ليس معه شيء من التوحيد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1. وأما الأصغر فلا يخرج من الملة، لكنه وسيلة إلى الأكبر، وصاحبه على خطر عظيم، فعلى العبد أن يحذر الشرك مطلقاً، فإن بعض العلماء يرى أن الآية المذكورة عامة في الشرك الأصغر والأكبر وأن قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، أي: ما هو أقل من الشرك، والله أعلم2. ثم انتقل المصنف رحمه الله إلى تفصيل ما أجمل من الأصول الثلاثة ، وهي: معرفة العبد ربه ودينه ونبيه صلى الله عليه وسلم، وأما ما تقدم من الكلام فهو من باب التوطئة والتمهيد لما سيأتي أو يكون –كما قال بعض الشراح- مما ألحقه بعض تلاميذ الشيخ بهذه الأصول مستفاداً من كلامه في موضع آخر، وعلى أي حال فإن ما تقدم يعتبر من الأسس الطيبة النافعة التي يستفاد منها في تقرير الأصول الثلاثة. يقول الشيخ رحمه الله: "فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثَّلاثَةُ التِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا؟ فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَدِينَهُ وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم" طريقة   1 سورة النساء، الآية: 48، 116. 2 انظر: "مجموع الفتاوى": "11/663"، و"جامع الرسائل": "2/254"، و"القول المفيد": "1/110". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   السؤال والجواب طريقة سلكها الشيخ رحمه الله في كثير من رسائله وهي نافعة في تقرير المعلومات وسرعة فهمها، والطالب يدرك المعاني ويفهمها إذا ألقيت عليه بطريقة السؤال والجواب؛ لأن المخاطب إذا طرح عليه السؤال استعد وتهيأ لفهم الجواب وهذه تسمى عند علماء التربية وطرق التدريس بالطريقة الحوارية، وهم ينسبونها إلى من ألف في ذلك من الغربيين وغيرهم، ونسوا أن الطريقة الحوارية كان يسلكها النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً مع أصحابه فكان يطرح عليهم السؤال لأجل أن تتهيأ أذهانهم للجواب كما تقدم ولهذا نقول: إن وسائل الإيضاح التي تستعمل في طرق التدريس وإن جاءت عن طريق الغربيين لكنها بضاعتنا ردت إلينا. وهي طريقة نافعة في التعليم لاسيما في المراحل الأول من التعليم ليستفيد الطلاب وتتهيأ أذهانهم؛ لأن المدرس إذا ألقى عليهم السؤال استعدوا لتلقي الجواب فتمكن من الأذهان، وحتى في الدروس العامة والمحاضرات ينبغي أن تسلك هذه الطريقة؛ لأن الإلقاء المستمر قد يكون مملاً لاسيما إذا طال الوقت. فالشيخ رحمه الله ذكر هذه المسألة بصيغة السؤال والجواب لأجل أن ينتبه لها الإنسان لأنها مسألة عظيمة فإن هذه الأصول الثلاثة هي التي يسأل عنها العبد في قبره، وهذا يدلك على أهميتها وقيمتها وأن الإنسان يعرف معناها أولاً ويعمل بمقتضاها ثانياً، لعل الله تعالى أن يوفقه للجواب الصحيح في القبر إذا ما قال له الملكان من ربك؟ فيقول: ربي الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الأصل الأول: معرفة العبد ربه * ... فإن قِيلَ لَكَ مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته,   ما دينك؟ ديني الإسلام، ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ هو محمد عبد الله ورسوله ... إلخ. فمن عرف هذه الأصول الثلاثة وعمل بمقتضاها فهو أهل لأن يوفقه الله تعالى في جوابه كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 1، وقد ذكر الأصول الثلاثة ثم بدأ في تفصيلها وهذه أيضاً من الطرق العلمية الجيدة؛ لأن النفوس إذا عرفت الشيء إجمالاً تطلعت إلى معرفة تفصيلاً، والتفصيل بعد الإجمال من مقاصد البلغاء كما في علم المعاني ... قوله: "فإن قيل لك من ربك؟ " هذا هو الأصل الأول. والجواب "فقل: ربي الله الذي رباني" وأصل الرب في اللغة بمعنى: المربي، ومن هذه الكلمة تشعبت معان أخرى لكلمة الرب من المالك والمدبر والمتصرف والمتعهد. والمصنف يريد المعنى الأول؛ لأنه قال: "الذي رباني"، فانتقل إلى المعنى الأساسي للكلمة الذي هو التربية، ومعنى رباني، أي: خلقني وأوجدني ثم رباني بنعمه الظاهرة والباطنة. وقوله: "وربى جميع العالمين" هذا تعميم، أي: رباني أنا وربى جميع العالمين، وقوله: "بنعمته"، أي: ابتداء من الغذاء الذي يصل إلي   1 سورة إبراهيم، الآية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وهو معبودي، ليس لي معبود سواه.   وأنا في بطن أمي إلى أن يجري علي الأرزاق بعد خروجي منه. كما ورد في الحديث الصحيح في الملك الذي يؤمر بأربع بالنسبة للجنين ومنها "بكتب رزقه"1 فالله جل وعلا ينعم على العبد منذ أن يخلقه الإنعام الذي يصل إليه في بطن أمه بدون حول منه ولا قوة، والإنعام الذي يحصل له بعد خروجه إلى الدنيا عندما يكبر ويكدح ويعيش فيجري الله سبحانه وتعالى له من الأرزاق بالأسباب ما قضاه وقدره له. وقوله: "وهو معبودي، ليس لي معبود سواه" هذا مرتب على الكلام السابق، يعني: إذا كان هو الذي رباني لا غيره وربى جميع العالمين لا غيره فيترتب على هذا أن يكون هو المستحق للعبادة ولهذا قال: "وهو معبودي، ليس لي معبود سواه"؛ لأن الذي يستحق أن يكون معبوداً هو القادر على الخلق، ومن لا يقدر على الخلق لا يستحق أن يكون معبوداً، ولهذا ذكر الله تعالى أوصاف الآلهة التي لا تصلح للعبادة في سورة الفرقان في قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 2، فذكر الله سبحانه سبعة أوصاف كلها نقص تدل على أن هذه الأوصاف التي وجدت في الآلهة لا تصلح أن تكون الآلهة معها معبودة؛ لأن المعبود هو الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت، ولهذا قال تعالى:   1 أخرجه البخاري: "رقم3208"، ومسلم: "رقم2643". 2 سورة الفرقان، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكل ما سِوَى اللهِ عَالَمٌ، وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ العالم.   {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1. قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2" هذا الدليل على أن الله تعالى هو المستحق للعبادة لكونه سبحانه وتعالى مربياً لجميع العالمين، والحمد: هو الاعتراف للمحمود بصفات الكمال مع محبته وتعظيمه، وهذا قيد أساسي، فلو اعترف بالمحامد والأوصاف وذكرها، ولكن بدون محبة ولا تعظيم فإنه لا يسمى حامداً، وقوله: "الله" اللام هذه تسمى لام الاستحقاق، وقوله: "رب العالمين" مر أن المعنى: خالقهم ومدبر شؤونهم المتصرف بأحوالهم وأرزاقهم، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 3، وقوله: "وكل ما سوى الله عالم" فيقال: عالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات، وسمي العالم عالماً؛ لأنه علامة على خالقه وموجده ومالكه.. "وأنا واحد من ذلك العالم"، أي: أنا أيها الإنسان المتكلم بهذا الكلام الذي أقول: "ربي الله الذي رباني" "واحد من ذلك العالم" فأنا مربوب لله تعالى؛ لأن الله تعالى هو ربي، ومعنى "مربوب"، أي: مخلوق لله تعالى، وهو الذي رباني سبحانه وتعالى.   1 سورة الأعراف، الآية: 191. 2 سورة الفاتحة، الآية: 1. 3 سورة الأعراف، الآية 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ فَقُلْ: بآياته ومخلوقاته،   قوله: "فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ " هذا السؤال الثاني بعد السؤال الأول: من ربك؟ أي: بم استدللت على معرفتك ربك؟ "فقل: بآياته ومخلوقاته" فهذا هو الدليل على أنه هو الذي خلقني وهو الذي رزقني وهو معبودي ليس لي معبود سواه. والآية في اللغة لها معان كثيرة، منها: البرهان والدليل. و آيات الله نوعان : 1- آيات شرعية، ويراد بها: الوحي الذي جاءت به الرسل فهو آية من آيات الله، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} 1، فإن قيل: كيف كان الوحي دليلاً وبرهاناً على الله تعالى؟ فالجواب: أولاً: أن هذا الوحي الذي جاءت به الرسل جاء وحياً متكاملاً منتظماً لا تناقض فيه ولا اضطراب، قال تعالى عن القرآن: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 2، فالقرآن الكريم دليل على وجود الرب العظيم، وهو دليل من الآيات الشرعية. ثانياً: أن هذه الآيات الشرعية قامت بمصالح العباد، وهي كفيلة بسعادتهم في دينهم ودنياهم. وأوضح مثال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله جل وعلا قد شرع لنا في هذا القرآن الكريم وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ما هو كفيل بمصالحنا. وما من مشكلة أو معضلة إلا في الشريعة حل لها سواء كان عن طريق الكليات أو عن طريق الجنايات.   1 سورة الحديد، الآية: 9. 2 سورة النساء، الآية: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَمِنْ مخلوقاته السموات السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُمَا.   1- آيات كونية: والآيات الكونية هي المخلوقات، مثل: السماوات والأرض والإنسان والحيوان والنبات وغير ذلك. والمصنف رحمه الله يقول: "فقل: بآياته ومخلوقاته" فإذا فسرنا الآيات: بالآيات الشرعية والكونية؛ فإنه يدخل قوله "ومخلوقاته" تحت قوله "بآياته"؛ لأن المخلوقات هي الآيات الكونية، فيكون كلام المصنف رحمه الله من باب عطف الخاص على العام على سبيل الاهتمام بالخاص، فإنه أفرد المخلوقات مع أنها داخلة في الآيات للاهتمام بها؛ لأنها مرئية يدركها العالم وغير العالم. أما إذا فسرنا الآيات بالآيات الشرعية فقط فإننا نفسر المخلوقات بالآيات الكونية ويصير من باب عطف المغاير. وظاهر كلام الشيخ رحمه الله يدل على أنه ما قصد الآيات الشرعية بل أراد بالآيات والمخلوقات: الكونية منها بدليل أنه قال: "وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَمِنْ مخلوقاته السموات السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُمَا" ويكون خص الآيات الكونية بالذكر؛ لأن دلالتها يشترك فيها العالم والجاهل كما تقدم. قوله: "ومن آياته الليل والنهار"، أي: ومن الأدلة والبراهين على وجود الباري تعالى وتفرده بالربوبية والإلهية وجود الليل والنهار. وذلك من وجوه: أولاً: تعاقبهما، فهذا يذهب، وهذا يأتي بعده بانتظام كامل وتنساق بديع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ثانياً: اختلافهما بالطول والقصر، فإن هذا من آيات الله. ولو فرض أن الليل ما يزيد أبداً والنهار ما يزيد أبداً من آيات الله أيضاً، ولكن كون الليل يزيد في الشتاء ويقصر النهار، والنهار يزيد في الصيف ويقصر الليل، هذا أيضاًَ من آيات سبحانه وتعالى. والليل والنهار من نعم الباري على عباده، فلو كان الليل سرمداً لتعطلت مصالح العباد ولو كان في أنوار؛ لأن جهد الإنسان يصل إلى درجة قليلة في الليل، فلا تتحقق مصالح العباد ولا تقوم إلا بالنهار، ولو لم يوجد ليل لمات كثير ممن انهمكوا في الدنيا؛ لأنه لا يوجد ليل يطرحهم فينامون. لكن هذا الليل نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العباد؛ لأن الناس يأوون إلى منازلهم وينامون ويستريحون فإذا قاموا من الغد قاموا إلى نهار جديد وبجهد جديد. والحاصل أن هذه آيات عظيمة من آيات الله تعالى، ولكن الإنسان غافل عن تدبرها، ولهذا فإن الله قدر كرر هذه الآيات في سور من القرآن الكريم يذكر الليل والنهار والشمس والقمر وخلق السموات والأرض؛ لأجل أن الإنسان يصطحب الذكر فلا يغفل ولا ينسى والله المستعان. قوله: "والشمس والقمر"، أي: ومن آيات الله الدالة على وجوده سبحانه تفرده بالربوبية والإلهية: الشمس والقمر، وذلك من وجوه: أولاً: جريانهما باستمرار منذ أن خلق تعالى الشمس والقمر إلى أن يأذن الله تعالى بخراب هذا الكون، والشمس والقمر يجريان باستمرار كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} 1، وفي قراءة {لا مستقر لها} 2، أي: أن الشمس ليس لها مستقر إنما هي دائماً تسير إلى أن يأذن الله تعالى بخراب الدنيا ولهذا إذا غربت على أناس طلعت على آخرين، وهذا لا ينافي ما ورد في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقر تحت العرش فتخر ساجدة ... الحديث" 3؛ لأنه يمكن أنها إذا غربت عن أناس تسجد تحت العرش بالنسبة لغروبها عنهم وهي مستمرة في جريانها4. ثانياً: الانتظام البديع، فالشمس تسير في فلكها في مدة سنة، وهي في كل يوم تطلع وتغرب بسير سخرها له خالقها لا تتعداه ولا تقصر عنه. والقمر يبديه الله كالخيط ثم يتزايد نوره ويتكامل حتى ينتهي إلى إبداره، وكماله ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى، قال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 5، أي: لا يمكن أن توجد الشمس في الليل فتدرك القمر،   1 سورة يس، الآيتان: 37، 38. 2 انظر: "تفسير ابن كثير": "6/562". 3 أخرجه البخاري: "8/541-فتح"، ومسلم: "رقم159". 4 انظر: "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري" للشيخ عبد الله الغنيمان: "1/408". وانظر: "شرح السنة" للبغوي: 15/95". 5 سورة يس، الآية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ولا الليل سابق النهار فيدخل عليه قبل انقضاء سلطانه، {وَكُلٌّ} من الشمس والقمر والنجوم {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، أي: يترددون على الدوام فهذا دليل على عظمة الخالق وقدرته وحكمته. ثالثاً: ما فيهما من المنافع العظيمة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} 1، وفي الشمس منافع عظيمة للعلويات: فإن القمر يستمد نوره من الشمس، وللسفليات: من الإنسان والحيوان والنبات والبحار وغير ذلك، ولولا طلوع الشمس وغروبها لما عرف الليل والنهار ولأطبق الظلام على العالم أو الضياء. وفي سير القمر تظهر مواقيت العباد في معاشهم وعبادتهم ومناسكهم. فتميزت به الأشهر والسنون وقام حساب العالم مع ما في ذلك من الحكم والآيات التي لا يحصيها إلا الله تعالى2. قوله: "ومن مخلوقاته السموات السبع"، أي: ومن أعظم مخلوقات الله تعالى الدالة على عظمته ووحدانيته: السموات السبع، وعلوها وسعتها واستدارتها، وعظم حلقها وبناؤها. قوله: "والأرضون"، أي: ومن مخلوقاته العظيمة الأرضون السبع. فإن الله تعالى جعل الأرض فراشاً ومهاداً وذللها لعباده، وجعل فيها سبلاً، وجعل فيها أرزاقهم ومعايشهم. وقد أكثر الله تعالى من ذكر   1 سورة يونس، الآية: 5. 2 انظر: "مفتاح دار السعادة" لابن قيم: "1/207، وما بعدها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .   السموات والأرض في كتابه الكريم، ودعا عباده إلى النظر إليهما والتفكر في خلقها. قال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1، وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2. قوله: "وما فيهن"، أي: من المخلوقات العظيمة التي لا يعلمها إلا الله خالقها سبحانه وتعالى "وما بينهما" أيضاً من المخلوقات العظيمة. قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 3"، يعني: وإن كان الشمس والقمر من المخلوقات العظيمة فإن هذا لا يقتضي أن يسجد لهما؛ لأنهما مخلوقان مدبران مسخران {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} ، أي: اعبدوه وحده؛ لأنه الخالق العظيم. ودعوة عبادة ما سواه من المخلوقات وإن كبر جرمها وكثرت مصالحها، فإن ذلك ليس منها وإنما هو من خالقها تبارك وتعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فخصوه بالعبادة وإخلاص الدين له4.   1 سورة الجاثية، الآية: 3. 2 سورة غافر، الآية: 57. 3 سورة فصلت، الآية: 37. 4 "تفسير ابن سعدي": "4/400". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ   قوله: "وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 1" هذا فيه إخبار من الله تعالى بأنه خلق هذا العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام. أولها: الأحد، وآخرها الجمعة2. منها أربعة أيام للأرض ويومان للسماء، كما قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ   1 سورة الأعراف، الآية: 54. 2 أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة، أخر الخلق في آخر ساعة من الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" فهذا حديث أخرجه مسلم: "رقم2789"، والنسائي في "الكبرى": "رقم 1101"، وأحمد: "14/82"، وهو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره. وقال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار. اهـ. وهو مخالف للقرآن حيث دل على أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام. وقد ذكر الألباني في "الصحيحة": "رقم1833" هذا الحديث وبين أنه صحيح وأنه غير مخالف للقرآن وأن الأيام السبعة فيه غير الستة في القرآن، وأن الحديث يتحدث عن شيء من التفصيل الذي أجراه الله على الأرض فهو يزيد على القرآن ولا يخالفه. وقد دل على هذا الجمع حديث أخرجه النسائي في "الكبرى": "6/427" من طريق الأخضر بن عجلان وقد وثقه ابن معين والبخاري والنسائي وابن حيان وغيرهم. فراجع هذا الحديث وانظر: "مختصر العلو" للألباني: "ص111"، و"المشكاة": "رقم5734". وفي مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية [جامعة الكويت] العدد التاسع عشر مقال جيد عن حديث "التربة" فراجعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً   اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 1 ويكون معنى قوله سبحانه: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} ، أي في تتمة أربعة أيام لا أنها أربعة أيام مستقلة عن اليومين الأولين وإلا لكانت الأيام ثمانية2. والظاهر أن هذه الأيام التي نعرف؛ لأن الله تعالى ذكرها منكرة. فتحمل على ما كان معروفاً. ولو شاء تعالى لخلقها في لحظة، ولكنه ربط المسببات بأسبابها كما تقتضيه حكمته سبحانه وتعالى3. وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، أي: علا وارتفع. والعرش هو ذلك السقف المحيط بالمخلوقات. وفي الآية إثبات استواء الله على عرشه على ما يليق بجلاله وعظمته. وأدلة علو الله على خلقه واستوائه على عرشه أكثر من أن تحصر. وأجمع المسلمون على ذلك. وقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} ، أي: يغطي كل واحد منهما الآخر فيذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا وكل منهما يطلب الآخر طلباً {حَثِيثاً} ، أي: سريعاً لا يتأخر عنه بل إذا ذهب جاء هذا. وإذا جاء هذا ذهب هذا.   1 سورة فصلت، الآيات: 9-12. 2 انظر: "التوحيد" لابن منده: 1/186"، و"تفسير ابن كثير": "7/155" و"أضواء البيان": "7/116". 3 انظر: "تفسير ابن كثير": "3/422"، و"شرح ثلاثة الأصول" لابن عثيمين: "ص44". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . وَالرَّبُ هُوَ الْمَعْبُودُ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ   وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} 1 هذا معطوف على {السَّمَاوَاتِ} ، يعني: خلق السموات والأرض وخلق الشمس والقمر حالة كونها مسخرات، ومعنى {مُسَخَّرَاتٍ} ، أي: مذلالات جارية في مجاريها بتسخير الله تعالى. وقوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} ، يعني: أن الله جل وعلا متفرد بالخلق ومتفرد بالأمر، فله الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات، وله الأمر، المتضمن للشرائع والنبوات، فالخلق يتضمن أحكامه الكونية القدرية، والأمر يتضمن أحكامه الدينية الشرعية ثم أحكام الجزاء في الدار الآخرة، قال الله تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، أي: عظم وتعالى. وكثر خيره وإحسانه، فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير فكل بركة في الكون فمن آثار رحمته سبحانه وتعالى. قوله: "وَالرَّبُ هُوَ الْمَعْبُودُ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2" معنى   1 سورة الأعراف، الآية:54. 2 سورة البقرة، الآية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء   "المعبود"، أي: المستحق لأن يعبد دون سواه، وليس المراد أن من معاني الرب: المعبود وإلا لزم منه أن كل ما عبد من دون الله فهو رب وهذا ليس بصحيح. والمصنف رحمه الله لم يقصد أن من معاني "الرب": المعبود، وإنما قصد أن الرب هو المستحق لأن يعبد؛ لأنه بعد أن ساق الآية من سورة البقرة ذكر كلاماً لابن كثير رحمه الله وهو قوله: "الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة". والدليل على أن الرب هو المستحق للعبادة قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} ، فـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} هذا خطاب لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم. وقوله: {اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} ، أي: أطيعوا ربكم بالإيمان والامتثال للأوامر والنواهي مع المحبة والتعظيم. وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} ، أي: أوجدكم من العدم بتقدير عظيم وصنع بديع، ورباكم بأصناف النعم وخلق الذين من قبلكم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، أي: من أجل أن تحصلوا على التقوى، والتقوى: اتخاذ وقاية تحفظكم من عذاب الله باتباع الأوامر واجتناب النواهي. وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} ، أي: بساطاً مهيئاً تستقرون عليها وتنتفعون بالأبنية والزراعة والسلوك من مكان إلى مكان وغير ذلك من وجوه الانتفاع. وقوله تعالى: {وَالسَّمَاء بِنَاء} ، أي: وجعل السماء بناءً لمسكنكم وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم كالشمس والقمر والنجوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .   وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} المراد بالسماء: السحاب كما ذكره المفسرون وأطلق عليه سماه لأنه فوق, وكل ما علا وارتفع فهو سماء. والماء: هو المطر النازل من السماء هو مادة الحياة للأحياء في الأرض جميعاً، سواء أنبت الزرع مباشرة أو كون الأنهار والبحيرات العذبة، أو انساخ في طبقات الأرض فتتألف منه المياه الجوفية، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} 2. وقوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ} جمع ثمرة, والثمرة هو ما تخرجه الأرض من حبوب وخضار، وما تخرجه الأشجار من فواكه {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} ، أي: أشباهاً ونظراء تصرفون لهم العبادة أو شيئاً منها {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي: تعلمون أن هذه الأنداد ليست مماثلة لله تعالى، وتعلمون أيضاً أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة. فجمعت هذه الآية بين الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه. وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} قال: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة   1 سورة الأنبياء، الآية: 30. 2 سورة المؤمنون، الآية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   سوداء في ظلمة الليل, وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلانة، وحياتي. ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلان فإن هذا كله به شرك1. فدل تفسير ابن عباس رضي الله عنهما على وجوب تجنب الألفاظ الشركية ولو لم يقصد الإنسان. وأن الشرك الأصغر خفي جداً، وفل من يتنبه له. ولما قال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم كيف نتقيه؟ قال: قولوا: "اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه" 2. وقوله: "وهذا كله شرك"، أي: أصفر أو أكبر حسب ما يكون في قلب المتكلم بمثل هذه الألفاظ3.   1 أخرجه ابن حاتم في "تفسيره": "1/62"، قال في "تيسير العزيز الحميد" "ص587": "سنده جيد" اهـ. وقوله: "لا تجعل فيها فلان" لعله جاء على لغة ربيعة الذين يقفون على المنصوب بالسكون. 2 أخرجه أحمد: "4/403"، والطبراني في "الأوسط" و"الكبير" كما في "المجمع": "10/223" من طريق أبي علي الكاهلي عن أبي موسى رضي الله عنه قال المنذري "1/76": "ورواته إلى أبي علي محتج بهم في "الصحيح". وأبو على وثقه ابن حبان ولم أر أحداً جرحه" اهـ. ومثله في "مجمع الزوائد". 3 انظر: "القول المفيد": "2/323". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وهذه الآية هي أحد البراهين العقلية التي أبطل الله بها اتخاذ المشركين للآلهة، فإن القرآن الكريم ذكر برهانين عقليين على إبطال الشرك والتنديد بالمشركين الذين عبدوا مع الله غيره. البرهان الأول: إذا كنتم تقرون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر لهذا الكون فيلزمكم أن تعترفوا بوحدانيته. فإن من كانت هذه صفته فهو الإله المستحق للعبادة وما عداه هو مربوب مألوه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1، وهذا من التناقض الذي وقع فيه المشركون إذ كانوا يعترفون بأن هذه الأمور من خصائص الله تعالى، وهذا يعني أن يقروا بالعبادة؛ لأن غيره مما عبد معه ليست لهم هذه الخصائص. البرهان الثاني: أن هذه الآلهة المعبودة من دون الله تعالى ليس لها ما يخولها لأن تعبد فإنها كما قال الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 2، وقد تقدم شيء من ذلك.   1 سورة يونس، الآية: 31. 2 سورة الفرقان، الآية: 3. وانظر: "تفسير ابن سعدي": "1/43"، "ونبذة في العقيدة الإسلامية": "ص21". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الخَالِقُ لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة.   قوله: "قال ابن كثير رحمه الله تعالى" ابن كثير هو العلامة الحافظ المحدث المفسر المؤرخ إسماعيل بن عمر بن كثير، أبو الفداء، ولد سنة 700هـ أو بعدها بيسير في دمشق ونشأ يتيماً، ورزق حافظة نادرة، فاشتغل بالحديث ودرس الفقه، وألف فيه، وأخذ عن شيخ الإسلام ابن تيمية وأحبه وأثنى عليه1. له كتاب التفسير المشهور و"البداية والنهاية" في التاريخ، و"جامع المسانيد والسنن"، و"إرشاد الفقيه إلى معرفة أدلة التنبيه"، وكلها مطبوعة. مات رحمه الله سنة 774هـ2. قوله: "الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة"، أي: قال ابن كثير رحمه الله هذه العبارة عند تفسير الآية السابقة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، ولفظ ابن كثير في "تفسيره" مغاير لما ذكره الشيخ رحمه الله والمعنى واحد. وهو أن الآيات المذكورة دلت على أن الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره؛ لأن كل من سواه تعالى وتقدس مخلوق، مربوب، متصرف فيه.   1 انظر: "البداية والنهاية": "14/135، وما بعدها". 2 انظر: "البداية والنهاية": "14/31"، وانظر: "فهرس البداية والنهاية" تأليف محمد الأشقر: "ص52"، و"البدر الطالع": "1/153". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 و َأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا، مِثْلُ الإِسْلامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالْخُشُوعُ، وَالْخَشْيَةُ، وَالإِنَابَةُ، وَالاسْتِعَانَةُ، وَالاسْتِعَاذَةُ، وَالاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ العبادة التي أمر الله بها،   لما بين المؤلف رحمه الله وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة. وذكر الأدلة على ذلك شرع في بيان أنواع العبادة التي شرع الله لعباده القيام بها. وسياق الأدلة عليها وقد تقدم معنى العبادة. قوله: "وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا، مِثْلُ الإسلام والإيمان والإحسان" هذه الأنواع هي أعظم مراتب الدين وأعظم أنواع العبادة كما ورد في حديث عمر رضي الله عنه الآتي إن شاء الله. وقد ذكرها المصنف إجمالاً ولما بدأ بالتفصيل لم يشر إليها؛ لأنه سيذكرها فيما بعد. قوله: "وَمِنْهُ الدُّعَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالْخُشُوعُ، وَالْخَشْيَةُ، وَالإِنَابَةُ، وَالاسْتِعَانَةُ، وَالاسْتِعَاذَةُ، وَالاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، والنذر، وغير ذلك من العبادة التي أمر الله بها"، أي: ومما أمر الله به الدعاء والخوف ... إلخ. وقوله: "وغير ذلك من أنواع العبادة" إشارة إلى أن أنواع العبادة غير محصورة بهذه الأنواع بل هي كثيرة جداً؛ لأن كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة فهو عبادة. فالعبادة تشمل الدين كله. والحياة كلها بهذا المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 كلها لله، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مشرك كافر.   وقوله: "كلها لله، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1"، أي: كل أنواع العبادة مما ذكر وغيره لله وحده لا شريك له. ثم ذكر الدليل، وقد ذكرنا فيما مضى تفسير هذه الآية، وقلنا: إن المراد بالمساجد أماكن الطاعة والعبادة، أي: المساجد المعروفة، وروي عن بعض السلف أنها أعضاء السجود التي خلقها الله تعالى ليسجد عليها العبد، وعلى أي حال فالآية دليل على وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة لقوله سبحانه: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . قوله: "فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مشرك كافر"، أي: فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة التي ذكر المصنف رحمه الله مثل أن دعاء غير الله تعالى من الأموات والغائبين أو رجاهم أو خافهم أو سألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات أو غير ذلك فهو مشرك الشرك الأكبر؛ لأنه أشرك مع الله غيره. وكافر؛ لأنه جحد حقاً لله تعالى فصرفه لغيره. فالشرك والكفر قد يجتمعان فيمن لا إيمان له، فيقال: إنه مشرك كافر. وقد ينفرد الشرك بقصد الأوثان من قبور وغيرها. وإن كان يعترف بالله تعالى فلا يطلق عليه كافراً؛ لأن الكفر معناه الجحد والإنكار، لكنه مشرك كافر إذا صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله منكراً أن الله سبحانه وتعالى مستحق لهذه الأنواع ولهذا قال الشيخ رحمه الله "فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مشرك كافر".   1 سورة الجن، الآية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .   قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1"، أي: والدليل على أن من دعا مع الله غيره فهو مشرك كافر هذه الآية فإن الله تعالى سماهم كافرين لدعائهم مع الله غيره. والبرهان هو الدليل الذي لا يترك في الحق لبساً وهو أقوى الأدلة؛ لأنه لا يترك التباساً عند السامع، ولهذا يطلق عليه برهان، فهو أقوى من الحجة وأقوى من الدليل؛ لأن الدليل قد يكون ظنياً لا قطعياً، أما البرهان فهو أمر قطعي. فقوله سبحانه: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ، يعني: ليس له دليل ولا حجة على هذا. ولا يمكن لأحد أن يدعو مع الله غيره ويكون له برهان بحيث يكون الذم متوجهاً إلى من دعا مع الله غيره وليس معه برهان؛ لأنه يستحيل وجود برهان على عبادة إله آخر مع الله تعالى. فهذا الوصف {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} جاء –والله أعلم- لموافقة الواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق بحيث يقال: من عبد مع الله غيره وله برهان فلا مانع، ومعنى "موافقة الواقع" أنه وصف مطابق للواقع لأنهم يدعون مع الله غيره بلا برهان. وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ، يعني: حساب هذا الذي دعا مع الله غيره عند ربه. وهو حساب لا فلاح معه لقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، ونفي الفلاح يدل على هلاكه وأنه من أهل النار.   1 سورة المؤمنون، الآية:117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 في الحديث: "الدعاء مخ العبادة".   والشاهد من الآية هو أن الله جل وعلا سمى من دعا معه غيره كافراً وهذا لا منازعة فيه مهما كان هذا المدعو سواء كان ملكاً أو نبياً أو من هو دون ذلك. قوله: "في الحديث: "الدعاء مخ العبادة" بدأ المصنف رحمه الله بالاستدلال على كل نوع من أنواع العبادة التي ذكرها. والمصنف رحمه الله سرد أنواع العبادة كما تقدم. وسنتكلم إن شاء الله على كل نوع منها بما بيسر من تعريف أو تقسيم أو سياق لبعض الأدلة زيادة على ما ذكر الشيخ رحمه الله من الأدلة. فبدأ بالنوع الأول وهو الدعاء؛ لأنه أهم أنواع العبادة لما ورد في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة" 1، فدل على أن الدعاء أهم أنواع العبادات من وجهين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بضمير الفصل "هو" وضمير الفصل يفيد التوكيد. الثاني: أنه أتى باللام في قوله "العبادة" فكأنه قال: "الدعاء هو العبادة لا غيرها". والدعاء في القرآن الكريم يتناول معنيين: الأول: دعاء العبادة هو دعاء الله امتثالاً لأمره فإنه سبحانه أمر عباده بالدعاء. فمتى دعوت الله سبحانه وتعالى ممتثلاً أمره فإن دعاءك عبادة قال   1 أخرجه الترمذي: "5/426"، وأبو داود: "رقم1479"، وابن ماجه: "رقم3828"، وأحمد: "4/267"، والبخاري في "الأدب المفرد": "رقم714"، والحاكم: "1/491"، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1 فإذا دعوته امتثلت أمره وإذا امتثلت أمره تكون عبدته. الثاني: دعاء المسألة وهو دعاؤه سبحانه وتعالى بجلب المنفعة ودفع المضرة, فكلا النوعين عبادة لله سبحانه وتعالى فمن دعا الله سبحانه وتعالى طالباً جلب النفع ودفع الضر وهو في حال دعائه ممتثلاً أمره سبحانه وتعالى فإنه يكون قد اجتمع في حقه دعاء العبادة ودعاء المسألة. أما الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله "الدعاء مخ العبادة" فمخ الشيء لبه وخلاصته وما يقوم به ومعناه: أن العبادة لا تقوم إلا بالدعاء كما أن الإنسان لا يقوم إلا بالمخ؛ لدلاته على الإقبال على الله تعالى والإعراض عما سواه. وهذا الحديث يدل على منزلة الدعاء من بين أنواع العبادة وهو حديث ضعيف2 لكن معناه صحيح. ويشهد له الحديث الذي ذكرته آنفاً وهو حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.   1 سورة غافر، الآية: 60. 2 أخرجه الترمذي: "5/425" عن أنس رضي الله عنه وقال: هذا حديث غريب من هذا لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. اهـ. قال في "التقريب": "خلط بعد احتراق كتبه ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما وله في مسلم بعض شيء مقرون". وذكره الحافظ في "طبقات المدلسين"، وقال ابن حبان في "المجروحين": كان صالحاً ولكنه كان يدلس عن الضعفاء. اهـ. وفيه عنعنة الوليد بن مسلم وهو قبيح التدليس. والحديث ضعفه المنذري في "الترغيب": "2/482" حيث صدره بـ"روي" كما هو اصطلاحه كما في المقدمة. وانظر: "النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد": "ص83". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وَدَلِيلُ الْخَوْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .   قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} " وجه الدلالة من الآية أن الله جل وعلا سمى الدعاء عبادة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، أي: حقيرين ذليلين صاغرين جزاء لهم على استكبارهم. فهذه الآية فيها أن الله تعالى أمر بالدعاء ووعد بالإجابة فدل على أن الدعاء عبادة بل هو من أجل العبادات. قوله: "وَدَلِيلُ الْخَوْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 الخوف هو انفعال يحصل بتوقع ما فيه ضرر أو هلاك، والخوف أنواع: الأول: الخوف الطبيعي، كالخوف من عدو أو سبع أو حية فهذا ليس بعبادة، ولا ينافي الإيمان؛ لأنه قد يوجد في المؤمن كما قال تعالى عن موسى عليه السلام {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} 2 هذا الخوف لا يلام عليه الإنسان إذا انعقدت أسبابه أما إذا كان وهمياً أوله سبب ضعيف فهو مذموم لأن صاحبه جبان. النوع الثاني: خوف "السر"، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو   1 سورة آل عمران، الآية: 175. 2 سورة القصص، الآية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ولي من الأولياء بعيداً عنه أن يصيب بمكروه وهذا الخوف هو الواقع بين عباد القبور والمتعلقين بالأولياء، قال تعالى عن قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} فهم يتصورون أن الآلهة يخاف منها لأنها قد تعتري الإنسان بسوء، ومعنى هذا في نظرهم أنها إذا كانت تنفع فإنه يتصور أنها تضر فهذا يطلق عليه خوف السر. النوع الثالث: أن يترك الإنسان ما يجب خوفاً من الناس كأن يترك الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر خوفاً من الناس فهذا خوف محرم ومذموم. النوع الرابع: خوف تعبد وتعلق هو أن يخاف أحداً يتعبد بالخوف له فيدعوه الخوف لطاعته، وهذا النوع هو خوف التعبد والتأله الذي يحمل على الطاعة والبعد عن المعصية وهذا خاص بالله تعالى. وتعلقه به من أعظم واجبات الدين ومقتضيات الإيمان، وتعلقه بغير الله تعالى من الشرك الأكبر؛ لأن الخوف من أعظم واجبات القلب1. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه ولاسيما إذا كان طالباً ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به، وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور ... "2.   1 انظر: "التيسير العزيز الحميد" للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: "ص484". 2 "مجموع الفتاوى": "1/54، 55". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والآية التي ساقها المؤلف دليل على أن الخوف عبادة لله تعالى بدليل أن الله جعل الخوف شرطاً لصحة الإيمان فقال تَعَالَى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وهذه الآية أولها قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} ، ومعنى "يخوف أولياءه"، أي: يخوفكم أولياءه ويعظمهم في صدوركم؛ لأجل أن تموت معنوياتكم فتخافوهم فتحصل الهزيمة. قال الأنباري: "والذي نختاره في الآية: يخوفكم أولياءه. تقول العرب: أعطيت الأموال، أي: أعطيت القوم الأموال. فيحذفون المفعول الأول"1. وقوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ} فيه بيان أنه لا يجوز للمؤمن أن يخاف أولياء الشيطان، ولا يخاف الناس كما قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 2، فخوف الله أمر به. وخوف أولياء الشيطان نهى عنه3. والشاهد في الآية أن الإنسان إذا خاف غير الله سبحانه خوف تعبد وتأله مستقر بالقلب يحمل على الطاعة والبعد عن المعصية فإن هذا الخوف من أنواع الشرك؛ لأن الله جل وعلا جعله من مقتضيات الإيمان، فمن صرف هذا لغير الله تعالى فليس بمؤمن. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معنى بديعاً من معاني الخوف كما نقله عنه ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين"4. يقول شيخ الإسلام: "الخوف   1 "مجموع الفتاوى": "1/56". 2 سورة المائدة، الآية: 44. 3 "مجموع الفتاوى": "1/57". 4 "1/514". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .   المحمود ما حجزك عن محارم الله". وقال بعض السلف: "لا يعد خائفاً من لم يكن للذنوب تاركاً"1. والخشية بمعنى الخوف، لكن الخشية أخص من الخوف؛ لأن الخشية مقرونة بمعرفة الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 2، فالخشية خوف مقرون بمعرفة الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما والله، إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" 3. قوله: "ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 4" أصل الرجاء هو الطمع أو انتظار الشيء المحبوب، والرجاء يتضمن التذلل والخضوع، فلا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، وتعليق الرجاء بغير الله شرك، وإن كان الله تعالى قد جعل لها أسباباً، فالسبب لا يستقل بنفسه بل لابد له من معاون، ولابد من انتفاء الموانع، وهو لا يحصل ولا يبقى إلا بمشيئة الله تعالى5.   1 "المفردات في غريب القرآن": "ص162". 2 سورة فاطر، الآية: 28. 3 "مدارج السالكين": "1/512"، والحديث أخرجه البخاري: "رقم5063"، "ومسلم": "1108". 4 سورة الكهف، الآية: 110. 5 "مجموع الفتاوى": "10/256". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والرجاء نوعان: 1- رجاء محمود: وهو رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه، ورجل أذنب ذنوباً ثم تاب منها، فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه. 2- رجاء مذموم: وهو رجاء رجل متمادٍ في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب. والفرق بين الرجاء والتمني: أن الرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل. والتمني يكون مع الكسل. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} وابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب بالمحبة والعبودية بالطاعة وأنواع القربات1. ومعنى قول تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا} ، أي: يعمل ويطلب وينتظر. وقوله {لِقَاءَ رَبِّهِ} المراد باللقاء أو اللقى هنا المعاينة، والمراد بها الملاقاة الخاصة؛ لأن اللقاء يوم القيامة نوعان: 1- نوع خاص: وهذا للمؤمنين، وهو لقاء الرضا والنعيم من الله سبحانه وتعالى. 2- لقاء عام: لجميع الناس، وقد دل على اللقاء العام قوله تعالى في سورة الانشقاق {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ   1 راجع "مدارج السالكين": "2/35-36". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً.. الآية} 1، فدل قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ... } ، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ ... } على أن اللقاء في قوله: {فَمُلَاقِيهِ} لقاء عام، أما في هذه الآية التي معنا فمعناها: فمن كان ينتظر ويطلب ويترقب لقاء الله سبحانه وتعالى الذي هو لقاء رضا ونعيم، فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بربه أحدا؛ لأن الذي يرجو ثواب الله ويخاف من عقابه يعمل عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، والعمل الصالح كما فسره أهل هو الخالص من الياء الموافق لشرع الله من واجب أو مستحب. وقوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ، يعني: لا يشرك في العبادة مع الله غيره كائناً من كان، لا ملكاً مقرباً ولا نبياً ولا ولياً ولا أحداً من الصالحين. وفي قوله سبحانه: {بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} إشارة إلى علة النهي عن الشرك، أي: فكما أنه ربك الذي خلقك ورباك ولم يشاركه أحد في خلقك فيجب أن تكون العبادة له وحده لا شريك له2. فالواجب على العبد أن يتحقق رجاءه فلا يعلقه إلا بالله تعالى، لا يعلقه بقوته ولا بعمله ولا يعلقه بمخلوق. ومن المأثور عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه"3. عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في   1 سورة الانشقاق، الآيات: 6-11. 2 "القول المفيد": "2/230". 3 حلية الأولياء "1/75-76". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الموت فقال: "كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف" 1. وعلى الإنسان أنه كلما قوي رجاؤه، وطمعه في فضل الله تعالى ورحمته وتيسير أموره، ودفع ضرورته؛ قويت عبوديته لربه، وحريته مما سواه. وإن رجا مخلوقاً، أو تعلق به؛ انصرف قلبه عن العبودية لله تعالى، وصار عبداً لغيره بقدر ما قام في قلبه من التعلق والرجاء؛ فذل لغير الله وخضع2. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام نفيس في هذا الموضوع أنقله ليستفيد منه القارئ، يقول رحمه الله: "اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء. وأقواها المحبة، وهي مقصودة تراد لذاتها؛ لأنها تراد في الدنيا والآخرة، بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة. قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 3، والخوف المقصود منه: الزجر والمنع من الخروج عن الطريق. فالمحبة تلقي العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب،   1 أخرجه الترمذي: "رقم 983"، وابن ماجه: "رقم4261".، وحسنه الألباني: في صحيح ابن ماجه "2/420". 2 انظر: "مجموع الفتاوى": "10/256-257". 3 سورة يونس، الآية: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 َودَلِيلُ التَّوَكُلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .   والرجاء يقوده. فهذا أصل عظيم، يجب على كل عبد أن ينتبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه، وكل أحد يجب أن يكون عبداً لله لا لغيره. فإن قيل: فالعبد في بعض الأحيان قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه. فأي شيء يحرك القلوب. قلنا: يحركها شيئان: أحدهما: كثرة الذكر للمحبوب؛ لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به. الثاني: مطالعة آلائه ونعمائه ... فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه من تسخير السماء والأرض وما فيها من الأشجار والحيوان وما أسبغ عليه من النعم الباطنة من الإيمان وغيره فلا بد أن يثير عنده باعثاً. وكذلك الخوف تحركه مطالعة آيات الوعيد والزجر والعرض والحساب ونحوه. وكذلك الرجاء يحركه مطالعة الكرم والحلم والعفو"1. قوله: "َودَلِيلُ التَّوَكُلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} " أصل التوكل: الاعتماد. تقول: توكلت على الله توكلاً، أي: اعتمدت عليه، هذا معنى التوكل. وحقيقة التوكل: أن يعتمد العبد على الله سبحانه وتعالى اعتماداً صادقاً في مصالح دينه ودنياه مع فعل الأسباب المأذون فيها. فالتوكل: اعتقاد، واعتماد، وعمل. أما الاعتقاد فهو: أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، فإن ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن. والله جل وعلا هو: النافع، الضار، المعطي، المانع. ثم بعد هذا   1 "مجموع الفتاوى": "1/95-96". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الاعتقاد يعتقد بقلبه على ربه سبحانه، ويثق به غاية الوثوق، ثم بعد هذا يأتي الأمر الثالث وهو: أن يفعل الأسباب المأذون فيها شرعاً. والتوكل على الله تعالى نوعان: أحدهما: توكل عليه في تحصيل حظ العبد من الرزق والعافية وغيرهما. وثانيهما: توكل عليه في تحصيل مرضاته. فأما النوع الأول فغايته المطلوبة وإن لم تكن عبادة؛ لأنها محض حظ العبد، فالتوكل على الله في حصوله عبادة، فهو منشأ لمصلحة دينه ودنياه. وأما النوع الثاني: فغايته عبادة، وهو في نفسه عبادة، فلا علة فيه بوجه فإنه استعانة بالله على ما يرضيه. فصاحبه متحقق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1. وأما التوكل على غير الله تعالى فأنواع: النوع الأول: التوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من جلب المنافع ودفع المضار، وهذا شرك أكبر لأنه إذا كان التوكل على الله من تمام الإيمان، فالتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه غير الله من الشرك الأكبر، وهذا النوع هو المراد بقوله تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 2، وقال تعالى:   1 "طريق الهجرتين": "ص336"، والآية من سورة الفاتحة، رقم: 5. 2 سورة هود، الآية: 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 1. النوع الثاني: أن يتوكل على حي حاضر من ملك أو وزير أو مسؤول فيما أقدره الله عليه من زرق أو دفع أذى، وهذا شرك أصغر، بسبب قوة تعلق القلب بهذا الإنسان واعتماده عليه. أما إذا اعتقد أن هذا الإنسان سبب، وأن الله تعالى هو الذي أقدره على هذا الشيء وأجراه على يديه فهذا لا بأس به إذا كان لهذا الإنسان أثر صحيح في حصول المراد. لكن كثيراً من الناس قد لا يمر على باله هذا المعنى، ويكاد يعتمد على هذا الإنسان في حصول مراده. النوع الثالث: الاعتماد على الغير في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه فهذا جائز دل عليه الكتاب والسنة والإجماع. لكن لا يعتمد عليه في حصول ما وكل فيه بل يتوكل على الله سبحانه وتعالى في تيسير أمره الذي يطلبه إما بنفسه أو بنائبه ولهذا لا تقول: توكلت على فلان إنما تقول: وكلت فلاناً، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم علياً في ذبح بقية بدنه في حجة الوداع2، ووكل أبا هريرة رضي الله عنه على الصدقة3، ووكل عروة بن الجعد أن   1 سورة الأنفال، الآيات: 2-4. 2 انظر: "تيسير العزيز الحميد": "ص497".، وتوكيله صلى الله عليه وسلم علياً أخرجه مسلم من حديث جابر صلى الله عليه وسلم: "رقم1218". 3 أخرجه البخاري: "4/487-فتح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} .   يشتري له أضحية1. أما الآية وهي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، فقوله: {وَعَلَى اللَّهِ} ، أي: لا على غيره، وهذا يفيد الحصر؛ لأن من طرق القصر عند البلاغيين تقدم ما حقه التأخير، والأصل: توكلوا على الله، وقوله: {فَتَوَكَّلُوا} هذا أمر يدل على وجوب التوكل، أي: اعتمدوا على الله جل وعلا، وفوضوا أموركم إليه. فدلت الآية على وجوب التوكل، وأنه من العبادات. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، أي: إن كنتم مؤمنين بالله جل وعلا فعليه توكلوا. قال ابن القيم: "فجعل التوكل على الله شرطاً في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه فمن لا توكل له لا إيمان له"2. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3 ساق المؤلف آيتين في التوكل، والغالب أنه لا يسوق إلا دليلاً واحداً وكأنه أراد –والله أعلم- أن الدليل الأول فيه وجوب التوكل والأمر بالتوكل، والدليل الثاني فيه جزاء من توكل على الله، هذا الذي يظهر، والله أعلم. وقوله: {فَهُوَ حَسْبُهُ} ، أي: كافيه. ومن كان الله جل وعلا كافيه تيسرت أموره، ولا مطمع لأحد فيه، وهو يدل على عظم شأن التوكل   1 أخرجه البخاري: "6/632" 2 انظر: "مدارج السالكين": "2/129". 3 سورة الطلاق، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ودليل الرغبة والرهبة والخشوع وقوله تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} .   وفضله، حتى إنه لم يأت في أي عبادة من العبادات أن الله قال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} إلا في مقام التوكل. ومن فضيلة التوكل –أيضاً-: أن الله تعالى جعله سبباً لنيل محبته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 1. ومن فضيلة أنه دليل على صحة إسلام المتوكل، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 2. قوله: "ودليل الرغبة والرهبة والخشوع وقوله تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 3" هذه ثلاثة أنواع من العبادة دلت عليها آية واحدة. الأول الرهبة. والرهبة بمعنى الخوف المثمر للهرب من المخوف. فهي خوف مقرون بعمل. قال الراغب: الرهبة والرهب: مخافة مع تحرز واضطراب4. والثاني: الرغبة. ومعناها السؤال والتضرع والابتهال مع محبة الوصول إلى الشيء المحبوب فإذا كان يدعو وعنده قوة لحصول مطلوبه فهذه رغبة.   1 سورة آل عمران، الآية: 159. 2 سورة يونس، الآية: 84. 3 سورة الأنبياء، الآية: 90. 4 "المفردات في غريب القران": "ص204". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والثالث: الخشوع وهو التذلل والتطامن، وهو بمعنى الخضوع إلا أن الخضوع يغلب أن يكون في البدن، والخشوع في القلب أو البصر أو الصوت. قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} 1، وقال تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ} 2، وقال تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} 3، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} 4. والدليل على أن هذه الثلاثة عبادات: أن الله جل وعلا أثنى على الأنبياء الذين تقدم ذكرهم في هذه السورة –سورة الأنبياء- أو على زكريا عليه الصلاة والسلام وأهل بيته فقال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ، يعني: يبادرون في الطاعات، ويسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى نيل القربات، وهذا يدل على أن المسلم ينبغي له المبادرة بطاعة الله جل وعلا، كما قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ... } 5. وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} الرغب والرهب مصدران لرغب يرغب رغباً، ورغبة بمعنى: الضراعة والمسألة، ورهب يرهب رهباً، ورهبة، أي: خاف. والمعنى: يدعوننا رغباً في رحمتنا ورهباً من عقوبتنا {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ،   1 سورة المؤمنون، الآية: 2. 2 سورة طه، الآية: 108. 3 سورة المعارج، الآية: 44. 4 سورة الحديد، الآية: 16. 5 سورة آل عمران، الآية: 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} الآية.   أي: خاضعين متذللين، فأثنى الله تعالى عليهم ومدحهم بهذه الصفات ولا يمدح إلا من كان عابداً لله تعالى. وفي الآية دليل على أنه ينبغي للداعي أن يجمع بين الرغبة في رحمة الله تعالى والرهبة من عذابه. وعلى فضل الخشوع في العبادات لاسيما الصلاة والدعاء. قوله: "ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} الآية1" تقدم أن الخشية بمعنى الخوف، ولكن الخشية أخص؛ لأنها مبنية على علم بعظمة من يخشاه. قال الراغب: "الخشية: خوف يشوبه تعظيم. وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه. ولذلك خص العلماء بها في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 2. ووجه الدلالة من الآية على أن الخشية من أجل العبادات أن الله تعالى نهي المسلمين عن خشية الكفار وأمر بخشية وحده لا شريك له. ومثلها قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} . يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "الخوف والخشية والخشوع والإخبات والوجل معانيها متقاربة، فالخوف يمنع العبد عن محارم الله، وتشاركه الخشية في ذلك، وتزيد أن الخوف مقرون بمعرفة الله. وأما الخشوع والإخبات والوجل فإنها تنشأ عن الخوف والخشية لله، فيخضع   1 سورة المائدة، الآية: 3. 2 المفردات: "ص149"، والآية من سورة فاطر، رقم: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} الآية.   العبد لله ويخبت إلى ربه منيباً إليه بقلبه ويحدث له له الوجل. وأما الخشوع فهو حضور القلب وقت تلبسه بطاعة الله وسكون ظاهرة وباطنة فهذا خشوع خاص. وأما الخشوع الدائم الذي هو وصف خواص المؤمنين فينشأ من كمال معرفة العبد بربه ومراقبته فيستولي ذلك على القلب كما تستولي المحبة"1. قوله: "وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} 2". الإنابة بمعنى التوبة، ولكن قال العلماء: إنها أعلى من التوبة؛ لأن التوبة إقلاع وندم وعزم على ألا يعود، أما الإنابة ففيها المعاني الثلاثة، وتزيد معنى آخر وهو الإقبال على الله تعالى بالعبادات، فإذا أقلع الإنسان من معصية، وعزم ألا يعود، وندم على ما مضى، واستمر على ما هو عليه من عباداته، يقال: هذا تائب، لكن من معصية، وعزم ألا يعود، وندم على ما مضى، واستمر على ما هو عليه من عباداته، يقال: هذا تائب، لكن إذا تجدد له الإقبال بعد موته فهذا منيب إلى الله تعالى، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن الإنابة إنابتان: 1- إنابة لربوبيته: وهي إنابة المخلوقات كلها يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} 3، فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع. وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام بل تجامع الشرك والكفر، كما قال تعالى في   1 "فوائد قرآنية": "ص96". 2 سورة الزمر، الآية: 54. 3 سورة الروم، الآية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   حق هؤلاء: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} 1. 2- إنابة لإلهيته: وهي إنابة أوليائه، إنابة عبودية ومحبة، وتتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه. فالمنيب إلى الله: المسرع إلى مرضاته الراجع إليه كل وقت المتقدم إلى محابه؛ لأن لفظ "الإنابة" فيه معنى الإسراع والرجوع والتقدم2. وفي الآية الكريمة ما يدل على أن الإنابة من العبادات، وأن الله جل وعلا أمر بها. ولهذا لم يذكر المصنف التوبة من أنواع العبادة، إنما اقتصر على ذكر الإنابة؛ لأن صورة العبادة بالنسبة للإنابة أوضح من صورتها بالنسبة إلى التوبة بسبب زيادة الإقبال على العبادة. وقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} ، أي: ارجعوا إليه بالطاعة، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} ، المراد بالإسلام في الآية الكريمة هو الإسلام الشرعي، ومعناه: الاستسلام والانقياد لأحكام الشريعة، وهذا لا يكون إلا للطائعين، فالطائع مسلم إسلاماً شرعياً؛ لأنه انقاد لأحكام الشرع، أما بالنسبة إلى الإسلام الكوني، وهو المعنى الثاني، فهذا هو الاستسلام لحكم الله الكوني، وهذا ليس خاصاً بالطائعين بدليل قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 3، ففيه من يسلم طائعاً،   1 سورة الروم، الآيتان: 33-34. 2 "مدارج السالكين": "1/434". 3 سورة آل عمران، الآية: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ودليل الاستعانة وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .   وفيه من يسلم وهو كاره. ومعنى هذه الآية أن جميع من في السموات ومن في الأرض منقادون لحكم الله الكوني بمعنى أنهم منقادون لما يجريه الله تعالى ويقدره عليهم شاءوا أم أبوا فهذا إسلام كوني. أما الإسلام الشرعي الذي يمدح فاعله وهو من أنواع العبادة فهو المعنى الأول. قوله: "ودليل الاستعانة وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} " الاستعانة طلب العون؛ لأن الألف والسين والتاء في اللغة للطلب، فإذا قيل: استعان فمعناه طلب الإعانة، وإذا قيل: استغاث، أي: طلب الغوث. وإذا قيل: استخبر، أي: طلب الخبر. والاستعانة أنواع: النوع الأول: الاستعانة بالله، وهي الاستعانة المتضمنة كمال الذل من العبد لربه مع الثقة به والاعتماد عليه، وهذه لا تكون إلا لله فهي تتضمن ثلاثة أشياء: الأول: الخضوع والتذلل لله تعالى. الثاني: الثقة بالله جل وعلا. الثالث: الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، وهذه لا تكون إلا لله، فمن استعان بغير الله محققاً هذه المعاني الثلاثة فقد أشرك مع الله غيره1. والعبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل. وهذا تحقيق معنى قول:   1 انظر: "مدارج السالكين": "1/74، 75". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فإن المعنى: لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله تعالى. وهذه كلمة عظيمة، وهي كنز من كنوز الجنة، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور. وهذه في الدنيا. وكذا عند الموت وبعده من أحوال البرزخ ويوم القيامة ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل. فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه1. النوع الثاني: الاستعانة بالمخلوق على أمر قادر عليه. ومعنى الاستعانة بالمخلوق: أن تطلب منه أن يعينك ويساعدك، وشرط ذلك أن يكون في أمر يقدر عليه، فهذه إن كانت على بر وخير فهي جائزة والمعين مثاب على لأنه إحسان، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 2، وإن كانت على إثم فهي حرام، قال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . النوع الثالث: الاستعانة بالأموات أو بالأحياء على أمر غائب لا يقدرون عليه فهذا شرك؛ لأنه إذا استعان بالميت أو بحي على أمر بعيد غائب عنه لا يقدر عليه؛ فهذا يدل على أنه يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً في الكون وأن مع الله مدبراً. النوع الرابع: الاستعانة بأعمال وأحوال محبوبة شرعاً، فهذا النوع مشروع بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ   1 انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب: شرح الحديث "19". 2 سورة المائدة، الآية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وفي الحديث: "إذا استعنت فاستعن بالله".   مَعَ الصَّابِرِينَ} 1، فكونك تستعين بالصبر وتستعين بالصلاة على أمورك هذا أمر محبوب2. وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في هذه الآية اجتمع أمران عظيمان عليهما مدار العبودية. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تبرؤ من الشرك. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تبرؤ من الحول والقوة، وتقديم المعمول هنا يفيد الحصر –كما مر-؛ لأن المعنى لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك. يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "وتقديم العبادة على الاستعانة بمن باب تقديم العام على الخاص. واهتماماً بقديم حقه الله تعالى على حق عبده ... وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريد من فعل الأوامر واجتناب النواهي"3. قوله: وفي الحديث: "إذا استعنت فاستعن بالله" هذا جزء من حديث ابن عباس، وهو حديث عظيم جليل القدر4، أوله: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك"، أي: احفظ حدوده وأوامر يحفظك   1 سورة البقرة، الآية: 153. 2 انظر: "شرح الأصول الثلاثة" للشيخ محمد العثيمين: "ص58". 3 "تفسير ابن سعدي": "1/28،29". 4 "جامع الترمذي": "7/219-تحفة". وأخرجه أحمد: "1/293" ... وللحافظ ابن رجب شرح وافٍ لهذا الحديث مطبوع في جزء لطيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .   حيث توجهت، "وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". والمعنى: عليك أن تحصر استعانتك وطلبك العون في الله سبحانه وتعالى، فمن استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك. قوله: "وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 1" و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} 2. الاستعاذة: هي الاعتصام والالتجاء إلى من تعتقد أنه يعيذك ويلجئك. والاستعاذة بالله تعالى هي التي تتضمن كمال الافتقار إليه سبحانه، والاعتصام به، واعتقاد كفايته وتمام حمايته من كل شر. ولا ريب أن هذه المعاني لا تكون إلا سبحانه وتعالى. ويدخل في الاستعاذة بالله جل وعلا: الاستعاذة بصفاته، والاستعاذة بكلماته وبعزته، ونحو هذا، كما في بعض الأوراد الصحيحة الثابتة: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" 3، و"أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"4، فهذا استعاذة بالله سبحانه وتعالى. أما الاستعاذة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين القادرين فهذا شرك كما تقدم في الاستعانة. أما الاستعانة بمخلوق يمكن العوذ به لأنه قادر، فهذا يجوز كما لو هربت من سبع والتجأت إلى شخص آخر   1 سورة الناس، الآية: 1. 2 سورة الفلق: الآية: 1. 3 أخرجه مسلم: "رقم2708". 4 أخرجه مسلم: "رقم2202". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية.   يحميك أو هربت من عدو والتجأت إلى شخص آخر يمنعك منه. وقد يكون الالتجاء إلى أمكنة، كأن شجرة أو يدخل في مكان، فمثل هذا لا بأس به. وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة تبع له في هذا، ومعنى {أَعُوذُ} ، أي التجئ وأتحصن {بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، الفلق: هو الصبح والمعنى –والله أعلم-: أن القادر على إزالة هذه الظلمة من العالم قادر على أن يدفع عن هذا المستعيذ ما يخافه ويخشاه. وقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، أي: خالقهم ومصلح أحوالهم. وفي الآيتين دليل على وجوب الاستعاذة بالله تعالى من جميع شرور خلقه، وأنه سبحانه وتعالى القادر على إعاذة عبده ودفع الشرور عنه. وقد ورد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 1". وقوله: "وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 2" الاستغاثة أن تطلب الغوث ممن يستطيع أن ينقذك من ضيق أو شدة.   1 أخرجه مسلم: "رقم814"، والترمذي: "5/453". 2 سورة الأنفال، الآية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والفرق بين الاستغاثة والاستعاذة تطلب منه أن يعصمك وأن يمنعك وأن يحصنك، والاستغاثة تطلب منه أن يزيل ما فيك من شدة، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى القادر على كل شيء. والاستغاثة كالاستعاذة تتضمن كمال الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى واعتقاد كفايته. قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} ، أي: تستجيرون ربكم وتطلبون منه الغوث فاستجاب لكم. وهذه الآية نزلت في عزوة بدر الكبرى. وكان المشركون أكثر من المسلمين ثلاث مرات، فالمسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم توجهوا إلى الله سبحانه وتعالى بأن يمدهم بالنصر وأن يخلصهم من هذا الموقف الذي هم فيه. وقد ورد عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة –وفي روايات أخرى: أنهم بين الألف والتسعمائة- فاستقل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: "اللهم أنجز لي ما عدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً، قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده ثم التزامه من ورائه ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} 1.   1 أخرجه مسلم: "رقم 1762"، وأحمد: "1/30، 31". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .   قوله: "ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 1" المراد بالذبح هنا: ذبح القربان والضحايا والهدايا والذبح يقع على وجوه: النوع الأول: يقع عبادة لله يقصد بها الذابح تعظيم المذبوح له، والتقرب إليه، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، فلو تقرب بالذبح لشخص من سلطان أو غيره لوقع في المشرك. وعلامة ذلك أنه يذبح في وجهه، أي: يريق الدم ساعة حضوره. فهذا معناه التعظيم، ودليل على أنه قصد بهذا التقرب إليه. وكذا لو ذبح للأولياء أو للجن كما يفعله كثير من الجهلة في بعض الجهات فهذا من الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة والعياذة بالله2. النوع الثاني: وهو الذبح إكراماً للضيف أو لوليمة عرس، فهذا مأمور به في الشرع إما وجوباً أو استحساناً. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "أولم ولو بشاة"، وفي قصة الأنصاري الذي جاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فإنه لما ذهب يذبح لهم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إياك والحلوب" فذبح لهم.. فأقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذبحه لهم3.   1 سورة الأنعام، الآية: 162. 2 انظر: "فتح المجيد": "ص146". 3 أخرجه مسلم: "رقم2038". وانظر: "جامع الأصول": "4/691". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   النوع الثالث: أن يكون الذبح للتمتع بالأكل من المذبوح أو الاتجار به فهذا على الأصل في المنافع وهو الإباحة. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} 1فامتن الله علينا بالأكل من هذه الأنعام2. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي} ، أي: جميع صلواتي {وَنُسُكِي} ، أي: جميع أنساكي وهي العبادات أو الذبائح التي يتقرب بها إلى تعالى من الهدي والأضحية والعقيقة، وفي هذا إثبات توحيد العبادة. {وَمَحْيَايَ} ، أي: أمر حياتي وما أعمله فيها. {وَمَمَاتِي} ، أي: أمر موتي وما ألقاه بعد، وفي هذا إثبات لتوحيد الربوبية {لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي: خالص ومختص بالله خالق ومالك ومدبر العالمين. وهم كل من سوى الله تعالى. {لاَ شَرِيكَ لَهُ} ، أي: لا مشارك له في العبادة كما أنه لا شريك له في الملك والتدبير. {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} ، أي: وبذلك الإخلاص والتوحيد أمرني الله تعالى أمراً حتماً لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله. {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، أي: أسبقهم انقياداً إلى الإسلام لكمال علمه بالله تعالى، إن كان المراد بالأولية أولية الانقياد أو أسبقهم زمناً ويكون المراد بـ:   1 سورة يس، الآيتان: 71، 72. 2 انظر: "تيسير العزيز الحميد": "ص190-191"، "وشرح الأصول الثلاثة" لابن عثيمين: "ص62". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وَمِنَ السُنَّةِ: "لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله".   {الْمُسْلِمِينَ} مسلمي أمته. وإن كان المراد أولية الزمن. والله أعلم بمراده في كتابه1. قال في "قرة عيون الموحدين": "والمقصود أن هذه الآية دلت على أن أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة لا يجوز أن يصرف منها شيئاً لغير الله كائناً من كان، فمن صرف شيئاً لغير الله؛ فقد وقع فيما نفاه تعالى من الشرك بقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} والقرآن كله في تقرير هذا التوحيد في عبادته وبيانه، ونفي الشرك والبراء منه"2. قوله: "وَمِنَ السُنَّةِ: "لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله" هذا الحديث جزء من حديث علي رضي الله عنه قال: "حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض" 3. واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله. وقوله: "لعن الله" هذا يحتمل أنه خبر، ويحتمل أنه إنشاء، فإن كان خبراً فمعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الله جل وعلا لعن من ذبح لغير الله. وإن كان إنشا فمعناه: الدعاء، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو على من ذبح لغير الله أن يطرده من رحمته. والخبر أبلغ لأنه يفيد وقوع اللعن بخلاف الدعاء فقد يستجاب وقد لا يستجاب4.   1 انظر: "فتح القدير" للشوكاني: "2/185"، "وتفسير ابن سعدي": "2/92"، "الإلمام ببعض الآيات الأحكام" للشيخ محمد بن عثيمين: [تفسير ثالث متوسط: ص76] . 2 "قرة عيون الموحدين": ص85. 3 أخرجه مسلم: "رقم1978". 4 "القول المفيد": "1/223". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وَدَلِيلُ النَّذْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} .   والذبح لغير الله عام سواء كان لملك أو لنبي أو لولي أو سلطان أو جني أو غير ذلك. وسواء كان المذبوح بعيراً أو بقرة أو شاة أو دجاجة أو غيرها. والذبح لله من أجل الطاعات وأعظم القربات, وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي1. وأهدى إلى البيت مائة بدنة في حجة الوداع2. قوله: "وَدَلِيلُ النَّذْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 3" النذر: أن يلزم الإنسان نفسه شيئاً غير لازم بأصل بالشرع، فيلزم نفسه بصدقة أو صيام أو صلاة أو غير ذلك، إما بتعليقة على شيء نحو: إن شفى الله مريضي لأصومن ثلاثة أيام أو أتصدق بكذا، أو يكون ابتداء نحو: لله علي أن أتصدق بكذا. والجمهور على أنه مكروه. وقالت طائفة بتحريمة؛ لإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال:"إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل" 4، ولكنه إذا وقع وجب الوفاء به في الجملة. ووجه الدلالة من الآية على أن النذر عبادة: أن الله مدح الموفين بالنذر، وكل أمر مدحه الشارع، أو أثنى على من قام به فهو عبادة؛ ولهذا أمر الله تعالى بالوفاء به قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} 5، أي:   1 أخرجه أحمد: "13/65- الفتح الرباني"، والترمذي: "5/96- تحفة" وسنده حسن. 2 أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه: "رقم1218"، كما تقدم. 3 سورة الإنسان، الآية: 07. 4 أخرجه البخاري: "11/499"، ومسلم برقم: "1639" واللفظ له. 5 سورة الحج، الاية:29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 أعمال حجهم وسميت نذوراً؛ لأن من أحرم بالحج فقد ألزم نفسه إتمامه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" 1. فالنذر عبادة لا يجوز للإنسان أن ينذر لغير الله تعالى. فمن نذر لصنم أو لنبي ونحوهما فهو نذر باطل يحرم الوفاء به الإجماع وعليه أن يستغفر الله من هذا العمل2. وقوله تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} ، أي: منتشراً عاماً بين الناس إلا من أدركه رحمة الله عز وجل.   1 أخرجه البخاري: "رقم6696". 2 انظر: "تيسير العزيز الحميد": "ص204". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة المرتبة الأولى: الإسلام ... الأصل الثاني معرفة دين الإسلام بالأدلة.   قوله: "الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة" لما فرغ المصنف رحمه الله من الكلام على الأصل الأول وهو معرفة العبد ربه وحققه تحقيقاً بديعاً، وساق عليه الأدلة الكافية انتقل إلى الأصل الثاني: وهو معرفة دين الإسلام. والدين في اللغة: يطلق على معان عدة منها: 1- الطاعة والانقياد. يقال: دان ديناً وديانة، أي: خضع، وذل وأطاع. 2- ما يتدين به الإنسان، يقال: دان بكذا، أي: اتخذه ديناً وتعبد به. والمعنى الثاني يدخل في مفهومه المعنى الأول؛ لأن من دان بدين خضع لتعاليمه وانقاد لها1. والدين الإسلامي: هو الدين الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، جعله خاتمة الأديان، وأكمله لعباده، وأتم به عليهم النعمة. وتقدم ذكر ذلك. وقد أشار المصنف رحمه الله بقوله: "معرفة دين الإسلام بالأدلة" إلى أن معرفة الدين لابد أن تكون مقرونة بالدليل، إما من كتاب وإما من سنة. فيجب على الإنسان أن يكون عالماً بالدليل على ما يقوم به من عبادة الله تعالى، ليكون على بصيرة من أمر دينه؛ لأن ذلك من أسباب الثبات عند السؤال في القبر بتوفيق الله تعالى. وتقدم هذا في أول الرسالة.   1 انظر: مادة "دين" من معاجم اللغة. وانظر: "نبذة في العقيدة الإسلامية": "ص5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَهُوَ الاسْتِسْلامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، والخلوص من الشرك.   قوله: "وهو"، أي: دين الإسلام، الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم يقوم على ثلاثة أسس: الأساس الأول: الاستسلام لله بالتوحيد. الأساس الثاني: الانقياد لله تعالى بالطاعة. الأساس الثالث: البراءة من الشرك ومن أهل الشرك. فهذه الأمور الثلاثة هي التي ينتظمها دين الإسلام. أما الأول فهو "الاستسلام لله" بمعنى: الخضوع والذل له سبحانه؛ لأن من معاني مادة "أسلم" في اللغة: الطاعة والإذعان. وقد ورد هذا في قول الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} 1، والمسلم سمي بذلك لخضوع جوارحه لطاعة بربه2. وقوله: "بالتوحيد" هذا شامل لتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، والمعنى: أن يستسلم ويخضع لله عز وجل وأن يفرد بربوبيته وألوهيته. الثاني: "والانقياد له بالطاعة" الطاعة تشتمل المأمور والمحضور. الطاعة في المأمور بالفعل، والطاعة في المحضور بالترك. الثالث: "والخلوص من الشرك"، أي: البراءة من الشرك وأهله، فلا يتم دين الإنسان إلا إذا تبرأ من المشركين وتبرأ من الشرك فلا يشاركهم في اعتقاد، ولا يشاركهم في مسكن، ولا يتشبه بهم أو يأخذ شيئاً من عادتهم أو من تقاليدهم كما مر.   1 سورة الزمر، الآية: 54. 2 انظر: "لسان العرب": مادة "سلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وهو ثلاث مراتب: "الإسلام" و"الإيمان" و"الإحسان". وكل مرتبة لها أركان. فأركان الإسلام: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.   قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1. قوله: "وهو ثلاث مراتب"، يعني: الدين ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان، كما في حديث عمر رضي الله عنه وسيأتي إن شاء الله. والمراتب: جمع مرتبة، والمرتبة والرتبة: هي المنزلة، والمكانة، ورتب الشيء ترتيباً: أثبته وجعله في مرتبته، أي، منزلته2. قوله: وكل مرتبة لها أركان. فأركان الإسلام: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام". الأركان جمع ركن، وهو جانب الشيء الأقوى الذي لا يقوم ولا يتم إلا به. ودليل هذه الأركان الخمسة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما   1 سورة الممتحنة، الآية: 4. 2 انظر: الوافي "معجم وسيط للغة العربية": "ص222". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وحج البيت، وصوم رمضان" 1. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "المراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس، فهي كالأركان والدعائم لبنيانه، والمقصود تمثيل الإسلام بنيان هذه الخمس، فلا يثبت البنيان بدونها، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان، فإذا فقد منها شيء نقص البنيان وهو قائم، لا ينقص ذلك، بخلاف نقص هذه الدعائم، فإن الإسلام يزول بفقدها جميعاً بغير إشكال وكذلك يزول بفقد الشهادتين، وإما إقام الصلاة فقد وردت أحاديث مقصودة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام ... وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف ... وذهبت طائفة منهم إلى أن من ترك من أركان الإسلام الخمسة عمداً أنه كافر بذلك ... "2. فالركن الأول: هو الشهادة ومعناها: الاعتقاد الجازم، والذي ينبئ عن هذا الاعتقاد هو اللسان، فالشهادة: هي الاعتقاد الجازم الذي يعبر عنه اللسان، وأطلق على الاعتقاد لفظ الشهادة؛ لبيان أنه لابد من الاعتقاد الجازم. والشهادة تكون مقرونة برؤية المشهود عليه أو بسماعه مثلاً. فلما   1 أخرجه البخاري: "1/49-فتح"، ومسلم: "رقم16". 2 "جامع العلوم والحكم": شرح الحديث الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   أريد أن هذا الاعتقاد يكون جازماً عبر عنه بلفظ يدل على الجزم وهو لفظ الشهادة، هذه هي الحكمة -والله أعلم- من أنه يقال: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمداً رسول الله ولا يقال اعتقاد. فاختير لفظ الشهادة دون لفظ الاعتقاد من باب التوكيد والجزم حتى كأن هذا الذي تعتقده كأنك تشاهده والذي تشاهده تشهد به. هذا معنى لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله. ثم هنا مسألة أخرى وهي أنه في هذا الحديث جعلت الشهادتان ركناً واحداً فلم تجعل شهادة أن لا إله إلا الله ركناً وتجعل شهادة أن محمداً رسول الله ركناً؛ لأن المشهود به متعدد. والجواب عن هذا السؤال من وجهين: الأول: أن هاتين الشهادتين أساس صحة الأعمال وقبولها إذ لا يقبل العمل ولا يكون صحيحاً إلا بأمرين: 1- الإخلاص لله سبحانه. 2- المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم فإذا تحققت شهادة أن لا إله إلا الله، وإذا وجدت المتابعة تحققت شهادة أن محمداً رسول الله. فإذا كانت الشهادتين هم أساس الأعمال صح أن يكون ركناً واحداً. الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله، فالشهادة له بالرسالة والعبودية من تمام أن لا إله إلا الله، فكأن الثانية تكملة للأولى. أما بقية الأركان فيأتي الكلام عليها _إن شاء الله- عند سياق المصنف أدلتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .   قوله: "فَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1" بدأ المصنف رحمه الله بذكر الأدلة على الأركان. والآية التي ساقها دليلاً على الشهادة آية عظيمة دلت على أعظم شهادة من أجل شاهد لأعظم مشهود به، فأعظم شهادة هي شهادة التوحيد من أجل شاهد وهو {اللَّهُ} سبحانه وتعالى ثم {والْمَلائِكَةُ} على أعظم مشهود به وهو أنه لا إله إلا الله، ومعنى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي: حكم وأعلم وأخبر؛ لأن الشهادة تأتي بهذه المعاني: وقوله: {وَأُولُو الْعِلْمِ} ، المراد بالعلم هنا: العلم الشرعي الذي هو نور القلوب وحياتها. والمراد بأولي العلم: الأنبياء والعلماء. وفي قوله تعالى: {وَأُولُو الْعِلْمِ} دليل واضح على فضل العلم وأهله؛ لأن الله جل وعلا خصهم بالذكر من دون البشر ولو كان أحد يقاربهم في هذا لذكر معهم، بل لو كان أحد أفضل منهم لذكر. والله جل وعلا خصهم بالذكر وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة، فيصلح أن تكون الآية من الأدلة على فضل العلم من وجهين: الوجه الأول: أن الله تعالى خصهم بالذكر دون سائر البشر؛ لأن الله لم يذكر من البشر أحداً إلا أولي العلم، فإنه سبحانه ذكر نفسه المقدسة {شَهِدَ اللَّهُ} ، وذكر الملائكة وهم ليسوا من البشر، ولم يذكر من البشر   1 سورة أل عمران، الآية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ومعناها: لا معبود حق إلا الله وحده.   إلا أولي العلم، فلو كان من البشر من هو أفضل من أولي العلم أو مثلهم لذكر. الوجه الثاني: أن الله تعالى قرن شهادتهم بشهادته، وهذه رفعة لهم، حيث إنهم يشهدون بألوهية الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة. وقوله تعالى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} القسط: هو العدل في القول والعمل والحكم. و {قَائِماً بِالْقِسْطِ} حال لازمة، أي: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ حال كونه {قَائِماً بِالْقِسْطِ} ، ثم أعاد توحيده مرة أخرى سبحانه وتعالى فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . قوله: "ومعناها"، أي: شهادة أن لا إله إلا الله "لا معبود حق إلا الله" فلا إله، أي: "لا معبود"، وأصل إله بمعنى: مألوه، من أله يأله إلهة، أي: عبد يعبد عبادة، والتأله في لغة العرب معناه: التعبد. فـ"لا" هنا نافية للجنس وتسمى أيضاً في بعض كتب النحو بـ"لا التبرئة"، فإذا قال: لا إله إلا الله، تبرأ من جميع المعبودات إلا الله. و"إله" اسم "لا" والخبر محذوف، والنحويون يقدرون الخبر كلمة "موجود"، وهذا التقدير ليس بصحيح إذ لا يصح أن يقال: إله موجود إلا الله؛ لأن فيه آلهة موجودة كثيرة غير الله سبحانه وتعالى. مثل الأشجار والأحجار والأشخاص إلى غير ذلك، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1. فهذا التقدير لا يصلح، والصواب أن يكون   1 سورة لقمان، الآية: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 "لا اله" نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ. "إِلا اللهُ" مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أنه ليس له شريك في ملكه.   التقدير لا إله حق أو لا إله معبود بحق. "إلا الله" سبحانه وتعالى، "وإلا" حصر، ولفظ الجلالة بدل من الضمير المستتر في الخبر؛ لأن خبر "لا" إذا قلنا: لا إله معبود بحق، أو قلنا: لا إله حق، فيه ضمير مستتر فيكون لفظ الجلالة بدلاً من هذا الضمير، هذا هو إعراب كلمة الإخلاص، وإنما ذكرت إعرابها لأنه قد يمر على الطالب في بعض كتب النحو تقدير الخبر بكلمة "موجود" وقد تبين فساده1. قوله: " [لا اله] نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ. "إِلا اللهُ" مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أنه ليس له شريك في ملكه"، أي: أن هذه الكلمة العظيمة اشتملت على نفي وإثبات، فإن معناها: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2، مع قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3، ففيها إثبات الألوهية الحقة لله تعالى، وترك عبادة ما سواه، وأن ما سوى الله ليس بإله وأن إلهية ما سواه من أبطل الباطل، قال   1 ومنهم من يرى أن الكلام تام لا يحتاج إلى تقدير خبر فـ"لا إله" مبتدأ، و"إلا الله" خبره. راجع رسالة: "التجريد في إعراب كلمة التوحيد" تأليف العلامة الشيخ علي القاري، المتوفى سنة 1014هـ. 2 سورة الأنبياء، الآية: 25. 3 سورة النحل، الآية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1. فـ"لا إله إلا الله" اشتملت على أمرين هما ركناها: النفي "لا إله"، والإثبات "إلا الله"، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات المحض، فلا بد من الجمع بينهما. يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: "والإله هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفاً، ورجاءً وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا الله عز وجل، فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول: "لا إله إلا الله"، ونقصاً في توحيده، وكان فيه من عبوديته المخلوق بحسب ما فيه من ذلك. وهذا كله من فروع الشرك ... "2. وكما أن الله تعالى هو المتفرد في ملكه، فهو المتفرد بالعبادة؛ لأن من أظلم الظلم أن يجعل المخلوق الذي ليس شريكاً لله في الملك شريكاً معه في العبادة تعالى وتقدس. ولهذا يحتج تعالى على من أنكر ألوهيته بما أقر به من ربوبيته، فإن توحيد الربوبية هو الدليل على توحيد الإلهية، وقد تقدم ذكر ذلك.   1 سورة لقمان، الآية: 30. 2 "كلمة الإخلاص": "ص23، 24". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَتَفْسِيرُهَا الَّذِي يُوَضِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .   قوله: "وتفسيرها الذي يوضحها"، أي: من القرآن الكريم ولم يكل في بيان معناها إلى أحد سواه "قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1" فهذا إبراهيم خليل الرحمن يتبرأ من الآلهة التي عليها قومه، ويلزم من هذا أن يتبرأ منهم أيضاً، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام تبرأ من الشرك وأهله مع أنهم أقرب الناس إليه: أبوه، وقومه –أهل بابل وملكهم نمرود- وقوله: {إِنَّنِي بَرَاء} ، أي: إنني بريء {مِّمَّا تَعْبُدُونَ} ، يعني: من الأصنام والأوثان. وقوله: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ} يقابل قوله: "لا إله"، فمعنى: "لا إله" هو معنى {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ} وهذا نفي. {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} معنى فطرني، أي: برأني وابتدأ خلقي. وهذا فيه معنى "إلا الله"، ثم قال مؤكداً هذه العقيدة السليمة {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ، السين هنا للتوكيد، ومعنى يهدين: أي: يرشدني ويوفقني إلى سلوك الصراط المستقيم. {وَجَعَلَهَا} الضمير يعود إلى كلمة التوحيد المأخوذ من قوله: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} فهذه الكلمة العظيمة وهي كلمة التوحيد جعلها إبراهيم عليه الصلاة والسلام باقية في عقبه، والدليل على أنه جعلها باقية في عقبه قول الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا   1 سورة الزخرف، الآيات: 26-28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .   إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، يعني: لعلهم يرجعون من الشرك إلى تحقيق هذه الكلمة، فإن من لم يأت بهذه الكلمة عارفاً معناها عاملاً بمقتضاها وقع في الشرك، ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وهذه الآية من الآيات العظيمة في العقيدة، وقد دلت على دلت على فوائد نذكر منها: أولاً: أن الآية دليل على وجوب البراءة من الشرك والمشركين، فيصلح أن نستدل بالآية على الجزئية الثالثة التي ذكرها الشيخ قبل قليل وهي البراءة من الشرك وأهله. ثانياً: الآية دليل على فضيلة من يورث أولاده هدى وصلاحاً وأن الإنسان ينشئ أولاده ويربيهم ويورثهم الهدى والصلاح فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جعل هذه الكلمة باقية في عقبه وفي ذريته. الفائدة الثالثة: أن الآية فيها دليل على أن من الكمال العقلي والإدراك السليم أن يتبع المرء الهدى ولو خالف أهله وقومه وأهل بلاده. قوله: "وقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 2" هذه الآية تدلنا على   1 سورة البقرة، الآية: 132. 2 سورة آل عمران، الآية: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   تفسير الشهادة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} أي: هلموا وأقبلوا {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} ، قال المفسرون: الكلمة السواء هي الكلمة العادلة، فكل كلمة عادلة يطلق عليها كلمة سواء {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ، أي: نحن وأنتم سواء في هذه الكلمة {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} هذا نفي أي: "لا إله"، وقوله "إلا الله" هذا إثبات {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} هذا لبيان أن العبادة لا تتم إلا بالتخلي عن الشرك؛ لأن من عبد الله وأشرك معه غيره لم يحقق المعنى المطلوب من العبادة؛ لأن المعنى المطلوب من العبادة هو إفراد الله تعالى بالعبادة كما تدل عليه كلمة الإخلاص، وقوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} هذا من مقتضيات كلمة الإخلاص، والمعنى: لا يتخذ بعضنا البعض الآخر رباً مطاعاً من دون الله فيفرض طاعته على غيره، فإن هذا يخل بمعنى العبادة. وقد ورد عن عدي رضي الله عنه وأرضاه أنه لما تلا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1، قال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم. قال: "أليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه، قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم" 2، فدل على أن من مقتضيات كلمة الإخلاص ألا يتخذ رباً ومشرعاً إلا الله سبحانه وتعالى، فمن اتخذ غير الله سبحانه وتعالى مشرعاً فقد عبده مع الله، وقد عطف قوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً   1 سورة التوبة، الآية: 31. 2 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .   أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} على الجملة السابقة؛ لأن من مستلزمات الشهادة أن نفرد الله تعالى بالتشريع فلا حكم إلا ما شرع الله تعالى، كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 1، وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} ، أي: امتنعوا وأبوا أن ينقادوا لهذه الكلمة العظيمة {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ، يعني: صرحوا لهم بأنكم مسلمون وأنكم بريئون منهم وما هم عليه. قوله: "وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2" هذه الآية دليل على شهادة أن محمداً رسول الله، وفيها بيان أن الله جل وعلا امتن على هذه الأمة ببعثة هذا الرسول الكريم ووصف هذا الرسول بأنه "من أنفسهم" فهم يعرفون صدقه ونسبه ويمكنهم الجلوس معه وسماع خطابه وكلامه؛ لأنه ليس بغريب عليهم، وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أصل العنت بمعنى المشقة، ومعنى {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} ، أي: شديد عليه كل ما فيه مشقة عليكم من آصار وأغلال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية السمحة3، ولما تلا الرسول صلى الله عليه وسلم على   1 سورة يوسف، الآية: 40. 2 سورة التوبة، الآية: 128. 3 ورد ذلك من طرق، فراجع: "النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد": "ص333". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.   الصحابة قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 1 قال الأقرع بن حابس: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، وسكوته رحمة لهذه الأمة؛ لأنه قال: "لو قلت نعم لوجبت"2. فيكون الحج واجباً كل سنة على من استطاع إليه سبيلاً، وهذا فيه من المشقة والضرر ما لا يحتمله العباد، لكن من رحمة الله تعالى بعباده أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر. وقوله تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ، أي: على هدايتكم وإنقاذكم من النار، فالرسول صلى الله عليه وسلم حريص أشد الحرص على هداية أمته. وقوله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، يعني: أن الرأفة والرحمة خاصة بالمؤمنين، وأما هدايته فهي عامة لجميع الناس، فمن شاء الله تعالى هدايته اهتدى ومن شاء الله إضلاله ضل، وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على هداية عمه أبي طالب، ولكن الله تعالى لم يشأ هدايته. قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 3. قوله: "وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع" هذه أربعة أمور لا تتم شهادة أن محمداً رسول الله إلا بها. فما أمر   1 سورة آل عمران، الآية: 97. 2 أخرجه مسلم: "رقم1337". 3 أخرج قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه البخاري: "8/506-فتح"، ومسلم: "رقم39/26"، والآية من سورة القصص، رقم: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   به رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد من طاعته فيه، وقد يكون الأمر أمر وجوب أو أمر استحباب. وقد دلت النصوص على أن الأمر الواجب لابد من طاعته فيه وأن الأمر المستحب الذي تدل القرائن على أنه مستحب ليس على وجه الإلزام وهي الحكمة من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1، وإنما يطاع الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يأمر بأمر الله، فشرعه صلى الله عليه وسلم هو شرع الله تعالى. قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 2، وكثير من الناس يخل بهذا الجزء من الشهادة فهو ينطق بها في صلاته وفي سماعه للأذان يشهد أن محمداً رسول الله، لكنه يخل بتحقيق هذه الشهادة في مجال العمل والتطبيق، والله جل وعلا يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3. قوله: "وتصديقه فيما أخبر"، أي: فلابد من تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ومن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله، وإنما وجب تصديقه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، فخبره صدق قطعاً. قوله: "واجتناب ما عنه نهى وزجر" هذا الأساس الثالث، وقد أخل به كثير من الناس أيضاً؛ فارتكبوا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال في العبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك. وهذا دليل على   1 سورة النساء، الآية: 64. 2 سورة يوسف، الآية: 40. 3 سورة الحشر، الآية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ضعف على الإيمان نسأل الله السلامة. وقد فرق الإسلام بين الأوامر والنواهي، فالأوامر حسب قدرة المكلف، وأما النواهي فلم تقيد بالقدرة مما يدل على وجوب الانتهاء، وقد دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ... " 1. قوله: "وألا يعبد الله إلا ما شرع" هذا الأمر الرابع، وهو يدل على ركن أساسي من أركان العبادة والدين، وهو: أن العبادة ليست بالأهواء ولا بالبدع ولا بالاجتهاد الذي لم يبن على دليل صحيح، وإنما العبادة مبنية على الاتباع وما جاء به الشرع، إضافة إلى أصل عظيم من أصول الدين الإسلامي، وهو: ألا نعبد إلا بما شرع، إضافة إلى الأصل الأول العظيم، وهو: ألا نعبد إلا الله، فهذا هو الإخلاص، والأول هو المتابعة. فلا يجوز لأحد أن يعبد الله تعالى إلا بما شرع، وليس لأحد أن يقول إن هذا مشروع أو مستحب إلا بدليل شرعي. ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب2. وقد جاءت النصوص الشرعية تأمر بالاتباع وتنهى عن الابتداع، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ... } 3، وقال تعالى:   1 أخرجه البخاري: "13/251-فتح"، ومسلم: "رقم1337". وانظر: شرح الحافظ ابن رجب على هذا الحديث في "جامع العلوم والحكم": "رقم9". 2 "مجموع الفتاوى": "1/160". 3 سورة الأعراف، الآية: 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 2، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3، وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} 4. وفي حديث العرباض بن سارية: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"5. وطريق النجاة أن يلتزم المسلم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقتفي أثره. فما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد والطاعة فهو عبادة نتأسى به فيها؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 6، وما صح من أقواله وتقريراته فهو سنة يعمل بها قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 7. وقال في الحج: "لتأخذوا عني مناسككم" 8.   1 سورة الأعراف، الآية: 157. 2 سورة آل عمران، الآية: 31. 3 سورة الكهف، الآيتان: 103، 104. 4 سورة القصص، الآية: 50. 5 أخرجه أبو داود: "رقم6407"، والترمذي: "رقم2676"، وأحمد: "4/126"، وابن ماجه: "رقم42-44" وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. 6 سورة الأحزاب، الآية: 21. 7 أخرجه البخاري: "رقم631"، ومسلم: "رقم674". 8 أخرجه مسلم: "رقم1297". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وَدَلِيلُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .   يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وأما متابعة الرسول فواجب على أمته متابعته في الاعتقادات والأقوال والأفعال.. فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قبل، وما خالف رد على فاعله كائناً من كان، فإن شهادة أن محمداً رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به. وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" ... 1 قوله: "وَدَلِيلُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2" هذه الآية الكريمة كما ذكر المصنف فيها دلالة على ثلاثة أمور: الأمر الأول: على وجوب الصلاة، وذلك من قوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} .   1 انظر: القسم الخامس من "مؤلفات الشيخ" الرسائل الشخصية: "ص106"، والحديث المذكور أخرجه البخاري، وتقدم. 2 سورة البينة، الآية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الأمر الثاني: {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ؛ لأن الفعل "يقيموا" معطوف على الفعل "ليعبدوا" الذي دخلت عليه لام الأمر، فالآية فيها أمر بإقامة الصلاة وأمر بإيتاء الزكاة. الأمر الثالث: وهو تفسير التوحيد فهو من قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فهم مأمورون بإفراد الله بالعبادة وهو مستفاد من طريق القصر وهو الاستثناء بعد النفي في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} ، ويضاف إلى هذا الإخلاص هو ألا يشرك مع الله غيره فيكون قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} هو معنى "لا إله إلا الله"، أي: لا معبود بحق إلا الله، ولا يتم هذا إلا بإفراد الله تعالى بالعبادة. والضمير في قوله: {وَمَا أُمِرُوا} يعود إلى الذين كفروا في الآيات التي قبل هذه، وهي قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 1، وهذه الآية فيها دليل كما يقول الأصوليون على أن الكفار مخاطبون بالإيمان وبأركان الإسلام؛ لأن الله جل وعلا أمرهم بإفراده بالعبادة وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنهم وقت الأمر كفار مما يدل على أن الكافر مأمور بالإيمان كما أن الإنسان إذا دخل عليه وقت الظهر –مثلاً- وهو محدث مأمور بالصلاة حال   1 سورة البينة، الآيات: 1-5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الحدث ولو لم يتوضأ ولا تصح الصلاة إلا بالوضوء وهكذا الكافر مأمور بالصلاة والصيام والزكاة والحج حال كفره ولكنها لا تصح منه إلا بالإيمان1. وقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} القيمة وصف لمقدر، والتقدير –والله أعلم-: وذلك دلين الملة القيمة، ومعنى "القيمة": المستقيمة. والصلاة هي التعبد لله تعالى بأقوال وأفعال على هيئة مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم. وفي الآية السابقة جاء لفظ بقوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} ، وإقامة الصلاة هو التعبد لله تعالى بفعلها على وجه الاستقامة والتمام في أوقاتها وهيئاتها. فيأتي بها وافية الأركان والواجبات حريصاً على سننها القولية والفعلية. هذا هو معنى إقامة الصلاة، ولهذا نلاحظ أن الله جل وعلا لم يذكر الصلاة في القرآن إلا بإقامتها أو بالمداومة عليها أو بالمحافظة عليها، ولم يقل: يا أيها الذين آمنوا صلوا أو إن الذين يصلون أو المصلين بل قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 2، {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} 3، {عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} 4، {عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} 5، وهذا يدل على أن هناك أمراً مقصوداً غير مجرد الصلاة ألا وهو إقامة الصلاة.   1 انظر كتابي: "شرح الورقات": "ص97". 2 سورة البقرة، الآية: 83، وغيرها من السور. 3 سورة النساء، الآية: 162. 4 سورة المعارج، الآية: 23. 5 سورة المعارج، الآية: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 َودَلِيلُ الصِّيَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .   ومن ثمرات إقام الصلاة أنها صلة بين العبد وربه، فيها انشراح الصدر، وقرة العين، والهداية إلى فعل الخير، والانزجار عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 1. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت قرة عيني في الصلاة" 2. وأما الزكاة فهي جزء واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة أو جهة مخصوصة. فالطائفة مثل: "الفقراء"، والجهل مثل: "في سبيل الله". ومن ثمرات إخراج الزكاة تطهير نفس الغني من الشح والبخل وتطهير نفس البخيل من الحسد والضغينة على الأغنياء، وسد حاجة الإسلام والمسلمين وطهرة المال، وحصول الآثار الطيبة على البلاد والعباد. قوله: "َودَلِيلُ الصِّيَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3" الصيام هو الإمساك عن المفطرات تعبداً لله تعالى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقلنا: "تعبداً"؛ لأن الإنسان قد يمسك عن الأكل والشرب لمرض أو لحمية أو نحو هذا. وفي الصيام فوائد عظيمة وفضائل جسيمة من التعبد لله: بترك شهوات   1 سورة العنكبوت، الآية: 45. 2 أخرجه النسائي: "7/61"، وأحمد: "3/285" وغيرهما، وهو حديث صحيح. 3 سورة البقرة، الآية: 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   النفس وتربية الإرادة، وجهاد النفس وتعويدها على الصبر والتحمل، وإشعار الصائم بنعم الله عليه، وفي الصوم فوائد صحية، وهو أكبر عون على تقوى الله عز وجل، وفيه من جزيل الأجر ما لو تصورته نفس صائمة لطارت فرحاً وتمنت أن تكون السنة كلها رمضان، وقد شبه الله جل وعلا كتابة الصيام علينا بأنها كتابة الصيام على من قبلنا فقال: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهذا تشبيه فرض لا تشبيه مفروض بمفروض بمعنى أنه كما وجب عليهم الصيام، فالصيام واجب علينا وليس الذي فرض علينا كالصيام الذي فرض عليهم ولهذا كان هذا الصيام في أول الإسلام له كيفية خاصة حتى نزل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 1. وقد دلت السنة على المعنى الذي أشرت إليه2. والمقصود أن صيامهم يختلف عن صيامنا، فصيام شهر بتمامه بالصفة المعروفة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس من خصائص هذه الأمة، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لعل هنا للتعليل بمعنى: لأجل أن يكون هذا الصيام وقاية لكم من عذاب الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ولا ريب أن الصيام من أعظم دواعي التقوى لو كان الإنسان يصوم الصيام الشرعي المطلوب. فإذا أخل بشيء من واجبات الصوم وآدابه فقد لا يورثه تقوى وصلاحاً.   1 سورة البقرة، الآية: 187. 2 انظر: "تفسير ابن كثير": "1/306"، و"تفسير الطبري" تحقيق محمود وأحمد شاكر: "3/409". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ودليل الحج قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .   وقوله: "َودَلِيلُ الْحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 1" الحج هو: قصد مكة لأداء مناسك الحج في زمن مخصوص. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} على: للوجوب، والمراد بالناس: بنو آدم، مؤمنهم وكافرهم؛ لأن الله قال: {عَلَى النَّاسِ} فالحج يجب على المؤمن والكافر. وهذا من الأدلة التي تدل على أن الكفار مخاطبون بالأوامر كما تقدم. ومعنى {حِجُّ الْبَيْتِ} ، أي: قصد الكعبة لأداء مناسك الحج. {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، يعني: من أطاق الوصول إليه، والمراد بالسبيل: الطريق، فإذا استطاع الإنسان الطريق الذي يوصله إلى البيت وجب عليه الحج. فإن الله جل وعلا "غني" عن العالمين، أي: كثير الخير لا يحتاج إلى أحد من الخلق سبحانه وتعالى. فمن ترك الحج ممن يجب عليه كفر. لكن إن كان تركه له إنكاراً لوجوبه فهذا كفر أكبر مخرج من الملة، وإن كان تركه للحج غير منكر لوجوبه فقد نص العلماء على أن هذا كفر أصغر لا يخرج عن الملة2. وإطلاق كلمة "كفر" على بعض الأعمال التي لا   1 سورة آل عمران، الآية: 97. 2 هذا قول في المسألة، ويرى آخرون أن من ترك شيئاً من أركان الإسلام الخمسة عمداً أنه كافر. وقد تقدم ذكر ذلك. راجع "جامع العلوم والحكم" لابن رجب: شرح الحديث الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 "الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ": الإِيمَانُ. وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَعْلاهَا قَوْلُ لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإيمان.   تخرج من الملة وارد في لسان الشرع. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، النياحة على الميت" 1، أي: هما من أعمال الكفر وأخلاق الجاهلية2. قول المصنف رحمه الله "المرتبة الثانية"، يعني: من مراتب الدين "الإيمان" والإيمان هو التصديق الجازم بجميع ما أمر الله ورسوله بالتصديق به المتضمن للعمل الذي هو الإسلام. فالإيمان يجمع التصديق لجميع ما أمر الله سبحانه وتعالى به إضافة إلى الأعمال التي هي أركان الإسلام. سأذكر –إن شاء الله- الفرق بين الإسلام والإيمان عند الكلام على حديث جبريل عليه السلام لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "وهو بضع وسبعون شعبة" البضع بكسر الباء اسم من أسماء العدد، يطلق على العدد من الثلاثة إلى التسعة. وقوله: "وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَعْلاهَا قَوْلُ لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" هذا لفظ   1 أخرجه مسلم: "رقم121". 2 قاله النووي في "شرحه على مسلم": "2/417". وانظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية: "1/211" ففيه بيان الفرق بين ما ورد من لفظ الكفر. معرفاً بـ"أل" وبين ما جاء بدونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه"، ورواه البخاري بلفظ: "بضع وستون" وقد ورد عند مسلم برواية أخرى بالشك: "بضع وستون أو بضع وسبعون"1. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "إن المعول على المتيقن وهو الأقل وهو بضع وستون" ا. هـ2. فإن قيل: بضع وسبعون زيادة ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة، قيل: لكنه لم يجزم بها، فنقول: إن رواية "بضع وستون" أرجح لكن قد يشكل على هذا أن مسلماً روى الحديث على روايتين، مرة ليس فيها شك "بضع وسبعون"، ومرة فيها شك "بضع وستون أو بضع وسبعون"؛ ولهذا رجح القاضي عياض والإمام أبو عبد الله الحليمي والنووي رواية: "بضع وسبعون"، وقوله "شعبة"، أي: خصلة، وأصله من الشُّعبة، بمعنى: القطعة. وهذا الحديث يدل على أن شعب الإيمان متفاوتة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أعلاها وذكر أدناها، وترك ما بين ذلك، ولم يرد في السنة نص يحدد هذه الشعب، وقد اجتهد جمع من أهل العلم في عدها وفي حصرها. فمنهم من وصل إلى هذا العدد؛ فجمع أوامر الشريعة ومكارم الأخلاق وكل ما هو من باب البر؛ فوصل إلى هذا العدد. ومنهم من قارب هذا العدد. ويكفي أن نعلم أن كل خصلة من خصال الخير فهي من شعب الإيمان3.   1 أخرجه البخاري: "1/51-فتح"، ومسلم: "رقم58/35". 2 "فتح الباري": "1/52". 3 "فتح الباري": "1/52". وانظر: شرح النووي عند الرقم المذكور. وانظر: "فتح= = الباري" للحافظ ابن حجر: "1/30". وقال ابن صلاح "في صيانة صحيح مسلم" "ص197": "ثم إن الكلام في تعيين هذه الشعب يتشعب ويطول. وقد صنف في ذلك مصنفات من أغزرها فوائد: كتاب "المنهاج" لأبي عبد الله الحليمي، إمام الشافعيين ببخارى، وكان من رفعاء أئمة المسلمين وحذا حذوه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي في كتابه الجليل الحفيل: "شعب الإيمان" ا. هـ. وانظر: "صحيح ابن حبان" الإحسان: "1/387". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وقوله: "فأعلاها قول لا إله إلا الله" هذه أعلى الشعب، وهي كلمة الإخلاص، وكلمة الإسلام، وهي كلمة التقوى، وهي أساس الملة، وفي هذا دليل لمن قال: إن هذه الكلمة أفضل الكلام مطلقاً، وإنها أفضل من كلمة "الحمد لله رب العالمين"، وفي المسألة خلاف بسطه وذكر أدلته الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد"1. وقوله "أدناها"، يعني: أقل شعبة من شعب الإيمان "إماطة الأذى عن الطريق"، أي: تنحية الأذى عن الطريق من شعب الإيمان؛ فعدم وضع الأذى في الطريق –أيضاًَ- من شعب الإيمان. فلا يخرج الإنسان من بيته أشياء تؤذي المارة من رائحة أو حجر أو شوك يجرح أقدامهم إذا مشوا عليها أو تكون سبباً في أذيتهم أو نحو ذلك. وقوله: "والحياء شعبة من الإيمان" الحياء -بالمد-: هو خلق رفيع يبعث على فعل الخير واجتناب القبيح، وهو أفضل الأخلاق وأعظمها   1 انظر: "فتح الباري" لابن حجر: "1/134"، و"التمهيد": 6/42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وأركانه ستة: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر وبالقدر خيره وشره.   قدراً، وإنما كان الحياء بعضاًَ من الإيمان؛ لأن الإيمان ائتمار وانتهاء، والمستحيي ينقطع بحياته عن المعاصي. وقد دل على ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأول إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" 1. وهذا أمر تهديد، ومعناه: الخبر، أي: من لم يستح صنع ما شاء، وقيل: إنه أمر إباحة، أي: انظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله، فإن كان مما لا يستحى منه فافعله، والأول أصح وهو قول الأكثرين2. قوله: "وأركانه ستة" لا منافاة بين أركان الإيمان وشعب الإيمان؛ لأن المقصود أن الإيمان إذا كان بمعنى الاعتقاد فهو الأركان الستة؛ لأن كل الأركان الستة اعتقاد، وأما إذا قلنا: إن الإيمان يشتمل على الأعمال وأنواعها وأجناسها فهو بضع وسبعون. فحديث الأركان مراد به الأمور الاعتقادية، وهي الأساسيات في الإيمان، وأما حديث: "بضع وسبعون" فهذا مراد به: بيان خصال الخير التي هي الأعمال.   1 أخرجه البخاري: "6/515"، "10/527-فتح" من حديث أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه وقوله: "إذا لم تستحي" بإثبات الياء مكسورة الحاء ويكون الجازم حَذَفَ الياء الثانية؛ لأنه من استحيا. وقيل: "إذا لم تستح" بحذف الياء للجازم مع كسر الحاء مخففة من استحى. قاله الجرداني في "شرحه على الأربعين": "ص146". 2 "مدارج السالكين": "2/259". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قوله: "أن تؤمن بالله" فهذا الركن الأول. والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجود الله تعالى، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، وقد تقدم ذلك. والرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته، ومعناه: إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. قوله: "وملائكته" هذا الركن الثاني، وهو الإيمان بالملائكة. والملائكة: عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، عابدون لله تعالى، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ولا يعلم عددهم إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} 2، ومما يدل على كثرة عددهم وأنه لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، وما ورد في الحديث الذي صح إسناده فيما يتعلق بالبيت المعمور أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إن البيت المعمور في السماء السابعة حيال الكعبة يزوره كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه" 3. وهذا دليل على أن عدد الملائكة لا يحصيهم إلا الله. والإيمان بالملائكة لا يتم إلا إذا تحقق فيه أمور:   1 سورة الشورى، الآية: 11. 2 سورة المدثر، الآية: 31. 3 أخرجه البخاري: "3036"، ومسلم: "259/162". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الأول: الإيمان بوجودهم وأنهم مخلوقون عابدون لله قائمون بما أمروا به. والأمر الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه باسمه ومن لم يعلم اسمه فالإيمان به إجمالاً، وقد علم من النصوص في الكتاب والسنة أسماء بعض الملائكة كجبريل: الموكل بالوحي، وميكائيل: الموكل بالقطر والنبات، وإسرافيل: الموكل بالنفخ في الصور، وملك الموت: الموكل بقبض الأرواح، فهؤلاء الملائكة نعرف أسماءهم فنؤمن بهم. أما بقية الذين لا نعرف أسماءهم فهؤلاء نؤمن بهم إجمالاً. وملك الموت يرد في بعض الآثار أنه "عزرائيل" وهذا لم يثبت، فاسمه الصحيح ملك الموت كما قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} 1. الثالث: نؤمن بما علمنا من صفاتهم وهيئاتهم، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في "مسنده" عن عبد الله بن مسعود قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم"2. والمراد بالتهاويل: الأشياء المختلفة الألوان. فهذا يدل على قدرة الخالق جل وعلا ويدل على صفة جبرئيل عليه السلام وأن له ستمائة جناح، الجناح الواحد يسد الأفق. ولا يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم   1 سورة السجدة، الآية: 11. 2 "المسند": "5/282" قال الشيخ أحمد شاكر: إسناد صحيح. وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" "1/44": هذا إسناد جيد قوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   كيف يرى ستمائة جناح؟ وكيف عد الرسول صلى الله عليه وسلم الستمائة مع أن الجناح الواحد قد سد الأفق؟ قلنا: ما دام أنه قد ورد الحديث وصحح العلماء إسناده فلا نبحث في الكيفية؛ لأن الله جل وعلا قادر على أن يري نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا نتصوره نحن ولا تتحمله عقولنا. الأمر الرابع: الذي لابد منه في موضوع الإيمان الملائكة الإيمان بما علمنا من أعمالهم ووظائفهم التي دلت عليها النصوص. فجبريل عليه السلام موكل بالوحي، وملك الموت موكل بوظيفة قبض الأرواح، وهناك ملك موكل بالجنين في بطن أمه، يكتب رزقه وأجله، وهناك ملائكة موكلون ببني آدم {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} 1، وهناك ملائكة موكلون بكتب أسماء الناس يوم الجمعة قبل دخول الخطيب2 إلى غير ذلك مما تدل عليه النصوص. قول المصنف رحمه الله: "وكتبه" هذا الركن الثالث، وهو الإيمان بالكتب، والمراد بالكتب هي: الكتب السماوية التي أنزلها الله تعالى على رسله هداية للبشرية ورحمة بهم ليصلوا إلى سعادة الدارين. والإيمان بالكتب لا يتم إلا بأربعة أمور: أولاً: الإيمان بأنها منزلة من عند الله حقاً. والثاني: الإيمان بما علمنا اسمه منها كالقرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وأما ما لا نعرفه منها فنؤمن به إجمالاً.   1 سورة الرعد، الآية: 11. 2 أخرجه البخاري: "2/366"، "6/304-فتح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والأمر الثالث: التصديق بما صح من أخبارها، كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يحرف وما لم يبدل من أخبار الكتب السابقة، مثل الرجم فإنه من الأخبار التي لم تحرف فيما حرف من التوراة. الرابع: العمل بأحكام ما لم ينسخ، وهذا بالنسبة لكتابنا وهو القرآن، وما لم ينسخ من أخبار الكتب السماوية السابقة مثل الرجم فإن الرجم ثبت في شريعتنا وهذا دليل على أنه لم ينسخ. والكتب السابقة كلها نسخت بالقرآن العظيم الذي تكفل الله بحفظه؛ لأنه سيبقى حجة على الخلق أجمعين إلى يوم القيامة. ويترتب على ذلك أنه لا يجوز التحاكم إلى شيء منها بحال من الأحوال كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1. قوله: "ورسله" هذا الركن الرابع، وهو الإيمان بالرسل, والرسل جمع رسول، وهو: من بعثه الله إلى قوم وأنزل عليه كتاباً، أو لم ينزل عليه كتاباً لكن أوحى إليه بحكم لم يكن في شريعة من قبله. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو: من أمره الله أن يدعو إلى شريعة سابقة دون أن ينزل عليه كتاباً، أو يوحي إليه بحكم جديد ناسخ أو غير ناسخ، وعلى ذلك فكل رسول نبي وليس كل العكس، وقيل هما مترادفان، والأول أصح2. بدليل قول الله   1 سورة النساء، الآية: 59. 2 انظر: كتاب "النبوات" لشيخ الإسلام ابن تيمية: "ص172"، "وأضواء البيان": "5/735"، و"الإيمان" لشيخ الإسلام ابن تيمية: "ص6-7"، "ومذكرة التوحيد" للشيخ عبد الرزاق عفيفي: "ص45". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} 1 فذكر الله تعالى أن أنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة مع أن التوراة أنزلت على أول نبي منهم، وهو موسى عليه الصلاة والسلام. والإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور: الأول: الإيمان بأن رسالتهم حق من عند الله تعالى، وأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم كما قال تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 2. الثاني: الإيمان بن علمنا اسمه منهم، وأن هناك رسلاً نؤمن بهم إجمالاً ولا نعرف أسمائهم؛ إلا القليل. الثالث: تصديق ما صح عنهم من أخبارهم. الرابع: العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم وهو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم3. قوله: "واليوم الآخر" هذا الركن الخامس، وهو الإيمان باليوم الآخر، والمراد به يوم القيامة الذي يبعث الله فيه الخلق للحساب والجزاء وسمي باليوم الآخر لأنه لا يوم بعده حيث يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. والإيمان باليوم الآخر لا يتم إلا بثلاثة أمور:   1 سورة المائدة، الآية: 44. 2 سورة النجم، الآية: 3. 3 انظر: "نبذة في العقيدة الإسلامية": "ص27، وما بعدها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية.   الثاني: الإيمان بالحساب والجزاء. الثالث: الإيمان بالجنة والنار. وسيأتي الكلام على البعث –إن شاء الله-. قوله: "وبالقدر خيره وشره" هذا الركن السادس، والمراد بالقدر: تقدير الله تعالى لما سيكون حسب ما سبق به علمه واقتضته حكمته سبحانه وتعالى. والإيمان بالقدر لا يتم إلا بأربعة أمور: الأول: الإيمان بعلم الله تعالى وأنه عالم بما كان وما يكون وكيف يكون. الثاني: الإيمان بالكتابة وأن الله كتب ما علم أنه كائن إلى يوم القيامة. والثالث: الإيمان بأنه لا يحصل في هذا الكون إلا ما شاء الله. والرابع: الإيمان بأن الله جل وعلا خلق الخلق وأعمالهم وأفعالهم. قال الناظم في هذه الأمور: علم كتابة مولانا مشيئته وخلقه وهو إيجاد وتكوين قوله: "وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 1" فهذه الآية اشتملت على خمسة من   1 سورة البقرة، الآية: 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   أركان الإيمان. قال تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} يعني: ليس البر في التوجه إلى جهة المشرق أو المغرب، ولكن البر الحقيقي في الإيمان وتوابع الإيمان من الأعمال الصالحة، أما مجرد الاتجاه فهذا لا يدل على المقصود وإلا فقد ذكر العلماء أن اليهود يتجهون إلى المغرب والنصارى يتجهون إلى المشرق. ولكن الله نفى أن يكون هذا هو البر؛ لأنهم لم يحققوا الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين ... إلخ؛ فلهذا نفى الله تعالى عن عملهم هذا وقال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} ، و"البر" بالنصب خبر مقدم لـ"ليس"، و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسمها مؤخر، والتقدير: "ليس البر تولية وجوهكم"، والبر: اسم جامع لكل عمل من أعمال الخير من العقائد والأعمال. وقد نقل ابن كثير في "تفسيره" عن سفيان الثوري أنه قال: "هذه أنواع البر كلها". وقال ابن كثير: "من اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها وأخذ بمجامع الخير كله"1.   1 ورد في هذه الآية حديث أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية. ولكن قال ابن كثير: إن هذا الحديث منقطع؛ لأنه من رواية مجاهد عن أبي ذر. ومجاهد لم يدرك أبا ذر فإنه مات قديماً. هكذا قال الحافظ ابن كثير. أما الحافظ ابن حجر فقد ذكر الحديث في "فتح الباري" وقال: "رجاله ثقات وإنما لم يخرج البخاري؛ لأنه ليس على شرطه". وقد أشكلت علي هذه العبارة "لأنه ليس على شرطه"؛ لأن ظاهرها أن الحديث صحيح إذ لو كان الحافظ يرى أن الحديث منقطع لم يقل لأنه ليس على شرطه. وكلمة رجاله ثقات ليست دليلاً على اتصال السند ولا على صحة الحديث كما هو معروف في علم المصطلح. ثم رأيت في إتحاف المهرة "14/183" للحافظ ابن حجر ما يوافق كلام ابن كثير. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ودليل القدر قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .   قوله: "ودليل القدر قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1"، أي: إنا خلقنا كل شيء من المخلوقات العلوية والسفلية بتقدير سابق لخلقنا له. وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ فهو يقع كما كتب بوقته وقدره، وجميع ما اشتمل عليه من الصفات. قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 2. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة" 3. وعن طاووس رحمه الله قال: أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز" 4. قال ابن كثير رحمه الله: "يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من   1 سورة القمر، الآية: 49. 2 "تفسير ابن السعدي": "5/145"، و"أيسر التفاسير": "4/370"، والآية من سورة الفرقان، رقم، 2. 3 أخرجه مسلم: "رقم2635". 4 أخرجه مسلم: "رقم2655"، والكيس: ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور. معناه: أن العاجز قد قدر عجزه. والكيس قد قدر كيسه. قاله النووي رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 "المرتبة الثالثة": الإحسان ركن واحد.   الأحاديث الثابتة على الفرقة القدرية1 الذين نبغوا في آواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم ... "2. قوله: " المرتبة الثالثة: الإحسان ركن واحد". الإحسان في الأصل نوعان: إحسان في عبادة الخالق وهو المراد هنا، وإحسان في حقوق الخلق، وهو نوعان: إحسان واجب، وهو أن تقوم بحقوقهم الواجبة على أكمل وجه كبر الوالدين وصلة الأرحام والإنصاف في جميع المعاملات، يدخل في هذا النوع الإحسان إلى البهائم ثم الإحسان في القتل لما ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" 3. النوع الثاني: "الإحسان المستحب وهو ما زاد على الواجب من بذل نفع بدني أو مالي أو علمي، فيساعد الإنسان من احتاج إلى مساعدته ببدنه أو   1 وهم الذين يقولون إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدر، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر، وهذا يرده الشرع؛ لأنه مخالف لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . ويرده العقل فإن الكون ملك لله تعالى والإنسان من هذا الكون فهو مملوك لله تعالى. وليس للمملوك أن ينصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيته. "نبذة في العقيدة الإسلامية": "ص63،64". 2 "تفسير ابن كثير": "7/457". 3 أخرجه مسلم: "رقم1955". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.   بماله أو بعلمه، فهذا كله داخل في باب الإحسان، وأجل أنواع الإحسان: الإحسان إلى من أساء إليك كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 1. قوله: "ركن واحد وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". معنى قوله: "أن تعبد الله"، أي: تقوم بعبادة ربك من عبادة بدنية: من صلاة وصيام، أو عبادة مالية: كذبح الأضاحي والهدايا أو الصدقة. تقوم بهذه العبادة على هذه الحال "كأنك تراه"، أي: كأنك ترى معبودك وتشاهده؛ فيبعث هذا على أمرين: الأمر الأول: الإخلاص لله عز وجل بعبادته، فلا يعبده رياء ولا سمعة ولا مدحاً وهو يعتقد أن الله يراه. الثاني: أن يتقن العبادة ويحسن أداءها. فيصلي صلاة من يشاهده ربه وهو يرى ربه. ولا ريب أن المسلم لو تحقق هذا المعنى؛ لكان من أكبر الدواعي على إخلاص العباد وإتقانها؛ ولكان من أكبر الدواعي على عدم شرود ذهن الإنسان في صلاته وانشغاله بأفكاره أو بهواجس ترد عليه أثناء الصلاة.   1 انظر: "بهجة قلوب الأبرار" للشيخ عبد الرحمن السعدي: "ص156"، والآيتان من سورة فصلت، رقم: 34، 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وهذه الدرجة الأولى من درجات الإحسان، وهي درجة العظمى، وهي دراجة المراقبة، تليها درجة أخرى وهي قوله: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، أي: إذا لم تعبده كأنك تراه وتشاهده فاعبده على مرأى منه سبحانه وتعالى فإنه يرى ما تفعل ويسمع ما تقول. فهما درجتان، والدرجة الأولى هي العظمى؛ لأن الدرجة الثانية درجة عامة؛ لأن الله جل وعلا يرى جميع الخلق، لكن الدرجة الأولى لا تكون إلا لصاحب الإحسان الذي يعبد ربه كأنه يراه. والمصنف رحمه الله أخر المرتبة الثالثة وهي مرتبة الإحسان؛ لأنها أضيق المراتب الثلاث؛ لأن أصحابها هم الخلص من عباد الله الصالحين. ولهذا يقول العلماء: إذا تحقق الإحسان تحقق الإيمان والإسلام. وكل محسن مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً محسناً1. وقد صور بعض العلماء هذه المراتب الثلاث بثلاث دوائر كل واحد داخل الأخرى. الدائرة الأولى: هي الدائرة الواسعة، دائرة الإسلام؛ لأن أهل الإسلام أكثر من أهل الإيمان، فقد يكون مسلماً في الظاهر ولا يكون مؤمناً. كما سنذكر بعد قليل –إن شاء الله- فأوسع دائرة هي دائرة الإسلام وفي داخلها دائرة الإيمان، وأضيق منها دائرة الإحسان، فمن وجد داخل الدوائر الثلاث فهو مسلم مؤمن محسن. وإن خرج من الدائرة الصغرى ونعني بها دائرة الإحسان فهو مؤمن مسلم. وإن خرج من الدائرة الثانية فهو مسلم في   1 انظر: كتاب "الإيمان" لشيخ الإسلام ابن تيمية: "ص6". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .   الظاهر وليس بمؤمن، ومن باب أولى لن يكون محسناً. فأهل الإحسان هم الصفوة وهم الخلص من عبادة المؤمنين. ولهذا ورد في حقهم في القرآن ما لم يرد في حقهم في غيرهم. قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 1"، فهذه الآية فيها دليل على فضل المحسنين الذين اتقوا الله جل وعلا فلم يتركوا فرائضه ولم ينتهكوا محارمه وهذه المعية معية خاصة، معية نصر وتأييد وتسديد زيادة على المعية العامة. ومعنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، أي: في طاعة ربهم وعبادته إخلاصاً في النية والقصد، وأداء على ما شرع الله وبين رسوله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2هذه الآيات أيضاً فيها دليل على الإحسان، وهو قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} فالله جل وعلا يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتوكل على ربه في جميع أموره؛ لأنه سبحانه وتعالى "عزيز"، أي: قوي لا يغلب، "رحيم"، أي: بالمؤمنين من عباده {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، أي: تقوم إلى الصلاة   1 سورة النحل، الآية: 128. 2 سورة الشعراء، الآيات: 217-220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الآية. والدليل من السنة حديث جبريل المشهور ...   فتصلي متهجداً من الليل وحدك. {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} الواو حرف عطف. "وتقلب" معطوف على الكاف، والتقدير: الذي يراك ويرى تقلبك، ومعنى "يرى تقلبك في الساجدين"، أي: يرى تقلبك مع المصلين، والمراد بالتقلب: الركوع والسجود والقيام، فهو معك يسمع ويرى، ثم قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فيه تقرير للأمر بالتوكل؛ لأن السميع لكل صوت، والعليم بكل حركة وسكون يحق للعبد أن يتوكل عليه وأن يفوض أموره إليه. وقوله: "وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} 1" هذه الآية أيضاً فيها دليل على الإحسان والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. ومعنى "في شأن"، أي: وما تكون في عمل من الأعمال يا محمد وما تتلو من كتاب الله تعالى "ولا تعملون"، أي: أنت وأمتك من عمل "إلا كنا عليكم شهوداً"، أي: مشاهدين لكم مراقبين لأعمالكم سامعين لأقوالكم "إذ تفيضون فيه"، أي: تأخذون في ذلك العمل. قوله: "والدليل من السنة حديث جبريل المشهور" هذا دليل على ما تقدم من الإسلام والإيمان والإحسان، وهذا الحديث هو حديث يرويه   1 سورة يونس، الآية: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: "بينما نحن جلوس عن النبي صلى الله عليه وسلم   عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مشهور على ألسنة بعض العلماء والوعاظ بحديث جبرائيل عليه السلام؛ لأنه يقوم على أسئلة وجهها جبرائيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه على صورة رجل، وهو حديث عظيم جليل القدر بروايات متعددة وألفاظ مختلفة مع أن القصة واحدة1. يقول ابن دقيق العيد رحمه الله في "شرحه على الأربعين النووية": "هذا حديث عظيم قد اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه لما تضمنه ن جمعه علم السنة فهو كالأم للسنة كما سميت الفاتحة أم القرآن لما تضمنته من جمعها معاني القرآن"2. قوله: "عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: بينما نحن جلوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "بينما"، "بين": ظرف زمان متضمن معنى الشرط، له ثلاث استعمالات، فيستعمل بدون ألف فيقال: "بين" بباء وياء ونون، تقول: جلست بين زيد وعمرو، ويستعمل بالألف بعد النون "بينا"، والاستعمال الثالث بالألف بعد النون بزيادة ما "بينما"، و"ما" هذه زائدة كافة عن الجر؛ لأن "بين" تجر ما بعدها؛ لأنها تضاف إليه، فإذا دخلت عليها "ما" كفتها عن العمل. ولهذا وقع بعدها الضمير "نحن" وهو لا يكون في محل جر.   1 أخرجه البخاري: "1141- فتح" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: "رقم8، 9، 10" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبي هريرة رضي الله عنه. 2 "شرح الأربعين" لابن دقيق العيد: "ص11". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 إذا طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ، فَقَالَ: "أَنْ تَشْهَدَ أن لا اله إلا الله وأن محمدا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا"، قَالَ: صَدَقْتَ، فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره"، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، قَالَ: أخبرني عَنْ أَمَارَاتِهَا، قَالَ:"أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ"، قَالَ: فَمَضَى فَلَبِثْنَا مَلِيَّا فَقَالَ: "يَا عُمَرُ أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ"؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يعلمكم أمر دينكم".   قوله: "إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب" قال العلماء: يستفاد من هذا استحباب تحسين الهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك. قوله: "شديد سواد الشعر" عند ابن حبان: "شديد سواد اللحية"1.   1 "صحيح ابن حبان" الإحسان: "1/390". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قوله: "لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ منا أحد" هذا متضمن معنى التعجب، فهو غريب عليهم، لكن لا يرى عليه أثر السفر. وقد نفى عمر رضي الله عنه أن يعرفه أحد الحاضرين، وهذا قد يشكل في ظاهره، لكن ورد رواية: "فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: ما نعرف هذا ... " فأفادت أن عمر حكم بذلك استناداً لما قاله الحاضرون. قوله: "حتى جلس إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ ركبتيه إلى ركبتيه" الضمير المجرور في قوله: "فأسند ركبتيه" يعود إلى الرجل. والضمير في قوله: "إلى ركبتيه" يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنه جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كما يجلس الإنسان في الصلاة في التشهد أو في الجلوس بين السجدتين، فجلس قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "ووضع كفيه على فخذيه" في قوله: "على فخذيه" احتمال. فإما أن المراد: فخذا نفسه، والمعنى: وضع كفيه على فخذي نفسه، وإما أن المراد: وضع كفيه على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه أراد بهذا أن يكون منتبهاً ومصغياً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء: بل يحتمل أنه أراد زيادة التعمية في أمره، وأنه أعرابي وصل إلى هذا الحد من الجفاء فوضع يديه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم. وكثير من الشراح يرجحون أن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما ورد في بعض الروايات كما عند النسائي قال: "ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم"1. وهذه تزيل الإشكال. ولو كانت هي الرواية   1 "سنن النسائي": "8/101". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الوحيد لما صار هناك إشكال فلا مانع من أن يرد اللفظ المشكل إلى لفظ يزيل الإشكال هذا هو الظاهر إن شاء الله تعالى. قوله: "وقال: يا محمد" ناداه باسمه مع أن نداءه صلى الله عليه وسلم باسمه مخالف لقول الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} 1، أي: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً باسمه إنما قولوا له: يا رسول الله أو نبي الله. ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يمتثلون هذا الأمر وهذا التعليم من الله عز وجل فما كان الواحد منهم يقول: يا محمد إلا إن كان أعرابياً قدم من البادية، فلعله قال ذلك مبالغة في التعمية، أو أن الملائكة غير داخلين في هذا النهي كما قال ابن علان في "شرحه على رياض الصالحين"2. وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "يا رسول الله"3. ثم إن الرواية التي معنا لم يذكر فيها أنه سلم وقد ورد في بعض الروايات كما عند النسائي4 "أنه سلم" فإما أن يكون بعض الرواة لم ينقله قال الحافظ: وهذا هو المعتمد أو أنه لم يسلم وقصد بذلك التعمية وصنع صنيع الأعراب لكن من ذكر السلام مقدم على من سكت عن ذكر السلام لأن هذه زيادة فتقبل.   1 سورة النور، الآية: 63. 2 "دليل الفاتحين": "1/216". 3 أخرجه البخاري: "8/513-فتح"، ومسلم: "برقم10". 4 انظر: "سنن النسائي": "8/101". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قوله: "قال: أخبرني عن الإسلام" في لفظ الترمذي: "قال: أخبرني عن الإيمان"، وورد أيضاً في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة أنه بدأ بالإيمان، وفي بعض الروايات أنه سأل عن الإحسان بين الإسلام والإيمان مع أن الحديث الذي معنا وهو لفظ مسلم ورد فيه الإحسان آخر شيء وقد أجاب الحافظ رحمه الله عن هذا فقال: "إن القصة واحدة والرواة اختلفوا في تأديتها فبعضهم يقدم وبعضهم يؤخر وليس في السياق ترتيب"1. قوله: "وقال: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ، فَقَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً" تقدم الكلام على هذه الأركان. قوله: "فقال: صدقت فعجبنا له" معنى عجبنا له، أي: عجبنا منه أو لأجله. قوله: "يسأله ويصدقه"، أي: تعجب الصحابة رضي الله عنهم من حاله؛ لأن السؤال يدل على عدم علم السائل، والتصديق يدل على علمه. قوله: "قال: فأخبرني عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وشره. قال: صدقت" ولم يقل عمر رضي الله عنه: "فعجبنا له يسأله ويصدقه" اكتفاءً بما تقدم. وقد أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان بأنه: "أن تؤمن بالله"، مع أنه ورد في "الصحيحين" من حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم   1 "فتح الباري": 1/117". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَإِقَامُ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس" 1. ووجه الإشكال أنه في حديث جبريل فسر الإيمان بالاعتقادات الباطنة وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفي هذا الحديث فسر الإيمان بما فسر به الإسلام. والجواب: أن نقول إن حديث عمر الذي معنا دليل واضح على التفريق بين الإسلام والإيمان، فالإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة من أقوال اللسان وأعمال الجوارح، وأما الإيمان فإنه يفسر بالأعمال الباطنة من اعتقادات القلوب وأعمالها. قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 2. وفي قصة قوم لوط قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3، فإنه فرق بن المؤمنين والمسلمين؛ لأن البيت الذي كان هذه القرية بيت إسلامي في ظاهره؛ لأنه يشمل امرأة لوط التي خانته في دينها لأنها كافرة. والإخراج لم يكن لهذا البيت بأكمله وإنما قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، أي: ما نجا من هذا البيت المسلم إلا أهل الإيمان، فهذا يدل على أن هناك فرقاً بين الإيمان وبين الإسلام، وإلا فإن البيت   1 أخرجه البخاري: "1/129"، ومسلم: "23/17". 2 سورة الحجرات، الآية: 14. 3 سورة الذاريات، الآيتان: 35، 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   المتحدث عنه بيت واحد لكن وصف بأنه بيت إسلامي باعتبار، وبأنه بيت مؤمنين باعتبار آخر. أما في حديث ابن عباس فإنه لم يذكر إلا قسماً واحداً وهو الإسلام ولا ريب أن الإسلام عند الإطلاق يشمل الدين كله. قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} 1، فيدخل فيه الإيمان. وكذا إذا ذكر الإيمان مجرداً دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة كقوله في حديث "الشعب": "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قَوْلُ لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأذى عن الطريق" 2. قوله: "قال: فأخبرني عن الساعة، قال: مالمسؤول عنها بأعلم من السائل" الساعة بمعنى الوقت أو الزمن الحاضر، والمراد بالساعة هنا: القيامة، والمعنى: فأخبرني عن زمن الساعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل"، أي: ليس المسئول عن وقتها بأعلم من السائل، والمعنى: أنت لا تعلمها وأنا لا أعلمها، ويكون المراد بقوله: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" إثبات التساوي في نفي العلم بوقتها، أي: أن العلم بها منتفٍ عني وعنك على حد سواء، وليس المراد التساوي في العلم بوقتها. والباء في قوله: "بأعلم" زائدة لإفادة التوكيد؛ لأن علم الساعة من الخمس التي استأثر بعلمها كما في قوله   1 سورة آل عمران، الآية: 19. 2 انظر: "الإيمان": "ص7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح أنه قال: "خمس لا يعلمهن إلا الله" فذكر منها قيام الساعة2. وفي بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية في أثناء جوابه للسائل3. قوله: "قال: فأخبرني عن أماراتها" هذا تدرج في السؤال، يعني: إذا كنت لا تعلم متى وقت قيامها فأخبرني عن أماراتها. والأمارات جمع أمارة وهي العلامة. وقد ورد في بعض الروايات: "وسأخبرك عن أشراطها" فأماراتها وأشراطها بمعنى واحد، والمراد بالأمارات التي سيذكر له الأمارات التي تتقدم الساعة بأزمان متطاولة، وهي الأشراط الصغرى، وليس العلامات التي تظهر قرب الساعة وهي الأشراط الكبرى: كطلوع الشمس من مغربها، وظهور الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، غير ذلك. قوله: "أن تلد الأمة ربتها" هذه علامة من علامات الساعة. وقد ورد في بعض الروايات: "بعلها" ومعنى "ربتها أو بعلها": سيدها. وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الجملة على أقوال منها أن هذا إخبار بأن السراري تكثر في آخر الزمان فيكون ولدها من سيدها بمنزلة سيدها لاسيما   1 سورة لقمان، الآية: 34. 2 راجع: "تفسير ابن كثير": "6/354". 3 انظر: "فتح الباري": "1/114"، و"صحيح مسلم": "رقم10". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   إذا كثرة الأموال وبدأ الولد يتصرف في المال فيكون هو السيد المطاع، وتكون هذه الأمة قد ولدت سيدها. وقيل: إن الحديث دليل على أن الإماء يلدن الملوك في آخر الزمان فتكون أم الملك أمة، وإذا كانت أمه أمة وتولى الملك فإنه سيكون سيداً لأمه ولغير أمه من أفراد الرعية، والله أعلم. وقوله: "وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان" هذه علامة أخرى من علامات. والحفاة: جمع حاف، وهو الذي لا نعال عليه. والعراة جمع عار، وهو الذي لا ثياب عليه. والعالة: جمع عائل، والعائل هو: الفقير، كما في قول الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل أي: يفتقر. وقوله: "رعاء الشاء" بكسر الراء جمع راعٍ، ويجمع أيضاً على رعاة بضمها. والشاء جمع شاة وهو من الجموع التي يفرق بينها وبين واحدها بالهاء كشجر وشجرة. وخصهم بالذكر لأنهم أضعف الرعاء، لكن قد ورد في حديث أبي هريرة في "الصحيحين": "رعاة الإبل"، والمراد: أن أصحاب هذه الأوصاف الأربعة: الحفاة والعراة والعالة ورعاة الشاء "يتطاولون في البنيان"، والتطاول في البنيان معناه: تكثير طبقات البنيان، ويصدق أيضاً على توسيع المنازل، وتكثير مجالسها ومرافقها، وهذه ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم لمن كانت حالهم أنهم حفاة وعراة.. إلخ. والمعنى: أن هؤلاء في آخر الزمان يقوى أمرهم وتكون الأموال بأيديهم، وبدل أنهم حفاة عراة لا يملكون غير الشاة يصلون إلى حال التطاول والتفاخر في البنيان، فكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   من بنى منهم بناء بدأ يتفاخر على من بنى قبله؛ لأنه أطول منه بناء أو أكبر أو أوسع فهذا يعتبر من أشراط الساعة، والله المستعان. وقد ورد في حديث أبي هريرة في "الصحيحين" قال: "وإذا رأيت الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها" 1. ومعنى رؤوس الناس: ملوك الناس. وفي رواية لمسلم: "وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها". قال النووي: "المراد بهم السفلة الرعاء كما قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} 2، أي: لما لم ينتفعوا بجوارهم هذه فكأنهم عدموها. هذا هو الصحيح في معنى الحديث، والله أعلم"3. قوله: "قال: فمضى فلبثنا ملياً" بتشديد الياء التحتية، والملي: هو الزمان، وقد ورد عند الترمذي والنسائي وغيرهما: "فلبثت ثلاثاً"4. قوله: "فقال: يا عمر، أتدري من السائل؟ " ظاهره أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم بخبر عمر إلا بعد مدة، لكن ورد في حديث أبي هريرة في "الصحيحين" قال: "ثم أدبر فقال: ردوه فلم يروا شيئاً. فقال: هذا جبريل أتى يعلم الناس دينهم" فهذه الرواية تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم في   1 "صحيح البخاري": "8/513-فتح"، ومسلم: "رقم9، 10"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 2 سورة البقرة، الآية: 18. 3 "شرح النووي على صحيح مسلم": "3/279". 4 "سنن النسائي": "8/97"، و"جامع الترمذي": "5/8". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الحال. والظاهر من الرواية التي معنا أن الإخبار خاص بعمر حيث قال: "فقال: يا عمر" والظاهر أن عمر رضي الله عنه قام في الحال، أي: بعد أن أدبر الرجل، ولم يحضر كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بعد مدة. وهذا هو الجمع بين الرواية التي معنا وهي تدل على أن إخبارهم كان متراخياً ورواية "الصحيحين" من حديث أبي هريرة التي تدل على أن إخبارهم كان في الحال. قاله النووي، قال الحافظ: هو جمع حسن1. قوله: "قلت: الله ورسوله أعلم"، أي: من غيرهما، ولم يقل: أعلما لأن أفعل التفضيل المجرد لا يثنى ولا يجمع بل يلزم الإفراد. وهذا فيه أدب من آداب العالم وهو أن من سئل عن شيء لا يعلمه أن يكل العلم إلى عالمه ولا يتكلف في الجواب بل يقول: الله أعلم. أما في حياته صلى الله عليه وسلم فإن العلم يمكن أن يؤخذ منه فيقول المسؤول: الله ورسوله أعلم. لكن بعد وفاته يقول: الله أعلم. قوله: "قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم" هذا دليل على أن ما ذكر في هذا الحديث هو الدين؛ لأنه اشتمل على أصول الدين وعقائده من الإسلام والإسلام والإحسان. والله أعلم.   1 "فتح الباري": "1/125". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الأصل الثالث: معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اسمه ونسبة ... الأَصْلُ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بن عبد المطلب بن هاشم.   قوله: "الأَصْلُ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلم" هذا هو الأصل الثالث من الأصول الثلاثة التي يجب على العبد معرفتها. وهذا الأصل تأتي معرفته العبد ربه ومعرفة العبد دينه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بيننا وبين الله عز وجل. فالله هو يشرع الشرائع ويحكم الأحكام، ولا يمكن تلقي أحكام الشرع إلا عن طريق هذا النبي ديننا إلا بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا يمكن أن نقوم بعبادة الله تعالى على الوجه المطلوب إلا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم. والعبادة لها ركنان: الإخلاص والمتابعة. ولا يمكن للإنسان أن يعبد الله تعالى على علم وبصيرة وتكون عبادة صحيحة مقبولة إلا عن طريق التلقي من النبي صلى الله عليه وسلم. ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم تشتمل على أمور كثيرة: الأمر الأول: معرفة نسبة. وهو قوله: "وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المطلب بن هاشم" وقد اقتصر المصنف على جدين من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم. والنبي صلى الله عليه وسلم له عدة أسماء. وقد ورد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.   والعاقب: الذي ليس بعده نبي"1، وله أسماء أخرى، وأشهرها: "محمد"، وقد جاء ذكره في القرآن على وجه التنويه، ومعناه الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره. قوله: "وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام" قريش: هو النضر بن كنانة، لما ورد عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد لا يرون أني أفضلهم. فقلت: يا رسول الله، إننا نزعم أنا منكم، قال: "نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا ... " 2. والمقصود بهذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في أكرم العرب نسباً. وقد ورد عن وائلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، وأصطفاني من بني هاشم". 3   1 أخرجه البخاري: "6/554"، ومسلم: "رقم2354"، وانظر: "فتح الباري": "6/555". 2 أخرجه أحمد: "20/177-الفتح الرباني"، وابن ماجه: "رقم2612"، قال ابن كثير: "وهذا إسناد جيد قوي وهو فيصل في هذه المسألة: فلا التفات إلى قول من خالفه والله أعلم". "السيرة": "1/86". قال في "الزوائد" "2/327": هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، ومعنى: "لا نقفوا أمنا": قال في "النهاية": "ولا نتهمها ولا نقذفها". 3 أخرجه مسلم: "رقم2276"، والترمذي: "5/544"، وقال: حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وقال أبو سفيان لهرقل-لما سأله: كيف نسبه فيكم؟ - قال: هو فينا ذو نسب، قال هرقل: فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها1، أي: في أكرمها نسباً وأشرفها قبيلة. قوله: "وهاشم من قريش" هو هاشم بن عبد مناف. قال مؤرخوه: اسمه عمرو، وغلب عليه لقبه "هاشم"؛ لأنه أول من هشم الثريد مع اللحم لقومه في مكة في سني المحل، وهو أحد الأجواد الذين ضرب بهم المثل في الكرم، وأحد من انتهت إليه السيادة في الجاهلية2. قوله: "وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ"، المراد بالعرب –هنا-: العرب المستعربة. فإن العرب قسمان: 1- عرب عاربة: وهم أصل العرب الباقية جميعاً ويسمون "القحطانيين"، وينتسبون إلى سبأ بن يشجب بن يعرف بن قحطان، وقد سكنوا اليمن ثم تفرقوا في بقية الجزيرة. 2- عرب مستعربة: ويسمون "العدنانيين"، وقد نشأوا في مكة ومنها تفرقوا في جهات كثيرة من الحجاز وتهامة، وينتهي نسبهم إلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام كما تقدم؛ لأنه لما أصهر إلى قبيلة "جرهم" كان من نسله "عدنان" الذي تنتسب إليه العرب المستعربة3.   1 أخرجه البخاري: "1/31-فتح"، ومسلم: "رقم1773". 2 انظر: "طبقات ابن سعد": "1/75"، و"الأعلام" للزركلي: "9/48". 3 "البداية والنهاية": "2/156". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وله من العمر ثلاث وستون، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث عشرون نبياً رسولاً.   قوله: "والعرب من ذرية إسماعيل"، أي: فيكون النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد إسماعيل عليه السلام وليس من أولاد "إسحاق"، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. و"إسماعيل" ولد لإبراهيم عليه السلام من أمته "هاجر" على كبر منه قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} 1، وهو الذي أمر إبراهيم عليه السلام بذبحه كما ذكر الله تعالى في القرآن. قوله: "وله من العمر ثلاث وستون سنة" هذا الأمر الثاني: وهو معرفة عمره ومكان ولادته. وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "توفى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين"2. وأما مولده صلى الله عليه وسلم ففي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل3. قوله: "منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً مرسلاً" هذا ورد م حديث أنس رضي الله عنه وفيه: "أنزل عليه وهو ابن أربعين"4. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مات وعمره ثلاث وستون سنة، وثبت في حديث أنس أنه بعث على رأس الأربعين، فهذا يدل دلالة قاطعة على أن مدة النبوة والرسالة كانت ثلاثاً وعشرين سنة. وقد ورد في "صحيح   1 سورة إبراهيم، الآية: 39. 2 أخرجه البخاري: "6/559"، ومسلم: "رقم2349". 3 انظر: "البداية والنهاية": "1/259". 4 "أخرجه البخاري": "6/564-فتح" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 نبئ باقرأ. وأرسل بالمدثر.   البخاري" حديث أنس قال: "أنزل عليه القرآن هو ابن أربعين فلبث في مكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشر سنين"1. وظاهر هذا أن مدة النبوة والرسالة عشرون سنة، لكن الصحيح أنها ثلاث وعشرون؛ لأنه ورد عن عائشة أنه مات عن ثلاث وستين. وورد عن أنس نفسه في "الصحيحين" أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات وله ثلاث وستون. وقد يكون قوله: "وبالمدينة عشر سنين" من باب حذف الكسر لكن على أي حال ما اتفق عليه أولى مما اختلف فيه2. قوله: "وثلاث وعشرون نبياً رسولاً. نبئ باقرأ. وأرسل بالمدثر" هذا الأمر الثالث: وهو معرفة حياته النبوية. ومعنى "نبئ"، أي: خبر؛ لأن أصل النبوة مأخوذ من النبأ وهو الخبر. قوله: "وأرسل بالمدثر"، أي: بهث لأن الإرسال معناه البعث والتوجيه. وقوله: "باقرأ"، يعني: قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} هذا نزل عليه يوم الاثنين في رمضان وهو في غار حراء3. قوله: "وأرسل"، أي: بصدر السورة. وقول المصنف: "نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر" دليل على أن هناك فرقاً بين النبي والرسول وهذا هو الصحيح المعتمد أن النبي غير الرسول، والرسول غير النبي،   1 المصدر السابق. 2 راجع: "فتح الباري": "6/570"، "8/150، 151". 3 "البداية والنهاية": "3/6". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وبلده مكة.   وقد تقدم ذلك، ومن الأدلة على هذا قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} 1، والعطف يقتضي المغايرة، وكذلك مجيء "لا" في قوله: "ولا نبي" فهذا يدل على أن النبي غير الرسول. قوله: "وبلده مكة"، أي: ولد فيها، ونشأ بها إلا المدة التي أقامها عند مرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية في بادية بني سعد، ثم رجع إليها في حضانة جده عبد المطلب ثم عمه أبي طالب؛ لأن أمه آمنة بنت وهب ماتت وعمره ست سنين، وبقي في مكة ثلاث عشرة سنة بعد أن أوحى إليه. قوله: "وهاجر إلى المدينة" الهجرة يأتي الكلام عليها إن شاء الله. والمدينة اسم غالب لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم دون غيرها من المدن كالنجم للثريا. وابن عباس لعبد الله دون إخوته من أولاد العباس. وقد روى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب" 2!!! وكانت هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة –فيما يظهر- فراراً من أذى   1 سورة الحج، الآية: 52. 2 أخرجه البخاري: "6/627"، "7/226-فتح"، ومسلم: "رقم2272"، وقوله: "وهلي" بفتح الواو والهاء، أي: ظني، وقوله: "فإذا هي المدينة يثرب" كان ذلك قبل أن يسميها صلى الله عليه وسلم طيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إِلَى التَّوْحِيدِ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} .   المشركين، وطلباً للنجاة بالدين، والتماساً لمكان تنمو فيه الدعوة، وتؤتي أكلها، حتى يقوي ساعدها ويشتد أزرها؛ وذلك بعد أن تابعته الأنصار على الإسلام وبايعوه على النصر والمؤازرة. ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم في غير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، خافوا من انتشار دعوته، ومحاربته لهم فعزموا أصحابه من المهاجرين إليهم، خافوا ذلك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم برعاية الله تعالى وحفظه، ومعه أبو بكر رضي الله عنه وتغيباً في غار ثور –جبل بأسفل مكة- ثم سارا إلى المدينة فوصلاها وفرحت بذلك الأنصار فرحاً عظيماً، وكل ذلك مدون في السيرة. قوله: "بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد" هذا الأمر الرابع مما يتعلق بمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معرفة ما بعث به، وهذا أعظمها وأعلاها. فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى ينذر عن الشرك، ويدعو إلى توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. والإنذار بمعنى: التحذير. والمنذر: المحذر. وأصل الإنذار: الإبلاغ، ولا يكون إلا في التخويف. قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} 1"، أي:   1 سورة المدثر، الآيات: 1-7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وَمَعْنَى {قُمْ فَأَنذِرْ} يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ وَيَدْعُو إلى التوحيد، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرُّجْزَ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا تركها وأهلها والبراءة منها وأهلها. وأخذ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَفُرِضَتْ عليه الصلوات الخمس.   الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم بعث بالإنذار عن الشرك، والدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى. وقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} هذه أو آية أرسل بها النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي، فقلت: زملوني زملوني؛ فزملوني فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} إلى {فَاهْجُرْ} قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان: ثم حمى الوحي وتتابع1. وهذه الآيات قد فسر الشيخ أكثرها. وسأذكر تفسيرها بعون الله تعالى. فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، أي: الذي قد تدثر بثيابه، أي: تغشى بها من الرعب الذي حصل له من رؤية الملك كما تقدم. وأصله: المتدثر، فأدغمت التاء في الدال لتجانسها. " ومعنى {قُمْ فَأَنذِرْ} "، أي انهض فخوف المشركين وحذرهم العذاب   1 أخرجه البخاري "1/27فتح" ومسلم "255""161" وقوله: "فَجُثِثْتُ" بالثاء بمعنى: فزعت, ويجوز: فجُئثت. بهمزة بعد الجيم ثم ثاء مثلثة ثم تاء. والمعنى واحد. انظر: شرحي القاضي عياض "1/49" والنووي "1/564". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   إن لم يؤمنوا. بها حصل الإرسال، كما حصل بقول الله تعالى: {اقْرَأْ} النبوة. وقول الشيخ رحمه الله: "ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد" هو معنى ما تقدم فإن أشرك مع الله غيره قد عرض نفسه فهو بحاجة إلى إنذار. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، أي: عظمه بالتوحيد. وصفه بالكبرياء والعظمة وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يقول الكفار. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ. وهذا أحد تفاسير الآية. اقتصر عليه الشيخ رحمه الله. والقول الثاني: أن المراد بها الثياب الملبوسة. أمره الله بتطهير ثيابه وحفظها عن النجاسات. وهذا من تمام التطهير للأعمال خصوصاً في الصلاة. واختار ذلك ابن جرير الطبري، والشوكاني؛ لأن ذلك هو المعنى اللغوي للكلمة. قال ابن كثير: "وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب فإن العرب تطلق الثياب عليه"1. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قرأ حفص بضم الراء، بمعنى: الأصنام والأوثان. وهجرها: تركها والإعراض عنها والبراءة من أهلها كما قال تعالى عن الخليل عليه الصلاة والسلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2. ويحتمل أن المراد بالرجز أعمال الشر كلها؛ فيكون أمراً له بترك الذنوب صغارها وكبارها ظاهرها وباطنها فيدخل في هذا الشرك فما دونه. وقرأ الباء بكسر الراء، بمعنى: العذاب3. والقراءتان بمعنى   1 "تفسير ابن كثير" "8/289"، "فتح القدير": 5/324"، "فتح الباري": "8/679". 2 سورة مريم، الآية: 48. 3 الكشف المكي "2/347". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   واحد؛ لأن عبادة الأوثان تؤدي إلى العذاب؛ فأمر أن يهجر ما يحل العذاب بسببه. والله أعلم. {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} بضم الراء على أنه حال، أي: ولا تمنن حال كونك مستكثراً ما يتحمله بسبب الغير. قاله الحسن والربيع بن أنس واختاره ابن جرير. وقيل: لا تعط العطية تلتمس أكثر منها. قاله ابن عباس وجماعة من السلف. واختاره ابن كثير1. {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} ، أي: لربك وحده دون سواه فاصبر على كل ما تلقاه في سبيل الدعوة وإبلاغ الرسالة. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "فامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ربه وبادر فيه، فأنذر الناس وأوضح لهم بالآيات البينات جميع مطالب الإلهية، وعظم الله تعالى، ودعا الخلق إلى تعظيمه، وطهر أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوء، وهجر كل ما يعبد من دون الله، وما يعبد معه من الأصنام وأهلها، والشر وأهله، وله المنة على الناس –بعد منة الله- من غير أن يطلب عليهم بذلك جزاء ولا شكوراً. وصبر لربه أكمل صبر: فصبر على طاعة الله وعن معاصيه، وصبر على أقداره المؤلمة، حتى فاق أولى من المرسلين، صلوات الله وسلامة عليه وعليهم أجمعين"2.   1 "تفسير ابن كثير": "8/290"، "فتح القدير": "5/324". 2 "تفسير ابن سعدي": "5/332". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قوله: "أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التوحيد"، أي: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يدعو إلى توحيد الله تعالى، ويبين الشرك ويحذر منه. وذلك أن المقصود الأعظم من بعثة النبيين وإرسال المرسلين وإنزال الكتب هو الإنذار من الشرك والنهي عنه، والدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة. وكان النداء الأول لكل رسول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1، وقال تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. فالتوحيد هو أساس الملة الذي تبنى عليه، وبدونه لا يقوم عمل من الأعمال؛ ولهذا لم تفرض الصلاة التي هي عماد الدين وبقية الشرائع إلا بعد إرساء دعائم التوحيد وبنيان العقيدة وهذا يدل على أن التوحيد من أوجب الواجبات، وأنه يبدأ به قبل غيره. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" 4. قوله: "وبعد العشر عرج به إلى السماء". اعلم أن الإسراء والمعراج من الأمور التي ثبتت بطريق الشرع وليس للعقل فيها مدخل، والجمهور   1 سورة الأعراف، الآية: 59، 65، 73، 85، وسورة هود، الآيتان: 50، 61، وغيرها. 2 سورة النحل، الآية: 36. 3 سورة الأنبياء، الآية: 25. 4 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   من المحدثين والفقهاء أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه؛ لأن قريشاً أكبرته وأنكرته ولو كان مناماً لم تنكره؛ لأنه لا تنكر المنامات. والإسراء لغة: السير بالشخص ليلاً. وشرعاً: سير جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس؛ لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. والمعراج لغة: الآلة التي يعرج بها، وهي المصعد. وشرعاً: السلم الذي عرج به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأرض إلى السماء. وقد ثبت المعراج بالقرآن في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} 2 إلى قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 3. وخلاصة ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة أن جبريل أمره الله أن يسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس على البراق4، ثم يعرج به إلى السموات العلى سماء حتى بلغ مكاناً سمع فيه صرير الأقلام وفرض الله عليه الصلوات الخمس –كما سيأتي- واطلع على الجنة والنار، واتصل   1 سورة الإسراء، الآية: 1. 2 سورة النجم، الآيات: 1-3. 3 سورة النجم، الآية: 18. 4 بضم الباء دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يضع خطوة عند أقصى طرفه "فتح الباري": "7/201". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وصلى في مكة ثلاث سنين،   بالأنبياء الكرام، وصلى بهم إماماً، ثم رجع إلى مكة فحدث الناس بما رأى فكذبه الكافرون وصدق به المؤمنون وتردد آخرون1. قوله: "وفرضت عليه الصلوات الخمس"، أي: فرض الله تعالى على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته الصلوات الخمس ليلة المعراج خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عز وجل حتى وضعها الرب جل جلاله –وله الحمد والمنة- إلى خمس وقال: "هي خمس وهن خمسون". قوله: "وصلى في مكة ثلاث سنين"، أي: فيكون الإسراع قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان يصلي الرباعية ركعتين حتى هاجر إلى المدينة، وقد دل على ذلك ما ورد عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: "فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله ففرضت أربعاً، وتركت صلاة السفر على الأولى"2. ورواه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه قالت: "فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين، فلما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار"3.   1 انظر: "السيرة" لابن كثير: "2/93"، و"فتح الباري": "1/458"، "7/196، وما بعدها"، و"شرح لمعة الاعتقاد" للشيخ محمد العثيمين: "ص59". 2 أخرجه البخاري: "7/267- فتح" 3 أخرجه ابن حبان: "6/447-إحسان"، وابن خزيمة: "1/157"، وانظر: "فتح الباري": "1م464". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 تعريف الهجرة ... وَبَعْدَهَا أُمِرَ بالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَالْهِجْرَةُ: الانْتِقَالُ من بلد الشرك إلى بلد الإسلام،   قوله: "وبعدها"، أي: بعد ثلاث عشرة من بعثته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى بعد العشر ثلاث سنين بمكة. قوله: "أمر بالهجرة إلى المدينة"، أي: بمفارقة المشركين وأوطانهم ليتمكن صلى الله عليه وسلم من إظهاره دينه. والدليل على أن الهجرة بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بعث رسول لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحي إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين"1. قوله: "وَالْهِجْرَةُ: الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإسلام" الهجرة في اللغة معناها: الترك والخروج من بلد أو أرض إلى أخرى. وشرعاً: كما عرفها المصنف رحمه الله بأنها الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ. ومناسبة ذكر الهجرة مع الأصول الثلاثة لبيان أن الهجرة من أبرز تكاليف الولاء والبراء. وبلد الشرك: هو الذي تقام فيه شعائر الكفر، ولا تقام في شعائر الإسلام على وجه عام، وبلد الإسلام: هو البلد التي تظهر فيه شعائر الإسلام والأحكام على وجه عام. وأهم الشعائر: هي الصلاة، فإذا كانت الصلاة مظهراً من مظاهر البلد فهو بلد إسلامي. أما إذا كانت الصلاة يقيمها أفراد أو جماعات وهي ليست من مظاهر البلد فلا يحكم على البلد   1 أخرجه البخاري: "7/227-فتح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   بأنه بلد إسلامي، مثل البلاد التي فيها أقليات مسلمة يقيمون الصلاة ولكن على نطاق ضيق في حدود مجتمعهم الذي يعيشون فيه أو في حدود بيئتهم، ولكن البلد الذي يقيمون فيه أو هم من أهله لا تقام فيه الصلاة بوجه عام بحيث لا توجد عندهم المآذن ولا يسمع الأذان في جميع الأنحاء فمثل هذا لا يعتبر بلداً إسلامياً؛ لأنه لابد أن تكون الإقامة على وجه عام، فمثلاً: فرنسا فيها أقليات مسلمة وفيها إقامة للصلاة من قبل هؤلاء ولكن لا تعتبر مظهراً من مظاهر البلد بحيث تنتشر المآذن ويسمع الأذان هنا وهناك ويهرع الناس إلى المساجد فهذا هو معنى قولنا: إن بلد الإسلام هو الذي تنتشر فيه الشعائر والأحكام بوجه عام. أما لو كان عن طريق أفراد أو أناس قليلين فهذا لا يطلق عليه أنه بلد إسلامي بهذا الاعتبار1. قوله: "وَالْهِجْرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشرك إلى بلد الإسلام" بين المصنف رحمه الله بهذا الوجوب الهجرة وأنها فريضة وهذا دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة وأجمع المسلمون على ذلك؛ لما فيها من حفظ الدين ومفارقة المشركين، فإن المؤمن الذي يعبد ربه ويخلص في عبادته ويبغض الشرك وأهله ويعاديهم لن يتركه أهل الكفر على دينه مع القدرة عليه قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} 2.   1 انظر: "شرح الأصول الثلاثة" لابن عثيمين: "ض130"، "والفتاوى السعدية": "ص92". 2 سورة البقرة، الآية: 2117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وهي باقية إلى أن تقوم الساعة.   قوله: "وهي باقية إلى أن تقوم الساعة"، أي: أن الهجرة وهي الانتقال من بلد الكفر والشرك إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة باتفاق أهل العلم، وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يفتتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية1. قال الحافظ ابن حجر: أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة. والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت2. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أحوال البلاد كأحوال العباد، فيكون الرجل تارة مسلماً، وتارة كافراً، وتارة مؤمناً، وتارة منافقاً، وتارة براً تقياً، وتارة فاسقاً، وتارة فاجراً شقياً، وهكذا المساكن بحسب سكانها فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة كتوبته من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة. وهذا أمر باق إلى يوم القيامة"3. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا هجرة بعد الفتح" 4، فالمقصود به لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها صارت دار إسلام. وكل بلد يفتح ويكون بلد إسلام فإن الهجرة لا تجب منه.   1 "صحيح البخاري": "7/226-فتح". 2 "فتح الباري": "7/229". 3 "مجموع الفتاوى": "18/284". 4 أخرجه البخاري: "6/189"، ومسلم: "رقم1864". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً} .   قوله: " وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً} 1" هذه الآيات دليل على وجوب الهجرة. والمستفاد من كلام أهل العلم كابن قدامة رحمه الله وغيره أن الهجرة من بلد الكفر ثلاثة أضرب والناس ثلاثة أصناف: الصنف الأول: تجب عليه الهجرة، وهو القادر عليها مع عدم إمكان إظهار دينه، وهذا يدل عليه قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} ووجه الدلالة أن الله جل وعلا وصفهم بأنهم ظالمون لأنفسهم. فمن بقي في بلد الشرك وهو قادر على الهجرة ولا يقدر على إظهار دينه فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع.   1 سورة النساء، الآيات: 96-99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الصنف الثاني: من لا هجرة عليه وهو العاجز عن الهجرة إما لمرض أو إكراه على الإقامة فلم يستطع الخروج أو ضعف من النساء والولدان وشبههم فهؤلاء لا هجرة عليهم؛ لأن جل وعلا قال: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} عليه أن يعتزل الكفار ما استطاع ويظهر دينه ويصبر على أذاهم. الصنف الثالث: من تستحب له الهجرة ولا تجب عليه كما تجب على الصنف الأول، وهذا في حق من يقدر على الهجرة لكنه متمكن من إظهار دينه، فهذا تستحب له الهجرة لأجل أن يتمكن من جهاد الكفار وتكثير المسلمين والتخلص من الكفار ومخالطتهم فهذه ثلاثة أصناف هي أصناف الناس بالنسبة للهجرة1. أما الآية التي ساقها المصنف فمعناها بإيجاز {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ} المراد بالملائكة إما ملك الموت وأعوانه، وإما ملك الموت وحده؛ لأن العرب تخاطب الواحد على بلفظ الجمع. وقوله تعالى: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} هذا دليل على وجوب الهجرة كما تقدم. والمعنى: أنهم ظالمون لأنفسهم بتركهم الهجرة. {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} هذا استفهام توبيخ وتقريع لهم، والمعنى: في أي فريق كنتم؟ {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} يعني: عاجزين لا نستطيع الخروج {قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} يعني بإمكانكم أن تخرجوا إلى أرض الله الواسعة، والمراد بها في ذلك الزمن: المدينة {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ   1 انظر: "المغني": "13/151"، و"فتح الباري": "6/190". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   مَصِيراً} هذا وعيد يدل على أن القادر على الهجرة الذي لا يتمكن من إظهار دينه ولم يهاجر أنه قدر ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأنه لا يتوعد بمثل هذا الوعيد إلا على ترك أمر واجب وهو الهجرة، فتركها كبيرة من كبائر الذنوب، قال تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ} هؤلاء هم الذين لا يستطيعون الخروج {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} يعني: لا يقدرون على حيلة، لا على خروج، ولا على نفقة، ولا على من يهيئ أمرهم {وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} يعني: لا يعرفون الطريق، ولا يستطيعون أن يسيروا وحدهم، قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً} ، أي: عسى الله أن يتجاوز عنهم وهم المعذورون بتركهم الهجرة. والآية دليل على وجوب الهجرة وعلى آكديتها. يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية: "نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية ... "1. فلا بد من شرطين: القدرة على الهجرة، وعدم التمكن من إظهار الدين. فمن لم يفعل فهو ظالم لنفسه. يقول الشوكاني رحمه الله: "استدل بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على من كان بدار الشرك أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهاراً ولم يكن من المستضعفين"2ا. هـ.   1 "تفسير ابن كثير": "2/343". 2 "فترح القدير": "1/505". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وإذا كان الإنسان مأموراً بالهجرة من بلاد الكفر دل على أن الأصل تحريم السفر إلى بلاد الكفر استناداً إلى هذه النصوص لكن لو وجد حاجة تدعو إلى السفر إلى بلاد الكفر أو الإقامة فيها كطلب علم لا يوجد في بلده أو علاج أو للدعوة فإن هذا يجوز نظراً للمصلحة المترتبة على هذه الإقامة؛ لأن الأصل هو عدم السفر ويفهم من كلام العلماء أنه لا يجوز السفر لبلاد الكفر إلا بثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يكون عنده علم يمنعه مما يرد عليه من الشبهات التي قد تعرض له في تلك البلاد. فإن لم يكن عنده علم فهو على خطر عظيم، فقد ينحرف في عقيدته وينخدع بما هم عليه. فلابد أن يكون المسافر على علم يمنعه مما يرد عليه من الشبهات والإشكالات. الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه مما يرد عليه من الشهوات؛ لأن تلك البلاد بلاد مغرية، بلاد الشهوات واللذات التي تقف على قدم وساق دون تفريق بين ما أحل الله وما حرم الله. والذي لا دين عنده يمنعه من الوقوع في هذه المحرمات يكون عرضة للانحراف ومجاراة القوم فيما هم عليه من الذنوب والمعاصي غائباً عن باله عاقبة الأمر. ومن وسائل السلامة –بإذن الله تعالى- أن يكون المسافر متزوجاً وأن تكون زوجته معه ليعف نفسه ويتحصن من الحرام، إذا كان يريد الإقامة للدعوة أو للدراسة مثلاً. الشرط الثالث: أن يتمكن من إظهار دينه والقيام بعبادة ربه كما أمر الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   جل وعلا ووعليه أن يحذر كل الحذر من موالاة المشركين؛ لأن موالاتهم –كما مر معنا- تنافي الإيمان1. أما السفر لبلاد الكفر لمجرد السياحة فالقول بالمنع أظهر؛ لأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد، وفرض عليه عداوة المشركين فما كان ذريعة وسبباً إلى إسقاط ذلك فإنه لا يجوز2. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا بريء ممن يقيم بين أظهر المشركين لا تراءى نارهما" 3. ومعنى: "لا تراءى نارهما"، أي: لا ترى نار المسلم نار المشرك، ولا نار المشرك نار المسلم، وهذا كناية عن القرب. والعرب تستعمل مثل هذا الأسلوب تقول: داري تنظر إلى داره، وداره تنظر إلى داري، إذا أرادوا شدة القرب. فمن سافر لمجرد السياحة فهو على خطر عظيم، من وجوه: أولاً: أنه خالف النصوص الدالة على وجوب الهجرة وتحريم   1 انظر: "شرح الأصول الثلاثة" لابن عثيمين: "ص123". 2 انظر: "الجامع الفريد" "ص383"، و"مجموعة رسائل حمد بن عتيق": "ص49" حيث قسم المقيمين في دار الحرب إلى ثلاثة أقسام. 3 أخرجه أبو داود: "7/303- عون"، والترمذي: "4/132" من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه لكنه أعل بالإرسال. قال الترمذي وأبو داود: وقد رواه جماعة ولم يذكروا جريراً. وأخرجه النسائي: "8/36" عن قيس بن أبي حازم مرسلاً ولم يذكر جريراً. قال الترمذي "وسمعت محمداً –يعني: البخاري- يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل". والحديث صححه الألباني في "الإرواء": "5/30"، وذكر طرقه وشواهده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   السفر، ومنها حديث سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" 1. ثانياً: فقد الغيرة عنده –وهذا شيء ملاحظ- فإن الإنسان –وإن كان عنده غيرة- إذ أقام في بلد تكثر فيه المعاصي؛ فإن غيرته تضعف أو تموت بالكلية، ويصبح مجارياً لهم فيما هم عليه. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن مشاركة الكفار في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين. هذا إذا لم يكن الهدي الظاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له2.   1 أخرجه أبو داود: "7/477-عون" وإسناده ضعيف؛ لأنه من طريق سليمان بن موسى قال: أخبرنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب: حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن سمرة. وسليمان بن سمرة قال الحافظ: مقبول. وابنه خبيب: مجهول، وجعفر بن سعد: ليس بالقوي، وسليمان بن موسى: فيه لين. لكن له طريق أخرى يتقوى بها أخرجه الحاكم: "2/141-142"، وقد حسنه الألباني في "الصحيحة": "5/253". ويشهد له ما تقدم وكذا ما أخرجه النسائي: "5/82"، وابن ماجه: "رقم2536" من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ... كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين". قال الألباني: "وهذا إسناد حسن صححه الحاكم: "4/600"، ووافقه الذهبي" "الصحيحة": رقم369". 2 "اقتضاء الصراط المستقيم": 1"/82". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . قال البغوي رحمه الله: "سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يُهَاجِرُوا، نَادَاهُمُ اللهُ بِاسْمِ الإِيمَانِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مغربها".   ثالثاً: أن هذه الأسفار لا تسلم غالباً من الإسراف في النفقات المالية، وهذا فيه إنعاش لاقتصادهم وتقوية لهم. رابعاً: شعور الإنسان الذي يقيم بأنه كفرد منهم له ما لهم وعليه ما عليهم. أضف إلى هذا أن أهله من النساء والأطفال –إن كانوا معه- يتأثرون بأخلاق أهل تلك البلاد؛ لأن المرأة والطفل والشاب أسرع تأثراً وأكثر إعجاباً بما عليه الآخرون. قوله: "وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 1. قال البغوي رحمه الله: "سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يهاجروا، ناداهم الله باسم الإيمان" هذا دليل على أن الذي يترك الهجرة ليس كافراً؛ لأن الله تعالى قال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} ، ولو كانوا كفاراً ما ناداهم باسم الإيمان. وقد تقدم في كلام العلماء كابن كثير والشوكاني أن تارك الهجرة يعتبر عاصياً ظالماً لنفسه. وكلام البغوي هذا لخصه الشيخ رحمه الله مما حكاه البغوي رحمه الله عن جماعة من السلف2.   1 سورة العنكبوت، الآية: 56. 2 "تفسير البغوي": "3/372". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والبغوي: هو الإمام الحافظ الفقيه أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، قال ابن كثير: "برع في العلوم وكان علامة زمانه فيها وكان ديناً ورعاً زاهداً عابداً صالحاً" ا. هـ له مؤلفات منها تفسيره "معالم التنزيل"، و"شرح السنة"، وغيرهما، مات رحمه الله سنة 516هـ1. وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} ، أي: بي وبرسولي ولقائي وأضافهم إليه خطابه لهم تشريفاً وتكريماً {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} فإن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان، فاخرجوا فإن أرضي واسعة {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} لا تعبدوا معي غيري كما يريد منكم المشركون. ففي الآية أمر من الله لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه إلى إقامة الدين، وأنه لا عذر لأحد في ترك عبادة الله وتوحيده فيها؛ لأنه إن منع منها في بلد وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر2. قوله: "وَالدَّلِيلُ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشمس من مغربها". معنى انقطاع التوبة: عدم قبولها, وألا فقد توجد التوبة ولكنها لا تقبل إذا طلعت الشمس من مغربها؛ لأن هذا أوان قيام الساعة. قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ... } 3   1 "سير أعلام النبلاء": "19/439"، و"البداية والنهاية": "12/193". 2 "تفسير ابن كثير": "6/299"، و"أيسر التفاسير": "3/462". 3 سورة الأنعام، الآية: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فرض بقية شرائع الإسلام ... فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام   والحديث الذي ذكره المصنف مروي عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه1. وعن عبد الله بن السعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل. فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص رض الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الهجرة خصلتان، إحداهما: أن تهجر السيئات، والأخرى: أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها أو من المغرب، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفى الناسَ العملُ" 2. قول المصنف رحمه الله: "فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام" ذكر المصنف رحمه الله ما تم من الشرائع بعد استقرار النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد ذكر فيما تقدم الهجرة إلى المدينة. وإنما بدأ بأحكام الهجرة وأدلتها؛ لأنها من أبرز تكاليف الولاء والبراء، والأمر بالشرائع جاء بعد بناء العقيدة؛ لأن التوحيد أساس الأعمال؛ ولهذا استمرت الدعوة في مكة في   1 أخرجه أبو داود: "7/156-عون"، والنسائي في "الكبرى": "5/217"، و"البيهقي": "9/17"، وأحمد: "4/99"، وغيرهم من طريق أبي الهند البجلي عن معاوية. قال في "الإرواء" "5/33": "ورجال ثقات غير أبي هند فهو مجهول لكنه لم يتفرد به ... ". 2 أخرجه أحمد: "3/133" تحقيق شاكر. وقال: إسناده صحيح. وقال ابن كثير في "النهاية": "1م170"، وهذا إسناد قوي. وانظر: "الإرواء": "5/33، 34". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مِثلِ الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالأَذَانِ، وَالْجِهَادِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذلك من شرائع الإسلام.   موضوع بناء العقيدة، ولم تأت الشرائع والتكاليف إلا بعد الهجرة إلى المدينة إلا الصلاة فإنها لعظمها شرعت في مكة كما ذكر المصنف فصلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر ثلاث سنين. قوله: "أُمِرَ بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ مِثلِ: الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، [وَالأَذَانِ] 1، وَالْجِهَادِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام" ظاهر كلام المصنف رحمه الله أن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة؛ لأنه ذكر الزكاة مع الصوم والحج والجهاد والأذان، وهي لم تشرع إلا في المدينة. وقد ورد آيات مكية ذكرت فيها الزكاة، وفي بعضها الأمر بالزكاة، كما في قوله تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 2، وفي سورة المعارج: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 3، وفي سورة المؤمنون: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} 4، فهذه الآيات وغيرها من الآيات المكية ورد فيها ذكر الزكاة ثم جاءت آيات مدنية ذكرت فيها الزكاة.   1 سقط لفظ "الأذان" من بعض نسخ ثلاثة الأصول واستدركته من "مؤلفات الشيخ رحمه الله" القسم الأول: العقيدة والآداب الإسلامية: "ص194". 2 سورة الأنعام، الآية: 141. 3 سورة المعارج، الآيتان: 24، 25. 4 سورة المؤمنون، الآية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية سورة "المؤمنون" وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} : "الأكثرون على أن المراد بالزكاة هنا زكاة الأموال"1ا. هـ. وقال بعض أهل العلم: إن الزكاة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} المراد بها: تزكية النفوس وتطهيرها من الرذائل وعلى رأسها الشرك. ولا منافاة بين الآيات المكية والمدنية في موضوع الزكاة، فإنها فرضت في مكة وبينت أنصبتها في المدينة. فالزكاة التي كانت في مكة لم تكن مقدرة بأنصبة معينة إنما كان مرجعها إلى ذاتية الشخص. فقد يجود بالكثير وقد يجود بالقليل، وهذا –والله أعلم؛ لأن الإسلام لم يقم له في مكة دولة، فلم يكن هناك معنى لأن تفرض مقادير معينة للزكاة لكن في الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مكة لم يتحدث عن أنصبة الزكاة ولا بين مقاديرها. وعلى هذا فكلام المصنف صلى الله عليه وسلم هنا في قوله: "الزكاة" "يريد" ذات الأنصبة والمقادير. والله أعلم. قوله: "والصوم، والحج" فرض الصوم في السنة الثانية من الهجرة. 2 والحج فرض على أرجح الأقوال في السنة التاسعة من الهجرة3.   1 تفسير ابن كثير "5/457". 2 انظر: "البداية والنهاية": "3/254"، و"المجموع شرح المهذب": "6/250". 3 انظر: "زاد المعاد": "2/101". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قوله: "والجهاد" هو مصدر جاهد يجاهد جهاداً؛ إذا بالغ في قتل العدو وغيره. ومادة "جهد" حيث وجدت فيها معنى المبالغة. قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} 1، والمراد هنا: قتال الكفار خاصة. والجهاد فرض بعد الهجرة كما ذكر المصنف. وقبلها لم يأذن الله للمسلمين بالجهاد في مكة ولا فرضه عليهم؛ لأنهم عاجزون ضعفاء ليس لهم شوكة يتمكنون بها من القتال. فلما هاجروا إلى المدينة وقامت الدولة الإسلامية أمروا بالجهاد قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} 2. قوله: "والأذان" أي: أن الأذان شرع في المدينة في السنة الأولى من الهجرة على القول الراجح، وقد وردت أدلة تدل على أن الآذان شرع في مكة قبل الهجرة. لكنها أحاديث معلولة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله. وقد جزم ابن المنذر رحمه الله بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مكة بغير أذان منذ فرضت الصلاة إلى أن هاجر إلى المدينة3. قوله: "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، المعروف: اسم جامع لكل ما عرف أنه من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه. والمنكر: ضد ذلك. قال الراغب: "المعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع   1 سورة الحج، الآية: 78. 2 سورة البقرة، الآيتان: 190، 191. 3 انظر: "زاد المعاد": "3/69"، "فتح الباري": "2/78، 79". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وفاته صلى الله عليه وسلم ... أخذ على هذا عشر سنين. وتوفي، صلاة اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَدِينُهُ باقٍ، وَهَذَا دِينُهُ: لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ. وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، والشر الذي حذرها عنه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه.   حسنه، والمنكر ما ينكر بهما"1. قال الشوكاني: "والدليل على كون ذلك الشيء معروفاً أو منكراً هو الكتاب والسنة"2. وإنما خصه الشيخ –والله أعلم- دون غيره من بقية الشرائع؛ لأنه باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وهو وظيفة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام. وسمة من سمات الإيمان. وحق من حقوق المسلم على أخيه والأدلة على ذلك معلومة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قوله: "أخذ على هذا عشر سنين"، يعني: أخذا على تبليغ الشريعة وبيانها في المدينة وغيرها عشر سنين. قوله: "وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه" قال ابن كثير رحمه الله: "لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين، والمشهور أنه الثاني عشر من ربيع الأول"3ا. هـ. قوله: "ودينه باق"، أي: لأنه دين عام إلى يوم القيامة للبشرية كلها. بينما الأديان السابقة كانت مؤقتة بأوقات معينة انتهت بنهايتها. ولما كان   1 "المفردات في غريب القرآن": "ص331". وانظر: "النهاية" لابن الأثير: "3/216". 2 "إرشاد الفحول": "ص71". 3 انظر: "السيرة النبوية" لابن كثير: "4/505". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الإسلام ديناً عاماً لجميع البشرية وجب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم على جميع الثقلين الجن والإنس من اليهود والنصارى وغيرهم –كما سيأتي-؛ ولهذا تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه وحفظ القرآن الكريم، وقد دخل التحريف التوراة والإنجيل، والكتب الأخرى لا وجود لها. أما القرآن فإنه منذ أنزل إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة وهو باق لن تمتد إليه يد بتحريف ولا عبث؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. قوله رحمه الله: "وَهَذَا دِينُهُ لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ وَالْخَيْرُ الذي دلهما عَلَيْهِ "التَّوْحِيدُ" وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، والشر الذي حذر منه "الشرك" وجميع ما يكرهه الله ويأباه" هذا كلام رصين ودقيق قل أن تجده في مكان آخر. وقد ورد على أبي ذر رضي الله عنه قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علماً. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم" 2. وعن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت شيئاً مما أمركم   1 سورة الحجر، الآية: 9. 2 أخرجه الطبراني في "الكبير": "2/155، رقم1647"، وصححه الألباني ي "الصحيحة": "رقم1803". وانظر: العلل للدارقطني "6/290". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، الْجِنِّ وَالإِنْسِ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . وَكَمَّلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} .   الله به وقد أمرتكم به، ولا تركت مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه ... " 1. قوله: "بعثه الله إلى الناس كافة وافترض الله طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 2". هذه الآية دليل على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخطاب فيها للناس وهو لفظ شامل للعرب والعجم، وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" 3. فهذا دليل –أيضاً- على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب الإيمان به. قوله: "وأكمل اللهُ بِهِ الدِّينَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ   1 أخرجه الشافعي: "1/13- بدائع المنن"، قال الألباني: وهذا إسناد مرسل حسن فهو شاهد لما قبله ... 2 سورة الأعراف، الآية: 158. 3 أخرجه مسلم: "رقم240/153". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} 1" إكمال الدين حصل بتمام النصر وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة العلمية والعملية. فليس في هذا الدين –ولله الحمد- زيادة لمستزيد، فلا نقص يستدعي الإكمال ولا قصور يستدعي الإضافة. وقد ورد عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رجلاً من اليهود قال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة2. وهذا الرجل الذي سأل عمر رضي الله عنه هو كعب الأحبار كما جاء في رواية الطبراني، وفيها أيضاً: "نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد"3. وقوله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} ، أي: بهذا الدين. وبهذا المنهج الشامل الكامل تمت نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} هذا حث من الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة لتدرك قيمة هذا الدين ثم تحرص على الاستقامة عليه، فمن   1 سورة المائدة، الآية: 3. 2 أخرجه البخاري 3 انظر: "تفسير الطبري": "9/526" تحقيق شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} .   لا يرتضي هذا الدين منهجاً لحياته يسير عليه في كل صغيرة وكبيرة، فإنه يرفض ما اختاره الله تعالى وكفى بهذا قبحاً وشناعة أن يرفض هذا العبد الضعيف ما اختاره الله تعالى ورضيه. وهذه الآية دليل واضح على رعاية الله وعنايته بهذه الأمة حيث اختار لها ديناً وارتضاه وأحبه سبحانه وتعالى. ومن الأدلة على إكمال الدين حديث العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" 1. قوله: "وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} 2". أي: والدليل من النقل المطابق للحس عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} ، أي: إنك يا محمد ستموت وتنقل من هذه الدار لا محالة قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 3،   1 أخرجه ابن ماجه: "43"، وأحمد: "4/126"، والحاكم: "1/96"، قال الألباني: "هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات معروفون غير عبد الرحمن بن عمرو. وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عن جماعة من الثقات، وصحح له الترمذي وابن حبان والحاكم كما في "التهريب" الصحيحة: "رقم937"، وانظر: "كتاب السنة" لابن أبي العاصم: "1/19". 2 سورة الزمر، الآيتان: 30، 31. 3 سورة الأنبياء، الآية: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُواْ يُبْعَثُونَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} .   وقوله تعالى: {وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} ، أي: سيموتون. وينقلون من هذه الدار لا محالة كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 1، وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ، أي: يوم القيامة في ساحة فصل القضاء تختصمون إلى الله تعالى، وتحتكمون إليه فيما تنازعتم فيه؛ فيفصل بينكم بحكمه العادل. والآية شاملة لكل متنازعين في الدنيا من المؤمنين والكافرين فإنها تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة. دل على ذلك حديث الزبير رضي الله عنه قال: لما نزلت {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قال الزبير: يا رسول الله، أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا؟ قال نعم، فقال: إن الأمر إذاً لشديد2. وهذه الآية التي ساقها الشيخ رحمه الله هي أحدى الآيات التي استشهد بها الصديق رضي الله عنه عند موت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تحقق الناس موته مع قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 3. قوله: "والناس إذا ماتوا يبعثون" قصد بهذا رحمه الله بيان وجوب   1 سورة آل عمران، الآية: 185. 2 أخرجه الترمذي: "5/344"، وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي": "3/99". وانظر: "تفسير ابن كثير": "7/87". 3 "تفسير ابن كثير": "7/87"، و"فتح الباري": "8/146"، و"السيرة" لابن كثير: "4/478". والآية من سورة آل عمران، رقم: 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الإيمان بالبعث، وأن الإيمان به من جملة الإيمان باليوم الآخر وما فيه، والبعث معناه: إحياء الموتى حين ينفخ في الصورة النفخة الثانية. فيقوم الناس لرب العالمين لا نعال عليهم. عراة لا كسوة عليهم، غرلاً لا ختان فيهم؛ لقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} 1. والبعث حق ثابت دل عليه الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وهو مقتضى الحكمة، حيث تقتضي أن يجعل الله تعالى لهذه الخليقة ميعاداً يجازيهم فيه على ما شرعه لهم، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 2. قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 3" هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يخرج الموتى من هذه الأرض، وذلك في قوله: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . ومن الأدلة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً" 4. والحشر معناه: الجمع، يعني: جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم. قوله: "وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} 5"، أي: مبدأ   1 سورة الأنبياء، الآية: 104. 2 "نبذة في العقيدة الإسلامية" للشيخ محمد العثيمين: "ص40"، والآية من سورة المؤمنون، رقم: 115. 3 سورة طه، الآية: 55. 4 أخرجه البخاري: "11/334"، ومسلم: "رقم2859". 5 سورة نوح، الآية: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وَبَعْدَ الْبَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} .   الخلق خلق آدم عليه الصلاة والسلام من الأرض والناس ولد لآدم. وقوله: {نَبَاتاً} اسم مصدر نائب مناب المصدر، أي: إنباتاً. {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} ، يعني: يعيدكم في الأرض إذا متم ودفنتم بها {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} للحساب والجزاء. قوله: "وبعد البعث محاسبون" ذكر المصنف أمراً آخر يجب الإيمان به يتعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بالحساب والجزاء. والمراد بالحساب: إيقاف الله تعالى العباد على أعمالهم التي عملوها وما كانوا عليه في الدنيا. ومشهد الحساب مشهد عظيم ينبغي لكل مسلم أن يستحضره، قال تعالى عنه: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} 1، وحسبنا أن نعلم أن القاضي والمحاسب في هذا اليوم العظيم هو الحكم العدل قيوم السموات والأرضين. وهل الحساب عام للمؤمن والكافر أو أنه خاص بالمؤمن. والكافر لا فائدة من محاسبته؟ أرجح الأقوال في هذه المسألة أن الحساب عام للمسلم والكافر، وفائدة الحساب للكافر مع أن مآله إلى النار ولا حسنات تنفعه في مقابل   1 سورة الزمر، الآيتان: 69،70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ما له من السيئات التي أعظمها سيئة الكفر. أقول: محاسبة الكافر وراءها حكم عظيمة، منها: أولاً: إقامة الحجة على الكفار وإظهار عدل الله سبحانه وتعالى فيهم. ثانياً: محاسبة الكفار فيها توبيخ وتقريع لهم. ثالثاً: لأن الكفار على أرجح الأقوال مخاطبون بالأوامر والنواهي كما دلت على ذلك النصوص الشرعية. رابعاً: لأن الكفار يتفاوتون في الكفر، والنار دركات. ومما يدل على أن الكفار محاسبون قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 1، فهذا يدل على أنهم محاسبون ومسئولون، وقال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} 2، فقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} دليل على أن الكفار يحاسبون3. وقوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 4"، أي: أن الله تعالى لا يظلم أحداً فيجزي الذين   1 سورة القصص، الآية: 62. 2 سورة المؤمنون، الآيات: 103، 105. 3 انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم" عند الحديث "رقم 2808"، "مجموع الفتاوى": "4/305"، "فتح الباري" "9/145". 4 سورة النجم، الآية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .   أساءوا بإساءتهم، وأما عملوا الحسنى فهؤلاء جزاؤهم الحسنى، فلما أحسنوا العمل أحسن الله مثوبتهم وجزاءهم. فهذه الآية من الآيات الدالة على ثبوت الحساب، والآيات التي بمعناها كثيرة كقوله تعالى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} 1. ومن النصوص أيضاً ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: "اللهم حاسبني حساباً يسيراً" فقالت عائشة رضي الله عنها: وما الحساب اليسير؟ قال: "أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه" 2. قوله: "ومن كذب بالبعث كفر"، أي: لأنه مكذب لله ورسوله حيث إن القرآن دل في آيات كثيرة على ثبوت البعث، فالذي يكذب بالبعث مكذب للقرآن، من كذب القرآن فهو مكذب لله تعالى؛ فيحكم بكفره، ومكذب أيضاً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النصوص ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوقوع البعث وهو مخالف لإجماع المسلمين. قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} 3" أي: الدليل على أن التكذيب بالبعث كفر قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... } ووجه الدلالة أن الله تعالى كفرهم بإنكارهم البعث وسمى مقالتهم زعماً؛   1 سورة طه، الآية: 15. 2 أخرجه أحمد: "6/48"، قال ابن كثير في تفسيره" 8/379" "صحيح على شرط المسلم". 3 سورة التغابن، الآية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   فدل ذلك على من أنكره فهو كافر، وإنما زعموا أنهم لن يبعثوا؛ لأنهم قالوا: إن البعث غير ممكن كما قال الله عنهم: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 1، ومعنى: {ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} ، أي: ضاعت أجسامنا وعظامنا واختلطت بالأرض وصارت رفاتاً. وهم يزعمون أن الله تعالى لا يقدر على بعثهم بعد هذا كما قال تعالى عن بعض كفار قريش: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 2، وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم وفته في وجهه ونفخه. وقال: أتزعم يا محمد أن الله يحي هذا بعد ما أرم –يعني: بعدما فني فصار تراباً- قال: "نعم ويدخلك النار" 3 فهذه هي شبهة الكفار، فإنهم يقولون: إن الله تعالى غير قادر على أن يحييها ويعيدها مرة أخرى وهي على هذه الحال. وقد أكثر القرآن الكريم من ذكر البعث في آيات كثيرة وتنوعت الأساليب في القرآن في موضوع الإقناع بالبعث. وقد جاء في القرآن براهين عقلية تدل على وقوع البعث وخلاصة الأدلة على وقوع البعث كما يلي: الدليل الأول: إخبار العليم الخبير بوقوع يوم القيامة، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وجاء هذا الإخبار في القرآن الكريم بأساليب متنوعة ليكون أوقع في النفوس وأقرب إلى القبول. الدليل الثاني: أن القادر على الخلق الأول قادر على الخلق الثاني كما   1 سورة السجدة، الآية: 10. 2 سورة يس، الآية: 78. 3 انظر "تفسير ابن كثير": "6/579". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قال تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} 1، وقد استقر في أفهام الناس وتصورهم أن الإعادة أهون من البدء فإذا كنتم تعترفون أن الله قد خلقكم ابتداء فلماذا تنكرون الإعادة مع أن الإعادة في نظركم أهون، والبدء والإعادة عند الله تعالى سواء وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى فقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2، يعني: أهون عليه في نظركم فلماذا تنكرونه؟ والحاصل أن القادر على الخلق الأول قادر على الخلق الثاني. الدليل الثالث: أن القادر على خلق الأعظم قادر على خلق ما دونه قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} 3. الدليل الرابع: قدرة الله جل وعلا على تحويل الخلق من حال إلى حال فهو يميت ويحي ويخلق ويفني وهذه الأرض تكون هامدة لا نبات فيها فينزل الله المطر هي خضراء تهتز قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4، {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ   1 سورة مريم، الآيتان: 66، 67. 2 سورة الروم، الآية: 27. 3 سورة يس، الآية: 81. 4 سورة فصلت، الآية: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين.   الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} 1 فتجد أن القرآن يشير إلى هذا المعنى في كثير من الآيات وهو القادر على تحويل الشيء من حال إلى حال قادر على بعث الناس. وفي الآية التي ذكر المصنف رحمه الله وهي قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} دليل على وقوع البعث كما تقد. ودليل على الحساب في قوله: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، والمعنى: أن بعث الخليقة من قبورهم ومحاسبتهم سهل هين عليه سبحانه وتعالى. وهذه الآية هي إحدى الآيات الثلاث في القرآن التي أمر الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم للمشركين بربه جل وعلا على وقوع البعث، وليس بعد قسم النبي صلى الله عليه وسلم بربه توكيد، والآية الثانية في سورة يونس: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} 2، والآية الثالثة في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} 3. قوله: "وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين" هذه حكمة من الحكم العظيمة لإرسال الرسل إلى البشر "مبشرين ومنذرين" والتبشير معناه: ذكر الجزاء والثواب لمن أطاع. والإنذار: تخويف العاصي والكافر من سخط الله تعالى وعقابه، وقد يأتي التبشير أحياناً في العذاب   1 سورة فاطر، الآية: 9. 2 سورة يونس، الآية: 53. 3 سورة سبأ، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . َوَأَّولُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} .   كما في قول الله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 1 والأصل أنه يطلق على ما فيه من خير والإنذار على ما فيه من شر. قوله رحمه الله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 2 هذه الآية دليل على وظيفة من وظائف الرسل وهي: أنهم يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب. وفيها دليل على أنه لم يبق للخلق على الله حجة بعد الرسل؛ لأنهم بينوا للناس أمر دينهم، ومراضي ربهم ومساخطه، وطرق الجنة وطرق النار، فلم يبق لمعتذر عذر، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 3. قوله: "َوَأَّولُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 4" استدل العلماء بهذه الآية على أن أول الرسل نوح   1 سورة آل عمران، الآية: 21، والتوبة، الآية: 34، والانشقاق، الآية: 24. 2 سورة النساء، الآية: 165. 3 سورة طه، الآية: 134. 4 سورة النساء، الآية: 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   عليه الصلاة والسلام ووجه الاستدلال من البعدية في قوله تعالى: {وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} ، ولو كان هناك رسول قبل نوح لذكر. أما في السنة فهو ما ورد في الحديث الصحيح في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة؛ فيقول لهم: "ائتوا نوحاً فإنه أول رسول إلى الأرض فيأتون نوحاً فيقولون له: أنت أول رسول أرسلك الله إلى أهل الأرض"1. وهذا من أقوى الأدلة على أ، نوحاً عليه الصلاة والسلام أول الرسل. فإن آدم عليه الصلاة والسلام وصفه بأنه أول رسول إلى الأرض. وأما آدم عليه الصلاة والسلام فقد جرى الخلاف في رسالته، هل هو رسول أو ليس برسول. ومن قال إنه رسول يقول: لا منافاة بين رسالته ورسالة نوح؛ لأن رسالة آدم كانت إلى زوجته وبنيه فقط، فهي لأناس محصورين ولم يكن في الأرض آنذاك أهل غيرهم. وأما نوح عليه الصلاة والسلام فإن رسالته كانت إلى أهل الأرض. أو إن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهم موحدون ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد ... والله أعلم2. وقد ذكر بعض المؤرخين أن إدريس عليه السلام جد نوح عليه السلام، وإذا كان جداً لنوح فتكون رسالته متقدمة. وقال آخرون: إنه ليس جداً لنوح   1 أخرجه البخاري: "رقم 3304"، ومسلم: "رقم194" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو في "الصحيحين" أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه. 2 انظر: "فتح الباري": "6/372"، "11/433-434"، وشرح مسلم للنووي "3/57". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وكل أمة بعث الله إليهم رسولاً من نوح إلى محمد يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطاغوت.   وإنما هو من أنبياء بني إسرائيل. وفي حديث المعراج ما يدل على أن إدريس من أنبياء بني إسرائيل وأن رسالته متأخرة. وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مر على إدريس عليه السلام في السماء الرابعة وسلم عليه قال له: أهلاً بالأخ الصالح والنبي الصالح. قالوا: ولو كان جداً لنوح لقال للنبي صلى الله عليه وسلم: الابن الصالح. وإن كان الحافظ ابن حجر قال: إن هذا لا يلزم؛ لأنه قد يكون قاله من باب التواضع1 لكن على أي حال يصلح أن يتمسك به. وخلاصة المسألة أنه لم تثبت الأولية بأدلة قوية إلا لنوح عليه الصلاة والسلام، والله أعلم. والمصنف ساق الدليل على أولية نوح صلى الله عليه وسلم وترك الدليل على أن محمداً آخرهم لوضوحه وهو قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 2. قوله: "وكل أمة بعث الله إليهم رسولاً من نوح إلى محمد يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطاغوت"، يعني: يأمرهم بالتوحيد؛ لأن التوحيد يجمع أمرين: الأول: عبادة الله وحده. الثاني: النهي عن عبادة الطاغوت. فكل أمة من الأمم السابقة بعث الله إليها رسولاً يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وترك عبادة ما سواه فمن كفر   1 "فتح الباري": "6/374". 2 سورة الأحزاب، الآية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بِاللهِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ.   بالطاغوت وآمن بالله تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا، ولا يصح من الإنسان عمل إلا بالبراءة من عبادة كل ما يعبد من دون الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2" معنى {بَعَثْنَا} ، أي: أرسلنا. ومعنى {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} ، أي: في كل طائفة وقرن وجيل من الناس. وهذه الآية دليل واضح على أن الرسالة عمت كل أمة وأن دين الأنبياء واحد، كما أن الآية دليل على عظم شأن التوحيد وأنه واجب على جميع الأمم. وقد افترض اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بالله؛ لأن توحيد العبد لا يتم إلا بذلك. قوله: "قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ معبود أو متبوع أو مطاع" هذا تعريف الطاغوت. وهذا الكلام ذكره ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين"3. وقد عرف ابن القيم   1 سورة الأنبياء، الآية: 25. 2 سورة النحل، الآية: 36. 3 "1/50". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الطاغوت أحسن تعريف. والطاغوت في الأصل مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فكل من يتجاوز الحد الذي يحد له يعتبر في اللغة طاغوتاً، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 1. وكلمة طاغوت من أبنية المبالغة مثل الجبروت والملكوت. أما تعريفه المقصود فكما قال ابن القيم رحمه الله: "كل ما تجاوز به العبد حده"، ومعنى كل ما تجاوز به حده، أي: تعدى به العبد قدره الذي ينبغي له في الشرع فهو طاغوت، "من معبود" يعني: سواء كان هذا التعدي بكون هذا الإنسان عبد من دون الله فصار معبوداً فمن صرف له شيء من أنواع العبادة وهو مقر بذلك وراض به فإنه طاغوت؛ لأنه تجاوز حده وقدره في الشرع؛ لأن حده في الشرع أن يكون عابداً لله تعالى لا أن يكون معبوداً فإذا رضي أن يكون معبوداً فقد تجاوز حده، "أو متبوع" هذا يدخل فيه الكهان والسحرة الذين يتبعون فيما يقولون. كما يدخل في هذا علماء السوء الذين يدعون إلى الكفر أو الضلال أو إلى البدع أو يزينون للحكام الخروج عن شريعة الإسلام والاستعاضة عنها بالقوانين الوضعية فهؤلاء كل واحد منهم يصدق عليه أنه طاغوت؛ لأنه تجاوز حده، وهذا التجاوز في كونه متبوعاً يشرع، "أو مطاع" هذا يدخل فيه الحكام والأمراء الخارجون عن طاعة الله تعالى، الذين يحرمون ما أحل الله، أو يحلون ما حرم الله، فهم بهذا المعنى طواغيت؛ لأنهم تجاوزوا حدهم بكونهم هيأوا أنفسهم لأن يطاعوا في غير طاعة الله تعالى. هذا معنى التعريف الذي ذكره ابن القيم.   1 سورة الحاقة، الآية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 رؤوس الطواغيت ... وَالطَّوَاغِيتُ كَثِيرُونَ، وَرُؤُوسُهُمْ خَمْسَةٌ: إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ، وَمَنْ عُبِدَ وَهُوَ راضٍ، وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الله.   قول المصنف: "والطواغيت كثيرون" يعنى: باعتبار التعريف الذي ذكره ابن القيم فإنه يتبين منه أن الطواغيت كثيرة؛ لأن كل من عبد أو اتبع أو أطيع فيصدق عليه طاغوت، وهؤلاء كثيرون، ولكن رؤوسهم بالتتبع والاستقراء خمسة وما عدا هذه الخمسة فهو متفرع عنها. قوله: "ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله"؛ لأنه الداعي إلى عبادة غير الله تعالى فهو أول الطواغيت. قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 1، والمراد بعبادة الشيطان: طاعته؛ فيدخل في ذلك جميع أنواع الكفر والمعاصي؛ لأنها كلها طاعة للشيطان وعبادة له. قوله: "ومن عبد وهو راضٍ" هذا الثاني، والمعنى: من علم أن الناس يعبدونه ويتوسلون به ويصرفون له شيئاً من أنواع العبادة فرضي بهذه العبادة فهو طاغوت كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2. قوله: "ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه" هذا الثالث. وهو الذي يدعو الناس إلى عبادته وتعظيمه، وهذا ينطبق على بعض مشايخ الضلال من   1 سورة يس، الآية: 60. 2 سورة الأنبياء، الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الصوفية وغيرهم الذين يقرون بالغلو ويفرحون بتعظيم الناس لهم. قوله: "ومن ادعى شيئاً من علم الغيب" هذا الرابع. وذلك كالمنجمين والعرافين والرمالين الذين يدعون شيئاً من علم الغيب والله جل وعلا يقول: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} 1، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} 2 فعلم الغيب لا يكون إلا لله تعالى إلا من شاء الله تعالى من أنبيائه ورسله أن يطلعه على شيء من علم الغيب. وقوله: "ومن حكم بغير ما أنزل الله" هذا الخامس؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 3، وفي الآية الأخرى: {هُمُ الظَّالِمُونَ} 4، وفي الآية الثالثة: {هُمُ الْفَاسِقُونَ} 5، وهل هذه أوصاف متعددة لموصوف واحد؟ أو أنها لموصوفين مختلفين؟ من أهل العلم من قال: إنها أوصاف لموصوف واحد، يعني: أن الحاكم بغير ما أنزل الله باعتبار أنه جحود للشريعة يكون كفراً، وباعتبار أنه مجاوزة لحق الإنسان واعتداء على حق الله تعالى في التشريع يكون   1 سورة الجن، الآيات: 26، 27. 2 سورة الأنعام، الآية: 59. 3 سورة المائدة، الآية: 44. 4 سورة المائدة، الآية: 45. 5 سورة المائدة، الآية: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ظلماً؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. ومن حيث إنه خروج عن شرع الله تعالى يكون فسقاً؛ لأن الفسق معناه: الخروج. ولا مانع أن الأوصاف هذه تنطبق على ذات واحدة؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1 يعني: الكافر يوصف بأنه ظالم. وقال تعالى: {وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} 2 فوصفوا مع الكفر بالفسق. فقد يكون الشخص كافراً ظالماً فاسقاً؛ لأن الله تعالى وصف الكافرين بالظلم ووصفهم بالفسق. ومن العلماء من قال: إن هذه الأوصاف تتنزل على موصوفين بحسب الحامل على الحكم بغير ما أنزل الله، فإذا حكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن حكمه أصلح أو أنه مثل حكم الله تعالى فهذا كافر كفراً يخرج من الملة. أما إذا لم يحكم بما أنزل الله ولم يستخف به ولم يعتقد أن غير حكم الله أحسن فهذا يكون ظالماً. أما إذا حكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن حكم الله أنفع وأصلح وأن غيره لا خير في ولكنه حكم من أجل مجاراة للمحكوم له من أجل رشوة أو نحو ذلك فهذا يكون فاسقاً. فعلى هذا القول تنزل الأوصاف على حسب الحامل لهذا الحاكم3.   1 سورة البقرة، الآية: 254. 2 سورة التوبة، الآية: 84. 3 انظر: "تحكيم القوانين" للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، و"مدارج السالكين": "2/266"، و"القول المفيد": "2/266". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 والدليل قوله تعال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .   قوله: "والدليل قوله تعال: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 1" ساق المصنف رحمه الله الدليل على أن الله تعالى افترض على العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. أما تعريف الطاغوت وذكر الطواغيت فإن المصنف لم يستدل عليه هنا وقد استدل عليه في رسائل أخرى2. ومعنى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، أي: لظهور أدلة الدين وبراهينه فلا يكره إنسان على أن يعتنق الإسلام وإنما يعتنقه الإنسان بإرادته واختياره ولا منافاة بين هذه الآية والآيات الدالة على وجوب القتال والجهاد؛ لأن هذه الأدلة مراد بها إزالة العوائق في وجه الإسلام فإذا وقف أناس في وجه الإسلام أو قوة وقفت في وجه الإسلام فإنه يشرع القتال ويجب في هذه الحالة لإزالة هذه العوائق لكن لا يُلزم الإنسان بأن يعتنق الإسلام. وهذه الآية فيها خلاف بين المفسرين، فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة بآيات القتال. وضعف هذا المحققون كابن جرير وابن العربي والشوكاني وغيرهم3. ومنهم من قال: إن هذه الآية محكمة وأنها خاصة باليهود والنصارى والمجوس. أما   1 سورة البقرة، الآية: 256. 2 انظر: "مجموعة التوحيد" الرسالة السابعة: "ص260". 3 انظر: "تفسير ابن جرير": "5/407"، و"أحكام القرآن" لابن العربي: "1/233"، و"فتح القدير": "1/275". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   الوثنيون فإنهم يكرهون على الإسلام ويلزمون بالدخول فيه. وهو اختيار ابن جرير وجمع من المحققين. وعلى أي حال فالإنسان يعتنق الإسلام بإرادته واختياره وظهور تعاليمه وأدلته وبراهينه. وأما ما جاء في آيات القتال والجهاد فهذا لا ينافي الآية بل كل من وقف في وجه الإسلام من شخص أو من قوة فإنه يقاتل. أما أنه يلزم ويكره على اعتناق الإسلام فقد يعتنقه في الظاهر ولا يعتنقه في الباطن فيكون منافقاً. وقوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} الرشد: هو الهدى الموصل إلى سعادة الدارين. والغي معناه: الضلال المفضي بالعبد إلى الشقاء والخسران. وقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} هذا هو معنى التوحيد؛ لأن التوحيد –كما ذكر الشيخ قبل قليل- لابد من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وهذا أول ما فرض على ابن آدم. وصفة الكفر بالطاغوت: أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها، وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم. ومعنى الإيمان بالله: أن تعتقد أن الله هو الإله المعبود وحده دون من سواه وتخلص له جميع أنواع العبادة وتنفيها عن كل معبود سواه وتحب أهل الإخلاص وتواليهم وتبغض أهل الشرك وتعاديهم. 1 ولهذا قال   1 انظر: "مجموعة التوحيد"، "الرسالة السابعة": "ص260". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وهذا مَعْنَى لا اله إِلا اللهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: "رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجهاد في سبيل الله".   رحمه الله: "وهذا معنى لا إله إلا الله"، أي: أن هذه الآية متضمنة للنفي والإثبات فتثبت جميع أنواع العبادة لله وحده لا شريك له، وتنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله تعالى، وقد تقدم بيان ذلك. وقوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} ، أي: تمسك، واستمسك أبلغ من تمسك. قال الراغب: استمسكت بالشيء: إذا تحريت الإمساك1. وقوله: {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} العروة في الأصل: موضع شد اليد. والوثقى: تأنيث الأوثق. يقال: رجل أوثق وامرأة وثقى. والوثقى، أي: القوية التي لا تنفك. والمعنى –والله أعلم- فقد استمسك بالعقد المحكم الذي لا ينفك ولا ينفصم، وفيه بيان أن الذي يكفر بالطاغوت، ويؤمن بالله أنه قد أخذ بالطريق إلى الجنة؛ لأنه استمسك بالعروة الوثقى. قوله: "وَفِي الْحَدِيثِ: "رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ" أراد المصنف رحمه الله بهذا الحديث الاستدلال على أن لكل شيء رأساً وأن رأس الأمر الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الإسلام. وقد جاء تفسيره في رواية أخرى بالشهادتين فمن لم يقر بهما باطناً وظاهراً فليس من الإسلام في شيء2. وقوله: "وعموده الصلاة"، أي: قوام الدين الذي لا يقوم الدين إلا به   1 "المفردات في غريب القرآن": "ص468". 2 انظر: "جامع العلوم والحكم" شرح الحديث: رقم "29". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   كما يقوم الفسطاط على عموده هو الصلاة. وهذا دليل على عظم شأن الصلاة وأنها من الدين بهذا المكان العظيم. وأن مكانذها من الدين مكان العمود من الفُسطاط –وهو بيت من شعر- فهو قائم ما وجد العمود، ولو سحب العمود منه ما نفعت الأطناب وسقط البيت على الأرض. وفي هذا دليل على أن الذي يترك الصلاة لم يبق له دين ولذلك استدل الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أهل العلم الذين يقولون بأن تارك الصلاة كسلاً كافر استدلوا بهذا الحديث. ووجه الاستدلال أنه أخبر أن الصلاة من الإسلام بمنزلة العمود الذي تقوم عليه الخيمة. فكما تسقط الخيمة بسقوط عمودها فكذا يذهب الإسلام بذهاب الصلاة1. وليس في الحديث تعرض لكونه معترفاً بها أو جاهداً لوجوبها. بل هو ظاهر في الترك مطلقاً. والله أعلم. قوله: "وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"، الذروة: بكسر الذال وضمها وفتحها. وذروة الشيء أعلاه. وذروة البعير سنامه وهو أعلى شيء فيه. وهذا الحديث يدل على أن الجهاد هو أعلى شيء في الدين؛ لأن الجهاد فيه بذل للنفس التي هي أغلى وأثمن شيء عند الإنسان. وما ذكر المصنف رحمه الله هو جزء من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهو حديث طويل أوله: "قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال: لقد سألت عن عظيم.. الحديث" 2.   1 انظر: "كتاب الصلاة" لابن القيم: "ص47، 48". 2 أخرجه الترمذي: "رقم2616"، وابن ماجه: "رقم2973"، وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرجه أحمد من طرق. وانظر كلام ابن رجب عليه [الحديث التاسع والعشرون] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.   قوله: "والله أعلم" ختم الشيخ رحمه لله هذه الرسالة المفيدة كغيره برد العلم إلى الله تعالى المحيط بكل شيء علماً. قوله: "وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم" جملة "صلى": خبرية لفظاً، إنشائية معنى؛ لأن الشيخ لا يريد مجرد الإخبار بأن الله صلى على محمد وإنما يريد الدعاء فالمعنى: اللهم صلّ ... والصلاة من الله تعالى على نبيه ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، أي: عند الملائكة المقربين. كما قال ذلك أبو العالية. ورواه البخاري في "صحيحه"1. وهذا أحسن ما قيل في معنى ذلك؟ وقوله: "وآله" فيهم خلاف. والأظهر أن الآل إذا ذكروا وحدهم، فالمراد: جميع أتباعه على دينه كما هنا. أما إذا قرنت بالأتباع فقيل: آله وأتباعه، فالآل: هم المؤمنون من آل بيته صلى الله عليه وسلم. وقوله: "وصحبه" اسم جمع صاحب، ويجمع على أصحاب، والمراد: أصحابه، وهم كل من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على ذلك، وعطفه من باب الخاص على العام. قوله: "وسلم" معطوف على قوله "وصلى الله". وهي خبرية لفظاً إنشائية معنى، أي: اللهم سلمه، أي: من النقائص والرذائل والآفات،   1 انظر: "فتح الباري": "8/532"، وانظر: "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" للقاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي: "ص82". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وفي الجمع بينهما سر بديع، ففي الصلاة حصول المطلوب وهو الثناء عليه، وفي السلام زوال المرهوب1. وإلى هنا انتهى ما أردنا كتابته على هذه النبذة المفيدة نسأل الله تعالى أن يكتب الأجر لمؤلفها ومن شرحها وقرأها عاملاً بما فيها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.   1 انظر: "شرح العقيدة الواسطية" للشيخ محمد العثيمين: "1/46". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209