الكتاب: حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام المؤلف: ربيع بن هادي بن محمد عمير المدخلي الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام - ربيع المدخلي ربيع بن هادي المدخلي الكتاب: حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام المؤلف: ربيع بن هادي بن محمد عمير المدخلي الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] حجية خبرالآحاد في العقائد والأحكام إعداد الشيخ: ربيع بن هادي عمير المدخلي مقدمة : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإنّ الله ابتعث محمداً صلى الله عليه وسلم والبشرية كلها تتخبط في ظلمات حالكة مطبقة من الجهل والشرك والكفر والضلال والظلم، قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] . فقام بهذه الرسالة على أكمل وجوهها، واستجاب له خير أمة أخرجت للناس ممن اختارهم الله لحمل رسالة الإسلام والجهاد والتضحية بكل غال ونفيس في سبيل نشرها والذود عن حياضها، فقاموا بكل ما يتطلبه الإسلام من التلقي الواعي لما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن سنة مشرقة وضاءة شارحة ومبينة لأهداف القرآن ومقاصده ومبادئه ومثله. ثم بتبليغ هذين النورين- بعد تطبيقهما الكامل في حياتهم- إلى أمم الأرض وشعوبها بالدعوة الواضحة والبيان. فهدى الله تلك الأمم وأخرجها من الظلمات إلى النور واستضاءت بنور الإسلام وتفيأت ظلاله بعد أن رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وأقبلت على تعاليم الإسلام وتوجيهاته من كتاب وسنة تنهل من نميرهما حفظاً واعياً وتطبيقاً صادقاً في مجال العقيدة والعبادة والاقتصاد والحكم، فبلغوا بهذه الحياة على هذين المصدرين أوج العزة وقمة السعادة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الدنيا والآخرة، ونعموا بحياة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية من العدالة والأخوة والمحبة الصادقة في الله، والإيثار في جنب الله، والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أجناس الأمم التي انضوت تحت لواء الإسلام لا فرق بين عربيهم وعجميهم ولا بين أبيضهم وأسودهم وأحمرهم. فأثارت هذه الحياة الهنيئة الراضية مكامن الحسد والبغضاء والغيظ على هذه الأمم التي أصبحت أمة واحدة كالبنيان المرصوص وكالجسد الواحد؛ فشرع أولئك الحاقدون من سلالات المجوس واليهود يحيكون الدسائس السياسية ويرسمون الخطط لزلزلة هذا البنيان المحكم وتحطيم أركانه سياسياً واجتماعياً وعقدياً من عدة طرق. منها: الطعن في الإسلام عموماً وفي القرآن والسنة والصحابة الكرام. ومنها: اختراع الأحاديث الباطلة على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حتى وصلت الأحاديث المكذوبة إلى ألوف مؤلفة، فتصدى لهم الجهابذة من نقاد أئمة الحديث، ففندوا أكاذيبهم وكشفوا عوارهم، فلم يتركوا كاذباً ولا أحاديث مفتراة إلا سلطوا عليها الأضواء الإسلامية، وجعلوها تحت المجاهر فانكشف حالها وحال مخترعيها. بل امتد نشاط هؤلاء النقاد العباقرة إلى وضع قواعد متينة يعرف بها الصحيح من السقيم ولو كان غير كذب، وألَّفوا في ذلك المؤلفات، ووضعوا قواعد للجرح والتعديل؛ تميّز الراوي العدل الضابط من الضعيف والمجروح، وألفوا في ذلك المؤلفات فبلغوا بهذه الأعمال الجليلة في الحفاظ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة درجة لا نظير لها في تأريخ الإنسانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وأضافوا إلى ذلك التأليف في العلل والموضوعات، وقبلها التأليف في الصحيح والحسن، فأصبح بذلك أمر السنة واضحاً كالشمس لا يلتبس فيه الصحيح بالضعيف فضلاً عن الموضوع والمختلق. وإلى جانب هؤلاء طوائف زائغة تبنت عقائد وأفكاراً باطلة. ومن المؤلم المؤسف جداً أن وجدوا أنفسهم وعقائدهم في مواجهة نصوص الكتاب والسنة فلجؤوا إلى التحريف والتأويل لنصوص الكتاب والمتواتر من السنة حتى تتفق هذه النصوص في زعمهم مع معتقداتهم الباطلة، ولجؤوا إلى وضع قواعد تدفع في نحور السنن أحياناً، وتلوي أعناقها أحياناً إلى حيث توافق أهواءهم واتجاهاتهم الضالة الباطلة. فمن تلكم القواعد قولهم: "إنّ أخبار الآحاد لا يحتج بها في باب العقيدة؛ لأنها لا تفيد اليقين وإنما تفيد الظن"، فكم أساءت هذه المقولة الباطلة إلى الإسلام، وكم أهانت من حديث عظيم من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخفت به. وامتدت هذه القاعدة إلى إنكار قضايا عقدية تبلغ أدلتها حد التواتر، مثل: أحاديث نزول عيسى، وخروج الدجال، وطلوع الشمس من مغربها، وأحاديث المهدي، وغيرها مما يؤدي إنكاره إلى هدم عقيدة الإسلام من أساسها، بل بعضها تطابق في الدلالة عليها الكتاب والسنّة، مثل: رؤية الله في الدار الآخرة. ومن تلكم القواعد الضالة: " كل ما لم يوافق العقل وكل ما لم يوافق الذوق من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب رده "، ويجعلون من جهلهم بالكتاب والسنة ومن عقولهم القاصرة وأذواقهم الفاسدة موازين لأخذ ما شاؤوا ورد ما شاؤوا من أقوال أفضل الرسل، وأعقل العقلاء الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وكادت هاتان الطائفتان أن تنقرضا، ولكن عزّ على أعداء الإسلام أن تخبو نار الفتنة، وأن تضع الحرب الموجهة ضد الإسلام أوزارها. فهب أعداء الإسلام من يهود وماسونيين ومستشرقين ومستعمرين لإيقاظ هذه الفتنة من سباتها أو نبشها من قبورها المندثرة، ثم بثها في الشرق والغرب وفي صفوف أبناء الأمة الإسلامية ولا سيما المثقفين والجامعيين، وانضم إلى صفوف هؤلاء الأعداء سفهاء وأغبياء من أبناء جلدتنا ومن يتكلم بلغتنا، فكان هجومهم على السنة أشد وأعنف، وكانوا أشد خطراً على الإسلام من أعداء الإسلام المكشوفين الواضحين. ولكن الله الذي تعهد بحفظ دينه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] لهؤلاء جميعاً - من أعداء الإسلام الواضحين، وأعداء السنن المندسين في صفوف الإسلام، واللاهثين وراءهم- بالمرصاد. فكما جنَّد لحماية السنة المطهرة في السابق جنوداً من أئمة الحديث والسنة مخلصين، فدحرت جيوش الباطل وجنود إبليس في السابق، فكذلك جنَّد في اللاحق وفي هذا العصر بالذات من يتصدى لهؤلاء المتربصين بالسنن النبوية والعقائد الإسلامية ويدحرهم ويردهم على أعقابهم خاسئين {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] . فلقد هبّ حماة الإسلام في السابق واللاحق يدافعون عن سنن المصطفى، ويهاجمون خصومها حتى تعلو كلمة الحق ويزهق الباطل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] . ففي السابق كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 علماء الحديث والسنة وعلى رأسهم: الشافعي (ت204هـ) ، وأحمد ابن حنبل (ت241هـ) ، وابن قتيبة (ت276هـ) ، ثم ابن تيمية (ت728هـ) ، وابن القيم (ت751هـ) ، جنوداً بواسل في دحر هذه الشراذم الضالة. وفي العصر الحاضر هبّ لدحرهم علماء السنة الفضلاء مثل: الأستاذ محمد عبد الرزاق حمزة، وعبد الرحمن المعلمي، وعلامة الشام ومحدثها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ عبد الله بن يابس النجدي، وغيرهم من الغُيُر على الإسلام والسنّة. ولا يزالون - ولله الحمد - بالمرصاد لكل من يرفع رأسه بفتنة أو بشغب على الإسلام من قريب أو بعيد ويريد النيل من القرآن والسنة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . ولقد أسهمت أنا العبد الضعيف في الذب عن السنة والمنهج الإسلامي بعدة إسهامات منها: " كشف موقف الغزالي من السنة وأهلها". ومنها: "تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف". ومنها: هذا البحث المتواضع الذي أشارك به اليوم في "ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية". هذا وقد قسمت بحثي إلى مقدمة وفصول: الفصل الأول: بيان منزلة السنّة في الكتاب والسنّة. الفصل الثاني: منزلة السنة عند الصحابة الكرام فمن بعدهم من خيار الأمة وسادتها. الفصل الثالث: ذكر ضلالات وشبه أهل الأهواء حول السنة قديماً ودحضها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الفصل الرابع: ذكر شبهات أهل الأهواء حول السنة في العصر الحاضر ودحضها. الفصل الخامس: حجج أهل السنة على أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تفيد العلم لا الظن. والله أسأل أن ينفعني والمسلمين بهذا البحث وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الفصل الأول: بيان منزلة السنة في الكتاب والسنة بيان منزلة السنة في الكتاب والسنة ... الفصل الأول: بيان منزلة السنّة في الكتاب والسنّة تعريف السنة: هي في اصطلاح المحدثين: كل ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو سيرة، والسنة بهذا المعنى مرادفة للحديث النبوي. ولها منزلة عظيمة وميزات مرتبطة بميزات ومنزلة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم منها: 1- لقد ميز الله رسوله بالعصمة فيما يبلغه عن ربه -عز وجل-، وهي ميزة جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. وهذه العصمة ليست خاصة بتبليغ القرآن بل في كل ما يبلغه عن ربه - عز وجل - من قول أو فعل أو تقرير فهو لا ينطق عن الهوى كما قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1-4] ، ومن خصّ هذه العصمة بتبليغ القرآن دون سنة محمد صلى الله عليه وسلم فقد ضل وغوى. 2- وقرن الله الإيمان بهذا الرسول الكريم بالإيمان به - عز وجل- في كثير من الآيات. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] . فالإيمان به يقتضي الإيمان بكل ما جاء به وأخبر عنه من الأمور الماضية والمستقبلة من أخبار الرسل وأممهم وأخبار الجنة والنار وأهلهما وأشراط الساعة والملاحم وغيرها. 3- وأحلّه الله عز وجل منزلة رفيعة، هي أن يكون المبين لكتابه، والمفسر لما أجمل من آياته، والمخصص لعموماته، والمقيد لمطلقاته، فقال عز من قائل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] . فيالها من منزلة عظيمة أرغم الله بها أنوف من لم يرضوها ومضوا يجادلون فيها بالباطل. 4- وأمر سبحانه بطاعته في مواضع كثيرة تربو على ثلاثين موضعاً، وقرن طاعته بطاعته. بل جعل طاعته طاعة لله، ومعصيته معصية لله، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] . وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فهذا التأكيد على طاعته مقرونة بطاعة الله، وهذا الأمر بالرد إلى الله والرسول ليس له معنى إلا الانقياد له صلى الله عليه وسلم، واعتقاد وجوب طاعته، والحذر من معصيته. 5- ووعد الله بأعظم الجزاء لمن يطيع الله ورسوله في غير ما آية، منها: قوله تعالى عقب تفصيل المواريث: {لْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13] . ومنها: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69-70] . 6- ونفى الإيمان عمن لا يحكمه في شؤون الدين والدنيا أو يجد حرجاً في الاحتكام إليه أو لا يسلّم تسليماً ظاهراً وباطناً لقضائه. قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] . 7- وحذّر الله من مخالفته أشد التحذير، وتوعَّد من يخالف أمره بالسقوط في الفتنة وبالعذاب الأليم، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 8- ووصف من يتهرب من الاحتكام إليه ويصد عنه وعن حكمه بالنفاق، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:61] . 9- ووصف من يعرض عن حكمه ولا يذعن له بأنّهم غير مؤمنين، وأن دعواهم الإيمان كاذبة، وبأنّ في قلوبهم مرضاً، ووصفهم بالظلم وسوء الظن بالله وبرسوله. فقال: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور 48- 50] . 10- وجعل الله من علامات المؤمنين الصادقين الاستجابة لمن يدعوهم إلى حكم الله ورسوله، وإعلان السمع والطاعة، وشهد لهم بأنهم هم المفلحون والفائزون فقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51-52] . ووعد الله سبحانه وتعالى من يطيع الرسول بالهداية إلى الحق فقال تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] . 11- وميز الله الذكر المنزل عليه بالحفظ، وهذا الذكر يشمل القرآن والسنة، وهي بيانه ولا يتم حفظ القرآن إلا بحفظ بيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وهذا كما يشهد به القرآن يشهد به الواقع وتاريخ هذه الأمة، وجهاد فحولها في الحفاظ على السنة وحفظها واتخاذ كل الوسائل الحكيمة، واستخدام الأصول والطرق والمناهج لتحقيق هذا الحفظ في أجلى صوره وأمتنها ولا يجحد هذا إلا مكابر. هذه المزايا وغيرها - مما لا يتسع المقام لذكره- لهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تعطي بداهة عند أولي النهى والألباب مكانة وإجلالاً لسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها براهين ساطعة وحجج قاطعة مع القرآن، جنباً إلى جنب في كل أبواب الدين والدنيا في العقائد والعبادات والمعاملات والسياسة والاجتماع والاقتصاد. ومن رأى أو قال غير هذا فقد تاه، وضل ضلالاً مبيناً، وشاقَّ الله ورسوله، واتبع غير سبيل المؤمنين. {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] . ومن السنّة: ما جاء عن عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي" (1) .   (1) أخرجه مالك في الموطأ (2/899) ، بلاغاً، والحاكم في المستدرك (1/93) متصلاً مرفوعاً، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2937) ، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/331) : "وهذا أيضاً محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وعن المقدام بن معديكرب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدّث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله -عز وجل- فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإنّ ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما حرّم الله" (1) . وعن أبي رافع -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ألفينّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" (2) . وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلّ أمتي يدخلون الجنّة إلا من أبى"، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟، قال: "من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى" (3) . وعن أبي موسى –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً، فقال: يا قوم إنّي رأيت الجيش بعينيَّ، وإنّي أنا النذير العريان، فالنّجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتّبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذّب بما جئت به من الحق" (4) .   (1) أخرجه ابن ماجه في مقدمة السنن (1/6) حديث (12) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه حديث (12) ، وأخرجه أبو داود في السنة حديث (4604) بلفظ أطول وفيه: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ... "، وأخرجه الترمذي في العلم، حديث (2664) . (2) أخرجه أبو داود في السنة حديث (4605) ، والترمذي في العلم حديث (2663) ، وابن ماجه في المقدمة حديث (13) ، وإسناده صحيح وصححه الألباني في صحيح أبي داود وصحيح ابن ماجه. (3) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام حديث (7280) . (4) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام حديث (7283) ، ومسلم حديث (2283) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الفصل الثاني: منزلة السنّة عند الصحابة الكرام فمن بعدهم من خيار الأمة وسادتها أولاً: منزلة السنة عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1- سألت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، فغضبت على أبي بكر وهجرته ... فأبى عليها ذلك أبو بكر وقال: "لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ" (1) . كأنه كان نصب عينيه قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . 2- وروى الإمام البخاري بإسناده إلى أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد، قال: جلس إليّ عمر في مجلسك هذا، فقال: "هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت: ما أنت بفاعل، قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك قال: هما المرآن يقتدى بهما " (2) . وقد يكون حكم المسألة الكبيرة في القرآن والسنة، فيكتفي الصحابة في الاستدلال عليها ببعض من السنة، فلا يسمع معارضاً لا من الصحابة ولا من التابعين؛ لأن سنّة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم جميعاً حجة وأي حجة مثل القرآن، ولها عندهم منزلة وأي منزلة.   (1) صحيح البخاري فرض الخمس حديث (3093) . (2) الصحيح، الاعتصام بالسنة حديث (7275) وهو في مسند الإمام أحمد (3/410) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 3- وروى الشيخان عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر- رضي لله عنه-: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله -عز وجل- قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنّه الحق" (1) . إنَّ كُلاًّ من أبي بكر وعمر قد احتج بالسنة في حضور الصحابة الكرام وأقروهما على هذا الاستدلال، وهما أفضل الصحابة، وفي المسألة نصان من القرآن الكريم، وهما: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] .وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} } [التوبة: 11] . وترجح رأي أبي بكر؛ لأنّ مانعي الزكاة أخلُّوا بشروط العصمة الواردة في الحديث الذي استدل به عمر وفي الآيتين المذكورتين وفي غيرهما.   (1) البخاري في الزكاة حديث (1400) ومسلم في الإيمان حديث (20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 والشاهد أن في احتجاج أبي بكر وعمر بالسنة في مسألة عظيمة منصوص عليها في القرآن وبحضور الصحابة الكرام، دليلاً واضحاً على منزلة السنة عند الصحابة جميعاً، وأنه لا ينكر على أحد إذا سلك هذا المنهج، وأن للمسلم أن يسلك هذا المنهج وله أن يجمع بين القرآن والسنة، وله أن يكتفي بالنص من القرآن؛ شريطة أن يكون استدلاله صحيحاً بعيداً عن اتباع الهوى وتتبع المتشابهات، كما هو فعل أهل الأهواء والزيغ، ومنهم أعداء السنة وخصومها. 4- ولما قال معبد الجهني وجماعة معه في البصرة بالقدر، وبلغ ذلك ابن عمر من طريق يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري قال ابن عمر: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر"، ثم روى عن أبيه الحديث المشهور الذي فيه سؤال جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان. فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أسئلته إجابة شافية، ومن إجابته عن السؤال عن الإيمان قوله: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" (1) . والشاهد أن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر اكتفى في هذه المسألة العقدية الكبيرة بالاحتجاج بالسنة النبوية مع أن هناك آيات في الإيمان بالقدر، وفي هذا دليل على منزلة السنة عند أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. والأدلة من تصرفاتهم كثيرة لا يتسع المقام لسردها.   (1) صحيح مسلم، الإيمان حديث (1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 5- وعن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنَّكم إليها " قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبّه سباً سيئاً ما سبَّه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: "والله لنمنعهن" (1) . 6- وعن سعيد بن جبير أن قريباً لعبد الله بن مغفل خذف فنهاه، وقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، وقال: "إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدواً ولكنها تكسر السن وتفقأ العين" قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ثم تخذف لا أكلمك أبداً " (2) . 7- ورحل كل من أبي أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله الأنصاري مسيرة شهر من أجل حديث واحد. هذه هي منزلة السنة النبوية عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار على نهجهم التابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى في تعظيم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحتجون بها في كل جوانب الدين العقدية والعملية، ويعملون بها في كل شؤون حياتهم ويشدون الرحال إلى مختلف البلدان لحفظها وتدوينها ونشرها وتعليمها كما سبقت الإشارة إلى ذلك.   (1) صحيح مسلم، الصلاة حديث (442) . (2) صحيح مسلم، الصيد والذبائح حديث (1954) وأخرجه البخاري في الذبائح والصيد حديث (5479) وفيه " لا أكلمك كذا وكذا ومثله في مسلم أيضاً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ثانياً: منزلة السنّة عند التابعين وأهل الحديث والفقهاء. 1- اهتموا بحفظها والتفقه فيها والتعبد بها، فتجد الواحد منهم يحفظ ألوف الألوف من الأحاديث. 2- اهتموا بالرحلة في سبيلها، فتجد الكثير منهم يرحل إلى البلدان المختلفة ليتلقاها من أفواه العلماء بها، حتى إن بعضهم ليرحل مسافة شهر من أجل حديث واحد. 3- اهتموا بتدوينها في المصنفات والجوامع والمعاجم والمسانيد وكتب الصحاح والسنن. 4- اهتموا بتواريخ رجالها من ولادتهم إلى وفياتهم، وبيان أحوالهم من قوّة وضعف، وأحوالهم في شيوخهم –أيضاً- من قوّة وضعف. وبيان أحوال الحفاظ المتقنين والنقاد المبرزين، وأحوال من تغيّر حفظه ومتى حصل هذا التغير، ومن روى عنهم قبل التغير وبعده، كل ذلك في كتب الرجال المشهورة، بل خصّصوا كتباً في الحفاظ وطبقاتهم، وفي المدلّسين وطبقاتهم، وفي المختلطين، وفي الضعفاء والمتروكين، وألفوا كتباً في علومها، وألّفوا الكتب في الوضع والوضاعين. كلّ ذلك نصحاً لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين، وحفاظاً على السنّة النبوية، وحماية لها، وتمييزاً بين مقبولها ومردودها. وتحقّق بهذه الأعمال وعد الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . مما حدا بأحد أئمة الحديث -وهو أبو حاتم محمد بن حبان البستي- أن يقول: " ولو لم يكن الإسناد وطلب هذه الطائفة له لظهر في هذه الأمة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 تبديل الدين ما ظهر في سائر الأمم، وذلك أنه لم يكن أمة لنبي قط حفظت عليه الدين عن التبديل ما حفظت هذه الأمة، حتى لا يتهيأ أن يزاد في سنة من سنن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألفٌ ولا واوٌ، كما لا يتهيأ زيادة مثله في القرآن، لحفظ هذه الطائفة السنن على المسلمين، وكثرة عنايتهم بأمر الدين، ولولاهم لقال من شاء ما شاء." (1) .   (1) كتاب المجروحين (1/25) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الفصل الثالث: ذكر ضلالات وشبه أهل الأهواء حول السنة قديماً ودحضها ذكر ضلالات وشبه أهل الأهواء حول السنة قديماً ودحضها ... الفصل الثالث: ذكر ضلالات وشبه أهل الأهواء حول السنة قديماً ودحضها لأهل الأهواء من المتكلمين وغيرهم شبه أثاروها ضدّ سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهم وجهوها ضد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضد أئمة الحديث، فتصدى لأباطيلهم وشبهاتهم وطعونهم عددٌ من أئمة الإسلام: كالإمام الشافعي، والإمام أحمد، وابن قتيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم. ولقد رأيت الإمام ابن قتيبة أطال النفس في تصديه لهم، ونصّ على عدد من رؤوس أهل الضلال، وفنّد مطاعنهم؛ فآثرت أن أقدم للقراء بعض جهوده –رحمه الله- في كتابه "تأويل مختلف الحديث" (1) : قال – رحمه الله - "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: أسعدك الله تعالى بطاعته، وحاطك بكلاءته، ووفقك للحق برحمته، وجعلك من أهله، فإنك كتبت إليّ تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث وامتهانهم وإسهابهم في الكتب بذمهم ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضاً وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث، فالخوارج تحتج بروايتهم "ضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم أبيدوا خضراءهم" (2) . و"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم خلاف من خالفهم". و "من قتل دون ماله فهو شهيد".   (1) (ص:3) . (2) ضعيف، انظر: السلسلة الضعيفة للألباني، حديث (1643) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 والقاعد يحتج بروايتهم: "عليكم بالجماعة فإن يد الله عزّ وجل عليها". و"من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه". و"اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدّع الأطراف " (1) . ثم ساق عدداً من الروايات الباطلة والروايات الصحيحة التي يرون أنها متناقضة، ويطعنون بالجميع في أصحاب رسول الله (وفي أهل الحديث، وفي هذا دلالة على ضلالهم وجهلهم، فالصحيح من الروايات غير متناقض، والباطل منها إنما هو من افتراءات أهل الأهواء، وقد بيّن ذلك أهل الحديث فلا وجه للطعن عليهم ". ثم قال مبيناً حال أهل الكلام: " (باب ذكر أصحاب الكلام وأصحاب الرأي) . 1- قال أبو محمد: "وقد تدبرت -رحمك الله- مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس، وعيونهم تطرف على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل، ولا يتهمون آراءهم في التأويل. ومعاني الكتاب والحديث، وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة، لا يدرك بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأينية (2) . ولو ردوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما؛ وضح لهم المنهج، واتسع لهم المخرج. ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة، وحب الأتباع، واعتقاد الإخوان   (1) هذه الأحاديث صحيحة، لكن القوم لم يفقهوها. (2) هذه ألفاظ يستعملها المتكلمون يخالفون بها نصوص الكتاب والسنة وما عليه السلف الصالح، ولا سيما في أبواب صفات الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بالمقالات والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضاً. ولو ظهر لهم من يدعي النبوة -مع معرفتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، أو من يدعي الربوبية- لوجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً. وقد كان يجب -مع ما يدعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر- أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح والمهندسون؛ لأن آلتهم لا تدل إلا على عدد واحد، وإلا على شكل واحد، وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق. لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد فما بالهم أكثر الناس اختلافاً، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين. فـ"أبو الهذيل العلاف" يخالف "النظَّام" و"النجار" يخالفهما، و"هشام بن الحكم" يخالفهم، وكذلك "ثمامة"، و"مويس"، و"هاشم الأوقص"، و"عبيد الله ابن الحسن"، و"بكر العمى"، و"حفص"، و"قبّة"، وفلان وفلان. ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين، يدان برأيه، وله عليه تبع" (1) . 2- قال أبو محمد: "لو كان اختلافهم في الفروع والسنن، لاتسع لهم العذر عندنا، وإن كان لا عذر لهم، مع ما يدعونه لأنفسهم كما اتسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم. ولكن اختلافهم، في التوحيد، وفي صفات الله تعالى، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبيّ إلا بوحي من الله تعالى. ولن يعدم هذا من رد مثل هذه الأصول إلى استحسانه ونظره وما   (1) (ص:14-15) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أوجبه القياس عنده، لاختلاف الناس في عقولهم وإراداتهم واختياراتهم. فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين، حتى يكون كل واحد منهما، يختار ما يختاره الآخر، ويرذل ما يرذله الآخر، إلا من جهة التقليد" (1) . 3- "ولو أردنا – رحمك الله – أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام، ونرغب فيهم، لخرجنا من اجتماع إلى تشتت، وعن نظام إلى تفرق، وعن أُنس إلى وحشة، وعن اتفاق إلى اختلاف، لأن أصحاب الحديث كلهم مجمعون على أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون. وعلى أنه خالق الخير والشر، وعلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وعلى أن الله تعالى يُرى يوم القيامة، وعلى تقديم الشيخين، وعلى الإيمان بعذاب القبر، لا يختلفون في هذه الأصول، ومن فارقهم في شيء منها، نابذوه وباغضوه وبدعوه وهجروه. وإنما اختلفوا في اللفظ بالقرآن، لغموض وقع في ذلك وكلهم مجمعون على أن القرآن بكل حال -مقروءاً ومكتوباً، ومسموعاً، ومحفوظاً- غيرُ مخلوق فهذا الإجماع" (2) . 4- "فإذا نحن أتينا أصحاب الكلام، لما يزعمون أنهم عليه من معرفة القياس، وحسن النظر، وكمال الإرادة، وأردنا أن نتعلق بشيء من مذاهبهم، ونعتقد شيئاً من نحلهم، وجدنا النظّام شاطراً من الشطار، يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش، والشائنات وهو القائل: ما زلتُ آخذُ رُوح الزِقِّ في لُطُف ... وأستبيحُ دماً من غير مجرُوحِ   (1) (ص:15) . (2) (ص:16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 حتى انثنيتُ ولي روحان في جسدي ... والزقُّ مُطَّرَحُ جسمٍ بلا روحِ" (1) ثم ذكر من ضلالاته قوله: يجوز أن يجمع المسلمون جميعاً على الخطأ، وأنه طعن في حديث: "بعثت إلى الناس كافة"، وادعى أن كل نبي كذلك. وحكى عنه أقوالاً باطلة في الطلاق والظهار والوضوء والطعن في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت بالتناقض في أقوال افتراها عليهم، والطعن في عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وتكذيبه في حديث انشقاق القمر وحديث خلق الجنين في بطن أمه ... " (2) ، وفيه: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها". كما طعن في حذيفة -رضي الله عنه-، وأبي هريرة -رضي الله عنه-، وأن عمر وعثمان وعلياً وعائشة قد كذبوه. وقد تابعه في الطعن في أبي هريرة أحمد أمين وأبو رية كافأهما الله بما يستحقان، وقد رد ابن قتيبة هذه الطعون (3) . ثم ذكر بكراً صاحب الطائفة البكرية، وذكر من أقواله: أن من سرق حبة خردل، ثم مات غير تائب فهو في النار مخلد فيها أبداً مع اليهود والنصارى، وذكر بعض ضلالاته ثم ناقشه فيها (4) ، وذكر هشام بن الحكم وأنه كان رافضياً غالياً وأنه غال في الجبر. وذكر له شناعات أخرى (5) .   (1) (ص:17-18) . (2) ومن المؤسف أن محمداً الغزالي المعاصر قد تابعه في الطعن في ابن مسعود وتكذيبه في هاتين القضيتين، وطعن في عبد الله بن عمرو بن العاص ومعاوية -رضي الله عنهما- كما شارك في الطعن في أهل الحديث وكثير من الأحاديث النبوية. (3) انظر: (ص:18-43) . (4) (ص: 46) . (5) (ص:48-49) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ثم قال: " ثم نصير إلى ثمامة فنجده من رقة الدين وتنقص الإسلام والاستهزاء به وإرساله لسانه على ما لا يكون على مثله رجل يعرف الله تعالى ويؤمن به. ومن المحفوظ عنه المشهور أنه رأى قوماً يتعادون يوم الجمعة إلى المسجد لخوفهم فوت الصلاة، فقال: انظروا إلى البقر انظروا إلى الحمير، ثم قال لرجل من إخوانه: ما صنع هذا العربي بالناس" (1) ، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجل شعوبي حاقد على الإسلام ونبي الإسلام. ثم ذكر محمد بن الجهم البرمكي، وذكر اشتغاله بكتب أرسطاطاليس في الكون والفساد والكيان وحدود المنطق بها يقطع دهره في ذلك. ويعارض رسول الله في عدد من الأحاديث فيقول بخلافها عمداً وعناداً (2) . ثم ذكر الجاحظ وتلاعبه إلى أن يعمل الشيء ونقيضه، ويحتج لفضل السودان على البيضان. وتجده مرة يحتج للعثمانية على الرافضة، ومرة للزيدية على العثمانية وأهل السنة، ومرة يفضل علياً –رضي الله عنه- ومرة يؤخره. ويعمل كتاباً يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الرد عليهم تجوز في الحجة كأنه إنما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون وتشكيك الضعفة من المسلمين. وتجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث، وشرّاب النبيذ، ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم، كذكره كبد الحوت، وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود، وأنه كان   (1) (ص: 49) . (2) (ص: 49-50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أبيض فسوَّده المشركون، وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا، وذكر له مساوئ أخرى. ثم قال: "وهو مع هذا من أكذب الأمة، وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل (1) ". ثم قال: "وبلغني أن من أصحاب الكلام من يرى الخمر غير محرمة، وأن الله تعالى إنما نهى عنها على جهة التأديب كما قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] . ومنهم من يرى نكاح تسع، ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالاً ومنهم من يقول: إن الله لا يعلم شيئاً حتى يكون، ولا يخلق شيئاً حتى يتحرى، وذكر لهم آراء فاسدة، منها: اختلافهم في ثبوت الخبر إلى أقوال، منها أنه يثبت بعشرين رجلاً، ومنها أنه يثبت بسبعين بناء على استدلالات عجيبة ثم رد عليهم رداً علمياً جيداً. وذكر لهم تفاسير للقرآن عجيبة، يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم. وذكر أنه أعجب من تفسيرهم تفسير الرافضة وما يدعونه من علم باطنه بما وقع إليهم من الجفر، وفسّر الجفر بأنه جلد جفر ادَّعوا أنه كتب لهم فيه الإمام كل ما يحتاجون إلى علمه وكل ما يكون إلى يوم القيامة. وقولهم في قول الله عز وجل:? {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: 16] . إنّه الإمام ورث علم النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، إنّها عائشة، وقوله: {قُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة: 73] ، إنّه طلحة والزبير. وقولهم في الخمر والميسر: إنهما أبو بكر وعمر.   (1) (ص: 59 – 60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 والجبت والطاغوت: إنهما معاوية وعمرو"، ثم قال: "مع عجائب أرغب عن ذكرها". ثم ذكر بعض فرقهم، ثم قال: "ولا نعلم في أهل البدع والأهواء أحداً ادّعى الربوبية لبشر غيرهم وذكر أن ابن سبأ فعل ذلك" (1) . ذكر هذه الفرق ورؤوسها ليبين ضلالهم ومن ذلك طعنهم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد ناقش ضلالاتهم خلال هذه الصفحات وفيما بقي من كتابه رحمه الله، وقد ورثهم أقوام في هذه الضلالات سيأتي ذكر بعضهم ومناقشتهم إن شاء الله. ثمّ ذكر أهل الحديث وفضائلهم فقال: "فأما أصحاب الحديث، فإنهم التمسوا الحق من جهته وتتبعوه من مظانّه، وتقربوا من الله باتباعهم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبهم لآثاره وأخباره براً وبحراً وشرقاً وغرباً يرحل الواحد منهم راجلاً مقوياً (2) في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة، ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي" (3) . ثم ضرب عدداً من الأمثلة لأحاديث موضوعة كيف ردوها ونصوا على واضعيها، وذكر أحاديث صحيحة كشف وجوه إشكالها وبيَّن مخارجها على طريق أهل العلم الراسخين. ثم واصل بحثه في رد الأباطيل وبيان مخارج الأحاديث وصحة معانيها ورداً لمطاعن الزنادقة والمنحرفين عن النهج القويم، ومنها أحاديث باطلة تعلق   (1) (ص: 60- 73) . (2) المقوي هو: الذي لا زاد معه. [انظر مختار الصحاح، مادّة قوي] . (3) (ص: 73 – 74) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 بها أبو رية وأمثاله للطعن في السنة، ومنها أحاديث صحيحة هوش عليها النظام وأمثاله. وقد تصدَّى للرد على هؤلاء المرجفين على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة" تحت عنوان "الحجة في تثبيت خبر الواحد" ذكر فيه حججاً كثيرة توجب قبول خبر الواحد العدل، ثم قال -رحمه الله تعالى-: "وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها، ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل، وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان. وذكر أهل المدينة، ومنهم: سعيد بن المسيب وعروة والقاسم بن محمد وعدَّد آخرين منهم. وذكر من أهل مكة: عطاء، وطاوساً، ومجاهداً، وابن أبي مليكة، وعكرمة ابن خالد. ومن أهل اليمن: وهب بن منبه، ومكحولاً. وعبد الرحمن بن غنم بالشام، والحسن، وابن سيرين بالبصرة. وعلقمة والأسود والشعبي بالكوفة، ومحدثي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إليه والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عمن فوقه ويقبله عنه من تحته. ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي. ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد" (1) .   (1) الرسالة (ص:453-458) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وفي كتاب "جماع العلم" (1) حيث ناظر رؤوس منكري السنة بحضور عدد من هذه الفئة الضالّة التي ترد الأخبار كلّها فدحض أباطيلهم وشبهاتهم بردود قوية وحجج دامغة تبين منزلة الرسول الكريم ومنزلة سنته صلى الله عليه وسلم وتدحض أباطيل هؤلاء المرجفين المعارضين وتثبت حجية السنة النبوية. كما ناقش في كتابه "جماع العلم" (2) -أيضاً- فئة أخرى ترد أخبار الآحاد بحجج بيّنة واضحة قويّة. كما تصدى لهم الإمام عثمان بن سعيد الدارمي -رحمه الله- في كتابه "الرد على بشر المريسي" (3) ، فقد ضمَّن هذا الكتاب الردّ على تحريفهم وتعطيلهم لصفات الله كاستواء الله على عرشه وتأويل الوجه واليدين والسمع والبصر وإنكار رؤية الله في الآخرة. ثم دلف إلى الحثّ على طلب الحديث، والرد على من زعم أنه لم يكتب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذب عن الصحابة وأصحاب الحديث وأهل السنة وفضّلهم على غيرهم، والذب عن أبي هريرة رضي الله عنه، والذب عن معاوية وعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم-. والذابون عن السنة والصحابة وأهل الحديث لا يحصون في قديم الزمان وحديثه وإنما نذكر في هذا البحث من ذلك ما يتيسر لنا ذكره. كما نذكر من خصوم السنة وأهلها ما يتسر لنا ذكره مع دحض أباطيلهم وجهالاتهم.   (1) (ص:4-19) . (2) (ص:20-57) . (3) (ص:127-140) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الفصل الرابع: ذكر شبهات أهل الأهواء حول السنة في العصر الحاضر ودحضها مدرسة أحمد خان الهندي ... الفصل الرابع: ذكر شبهات أهل الأهواء حول السنة في العصر الحاضر ودحضها وفي القرن الرابع عشر استفحلت الفتنة ضد الشريعة الإسلامية كتاباً وسنة، وأقول: كتاباً وسنة؛ لأنّ الطعن في السنة طعن في القرآن. على أيدي أناس ينتمون إلى الإسلام. وجاءت فتنتهم امتداداً للفتن السابقة ومبنية على شبهاتها، وانتشرت الفتنة في الشرق والغرب على أيدي بعض أعداء الإسلام من المستشرقين أحياناً، وعلى أيدي أناس ينتسبون إلى الإسلام في الغالب، ويرجع هذا البلاء في نظري إلى مدرستين يجمعهما عصر واحد وهدف واحد كان من ورائهما الاستعمار الصليبي. إحداهما: مدرسة أحمد خان الهندي مؤسس جامعة عليكره. لقد تأثر هذا الرجل بالحضارة الغربية تأثراً عميقاً فدفعه ذلك إلى الدعوة بحماس إلى تقليدها، وإلى تفسير الإسلام والقرآن بما يطابقها ويطابق هوى الغربيين، بل أرى أنه إلى جانب هذا كان متأثراً بفكر الباطنية يظهر ذلك في تفسيره وكتاباته. لقد نسب إليه أنه أنكر الجنة والنار. وقال عن الملائكة إنها: "القوى المدبرة للعالم التي يمكن السيطرة عليها أو هي القوى التي في مقدور الإنسان تسخيرها" (1) . وقال عن الجن بأنهم:" سكان الغابات والصحاري من البشر" (2) .   (1) مقالات سرسيد (2/220) ، كل ما عزوته إلى المقالات فهو نقل عن كتاب القرآنيون لخادم حسين من (ص102-106) . (2) في كتابه الجن والجان (ص:5) ، نقلاً عن كتاب القرآنيون وشبهاتهم للأستاذ خادم حسين (ص: 102) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ومثل تأويله الشيطان: بأنه القوى العدائية التي لا يملك الإنسان السيطرة عليها (1) . بل أنكر الأحاديث الثابتة التي تدل على أنهم خلقوا من نار، وأنها تتحرك بالإرادة وتتشكل بأشكال مختلفة (2) . هذا ما نقله عنه الشيخ محمد إسماعيل السلفي في كتابه "مقالات سرسيد"، وأضف أن إنكاره هذا لم يتوقف عند إنكار السنة بل تجاوزه إلى إنكار الآيات القرآنية المصرحة بأن الله خلق الجان من مارج من نار. قال تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 14-15] . وقال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27] . وقال تعالى لإبليس حين أبى أن يسجد لآدم: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] . ومن الجنّ ذرية إبليس، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50] . ولقد جره تهوُّره في إنكار المغيبات وإنكار المعجزات إلى إنكار ما صرح به القرآن الكريم، كإنكاره إلقاء إبراهيم- عليه الصلاة السلام- في النار، وإنكاره ولادة عيسى -عليه الصلاة السلام- من غير أب، والتقام الحوت ليونس -عليه الصلاة والسلام-.   (1) مقالات سرسيد (1/219) . (2) المصدر السابق (2/252) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فمثل هذا الرجل الذي جمع بين العقلية الغربية والباطنية لا يستغرب منه أن يتناول السنة بالطرق الباطنية، أو ينكرها، أو يضع لتأويلها وإنكارها القواعد والمناهج الفاسدة المشككة فيها. انظر إليه يقول: "بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ظلت الروايات تتناقل على الألسنة إلى عهد التصنيف في الكتب المعتمدة غير أننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن الهيئة التي دونت بها كتب الأحاديث تلك التي كان مبناها روايات الذاكرة. بينما البعد الزمني كفيل بمزج الزائد بها وإضافة الجديد إليها" (1) . ويؤكد تشكيكه في السنة ورواتها بقوله: "بأن مادُوِّن في هذه الكتب من الأحاديث إنما هي ألفاظ للرواة ولا نعرف ما بين الأصلي-الصادر من شفتيه عليه الصلاة والسلام- والمعبر به من وفاق وخلاف، وليس من العجب أن يخطئ أحد الرواة في فهم الحديث مما يكون سبباً في ضياع المفهوم الصحيح" (2) . ويقول: "وإنَّا لا ندري عن الأحاديث التي وثقت، أَوُجِّهَت الجهود إليها من حيث المضمون والمحتوى أم لا؟، وأي السبل سلكت في ذلك؟." (3) . وجهل هذا الرجل أو تجاهل ما كان يتمتع به الصحابة والتابعون وأئمة الحديث وحفاظه من الأمانة والعدالة والحفظ المذهل، وجهل أو تجاهل العناية التي لا نظير لها في أمة من الأمم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظاً ومراعاة لألفاظها ومعانيها. وإذا كان لا يدري: هل الجهود قد وجهت إلى الأحاديث من حيث المضمون والمعنى أو لا، ولا يدري أي السبل التي سلكت في ذلك؛ فكل هذا   (1) مقالات (2/23) . (2) مقالات (1/49) . (3) مقالات (1/23) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 راجع إلى جهله أو سوء قصده، وتاريخ أئمة الحديث وواقعهم يشهدان أن جهودهم العظيمة كانت موجهة إلى الأسانيد وإلى ألفاظ الحديث ومعانيه بدقة بالغة لا تجد لها نظيراً. ومن المستنكر المستفظع لدى العقلاء أن يأتي إنسان جاهل بعلم من العلوم أو صناعة من الصناعات الدنيوية فيضع لها قوانين وشروطاً يمليها على كبار خبرائها وعباقرتها ظاناً أنه قد أَتى بما لم تستطعه الأوائل، وظاناً أنّ أهل تلك العلوم قد قصرت مداركهم عن الشروط والقوانين التي عن طريقها يتقنون علومهم وصناعاتهم ويحفظونها من الخلل والضياع. فلو جاء هذا المسكين إلى كبار المتخصصين في الطب أو الهندسة أو علماء الذرة، أو جاء أعجمي لا يعرف العربية إلى فطاحل علوم النحو والتصريف والبلاغة بأنواعها يقترح عليهم ضوابط وقواعد لعلومهم فهل سيقابل بالتقدير والاحترام؟. وما مصير العلوم الشرعية والدنيوية لو قبلوا من الجهلة والموسوسين ما يتخيلونه من المقترحات والشروط عليهم؟ إنه الهدم كما يريد هذا الرجل وأمثاله لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل للقرآن نفسه. يقول أحمد خان:" والمعيار السليم لقبولها: هو أن ينظر إلى المروي بمنظار القرآن فما وافقه أخذناه وما لم يوافقه نبذناه..، وإن نسب شيء من ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب فيه توافر شروط ثلاثة: 1- أن يكون الحديث المروي قول الرسول صلى الله عليه وسلم بالجزم واليقين. 2- أن توجد شهادة تثبت أن الكلمات التي أتى بها الراوي هي الكلمات النبوية بعينها. 3- ألاَّ يكون للكلمات التي أتى بها الرواة معان سوى ما ذكره الشرَّاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فإن تخلف أحد هذه الشروط الثلاثة لم يصح نسبة القول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنه حديث من أحاديثه" (1) . والجواب أن يقال: أولاً: إذا تحقق الشرط الأول على ما فيه من بلاء فيكون اشتراط الأخيرين من هذيان يقصد بهما التهويل. لقد وضع علماء الحديث شروطاً حيث قالوا في تعريف الحديث الصحيح:" هو رواية عدل تام الضبط متصل السند غير معل ولا شاذ"، ولهم بحوث عميقة في رد الروايات المردودة -ومنها المكذوب المفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم- كفيلة بحفظ السنة وحمايتها من الدخيل والكذب والأخطاء والأوهام. قال الحافظ ابن كثير-رحمه الله-: "معرفة الموضوع المختلق المصنوع، وعلى ذلك شواهد كثيرة: منها: 1- إقرار واضعه على نفسه قالاً أو حالاً. 2- ومن ذلك ركاكة ألفاظه وفساد معناه. 3- أو مجازفة فاحشة. 4- أو مخالفة للكتاب والسنة الصحيحة. فلا تجوز روايته لأحد من الناس إلاَّ على سبيل القدح فيه ليحذره الناس ومن يغترّ به من الجهلة والعوام والرعاع" (2) . ثم قال:" والواضعون أقسام كثيرة:   (1) مقالات (1/40) . (2) مختصر ابن كثير لمقدمة ابن الصلاح (ص: 78) تعليق أحمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 منهم زنادقة، ومنهم متعبدون يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ... إلخ " (1) . وقد بين الحافظ ابن حجر الدوافع إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رحمه الله: " والحامل للواضع على الوضع: 1- إما عدم الدين، كالزنادقة. 2- أو غلبة الجهل، كبعض المتعبدين. 3- أو فرط العصبية، كبعض المقلدين. 4- أو اتّباع هوى بعض الرؤساء. 5- أو الإغراب لقصد الاشتهار" (2) . وهناك أسباب أخرى يطعن بها في الرواة تضمن التعريف السابق الإشارة إليها؛ منها ما يتعلق بالعدالة، ومنها ما يتعلق بالضبط. فالمتعلق بالعدالة، مثل: الكذب وتهمة الراوي به والفسق والجهالة والبدعة. والمتعلق بالضبط، مثل: فحش الغلط أو الغفلة أو وهم الراوي أو مخالفته للثقات أو سوء الحفظ. وهناك شروط تتعلق بالإسناد، حيث اشترط فيه المحدثون الاتصال بعد اشتراطهم للعدالة والضبط في الرواة. ولقد اشترط المحدثون لصحة الرواية اتصال الإسناد من أوله إلى آخره، فإذا حصل سقط راو في إسناد في أي موضع منه لا يقبل المتن الذي جاء عن طريق هذا الإسناد الذي حصل فيه السقط، فما وقع السقط من آخره -بأن   (1) المصدر نفسه (ص: 78) . (2) نزهة النظر (ص: 45) نشر مكتبة طيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 سقط منه الصحابي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والراوي عنه- سمي: مرسلاً. وإن كان السقط من أوله من بعض المصنفين سمي: معلقاً. وإن كان السقط في أثناء الإسناد فإن كان الساقط واحداً سمي: منقطعاً، وإن كان باثنين فصاعداً على التوالي سمي: معضلاً، ويلحق بذلك التدليس، وهو: أن يروي الراوي عن شيخ قد سمع منه ما لم يسمعه منه موهماً أنه قد سمعه من شيخه. والإرسال الخفي، وهو: أن يروي الراوي عن شيخ عاصره ولم يلقه، وهناك أمور أخرى روعيت بدقة ودراسات طويلة ودقيقة جداً لحماية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسلل الكذب وتطرق الخلل إليها من أي ناحية من النواحي، ولا يتسع المقام لذكرها وموضعها كتب علوم الحديث. وهي أحوط، وأشد حماية وضبطاً ودفعاً للدخيل على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يضعه الجاهلون المغرضون من الشروط. ولأئمة الحديث من الإدراك والوعي وقوة التمييز بين الحق والباطل، وما يصح نسبته إلى رسول الله وما لا يصح ما يبهر العقول. ولا أدل على ذلك من القصة التي ساقها ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه: الجرح والتعديل (1) عن أبيه وأبي زرعة حيث جاء رجل من جلة أصحاب الرأي ومعه دفتر فيه أحاديث فعرضها على أبي حاتم، فحكم عليها أبو حاتم –طبعاً من واقع خبرته بالأسانيد ورجالها ومن واقع تذوقه الأحاديث الصحاح وألفاظها، أن هذا باطل، وهذا كذب، وهذا منكر وسائر ذلك أحاديث صحاح. فبهت الرجل واندهش فذهب وعرضها على الإمام أبي زرعة فقال فيها نحوا مما قال به أبو حاتم فازداد استغراباً واندهاشاً فقال: "ما أعجب هذا، تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما".   (1) (ص: 349 – 351) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فقال ابن أبي حاتم معلقاً على هذه القصة: ((قال أبو محمد: تعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره فإن خالفه في الماء والصلابة علم أنه زجاج، ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته والله أعلم)) . وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: " فكل حديث رأيته يخالف المعقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره" (1) . قال: "واعلم أن حديث (2) المنكر يقشعر له جلد طالب العلم منه وقلبه في الغالب" (3) . وقال الإمام ابن القيم في كتابه "المنار المنيف في الصحيح والضعيف (4) ": "فصل: وسئلت هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط، من غير أن ينظر في سنده؟. فهذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع من معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم، كواحد من أصحابه.   (1) الموضوعات (1/106) . (2) الظاهر أنه "الحديث". (3) الموضوعات (1/103) . (4) (ص: 43-44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ثم قال -رحمه الله-: فصل: "ونحن ننبه على أمور كلية يعرف بها كون الحديث موضوعاً. فمنها: 1- اشتماله على مثل هذه المجازفات التي لا يقول مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب لذلك مثالاً (1) . 2- ومنها: تكذيب الحس له كحديث: "الباذنجان لما أكل له"، و"الباذنجان شفاء لكل داء" قبح الله واضعهما فإن هذا لو قاله يوحنس أمهر الأطباء لسخر الناس منه ... إلخ". وضرب عدداً من الأمثلة لهذا النوع. 3- ومنها: سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه، كحديث: "لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً ما أكله جائع إلا أشبعه "؛ فهذا من السمج البارد الذي يصان عنه كلام العقلاء، فضلاً عن كلام سيد الأنبياء. وحديث: " الجوز دواء والجبن داء، فإذا صار في الجوف صار شفاءً "، فلعن الله واضعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) . ثم ذكر أمثلة متعددة لهذا النوع. 4- ومنها: مناقضة الحديث لما جاءت به السنة الصريحة مناقضة بينة، فكل حديث يشتمل على فساد، أو ظلم، أو عبث، أو مدح باطل، أو ذم حق، أو نحو ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم منه بريء. ومن هذا الباب: أحاديث مدح من اسمه محمد أو أحمد وأن كل من تسمى بهذه الأسماء لا يدخل النار.   (1) (ص: 50) . (2) (ص: 54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وهذا مناقض لما هو معلوم من دينه صلى الله عليه وسلم: أن النار لا يجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة ... (1) . 5- ومنها: "أن يدعي على النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل فعلاً ظاهراً بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه، ولم ينقلوه كما يزعم أكذب الطوائف وضرب لذلك مثلاً بحديث الوصية لعلي، وأن الشمس رُدَّتْ له بعد العصر، والناس يشاهدونها (2) ". 6- ومنها: أن يكون الحديث باطلاً في نفسه، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. وضرب لذلك عدداً من الأمثلة منها: حديث:" المجرة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش ". (3) 7- ومنها: أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء فضلاً عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو وحي يوحى ... بل لا يشبه كلام الصحابة". (4) ثم ضرب لذلك عدداً من الأمثلة. 8- ومنها: أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا مثل قوله: "إذا كان سنة كذا وقع كيت وكيت". وضرب لذلك مثالاً ثم قال: "وأحاديث هذا الباب كلها كذب مفترى". (5) 9- ومنها: أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق كحديث   (1) (ص: 56-57) . (2) (ص: 57) . (3) (ص 59) . (4) (ص 61) . (5) (ص: 63-64) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 "الهريسة تشد الظهر". (1) ثم ذكر أمثلة أخرى. 10- ومنها: أحاديث العقل كلها كذب كقوله لما خلق الله العقل قال له أقبل ... إلخ ثم نقل عن الدارقطني: أن كتاب العقل وضعه أربعة فذكرهم منهم ميسرة بن عبد ربه. 11- ومنها: الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد وساق في ذلك أقوال بعض الأئمة وحججهم من الكتاب والسنة ومن المعقول من عشرة أوجه (2) . 12- ومنها: ما يقترن بالحديث من القرائن التي يعلم بها أنه باطل، مثل: حديث:" وضع الجزية عن أهل خيبر"، ثم قال: "وهذا كذب من عدة وجوه (3) وساق عشرة أوجه. ثم قال ـ رحمه الله ـ: "فصل: في ذكر جوامع وضوابط كلية في هذا الباب (4) ". وساق عدداً من هذه الجوامع والضوابط مقرونة بأمثلتها إلى آخر كتابه (5) تركتها لأن المجال لايتسع لها. فهل يعرف هؤلاء الجهال المغرضون هذه الضوابط والأصول التي حافظت على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يفلت منها حديث مكذوب أو حديث فيه خطأ ولو كلمة واحدة؟، وهل عرفوا مدى العبقرية التي حباها الله   (1) (ص: 64) . (2) (ص: 67-76) . (3) (ص102-105) . (4) (ص106) . (5) (ص155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 لأئمة الحديث النقاد الصيارفة الذين أعدهم الله أيما إعداد لحماية السنة والحفاظ عليها وفاءً بما وعد من حفظه وحيه وذكره؟ وهل عرف الجهلة المغرضون مدى الجهل الذي يتخبطون فيه ومدى الحماقات التي ارتكبوها، ومنها: التطاول على سنة رسول الله ورجالها الأفذاذ. وهل أدركوا أن الله لهم بالمرصاد، وأنه سيفضحهم ويرد كيدهم خاسئين؟. 13- ومنها: أن يكون الحديث مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه كحديث عوج بن عنق الطويل، الذي قصد واضعه الطعن في أخبار الأنبياء (1) . ثم بين بطلانه بالأدلة من وجوه، ثم ضرب أمثلة أخرى لهذا النوع. 14- ومنها: مخالفة الحديث صريح القرآن. كحديث مقدار الدنيا: " وأنها سبعة آلاف سنة ونحن في الألف السابعة". ثم قال: " وهذا من أبين الكذب لأنه لو كان صحيحاً لكان كل أحد عالماً أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مئتان وإحدى وخمسون سنة ". وساق الأدلة من القرآن والسنة على بطلان هذا الحديث. أقول: ومما يؤكد كذب هذا الحديث أن هذه الأمة قد تجاوزت الألف السابعة بأربع وعشرين وأربعمائة سنة. قال العلامة المجاهد المحدث الشيخ ثناء الله الأمرتسري رحمه الله (2) في الرد على فتنة أحمد خان وما ترتب عليها ونشأ عنها: "ما أشأم ذلك اليوم الذي خرج فيه صوت عليكره المخالف لجميع الأمة الإسلامية الداعي إلى اعتماد القرآن وحده في الدين، وأن السنة لا تكون دليلاً شرعياً، فأثر هذا الصوت على الحافظ محب الحق عظيم آبادي في   (1) (ص: 76-79) . (2) مجلة أهل الحديث ص 3 عدد مارس 1948م نقلاً عن كتاب القرآنيون وشبهاتهم حول السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بتنه (بالهند) ، كما أثر في عبد الله جكرالوي في لاهور تأثيراً عظيماً"، يعني بالرجلين المذكورين مؤسسي دعوة القرآنيين. والجكرالوي هذا قد ترجم له الشريف عبد الحي بن فخر الدين الحسني في كتابه "نزهة الخواطر" (1) . ومن ترجمته قوله: "الذي دعا الناس إلى مذهب جديد سماهم أَهلَ الذكر دعاهم إلى القرآن وأنكر الأحاديث قاطبة، وصنف الرسائل في ذلك، وقال إن الناس افتروا على النبي صلى الله عليه وسلم، ورووا عنه الأحاديث وما كان ينبغي له أن يقول ويفعل شيئاً ليس له ذكر في القرآن. وأما ما ورد في القرآن {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ، والمراد به القرآن فليس القرآن والرسول شيئين متغايرين يجب اتباع كل واحد منهما على حدة. فالمراد بالرسول في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:170] . وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] . وقوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 48] . وقوله: {مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:29] . وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] . وغيرها من الآيات الكريمة في (2) القرآن".   (1) (8/289-291) . (2) كذا، وواضح أن كلمة (في) أقحمت خطأً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وهذه زندقة واضحة تجاوزت زندقة الباطنية، وإسقاط للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وللقرآنيين زعماء آخرون، مثل: الخواجة أحمد الدين، والحافظ محمد أسلم، وغلام أحمد برويز، ولهم تلاعب بدين الله وشعائره لا يتسع المقام لذكره، وقد تولى نقاشهم علماء الهند وباكستان، وبينوا كفرهم وزندقتهم، وأنهم ليسوا من هذه الأمة المحمدية. وفتنتهم امتداد لفتنة أحمد خان وللحركات الباطنية، كما أن لها تعلقاً بتأويلات وآراء الجهمية والمعتزلة والروافض والفرق التي تابعتها في هذه الآراء والتأويلات، مما يحتم على المسلمين رفض هذه الآراء والتأويلات التي تفتح الباب للزنادقة لهدم الإسلام وتقويض مقوماته وأركانه والتلاعب بشعائره، والعودة إلى الإسلام الفطري الخالص من الشوائب والبعيد كل البعد عن هذه الآراء المنحرفة والتأويلات الباطلة. أقول: يجب رفض هذه التأويلات والآراء المنحرفة؛ لأنني رأيت لهذه الفرقة الملحدة شبهاً من بينها شبه موروثة عن المعتزلة والخوارج والروافض، كالقول بأن أخبار الآحاد تفيد الظن، وأنها تحتمل الصدق والكذب. قال أحد زعمائهم وهو الحافظ محمد أسلم: " لا تتجاوز السنة مرحلة أخبار الآحاد طبقاً للأصول التي أقرَّها المحدثون، ولا تبلغ رواية من رواياتها إلى التواتر المفيد للعلم واليقين" (1) . ويقول: "كما أن تمحيصها بعلم الجرح والتعديل قياسي مبناه التخمين   (1) سيأتي الرد على هذا في الرد على القائلين بأن أخبار الآحاد تفيد الظن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 والظن.. فليست السنة ظنية وحدها بل معيار فحصها ظني أيضاً" (1) . ألا يكفي هذا زاجراً لمن عنده احترام لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرة عليها عن التعلق بهذا الأصل الفاسد، وألا يكفيه دافعاً لمحاربته ورفضه، ثم السير على منهاج السلف وفي ركاب أهل السنة والحديث الذين رفضوه وحاربوه من فجر التاريخ.   (1) مجلة أهل الحديث (ص: 9) عدد 3 إبريل 1936م وتعليمات قرآن (ص: 2) : ويقول بمثله برويز ومحب الحق، انظر: " مقام حديث " (ص: 37) وبلاغ الحق (ص: 115) "، نقلاً عن صاحب كتاب القرآنيون (ص: 253) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ثانياً: مدرسة جمال الدين الأفغاني أو الإيراني المتوفى سنة 1314هـ. فإن على هذا الرجل مآخذ كبيرة وقوية لا يتسع المقام لذكرها. أما موقفه من السنة، فيوضحه قوله: أ- "فالتواتر والإجماع وأعمال النبي صلى الله عليه وسلم المتواترة إلى اليوم هي السنة الصحيحة التي تدخل في مفهوم القرآن وحده والدعوة إلى القرآن وحده". وهذا القول هو الذي تراجع إليه محمد توفيق صدقي مع الشك في صدق هذا التراجع. ب- " القرآن القرآن، وإني لآسف إذ دفن المسلمون بين دفتيه الكنوز، وطفقوا في فيافي الجهل يفتشون عن الفقر المدقع " (1) . ولا أدري ما هذه الكنوز التي دفنها المسلمون وطفقوا يفتشون في فيافي الجهل عن الفقر المدقع طوال أربعة عشرة قرناً حتى جاء الأفغاني فاكتشفها أهي تفسيرات الباطنية؟! أم هي تأويلاته لنصوص القرآن لمطابقة سياسة الغرب واكتشافاته وتقاليده الفاسدة؟!. وقال جمال الدين الأفغاني:" قرأت في القرآن أمراً تغلغل في فهمه روحي وتنبهت إليه بكليتي وهو {َإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] ، فاندهشت الملائكة لهذا النبأ ولهذه المشيئة الربانية إذ علمت أن ذلك الخليفة سيكون الإنسان، وأن ذلك الإنسان – الخليفة - سيصدر منه موبقات وسيئات، أعظمها وأهمها: ـ أنه يسفك الدماء، فقالت - بملء الحرية المتناسبة مع الملأ الأعلى، وعالم الأنوار والأرواح، الذي لا   (1) خاطرات جمال الدين الأفغاني محمد المخزومي (ص:99) ، بواسطة المدرسة العقلية (ص:76) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 يصح أن يكون هناك شيء من رياء ونفاق {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] ، ووقفت الملائكة عند هذا الحد من الطعن في الإنسان، ولم تذكر باقي السيئات من أعماله إذ رأتها لغواً بالنسبة لهذين الوصمين الفساد وسفك الدماء". ثم يمضي في التفسير على هذا المنوال إلى أن يقول:" وبأبسط المعاني أن الله تعالى أفهم الملائكة أنكم علمتم ما في خليفتي في الأرض، وهو الإنسان من الاستعداد لعمل الفساد وسفك الدماء، وجهلتم ما أعددته لصونه وصرفه عن الإتيان بالنقيصتين المذكورتين ألا وهو العلم فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] ". وهذا تفسير ديمقراطي، كأن الملائكة حزب معارض. ويفسر آيات أخرى فيقول:" غضب سليمان -عليه السلام- على الهدهد إذ تفقده ولم يجده فلما حضر قال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل:22] ، غير ملفق ولا مشوب بالكذب كما تفعل أكثر الجواسيس مع الملوك والحكام {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] ، ثم يقول بعد ذلك {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:24] ،" ثم يقول بعد ذلك: "فلما جاء الكتاب إلى ملكة سبأ جمعت فوراً مجلس الأمة {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32] ، وبعد أن تداول مجلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الأمة – الوزراء اليوم مثلاً- واستخرجوا إحصاءً من سجلاتهم بما عندهم من المعدات الحربية أعلنوا للملكة وأنبؤوها أنه في إمكانهم محاربة سليمان بما توافر لديهم من القوة إذا هي وافقت على إعلان الحرب {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33] "، ثم مضى بعد يقول:" فرد سليمان الهدية وتحفز لإخراج الملكة وقومها أذلة بالحرب وأراد أن يريها ما لديه من القوى وما تسخر له من الريح يمتطيها وتجري بأمره –طيارات مثلاً- وسرعة نقل الأخبار والأشياء - التلغراف اللاسلكي مثلاً -". وكان يشطح في تفسيره فيفسر الربا المحرم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] ،بـ"جواز أكل الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المدين ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال ويصير أضعافاً مضاعفة". ويفسر {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجنّ:3] "بالعرش" "لأنَّ جدّ معرب كدّ، ومعناه العرش بالفارسية أو الهندية"، وهذا تفسير باطل إذ يصير المعنى "وأنه تعالى عرش ربنا". ويفسر {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] بأنه " قيّد من خاف أن لا يعدل ((بالمرأة الواحدة)) وترك لمن يخشى أن لا يعدل - حتى مع الواحدة- عدم الزواج وهذا ما يستنتجه العقل مادام يحمله العاقل ويقول به الحق والعدل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ويفسر الأمور الغيبية من غير نص فيقول {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47] : "أي خارجة عن محورها غير راضخة للنظام الشمسي، وإذا ما حصل ذلك فلا شك يختلف ما عرف من الجهات اليوم، فيصير الغرب شرقاً والجنوب شمالاً، وبذلك الخروج عن النظام الشمسي وما يحدث من الزلزال العظيم، لا شك تتبعثر الأرض لبعدها عن المركز، وتنسف الجبال نسفاً، وتتحول براكين هائلة، وبالنتيجة تخرب الكرة الأرضية ويعمها الفناء بما فيها من الحيوان وتقوم القيامة والله أعلم" (1) . وهذا تفسير باطل، فمصير الأرض والسموات والجبال والشمس والقمر والكواكب مصير واحد، تحدث عنه القرآن في عدد من سوره من ذلك قول الله تعالى: {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:1-5] . وقوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} الى قوله: {وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} [التكوير:1- 14] . وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَة وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} إلى قوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:13- 18] .   (1) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير (ص: 87-90) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فمصير هذا الكون واحد والنهاية واحدة، فلماذا لا يتحدث الأفغاني إلا عن مصير الأرض فقط مفصولة عن الكون وبحديث يختلف عن حديث القرآن والإسلام والمسلمين؟!. ولماذا يتحدث على الطريقة الغربية لا على الطريقة الإسلامية المستمدة من القرآن -الذي يرى أنه وحده كتاب الهداية- فلماذا لا يهتدي به؟!. وهل يرى أزلية الكون أو أبديته، فلا يلحقه التغير الذي تحدث عنه القرآن وآمن به المؤمنون؟!. قال محمد حميد الله في مجلة الفكر الإسلامي (1) في مقال" صلات آرنست رينان مع جمال الدين الأفغاني" العبارات الآتية: عند قراءة المحاضرة (يعني: محاضرة رينان التي يرد عليها الأفغاني) لا يقدر الإنسان على منع نفسه من التساؤل: أن أصل تلك العوائق هل هو من دين المسلمين أو من خصائص الملل التي أكرهت بالسيف على قبول ذلك الدين "؟ ومنها: "وفي الحقيقة إن الدين الإسلامي حاول خنق العلم وسد جميع التطور، ولذلك نجح في سد الحركات الفكرية والفلسفية وطرد الأذهان عن طلب الحقيقة العلمية". ومنها: "كان هذا صحيحاً أن دين المسلمين يعوق من تطور العلم، فهل يقدر أحد على أن يدعي أن هذه الطائفة سوف لا تزول يوماً؟ ففيم يختلف دين المسلمين في هذا من سائر الأديان؟ إن جميع الأديان لا سماحة عندها أبداً كل واحد حسب شاكلته، إن المجتمع النصراني الذي تحرر واستقل الآن يتقدم بادي الرأي سريعاً في سبيل التقدم والعلوم بينما المجتمع الإسلامي لم يتحرر إلى الآن من تسلط الدين".   (1) بيروت، السنة الثانية، العدد الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ومنها: "لا شك عندما سار الإسلام في البلاد التي تملكها باستعمال الجبر والقهر ما هو معروف نقل إليها لغته وعاداته ومعتقداته وهذه البلاد لم تستطع إلى الآن الخلاص من مخالبه". ومنها: " ... ولماذا لم يزل العالم العربي مغطى بالظلمات العميقة؟ في هذه الناحية تظهر مسؤولية الدين الإسلامي كاملة. ومن الظاهر أن هذا الدين حيثما حل حاول خنق العلوم". هذه النصوص نقلها الأستاذ محمد حميد الله من جريدة "جورنال ديه ديبا" الفرنسية المؤرخة في 18 مايو1883 " (1) . فإن صحت عنه فإنما تدل على حقده الخطير على الإسلام وظلمه الكبير له بتصويره في هذه الصورة الشوهاء التي لا يفتريها ألد الأعداء لهذا الدين العظيم، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وأعتقها من الأغلال والآصار التي ضربها عليها محرفو الأديان وفتح الآفاق أمام العقول والمدارك. ج- ومن أقواله الخطيرة التي خاطب بها أتباعه في مصر قوله: "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتنتزف قوام حياتكم ومواد غذائكم المجموعة بما يتحلب من عروق جباهكم بالمقرعة والسوط". إلى أن قال: "وأنتم ضاحكون، تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد، والمماليك، ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين   (1) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير (ص: 160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 كلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ويهيض عظامكم بأداة عسفه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت، انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار تيبة ومشاهد سيون وحصون دمياط شاهدة بمنعة أجدادكم. وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبه بالرشيد فلاح" (1) انظر كيف عدَّ الفتح الإسلامي دخول مستعمرين مستبدين لا يفرق بينه وبين الاستعباد والاستبداد اليوناني والروماني إلخ. وانظر كيف يشيد بحضارة الفراعنة ويحض المصريين على الاعتزاز بها، ورؤية الفلاح والرشد في التشبه بهم. إنّه لا يستغرب مثل هذا المكر والموقف من الإسلام من رجل فيلسوف رافضي ماسوني، وإنما المستغرب أن يكون له أتباع في بلاد الإسلام من مفكرين ومفسرين يعظمونه، ويسيرون على منواله، إن لم يكن في كل شيء ففي أصول ومناهج أثخنت في الإسلام والمسلمين. يرى هذا الرجل –إن صدق في قوله- أن سبب الهداية هو القرآن وحده وهو وحده العمدة فيقول (2) : "القرآن وحده سبب الهداية، أما ما تراكم عليه وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظرياتهم، فينبغي ألا نعول عليه كوحي، وإنما نستأنس به كرأي، ولا نحمله على أكفنا مع القرآن في الدعوة إليه وإرشاد الأمم إلى تعاليمه، لصعوبة ذلك وتعسره وإضاعة الوقت في عرضه، ألسنا مكلفين بالدعوة إلى الإسلام وحمل الأمم على قبوله؟ وهل تمكن الدعوة من دون ترجمة تعاليم الإسلام إلى لغة الأقوام الذين ندعوهم؟   (1) زعماء الإصلاح في العصر الحديث (ص: 72-73) ، والأستاذ الإمام (ص:46-47) . (2) جمال الدين الأفغاني، لعبد القادر المغربي، بواسطة المدرسة العقلية (ص: 86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 هل في طاقة سكان البرازيل -مثلاً- إذا أردنا دعوتهم إلى الإسلام أن يفهموا كنه الإسلام من ترجمة علماء الإسلام وآرائهم المتشعبة في تفسير القرآن والحديث؟ ألق نظرك على فهرست أحد الكتب الدينية الكبرى، وتأمل فيها ما الذي يمكن عرضه والدعوة إليه من أحكامه وتعاليمه وما لا يمكن تجد أن ما لا يمكن العمل به ولا الدعوة إليه ولا تطبيق مفاصله أصبح عبئاً يجب الاستغناء عنه بما يمكن، والممكن هو ما في القرآن وحده" (1) . أقول: أ- وهذا فيه صرف الناس عن السنة النبوية التي لا يفهم كثير من نصوص القرآن ولا يمكن تطبيقها إلا بالسنة المبينة لمجملاته والمخصصة لعموماته والمقيدة لمطلقاته والمتحدثة عن كثير مما سكت عنه القرآن، كما هو إلغاءٌ لتفسير أئمة الإسلام، ومن سار على نهجهم من أعلام الأمة في فهم القرآن ومعرفة معانيه ومقاصده ومراميه. ب- إن الرجل يريد أن يفك ارتباط المسلمين بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتراث سلفهم الصالح ثم ربطهم بضلالاته وخرافاته بما فيها من إلحاد وهدم للإسلام تلك الطوام التي أسلفنا الإشارة إليها قريباً. هذا هو مغزى هذا الرجل ومن وراءه من الاستعماريين والماسونيين، وبهذا القول أخذ منكرو السنة النبوية ومنهم محمد توفيق صدقي في أول أمره حيث كتب مقالاً أو مقالين تحت عنوان "الإسلام هو القرآن وحده".   (1) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين للشيخ مصطفى صبري (1/281) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وحامل لواء هذه المدرسة ومرسخ جذورها هو محمد عبده المصري الذي ضخمه النافخون في كير هذه الفتنة الكبيرة، فسمَّوه بالأستاذ الإمام، فإنَّ له مقالات تدل على فساد عقيدته وقبح منهجه، فمنها-على سبيل المثال-قوله: "إن خير أوجه الوحدة الوطن لامتناع الخلاف والنزاع فيه، ونحن الآن مبينون –بعون الله- ماهيّة هذا الوطن وبعض ما يجب على ذويه" (1) ، ثم قام ببيان ذلك بطريقة ليست من الإسلام في شيء. إنّ الإسلام هو الذي يحارب النزاع والخلاف بين أهله، أما القومية والوطنية فلم تمنع النزاع والخلاف بين أهلها في يوم من الأيام لا في غابر التاريخ ولا في حاضره. ثم أين وضع هذا الرجل الإسلام حينما دعا إلى هذه الوحدة بين طوائف المسلمين واليهود والنصارى والأغلبية فيها للمسلمين؟. ومن كوارثه المزلزلة للإسلام وأهله: دعوته إلى التقريب بين الأديان السماوية، فبعد عودته من فرنسا إلى بيروت أنشأ جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة السماوية (الإسلام واليهودية والنصرانية) وإزالة الشقاق من بين أهلها، والتعاون على إزالة ضغط أوربا عن الشرقيين، ولا سيما المسلمين منهم، وتعريف الإفرنج بحقيقة الإسلام وحقيته من أقرب الطرق. واشترك معه في تأسيس هذه الجمعية: ميرزا باقر، وبيرزادة، وعارف أبو تراب، وجمال بك نجل رامز بك التركي قاضي بيروت، ثم انضم إليها مؤيد الملك أحد وزراء إيران، وحسن خان مستشار السفارة الإيرانية بالآستانة،   (1) تاريخ الأستاذ الإمام لمحمد رشيد رضا (2/194) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 والقس إسحاق طيلر، وجي دبليو لنتر وشمعون مويال وبعض الإنكليز، واليهود. وكان الشيخ محمد عبده صاحب الرأي الأول في موضوعها ونظامها، وميرزا باقر هو الناموس (السكرتير) العام لها وهو إيراني تنصر وصار مبشراً نصرانياً وتسمى بميرزا يوحنا ثم عاد إلى الإسلام كما يزعم. ودعا أعضاؤها إلى فكرتهم في صحفهم ورسائلهم. ولا ندري إلى أي إسلام يُدْعى الإفرنج؟ أهو الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم الذي أدان اليهود والنصارى وعقائدهم بالكفر والشرك؟ أم المزيج المركب من الرفض والماسونية وغيرها من الضلالات التي تحملها هذه الجمعية؟!!. وهذا الشيخ محمد عبده يكتب رسالة إلى القس إسحاق طيلر يقول فيها: "كتابي إلى الملهم بالحق الناطق بالصدق حضرة القس المحترم إسحاق طيلر أيده الله في مقصده ووفاه المذخور من موعده"، إلى أن قال: " ... ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل فتهزم له ظلمات الغفلة فتصبح الملتان العظيمتان: المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين" (1) . ويقول أيضاً:" وإنا لنرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة، وصحفاً متصادقة يدرسها أبناء الملتين ويوقرها أصحاب الدينين فيتم نور الله في أرضه، ويظهر دينه الحق على الدين كله" (2) .   (1) تاريخ الأستاذ الإمام للسيد رشيد رضا (1/828،820،819) ،وانظر: المدرسة العقلية (ص:137-138) . (2) الأعمال الكاملة لمحمد عبده جمع وتحقيق محمد عمارة (2/363) بواسطة منهج المدرسة العقلية (ص:138) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أقول: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32-33] . لقد أمر الله بجهاد اليهود والنصارى الأمر الذي يريد محمد عبده إبطاله ونص في هذه الآيات على كفرهم وشركهم. ومن أسباب كفرهم وشركهم أن اليهود قالوا: عزير ابن الله، وأن النصارى قالوا: المسيح ابن الله، وأضافوا إلى هذا الكفر والشرك بأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وأنهم أعداء الله وأعداء الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم ومن هذا المنطلق يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ليعيشوا هم والإنسانية جميعاً في ظلمات الجهل والكفر حسداً وبغياً على محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته وأمته. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ذلكم النور الذي لا يوجد إلا في الإسلام ولو جاء موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء والرسل فلا يسعهم إلا اتباع خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، يأبى الله إلا أن يتم نوره ولوكره الكافرون وفي طليعتهم اليهود والنصارى الذين يتخبطون في ظلمات الكفر والشرك والجهل والضلال ولقد حصر الهدى ودين الحق في الإسلام وحده وحصر فيه نور الله ويأبى إلا أن يظهر الإسلام على الأديان كلها، لكن محمد عبده يرى ضد ذلك، يرى أنه لا يتم نور الله إلا باجتماع الأديان الثلاثة؛ وكفى بما يراه ضلالاً ومصادمة واضحة لما قرره القرآن والسنة في نصوص كثيرة لا يتسع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المقام لسردها ولإجماع المسلمين، ومنها قول الله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135] . فلقد أبطلوا أسباب الهداية من الكتابين بتحريفهم وكفرهم وجرأتهم على هذا التحريف. وأخيراً يقول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] . قال فهد بن عبد الرحمن الرومي: "نشر محمد أحمد خلف الله كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم"، زعم فيه أن ورود الخبر في القرآن لا يقتضي وقوعه، وأنه يذكر أشياء وهي لم تقع، ويخشى على القرآن من مقارنة أخباره بحقائق التاريخ. وقال: إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير. وعندما رفضت جامعة فؤاد هذه الرسالة دافع عنها أمين الخولي المشرف على الرسالة قائلاً: " إنها ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عاماً " (1) وهذا أمر ينطوي على كفر غليظ فإن ثبت هذا عن الشيخ محمد عبده، فإنها لطامة كبرى تدل على كيد كبير للإسلام وتكذيب للقرآن نفسه ونرجو أن يكون هذا افتراءً عليه.   (1) منهج المدرسة العقلية ص (165-166) وأحال على (ص: 180) من الفن القصصي في القرآن الكريم لمحمد أحمد خلف الله وعلى (ص:ح) من مقدمة هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وفي خطاب له يخاطب فيه شيخه جمال الدين يقول: "نحن الآن على سنتك القويمة، لا نقطع رأس الدين إلا بسيف الدين، ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهاداً عباداً ركعاً سجداً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" تساءل بعض النقاد (1) فقال: هل هي دعوة باطنية يخفيها الرجلان ويسعيان تحت ستارة الدين و"بسيف الدين نقطع رأس الدين وقيامهم بالصلاة أمام الناس هل هو سعي إلى القبض على سيف الدين؟ ثم تركهم للصلاة بعض الأحيان هل هو تنفيس " لضيق العيش وعودتهم إليها حيناً لأجل "فسحة الأمل"؟. موقفه من أخبار الآحاد: قال أبو رية: "قال الأستاذ الإمام محمد عبده- رضي الله عنه- (2) : "إن المسلمين ليس لهم إمام في هذا العصر غير القرآن، وإن الإسلام الصحيح هو ما كان عليه الصدر الأول قبل ظهور الفتن". وقال رحمه الله تعالى:" لا يمكن لهذه الأمة أن تقوم ما دامت هذه الكتب فيها (يعني: الكتب التي تدرس في الأزهر وأمثالها، كما ذكره في الحاشية) ولن تقوم إلا بالروح التي كانت في القرن الأول وهو (القرآن) وكل ما عداه فهو حجاب قائم بينه وبين العلم والعمل" (3) .   (1) هو فهد بن عبد الرحمن الرومي وحق له ذلك. (2) أضواء على السنّة (ص:378-379) ، الطبعة الخامسة، دار المعارف. (3) أضواء على السنة (ص:379) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فإن صح هذا النقل من أبي رية - ولا يستبعد من محمد عبده- فإنه قد سار على منهج أستاذه جمال الدين الأفغاني، ويخفف من وطأة هذا القول -شيئاً ما- ما قاله في كتابه المسمى بـ"رسالة التوحيد" تحت عنوان: "التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم"، حيث قال: "بعد أن ثبتت نبوته -عليه السلام- بالدليل القاطع على ما بيّنا وأنه إنما يخبر عن الله تعالى؛ فلا ريب أنه يجب تصديق خبره والإيمان بما جاء به. ونعني بما جاء به ما صرح به الكتاب وما تواتر الخبر به تواتراً صحيحاً مستوفياً لشرائطه، وهو ما أخبر به جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة في أمر محسوس، ومن ذلك أحوال ما بعد الموت من بعث، ونعيم في جنة، وعذاب في نار، وحساب على حسنات وسيئات وغير ذلك مما هو معروف؛ ويجب أن يقتصر في الاعتقاد على ما هو صريح، ولا تجوز الزيادة على ما هو قطعي بظني" (1) . فترى في كلامه هذا: 1- أنه لا يلزم الناس من تصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بما صرح به الكتاب العزيز والخبر المتواتر من السنة. 2- وأنه يجب أن يقتصر في الاعتقاد على ما هو صريح في الخبر، ولا تجوز الزيادة في الاعتقاد على ما هو قطعي بظني. ومقتضى هذا: 1- أن يعمد من شاء من أهل الأهواء إلى تحريف نصوص القرآن والسنة المتواترة أو تأويلها بحجة أنها غير صريحة في دلالاتها، وإن كانت قطعية الثبوت وهذا أمر واقع.   (1) رسالة التوحيد ص (157) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 2- وأن يعمد أهل الأهواء إلى الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول من الأمة بما في ذلك أخبار الصحيحين فيدفعوا في نحورها ولا يحتجوا بها في أبواب الاعتقاد لأنها غير قطعية الثبوت وإنما هي من الظنيات، وما كان كذلك فلا يجوز أن يبنى عليه الاعتقاد ولا الإيمان بالغيبيات. ومن هنا يقول محمد عبده:" وشرط صحة الاعتقاد ألا يكون فيه شيء يمس التنزيه وعلو المقام الإلهي عن مشابهة المخلوقين، فإن ورد ما يوهم ظاهره ذلك في المتواتر وجب صرفه عن الظاهر، إما بالتسليم لله في العلم بمعناه مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد أو بتأويل تقوم عليه القرائن المقبولة (1) ". وأنت ترى أنه لا يسلّم بظاهر المتواتر، فهذا هو موقفه من السنة: لا يجب على عموم النّاس التصديق بكل حديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بل بما تواتر عنه، وأنه يقتصر في الاعتقاد على ما هو صريح في الخبر، وباب التأويل والتحريف مفتوح ودعاوى عدم الصراحة سهلة جداً لمن يريد الخروج عن معتقدات السلف الصالح إلى معتقدات أهل الأهواء. ويقول: "أما أخبار الآحاد فإنما يجب الإيمان بما ورد فيها على من بلغته وصدق بصحة روايتها. أما من لم يبلغه الخبر أو بلغه وعرضت له شبهة في صحته وهو ليس من المتواتر فلا يطعن في إيمانه عدم التصديق به، والأصل في جميع ذلك أن من أنكر شيئاً وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حدَّث به أو قرره فقد طعن في صدق الرسالة وكذب بها" (2) .   (1) رسالة التوحيد (ص:158) . (2) رسالة التوحيد (ص: 158) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ومقتضى كلامه: أنه إذا بلغته أخبار الآحاد ولم يصدق بصحتها –ولو كانت مما قرر صحتها أئمة الحديث والسنة وسلموا بها ودانوا بما فيها من عقائد وعمل- فإن عدم تصديق هذا المتحرر لا يطعن في إيمانه، وله الحق أن يردها ويكذب بها، ولو كانت في الصحيحين وتلقتها الأمة بالقبول، وله ردها عند عارض أي شبهة فلا يلزمه النظر إلى الأسانيد ولا التقيد بها، مهما بلغت من الصحة وتوافرت لصحتها الشروط، فعقول العقلانيين فوق كل اعتبار. ثم قال: "ويلحق به من أهمل العلم بما تواتر وعلم أنه من الدين بالضرورة وهو في الكتاب وقليل من السنة في العمل" (1) . إلى أن قال: " والأصل في ذلك أن الإيمان هو اليقين في الاعتقاد بالله ورسله واليوم الآخر بلا قيد في ذلك إلا احترام ما جاء به على ألسنة الرسل" (2) . يعني: لا حرج على من أهمل غير المتواتر من السنن القولية والعملية والتقريرية مهما بلغت من الصحة، وتَلَقِّي الأمة لها بالقبول سواء تعلقت بالعقائد أو الأعمال. ومعلوم أن هذا الصنف ينكر المتواترات ويردها بدعوى أنها أخبار آحاد مثل: نزول عيسى (3) ، وخروج المهدي، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال (4) ، وأحاديث فتنة القبر وعذابه، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث   (1) رسالة التوحيد (ص: 158) . (2) رسالة التوحيد (ص: 158) . (3) انظر كتاب "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" لأنور شاه الكشميري حيث ساق أكثر من سبعين حديثاً في نزول عيسى –عليه الصلاة والسلام-. (4) انظر كتاب" قصة المسيح الدجال ونزول عيسى –عليه الصلاة والسلام- وقتله إياه"، للمحدث الألباني، وقد تناول في مقدمته محمد عبده ورشيد رضا باللوم على تأويل أحاديث نزول عيسى وخروج الدجال، كما تناول بعض طلاب الأزهر، انظر (ص:12-13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 رؤية الله في الدار الآخرة، إلى عقائد أخرى ثبتت بالتواتر فردَّت أحاديثها بحجة أنها أخبار آحاد. ثم قال:" ومن اعتقد بالكتاب العزيز وبما فيه من الشرائع العملية، وعسر عليه فهم أخبار الغيب على ما هي عليه في ظاهر القول، وذهب بعقله إلى تأويلها بحقائق يقوم له الدليل عليها، مع اعتقاد بحياة بعد الموت وثواب وعقاب على الأعمال والعقائد، بحيث لا ينقص تأويله شيئاً من قيمة الوعد والوعيد، ولا ينقص شيئاً من بناء الشريعة في التكليف كان مؤمناً حقاً (1) ، وإن كان لا يصح اتخاذه قدوة في تأويله فإن الشرائع الإلهية قد نظر فيها إلى ما تبلغه طاقة العامة" (2) . ونرى هنا أنه يقصر الاعتقاد على الكتاب العزيز وبما فيه من الشرائع فلا ندري أهذا سهو منه عن السنة المتواترة أم هو مغازلة لمنكري السنة وتلويح لهم بتأييد مذهبهم؟!. ونرى أنه يعطي الحرية الكاملة للعقلانيين وغيرهم أن يفهموا القرآن كل على حسب عقله دون التفات إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه النبيصلى الله عليه وسلم وأصحابه من بيان وعقيدة. ويرى أنه مؤمن حقاً إذا آمن بحياة بعد الموت وثواب وعقاب على الأعمال والعقائد بحيث لا ينقص تأويله شيئاً من قيمة الوعد والوعيد، فلا يضره بعد ذلك أن ينكر معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها الإسراء والمعراج   (1) أرى أن هذا غلو في الإرجاء فالمؤمنون حقاً هم الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً والمؤمنون حقاً الذين يؤمنون بكل ما ثبت عن نبيهم (ويبنون عليه عقائدهم وأعمالهم. (2) انظر هذه الأحاديث المتواترة في هذه الأمور العقدية في كتاب: "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" للكتاني (ص: 82، 84، 114، 132، 135، 146، 147، 149) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وانشقاق القمر، ولا تفسير الملائكة بأنها نوازع الخير في أنفسنا، أو تفسير الشياطين بأنها نوازع الشر إلى آخر التأويلات الباطنية المعروفة التي تعبث بنصوص القرآن وتنكر السنة أو تعبث بتأويلها. فقد سئل محمد عبده عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فقال: " إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها". وإن القرآن أعظم هادٍ إلى هذه الحكم والأسرار وسنة رسول الله (مبينة لذلك، فلا حاجة للبشر إلى الإصلاح وراء الرجوع إلى ذلك. وقال بعد أن حكى الخلاف في تفسير قول الله تعالى لعيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] . مرجحاً أن الوفاة هي وفاة موت، وأن الرفع إنما كان لروحه قال: "ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان: أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي لأنه من أمور الغيب، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي؛ لأن المطلوب فيها اليقين وليس في الباب حديث متواتر. وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس، وهو ما غلب على تعاليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم، والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها والتمسك بقشورها دون لبابها، وهو حكمتها وما شرعت لأجله، فالمسيح عليه السلام لم يأت اليهود بشريعة جديدة، ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى -عليه السلام- ويوقفهم على فقهها والمراد منها، ويأمرهم بمراعاته، وبما يجذبهم إلى عالم الأرواح بتحري كمال الآداب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أي: ولما كان أصحاب الشريعة الأخيرة، قد جمدوا على ظواهر ألفاظها بل وألفاظ من كتب فيها معبراً عن رأيه وفهمه، وكان ذلك مزهقاً لروحها ذاهباً بحكمتها كان لابد لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين وأدبه الحقيقي. وكل ذلك مطوي في القرآن الذي حجبوا عنه بالتقليد الذي هو آفة الحق وعدو الدين في كل زمان. فزمان عيسى على هذا التأويل هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر. قال رشيد رضا: " هذا ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس مع بسط وإيضاح، ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه. ولأهل هذا التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث والناقل للمعنى ينقل ما فهمه " (1) . ونقول: 1- إن أحاديث نزول عيسى في آخر الزمان وقتله للدجال والحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم متواترة وليست بأخبار آحاد -كما يدعي محمد عبده- ولو كانت آحاداً فيكفيها أنها في الصحيحين اللذين تلقتهما الأمة بالقبول وهذا التلقي يفيد العلم. 2- هل يعجز محمد صلى الله عليه وسلم عن التعبير الذي ادعاه محمد عبده حتى يذهب فيحدث عنه على طريقة الألغاز والأحاجي؟! حاشاه صلى الله عليه وسلم أن يستخدم هذا الأسلوب. 3- كلام محمد عبده هنا عن فهم الأمة للقرآن فيه استخفاف بتراث الأمة   (1) تفسير المنار (3/316-317) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 العظيم من تفسير وفقه وشروح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنه تعبير عن آرائهم وفهمهم وأن هذا الفقه والفهم قد أزهق روح الشريعة وذهب بحكمتها. ولعله يريد بالإصلاح الذي لا بد منه إصلاحه هو وشيخه الأفغاني ومدرستهما، وقد عرف القارئ نبذة من هذا الإصلاح الذي يحق لمن يعرف الإسلام أن يقول: إن إصلاحكم المزعوم هو المزهق لروح الإسلام بعد التهوين من شأن نصوصه وبعد تأويلاتها الفاسدة التي هي أشبه بتأويل الباطنية. 4- لم يكتف محمد رشيد رضا بنقل هذا الكلام الباطل فذهب يلقن الطاعنين في السنة حُجَّتهم بقوله: "ولأهل هذا التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث والناقل للمعنى ينقل بفهمه". وهذا طعن ماكر في السنة ونقلتها الأمناء، وإهدار لأمانتهم وحفاظهم على السنة المحمدية بطرق محكمةلم تعهدها البشرية طوال تاريخها، وتشكيك في السنة متواترها وآحادها، وتلقين لأعداء السنة أن يتخذوا هذه المقولة الباطلة سلاحاً لمحاربة السنة وأهلها، وقد اتخذوها فعلاً سلاحاً، ولكن الله يردُّ أسلحتهم الفاسدة في نحورهم بنضال أهل السنة وحججهم الساطعة وبراهينهم القاطعة. وفعلاً فلقد نقل أبو رية عن رشيد رضا كلاماً في الطعن في رواية من اشتهر بالصدق والضبط -ومنهم بعض الصحابة كأبي هريرة وابن عباس- وأنها تُرَدُّ بالطعن فيها أو بالتأويل ومن ضمن هذا الكلام قوله: " وإما بتأويل الحديث بأنه مروي بالمعنى وأن بعض رواته لم يفهم المراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فعبر بما فهمه .... ". فردَّ عليه العلامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي في كتابه "الأنوار الكاشفة" (1) باثنتي عشرة مؤاخذة، قال في العاشرة: "إن هذا الطعن يترتب عليه من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وهي المكيدة التي مرت الإشارة إليها (ص:201) وإيضاحها قبل ذلك، وكل من التأويل ولو مستكرها والوقف أسلم من هذا الطعن، ولو غير السيد رشيد رضا قاله لذكرت قصة المرأة التي اشتكى طفلها، ولم تعلم ما شكواه غير أنها نظرت إلى يافوخه يضطرب كما هو شأن الأطفال، فأخذت سكيناً وبطت يافوخه كما يصنع بالدمل ... إلى آخر ما جرى " أي: أن في كلام محمد رشيد رضا هذا قتلاً للشريعة الإسلامية كما قتلت هذه المرأة ابنها. وبعد، فلقد فتح جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده باب فتنة عظيمة ومحنة كبيرة على الإسلام كتاباً وسنةً وتراثاً إسلامياً، وخلَّفا مدرسة فكرية عقلانية جمعت بين ضلال الفرق القديمة من روافض ومعتزلة وجهمية، ومن تحريفات وتأويلات باطلة، ومن طعون في السنة وحملتها بدءاً بالصحابة وانتهاء بأهل الحديث والفقه والتفسير، وبين حملات أعداء الإسلام المستشرقين والمستعمرين على الإسلام والمسلمين. ومن أبرز تلاميذ هذه المدرسة: 1- محمد توفيق صدقي في مقالات نشرتها مجلة المنار في عدد من مجلداتها. 2- وأحمد أمين في "فجر الإسلام وظهره". 3- ومحمود أبو رية في كتابه "أضواء على السنة".   (1) (ص: 295-298) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 4- ومحمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة". وقد تناول هؤلاء السنة بسوء على تفاوت بينهم، وقد تصدَّى للرد عليهم ودحض شبهاتهم وأباطيلهم عدد من العلماء. ومن هؤلاء العلماء: الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه "الأنوار الكاشفة". والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة في كتابه "ظلمات أبي رية". والشيخ محمد أبو شهبة في كتابه "الدفاع عن السنة". وكل هؤلاء قد ردوا على أبي رية وتوسعوا في ردودهم على هذا الضال المفتري ولا سيما على كلامه في الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، وبينوا -أيضاً- ما وقع فيه من التناقضات والكذب الكثير والخيانات والنقول الكاذبة عن أعداء الصحابة -رضي الله عنهم-، واحتجاجه بالروايات الواهية والموضوعة، واعترافه بالمتواتر ثم تشكيكه فيه إلى آخر مخازيه. هذا مع تبجحه بالغيرة على السنة النبوية والدفاع عنها وعما يشينها، وقد بيَّن الشيخ المعلمي زيف هذه الدعوى وأمثالها. وأما أحمد أمين فقد رد عليه الدكتور مصطفى السباعي كما ناقش أبا رية في طعنه على أبي هريرة. وأما محمود شلتوت فقد رد على تشويشه على السنة الشيخ عبد الله بن علي بن يابس في كتابه "إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام"، كما رد عليه مخالفات أخرى في الكتاب المذكور. ولقد آثرت في هذا البحث أن أركز على شبهات محمد توفيق صدقي لأسباب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 1- أن هؤلاء المذكورين من المدافعين عن السنة والذين انتشرت مؤلفاتهم في أوساط طلاب العلم لم يتعرضوا لنقد هذا الرجل. 2- أن الدكتور السباعي من بين هؤلاء قد تعرض لنقد أربع شبهات من شبهات محمد توفيق، ولعله لم يقف على كل شبهاته. 3- هناك عالمان ناقشا محمد توفيق وهما الشيخ طه البشري أحد علماء الأزهر، والثاني الشيخ صالح بن علي بن ناصر اليافعي، نشرت ردودهما في أعداد من مجلة المنار، ولم يستوفيا مناقشة شبهات هذا الرجل حسب اطلاعي. 4- أن شبهات محمد توفيق صدقي يشاركه في كثير منها أحمد أمين وأبو رية وغيرهما، فالرد عليه رد عليهم -أيضاً- وعلى غيرهم من الطاعنين في السنة النبوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 محمد توفيق صدقي : هذا الرجل من أشد الناس إنكاراً للسنة وطعناً فيها، وهو ثمرة لدعوة الشيخ محمد عبده وشيخه الأفغاني ومنهجهما العقلاني الذي عانى منه المسلمون. لقد أبدى هذا الرجل صفحته وكشف عن قناعه فكتب مقالات في الطعن في سنة رسول الله وردها، نشرها في مجلة المنار وغيرها. ومن هذه المقالات التي نشرتها هذه المجلة (1) مقالة بعنوان: "الإسلام هو القرآن وحده"، قال في طليعة هذا المقال:" هذا عنوان مقال لي جديد أريد أن أفصح فيه عن رأي أبديه لعلماء المسلمين المحققين منهم لا المقلدين، حتى إذا ما كنت مخطئاً أرشدوني، وإذا ما كنت مصيباً أيدوني، وبشيء من علمهم أمدوني. فإني لست ممن يهوى الإقامة على الضلال، ولا ممن يلتذ بحديث مع الجهال، فلذا أجهد النفس في تحقيق الحق وتمحيصه والإسراع إليه راجياً من الله التوفيق للهداية إلى أقوم طريق" (2) . ثم قال: لا خلاف بين أحد من المسلمين في أن متن القرآن الشريف مقطوع به؛ لأنه منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ بدون زيادة ولا نقصان ومكتوب في عصره بأمر منه صلى الله عليه وسلم، بخلاف الأحاديث النبوية فلم يكتب منها شيء مطلقاً (3) إلا بعد عهده بمدة تكفي لأن يحصل فيها من التلاعب والفساد ما قد حصل (4) ؛   (1) المنار (9/515) . (2) لقد حلى نفسه بهذه الصورة الجميلة وما أبعده عنها فلو كان كذلك لما وقع في هذه المهواة، ولرجع عن هذا المنهج المهلك بعد أن رد عليه الشيخان طه البشري وصالح اليافعي، لكنه تمادى وتمادى وعاند كشأن أهل الباطل والأهواء في كل زمان ومكان. (3) هذه مجازفة كبيرة فقد كتب الكثير منها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بيانه. (4) سبحان الله! خير أمة أخرجت للناس تتلاعب بنصوص نبيها؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 من ذلك نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يبلغ عنه للعالمين شيء بالكتابة (1) سوى القرآن الشريف الذي تكفل الله تعالى بحفظه في قوله جل شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . ثم قام بالرد على محمد توفيق صدقي الشيخ طه البشري أحد علماء الأزهر في مقال ضاف نشرته مجلة المنار (2) تحت عنوان: "أصول الإسلام الكتاب والسنة والإجماع والقياس" ناقشه مناقشة جيدة، إلا أنه مع الأسف جاراه في أن أخبار الآحاد تفيد الظن. ثم ردَّ الدكتور محمد توفيق صدقي على الشيخ طه البشري بجواب أصرَّ فيه على رأيه بل زاده تأكيداً بإيراد شبه جديدة لم يذكرها في مقاله الأول، صدر هذا المقال في المنار -أيضاً- (3) . فتعقب صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا بتعليق وصل فيه إلى القول بأن الدين اللازم هو القرآن والمتواتر من السنة العملية، وأورد شبهاً على السنن القولية. فكان في موقفه هذا فيما يبدو ما حمل الدكتور محمد توفيق صدقي على التظاهر بالتراجع (4) إلى ما قرره الشيخ محمد رشيد رضا، وهذا التراجع يظهر منه أنّه مصطنع، وأنّه لم يستفد شيئاً من انتقاد الشيخ طه البشري، ولذا نراه استمر في محاربة السنة مما ألجأ العلامة السلفي الشيخ صالح بن علي اليافعي أن يقول: "وقوله هذا -وإن كان أهون من قوله السابق- ومآله وحقيقته بعد   (1) وهذه مجازفة كبيرة أيضاً؛ فالرسول (يريد البلاغ عنه بالكتابة والحفظ الأمين. (2) المجلد (9/699، 711) . (3) المجلد (9/906-925) . (4) المجلد (10/140) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 التزامه ثم تطبيقه على ما في نفس الأمر الواقع هو حقيقة قوله الأول من رد أكثر السنن الفعلية، بل لا يبعد إذا قلنا كلها" (1) . كما ألجأه إلى أن يرد عليه في عدد من المقالات نشرتها مجلة المنار قال في إحداها: "قال الدكتور محمد توفيق صدقي: " أنا لا أنكر ما للأحاديث من الفوائد، ثم قال: ولكن ذلك لا يوجب العمل بها على المسلمين ولا يلحقها بالقرآن الشريف. الدين الذي يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر من السنة" (2) . ثم أجابه الشيخ صالح بن علي اليافعي بقوله: "ونقول: 1- إن الله جل شأنه أرسل رسلاً أوجب على عباده تصديقهم واتباعهم في كل ما أرسلوا به وليس من شرط الرسول أن يأتي بكتاب من عند الله. وبعبارة أخرى: لم يقل أحد من العقلاء بعد ثبوت رسالته أنه يجب على الله أن ينزل عليه كتاباً يقرؤه أو كلاماً يتلوه بلفظه. بل عرَّفوا الرسول بأنه بشر أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه سواء كان التبليغ والبيان بالقول أو الفعل. على أن القول مقدم على الفعل، ومعرفة الشرع بالقول أكثر منه بالفعل. والله جل شأنه لم يخصص طريقاً ولا طرقاً معينة لحملة الشرائع في تبليغها إلى من نأى وبعد مكاناً أو زماناً، ولم يذكر في موضع ما من أي كتاب من كتبه أن من رد ما بلغه من الدين بغير تواتر معذور، ولم يقل ذلك أحد من رسله أو ممن يعول عليه من أتباعهم، بل لم يشترط ذلك أحد من البشر في شؤون دنياهم الاجتماعية.   (1) المجلد (11/142) . (2) المنار (11/371) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وإنما مدار ذلك- والله أعلم- هو حصول التصديق بالنسبة إلى خصوص من بلغه خبر ولم يقصر في البحث عن صحته وصدقه فحين تصديقه لا يجوز له رده، وهذا هو الذي دل الشرع والعقل عليه، وعليه اتفق أهل الملل قاطبة. 2- بعث الله رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس عليه حجة، وهو لا يأمر بالمحال ولا يكلف نفساً إلا وسعها، فلو أوجب على الأمم تبليغ كل مسألة من شرعه بالتواتر وعلى المبلغين رد غير التواتر لكان ذلك تكليف ما لا يطاق، مستلزماً لملاشاة الأديان، ومعطلاً لسائر المواصلات ومعاملات بني الإنسان، والله منزه عن إرادة ذلك فبطل اشتراط التواتر لنقل مسائل الدين. 3- دل القرآن على أن من جاءته الحجة عن الله بتوسط رسله وردها جحداً أو مكابرة، أو بما شاكل ذلك وداناه، فقد كفر بالله وبرسله واستحق العقاب وشديد العذاب ... والحق أن من أنكر ما عرف وجوبه من دين الإسلام وصار ذلك معلوماً له ولو بخبر الآحاد كفر، وكذلك من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة ولم يكن قريب عهد بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء كفر، وإن لم يكن منقولاً بالتواتر المعروف عن التواترية، ونحن لا ننكر أن بعض أنواع التواتر يفيد العلم، ولكن ننكر انحصار العلم الخبري فيه، أو فيما باشر الشخص سماعه، كما أنا لا نسلم أن ما هو متواتر عند أناس يلزم أن يسلم تواتره الآخرون" (1) . واستمر الدكتور محمد صدقي في نشر أفكاره المسمومة حول السنة القولية ودلالتها والجدال بالباطل وقذف الشبه المضلة التي تؤدي إلى الانسلاخ من الدين كما قال العلامة اليافعي.   (1) المنار (11/371-372) وأورد اليافعي حججاً أخرى لم ننقلها خشية التطويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وحيث إن المجال لا يتسع لعرض هذه المقالات وما حوته من أخذ ورد في هذا البحث المحدد، فقد رأيت أنه لا مناص لي من الاكتفاء بمناقشة ما لخص محمد صدقي من شبه بلغت عشرين شبهة (1) وهي: الشبهة الأولى: قوله: "قال أحمد بن حنبل ما معناه: إن الأحاديث الواردة في تفسير عبارات القرآن الشريف لا أصل لها، كما نقله الحافظ السيوطي في الإتقان". أقول - مستعيناً بالله - إنّ الرد عليه من وجوه: 1- أين إسناد هذا القول إلى الإمام أحمد، وأنت لا تقبل من حديث رسول الله إلا المتواتر؟. 2- إن صح هذا عن الإمام أحمد فهل يريد منه الطعن في سنة رسول الله كما تريد ذلك أنت؟. 3- إن الإمام أحمد من أكثر الناس اهتماماً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتراماً لها ودعوة إليها وتحذيراً من مخالفتها ومن أشدهم اعتصاماً بها. قال -رحمه الله- في التحذير من مخالفة السنة: "من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة" (2) . وروى ابن بطة بسنده إلى الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: "نظرت في المصحف فوجدت فيه طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ   (1) وقد سرد هذه الشبهات العشرين في مجلة المنار في المجلد (11/775-777) . (2) ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (ص 182) ، والإبانة (1/260) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 أَلِيمٌ} [النور:63] . فجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيزيغ قلبه فيهلك، وجعل يتلو هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] ". قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: "من رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة" (1) . وقال رحمه الله:" الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير" (2) . وقال رحمه الله: "رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار" (3) . والمقام لا يتسع لنقل أقواله في هذا الصدد، وهو معلوم لدى العامة والخاصة. 4- إن هناك فرقاً بين كلام الإمام أحمد الذي نُسب إليه وهذا الكلام الذي نسبته أنت إليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره، ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم، ولهذا قال الإمام   (1) انظر "الإبانة" (1/260) ، وانظر فتح المجيد (ص363) وذكر المؤلف أنه نقله عن أحمد الفضل بن زياد وأبو طالب. (2) أبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص 276-277) . (3) جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/149) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 أحمد: "ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي". ويروى: "ليس لها أصل" أي إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل" (1) . ومعلوم أنَّ التفسير منه المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه المنقول عن الصحابة كأبي بكر وعمر وأبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس، ومنه المنقول عن التابعين كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، ومنه المنقول عمن بعدهم. فأحمد تحدث عن ثلاثة علوم غير علوم السنة التي تميزت بحفظ الله لها، وتميزت بعناية أئمة الحديث بها بما لا يوجد له نظير، تلك العناية التي تضاهي العناية بالقرآن، فهل من الأمانة العلمية أن تقول: "إن الأحاديث الواردة في تفسير عبارات القرآن لا أصل لها"، وهي عبارة لم يقلها الإمام أحمد، ومن المستبعد جداً أن تخطر بباله، كيف يقولها وهو يعلم أن معظم السنة تأكيد وتفسير وبيان للقرآن في كل أبواب العقائد والعبادات والمعاملات وسائر شؤون الحياة؟ وقد أفنى حياته في طلبها والرحلة في طلبها وحفظها وتدوينها وتعليمها وتطبيقها. وانظر إلى عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية " فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره"، وهذا ما يدين به كل مسلم صادق في إسلامه يؤمن بحفظ الله لهذا الدين كما وعد بذلك في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . وأخيراً إن كلام الإمام أحمد إن ثبت عنه فإنما يقصد به ما نقل في تفسير   (1) مقدمة التفسير، مجموع الفتاوى (13/346) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 القرآن عن الصحابة فمن بعدهم، ولا يقصد بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أولاها المسلمون عناية خاصة تضاهي أو تقارب العناية بالقرآن، ودونت في دواوين خاصة، منها: مسنده الذي ألّفه ليكون مرجعاً للمسلمين. الشبهة الثانية: قال محمد صدقي: "وقال الإمام الشافعي: إن نسخ القرآن بالحديث لا يجوز". والجواب عن هذا من وجوه: 1- أن الشافعي يرى أن السنة لا تنسخ القرآن وأن القرآن -أيضاً- لا ينسخ السنة إلا إذا كان معه سنّة تبين هذا النسخ (1) . 2- أن الإمام الشافعي صار مضرب المثل في التمسك بالسنة والحث عليها، ومن أقواله التي تكتب بماء الذهب قوله: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، و"إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط" إلى أقوال ذهبية أخرى. 3- معروف ذبه عن السنة وتصديه لدحض شبه منكري السنة أو حجية أخبار الآحاد وأباطيلهم في كتابيه "الرسالة" و"جماع العلم" وسيأتي الحديث عن هذا الدفاع المجيد عن السنة من هذا الإمام. الشبهة الثالثة: قال محمد صدقي: "وقالت الظاهرية: إن تخصيص عموم القرآن بها غير جائز. وإنّ العمل بها غير واجب".   (1) انظر الرسالة (ص: 110-111) ، ومن كلامه في هذا الصدد قوله:" ... لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي فيه سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 والجواب: من أي مصدر نقلت هذا الكلام عن الظاهرية؟، فإن المعروف عن داود الظاهري شدة تمسكه بظواهر النصوص ونفيه للقياس واعتقاده في نصوص الكتاب والسنة أنها كافية لمواجهة كل الأحداث التي تجدُّ في حياة المسلمين، وكذلك ابن حزم حامل لواء مذهب الظاهرية، وهو يرى أن السنة تخصص عموم القرآن، وتقيد مطلقه، وتبين مبهمه، وهو من أشد الناس دعوة إلى السنة وذباً عنها، ويرى أن أخبار الآحاد تفيد العلم اليقيني، وله جولات قوية في هذا الميدان على من يخالف السنة أو يرى أن آحادها تفيد الظن وسيأتي الحديث عن هذا -إن شاء الله-. فقد ظهر أن تعلقك بالإمامين أحمد والشافعي وبالظاهرية تعلق باطل من أشد أنواع الباطل والتمويه وهم أشد الناس حرباً لمنهجك ومنهج أمثالك. الشبهة الرابعة: قال محمد صدقي: "وقال جمهور الأصوليين: إنها ظنية ". والجواب: أن هذا ادعاء باطل؛ فإن فحول الأصوليين من أتباع المذاهب الأربعة يقولون: إن أخبار الآحاد التي تلقتها الأمة بالقبول تصديقاً بها وعملاً بموجبها تفيد العلم اليقيني، وهذا قول أهل الحديث قاطبة ومن يقول منهم إن أخبار الآحاد تفيد الظن يقول:"إن خبر الآحاد إذا حفته القرائن يفيد العلم النظري" (1) .   (1) انظر: النكت لابن حجر على ابن الصلاح (1/347-378) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الشبهة الخامسة: قال محمد صدقي: "وقال جمهور المسلمين: إنه لا يجوز الأخذ بها في العقائد". والجواب: أن هذه دعوى عريضة يكذبها الواقع والتاريخ، فالصحابة والقرون المفضلة يعتقدون في سنة نبيهم أنها تفيد العلم ويأخذون بها في عقائدهم وغيرها. ثم لما ظهرت بدعة المعتزلة القائلين بأن أخبار الآحاد تفيد الظن خالفهم أهل السنة، وهم جمهور المسلمين، واستمروا على الأخذ بسنة نبيهم في العقائد لا يفرقون بينها وبين نصوص القرآن. وتابع عتاةَ المعتزلةِ الروافضُ والخوارجُ في القول بأن أخبار الآحاد تفيد الظن وفي عدم الأخذ بها في العقائد. على أنه من الجائز أن يكون هناك من هذه الفرق أفراداً وجماعات من يأخذ بأخبار الآحاد في العقائد. ومن ادعى خلاف هذا فعليه أن يأتي بالبراهين على صحة دعواه. وعليه فقد بطل ما هول به هذا الرجل على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبين أنه يركض في ميادين أهل الضلال. الشبهة السادسة: قال محمد صدقي: "وقال كثير من الأئمة كالقاضي عياض: إنه لا يجب الأخذ بها في المسائل الدنيوية ". والجواب من وجوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 1- هذه دعوى عريضة؛ فلو كانت دعواك صحيحة لجئت بأسمائهم ومصادر أقوالهم، وإذ لم تقم بذلك فاللوم عليك في انهيار ما هولت به. 2- أنَّ الأمور الدنيوية تشمل البيوع، والنكاح، والصداق، والطلاق، والخلع، والرجعة، والإيلاء، والظهار، واللعان، والعدد، والرضاع، والنفقات، والحضانة، والجنايات، والديات، والحدود، والأطعمة، واللباس، والصيد، والأيمان وكفاراتها، والقضاء، والشهادات، والعارية، والغصب، والشفعة، والودائع، وإحياء الموات، والجعالة، واللقطة، والوقف، والهبة، والعطية، والزراعة إلى آخر القضايا الدنيوية. التي أبعَدْتَ عنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقبل فيها أمر ولا نهي على منطقك. أليس هذا هدماً لدواوين السنّة التي تضمنت ألوف الأحاديث في سائر شؤون الحياة؟ بل أليس هذا هدماً لكتب الفقه التي ألفها الأئمة من مختلف المذاهب والتي لا قيام ولا قيمة لها إلا بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وبرأ الله الأئمة مما تقول، أهذه هي ثمار العقلانية والدعوة إلى نبذ التقليد؟. الشبهة السابعة: قال محمد صدقي: "وقال جميع المحدثين: إن الموضوع منها كثير، وتمييزه عسير، وفي بعض الأحوال مستحيل، راجع ما ذكرناه في الكلمة الرابعة". والجواب: حاشا أهل الحديث أن يقولوا هذا الباطل؛ فإن واقعهم وتاريخهم يكذب هذه الدعوى العريضة التي لم يسمع بمثلها، فقد ميزوا الصحيح من غيره، وألفوا في السنة الصحاح والحسان، في كتب يعرفها العلماء وطلاب العلم بل العوام من أهل السنة وأهل البدع، ألا وهي الصحيحان والسنن الأربع، تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الكتب المشهورة المتداولة في بلاد المسلمين شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، وما كان في السنن من خلل فقد بينه مؤلفوها أو غيرهم. ويلحق بها كتب المستخرجات على الصحيحين و"صحيح" ابن خزيمة و"صحيح" ابن حبان و"مستدرك" الحاكم (1) و"المختارة" للضياء المقدسي، وقد نزهت هذه الكتب من الموضوعات لأمور: منها: قوة حفظ مؤلفيها وسعة اطلاعهم. ومنها: ورعهم وشدة حذرهم من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها: الملكات القوية التي منحهم الله إياها والتي يميزون بها بين ما يصح نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لا يصح، إلى ميزات أخرى منحهم الله إياها. وأما الموضوعات، فقد ألف أهل الحديث فيها كتباً كـ"الأباطيل" للحافظ أبي عبد الله الجورقاني، ضمنه أحاديث موضوعة ومنكرة وإن ذكر فيه بعض الصحاح، و"الموضوعات" لابن الجوزي، و"معرفة التذكرة في الأحاديث الموضوعة" لابن طاهر المقدسي، و"الموضوعات" للصاغاني، و"اللآلئ المصنوعة" للسيوطي، و"تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" لابن عراق، و"الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" للشوكاني، و"تذكرة الموضوعات" للفتني الهندي، و"المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" للعلامة ملا علي القارئ، و"الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع والواهي" لمحمد بن محمد الحسيني الطرابلسي، و"الموضوعات في الإحياء" للسويدي، وغيرها من المؤلفات في الموضوعات. والمتقدمون وإن لم يؤلفوا الكتب المفردة في الموضوعات، فإنهم يكثر بيانهم لها في كتب العلل وكتب الرجال، مثل: كتاب "الكامل" لابن عدي،   (1) وما جاء في المستدرك من الموضوعات فهو قليل وقد بينه العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وكتب التواريخ، والكتب في الضعفاء، ونصوا على وضع نسخ معروفة مثل كتاب "العقل" و"الأربعين الودعانية". قال الشوكاني - رحمه الله -: " ... وقد أكثر العلماء -رحمهم الله- من البيان للأحاديث الموضوعة وهتكوا أستار الكذابين، ونفوا عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم انتحال المبطلين وتحريف الغالين وافتراء المفترين وزور المزورين. وهم -رحمهم الله- قسمان قسم: جعلوا مصنفاتهم مختصة بالرجال الكذابين والضعفاء، وما هو أعم من ذلك، وبينوا في تراجمهم ما رووه من موضوع، أو ضعيف، كمصنف ابن حبان (يعني المجروحين) ، والعقيلي، والأزدي في الضعفاء، وأفراد الدارقطني، وتاريخ الخطيب، والحاكم، وكامل ابن عدي، وميزان الذهبي. وقسم: جعلوا مصنفاتهم مختصة بالأحاديث الموضوعة كـ"موضوعات" ابن الجوزي، والصغاني، والجورقاني، والقزويني، ومن ذلك "مختصر المجد" صاحب القاموس، و"مقاصد" السخاوي (1) ، و"تمييز الطيب من الخبيث" لابن الدَّيْبع، و"الذيل على موضوعات ابن الجوزي" للسيوطي، وكذلك كتاب "الوجيز"له، و"اللآلئ المصنوعة" له، و"تخريج الإحياء" للعراقي، و"التذكرة"لابن طاهر الفتني. وها أنا بمعونة الله وتيسيره أجمع في هذا الكتاب جميع ما تضمنته هذه المصنفات من الأحاديث الموضوعة " (2) . ولهم مؤلفات في العلل كـ"العلل" لابن المديني، و"العلل" لأحمد، و"العلل" لابن أبي حاتم، و"العلل" للدارقطني، ومؤلفات -كالتخريجات لكتب   (1) يعني (المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة) وهو شامل للموضوعات وغيرها. (2) الفوائد المجموعة (ص:3- 4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الفقه وكتب التفسير للعراقي وابن حجر وابن كثير والزيلعي والعلامة الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة"، وغيرهم- تميز الصحيح من الضعيف ومن الموضوع. فهل ترى أن فحول أهل الحديث قد ميزوا الصحيح من غيره من الموضوع والضعيف والمعل بأنواعه، أم تراه عسر عليهم كما عسر على الجهال المتطفلين على الإسلام، وأهله وعلومه؟!. الشبهة الثامنة: قال محمد صدقي: "وقال أبو حنيفة وأضرابه من أهل الرأي والقياس: إن الصحيح منها قليل جداً، حتى إنه لم يأخذ إلا ببضعة عشر حديثاً". والجواب: أين قال هذا أبو حنيفة وأضرابه؟ وهل عندك أسانيد متواترة إلى هؤلاء؟ وهل استقرأت كتب الأحناف كلها فلم تجدها قائمة في كل أبواب الفقه إلا على بضعة عشر حديثاً؟!. إن أبا حنيفة كان يحث أتباعه على اتباع السنة. فمن أقواله -رحمه الله–: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". ومنها: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا مالم يعلم من أين أخذناه". وفي رواية " حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي" (1) . ومنها: " إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي (2) ". وهل عرف هذا الرجل مؤلفات الأحناف في السنة؟. مثل "موطأ" محمد   (1) راجع صفة صلاة النبي ((ص: 23-24) وقد أشار إلى مصادره. (2) "إيقاظ الهمم" للفلاني (ص:62) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ابن الحسن، و"شرح معاني الآثار" في أربعة أجزاء، و"مشكل الآثار" في ستة عشر مجلداً كلاهما للطحاوي، و"نصب الراية" للزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" في أربعة أجزاء، فهؤلاء هم أضراب أبي حنيفة وهذه مواقفهم من السنة. نعم لهم عثرات وليسوا كأهل الحديث وفقهائهم، ولكن أصلهم الكتاب والسنة، ويحترمونهما ويعظمونهما ويدافعون عنهما إلى يومنا هذا، وقد تصدوا لأمثالك من القرآنيين وغيرهم، فهم منك ومن أمثالك برآء وأنتم بريئون منهم ومن كل من يحترم السنة والقرآن. الشبهة التاسعة: قال محمد صدقي: "قال مالك - رضي الله عنه-: إن عمل أهل المدينة مقدم عليها، وكذلك أهل الرأي والقياس يقدمون القياس الجلي عليها". والجواب: أن الإمام مالكاً إمام أهل السنة عقيدة ومنهجاً ومن أشد الناس تمسكاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضاً للمسلمين على الأخذ بها، فمن أقواله رحمه الله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه (1) ". ومنها: "ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم (2) ". وكانت تشد إليه الرحال من أنحاء العالم الإسلامي من الأندلس إلى   (1) جامع بيان العلم (2/39) ، ابن حزم في إحكام الأحكام (6/860) . (2) انظر "المؤمل" لأبي شامة فقرة (158و160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 خراسان لأخذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. وكان من أشد الناس تحرياً في أخذ السنة والأخذ عن الرجال، ومن أشد أئمة السنة في نقد الرجال، حتى إنه لا يحدث عن رجال عرفوا بالصدق والصلاح. وتقديمه لعمل أهل المدينة ليس فيه رد للسنة ولا الطعن في أخبار الآحاد، وإنما هو من باب ترجيح سنة على سنة؛ لأن أهل المدينة في نظره أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشد تمسكاً بها؛ لأنها دار الهجرة ودار الخلافة الراشدة، وأهلها هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، فليس الأخذ بعملهم من باب تقديم الرأي على السنة حاشا وكلا، وإنما هو تقديم لعمل يراه قام على الكتاب والسنة، والترجيح عند تعارض النصوص في الظاهر أصل من أصول أهل السنة ومع هذا فقد خالف مالكاً علماء مثل الليث والشافعي وأحمد وأتباعهم وأبي حنيفة وأتباعه، وقد يقدم العالم -مالك وغيره- سنة على سنة ترجحت له، وقد يقع في مخالفة سنة أو نص من القرآن لعذر يعذره الله به. ولا يجوز لمسلم أن يتهم أحداً من هؤلاء الأئمة الذين عرفوا بالتقوى والعلم وتعظيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحث على التمسك بهما بأنهم يردون السنة لهوى من الأهواء. الشبهة العاشرة: قال محمد صدقي: "أجمع جمهور المسلمين على عدم تكفير من أنكر أي حديث منها". الجواب: من أين لك هذا الإجماع؟، ومن هؤلاء الجمهور؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أهم الخوارج والروافض والمعتزلة؟!. يقول أخوك في عداوة السنة وأهلها أبو رية: "إن شيوخ الدين يعتقدون أن الأحاديث كآيات القرآن في وجوب التسليم لها وفرض الإذعان لأحكامها بحيث يأثم أو يرتد أو يفسق من خالفها ويستتاب من أنكرها أو شك فيها". وهذا الذي نسبه أبو رية إلى شيوخ الدين حق -وإن كان قد قاله على سبيل الإنكار أو السخرية – وسنة رسول الله حَرِيّة بذلك فالله يقول في بيان منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] . ويقول تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . فكيف بمن ينكر سنته ويحاربها؟. قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي -رحمه الله- تعليقاً على قول أبي رية: "أقول: أما ما لم يثبت منها ثبوتاً تقوم به الحجة فلا قائل بوجوب قبوله والعمل به. وأما الثابت فقد قامت الحجج القطعية على وجوب قبوله والعمل به، وأجمع علماء الأمة عليه كما تقدم مراراً، فمنكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقاً تقام عليه الحجة، فإن أصر بَانَ كفره، ومنكر وجوب العمل ببعض الأحاديث إن كان له عذر من الأعذار المعروفة بين أهل العلم وما في معناها فمعذور وإلا فهو عاص لله ورسوله، والعاصي آثم فاسق، وقد يتفق ما يجعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 في معنى منكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقاً وقد مرَّ" (1) . ويروى عن الإمام إسحاق بن راهويه أن من رد حديثاً فهو كافر. وقال الشيخ صالح اليافعي في مناقشة هذه الفقرة: " قلت: إن من أنكر ذلك لأنه لم يصح لديه، فالأمر كذلك ونحن نقول بذلك، وأما من رد ما عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله بلا مسوغ فهو كافر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم" (2) . الشبهة الحادية عشرة: قال محمد صدقي: "إن تناقضها كثير، ومعرفة ناسخها من منسوخها عسير أو مستحيل، وكذلك أكثر أسباب قولها". والجواب: أنه ليس في القرآن والسنة تناقض بحمد الله؛ لأنهما من عند الله قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] . وقد يتبادر إلى أذهان بعض الملاحدة أو الجهلة من أهل الزيغ أن بين نصوص القرآن والسنة تعارضاً، وليس الأمر كذلك، ولدفع ما يوهم التعارض عن النصوص النبوية ألف عدد من كبار الأئمة في هذا الباب؛ فَأَلَّف الإمامُ الشافعي كتاب "مختلف الحديث"، وألَّف ابن قتيبة "تأويل مختلف الحديث"، وألف الطحاوي كتاب "مشكل الآثار"، وألَّف ابن قتيبة "مشكل القرآن"، وألَّف العلامة الشنقيطي "دفع إيهام الاضطراب". والواقع كما ذكرنا أنه ليس في نصوص القرآن أو نصوص السنة تعارض،   (1) الأنوار الكاشفة (ص:81-82) . (2) المنار، المجلد 12/526. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 والأئمة يعلمون هذا ويوقنون به، ولهذا أزالوا ما قد يتوهم الجاهلون من التعارض في تلك المؤلفات التي ذكرناها وغيرها. قال الإمام ابن خزيمة: "لا أعرف أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثان بإسنادين صحيحين متضادان، فمن كان عنده فليأت به حتى أؤلف بينهما" (1) . الشبهة الثانية عشرة: قوله: " قام الدليل الحسي على أن الله لم يتكفل بحفظها من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان ". والجواب: أن هذه دعوى عريضة باطلة. فلقد حفظ الله هذه السنة العظيمة التي هي البيان القولي والعملي من رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى للقرآن الكريم، وهي داخلة في ضمان الله لحفظ الذكر في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . ومن حرف شيئاً أو زاد أو نقص منها شيئاً: فإن كان متعمداً فضحه الله، وإن كان مخطئاً وفق الله حماة هذه السنة والذابين عنها لبيان خطئه تحريفاً كان أو زيادة أو نقصاً. حتى قال الإمام ابن حبان في كلام له حول حفظ السنة:" ... حتى لا يتهيأ أن يزاد في سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف ولا واو، كما لا يتهيأ زيادة مثله في القرآن، لحفظ هذه الطائفة السنن على المسلمين وكثرة عنايتهم بأمر   (1) انظر: "الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي (ص473) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الدين، ولولاهم لقال من شاء ما شاء." (1) . وقد ألفت كتب في المدرج، وكتب في العلل لبيان كل أنواع العلل من الزيادة والحذف والقلب في المتون وأسماء الرواة، وألفت كتب في بيان المصحَّف والمحرف كما ألفت كتب في الموضوعات والعلل والأحاديث الضعيفة، وما ذلك إلا تحقيق لوعد الله وضمانه لحفظ الذكر - أي الوحي- الذي يشمل القرآن وبيانه. فهذه الأعمال العظيمة أدلة حسية وبراهين عملية على رعاية الله وحفظه لهذا الدين، دين الإسلام الذي ختم الله به الرسالات، هذا الدين العظيم الذي بعث الله به محمداً إلى الناس أجمعين ورحمةً للعالمين. أترى أيها المسكين أن الله لا يحمي حياض دينه؟ إن مؤدى كلامك: أن الله ترك دينه لعبث العابثين تعالى الله عما يقوله ويعتقده الظالمون علواً كبيراً. الشبهة الثالثة عشرة: قال محمد صدقي: "لم يجمعها الصحابة ولم يتفقوا عليها". الجواب: أن الأمر ليس كما تدَّعي؛ فلقد حفظوها وجمعوها في صدورهم، وطبقوها في حياتهم، وكتبوا الكثير منها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد موته بحيث نقطع بأنه لم يضع منها شيء. وإذا كان العرب قد حفظوا في جاهليتهم تاريخهم، ودواوين شعرهم وأنسابهم ولغتهم، فكيف يضيعون سنة نبيهم، وهم يعلمون قيمة أي كلمة   (1) كتاب المجروحين (1/25) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمون مكانة سنته صلى الله عليه وسلم وأنها مع القرآن جنباً إلى جنب مصدر سعادتهم في الآخرة، ومصدر عزتهم وكرامتهم وسيادتهم في هذه الحياة. كيف يحفظون أخبار الجاهلية ودواوين شعرهم ومنه القصائد الطوال ومنها الفخر الجاهلي أو الهجاء أو الغزل والهزل ويضيعون سنة نبيهم وهي مصدر سعادتهم وعزتهم، وعليها يقوم دينهم وحياتهم؟! كيف يهملون ويضيعون ما لا تقوم أركان دينهم من صلاة وزكاة وصيام وحج إلا به؟!. كيف يضيعون ما تقوم عليه عقائدهم وأخلاقهم وجهادهم وتجارتهم وسائر شؤون حياتهم؟. وإذا كان الضالون المنحرفون ينظرون إلى السنة، وإلى الصحابة الكرام الأمناء الذين ائتمنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سنته وأمرهم بتبليغها وأشهد الله عليهم في حجة الوداع بهذا التبليغ، واعترفوا له به، إذا كان الضائعون المضيعون الذين ضاقت صدورهم بهذه السنة العظيمة ينظرون إليهم بالمنظار الأسود قياساً على أنفسهم، فإن المؤمنين الصادقين الواثقين بأمانة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقدون اعتقاداً جازماً أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حفظوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن شاهدهم كان يؤديها إلى غائبهم كما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذا الأداء بقوله: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب". وكان يأمر من تلقى منه شيئاً أن يبلغه من وراءه من عشيرته وغيرها، كما يعتقد المؤمنون في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم أشد الناس ذكاء وأغزرهم علماً وأقواهم حفظاً وأرسخهم في الأمانة والصدق وأنهم أشد الناس حرصاً على حفظ دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، بل هم أشد حرصاً وحفاظاً عليها من حرصهم على حياتهم وحياة أبنائهم، وأشد الناس غيرة عليها حتى إنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ليهجرون أقرباءهم وأبناءهم إن هم تهاونوا في تطبيقها والتزامها. وأما قولك:"ولم يتفقوا عليها"، فلا ندري ماذا تعني بعدم الاتفاق بينهم؟، هل كانت بينهم معارك في حفظها وتطبيقها ومعارضات كمعارضات الأحزاب الجاهلية، هذا يبني وهذا يهدم، هذا يبلغ وهذا ينقض ما بلغ ذاك ويكذبه؟!. ألا تذكر قول الله -تعالى- ممتناً عليهم بما أسبغ عليهم من نعمة الأخوة والمحبة والتآلف: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103] . هؤلاء الذين أكلتهم العداوة والفرقة في جاهليتهم، فلم تمنعهم هذه الحال من حفظ تاريخهم وأنسابهم وأشعارهم، أيهملون دينهم الذي لم تعرف الإنسانية مثله بعد اجتماعهم وتآخيهم وتآلف قلوبهم، وبعد أن أظهر الله دينهم ودخلت أمم وشعوب في هذا الدين العظيم؟. وحياتهم وحياة هذه الأمم قائمة على الحفاظ على كل جزئية من جزئيات الرسالة وتبليغ كل شيء ائتمنهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم إننا نشهد أنهم قد بلغوا عن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم كل ما سمعوه منه وما رأوه حتى ما يتعلق بالنوم والأكل والشرب وحتى تقليم الأظافر وقص الشوارب، وحتى ما يتعلق بالخراءة والبول والمخاط والعطاس. فكيف يفرطون أو يختلفون في مهمات الأمور دينيةً ودنيويةً. فليمت غيظاً وكمداً كل مبغض وشانئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأصحابه رضوان الله عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الشبهة الرابعة عشرة: قوله: "لم يبلغوها للأمم بالتواتر مع علمهم بأن اتباع الظن غير جائز في الإسلام إلا لضرورة". والجواب: أنهم بلغوها على أحسن وجوه البلاغ، والمبلغ الواحد منهم أحفظ وأصدق وأوثق عند الناس من عشرات ومئات من الجهمية والمعتزلة والخوارج وتلاميذ المستشرقين الذين يشترطون التواتر في التبليغ وقيام الحجة، وما جاؤوا بهذه الشروط إلا لهدم الإسلام لا حفاظاً عليه. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] ،كان يكتفي بإرسال الأفراد من أصحابه الأمناء دعاة ومبلغين عنه القرآن والسنة، وكان الناس عربهم وعجمهم يقبلون ويصدقون بكل ما جاءهم به هؤلاء الأفراد لا يشكون في شيء مما بلغهم به كل واحد بمفرده، والناس على اختلاف شعوبهم ومللهم لهم عقول وفطر ومدارك ومع ذلك لم يكذبوا هؤلاء الأفراد ولا شكوا في صدقهم وأحقية ما بلغوهم، لأنه لم يكن قد نشأ فيهم الفكر الجهمي والمعتزلي والاستشراقي (1) . ولم يكن الواحد من المبلغين يعتقد أنه يبلغ الناس الظنون وإنما يعتقد أنه يبلغ العلم الحق الذي تقوم به الحجة على المبلَّغين، وهذا الاعتقاد نفسه متوافر عند المبلَّغين من التابعين -أي لا يعتبرون ما يبلغهم ظنوناً- ويبلغه الثقات والمأمونون إلى غيرهم على أساس أن ما يبلغونه حجة توجب العلم والعمل.   (1) ونحن لا ننفي أنهم قد بلغوا الكثير عن طريق التواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ولما ظهر هذا المذهب المخترع المبتدع حاربه أهل العلم وقمعوه بالحجج والبراهين؛ لأنه مذهب فاسد يفسد العقول ويفسد على الناس حياتهم ودينهم ويقتضي تعطيل تجاراتهم وسائر معاملاتهم ومناكحهم ومطاعمهم ومشاربهم ويبث الشكوك فيما يقوله المعلمون وطلابهم والأزواج وزوجاتهم والأبناء وآباؤهم والمرضى وأطباؤهم. لماذا تُشَنُّ الحرب على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدها من بين سائر العلوم والفنون والأديان الفاسدة؟. مع أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حظيت من الحياطة والحفاظ عليها والعناية الفائقة والشروط القوية بما لم يحظ بعشر معشاره أي علم أو فن من الفنون. ولقيت من المعاقل والحصون المنيعة ما يحميها من كل كيد ومكر أو شوب كذب أو خطأ ونسيان من ألوف ألوف الرجال الحفاظ الثقات الأمناء بعد رعاية الله وحفظه لها. فهل يا ترى ضحايا البدع والخرافات من الجهمية والمعتزلة والخوارج وأفراخ المستشرقين أشد غيرة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرسانها وحاملي لوائها وجنودها المخلصين؟ أو هو الجهل والهوى بل والكيد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. الشبهة الخامسة عشرة: قال محمد صدقي: "إنهم نهوا عن كتابتها وأمروا بإحراق ما كتبوه منها كما في الروايات التي صحت (1) عندكم".   (1) هذه مجازفة كبيرة فأكثر الروايات في هذا الصدد لم تثبت، وما ثبت لا حجة فيه لأهل الأهواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 مفاد الشبهة: 1- أن كلامه يفيد أن الصحابة كلهم قد نهوا عن كتابة السنة وأمروا بإحراق ما كتبوه منها. 2- وأن الروايات في هذا الباب كلها صحيحة، كأن الصحابة كلهم قد اتفقوا على حرب السنة النبوية. 3- أنه قد وردت بعض الآثار في النهي عن الكتابة. والجواب عنها: أن جُلَّها لا يثبت، وما ثبت منها لا يقول أصحابها: إن الله قد حرم كتابة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون: إن رسول الله قد حرم ذلك أو نهى عنه. وأنا أسوق باختصار تلك الآثار التي نُسبت إلى الصحابة رضوان الله عليهم: 1- ما نسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه من إحراقه الحديث. قال الحافظ الذهبي- رحمه الله-: "وقد نقل الحاكم فقال: حدثني بكر بن محمد الصيرفي بمرو، أنا محمد بن موسى البربري، أنا المفضل بن غسان، أنا علي بن صالح، أنا موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، عن إبراهيم بن عمر بن عبيد الله التيمي حدثني القاسم بن محمد قالت عائشة: "جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت خمسمائة حديث فبات ليلته يتقلب كثيراً، قالت: فغمني، فقلت: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها، فدعا بنار فحرقها، فقلت: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 عن رجل قد ائتمنته ووثقت، ولم يكن كما حدثني، فأكون قد نقلت ذاك". (1) ثم تعقب الحافظ الذهبي هذه الرواية المنكرة قائلاً: "هذا لا يصح"، وقال الحافظ ابن كثير –رحمه الله-: "هذا غريب من هذا الوجه وعلي بن صالح لا يعرف" (2) . والأمر كما قالا وأشد لأمور: 1- كيف يكتب أبو بكر الصديق هذا المقدار من الحديث، وهو يعلم أن رسول الله قد نهى عن كتابة الحديث؟، وكيف لم تنبهه عائشة -رضي الله عنها-؟، حاشاهما من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- أين أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يروي عنه إلا بوسائط؟، وإذا كان بعض الأحاديث رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضها بوسائط؛ أفما كان في استطاعته أن يميز بينهما، فيُبقي ما سمعه من رسول الله مباشرة، ويحرق ما كان عن هؤلاء الوسائط التي يشك في أمانتها وثقتها ثم يروي ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أداء للأمانة؟. 3- والحقيقة أن هؤلاء الشاغبين على سنة رسول صلى الله عليه وسلم لا يرضيهم نقل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية ولا كتابة، ولهذا تراهم يتعلقون بأوهى من بيوت العنكبوت من الروايات وبسلوك المسالك الوعرة في الاستدلالات لنسف ما هو أرسخ من الجبال الراسيات.   (1) تذكرة الحفاظ (1/5) . (2) انظر: كنز العمال (10/286) وانظر الأنوار الكاشفة للمعلمي (ص:37) فإنه قد طعن في هذه الرواية ووجهها على فرض صحتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وأخيراً لو سَلَّمنا جدلاً بصحة هذه الرواية لما كان إلا حجة على هؤلاء الثائرين على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ إن أبا بكر لم يقل إني كتبت هذه الأحاديث بعد أن نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه، وإنما علّل الإحراق بعدم ثقته بمن روى عنهم، وهذا إنما يدل على تَحَرِّيه وتثبُّته في رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أصل أصيل عند الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان وأهل الحديث والأئمة العظام. 4- هذه الرواية في إسنادها من لم أقف له على ترجمة بعد بحث في عدد من المصادر، ولم تذكرهم المصادر التي وقفت عليها في تراجم شيوخهم ولا تلاميذهم، فكل من المفضل بن غسان، وعلي بن صالح، وإبراهيم بن عمر ابن عبيد الله، لم أقف لأحد منهم على ترجمة. 5- في إسنادها محمد بن موسى البربري إخباري، قال فيه الذهبي: "قال الدارقطني: ليس بالقوي"، وأقره الذهبي والحافظ ابن حجر (1) . 6- وفي الإسناد موسى بن عبد الله بن الحسن وثقة ابن معين، وقال البخاري: "فيه نظر" (2) . وقد ثبت عن أبي بكر الصديق كتابة الصدقات وهي من السنة وسيأتي ذكر ذلك. 2- ما نسب إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-. روى ابن عبد البر بإسناده إلى يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنة ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: " من كان عنده شيء فليمحه" (3) .   (1) انظر: الميزان (4/51) ، ولسان الميزان (5/400) . (2) انظر: الميزان (4/ 211) ، واللسان (123) ، والضعفاء للعقيلي (4/195) . (3) جامع بيان العلم (1/77) ، وهو في تقييد العلم (ص 53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وإسناده ضعيف؛ يحيى بن جعدة لم يدرك عمر. وعنه أثر آخر من طريق عروة بن الزبير، وإسناده منقطع؛ لأن عروة أيضاً لم يدرك عمر رضي الله عنه، وفي الأثر طول وفيه أنه استفتى الصحابة في كتابة السنة فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير الله شهراً ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء" (1) . وهو إن صح يدل على أن الصحابة كانوا يرون جواز كتابة السنة، ففيه ردٌّ لقول محمد صدقي إن الصحابة نهوا عن كتابة السنة، وأمروا بإحراق ما كتبوا. وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه كتابه في الصدقات وغيرها وسيأتي ذكر ذلك. 3- ما نسب إلى علي - رضي الله عنه-. وروى ابن أبي شيبة بإسناده إلى جابر الجعفي عن عبد الله بن يسار قال سمعت علياً يخطب يقول: "أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا محاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم " (2) . وإسناده ضعيف؛ فيه جابر الجعفي ضعيف رافضي يقول بالرجعة، ثم إن علياً لم يقل إن الله نهى عن ذلك أو نهى عنه رسوله، ثم ليس فيه نهي عن كتابة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما علل ذلك بتتبع الناس لكلام علمائهم. وكيف ينهى عن كتابة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قد كتب منها واحتفظ بما كتبه ولم يمحه ولم يحرقه.   (1) جامع بيان العلم (1/77) ، وتقييد العلم (ص:51) . (2) في المصنف (9/52) والخطيب في تقييد العلم (ص:37) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/271-272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 4- ما نسب إلى أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. وروى بإسناده إلى أبي نضرة: قلنا لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "لو أكتبتنا الحديث فقال: "لا نكتبكم، خذوا عنا كما أخذنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم". وبإسناد آخر عن أبي نضرة قلت لأبي سعيد: ألا نكتب ما نسمع منك قال:" أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟! إنّ نبيكم كان يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا كما كنا نحفظ". وهذان الأثران ثابتان عنه وله أثر ثالث ضعيف بلفظ: "أردتم أن تجعلوه قرآنا" (1) . فنرى أبا سعيد رضي الله عنه لا يحتج بحديثه الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن كتابة الحديث، وإنما يبدي وجهة نظره حثاً منه على الحفظ في الصدور كما هي عادة كثير من الصحابة. 5- ما نسب إلى زيد بن ثابت -رضي الله عنه-. روى أبو داود بإسناده إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب (2) قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث فأمر إنساناً أن يكتبه فقال له زيد: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه" فمحاه. وإسناد هذه الرواية ضعيف، قال أبو حاتم في المراسيل: "رواية المطلب عن زيد بن ثابت مرسلة". وقال الحافظ ابن حجر فيه: " ثقة كثير الإرسال والتدليس". وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن الشعبي أن مروان دعا زيد بن ثابت وقوماً يكتبون، وهو لا يدري، فأعلموه، فقال:   (1) تقييد العلم للخطيب البغدادي (ص: 37) . (2) السنن برقم (3647) ، والخطيب في تقييد العلم (ص: 35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 "أتدرون لعل كل شيء حَدَّثتكم به ليس كما حدثتكم" (1) . أقول: أ- الظاهر أن الشعبي لم يدرك زيد بن ثابت فقد قال ابن أبي حاتم لأبيه: "هل أدرك الشعبي أسامة -يعني أسامة بن زيد- قال:" لا يمكن أن يكون الشعبي سمع من أسامة هذا -يعني حديثين سبق ذكرهما- وأسامة توفي سنة أربع وخمسين وزيد بن ثابت توفي قبله سنة خمس وأربعين. وقيل: ثمان. وقيل: إحدى وخمسين" (2) . ب- على فرض صحة هذا الأثر فإنه لم يقل فيه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة. وإنما خشي أن يكون قد وهم فيما حدثهم به، ونفهم منه أنه لو كان متأكداً من ضبطه لأقرهم على الكتابة، وقد روى زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً كثيراً يبلغ اثنين وتسعين حديثاً (3) . وكان يكتب مراسلاته صلى الله عليه وسلم إلى الملوك (4) ، فيبعد منه أن يكون ممن يرى عدم كتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. 6-10- وقد نسب مثل ذلك إلى أبي موسى الأشعري (5) ، وعبد الله بن مسعود (6) ، وعبد الله بن عباس (7) ، وعبد الله بن عمر (8) ،   (1) المصنف (9/53) وجامع بيان العلم (1/78) . (2) انظر الخلاصة للخزرجي (ترجمة زيد) . (3) انظر الخلاصة للخزرجي (ترجمة زيد) . (4) انظر الرياض المستطابة، ترجمة زيد رضي الله عنه. (5) المصنف (9/53) ، وإسناده ضعيف. (6) المصنف (9/53-54) ، وجامع بيان العلم (ص: 78) ، وتقييد العلم (53) ، وفي إسناده الأعمش وهو مدلس وقد عنعن ويمكن حمله على من يكتب الإسرائيليات. (7) تقييد العلم (ص: 43) ، وجامع بيان العلم (1/78) ، وفي إسناده ابن ديج، وهو مدلس وقد عنعن. (8) المصنف (9/54) ، وجامع بيان العلم (1/89) ، وتقييد العلم (ص: 43-44) ، وإسناده صحيح، لكنه توقع من سعيد بن جبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وأبي هريرة (1) رضي الله عنهم. والناظر في هذه الآثار يتضح له ما يأتي: 1- أن هؤلاء الصحابة الذين نقلنا أقوالهم ومواقفهم لم يقل أحد منهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة حديثه أو حرمها. 2- أن هذه الآثار غالبها لا يثبت، وما يثبت منها فليس فيه حجة لهؤلاء المشوشين على المسلمين الذين يريدون أن يهدموا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يريدون التهوين من شأنها. 3- أن بعضهم يحتمل أن يكون إنكارهم إنما هو على من يكتب الإسرائيليات لا على من يكتب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4- وبعضهم يريد حمل الناس على حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5- يدرك القارئ مدى جرأة هذا الرجل على هذا القول الفظيع عن الصحابة: "إنهم لم يكتبوها وأمروا بإحراق ما كتبوه منها كما في الروايات التي صحت عنهم". فأين هي الروايات التي صحت عنهم جميعاً كما يوهم كلامه؟. ثم يزداد القارئ عجباً من رجل لا يقبل من حديث رسول الله إلا المتواتر العملي ويرد المتواتر القولي ويرد أخبار الآحاد ولو كانت في الصحيحين، وتلقَّتها الأمة بالقبول، ثم يحتج بآثار رويت في غير مصادر السنة وأهلها لم يلتزموا في مصادرهم الصحة ولا الأحاديث المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الآثار ما لا يثبت، وما ثبت منها ليس فيه دلالة على ما يدعيه.   (1) الدارمي في سننه (1/101) ، وجامع بيان العلم (1/79) ، وتقييد العلم (ص: 42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 مشروعية كتابة السنة وثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين فضلاً عمن بعدهم 1- كتابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الإمام البخاري رحمه الله: "باب كتابة العلم"، ثم أورد أربعة أحاديث: 1- بإسناده إلى أبي جحيفة قال:" قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة قال: قلت: وما في هذه الصحيفة، قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر" (1) . 2- وروى بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: "أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فركب راحلته فخطب فقال:"إن الله حبس عن مكة الفيل" وذكر في خطبته أشياء، قال أبو هريرة بعدها: فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله. فقال: "اكتبوا لأبي فلان" (2) ، ورواه مسلم. والشاهد أمر رسول الله بكتابة هذه الخطبة التي حوت أشياء عظيمة. 3- وروى بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:" ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب" (3) .   (1) البخاري حديث (111) . (2) البخاري حديث (112) ومسلم في الحج حديث 1355. (3) البخاري حديث (113) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 4- وروى بإسناده إلى ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده"، قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: "قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع" , فخرج ابن عباس يقول:"إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه" (1) . 5- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق" (2) . ورواه الحاكم في المستدرك (3) بإسناده إلى الليث بن سعد حدثني خالد بن يزيد عن عبد الواحد بن قيس عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً بنحوه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وفي إسناده عبد الواحد بن قيس، وثَّقه ابن معين والعجلي وأبو زرعة الدمشقي، وهو أعلم بحاله لأنه بَلَدِيُّه، وضعفه يحيى القطان وغيره. وعلى كل فهو على أقل أحواله صالح للاعتبار. قال الحاكم عقب رواية حديث عبد الواحد: "وهذا حديث صحيح الإسناد أصل في نسخ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".   (1) البخاري حديث (114) وأخرجه مسلم في الوصية حديث (1637) . (2) المسند حديث (6510) وأبو داود في العلم حديث (3646) وإسناده صحيح رجاله رجال الشيخين غير الوليد بن عبيد الله وهو ابن أبي مغيث العبدري فمن رجال أبي داود. قال الحافظ في التقريب:" ثقة"، وفي إسناده عبد الله بن الأخنس وثقه أحمد وابن معين وأبو داود والنسائي وقال ابن حبان يخطئ كثيراً قال الحافظ في الفتح (10/199) :" وشذَّ ابن حبان فقال في الثقات: " يخطئ كثيراً ". (3) (1/104 – 105) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ثم قال: "وله شاهد قد اتفقا على إخراجه على سبيل الاختصار عن همام ابن منبه عن أبي هريرة أنه قال: ليس أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب". وعن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه عن أخيه همام عن أبي هريرة بنحوه. أما حديث عبد الواحد بن قيس وحديثه عن عبد الله بن عمرو فقد وجدت له شاهداً من حديث عمرو بن شعيب ونقل بإسناده عن إسحاق بن إبراهيم أنه قال: إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر. ثم ساق له شاهداً من طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن سليمان عن عقيل بن خالد عن عمرو بن شعيب أن شعيباً حدثه ومجاهداً أن عبد الله بن عمرو حدثهم أنه قال: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك؟ قال:"نعم"، قلت: عند الغضب وعند الرضا قال: "نعم إنه لا ينبغي أن أقول إلا حقاً"، ثم ساقه بإسناده إلى عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو به " (1) . وبالجملة فالحديث صحيح وقد صححه من سبق ذكرهم. 6- حديث: "قيدوا العلم بالكتاب". رواه عدد من الأئمة من طرق عن أنس وابن عباس وعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهم-، وقد أورده العلامة الألباني من طرق عن الصحابة المذكورين وحسنه عن أنس وصححه بمجموع طرقه إلى الصحابة المذكورين (2) .   (1) المستدرك (1/ 105) . (2) انظر الصحيحة حديث (2026) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 7- قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا يحيى بن أيوب حدثني أبو قبيل قال: "كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وسئل أي المدينتين تفتح أولاً، القسنطينية أو رومية؟، فدعا عبد الله بصندوق له حلق. قال: فأخرج منه كتاباً قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً القسنطينية أو رومية؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مدينة هرقل تفتح أولاً" (1) . وأخرجه الإمام الدارمي في سننه (2) ، والحاكم في المستدرك (3) . وأورده الألباني في الصحيحة، ونقل عن عبد الغني تحسين إسناده، وتصحيح الحاكم والذهبي له، وقال: "وهو كما قالا" (4) . 8- قال الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس: أن رسول الله كتب إلى أهل جرش ينهاهم أن يخلطوا الزبيب والتمر" (5) . روى الإمام ابن حبان بإسناده عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن وهذه نسختها، وذكر فيه زكاة الحبوب والثمار، وزكاة الإبل والغنم والذهب والفضة وتحريم الصدقة على آل محمد وذكر أكبر الكبائر مثل الإشراك بالله وقتل النفس بغير حق وذكر أموراً أخرى" (6) .   (1) المسند (2/176) . (2) الدارمي (ص 104) . (3) المستدرك (4/422، 508) . (4) الصحيحة حديث رقم (4) (5) المسند (1/224) وإسناده صحيح. (6) الإحسان (14/501) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ورواه الحاكم وقال:" هذا حديث كبير مفسر في هذا الباب يشهد له أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وإمام العلماء في عصره محمد بن مسلم الزهري بالصحة" (1) . وأخرجه النسائي في سننه (2) بإسناده إلى الحكم بن موسى قال: حدثنا يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود قال حدثني الزهري به، ثم قال: خالفه محمد بن بكار بن بلال أخبرنا الهيثم بن مروان بن الهيثم بن عمران العنسي قال: حدثنا محمد بن بكار بن بلال قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا سليمان بن أرقم، قال حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله كتب إلى أهل اليمن. ثم قال: وهذا أشبه بالصواب والله أعلم. وسليمان بن أرقم متروك الحديث، ثم قال: وقد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلاً. والظاهر أن النسائي يرجح إرسال هذا الحديث، لكنه قد صححه عدد من الأئمة. قال الزيلعي في "نصب الراية": "قال الحاكم: إسناده صحيح وهو من قواعد الإسلام -يعني أنه صحيح من طريق سليمان بن داود-" (3) . وقال ابن الجوزي -رحمه الله- في "التحقيق": "قال أحمد بن حنبل -رضي الله عنه-: "كتاب عمرو بن حزم في الصدقات صحيح.." (4) . وقال بعض الحفاظ من المتأخرين: "ونسخة كتاب عمرو بن حزم تلقاها   (1) (1/395-397) . (2) (8/57-58) (3) (2/341-342) . (4) انظر "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/1361) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الأئمة الأربعة بالقبول، وهي متوارثة كنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده". ثم رجح الزيلعي رواية سليمان بن أرقم المتروك قال:" لكن قال الشافعي-رضي الله عنه- في الرسالة: "لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال أحمد رضي الله عنه:" أرجو أن يكون هذا الحديث صحيحاً". وقال يعقوب بن سفيان الفسوي:" لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح منه كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم". ورواه البيهقي في سننه بسند ابن حبان ثم قال:" وقد أثنى جماعة من الحفاظ على سليمان بن داود الخولاني منهم أحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وعثمان بن سعيد الدارمي وابن عدي الحافظ، قال:" وحديثه هذا يوافق رواية من رواه مرسلاً ويوافق رواية من رواه من جهة أنس بن مالك وغيره موصولاً". وقد روى بعض هذا الحديث الإمام مالك في ((الموطأ)) (1) في كتاب العقول عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه هكذا مرسلاً. فقال ابن عبد البر في التمهيد (2) : "لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث بهذا الإسناد، وقد روي مسنداً من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تستغني بشهرتها عن الإسناد، لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة وقد روى معمر هذا الحديث عن عبد الله بن   (1) (2/ 849) . (2) (17/338-339) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وذكر ما ذكره مالك سواء في الديات"، وزاد في إسناده عن جده. وروي هذا الحديث أيضاً عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم عن أبيه عن جده بكماله، وكتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء وما فيه فمتفق عليه إلا قليلاً. وبالله التوفيق. ومما يدلك على شهرة كتاب عمرو بن حزم وصحته ما ذكره ابن وهب عن مالك والليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: وجد كتاب عند آل حزم يذكرون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه:".. وفيما هنالك من الأصابع عشر عشر فصار القضاء في الأصابع إلى عشر عشر..". وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله- بعد نقل كلام من ضعف الحديث بسليمان بن أرقم: " وصححه الحاكم وابن حبان كما تقدم والبيهقي ونقل عن أحمد بن حنبل أنه قال: أرجو أن يكون صحيحاً". وذكر تزكيات لسليمان بن داود الخولاني ثم قال: وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة؛ فقال الشافعي في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البر:" هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم ... "، إلى آخر كلام ابن عبد البر. قال: "وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ إلا أننا نرى أنه كتاب غير مسموع عمن فوق الزهري" (1) . 1- ومما يؤكد شهرته وصحته ما رواه أبو عبيد في" الأموال" (2) : بإسناده إلى محمد بن عبد الرحمن الأنصاري قال:" لما استخلف عمر بن   (1) التلخيص الحبير (4/18) . (2) الأموال (ص: 497-498) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 عبد العزيز أرسل إلى المدينة يلتمس كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات وكتاب عمر بن الخطاب فوجد عند آل عمرو بن حزم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم في الصدقات، ووجد عند آل عمر كتاب عمر في الصدقات مثل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فنسخا له. قال: فحدثني عمرو بن هرم أنه طلب إلى محمد بن عبد الرحمن أن ينسخه ما في ذينك الكتابين فنسخ له ما في هذا الكتاب من صدقة الإبل والبقر والغنم والذهب والورق والتمر أو الثمر والحب والزبيب" (1) ، ثم ذكر باقي الحديث. إذن فالكتاب كان مشهوراً لدى التابعين. 2- وقال أبو عبيد: "وحدثنا حجاج، عن ابن جريج قال أعطاني عثمان ابن عثمان كتاباً كتب به عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم إلى محمد بن هشام -وهو عامل على أهل مكة- قال: -وهو زعموا- الكتاب الذي كتب به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم بسم الله الرحمن الرحيم هذا فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فريضة الغنم والإبل.." (2) . 3- وروى الدارقطني بإسناده إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب له إذ وجهه إلى اليمن: في الأنف إذا استوعب جدعه الدية كاملة، والعين نصف الدية، والرجل نصف الدية، والمأمومة ثلث الدية، والمنقلة خمس عشرة من الإبل، والموضحة خمس من الإبل، وفي كل إصبع مما هنالك عشر   (1) الأموال (ص: 500-501) . (2) الأموال (ص: 500) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 من الإبل.." (1) . 4- وبإسناده إلى عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن جده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لهم كتاباً: في الموضحة خمس من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي العين خمسون من الإبل، وفي الأنف إذا أوعى جدعه الدية كاملة، وفي السن خمس من الإبل، وفي الرجل خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك من أصابع اليدين والرجلين عشر عشر.." (2) . 5- روى الإمام عثمان بن سعيد الدارمي بإسناده إلى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: كتب لعمرو ابن حزم في خمس من الإبل شاة ... وساق نعيم الحديث بطوله" (3) . 6- وقال أبو داود:" حدثنا موسى بن إسماعيل قال حماد: قلت لقيس بن سعد: خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم فأعطاني كتاباً أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لجده فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل فقص الحديث إلى أن يبلغ عشرين ومائة ... "الحديث (4) . 7- روى الطحاوي بإسناده عن عمارة بن غزية الأنصاري عن عبد الله ابن أبي بكر بن حزم الأنصاري أخبره أن هذا كتاب رسول الله لعمرو بن حزم في الصدقات ... فذكر فيما زاد على العشرين والمائة   (1) سنن الدارقطني (3/209-210) . (2) المصدر السابق. (3) رد الإمام الدارمي على المريسي (ص:131) . (4) المراسيل (ص: 128) ، وشرح معاني الآثار للطحاوي (4/375) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 كذلك أيضاً.." (1) . 8- روى الطحاوي أيضاً: "عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم فرائض الإبل ثم ذكر فيما زاد على العشرين والمائة كذلك أيضاً.." (2) . فهذه الروايات بالإضافة إلى ما سبق تفيد علماً يقيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم في الصدقات. قال أبو عبيد: "حدثنا أبو الأسود عن ابن لهيعة، عن يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب قال: هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات، قال: وكانت عند آل عمر بن الخطاب؟ قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر ... "، ثم اقتصر أبو عبيد على صدقة الإبل بتفاصيلها لأنه أورده في باب الصدقة في الإبل. وقال أبو عبيد:" وحدثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد عن يونس ابن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بمثل هذه النسخة والقصة. قال: وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سليمان بن كثير عن الزهري عن سالم، قال أبو عبيد: أحسبه عن أبيه – بمثل ذلك أيضاً أو نحوه-. قال أبو عبيد: وكان عباد بن العوام يحدث بهذا الحديث عن سفيان بن حسين عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه حدثت بذلك عنه" (3) .   (1) شرح معاني الآثار (4/374) . (2) شرح معاني الآثار (4/374) . (3) هذه الروايات كلها في الأموال لأبي عبيد (ص: 499-500) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 2- كتابة الصحابة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وكتابة التابعين من بعدهم. 1- أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: روى البخاري -رحمه الله- بإسناده إلى ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنساً حدثه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: "بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله ... "، ثم ذكر فرائض الإبل وفرائض الغنم بتفاصيلها ثم قال: وفي الرقة ربع العشر" (1) . وأخرجه من هذا الوجه ابن ماجه (2) وابن خزيمة (3) وابن حبان (4) ، وأخرجه غيرهم كابن الجارود والطحاوي والبيهقي. وأخرجه أحمد في مسنده (5) . وأخرجه أبو داود (6) والنسائي (7) والدارقطني (8) كلهم من طريق حماد بن سلمة به.   (1) في الزكاة حديث (1454) وأخرجه في عدد من المواضيع مقطعاً. (2) في الزكاة حديث (1800) . (3) (4/14) حديث (2261) . (4) (8/57) حديث (3266) . (5) (1/11) . (6) في الزكاة، حديث (1567) . (7) والنسائي في الزكاة، حديث (2455) . (8) في سننه (2/115) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 2- وقال الإمام أحمد في المسند (1) : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب الصدقة ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي، فأخرجها أبو بكر من بعده فعمل بها حتى توفى ثم أخرجها عمر من بعده فعمل بها قال: فلقد هلك عمر يوم هلك وإن ذلك لمقرون بوصيته". وذكر فيها فريضة الإبل بتفاصيلها ثم فريضة الغنم بتفاصيلها وأخرجه أبو داود (2) قال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عباد بن العوام عن سفيان ابن حسين به. قال الألباني:" قلت: إسناده صحيح ورجاله ثقات رجال الشيخين على ضعف في روايته عن الزهري خاصة لكنه قد توبع وأشار البخاري إلى تقويته كما ذكرت في "الإرواء (792) " وتشهد له رواية الزهري الآتية بعد الرواية الثانية عن نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عند آل عمر". وأخرجه الترمذي (3) من طريق زياد بن أيوب البغدادي وإبراهيم بن عبد الله الهروي ومحمد بن كامل المروزي قالوا حدثنا ابن العوام عن سفيان بن حسين به، وقال عقبه: "حديث ابن عمر حديث حسن، والعمل على هذا الحديث عند عامة الفقهاء، وقد روى يونس بن يزيد وغير واحد عن الزهري عن سالم بهذا الحديث ولم يرفعوه وإنما رفعه سفيان بن حسين". وقد أخرج أبو عبيد هذا الحديث من طرق عديدة إلى الزهري وغيره، وقال عقبها: "قال أبو عبيد: وقد تواترت الآثار من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة وكتاب عمرو وما أفتى به التابعون بعد ذلك" (4) .   (1) (2/15) . (2) في الزكاة، حديث (1568) . (3) في الزكاة، حديث (621) . (4) الأموال (497-503) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وانظر تعليق شعيب الأرناؤوط وشركائه على حديث سفيان بن حسين هذا من مسند الإمام أحمد (1) . 2- كتابة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال أبو عبيد:" وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد أن أبا بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر كتب إليه بكتاب نسخه أبو بكر بن عبيد الله من صحيفة وجدها مربوطة بقراب عمر بن الخطاب" (2) . قال أبو عبيد: وحدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح عن الليث بن سعد قال: هذا كتاب الصدقة في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة ثم ذكر مثل ذلك -أيضاً-، وقال: قال الليث: حدثني نافع أن هذه نسخة كتاب عمر بن الخطاب وكانت مقرونة مع وصيته. وقال الليث: وأخبرني نافع أنه عرضها على عبد الله بن عمر مرات" (3) . وتقدمت رواية أبي عبيد بإسناده إلى محمد بن عبد الرحمن الأنصاري أن عمر بن عبد العزيز لما استخلف أرسل إلى المدينة يلتمس كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات وكتاب عمر بن الخطاب .... وفيه:" ووجد عند آل عمر كتاب عمر في الصدقات مثل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فنسخا له ... إلى آخره". وقال الإمام البخاري- رحمه الله –: "حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا عاصم، عن أبي عثمان، قال: "كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان   (1) (8/253-256) (2) الأموال (ص: 501) . (3) الأموال (ص: 501) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن لبس الحرير إلا هكذا -وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم إصبعيه ورفع زهير الوسطى والسبابة-" (1) . 3- كتابة علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: روى الإمام البخاري بإسناده (2) : عن أبي جحيفة قال: "قلت: لعلي: هل عندكم كتاب؟ ... الحديث تقدم قريباً أول الباب. روى الإمام البخاري- أيضاً-: عن ابن الحنفية قال:" أرسلني أبي خذ هذا الكتاب، فاذهب به إلى عثمان فإن فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة" (3) . 4- كتابة أنس بن مالك رضي الله عنه: روى الإمام مسلم (4) بإسناده إلى ثابت عن أنس بن مالك قال: حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك ... قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله من أصحابه، وذكر حديثهم حول مالك بن دخشم وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟، قالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، قال: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه" (5) . قال أنس:" فأعجبني هذا الحديث فقلت لابني اكتبه فكتبه".   (1) كتاب اللباس حديث (5829) ومسلم في اللباس حديث (2069) . (2) كتاب العلم حديث (111) . (3) كتاب فرض الخمس حديث (3112) . (4) كتاب الإيمان (33) . (5) هذا القول قد ورد مقيداً بقوله (" يبتغي بذلك وجه الله " رواه البخاري في الصلاة برقم (1186) من طريق الزهري عن محمود بن الربيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 5- كتابة أبي هريرة رضي الله عنه: سبق قوله:" ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب"، وسبق عنه رواية أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة خطبته في تحريم الحرم وفي بيان أن القتل موجب للقَوَد أو الدية. فهو يروي هذا لبيان مشروعية كتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا نرى أن عدداً من أصحابه كانوا يكتبون عنه حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أصحابه الذين كتبوا حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم همام بن منبه، وله صحيفة مشهورة باسم "صحيفة همام بن منبه" (1) . ومنهم بشير بن نهيك قال:" كنت أكتب ما أسمع من أبي هريرة فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابه فقرأته عليه وقلت: هذا ما سمعته منك؟ قال: نعم " (2) وإسناده صحيح. 6- كتابة أبي سعيد رضي الله عنه: روى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي نضرة قال: "سألت ابن عباس عن الصرف؟ فقال: أيداً بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به. فأخبرت أبا سعيد فقلت: إني سألت ابن عباس عن الصرف فقال: أيداً بيد؟ قلت: نعم قال: فلا بأس به، قال: أو قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه"، ثم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً في تحريم ربا الفضل في التمر (3) .   (1) وقد طبعت عدة مرات منها طبعة المكتب الإسلامي بتحقيق علي حسن عبد الحميد ومنها طبعة الخانجي بتحقيق د/ رفعت فوزي وتحتوي هذه الصحيفة على (138) حديثاً. (2) المصنف (9/50) وانظره في سنن الدارمي (1/105) والعلم لأبي خيثمة (ص: 145) وتقييد العلم (ص: 101) وجامع بيان العلم (1/87) . (3) في الصحيح، كتاب المساقاة، حديث (1594) وهو في مسند الإمام أحمد (3/60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وهذا يدل على أن أبا سعيد يجيز كتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يكتب إلى ابن عباس في هذا الموضوع الكبير إلا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رأيه. وروى الخطيب البغدادي قول أبي سعيد: "ما كنا نكتب شيئاً غير القرآن والتشهد" من طريقين، ثم قال:" قلت: أبو سعيد هو الذي روي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني سوى القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ". ثم هو يخبر أنهم كانوا يكتبون القرآن والتشهد، وفي ذلك دليل أن النهي عن كتب ما سوى القرآن إنما كان على الوجه الذي بيَّناه من أن يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، وأن يشتغل عن القرآن بسواه، فلما أُمن ذلك، ودعت الحاجة إلى كتب العلم لم يكره كتبه كما لم تكره الصحابة كتب التشهد ولا فرق بين التشهد وغيره من العلوم في أن الجميع ليس بقرآن، ولن يكون كتب الصحابة ما كتبوه من العلم وأمروا بكتبه إلا احتياطاً كما كان كراهتهم لكتبه احتياطاً -والله أعلم-" (1) . قال ابن القيم:" قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة والإذن فيها، والإذن متأخر، فيكون ناسخاً لحديث النهي فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزاة الفتح: "اكتبوا لأبي شاه"، يعني خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها، وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة وحديثه متأخر عن النهي، لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته، وهي الصحيفة التي كان يسميها "الصادقة" ولو كان النهي عن الكتابة متأخراً لمحاها عبد الله، ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحو ما كتب عنه غير القرآن، فلما لم يمحها وأثبتها دل على أن الإذن في الكتابة متأخر عن   (1) تقييد العلم (ص: 93-94) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 النهي عنها، وهذا واضح والحمد لله. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم في مرض موته:" ائتوني باللوح والدواة والكتف لأكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً". وهذا إنما كان يكون كتابة كلامه بأمره وإذنه. وكتب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم كتاباً عظيماً: فيه الديات، وفرائض الزكاة وغيرها. وكتبه في الصدقات معروفة، مثل كتاب عمر بن الخطاب، وكتاب أبي بكر الصديق الذي دفعه إلى أنس - رضي الله عنهم-. وقيل لعلي: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا ما في هذه الصحيفة وكان فيها العقول وفكاك الأسير وألاَّ يقتل مسلم بكافر". وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام لئلا يختلط القرآن بغيره، فلما علم القرآن وتميز وأفرد بالضبط والحفظ، وأمنت عليه مفسدة الاختلاط أذن في الكتابة. وقد قال بعضهم: إنما كان النهي عن كتابة مخصوصة، وهي: أن يجمع بين كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة، خشية الالتباس، وكان بعض السلف يكره الكتابة مطلقاً، وكان بعضهم يرخص فيها، حتى يحفظ فإذا حفظ محاها. وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها، ولولا الكتابة ما كان بأيدينا اليوم من السنة إلا أقل القليل." (1)   (1) تهذيب السنن (5/245-246) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وقد ثبتت كتابة الحديث النبوي عن ابن عمر (1) ، وابن عباس (2) ، وجابر ابن سمرة (3) ، وجابر بن عبد الله (4) ، ورافع بن خديج (5) ، وزيد بن أرقم (6) رضي الله عنهم. والحديث يطول عمن كان يَكتبُ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يَكتبُ عنهم، وقد ذكر الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه: "دراسات في الحديث النبوي" اثنين وخمسين صحابياً ممن كتب عنهم الحديث، وذكر عدداً كثيراً ممن كتب عنهم من التابعين، يبلغ (152) ، وأضعافهم ممن كتب عن التابعين من أهل العلم وطلابه، لا يتسع المقام لذكر ودراسة الأسانيد إليهم. الشبهة السادسة عشرة: قول محمد صدقي: "من كان من الصحابة كثير الحديث ملوا منه ونهوه وزجروه كما فعل عمر بأبي هريرة، وشكوا فيه وقالوا إنه يضع الشيء في غير موضعه، ونسبوه للجنون كما في كتبكم". أقول: هذا الكلام كله هذيان بالباطل وافتراء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد سبقه إلى مثل هذا الباطل الملاحدة وغلاة الرفض، وشاركه في   (1) المسند (2/90) إسناده يحتمل التحسين، والمسند (2/152) إسناده حسن. (2) المسند (1/224) ، وانظر صحيح مسلم، كتاب الجهاد، حديث (1812) ، فقد أورده من عدة طرق بنحو ما في المسند. وانظر: صحيح البخاري في الرهن حديث (2514) ، والشهادات حديث (2668) . (3) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، حديث (1822) ، وهو في مسند أحمد (5/89) . (4) تذكرة الحفاظ، للذهبي (1/43) ، والجرح والتعديل (4/136) . (5) صحيح مسلم، الحج، حديث (1361) ، وهو في المسند (4/141) . (6) صحيح البخاري، التفسير، حديث (4906) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الإرجاف به المستشرقون ومن سار على نهجهم من المنتسبين إلى الإسلام مثل أحمد خان وأتباعه ومثل أحمد أمين وأبي رية ومن خذله الله باتباعهم، وقد دفع أباطيل هؤلاء عدد من العلماء منهم الشيخ عبد الرحمن المعلمي في كتابه "الأنوار الكاشفة"، والشيخ عبد الرزاق حمزة في كتابه "ظلمات أبي رية". قال العلامة المعلمي في كتابه " الأنوار الكاشفة لما في أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة " (1) ، الذي دحض فيه أباطيل أبي رية وبين فيه أكاذيبه وخيانته ومجازفاته. قال - رحمه الله -: "وقال (ص:162) –يعني: أبا رية- " كثرة أحاديثه" (2) ، ثم قال (ص:163) : وقد أفزعت كثرة رواية أبي هريرة عمر بن الخطاب فضربه بالدرة وقال له: "أكثرت يا أبا هريرة من الرواية وأَحْرِ بك أن تكون كاذباً". 1- قال المعلمي: "أقول: لم يعز هذه الحكاية هنا وعزاها (ص:171) إلى شرح "النهج" لابن أبي الحديد حكاية عن أبي جعفر الإسكافي، وابن أبي الحديد من دعاة الاعتزال والرفض والكيد للإسلام، وحاله مع ابن العلقمي الخبيث معروفة. والإسكافي من دعاة المعتزلة والرفض –أيضاً- في القرن الثالث ولا يعرف له سند. ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبة وغيرهم، بما فيه انتقاص لأبي بكر وعمر وعلي وعائشة وغيرهم، وإنما يتشبث   (1) (ص: 152) . (2) يعني أبا هريرة - رضي الله عنه-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 بها من لا يعقل. وقد ذكر ابن أبي الحديد (1/360) أشياء عن الإسكافي من الطعن في أبي هريرة وغيره من الصحابة، وذكر من ذلك مزاح أبي هريرة فقال ابن أبي الحديد: " قلت: قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب ((المعارف)) (1) في ترجمة أبي هريرة، وقوله فيه حجة لأنه غير متهم عليه". وفي هذا إشارة إلى أن الإسكافي متهم. ونحن كما لا نتهم ابن قتيبة قد لا نتهم الإسكافي باختلاق الكذب، ولكن نتهمه بتلقف الأكاذيب من أفاكي أصحابه الرافضة والمعتزلة. وأهل العلم لا يقبلون الأخبار المنقطعة، ولو ذكرها كبار أئمة السنة فما بالك بما يحكيه ابن أبي الحديد عن الإسكافي عمن تقدمه بزمان". ثم قال: "قال أبو رية (ص:163) : "ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة إذ أصبح لا يخشى أحداً بعده". قال المعلمي: أقول: لم يمت الحق بموت عمر –رضي الله عنه- وسيأتي تمام هذا". ثم ذكر أثرين إلى أبي هريرة أحدهما معلّ بالانقطاع، وفي إسناد الثاني متهم وذكر أنه يقابلهما آثار. ثم قال المعلمي -رحمه الله-: "وبعد فإن الإسلام لم يمت بموت عمر، وإجماع الصحابة بعده على إقرار أبي هريرة على الإكثار مع ثناء جماعة   (1) لم يسق ابن قتيبة مزاح أبي هريرة –رضي الله عنه- بقصد الطعن فيه وإنما ذكره في ترجمته ولعله ينوه بتواضعه لأن مزاح أبي هريرة – رضي الله عنه- صورة من صور تواضعه، والمنصف المتأمل لهذا المزاح اللطيف يدرك هذا وانظر كلام ابن قتيبة في "المعارف" (ص: 277-278) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 منهم عليه، وسماع كثير منهم منه، وروايتهم عنه كما يأتي يدل على بطلان المحكي عن عمر من منعه. بل لو ثبت المنع ثبوتاً لا مدفع له لدلّ إجماعهم على أن المنع كان على وجه مخصوص أو لسبب عارض أو استحساناً محضاً لا يستند إلى حجة ملزمة، وعلى فرض اختلاف الرأي فإجماعهم بعد عمر أولى بالحق من رأي عمر-رضي الله عنه-" (1) . إن عدداً من الصحابة معدودون في المكثرين من الرواية فمنهم أصحاب الألوف ومنهم من روى ما يربوا على ألف حديث ومنهم أصحاب المئين ومنهم أصحاب المائتين. فإذا كان أبو هريرة- رضي الله عنه- قد روى خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً فقد روى ثلاثة من الصحابة ما يزيد مجموعه على هذا العدد فقد روى عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- ألفي حديث وستمائة وثلاثين حديثاً. وروى أنس بن مالك رضي الله عنه ألفي حديث ومائتين وستة وثمانين حديثاً. وروت عائشة -رضي الله عنها- ألفي حديث ومائتي حديث وعشرة أحاديث. فمجموع ما رواه هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم يبلغ سبعة آلاف حديث ومائة وستة وعشرين حديثاً. أي أنها تزيد على مجموع ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه بسبعمائة حديث وألف حديث.   (1) الأنوار الكاشفة (ص:152-156) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وأربعة آخرون وهم عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وأبو سعيد وابن مسعود -رضي الله عنهم- يروون خمسة آلاف حديث ومائتين وعشرة أحاديث أي أن الفارق بسيط جداً بين مارواه أبو هريرة ومجموع ما رواه هؤلاء الأربعة، فمن هم الصحابة الذين ملوهم ونهوهم وزجروهم؟!. لم تستطع أن تذكر من هؤلاء الزاجرين الناهين إلا عمر رضي الله عنه البريء -والحمد لله- من هذه التهمة التي يفتريها عليه الروافض والزنادقة ليشوهوه ويشوهوا أبا هريرة الذي هو قذى في أعينهم لأنه أحفظ حفاظ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لسنة رسول الله التي تغيظهم كما يغيظهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. 2- ما كان الصحابة يشك بعضهم في بعض، ولا يكذب بعضهم بعضاً؛ فهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي يحشد أهل الإلحاد والرفض قواهم لإسقاطه وإسقاط رواياته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى من الصحابة والتابعين وأفاضل الأمة - رغم أنوف الحاقدين - إلا الإجلال والإكبار والثقة الكبيرة به. فيروي عنه من أهل العلم والفضل من الصحابة والتابعين نحو من ثمانمائة. والأمة من التابعين الكرام ومن تبعوهم بإحسان يقدرونه ويعتزون به وبحفظه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان ثمرة لملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصه على السنة كما شهد له بهذا الحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الفصل الخامس: حجج أهل السنة على أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تفيد العلم لا الظن حجج أهل السنة على أن أخبار الآحاد المتلقاة تفيد العلم لا الظن ... الفصل الخامس: حجج أهل السنة على أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تفيد العلم لا الظن إن أعداء الإسلام ليتسللون إلى هدم الإسلام من شتى المنافذ، فتبذل جهود علماء المسلمين للدفاع بكل ما يستطيعون عن دينهم وسنة نبيهم التي كثرت عليها الغارات من فئات الإلحاد والضلال المتسترة بالإسلام. وفي هذا العصر تظافرت جهود علماء الإسلام لصد هذه الغارات، فسدُّوا عليهم كل الأبواب والمنافذ إلا باباً واحداً فتحه عليهم المعتزلة في مطالع القرن الثاني الهجري، فتابعهم الروافض والخوارج. وأهل السنة يحاولون جاهدين إغلاق هذا الباب الخطير ألا وهو باب: "إن أخبار الآحاد تفيد الظن"، ولكن على مر الزمان انخدع بعض المنتسبين إلى السنة فولجوا بعض أبواب المعتزلة والمتكلمين. ومنها هذا الباب الخطير، ثم وقفوا مع الأسف مع المعتزلة والخوارج والروافض يعاركون أهل السنة. فإذا هجم أعداء الإسلام أو هذه الفرق على بعض العقائد الإسلامية أو على السنة امتشقوا أسلحتهم جنبا إلى جنب مع أهل السنة المحضة وواصلوا مطاردتهم وسدوا عليهم كل الأبواب، حتى إذا لم يبق إلا بعض الأبواب ومن أخطرها هذا الباب فعندها يضعون أسلحتهم ويقولون بلسان حالهم للمعتزلة والمتكلمين: نحن معكم لا نزاع بيننا وبينكم في أن أخبار الآحاد لا تفيد العلم، ونوافقكم على أنها لا تفيد إلا الظن؛ ولذا لا نبني عليها عقائدنا؛ لأننا لا نبنيها إلا على القطعيات وهي النصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الواضحة من القرآن أو المتواتر من السنة، أما الظواهر من نصوص القرآن والسنة المتواترة فلا نبني عليها عقائدنا، لأنها هي -أيضاً- ظنيّات الدلالة وإن كانت قطعيات الثبوت، ثم تقوم المعارك بينهم وبين أهل السنة المحضة بناء على هذه النظريات الفلسفية التي استقتها المعتزلة والمتكلمون ومن تابعهم من الفلسفات اليونانية وغيرها من الفلسفات التي استهدفت عقائد الإسلام وأصوله قبل فروعه من وقت مبكر. ولو استعرض المحب للسنة بعض الكتب التي قامت بالدفاع عن السنة في هذا العصر وتصدت لرد عدوان أعدائها من المستشرقين والملحدين والقرآنيين وأفراخ هؤلاء من المعاصرين لوجد جهوداً قد بذلت لمواجهة هذه الفئات، وأباطيلها ولكنه لا يلبث إلا قليلاً حتى يفاجأ باستسلام هؤلاء المنافحين عند عتبات هذا الباب والاستحذاء أمام هؤلاء الأعداء والأخذ بشبهاتهم ولو أنكر عليهم أهل السنة المحضة لواجهوهم بتلك الشبهات التي ورثها القرآنيون والمستشرقون عن المعتزلة والخوارج والروافض. ومن المؤسف جداً أن هذه الشبهات تقوم عليها مدارس إسلامية من وقت مبكر، وما عرفوا أنها من مكايد فلاسفة المعتزلة ومن ركض وراءهم من فرق الضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 دعوة جادة: وإني لأوجه بهذه المناسبة دعوة جادة إلى القائمين على هذه المدارس في هذا العصر الذي تعاني فيه الأمة الويلات والذل نتيجة مخالفتهم لكتاب الله وسنة رسوله وسنة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، أوجه الدعوة إلى هذه المدارس لتعيد النظر بجدٍّ في مناهجها وإلى السعي في إصلاحها إصلاحاً جذرياً وشاملاً بما يتفق مع الكتاب والسنة وفقه السلف الصالح لهما عقدياً ومنهجياً وعبادات ومعاملات، ومن هذا الإصلاح سد باب أن أخبار الآحاد تفيد الظن، إن هذا الإصلاح ليسير على من يسره الله عليه واطلع الله منه على نية صادقة وعزم ماض. ومن نظر نظرة صادقة متجردة إلى تفسير السلف الصالح للقرآن الكريم، مثل: تفسير ابن جرير والبغوي وما جرى مجراهما من تفاسير السلف، وتأمل نصوص الأمهات الست في أبواب الإيمان والتوحيد والسنة، وفي مؤلفات أبي الحسن الأشعري الأخيرة كالإبانة والمقالات والموجز، وقرأ ما قرره ابن عبد البر وابن أبي زيد وأمثالهما تبين له بكل وضوح العقائد التي قررها الله في كتابه ورضيها وقررها رسوله في سنته ودان بها الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان، وتبيَّن له بوضوح بطلان كل المذاهب التي تخالف مقررات الكتاب والسنة وما دان به السلف الصالح من القرون الخيرة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 واعلموا يا من بأيديهم أَزِمَّةُ أمور الأمة أنكم مسؤولون أمام الله عن بقائها على ما هي عليه الآن من جهل بحقائق القرآن والسنة ومخالفات لها ذلكم الجهل الخطير والمخالفات المهلكة في الدنيا والآخرة. وإنه لمن المناسب لقطع دابر شبهات أن أخبار الآحاد تفيد الظن ولا تفيد العلم أن أسوق بعض حجج أهل السنة التي تدمغ هذه الشبهات لتساعد من يريد نصرة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريد حمايتها من غوائل أعدائها ويريد سدّ أبواب الفتن وذرائعها عن دين الله الحق. قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (1) : "ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك ولولا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع، فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك بل صرح الأئمة بخلاف قولهم، فممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه كأبي محمد بن حزم ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي، قال ابن خويز منداد في كتاب "أصول الفقه"، وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا الواحد والاثنان: ويقع بهذا الضرب أيضاً العلم الضروري نص على ذلك مالك، وقال أحمد في حديث   (1) (2/362) طبعة مكتبة الرياض الحديثة. اخترت كلام ابن القيم لأنه عبارة عن خلاصة حجج أهل السنة في هذا الباب. وعلى رأسهم الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد والسمعاني وابن تيمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الرؤية نعلم أنها حق ونقطع على العلم بها (1) ، وكذلك روي عن المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: ههنا اثنان يقولان: إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً فعابه، وقال: لا أدري ما هذا، وقال القاضي: وظاهر هذا أنه يسوي بين العلم والعمل، وقال القاضي في أول "المحبر": خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده ولم تختلف الرواية فيه وتلقته الأمة بالقبول وأصحابنا يطلقون القول وإن لم تتلقه بالقبول..". ومن كلامه رحمه الله بهذا الصدد قوله في المرجع نفسه (2) : "ومما يبين أن خبر الواحد العدل يفيد العلم أدلة كثيرة: أحدها: أن المسلمين لما أخبرهم الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قبلوا خبره وتركوا الحجة التي كانوا عليها واستداروا إلى القبلة، ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شكروا على ذلك وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا يفيد العلم، وغاية ما يقال فيه: إنه خبر اقترنته قرينة، وكثير منهم يقول لا يفيد العلم بقرينة ولا غيرها وهذا في غاية المكابرة. ومعلوم أن قرينة تلقِّي الأمة له بالقبول وروايته قرناً بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها فأي قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها (3) .   (1) كذا بالتأنيث ولعل الصواب "به". (2) (ص:394-405) . (3) يرى الإمام ابن القيم أن كل حديث صح عن رسول الله (ولم يضعفه أحد من أئمة الحديث أن هذا تلق من الأمة بالقبول لهذا النوع من الأحاديث، وهذا بخلاف ما يفهم بعض الناس من القرائن ومن تلقي الأمة بالقبول، فإنهم يكادون يقصرونها على أخبار الصحيحين فقط، وما قرره ابن القيم هو الحق والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الدليل الثاني: أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ، وفي القراءة الأخرى {فَتَثَبَّتُوا} وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد أنه لا يحتاج إلى التثبت ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم. ومما يدل عليه أيضاً أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وفعل كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا. وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة، وفي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع، وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه من صحابي غيره، وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نسبه إليه من قول أو فعل. فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم. الدليل الثالث: أن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك جزم منهم بأنه قاله، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين إن المراد بالصحة صحة السند لا صحة المتن بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم صحة الإضافة إليه وأنه قال كما كانوا يجزمون بقولهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر ونهى وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك يقولون يُذْكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُروى عنه ونحو ذلك، ومن له خبرة بالحديث يفرق بين قول أحدهم هذا الحديث صحيح وبين قوله إسناده صحيح فالأول جزم بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني شهادة بصحة سنده وقد يكون فيه علة أو شذوذ فيكون سنده صحيحاً ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] ، والطائفة تقع على الواحد فما فوقه فأخبر أن الطائفة تنذر قومهم إذا رجعوا إليهم والإنذار الإعلام بما يفيد العلم وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} نظير قوله في آياته المتلوة والمشهودة: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} وهو سبحانه إنما يذكر ذلك فيما يحصل به العلم لا فيما لا يفيد العلم. الدليل الخامس: قوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] ، أي: لا تتبعه ولا تعمل به ولم يزل المسلمون من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون لله تعالى بها الصفات فلو كانت لا تفيد علماً لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم. الدليل السادس: قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] ، فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم، ولولا أن أخبارهم تفيد العلم لم يأمر بسؤال من لا يفيد خبره علماً، وهو سبحانه لم يقل سلوا عدد التواتر بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقاً فلو كان واحداً لكان سؤاله وجوابه كافياً. الدليل السابع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الْمُبِينُ} [النور:54] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني"، وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة: "أنتم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت". ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلَّغ، ويحصل به العلم فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العبد فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه، فتقوم الحجة على من بلغه وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسنته ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو دون عدد التواتر، وهذا من أبطل الباطل فيلزم من قال: إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم هو أحد أمرين: 1- إما أن يقول: إن الرسول لم يبلغ غير القرآن وما رواه عنه عدد التواتر وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ. 2- وإما أن يقول: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علماً ولا يقتضي عملاً. وإذا بطل هذان الأمران بطل القول بأن أخباره صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد علماً وهذا ظاهر لا خفاء به. الدليل الثامن: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] ، وقوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 النَّاسِ} [الحج:78] ، وجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أنه جعل هذه الأمة عدولاً خياراً؛ ليشهدوا على الناس بأن رسلهم قد بلغوهم عن الله رسالته، وأدوا عليهم (1) ذلك، وهذا يتناول شهادتهم على الأمم الماضية وشهادتهم على أهل عصرهم ومن بعدهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بكذا ونهاهم عن كذا، فهم حجة الله على من خالف رسول الله وزعم أنه لم يأتهم من الله ما تقوم به عليه (2) الحجة، وتشهد هذه الأمة الوسط عليه بأن حجة الله بالرسل قامت عليه ويشهد كل واحد بانفراده بما وصل إليه من العلم الذي كان به من أهل الشهادة فلو كانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم لم يشهد به الشاهد ولم تقم به الحجة على المشهود عليه. الدليل التاسع: قوله تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] ، وهذه الأخبار التي رواها الثقات الحفاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تكون حقاً أو باطلاً أو مشكوكاً فيها لا يدري هل هي حق أو باطل. فإن كانت باطلاً أو مشكوكاً فيها وجب اطراحها وألاَّ يلتفت إليها وهذا انسلاخ من الإسلام بالكلية، وإن كانت حقاً فيجب الشهادة بها على البت أنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الشاهد بذلك شاهداً بالحق وهو يعلم صحة المشهود به. الدليل العاشر: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "على مثلها فاشهدوا" إشارة إلى الشمس ولم يزل الصحابة والتابعون وأئمة الحديث يشهدون عليه صلى الله عليه وسلم على القطع أنه   (1) كذا ولعله " إليهم". (2) كذا ولعله "عليهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 قال كذا وأمر به ونهى عنه وفعله لما بلغهم إياه الواحد والاثنان والثلاثة فيقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وحرم كذا وأباح كذا، وهذه شهادة جازمة يعلمون أن المشهود به كالشمس في الوضوح، ولا ريب أن كل من له التفات إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتناء بها يشهد شهادة جازمة أن المؤمنين يرون ربهم عياناً يوم القيامة، وأن قوماً من أهل التوحيد يدخلون النار ثم يخرجون منها بالشفاعة، وأن الصراط حق وتكليم الله لعباده يوم القيامة كذلك، وأن الولاء لمن أعتق إلى أضعاف أضعاف ذلك، بل يشهد بكل خبر صحيح متلقى بالقبول لم ينكره أهل الحديث شهادة لا يشك فيها. الدليل الحادي عشر: أن هؤلاء المنكرين لإفادة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم العلم يشهدون شهادة جازمة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم وأقوالهم أنهم قالوا ولو قيل لهم إنها لم تصح عنهم لأنكروا ذلك غاية الإنكار، وتعجبوا من جهل قائله ومعلوم أن تلك المذاهب لم يروها عنهم إلا الواحد والاثنان والثلاثة ونحوهم لم يروها عنهم عدد التواتر وهذا معلوم يقيناً فكيف حصل لهم العلم الضروري والمقارب للضروري بأن أئمتهم ومن قلدوهم دينهم أفتوا بكذا وذهبوا إلى كذا ولم يحصل لهم العلم بما أخبر به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسائر الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بما رواه عنهم التابعون، وشاع في الأمة وذاع وتعددت طرقه وتنوعت، وكان حرصه عليه أعظم بكثير من حرص أولئك على أقوال متبوعيهم، إن هذا لهو العجب العجاب، وهذا وإن لم يكن نفسه دليلاً يلزمهم أحد أمرين: 1- إما أن يقولوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاواه وأقضيته تفيد العلم. 2- وإما أن يقولوا أنهم لا علم لهم بصحة شيء مما نقل عن أئمتهم وأن النقول عنهم لا تفيد علماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وأما أن يكون ذلك مفيداً للعلم بصحته عن أئمتهم دون المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أبين الباطل. الدليل الثاني عشر: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] ، ووجه الاستدلال أن هذا أمر لكل مؤمن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ودعوته نوعان: مواجهة ونوع بواسطة المبلغ وهو مأمور بإجابة الدعوتين في الحالتين وقد علم أن حياته في تلك الدعوة والاستجابة لها، ومن الممتنع أن يأمره الله تعالى بالإجابة لما لا يفيد علماً أو يحييه بما لا يفيد علماً أو يتوعده على ترك الاستجابة لما لا يفيد علماً بأنه إن لم يفعل عاقبه وحال بينه وبين قلبه. الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ، وهذا يعم كل مخالف بلغه أمره صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ولو كان ما بلغه لم يفده علماً لما كان متعرضاً بمخالفة ما لا يفيد علماً للفتنة والعذاب الأليم فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذرٌ. الدليل الرابع عشر: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إلى قوله: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] ، ووجه الاستدلال أنه أمر أن يرد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته، فلولا أن المردود إليه يفيد العلم وفصل النزاع لم يكن في الرد إليه فائدة إذ كيف يرد حكم المتنازع فيه إلى مالا يفيد علماً البتة، ولا يدرى أحق هو أم باطل؟ وهذا برهان قاطع -بحمد الله- فلهذا قال من زعم أن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد علماً إنا نرد ما تنازعنا فيه إلى العقول والآراء والأقيسة فإنها تفيد العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الدليل الخامس عشر: قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} إلى قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49-50] ، ووجه الاستدلال أن كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما أنزل الله وهو ذكر من الله أنزله على رسوله وقد تكفل سبحانه بحفظه فلو جاز على حكمه الكذب والغلط والسهو من الرواة، ولم يقم دليل على غلطه وسهو ناقله لسقط حكم ضمان الله وكفالته لحفظه وهذا من أعظم الباطل، ونحن لا ندعي عصمة الرواة، بل نقول: إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها فلا بد أن يقوم دليل على ذلك ولا بد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه ليتم حفظه لحججه وأدلته ولا تلتبس بما ليس منها، فإنه من حكم الجاهلية بخلاف من زعم أنه يجوز أن تكون كل هذه الأخبار والأحكام المنقولة إلينا آحاداً كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغايتها أن تكون كما قاله من لا علم عنده: "إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين". وهناك أدلة أخرى على أنَّ أخبار الآحاد تفيد العلم، ذكرها ابن القيم وابن حزم (1) وغيرهما لم يتسع المقام لسردها، فليرجع إليها من أراد الاستزادة من الحجج والبراهين. والله أسأل أن يوفق المسلمين للعودة إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في كل شأن من شؤونهم بما في ذلك القناعة بأن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تفيد العلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.   (1) انظر: "الإحكام في أصول الأحكام" (1/97-120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع: * الإبانة، للإمام ابن بطة، ط: دار الراية، ت: رضا نعسان. * الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ط: مؤسسة الرسالة. * أضواء على السنة، لأبي رية، الطبعة الخامسة، دار المعارف. * الأعمال الكاملة لمحمد عبده، جمع وتحقيق محمد عمارة. * الأموال، للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام، نشر مكتبة الكليات الأزهرية. * الأنوار الكاشفة، للمعلمي، نشر حديث آكادمي- باكستان-. * تاريخ الأستاذ الإمام، لمحمد رشيد رضا، مطبعة المنار الطبعة الأولى. * التاريخ الأوسط، للإمام البخاري، دار الصميعي. * التاريخ الكبير، للإمام البخاري، ط: مؤسسة الكتب الثقافية. * تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ط: دار الجيل. * تذكرة الحفاظ، للحافظ الذهبي، ط: دار إحياء التراث العربي. * تفسير المنار، ط: مكتبة القاهرة. * تقييد العلم، للخطيب البغدادي، نشر دار إحياء السنة النبوية. * التلخيص الحبير، للحافظ ابن حجر، تحقيق عبد الله هاشم يماني. * التمهيد، لابن عبد البر، ط: وزارة الأوقاف المغربية. * تهذيب السنن، لابن القيم، ط: المطبعة العربية باكستان. * جامع الترمذي، ط: الحلبي. * جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، نشر المكتبة السلفية بالمدينة النبوية. * الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، نشر دار الكتب العلمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 * جماع العلم، للإمام الشافعي، نشر دار الآثار. * جوامع السيرة، نشر إدارة إحياء السنة – باكستان-. * خلاصة تذهيب التهذيب، للخزرجي، نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية. * دراسات في الحديث النبوي، للدكتور الأعظمي، مطابع جامعة الرياض. * الرد على بشر المريسي، للإمام الدارمي، مطبعة الأشراف – لاهور-. * الرسالة، للإمام الشافعي، تحقيق أحمد شاكر. * رسالة التوحيد، لمحمد عبده، ط: إحياء العلوم، بيروت. * رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية. * الرياض المستطابة، مكتبة المعارف، بيروت. * زعماء الإصلاح في العصر الحديث. * السلسلة الصحيحة، للشيخ الألباني، مكتبة المعارف الرياض. * السلسلة الضعيفة، للشيخ الألباني، مكتبة المعارف الرياض. * سنن ابن ماجه، ط: الحلبي بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. * سنن أبي داود، تعليق عزت عبيد الدعاس. * سنن الدارقطني، ت: عبد الله هاشم يماني. * سنن الدارمي، ت: عبد الله هاشم يماني. * سنن النسائي، ط: دار البشائر الإسلامية. * شرح معاني الآثار، لأبي جعفر الطحاوي، مطبعة الأنوار المحمدية. * صحيح البخاري، دار طوق النجاة. * صحيح الجامع الصغير وزيادته، للشيخ الألباني، المكتب الإسلامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 * صحيح ابن خزيمة، المكتب الإسلامي. * صحيح سنن ابن ماجة، للشيخ الألباني، إشراف المكتب الإسلامي. * صحيح مسلم، دار إحياء الكتب العربية، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. * صحيفة همام بن منبه، مكتبة الخانجي. * صفة صلاة النبيصلى الله عليه وسلم، للشيخ الألباني، مطبعة المكتب الإسلامي. * الضعفاء، للعقيلي، ت: حمدي السلفي. * الطبقات الكبرى، لابن سعد، ط: دار صادر ودار بيروت. * العلم، للإمام أبي خيثمة، المطبعة العمومية بدمشق، تحقيق الألباني. * فتح الباري، للحافظ ابن حجر، المطبعة السلفية، ت: محب الدين الخطيب. * فتح المجيد، للشيخ عبد الرحمن بن حسن ت: العلامة ابن باز. * الفوائد المجموعة، للشوكاني، مطبعة السنة المحمدية، ت: المعلمي. * القرآنيون، لخادم حسين، نشر مكتبة الصديق. * قصة المسيح الدجال، للشيخ الألباني، ط دار المعارف. * كنز العمال، لتقي الدين الهندي، ط: مؤسسة الرسالة. * لسان الميزان، للحافظ ابن حجر، ط: دار إحياء التراث العربي. * المجروجين، لابن حبان، طبعة دار الوعي. * مجلة أهل الحديث، بواسطة كتاب:" القرآنيون". * مجلة المنار، الطبعة الثانية. * مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، مطابع الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 * مختار الصحاح، للفيروزابادي. * مختصر ابن كثير لمقدمة ابن الصلاح، تعليق أحمد شاكر. * مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم، للموصلي، مكتبة الرياض الحديثة. * مختصر المؤمل، لأبي شامة، مكتبة الصحوة الإسلامية. * المراسيل، لأبي داود، ت: شعيب الأرناؤوط، ط: مؤسسة الرسالة. * مسائل أبي داود للإمام أحمد، ت: محمد رشيد رضا. * المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، مكتبة النصر الحديثة. * مسند الإمام أحمد بن حنبل، ت: أحمد شاكر، وت: شعيب الأرناؤوط،. * المصنف، لابن أبي شيبة، ت: عامر العمري الأعظمي. * المعارف، لابن قتيبة، ت: ثروت عكاشة. * مقالات سرسيد، للشيخ محمد إسماعيل السلفي، بواسطة كتاب: " القرآنيون". * المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن القيم، مكتبة المطبوعات الإسلامية حلب. * منهج المدرسة العقلية، للدكتور فهد الرومي، ط: مؤسسة الرسالة. * الموضوعات، لابن الجوزي، نشر المكتبة السلفية. * موطأ الإمام مالك بن أنس، ط: الحلبي. * موقف العقل والعلم من رب العالمين، مصطفى صبري، ط: دار إحياء التراث العربي. * ميزان الاعتدال، للحافظ الذهبي، ط: دار إحياء الكتب العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 * زهة الخواطر، لعبد الحي بن فخر الدين، ط: دائرة المعارف العثمانية. * نزهة النظر، للحافظ ابن حجر، نشر مكتبة طيبة. * نصب الراية، للزيلعي، ط: المجلس العالمي – الهند-. * نظم المتناثر من الحديث المتواتر، للكتاني، نشر دار الكتب العلمية. * النكت على ابن الصلاح، للحافظ ابن حجر، ت: ربيع المدخلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136