الكتاب: حاشية (الأصول الثلاثة لمحمد بن عبد الوهاب) المؤلف: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي القحطاني الحنبلي النجدي (المتوفى: 1392هـ) الناشر: دار الزاحم الطبعة: الثانية، 1423هـ-2002م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- حاشية ثلاثة الأصول عبد الرحمن بن قاسم الكتاب: حاشية (الأصول الثلاثة لمحمد بن عبد الوهاب) المؤلف: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي القحطاني الحنبلي النجدي (المتوفى: 1392هـ) الناشر: دار الزاحم الطبعة: الثانية، 1423هـ-2002م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة المصحح : لفضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أحمده سبحانه وأثني عليه، وأقر وأعترف أن الله هو ربي ومعبودي وأنه الإله الحق، وكل مألوه سواه باطل وضلال، وأدين له بالإذعان، وأستسلم لما أمر ودبر، وأشهد أن عبده محمداً مرسل من ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحابته، ومن سار على نهجه. وبعد: فإن ربنا بحكمته أوجد في هذا الكون جنس الإنسان، وميَّزه بالعقل والإدراك، وأسبغ عليه نعمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ظاهرةً وباطنةً، وكلفه لذلك أن يعرف ربه ومليكه معتبرا ًبما بين يديه وما خلفه من براهين ودلالات. ثم يعتقد أنه مدين له بحقوق يلزم القيام بها، ليظهر بذلك عبوديته وإذعانه لمليكه. ثم يعرف أن بيان تلك الحقوق إنما يتلقى عن الرسل الذين تتوقف نجاة العباد على اتباعهم، فيشهد أنهم بلغوا ما أُنْزِل إليهم، وأن خاتمهم وأفضلهم نبي هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وتعتبر هذه الأمور أساساً وقواعد لما يلزم العباد في هذه الدار، ولأهميتها وعظم شأنها يقع السؤال عنها في البرزخ، فما كان سائرا ًعلى ضوئها في هذه الحياة ألهم في قبره جواباً سديداً، {وَمَن كَانَ في هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ في الأَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء: 72] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ولما كانت هذه الأمة أفضل الأمم وأزكاها عند مليكها، كان إيضاح هذا الأصول في شريعتها أتم وأوفى. ولقد اعتنى علماء هذه الشريعة بهذه القواعد الأساسية، فذكروها ضمن عقائدهم مجملة أو مفصلة. ولم يسبق أحد إلى الكتابة فيها على حدة قبل الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -مجدد القرن الثاني عشر- أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب، فقد ظهر في زمن تفشت فيه العامية، وظهر فيه الشرك والابتداع في الدين، فألهمه الله أن كتب رسالة موجزة عرفت ? (ثلاثة الأصول) . فكانت موضع العناية ومحمل الاهتمام، بحيث كان الموحدون يجتهدون في حفظها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ويلقنونها لأطفالهم وعوامهم، فحفظ الله هذه الفرقة الناجية بسببها من الشُّبَهِ والفتن التي تصرف الفِطَر المستقيمة عن الطريق السوي. وقد شرحها الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم رحمه الله وأكرم مثواه بحاشية نفيسة، أوضح فيها مقاصد المؤلف ودلالة النصوص. وقد طبعت (ثلاثة الأصول) عشرات المرات وعم النفع بها، والحمد لله. أما حاشيتها فطبعت في عهد مؤلفها رحمه الله ثلاث طبعات. وقد بذلت ما استطعته من الجهد في تصحيحها للطبع بحسب الإمكان، والله الموفق والمعين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 قال المصنف قدس الله روحه: قررت ثلاثة الأصول توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، والولاء والبراء، وهذا هو حقيقة دين الإسلام. ولكن قف عند هذه الألفاظ واطلب ما تضمنت من العلم والعمل. ولا يمكن العلم إلا أنك تقف عند كل مسمى منها. ا?. ومن عجز لجهله أو عجمته عن معرفة ذلك فلا بد أن يعتقد بقلبه، ويقول بلسانه حسب طاقته، بعد أن يفسر له (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وأن ما جاء به حق، وكل دين سواه باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الشارح الحمد لله الذي شهدت بربوبيته وألهيته الكائنات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسموات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المؤيد بالآيات والمعجزات. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا. ً أما بعد: فإن ثلاثة الأصول لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدعوة والدين، محمد بن عبد الوهاب -أجزل الله له الثواب- قد جد الناس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 حفظها لعظم نفعها، وتشوقت النفوس لبيان معانيها لرصانة مبانيها، فوضعت عليها حاشيةً موضحةً لمعناها، مشجعةً لمن اقتناها. والله هو المسؤول أن ينفع بها، كما نفع بأصلها، إنه على كل شيء قدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 القواعد التي يجب على كل مسلم معرفتها بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ1 اعْلمْ رَحِمَكَ اللهُ2 أنه يجب علينا تعلم أربع   1 ابتدأ المصنف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز، وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكتباته ومراسلاته، وعملاً بحديث: "كل أمر ذي بال" أي: حال وشأن يهتم به شرعاً "لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع"، وفي رواية "أجذم" وفي رواية "أبتر" والمعنى من جميع الروايات: أنه ناقص البركة، والبداءة بها للتبرك والاستعانة على ما يهتم به. واقتصر على البسملة؛ لأنها من أبلغ الثناء والذكر وللخبر. 2 اعلم: فعل أمر من العلم، وهو حكم الذهن الجزم المطابق للواقع، أي: كن متهيئاً ومتفهماً لما يلقى إليك من المعلوم. وكلمة (اعلم) يؤتى بها عند ذكر الأشياء المهمة الذي ينبغي للمتعلم أن يصغي إلى ما يلقى إليه منها، وما أقره المصنف هنا من أصول الدين حقيق بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 مسائل1: الأولى: العلم2، وهو معرفة   يهتم به غاية الاهتمام، ويعتني به أشد الاعتناء، ويصغى إليه حقيقة الإصغاء. و (رحمك الله) : دعاء لك بالرحمة، أي: غفر الله لك ما مضى ووفقك وعصمك فيما يستقبل، وإذا قرنت الرحمة بالمغفرة فالمغفرة لما مضى، والرحمة: سؤال السلامة من ضرر الذنوب وشرها في المستقبل، وكثيراً ما يجمع رحمه الله -عندما يرشد الطالب بتقرير الأصول المهمة- بينها وبين الدعاء له، وهذا من حسن عنايته ونصحه وقصده الخير للمسلمين. 1 أي: يلزم كل فرد من أفراد المكلفين -ذكراً كان أو أنثى، حراً أو عبداً- تعلم أربع مسائل: جمع مسألة، من السؤال: وهو ما يبرهن عنه في العلم. والواجب: ما لا يعذر أحد بتركه، وعند الأصوليين: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه. فيجب على كل فرد منا العلم بهذه الأربع المسائل. 2 وهو معرفة الهدى بدليله. والعلم إذا أطلق فالمراد به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   العلم الشرعي الذي تفيد معرفته ما يجب على المكلف من أمر دينه. والعلم الشرعي على قسمين: فرض عين، وفرض كفاية. وما ذكر رحمه الله فهو فرض عين على الذكر والأنثى، والحر والعبد، لا يعذر أحد بالجهل به، وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه: "طلب العلم فريضة"، وقال أحمد: يجب أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه. قيل له: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله صلاته وصيامه ونحو ذلك، وقال المصنف رحمه الله: إن طلب العلم فريضة، وإنه شفاء للقلوب المريضة. وإن أهم ما على العبد معرفة دينه، الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار، أعاذنا الله منها. ا ?. فما كان واجباً على الإنسان العمل به كأصول الإيمان، وشرائع الإسلام، وما يجب اجتنابه من المحرمات، وما يحتاج إليه في المعاملات، ونحو ذلك مما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب عليه العلم به، بخلاف القدر الزائد على ما يحتاج إليه المعين فإنه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الله1، ومعرفة نبيه2، ومعرفة دين الإسلام   فروض الكفايات الذي إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، ثم إن طلب العلم فيما هو فرض كفاية أفضل من قيام الليل وصيام النهار والصدقة بالذهب والفضة. قال أحمد: تعلم العلم وتعليمه أفضل من الجهاد وغيره مما يتطوع به. ا ?. فإن العلم هو الأصل والأساس، وأعظم العبادات، وآكد فروض الكفايات، بل به حياة الإسلام والمسلمين، والتطوعات إنما هي شيء مختص بصاحبه لا يتعدى إلى غيره، وهو الميراث النبوي ونور القلوب، وأهله هم أهل الله وحزبه، وأولى الناس به وأقربهم إليه، وأخشاهم له وأرفعهم درجات. 1 أي: بما تعرف به إلينا في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أسمائه وصفاته وأفعاله، ولا يكون الإنسان على حقيقة من دينه إلا بعد العلم بالله سبحانه وتعالى. 2 صلى الله عليه وسلم فهو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ رسالة الله، ومعرفته فرض على كل مكلف، وأحد مهمات الدين. والنبي: رجل أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 بالأدلة1. الثانية: العمل به2.   أمر به فرسول. 1 أي: معرفة دين الإسلام الذي تعبد اللهَ الخلقَ به بالأدلة من الكتاب والسنة. والأدلة: جمع دليل، والدليل: هو ما يوصل إلى المطلوب، وفيه إشارة إلى أنه لا يصلح فيه التقليد، بل إذا لقي الله فإذا معه حجج الله وبراهينه، وهذا المقدار من العلم يجب تعلمه، بل يعمل المرء بشيء وهو لا يعرفه؟! وجهل الإنسان حقيقة ما أمر الله به من أعظم الإثم، والعمل بغير علم طريق النصارى، والعلم بلا عمل طريق اليهود، وقد أمرنا الله أن نسأله في كل ركعة أن يهدينا الصراط المستقيم، وهو طريق الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. 2 فالعمل: هو ثمرة العلم، والعلم مقصود لغيره، فهو بمنزلة الشجرة والعمل بمنزلة الثمرة، فلا بد مع العلم بدين الإسلام العمل به، فإن الذي معه علم ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الثالثة: الدعوة إليه1. الرابعة: الصبر على الأذى فيه2، والدليل   يعمل به شر من الجاهل، وفي الحديث: "أشد الناس عذاباً عالم لم ينفعه الله بعلمه"، وهو أحد الثلاثة الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة. وقد قيل: وعامل بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الوثن. 1 فإذا حصل له بتوفيق الله العلم بدين الإسلام والعمل به فيجب عليه السعي في الدعوة إليه، كما هي طريقة الرسل وأتباعهم. وأعلى مراتب العلم الدعوة إلى الحق وسبيل الرشاد، ونفي الشرك والفساد، فإنه ما من نبي يبعث إلى قومه إلا ويدعوهم إلى طاعة الله وإفراده بالعبادة، وينهاهم عن الشرك ووسائله وذرائعه، ويبدأ بالأهم فالأهم بعد ذلك من شرائع الإسلام. 2 لأن من قام بدين الإسلام ودعا الناس إليه فقد تحمل أمراً عظيماً، وقام مقام الرسل في الدعوة، وقصد أن يحول بين الناس وبين شهواتهم وأهوائهم واعتقاداتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 قَوْلُهُ تَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ1 (1) إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ 2 (1) إِلّا الَّذِينَ آمَنُوا3 وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ4 وَتَوَاصَوْا   الباطلة، فحينئذ لابد أن يؤذوه، فعليه أن يصبر ويحتسب. وهذه الأربع أوجب الواجبات. 1 أقسم تعالى بالعصر، وهو الدهر الذي هو زمن تحصيل الأرباح والعمال الصالحة للمؤمنين، وزمن الشقاء للمعرضين، ولما فيه من العبر والعجائب للناظرين. 2 أي: جنس الإنسان من حيث هو إنسان في خسار في مسعاه ولابد، إلا من استثنى الله في هذه السورة، وهو من قام بهذه الخصال: الإيمان بالله، والعمل الصالح في نفسه، وأمر غيره به، والصبر على ما ناله فيه. 3 استثنى سبحانه وتعالى الذين آمنو فإنهم ليسو في خسر، ففيه ما يوجب الجد والاجتهاد في معرفة الإيمان والتزامه، وفيه العلم، فإنه لا يمكن العمل بدون علم، وفيه حياة الإنسان. 4 أي: ليسو في خسر، بل فازوا وربحوا، لأنهم اشتروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 بِالْحَقِّ1 وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ2}   الآخرة الباقية بالدنيا الفانية، وفيه الحض على العلم، فإن العامل بغير علم ليس من عمله على طائل، وفيه العمل وهو ثمرة العلم. 1 أوصى بعضهم بعضاً بالإيمان بالله وتوحيده، وبالكتاب والسنة والعمل بما فيهما، ومنه الدعوة إليه. 2 أي: على أداء الفرائض، وإقامة أمر الله وحدوده، ويدخل فيه الحق الواجب والمستحب، وفيه الصبر على الأذى فيه، فإن من قام بالدعوة إلى الله فلا بد أن يحصل له من الأذى بحسب ما قام به. وفي هذه السورة الكريمة التنبيه على أن جنس الإنسان كله في خسار إلا من استثنى الله، وهو من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله، وقوته العملية بالطاعات، فهذا كماله في نفسه ثم كمل غيره بوصيته له بذلك وأمره به، وبملاك ذلك وهو الصبر، وهذا غاية الكمال. ومعنى ذلك في القرآن كثير، وقال ابن القيم: جهاد النفس أربع مراتب: أحدها أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 قال الشافعي رحمه الله تعالى1: لوما أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إِلا هَذِهِ السورة لكفتهم2   فاتها علمه شقيت في الدارين. الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بدون عمل إن لم يضرها لم ينفعها. الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما انزل الله من الهدى والبيّنات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله. الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله. فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به، ويعلمه، فمن علم وعمل وعلّم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء. 1 هو محمد بن إدريس القرشي، الإمام الشهير، المتوفى سنة أربع ومائتين، رحمه الله تعالى. 2 لعظم شأنها مع غاية اختصارها، لو فكر الناس فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وقال البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى1: بَابُ العِلْمُ قَبْلَ القول والعمل2، والدليل قوله تعالى:   1لكفتهم، لجمعها للخير بحذافيره، فإنها دلت على العلم والعمل، ة الدعوة إلى الحق، والصبر على الأذى فيه، فتضمنت جميع مراتب الكمال الإنساني، فهي حقيقة بأن يقال فيها ما قاله هذا الإمام الجليل، وقال شيخ الإسلام: هو كما قال، فإن الله أخبر أن جميع الناس خاسرون إلا من كان في نفسه مؤمناً صالحا، ومع غيره موصياً بالحق موصياً بالصبر. 1 هو محمد بن إسماعيل، جبل الحفظ، صاحب الصحيح الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله، المتوفى سنة مائتين وست وخمسين رحمه الله. 2 ترجم رحمه الله بالبدائة بالعلم، لأن تعلم العلم الفرض مقدم على القول والعمل، وذلك أن قول المرء وعمله لا يصلح إلا إذا صدر عن علم، وفي الحديث: "من عمل عملاً ليس عليه امرنا فهو رد"، وقد قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 1 [محمد: 19] . فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ2.   وكل من بغير علم ... أعماله مردودة لا تقبل وهل تمكن عبادة الله التي هي حقه على خلقه وخلقهم لها إلا بالعلم؟! 1 استدل المصنف رحمه الله بهذه الآية الكريمة على وجوب البدائة بالعلم قبل القول والعمل، كما استدل بها البخاري رحمه الله على صحة ما ترجم به، وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأمرين: بالعلم ثم بالعمل، والمبدوء به العلم في قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، ثم أعقبه بالعمل في قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فدل على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وان العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبر إلا به، فهو مقدم عليهما، لأنه مصحح النية المصححة للعمل. 2 حيث قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، ثم قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ، ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مسلم ومسلمة1 تعلم ثلاث هذه المسائل والْعَمَلُ بِهِنَّ2: الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا3، ولم يتركنا هملاً4، بل أرسل إلينا   وقال صلى الله عليه وسلم: " ابدأوا بما بدأ الله به". 1 مكلف من ذكر وأنثى، حر وعبد، وجوباً عيناً، يعاقب المرء على تركه. 2 أي: معرفتها، واعتقاد معانيهن، والعمل بمدلولهن، فإن العمل هو ثمرة العلم. 3 أي: أوجدنا بعد أن لم نكن شيئاً لعبادته، ورزقنا النعم لنستعين بها على ما خلقنا له. 4 أي: مهملين معطلين سدى، شبه البهائم لا نؤمر ولا ننهى، قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة: 36] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116] ، وفي الحديث القدسي: " خلقتك لأجلي فلا تلعب، وخلقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 رَسُولاً1، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ2، وَمَنْ عَصَاهُ دخل النار3، والدليل قوله تعالى: {إِنَّا   كل شيء لأجلك فلا تتعب"، بل خلقنا لنعبده وحده لا شريك له. 1 هو محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله بالهدى ودين الحق، وهذا أصل عظيم من أصول الدين يجب علينا معرفته، واعتقاده، والعمل بمقتضاه. 2 لأن طاعته طاعة لله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] ، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] . 3 أعاذنا الله منها {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] وقد أمرنا الله بطاعته ونهانا عن معصيته في غير موضع من كتابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ1 كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً2 (5) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ3 فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} 4 [المزمل/ 15، 14] .   1 معشر الثقلين بأعمالكم يوم القيامة، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} عدلاً خياراً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة: 143] 2 هو موسى كليم الرحمن عليه السلام كما أخبر الله به في غير موضع من كتابه. 3 أي: عصى فرعون رسول الله موسى عليه السلام. وأبا إلا التمادي في الكفر والطغيان. 4 شديداً مهلكاً، وذلك بإغراقه وقومه في البحر فلم يفلت منهم أحد، ثم بعد ذلك في عذاب البرزخ إلى يوم القيامة ثم على عذاب النار، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] ، أي يعرضون عليها في البرزخ يعذبون بها {غدواً} أول النهار {وعشياً} آخره {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدُ فِي عِبَادَتِهِ1 لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نبي   أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] فهذه عاقبة العاصين للرسل، وجزاء المخلفين لأمرهم، أي: فاحذروا أنتم أيها الأمة أن تعصوا نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم فيحل بكم، كما حل بهم من عقاب الله وأليم عذابه في الدنيا والبرزخ في الآخرة، نعوذ بالله من ذلك. وفي القرآن آيات كثيرة في بيان سعاة من أطاع الرسل وشقاوة من عصاهم. 1 فهو سبحانه المستحق لها وحده، ومن سواه لا يستحق شيئاً منها، وفي الحديث القدسي: "إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إليّ بالمعاصي"، ولأن الشرك أظلم الظلم قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وسمى الله المشرك ظالماً، لأنه وضع العبادة في غير موضعها، وصرفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مُرْسَلٌ1، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 2 [الجن: 18] .   لغير مستحقها، وأخبر تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر، وإنما يرضى لهم الإسلام، كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] ، وفي الحديث: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً.." الحديث 1 أي: لا يرضى سبحانه أن يجعل له شريك في عبادته، لا ملك مقرب عنده ولا نبي مرسل، يعني: فضلاً عن غيرهما من سائر المخلوقات. فإذا لم يرضَ بعبادة من كان قريباً منه كالملائكة. ولا نبياً مرسلاً _وهم أفضل الخلق_ فغيرهم بطريق الأولى، لأن العبادة لا تصلح إلا لله وحده، فكما أنه المتفرد بالخلق والرزق والتدبير فهو المستحق للعبادة وحده دون من سواه. 2 أي: وأن المواضع التي بنيت للصلاة والعبادة وذكر الله، أو أعضاء السجود لله فلا تعبدوا، نهي عام لجميع الخلق الإنس والجن فيها، أو بها مع الله أحداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَوَحَّدَ اللهَ1، لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ ورسوله2، ولو   و {أَحَداً} نكرة في سياق النهي شملت جميع ما يدعى من دون الله، سواء كان المدعو من دون الله صنماً، أو ولياً، أو شجرةً، أو قبراً، أو جنياً، أو غير ذلك، فإن دعاء غير الله هو الشرك الأكبر والذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة منه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116] ، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] 1 أي: المسألة الثالثة التي يجب على المكلف معرفتها، واعتقادها، والعمل بموجبها: أن من أطاع الرسول فيما أمر به، واجتنب ما نهى عنه ووحد الله في عبادته. 2 بل يجب عليه أن يصارمهم ويقاطعهم ويعاديهم أشد المعاداة. والمحادّون لله: وقد حرم الله موالاتهم على كل مسلم ومسلمة. والموالاة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ1. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ   الموادة، والصداقة ضد المعاداة. والمحادة هي: المجانبة والمخالفة والمغاضبة والمعاداة. ولها أيضاً عند أهل العلم معنيان: أحدهما: أن الكفار كانوا في حد والمؤمنون في حد، المؤمنون في حد الله ورسوله، وهو الإيمان، والمشركون في حد إبليس وجنوده، وهو الكفر. والقول الثاني: أنه ليس بين الكافرين والمسلمين إلا الحديد. يعني القتال بالحديد. 1 أي: ولو كان من حاد الله ورسوله ابنك أو أباك أو أخاك أو عشيرتك، فإن الله قطع التواصل والتوادد والتعاقل والتوارث، وغير ذلك من الأحكام والعلائق وقرب الإنسان بين المسلمين والكفار، فإن القرب هو في الحقيقة قرب الدين لا قرب النسب، فالمسلم ولو كان بعيد الدار فهو أخوك في الله، والكافر ولو كان أخوك في النسب فهو عدوك في الدين، وحرام على كل مسلم موالاتهم، بل يجب اتخاذهم أعداء وبغضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ1 وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ   1 خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر الإيمان الواجب {يُوَادُّونَ} أي: يوالون ويحبون من حاد الله ورسوله، وهم الكافرون، وإن كانوا أقرب قريب، فلا يجتمع الإيمان ومحبة أعداء الله، بل لا تجد المؤمنين إلا محادين من حاد الله ورسوله، معادين من عادى الله ورسوله، فإن الموادة: المحابة، مفاعلة من المحبة، ولا ريب أن الإيمان الواجب يوجب محادة من حاد الله ورسوله، كما أنه يستلزم محبة من يحب الله ورسوله وموالاتهم، فمن والى الكافرين فقد ترك واجباً من واجبات الإيمان، واستحق أن ينفي عنه الإيمان كما في النصوص. وكذا من ترك موالاة المؤمنين فقد ترك واجباً من واجبات الإيمان، واستحق أن ينفي عنه الإيمان ولا يلزم من نفيه عنهم أينتفي بالكلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ1 أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ2 وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ3 وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ   1 أي: لا يوادن من حاد الله ورسوله ولو كانوا الأقربين كما قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} [آل عمران: 28] أصدقاءً وأصحاباً {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] الآية، وقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة:24] .. إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وختمها بقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} فسماهم فاسقين بذلك. 2 أي: أولئك الذين لم يوادوهم أثبت الله في قلبهم الإيمان وأرساه، فهي موقنة مخلصة، وكتب السعادة وزين الإيمان في بصائرهم. 3 أي: قواهم بنصر منه، ونور قلوبهم بالإيمان والقرآن وحججه، وسمى نصره إياهم روحاً، لأن به أمرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ1 اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا2 عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ3 أَلا إِنَّ حِزْبَ   1 الجنة: أسم لدار جمعت أنواع النعيم الذي أعلاها النظر إلى وجه الله الكريم. {وَيُدْخِلُهُمْ} : أي يسكنهم جنات في دار كرامته التي أعدت للمتقين، وسميت باسم البساتين، لأنها أشجار مثمرة، وأنهار جارية، وقصور عالية تجري من تحت أشجارها ومساكنها المياه في الأنهار، وفي الحديث: "أنهار الجنة غير أخدود " {خَالِدِينَ} دائمين {فِيهَا} {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} . 2 وهذا أعلى مراتب النعيم وفيه سر بديع، وهو أنهم لما أسخطوا القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضى عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم والفضل العميم. 3 لما ذكر هذه النعم أتبعه ما يوجب ترك الموالاة لأعداء الله، فقال {أُولَئِكَ} أي: الموالون أولياء الله، المصارمون أعداء الله هم {حِزْبَ اللَّهِ} وأنصاره في أرضه، وعباده المقربون، وأهل كرامته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1 [المجادلة: 22] . اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ2 أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ: أَنْ تَعْبُدَ الله مخلصاً له الدين3،   1 الفائزون في الدنيا والآخرة، الناجون يوم القيامة، وفي الحديث، "اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يداً ولا نعمة، فإني وجدت فيما أوحيته إلي" {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] وظهر بهذا أنه يجب على كل مسلم مقاطعة المشركين ومنابذتهم. 2 هداك ووفقك لما ينفعك في دنياك وآخرتك، والرشد: الاستقامة على طريق الحق، ضد الغي 3 أي: الحنيفية طريقة وشريعة الخليل إبراهيم وجميع الأنبياء عليهم السلام، هي ما قررها به المصنف أن تعبد الله مخلصاً له الدين، فهذه هي حقيقة ملة إبراهيم عبادة الله بالإخلاص، والإخلاص: حب الله وإرادة وجهه، وعبادة الله بالإخلاص وترك ما سواه هي المذكورة في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وبذلك أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا1 قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2   حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] ، وفي قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] ، والحنيف: مشتق مكن الحنف، وهو الميل. فالحنيف: المائل عن الشرك قصداً إلى التوحيد، والحنيف: المستقيم المستمسك بالإسلام، المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه، وكل من كان على دين إبراهيم عليه السلام. 1 أي: وبالإخلاص في جميع ما تعبدنا الله به، الذي هو ملة إبراهيم أمر الله بها جميع الناس، وخلق لها جميع الثقلين الجن والإنس 2 أي: ما أوجد سبحانه وتعالى الثقلين إلا لحكمة عظيمة، وهذه الحكمة العظيمة هي عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، وأفادت أن الخلق لم يخلقوا عبثاً ولم يتركوا سدىً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 يَعْبُدُونِ: يُوَحِّدُونِ1، وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التوحيد2، وهو: إفراد الله بالعبادة3،   1 قال ابن عباس: كل موضع في القرآن {اعْبُدُوا اللَّهَ} فمعناه: وحدوا الله. وجاء أيضاً عبادة الله توحيد الله، والعبادة في اللغة: التذلل والخضوع، من قولهم: طريق معبد، أي: مذلل قد وطأته الأقدام، وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات، لأنهم يفعلونها لله خاضعين ذالين، ويأتي تعريفها في الشرع. 2 وهو أعظم فريضة فرضها الله على العباد علماً وعملاً، ولأجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، وبه تكفر الذنوب، وتستوجب الجنة، وينجى من النار. 3 فهو في الأصل من وحده توحيداً: جعله واحداً، أي: فرداً. ووحده: قال: إنه واحد أحد، وقال: لا إله إلا الله. والواحد الأحد: وصف اسم الباري لاختصاصه بالأحدية، وأقسام التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وهو: العلم أن الله رب كل شيء وخالقه. والثاني: توحيد الأسماء والصفات، وهو: أن يوصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وأعظم مَا نَهَى عَنْه الشِّركُ1، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ معه2. والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ   توحيد الإلهية، وهو إخلاص العبادة لله وحده بجميع أفراد العبادة. 1 الشرك: النصيب، واسم من أشرك بالله إذا كفر به، وهو أعظم ذنب عصي الله به، وأي ذنب أعظم من أن يجعل مع الله شريك في ألوهيته أو ربوبيته أو أسمائه أو صفاته، وكما أن الشرك أظلم الظلم وأبطل الباطل _كما تقدم_ فهو هضم للربوبية، وتنقص للألوهية، وسوء ظن برب العالمين، وهو أقبح المعاصي، لأنه تسوية للمخلوق الناقص بالخالق الكامل من جميع الوجوه. 2 أي: طلب غير الله مع الله، وسؤال غيره معه -منم ملك، أو نبي، أو ولي، أو شجرة، أو حجر، أو قبر، أو جني- والاستعانة به، والتوجه إليه، وغير ذلك من أنواع العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً 1} [النساء:36] . فَإِذَا قِيلَ لك: ما الأول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها   1 بأمر سبحانه عباده بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً، و {شَيْئاً} نكرة في سياق النهي، فعم الشرك قليله وكثيره، وقرن سبحانه العبادة التي فرضها على عباده بالنهي عن الشرك الذي حرمه، فدلت على أن اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة، وتسمى هده الآية: آية الحقوق العشرة، لأنها اشتملت على حقوق عشرة: أحدها: الأمر بالتوحيد، ثم عطف عليه التسعة الباقية. وابتداؤه تعالى بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك أدل دليل على أنه هو أهمها، فإنه لا يبدأ إلا بالأهم فالأهم، فدلت على أن التوحيد أوجب الواجبات، وأن ضده هو الشرك أعظم المحرمات. 2 أي: إذا سألك سائل، فقال لك: ما الأصول الثلاثة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فقل: معرفة العبد ربه1، ودينه2، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم3.   يجب على كل مكلف معرفتها والعمل بمقتضاها؟ 1 أي: بما تعرف به إليه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن وحدانيته، وأسمائه، وصفاته، وهذا أصل الأصول، فيجب علينا أن نعرفه على بصيرةٍ ويقين. 2 الذي تعبدنا به، وهو فعل ما أوجب علينا أن نفعله، وترك ما أوجب علينا أن نتركه، وهذا أصل عظيم فيجب علينا معرفته. 3 فإنه الواسطة بيننا وبين الله عز وجل، ولا طريق لنا إلى ما تعبدنا به إلا بما جاء به صلى الله عليه وسلم، وهو إن كان بشراً فأهمية معرفته من أهمية معرفة مرسله وما أرسل به، وذكر المصنف رحمه الله هذه الأصول الثلاثة مجملة، ثم ذكرها بعد ذلك مفصلة أصلاً أصلاً، تتميماً للفائدة، وتنشيطاً للقارئ، فإنه إذا عرفها مجملة وعرف ألفاظها وضبطها بقي متشوقاً إلى معرفة معانيها، وهي المقصود بهذه النبذة وما تقدمها من المسائل، فلعل بعض تلاميذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ1؟ فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي2، وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ3،وهو معبودي ليس لي معبود   قرنها بها 1 هذا مشروع في تفصيل الأصول الثلاثة التي تقدمت مجملة ذكرها هنا مفصلة، فكأنه قال: الأصل الأول من أصول الدين الثلاثة التي يجب على العبد معرفتها، إذا قال لك قائل: من ربك؟ أي: من خالقك ورازقك ومعبودك الذي ليس لك معبود سواه؟ 2 أي: فقل ربي هو اله خالقي ومالكي ومعبودي الذي أوجدني من العدم، ورباني بالنعمة الظاهرة والباطنة. 3 أجدهم من العدم وغذاهم بالنعم، ونعم الله لا تحصى، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] ، فلله نعمة الإيجاد، ونعمة التغذية، وسائر نعمه الظاهرة والباطنة، قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] أي: مضى عليه زمن طويل من العصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 سِوَاهُ1. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ2} [الفاتحة: 1] ، وكل من سوى   والدهور لم يكن فيها شيئاً مذكوراً، أي: موجوداً بل معدوماً وإنما أوجده الله من العدم ورزقه من النعم، ليعبده وحده. 1 أي: هو وحده مألوهي لا غيره، كما انه سبحانه وتعالى المنفرد بالخلق والرزق والتدبير، فهو وحده المستحق بأن يعبد وحده دون سواه، وهذا مدلول كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله) . 2 الحمد: هو الثناء على المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، والاسم الشريف علم على ربنا تبارك وتعالى لا يسمى به سواه، والرب المليك والسيد، ولا يطلق إلا على الله تعالى، ورب مضاف، والعالمين مضاف إليه، والمراد: جميع المخلوقات. وهذه الآية هي أول آية في المصحف بعد البسملة في أول سورة، وآخر دعوى أهل الجنة، وفيها تفرده بجميع الخلق وربوبيتهم وملكهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الله عالم1 وأنا واحد من هذا العالم2. فإذا قيل لك: بما عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ 3، فَقُلْ بِآيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ4. وَمِنْ آيَاتِهِ: الليل   وتصرفه فيهم بما يشاء، وهو معبودهم ليس لهم معبود سواه، فإن الرب إذا أفرد دخل فيه المعبود، فهو المالك المتصرف، المعبود وحده دون كل من سواه. 1 وجمعه: عوالم وعالمون، فالوجود قسمان: رب، ومربوب. فالرب: هو المالك سبحانه، المتفرد بالربوبية والإلهية، والمربوب: هو العلم، وهو كل من سوى الله من جميع الخلائق. 2 أي: وأنا أيها الإنسان واحد من جملة تلك المخلوقات المربوبة المتعبدة بأن يكون الله وحده هو معبودها وحده. 3 أي: فإذا قال لك قائل: بما استدللت على معرفتك ربك ومعبودك وخالقك؟ 4 أي: فقل: عرفته بآياته ومخلوقاته التي نصبها دلالة على وحدانيته وترده بالربوبية والإلهية، والآيات: جمع آية، والآية: العلامة والدلالة والبرهان والحجة. والمخلوقات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   جمع مخلوق وهو ما أوجد بعد العدم، وآيات الرب سبحانه هي دلالاته وبراهينه التي بها يعرفه العباد، ويعرفون أسمائه وصفاته وتوحيده وأمره ونهيه، وآياته العيانية الخلقية، والنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية والسمعية، والرسل تخبر عنه بكلامه الذي تكلم به وهو آياته القولية، ويستدلون على ذلك بمفعولاته التي تدل تشهد على صحة ذلك، وهي آياته العيانية، والعقل يجمع بين هذه وهذه، فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر، والعقل والفطرة، وكل شيء من آياته ومخلوقاته دال على وحدانيته وتفرده بالربوبية، كما قال الشاعر: فوا عجباً كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبداً شاهد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 والنهار1، والشمس .....   وقال آخر: تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات ... بأبصار هي الذهب السبيك على قصب الزبرجد ساجدات ... بأن الله ليس له شريك وقال آخر: تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملك الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل فإيجاد هذه المخلوقات أوضح دليل على وجود الباري تعالى وتفرده بالربوبية والإلهية، ونعرف ربنا تبارك وتعالى أيضاً بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم بالطرق الدالة على ذلك، وهي كثيرة، فالكتاب والسنة مملوءة بذلك 1 أي: ومن أعظم آياته المشاهدة بالإبصار الليل والنهار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 والقمر1، ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما2.   وكون الليل يأتي على النهار فيغطيه وكأنه لم يكن، ثم يأتي النهار ويذهب بظلمة الليل حتى كأن الليل لم يكن، فمجيء هذا وذهاب هذا بهذه الصفة وهذه الصورة المشاهدة دال أعظم دلالة على وحدانية خالقه وموجده. 1 أي: ومن أعظم آياته المشاهدة بالإبصار الشمس والقمر.. وكونهما يجريان هذا الجريان المتقن {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] دال أعظم دلالة على وحدانية موجدهما تعالى وتقدس. 2 أي: ومن أعظم مخلوقات الله الدالة على وحدانيته تعالى السماوات السبع وسعتها وارتفاعها، والأرضون السبع وامتدادها وسعة أرجائها، وما في السماوات السبع من الكواكب الزاهرة، والآيات الباهرة، وما في الأراضين السبع من الجبال والبحار، وأصناف المخلوقات من الحيوانات والنباتات وسائر الموجودات، وما بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 والدليل قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ1 لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ2 وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ   السماوات والأرض من الأهوية والسحاب، وغير ذلك دال على وحدانية الباري جل جلاله، وعلى تفرده بالخلق والتدبير. 1 أي: ومن حجج وحدانيته تعالى وبراهين فردانيته الدالة على ما ذكره المصنف، ما تعرف به تعالى إلينا بما نراه من مخلوقاته، ومنها الليل والنهار، فمجيء هذا وذهاب هذا من دلائل قدرته وحكمته الدالة على وحدانيته، والشمس والقمر مخلوقان مسخران دائبان يجريان دالان على تفرده تعالى بالخلق والتدبير. وهذا وجه استدلال المصنف بالآية هـ?هنا. 2 لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم، والشمس والقمر مخلوقان متصرف فيهما، يعتريهما التغير فلا يستحقان أن يسجد لهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 تَعْبُدُونَ1} [فصلت: 37] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ2 ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ3 يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ   1 أمر عباده أن يفردوه بالعبادة وحده، فكما أنه المتفرد بخلق الليل والنهار والشمس والقمر، وسائر المخلوقات، فهو المستحق أن يعبد وحده لا شريك له. 2 أي: ومن أعظم الدلائل والمعرفات التي تعرف بها سبحانه على عباده خلق السماوات والأرض من غير مثال سبق، وتقدير أوقاتها فيها في ستة أيام، وأصل الخلق إيجاد المعلوم على تقدير واستواء، وإبداعه من غير أصل سابق ولا ابتداء متقدم، قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 101] ، وقال: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1] . 3 استواء يليق بجلاله وعظمته. قال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وبهذا قال السلف، وأدلة علوه على خلقه واستوائه على عرشه أكثر من أن تحصر، وأجمع المسلمون على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 يَطْلُبُهُ حَثِيثاً1 وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ2 أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ3 تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ4} [الأعراف: 54] والرب: هو   1 أي: يأتي بالليل فيغطي النهار ويلبسه إياه حتى يذهب بنوره ويغشى النهار بالليل {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} طلباً سريعاً لا يفصل بينهما شيء ولا يدرك أحدهما الآخر. 2 مذللات جارية في مجاريها بأمر الله لا تتقدم ولا تتأخر، وإذا تأملت هذا العالم وجدته على أحسن نظام وأتمه، وأدله على وجود خالقه جل وعلا، ووحدانيته وقدرته، وكمال علمه وحكمته. 3 فهو المتفرد بالخلق، كما انه التفرد بالأمر، فلا شريك له في الخلق، كما انه لا شريك له في الأمر، له الخلق كله، وله الأمر كله، وبيده الخير كله، وهو على كل شيء قدير {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] . 4 أي: بلغ في البركة نهايتها، إله الخلق ومليكهم، وموصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الْمَعْبُودُ1. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ2 الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ   الخيرات إليهم، ودافع المكاره عنهم، والمتفرد بإيجادهم وتدبيرهم، لا إله إلا هو ولا رب سواه. 1 أي: ومن معاني الرب، ومما يطلق عليه: المعبود، كما انه يطلق على الخالق والرزاق والمالك والمتصرف ومربي جميع الخلق بالنعم، وإذا قرن بالمعبود شمل معاني عديدة، ومعنى المعبود: المألوه المستحق أن يعبد وحده دون كل من سواه. 2 هذا خطاب لجميع الخلق، وهو أول أمر يمر بك في المصحف الكريم، كما أن أول فعل يمر بك {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وتقديم المعمول هنا يفيد الحصر، أي: لا نعبد سواك، كما أن أول شيء دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 32] ومعنى {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، ومعنى قول الرسول {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 32] ، ومعنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   =نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] هو ما فسره ابن عباس بقوله: كل موضع في القرآن {اعْبُدُوا اللَّهَ} فمعناه: وحدوا الله، وقال: عبادة الله: توحيد الله، يعني: اعبدوه وحده دون كل من سواه، وهذا يفيدك: عظم شأن التوحيد، وانه أوجب الواجبات، وأنه أول فرض على المكلف علماً وعملاً، وهو مدلول شهادة (أن لا إله إلا الله) ، التي أوجب الواجبات العلم بمعناها، والعمل بما دلت عليه، من إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك وأهله، وصدور العبادة من غير توحيد لا يسمى عبادة، وليس بعبادة، وإذا صدرت ممن أشرك فيها مع الله غيره فهي بمنزلة الجسد الذي لا روح فيه، وإذا عبد الله تارة، وأشرك معه تارة فليس بعابد لله على الحقيقة، كما سمى الله المشركين مشركين وهم يعبدون الله ويخلصون له العبادة في الشدائد، وعند ركوب البحار وتلاطم الأمواج يهربون ويفزعون ويلجئون إليه تعالى وحده، ويعرفون أن تلك الآلهة ليست شيئاً في الحقيقة، وأنها لا تنفعهم عند الكروب، ومع ذلك كله سماهم الله مشركين، بل نفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ1 (1) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً2 وَالسَّمَاءَ بِنَاءً3 وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ4 فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ   عنهم تلك العبادة بالكلية في غير موضع من كتابه، ولم يرد في العبادة إلا إفراده تعالى بجميع أنواعها، فمن أطاعه في جميع ما أمره به منها فقد وحده وإلا فلا، وكونه تعالى ربنا يفيد ويقتضي أن نعبده وحده، وأن لا نجعل له شريكاً في ربوبيته، ولا في ألوهيته وعبادته. 1 أي: الذي أوجدكم ومن قبلكم من العدم، فلا تجعلوا المخلوق شريكاً للخالق في عبادته، فهو سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، بل وحدوه سبحانه لعلكم تنجون من عقابه وأليم عذابه. 2 أي: بسطاً غير حزنة، تتمكنون من المسير فيها، والمكث على ظهرها، وتنتفعون منها بأنواع المنافع. 3 قبة مضروبة عليكم، وسقفاً محفوظاً مزيناً بالمصابيح، والعلامات التي تهتدون بها في ظلمات البر والبحر. 4 أي: وانزل من السحاب المطر، فإن كل ما علاك فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ1} [البقرة:21،22] . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله تعالى2: الخالق   سماء، فأخرج بالماء من جميع أنواع الثمرات رزقاً لكم تتمتعون به، وتستعينون به على عبادته وحده، وكل صفة من هذه الصفات مفيدة ومقتضية إفراد رب العالمين بالعبادة. 1 أي: ومن كان هذا وصفه فهو المستحق أن تعبدوه وحده، لا تجعلوا له أنداداً: أمثالاً ونظراء بصرف شيء من أنواع العادة لهم، وأنتم تعلمون أنها لا تماثله بوجه من الوجوه، أو كنتم تعلمون تفرده بإيجاد المخلوقات، وإنزال المطر، وجعل الأرض فراشاً، والسماء بناء، وأنه لا يرزقكم غيره، يحتج تعالى عليهم بما أقروا به وعلموه من توحيد الريبوبية على ما جحدوه وأنكروه من توحيد الألوهية، فإنه تعالى كثيراً ما يقرر في كتابه توحيد ألوهيته بتوحيد ربوبيته، فإن توحيد الربوبية هو الدليل الأوضح والبرهان الأعظم على توحيد الألوهية. 2 هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 لِهَذِهِ الأَشْيَاءَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ1. وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا2 مِثْلُ: الإِسْلامِ، وَالإِيمَانِ، والإحسان3، ومنه:   الدمشقي الحافظ صاحب التفسير المشهور والتاريخ وغيرهما، المتوفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة. 1 يعني: أن الآيات دلت على أن الذي خلق هذه الأشياء وأوجدها من العدم على غير مثال سبق وهو المستحق للعبادة وحده دون من لم يكن له شركة فيها ولا في غيرها وإن قل، بل من سواه تعالى وتقدس مخلوق مربوب متصرف فيه، فيكون بذلك أوضح برهان أنه سبحانه هو المستحق أن يعبده وحده دون كل من سواه، لا إله غيره ولا رب سواه. 2 أي: وأصناف العبادة التي شرع الله لعباده القيام بها، وتعبدهم بها. والنوع: كل ضرب أو صنف من كل شيء، وهو أخص من الجنس. 3 مثل الشيء: شبيهه ونظيره، وهذه الثلاثة أعلى مراتب الدين وأهم أنواع العبادة، فلذلك بدأ بها المصنف رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الدُّعَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالْخُشُوعُ، وَالْخَشْيَةُ، وَالإِنَابَةُ، وَالاسْتِعَانَةُ، وَالاسْتِعَاذَةُ، وَالاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ1 الَّتِي أَمَرَ الله بها2، كلها لله   1 يعني: أن أنواع العبادة ليست مخصوصة بهذه الأنواع ولا محصورة في هذه الأنواع التي أعدها رحمه الله، بل هي أنواع كثيرة جداً. 2 إشارة إلى بعض حدودها عند بعض العلماء أنها ما أمر به شرعاً من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، وللعلماء فيها تعاريف كثيرة، وأحسن وأجمع ما عرفت به هو ما عرفها به شيخ الإسلام بقوله: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وعد نحواً مما عده المصنف، وهو من أشمل ما عرفت به، فكل فرد من أفراد العبادة داخل تحت هذه العبارة، فيدخل فيها كما ذكر ويدخل فيها ما شمله الحد، فالعبادة شملت جميع أنواع الطاعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 تَعَالَى1، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً2} [الجن:18] ، فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شيئاً لغبر الله فهو مشرك كافر3،   1 أي: كل جميع أنواع العبادة مما ذكر وغيره لله وحده، لا يصلح منه شيء لغير الله عز وجل، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، ولا أضل ولا أظلم ممن يجعل لمخلوق مربوب منها شيئاً. 2 في المساجد تفسيران: أحدهما: أنها المواضع التي بنيت لعبادة الله، فالمعنى: أنها إنما بنيت لعبادة الله وحده فلا تعبدوا فيها غيره، والثانية: أنها الأعضاء التي خلقها ليسجد له عليها، وهي الوجه واليدان والركبتان والقدمان، فلا يسجد بها لغيره، و {أَحَداً} كلمة شاملة عامة، نكرة في سياق النهي، شملت الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين وغيرهم، فلا يدعى مع الله أحد من الملائكة ولا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، فقد شملت جميع الخلق. 3 أي: فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة التي ذكر المصنف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 والدليل قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ1 فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ2} [المؤمنون: 117] ،   رحمه الله تعالى مثل: أن دعا غير الله من الأموات والغائبين، أو رجاهم، أو خافهم، أو سألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، أو غير ذلك _فهو مشرك الشرك الأكبر، المخرج من الملة، كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة، والشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد، وهو: الكفر بالله، واسم لمن لا إيمان له، وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بقصد الأوثان وغيرها من المخلوقات، مع الاعتراف بالله، فيكون الكفر أعم. 1 أي: ومن أشرك بالله لا حجة له ولا بينة، لأنه لا حجة لأحد في دعوى الشرك، و {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} صفة أخرى لإلهاً لازمة له، جيء بها للتأكيد، أو جملة معترضة بين الشرط والجزاء. 2 أي: الله يحاسبه على ذلك فيجازيه بما يستحقه على شركه، ثم أخبر أنه لا يفلح الكافرون، فسماهم كافرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة" 1،   لدعائهم مع الله غيره، ولا ينازع مسلم في كفر من دعا مع الله غيره، وفي الآية أوضح برهان على كفر من دعا مع الله غيره، سواء كان المدعو ملكاً أو نبياً أو شجرة أو قبراً أو جنياً. 1 هذا شروع في ذكر أدلة أنواع العبادة التي عدها مجملة، فأما الإسلام والإيمان والإحسان فسيأتي مفصلاً في الأصل الثاني، وبدأ بعدها بالدعاء، لأنه أهمها. فقال: وفي الحديث _يعني: عن النبي صلى الله عليه وسلم_: " الدعاء مخ العبادة"، ومخ الشيء خالصه، وفي لفظ: " الدعاء هو العبادة"، وأتى صلى الله عليه وسلم فيه بضمير الفصل والخبر المعرف بالألف واللام، ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء، وإنما هي الدعاء نفسه، ثم الدعاء نوعان: دعاء مسألة: وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو دفع ضر. والنوع الثاني: دعاء عباده، بأي نوع من أنواع العبادة، وهو ما لم يكن فيه سؤال ولا طلب، وهذا الحديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مقروناً بالآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 والدليل قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ1 إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ2} [غافر: 60] . وَدَلِيلُ الْخَوْفِ3 قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَخَافُوهُمْ   1 أمر تعالى عباده أن يدعوه، ووعدهم أن يستجيب لهم، فدل على أن الدعاء عبادة، بل هو أجل العبادات وأساسها، ودل على أنه سبحانه يحب من عباده أن يدعوه، وأن الدعاء مما يحبه الله. وفي الحديث: "من لم يدع الله"، وفي رواية "من لم يسأل الله يغضب عليه". 2 سمي الدعاء عبادة، وجاء في القرآن في غير موضع أنه عبادة فصرفه لغير الله شرك أكبر، وأخبر تعالى أن الذي منعهم من عبادة الله هو الاستكبار فجوزوا بهذا الجزاء الفظيع وهو دخولهم جهنم صاغرين ذليلين حقيرين، وعقوبة لهم على ما تركوه من عبادة الله التي فرضها عليهم. 3 وأنه عبادة من العبادات القلبية، بل هو ركن العبادة الأعظم، ولا يستقيم إخلاص الدين لله الذي أمر الله به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ1} [آل عمران:175] ، وَدَلِيلُ الرجاء2 قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ   عباده إلا به. والخوف: مصدر خاف إذا فزع ووجل، لكن الخوف يتعلق بالمكروه، والفزع بما فجأ منه، وهو: انزعاج القلب بتوقع مكروه عاجل، والوجل من غير متعد، والخوف من متعد. 1 أول الآية: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} يعظهم في صدوركم ويوهمكم أنهم ذوو بأس، فنهاكم أن تخافو أولياءه الذين خوفكم إياهم {وَخَافُونِ} في مخالفة أمري، وتوكلوا علي فإني كافيكم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} جعله شرطاً في صحة الإيمان، فكما انه إذا دعا غير الله انتفى عنه الإيمان، فكذلك إذا خاف غير الله خوف السر، مثل أن يخاف أن يفعل شيئاً بسره، فإن الخوف أنواع منها: خوف السر، فإذا خاف من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر. 2 وأنه عبادة قبيلة من اجل العبادات، فصرفه لغير الله شرك اكبر، والرجاء بمعنى: التوقع والأمل ممدود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً1 وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً2} الكهف:110 [. ودليل التوكل3   1 أي: فمن كان يرجو ثواب الله ويخاف عقابه ويرجو المصير إليه ويأمل لقاءه ورؤيته، وفسر بالمعاينة {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} وهو ما كان موافقا لشرع الله مقصودا به وجهه. 2 أي: لا يجعل مع الله شريكا في عبادته، فإن العبادة لا تصلح إلا لله وحده لا شريك له، فـ {أحدا} نكرة في سياق النفي تعم كل مدعو من دون الله من الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين وغيرهم، فإنه إذا رجا غير الله فهو مشرك الشرك الأكبر وركنا العمل المتقبل: أن يكون خالصا لله، وأن يكون صوابا على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. 3 وهو صدق التفويض والاعتماد على الله في جميع الأمور, وإظهار العجز والاستسلام له، وتوكل عليه واتّكل: استسلم إليه واعتمد عليه, ووكل إليه أمره وسلمه إليه, وعبادة من أجل العبادات, بل هو أجل أنواع العبادة وأعلى مقامات التوحيد فلا يفوض عبدا أموره ولا يعتمد إلا على الله عز وجل, فهو القادر على كل شيء, بيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ1} [المائدة:23] ، وقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ   الملك وهو على كل شيء قدير, وإذا كان كذلك فالمخلوق وإن كان له نوع قدرة فلا يعتمد عليه, ولو في ما أقدره الله عليه, بل يعتمد العبد على الله عز وجل وحده, فالتوكل عبادة قلبية, فإن اعتمد على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فذلك هو الشرك الأكبر, وإن اعتمد على الأحياء الحاضرين والسلاطين ونحوهم في ما أقدرهم الله عليه, من رزق أو دفع أذى ونحوه فهو نوع شرك أصغر, والمباح أن يوكل شخصا بالنيابة في التصرف في أمور دنياه, لكن لا يقول: توكلت عليه, بل وكّلته, فإنه ولو وكله فلا بد أن يتوكل في ذلك على الله عز وجل وحده. 1 فإخلاص التوكل على الله شرط في صحة الإيمان , ينتفي عند انتفائه, فإن تقديم المعمول وهو قوله {وَعَلَى اللهِ} على العامل وهو كلمة (توكلوا) يفيد الحصر, أي: عليه وحده {فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لا على غيره, وهذه قاعدة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ1} [الطلاق:3] وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْخُشُوعِ2 قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ   1 الحسب معناه: الكافي , وهذه الآية دليل ثان ذكره المصنف رحمه الله على أن التوكل عبادة من أجل أنواع العبادة, فمعنى الآية {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: يعتمد عليه أموره فهو كافيه, ومن كان الله كافيه فلا مطمع لأحدٍ فيه, ولم يذكر تعالى للتوكل جزاء غير تولي كفايته العبد, فقال: {فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يأتي في غيره من العبادات, فدل على عظم شأن التوكل وفضيلته, وأنه أجل أنواع العبادة, فصرفه لغير الله شرك أكبر. 2 وأنّها عبادات قلبية, من أجّل العبادات, وصرفها لغير الله شرك أكبر. والرغبة: السؤال والطلب, والابتهال والتضرع, والرهبة: الخوف والفزع, والخشوع: التطامن والتذلل, وهو قريب من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن, والخشوع في القلب والبصر والصوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَيَدْعُونَنَا رَغَباً1 وَرَهَباً2 وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ3} [الأنبياء:90] وَدَلِيلُ الْخَشْيَةِ4 قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي5} [البقرة:150]   1 يعني: الأنبياء الذين سمّاهم الله في هذه السورة يبادرون ويسابقون في عمل القربات والطاعات. 2 {رَغَباً} في رحمة الله, {وَرَهَباً} من عذاب الله. 3 خاضعين متذللين, فدلت الآية على أن هذه الثلاثة الأنواع من أجلّ أنواع العبادة, فمن صرف شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر. 4 فعلة من خشيه: خافه واتقاه, فهي بمعنى الخوف, لكنها أخص منه, وهي من أجل أنواع العبادة وصرفها لغير الله شرك أكبر. 5 أي: لا تخشوا الناس فإني وليكم واخشوني وحدي, فإنه تعالى هو أهل أن يخشى وحده, فأمر تعالى بخشيته وحده, ونهى عن خشية غيره, كما في الآية الثانية {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} أي: لا تخافوا منهم, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ2} [الزمر: من الآية54] . ودليل   {وَاخْشَوْنِ} أي: خافوا مني, أي: إلى آخر الآية, أو اقرأ الآية, فدلت الآيتان وما في معناهما على أن الخشية عبادة من أجلّ العبادات, فصرفها لغير الله شرك أكبر. 1 وأنها من أجلّ أنواع العبادات, وهي التوبة, بل أعلى مقام التوبة, فإن التوبة: الإقلاع عن الذنب, والندم على ما فات, والعزم أن لا يعود إليه, والإنابة تدل على ذلك, وتدل على الإقبال على الله بالعبادات, والإقبال على الله رجوع عما لا ينبغي بالكلية وقصد إلى ما ينبغي من رضاه. 2 أي: وأقبلوا إلى ربكم وارجعوا إليه بالطاعة {وَأَسْلِمُوا لَهُ} , أخلصوا له التوحيد {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر: من الآية54] . أي: بادروا بالتوبة إلى العمل الصالح قبل حلول النقمة, وأمره تعالى عباده بالإنابة ظاهر في أنها عبادة, وأنه يحبها شرعاً وديناً, فصرفها لغير الله شرك أكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الاسْتِعَانَةِ1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ2} [الفاتحة:5] وفي الحديث: إذا استعنت فاستعن   1وأنها عبادة, بل أجلّ العبادات, وهي تجمع أصلين: الثقة بالله, والاعتماد عليه, قال شيخ الإسلام: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال الله العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . 2 الدين كله يرجع إلى هذين المعنيين, وسر الخلق والكتب والشرائع والثواب والعقاب يرجع إلى هاتين الكلمتين, وعليهم مدار العبودية والتوحيد, والأول: تبرؤ من الشرك, والثاني: تبرؤ من الحول والقوة, وهذا المعنى في غير آية من كتاب الله, وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر, أي نستعين بك وحدك دون كل من سواك, فهذا النوع أجلّ أنواع العبادة, فصرفه لغير الله شرك أكبر, وكذا قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي: لا نعبد أحدًا سواك, فالعبادة لله وحده والاستعانة به وحده جلّ وعلا وتقدّس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بالله"1 ودليل الإستعاذة2 قوله تعالى: {قُلْ   1 هذه قطعة من حديث جليل رواه الترمذي وصححه من حديث ابن عباس, أوله "احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك" أي: احفظ حدوده وأوامره يحفظك حيث توجهت, "إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله", وهذا كأنه منتزع من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: من الآية32] ولا يحصل للعبد مطلوبه إلا إذا كان سائلاً الله مستعيناً به وحده, معتمداً عليه في جميع أموره وفي هذا الحديث حصر الاستعانة بالله وحده دون غيره من الخلق, والدلالة على أنها أجلّ العبادات, وعليها مدار الدين, فإذا استعان أحد بغير الله فهو مشرك الشرك الأكبر. 2 وأنها عبادة من أجلّ أنواع العبادات, والاستعاذة هي: الالتجاء والاعتصام والتحرز, وحقيقتها الهرب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه, والعياذ لدفع المكروه, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ1} [الفلق:1] وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ2} [الناس:1]   واللياذ لطلب المحبوب, قال الشاعر: يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به فيماأحاذر لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره. 1 أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ بفالق الإصباح من شر جميع المخلوقات, ومن شر الغاسق والحاسد, والفلق: الصبح, وقيل سبب تخصيص المستعيذ به: أن القادر على إزالة هذه الظلمة عن العالم هو القادر أن يدفع عن المستعيذ ما يخافه ويخشاه. 2 أمر نبيه صلى لله عليه وسلم أن يستعيذ به من الوسواس الخناس, يعني: الشيطان الجاثم على قلب الإنسان, فإذا ذكر الله خنس, وإذا غفل وسوس, وذكر تعالى ثلاث صفات من صفاته: الربوبية, والملك, والإلهية. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم, وأخبر أنه لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ2} [الأنفال:9]   يتعوذ متعوذ بمثل هاتين السورتين, والأمر بالاستعاذة به تعالى كثير في الكتاب والسنة, منها قوله تعالى: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: من الآية36] {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: من الآية67] {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] ومن السنة: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" , فدل على أن الاستعاذة بالله عبادة من أجلّ العبادات فصرفها لغير الله شرك أكبر. 1 وأنها عبادة من أجل العبادات وأفضل أنواعها, وهي أخص أنواع الدعاء, فإن دعاء المكروب يقال له: استغاثة, والاستغاثة هي طلب الإغاثة, وهو الإنقاذ من الضيق والشدة, وأكثر ما يقال غياث المستغيثين, أي: مدرك عباده في الشدائد إذا دعوه, ومجيبهم ومخلِّصهم, فإذا صرفها أحد لغير الله كأن يستغيث بالأصنام أو الأموات أو الغائبين أو نحوهم فهو مشرك كافر. 2 أي: إذ تستجيرون ربكم وتطلبون منه الغوث فاستجاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ودليل الذبح1 قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ2} [الأنعام:162،163]   لكم, وذلك أنه لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كثرة المشركين جعل يهتف بربه ويناشده, فأمدّه الله بالنصر على عدوه, فقتلوا وأسروا, وظهر الإسلام, وسمي يوم الفرقان, فدلت الآية على أن الاستغاثة عبادة فصرفها لغير الله شرك. 1 أي: ذبح القربان لله تعالى من الضحايا والهدايا ونحو ذلك, وأنه عبادة من أفضل العبادات وأفضل القربات إلى الله تعالى, والذبح يقال للبقر والغنم, وأما الإبل فالنحر, ويجوز العكس, وعبر بالذبح, لأنه الأكثر. 2 أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله, ويذبحون لغيره: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} أي: ذبحي, والناسك: المخلص لله, {وَمَحْيَايَ} أي: ما أحيا عليه من العمل الصالح, {وَمَمَاتِي} أي: ما أموت عليه, {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ} في شيء من ذلك, ولا في غيره من أنواع العبادة, {وبذلك} القول والطريق {أمرت} , وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   جمع تعالى بين هاتين العبادتين اللتين هما أفضل العبادات وأفضل القربات لله تعالى في هذه الآية, كما جمع بينهما في الآية الثانية, وهي قوله {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أي: أخلص لربك الصلاة ونحر البدن ونحوها على اسمه وحده. فالصلاة أفضل العبادات البدنية, والذبح أفضل العبادات المالية, وإنما كان الذبح أفضلها , لأنه يجتمع فيه أمران: الأول: أنه طاعة لله, والثاني: أنه بذل ماله وطابت به نفسه, والبذل مشترك في جنس المال, لكن زاد الذبح على غيره, من حيث أن الحيوانات محبوبة لأربابها, يوجد لذبحها ألم في النفوس من شدة محبتها, فإذا بذله لله وسمحت نفسه بإيذاق الحيوان الموت صار أفضل من مطلق العبادات المالية, وكذلك ما يجمع له عند النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن بالله أمر عجيب فصرفه لغير الله شرك أكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وَمِنَ السُنَّةِ1 "لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله2".   1 أي: والدليل على أن الذبح عبادة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أمرنا بإتباعها, وقال: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي"، وقال: "عليكم بسنتي" وقال: " تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك". 2 اللعن: الطرد والإبعاد، والملعون: من حقت عليه اللعنة أو دعي بها عليه, واللعن من الخلق: السب, وقال شيخ الإسلام: "إن الله يلعن من استحق اللعن بالقول, كما يصلي على من استحق الصلاة من عباده, وقال: وما ذبح لغير الله مثل أن يقول: هذه ذبيحة لكذا, وتحريمه أظهر من تحريم ما ذبح للحم, وقال فيه: بسم المسيح أو نحوه, وإذا حرم فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو قصد به أولى".اهـ. ودل الحديث على أن الذبح عبادة, لأن الله لعن من صرفه لغيره, والعبادة كلها مختصة بالله, فإذا صرفها أحد لغير الله بأن ذبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وَدَلِيلُ النَّذْرِ1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ2 وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرا3ً} [الإنسان:7]   للأصنام أو للقبور المعبودة من دون الله التماساً لشفاعة أربابها أو للزيران أو للزهرة أو لقدوم سلطان أو نحو ذلك مشرك كافر. 1 وأنه عبادة يجب إخلاصها لله تعالى, والنذر في اللغة: الإيجاب, ومنه قولهم: نذرت دم فلان إذا أوجبته, وشرعاً: إيجاب المكلف على نفسهما ليس واجباً عليه شرعاً, تعظيماً للمنذور له. 2 أي: يتعبدون لله بما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر, فأثنى الله عليهم بالإيفاء به, وهو سبحانه لا يثني إلا على فاعل عبادة, وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: من الآية270] , يعني: وسيجازيكم عليه, فدل على أنه عبادة, فصرفه لغير الله شرك أكبر, وفي الحديث: " من نذر أن يطيع الله فليطعه". 3 منتشراً فاشياً عاماً بين الناس إلا من رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الأَصْلُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ بِالأَدِلَّةِ1 وَهُوَ الاستسلام لله   1 لما فرغ المصنف قدس الله روحه من الأصل الأول وشرحه وبسطه, شرع في ذكر الأصل الثاني من أصول الدين, الذي لا ينبني إلا عليها, وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة من الكتاب والسنة, والدين: الطاعة والتوحيد وجميع ما يتعبد به, وقوله: (بالأدلة) تنبيه على أنه لا يسوغ التقليد في ذلك, فيصير الرجل إمّعة, بل لابد أن يكون معه أدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على ما خلق له, ليكون على نور وبرهان وبصيرة من دينه, فإن لم يكن على حقيقة من دينه فإنه يخشى عليه في حياته, وبعد مماته عند سؤال الملكين إذا سألاه في القبر أن يصل له الشك, فيجيب الجواب السيئ يقول: هاه هاه لا أدري, سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته, بخلاف من يعرف أدلة دينه من الكتاب والسنة وكان على القول الثابت في الدنيا فإنه يقول عند سؤال الملكين: ربي الله وديني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 بِالتَّوْحِيدِ1، وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ2، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وأهله3، وهو ثلاث   الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم, فإن من أسباب الثبات عند السؤال معرفة الدين بالحجج من الكتاب والسنة والعمل به. 1 أي: الذل والخضوع لله بإفراده بالربوبية والخلق والتدبير, وإفراده بجميع أنواع العبادة, مشتق من التسليم للمنية, واستسلام فلان للقتل: أسلم نفسه وانقاد وذل وخضع, أو من المسالمة: وهو ترك المنازعة. 2 أي: بفعل المأمورات من الطاعات, وفعل الخيرات وترك المنهيات والمنكرات, طاعة لله تعالى وابتغاء وجهه, ورغبة فيما عنده, وخوفاً من عقابه, وفعل الأمر وترك النهي ابتغاء وجه الآمر الناهي, هو الذي جاءت به جميع الرسل. 3 فلابد أن يتبرأ من الشرك, ومن أهل الشرك في الاعتقاد والعمل والمسكن, بل من كل خصلة من خصالهم, ومن كل نسبة من النسب إليهم, معادياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 مَرَاتِبَ1: الإسْلامُ، وَالإِيمَانُ، وَالإِحْسَانُ2، وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ لَهَا أركان3. المرتبة الأولى: فَأَرْكَانُ الإِسْلامِ خَمْسَةٌ4: شَهَادَةُ أَن لا اله إلا الله وأن محمدا   أشد معاداة, غير متشبه بهم في قول أو فعل. 1 المرتبة والرتبة: المنزلة العالية, ورتب الشيء ترتيباً: نظمه وقرن بعضه ببعض. 2 أي: الإسلام مرتبة , والإيمان مرتبة, والإحسان مرتبة, وهذه هي مراتب الدين التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم, والمصنف رحمه الله ذكرهن هنا مجملة, ثم فصّلهن وبيّن أدلّتهن. 3 أي: وكل مرتبة من مراتب الدين الثلاثة لها أركان لا تقوم إلا عليها. وأركان الشيء: أجزاؤه في الوجود التي لا يحصل إلا بحصولها, وداخلة في حقيقته, سميت بذلك تشبيهاً لها بأركان البيت الذي لا يقوم إلا بها, فمراتب الدين لا تتم إلا بأركانها, وفي الاصطلاح: عبارة عن جزء الماهية. 4 لا يستقيم إلا بها, ولا يثبت بدونها, وما فقد منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رمضان، وحج بيت الله الحرام1.   زال الإسلام بفقده. 1 ذكرها المصنف رحمه الله, كما جاء في الحديث الصحيح:: "بني الإسلام على خمس" أي: قواعد أو دعائم, وفي رواية (على خمسة) أي: أركان, مثل الإسلام ببناء أقيم على خمسة أعمدة لا يستقيم إلا بها, وقدم الأهم فالأهم, فبدأ بقطبها شهادة أن لا إله إلا الله, ثم ثنى بشهادة أن محمد رسول الله, وكثيراً ما تقرن بها, تم قال: وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج بيت الله الحرام, فهذه مباني الإسلام التي ابتنى وتركب منها, وتأتي أدلتها, وكل خصلة من خصال الإيمان داخلة في الإسلام, وكل خصلة من خصال الإسلام داخلة في الإيمان, فما كان للأعمال الباطنة فمصف الإيمان أغلب من وصف الإسلام, وما كان من الأعمال الدينية الظاهرة كالشهادتين والصلاة وأنواع العبادات التي تظهر ويطلع عليها الناس, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ2 وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ   فوصف الإسلام عليها أغلب من وصف الإيمان, فدائرة الإسلام أوسع من دائرة الإيمان, كما أن دائرة الإيمان أوسع من دائرة الإحسان. 1 هذا شروع من المصنف في بيان أدلة أركان الإسلام الخمسة, والشهادة: خبر قاطع, وأطلق لفظ الشهادة على شهادة أن لا إله إلا الله, لأنها أعظم شهادة في الوجود على أعظم مشهود به, فلا ينصرف الإطلاق إلا إليها. 2 أي: لا معبود بحق في الوجود إلا هو وحده, فهو الإله الحق, ومن ادعيت فيه الألوهية سواه فهو أبطل الباطل وأضل الضلال, فالله الإله الحق المستحق للعبادة وحده دون كل ما سواه, وعبارات السلف في الشهادة تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار, وذكر ابن القيم وغيره أنه لا تنافي بينها, فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وقوله, وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وأول مراتبها: علم, ومعرفة, واعتقاد لصحة المشهود به, وتكلمه بذلك, وإعلامه غيره بما شهد به, وإلزامه بمضمونها, وشهادته سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع, علمه بذلك, وتكلمه به, وإعلامه, وإخباره لخلقه به, وأمرهم وإلزامهم به, فأما العلم فالشهادة تتضمنه ضرورة, ومن تكلم به فقد شهد به, ولفظ الشهادة يستعمل في الإعلام, وتدل على الأمر, وشهادته سبحانه هي أعظم شهادة في الوجود أنه لا إله إلا هو المتفرد بالإلهية, من أعظم شاهد, وهو الله سبحانه وتعالى وتقدّس, على أعظم مشهود به وهو وحدانيته جلّ وعلا, فإنه لا شهادة أعظم ولا أجل ولا أثبت من شهادة تعالى لنفسه بالألوهية, وشهادة رب العالمين لا ينقصها شيء البتة, وذكر الكلبي أن حبرين من أحبار الشام قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله هذه الآية, فأسلما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الْعِلْمِ1 قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ   1 أي: والملائكة شهدوا لله بأنه لا إله إلا هو, كما شهد الله بذلك لنفسه المقدسة, وأولوا العلم شهدوا بذلك أيضاً أنه لا إله إلا هو, وفسرت بالإقرار والتبيين والإظهار, واستشهادهم فيه تعديل وتزكية لأهل العلم إذا ارتقوا إلى هذا المقام الذي استشهدهم الله تعالى فيه على وحدانيته عز وجل, ولينتف جحد الجاحدين وانتحال المبطلين, وهذا في أعظم حاثٍّ لك على طلب العلم. فإن الله شهد واستشهد الملائكة, واستشهد أهل العلم, ففي هذه الشهادة رفعة أهل العلم, حيث استشهدوا على ما شهد به رب العالمين, وأي ثناء أشرف من هذا الثناء عليهم وتعديلهم, وشهادته لهم على أنهم أهل العلم, وجعلهم حجة على من أنكرها, فدل على فضل العلم, وفي الحديث (يحمل هذا العلم من كل أمة عدو لها) , وهذا أعظم مرغب في العلم وإن زهد فيه الأكثر, والمراد بالعلم: العلم الشرعي الذي هو نور القلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 لْحَكِيمُ1} [آل عمران:18] وَمَعْنَاهَا: لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلا الله2   وحياتها, وغيره علم نسبي إضافي إما إلى أمور دنيوية, أو علوم حسابية وصناعية أو غير ذلك, وأهله ليسوا من أهل العلم إلا على العلم الشرعي الديني. 1 أي: قائماً بالعدل, فشهد سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده, وبالوحدانية في عدله, والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال, ونظم الآية شهد الله قائماً بالقسط أنه لا إله إلا هو, ف (قائماً) نصب على الحال, و (لا إله إلا هو) توكيد لما سبق, لعظم شأن التوحيد, ثم أثنى على نفسه المقدسة فأخبر بأنه (العزيز) الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياءً. (الحكيم) : في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره, فتضمنت هذه الآية الكريمة أجلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجلّ شاهد, بأجلّ مشهود به, وتضمنت توحيده تعالى وعدله وعزته وحكمته. 2 أي: ومعنى هذه الكلمة العظيمة شهادة أن لا إله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   إلا الله: (لا معبود) أي: لا مألوه (بحق إلا الله) وحده دون كل ما سواه, بل كل مألوه سوى الله عزّ وجل فإلهيته أبطل الباطل وأضل الضلال, ففيها نفي الإلهية عن غير الله وإثباتها لله وحده, وسيقت لتوحيد الإلهية مطابقة, لا كما يقول بعض الجهلة: أن معناها: لا يخلق ولا يرزق إلا الله, ولا يدبر الأمر إلا الله, فإنها وإن دلت عليه بطريق التضمن فهي موضوعة لتوحيد الإلهية الذي هو إفراد الله بجميع أنواع العبادة, الذي أرسلت الرسل وأنزلت الكتب في تقريره وإيضاحه, وأما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون كأبي جهل وأضرابه, كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: من الآية31] أي: أنه الذي يفعل ذلك, ولم ينازعوا فيه ولا امتنعوا من الإقرار به, بل احتج تعالى عليهم بإقرارهم توحيد الربوبية على توحيد الإلهية, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   فقال {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: من الآية31] أي: الشرك به في عبادته, فإنهم يعرفون معناها، وأنها دلت على إفراد الله بالعبادة, ولهذا أنكروا أن يكون الله هو المعبود وحده, وقالوا: شتم آلهتنا, وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ (صّ: 5] بل يريدون أن يجعلوا بينهم وبين الله وسائط وشركاء في العبادة, فإن نفوسهم وإحساسهم امتزجت بالشرك وأنشأت عليه وألفته, فصاروا كالمريض الذي فسد مزاجه, فإذا أوتي بالطعام الحلو قال: هذا مر, وهو ليس بمر, ولكن الآفة من مزاجه الفاسد, بالنسبة إلى عقولهم الفاسدة, فكذلك النور والحق المبين الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم هو عندهم وأمثالهم مر بالنسبة إلى مزاجاتهم, والمقصود: أنهم عرفوا أن مدلولها أن يكون المعبود هو الله وحده, وبهذا تعرف أن مدلول لا إله إلا الله مطابقةً: هو إفراد الله بالعبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 لا إله) نافياً مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ1. (إِلا اللهُ) مثبتاً العبادة لله   1 الإله: فعال بمعنى: مفعول, ككتاب بمعنى: مكتوب, مشتق من أله, يألهه إلهة أي: عبد يعبد عبادةً لفظاً ومعنىً, والإله: هو المعبود المطاع, فالنفي في كلمة الإخلاص (لا إله) أي: لا مألوه يستحق أن يعبد إلا الله, فإذا قلت: لا إله, كنت نافياً جميع ما يعبد دون ما سوى الله, يعني: والآلهة غير الله كثيرة طبق الأرض ولكن بالباطل والضلال, وإنما الإله المستحق للعبادة هو الله وحده, وآلهة المشركين التي يعبدونها من دون الله إنما هي مجرد ظن منهم وإتباع لهواهم, كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [لنجم:19] إلى قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [لنجم:23] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَحْدَهُ1 لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أنه   1 أي: والإثبات في كلمة الإخلاص قولك: (إلا الله) هو المستثنى في هذه الكلمة العظيمة, ودلالتها على إثبات الإلهية لله وحده أعظم من دلالة قولنا: الله إله, ف (لا) نافية للجنس, وخبرها المرفوع محذوف تقديره حق, ف (لا الله) استثناء من الخبر المرفوع, فالله هو الحق, وعبادته وحده هي الحق, وعبادة غيره منفية ب (لا) في هذه الكلمة, قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: من الآية62) ] والقرآن كله يدل على إثبات العبادة لله وحده, ف (لا إله إلا الله) اشتملت على أمرين هما ركناها: النفي, والإثبات, ف (لا إله) نافياً وجود معبود بحق سوى الله, و (إلا الله) مثبتاً العبادة لله وحده دون كل ما سواه, والنفي المحض ليس بتوحيد, وكذلك الإثبات المحض, فلابد الجمع بين النفي والإثبات, وشروطها ثمانية: أحدها: العلم المنافي للجهل. الثاني: اليقين المنافي للشك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 لاشريك له فِي مُلْكِهِ1. وَتَفْسِيرُهَا الَّذِي يُوَضِّحُهَا2 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ   الثالث: القبول المنافي للرد. الرابع: الانقياد المنافي للترك. الخامس: الإخلاص المنافي للشرك. السادس: الصدق المنافي للنفاق. السابع: المحبة المنافية لضدها. الثامن: الكفر بما سوى الله تعالى. 1 يعني: فكما أنه المتفرد في ملكه فهو يدل على أن يفرد بالعبادة. فإن من أظلم الظلم أن يجعل المخلوق الذي ليس شريكاً لله في الملك شريكاً لله في العبادة, تعالى الله وتقدّس, ولهذا يحتج على من أنكر ألوهيته بما أقر به ندمن ربوبيته, فإن توحيد الربوبية هو الدليل على توحيد الإلهية, ولهذا قال: (كما أنه لا شريك له في ملكه) . 2 أي: تفسير شهادة أن لا إله إلا الله الذي بينها بياناً تاماً من القرآن, فإنه تعالى بينها في كتابه في غير موضع, ولم يوَكل عباده في بيان معناها إلى أحد سواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ1 (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي2 فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ3 (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ   1 أخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعده من الأنبياء أنه قال لأبيه آزر وقومه أهل بابل وملكهم النمرود- وكانوا يعبدون الأصنام-: {إِنَّنِي بَرَا} أي: بريء {مِّمَّا تَعْبُدُونَ} من الأوثان, وهذا في معنى (لا إله) . 2 أي: ابتدأ خلقي وبرأني. وفيه معنى (إلا الله) , فدلت الآية على ما دلت عليه (لا إله إلا الله) ، ولهذا يقال ل (لا) النافية للجنس عند النحاة: لام التبرئة, فالخليل عليه السلام تبرأ من آلهتهم سوى الله, ولم يتبرأ من عبادة الله, بل استثنى من المعبودين ربه. 3 أي: يرشدني لدينه القويم وصراطه المستقيم, وقد أمرنا تعالى أن نتأسى به, كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: من الآية4] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 يَرْجِعُونَ1} [الزخرف:26-28] وقوله: 1 أي: وجعل كلمة التوحيد, وهي: (لا إله إلا الله) باقية في نسله وذريته يقتدي به فيها من هداه. الله من ذريته (لعلّهم) أي: لعل أهل مكة وغيرهم (يرجعون) إلى دين إبراهيم الخليل. والكلمة هي: (لا إله إلا الله) بإجماع المفسرين, فعبر عن معنى (لا إله) بقوله: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ} . وعبّر عن معنى (إلا الله) بقوله: (إلا الذي فطرني) . فتبين أن معنى (لا إله إلا الله) هو: البراءة من عبادة كل ما سوى الله وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله كما تقدم. وبين تعالى معنى (لا إله إلا الله) في آيات كثيرة من كتابه يتعذر حصرها, كقوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الاسراء: من الآية23] , وفي {أَلَّا تَعْبُدُوا} ما في معنى (لا إله) , وقوله (إلا إياه) هو الإثبات الذي أثبته (لا إله إلا الله) , إذ يعبر عن الشيء إلا بمعناه, فبهذا ونحوه تعرف أن معنى (لا إله إلا الله) النفي والإثبات, والولاء والبراء والتجريد والتفريد. وهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ1 أَلاَّ نَعْبُدَ   التفاسير ونحوها ترجع إلى معنى واحد, وهو: تجريد غير الله عن الألوهية وتفريدها لله وحده دون كل من سواه, والبراءة من تأله غير الله بالكلية ومن اعتقد أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الجنة ولا يدخل النار فهو ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة. 1 أي: ودليل الشهادة أيضاً قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} , أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب: اليهود, والنصارى: (تعالوا) أي: هلموا (إلى كلمة) واحدة لا غير, والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما هنا {سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي: عدل ونصف لا يختلف فيها رسول ولا كتاب, نستوي نحن وأنتم في فرضيتها ووجوبها علينا وعليكم. ومن المعلوم أن الكلمة هي التي يدعو إليها جميع الناس, فإنه ليس في الوجود سوى كلمة التوحيد عند الاستقراء والتتبع, فإنه صلى الله عليه وسلم قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 إِلاَّ اللهَ1 وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً2 وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ3 فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ4} [آل عمران:64]   لقريش: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" , وهي الكلمة التي تدعو إليها الرسل جميع الخلق, قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء:25] فتقرر أنه ليس كلمة هنا غيرها, وقد فسرها تعالى بذلك. 1 أي: لا نوحد نحن وأنتم بالعبادة إلا الله, فوضح معنى الكلمة, فإن في قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ} معنى (لا إله إلا الله) , فتبين أن لا معبود حق إلا الله وحده. 2 لا صليباً, ولا صنماً, ولا طاغوتاً, ولا ناراً, ولا شيئاً غير الله, بل نفرده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له, وهذه دعوة جميع الرسل. 3 لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله, كما فعلت اليهود والنصارى. 4 أي: فإن امتنعوا وأدبروا وأعرضوا عن الإجابة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ1 قَوْلُهُ   إفراد الله بالعبادة فقولوا – أنتم يا أمة محمد-لهم: {اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} مخلصون لله بالتوحيد دونهم, أي: صرحوا لهم شفاهةً بأنكم مسلمون وأنهم كفار, وأنكم براء منهم وهم براء منكم, وهذا دال على أنه لابد تبين للكفار حتى يتفهموا ويتحققوا أنهم ليسوا على دين, وأن دينك خلاف دينهم الذي هم عليه, وأن دينهم خلاف دينك 1 يعني: من النقل, وأما العقل فنبّه عليه القرآن, كما ذكر المصنف وغيره. ومنه قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: من الآية91] , وقول الرجل: إن رسول الله, إما أن يكون خير الناس وأصدقهم, وإنا أن يكون شرهم وأكذبهم, والتمييز بين ذلك يعرف بأمور كثيرة, نبه تعالى على ذلك بقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الشعراء: 221، 222] ومنه شهادة الله عليه بقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: من الآية43] , ومن حكمته تعالى: أنه لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به إقامة للحجة, فأخبر أنهه أرسلهم بالبيانات, وأعظم الآيات العقلية هذا القرآن العظيم الذي تحداهم الله بحديث مثله أو عشر سور أو سورة من مثله, مع عداوة أهل الأرض له, علمائهم وفصحائهم, واستعجازهم به, ولم يتعرضوا لذلك, مع شدة حرصهم على تكذيبه. ومنه: نصرة من اتبعه ولو كان أضعف الناس. ومنه: خذلان من عداه وعقوبته في الدنيا ولو كان أكثر الناس وأقواهم. ومنها: كونه صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ الخط, ولا أخذ عن العلماء. ومنها: إخباره عن المغيبات التي أطلعه الله عليها, فإن ما غاب عنا أو كان قبلنا فلا يعرف إلا بالخبر عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ1 عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ2   ومنها: انشقاق القمر, وحنين الجذع, ونبوع الماء بين أصابعه, وإطعام مئين من صاع شعير, وغير ذلك من آياته المتعلقة بالقدرة والفعل والتأثير, مما لا يحصى كثرة. ومنها: إذعان ملوك اليمن والبحرين وغيرهما لأمره, للآيات التي صحت عندهم عنه, فنزلوا عن ملكهم طوعاً, وكذا كل من اتبعه لما بهرهم من آياته. 1 يمتنّ تعالى على المؤمنين بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم رسولا ً من أنفسهم يعرفون نسبه وصدقه, ليس بملك لا يتمكنون بسؤاله, بل بشر يتمكنون من سؤاله, بما شاءوا من أمور دينهم ودنياهم, وعلى القراءة الثانية بفتح الفاء, أي: من أشرفهم وأكرمهم, وأيضاً كونه معروف النسب, والمدخل والمخرج, أميناً صدوقاً, حتى إنه يسمى قبل مبعثه: الأمين, ومن كان كذلك فإن النعمة به على العباد تكون أكبر وأعظم. 2 أي: شديد شاق عليه الذي يعنت أمته ويشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 حَرِيصٌ عَلَيْكُم1 بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ2} [التوبة:128] وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: "طَاعَتُهُ فِيمَا أمر3، وتصديقه فيما أخبر4، واجتناب ما عنه نهى   عليها ويدخلها في الآصار والأغلال, وقال: "بعثت بالحنفية السمحة", وقال: "إن هذا الدين يسر" وشريعته صلى الله عليه وسلم سمحة وسهلة, ومع ذلك فهي كاملة 1 أي: على هدايتكم وإنقاذكم من النار 2 أي: رأفته ورحمته خاصة بالمؤمنين, كما أن غلظته وشدّته على الكافرين. 3 وقد وجوب طاعته بالكتاب والسنة, وقرن سبحانه طاعته بطاعته في غير موضع من كتابه, ومن عصاه فقد عصى الله, ومن عصى الله فله نار جهنم 4 فهو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم, وأمين الله على وحيه فكل شيء أخبر به فهو حق وصدق, لا كذب فيه ولا خلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وزجر1، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع2".   1 قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: من الآية7] , وقال عليه الصلاة والسلام: "ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم, وما نهيتكم عنه فاجتنبوه". 2 لا بالأهواء والبدع, فإن الأصل في العبادات التشريع , وكل بدعة ضلالة, هذا معنى شهادة أن محمد رسول الله من طريق اللزوم, ولا ريب أنها تقتضي الإيمان به وتصديقه فيما أخبر به وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه نها زجر, وأن يعظم أمره ونهيه, ولا يقدم عليه قول أحد، ولا بد مع النطق بها من العمل بما دلت عليه، فقولها باللسان دون العمل بما دلت عليه لا يصير به من أهل شهادة أن محمد رسول الله، كما أن قوله: (لا إله إلا الله) بدون العمل بما دلت عليه لا يصير به من أهل شهادة أن لا إله إلا الله على الحقيقة، فأول ما يجب على الإنسان أن يعلم بقلبه علم يقين، وينطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَدَلِيلُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء2 وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ3   وينطق بلسانه بالشهادتين ,ويعمل بما دلت عليه. 1 أي: ودليل الصلاة والزكاة, فإنهما ركنان من أركان الدين الخمسة التي لا يستقيم إسلام عبد إلا بهما, وكذا في الآية تفسير التوحيد أيضاً, وهو الأساس الذي لا يستقيم إسلام عبد إلا به 2 أي: وما أمر الذين كفروا إلا ليوحدوا الله ويفردوه بالعبادة, حنفاء مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام, قال ابن عباس: (ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بإخلاص العبادة لله موحدين) , وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء:25] , وهذا هو تفسير التوحيد 3 أي: يقيموا الصلاة المكتوبة بأركانها وواجباتها في أوقاتها, ويؤتوا الزكاة عند محلها, وهذا هو دليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ1} [البينة:5] َودَلِيلُ الصِّيَامِ2 قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ3َ} [البقرة:183] اـ لصلاة والزكاة, وأنهما ركنان من أركان الإسلام لا يستقيم بدونهما, وكثيراً ما يقرنهما تعالى في كتابه العزيز 1 أي: الذي أمروا به في هذه الآية الكريمة هو الملة والشريعة المستقيمة 2 وأنه أحد أركان الإسلام الخمسة التي لا يستقيم الإسلام إلا بها, والصيام في اللغة: الإمساك, وفي الشرع: هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع, مع النية في وقت مخصوص, من شخص مخصوص 3 أمر تعالى عباده المؤمنين من هذه الأمة بالصيام, لما فيه من زكاة النفوس وتطهيرها, وتنقيتها من الأخلاط الرديئة, والأخلاق الرذيلة, وفرض في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 َودَلِيلُ الْحَجِّ1 قَوْلُهُ تَعَالَى: {ولِلَّهِ عَلَى الناسِ حِجُّ البَيِت2 مِنَ استَطَاعَ إلَيهِ سَبِيلاً3 وَمَن   السنة الثانية للهجرة, وذكر تعالى أنه فرضه وأوجبه عليهم, كما أوجبه على من كان من قبلهم, فلهم فيهم أسوة, قال شيخ الإسلام: كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه, كما في الصحيحين "يوم عاشوراء كان يوماً تصمه قريش في الجاهلية", ثم هو من العلم العام الذي توارثته الأمة خلفاً عن سلف. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني: بالصوم، لأنه وصلة إلى التقوى, لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات 1 وأنه أحد أركان الإسلام، والحج لغة: قصد الشيء وإتيانه، وشرعا: قصد مكة لعمل مخصوص، في زمن مخصوص 2 أي: {ولِلَّهِ} فرض واجب على الناس، {حِجُّ البَيِت} قصده أداء النسك، فهو أحد أركان الإسلام، كما هو معلوم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة 3 أي: على المستطيع من الناس أن يحج البيت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 كَفَرَ فَإنَّ الَّلهَ غَني عِن العَالَمِينَ1} [آل عمران:97] المرتبة الثانية: الإيمان2: وهو بضع   والإستطاعة: القدرة بنفسه على الذهاب، ووجود الزاد والراحلة، بعد قضاء الواجبات عليه وغير ذلك مما هو معلوم في كتب التفسير والفقه. 1 أي: من وجد ما يحج به ولم يحج حتى مات فهو كفر به، وإذا كان دل على كفره فقد دل على آكدية ركنيته، وفي الأثر: "من مات ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا". 2 قدم المرتبة الأولى: وهي الإسلام، وثنى بمرتبة الإيمان، وهي أعم من مرتبة الإسلام من جهة نفسها، وأخص من جهة أصحابها، وأهله هم خواص أهل الإسلام، وأهل الإسلام أكثر من أهل الإيمان، بخلاف العكس، كما قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الحجرات: من الآية14] ، فإن من حكمت له النصوص أنه مؤمن فإنه مسلم على كل حال، فإن الإيمان وصف أعلى من وصف الإسلام، لأنه مشتق من الأمن فهو من الأمور الباطنة الذي يؤتمن عليه, ويكون خفية, والإسلام من الأمور المدركة المحسوسة في الظاهر, مشتق من التسليم أو المسالمة كما تقدم, فإذا أطلق الإيمان في النصوص دخل فيه الإسلام, وإذا أطلق الإسلام لم يدخل فيه الإيمان, ومن أثبت له الإيمان في النصوص, فإنه ثابت له الإسلام, والمسلم لابد أن يكون معه إيمان يصحح إسلامه, وإلا كان منافقاً, ولكن لا يستحق أن يمدح به ويثنى عليه, بل إيمانه ناقص, ويأتي تمثيله, والإيمان الرعي: وعمل, قول القلب واللسان, وعمل القلب واللسان والجوارح, ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, فدخل فيه جميع المأمورات, سواء كان من بالواجبات أو المستحبات, ودخل فيه ترك جميع المنهيات, سواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وَسَبْعُونَ شُعْبَةً1، فَأَعْلاهَا قَوْلُ: لا اله إِلا الله2، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق3،   كان ذلك المنهي ينافي أصول الدين بالكلية أو لا, فإن تعريفه المذكور يشمل ذلك, فما من خصلة من خصال الطاعات إلا وهي من الإيمان, ولا ترك محرم من المحرمات إلا وهو من الإيمان 1 الِبضع: بكسر الباء من الثلاثة إلى التسعة, والشعبة: الطائفة من الشيء والقطعة منه, وشعبة من شعب الإيمان يدخل تحتها أفراد من الخصال, فهي من حيث هذا العدد يكون تحتها أفراد. 2 أي: فأعلى شعب الإيمان قول العبد: لا إله إلا الله, فهي كلمة الإخلاص, وكلمة الإسلام, وهي العروة الوثقى, وكلمة التقوى, وأساس الملة, ومفتاح الجنة 3 أي: وأصغر شعب الإيمان إزالة الأذى عن الطريق, من شوك وحجر ونحو ذلك, مما يتأذى المار به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 والحياء شعبة من الإيمان1. وأركانه ستة2: أن تؤمن بالله3،   1 أي: بعض منه, وإنما جعله بعضه, لأن المستحي ينقطع بحياته عن المعاصي, ولأن الإيمان ينقسم إلى ائتمار وانتهاء, فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعض الإيمان, والحياء من أفضل الأخلاق, وأجلها وأعظمها قدرا, بل هو خاصة الإنسانية, وفي الحديث: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت", وهو غريزة يحمل المرء على فعل ما يجمل ويزين, ويمنعه من فعل ما يدنس ويشين. 2 أي: أصول الإيمان التي تركب منها, والتي يزول بزوالها ستة أركان, ويكون بزوال الواحد من تلك الستة كافراً كفراً يخرج من الملة, وما عداها لا يزول بزواله, لكن منها ما يزول بزواله كمال الإيمان الواجب, ومنها ما يزول بزواله كمال الإيمان المندوب 3 هذا أعظم أركان الإيمان, وهو أصل الأصول, ومعناه: الإيمان بوحدانية الله تعالى, وتفرده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وملائكته1، وكتبه2، ورسله3، واليوم   بأسماءه وصفاته, والإيمان بأنه الإله الحق, وأن من عبد من دونه فعبادته أبطل الباطل, وأضل الضلال 1 يعني: وأن تؤمن بجميع ملائكته, وهم الجنس المعروف من خلق الله بتعريف النصوص, عباد مكرمون, خلقوا من نور, يؤمن بهم إجمالاًً في الإجمالي, وتفصيلا في التفصيل, وتعين في التعين, مثل ما ورد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة, كجبرائيل, وميكائيل, وإسرافيل, مالك, ورضوان, وغيرهم 2 المنزلة على الأنبياء من السماء, إجمالاً في الإجمالي, وتفصيلاً في التفصيلي, ويفصل بالإيمان, بالقرآن, والزبور, والتوراة, والإنجيل, إلى آخر الكتب المنزلة 3 أي: وكذا الإيمان بجميع رسله إجمالاً في الإجمالي, وتفصيلاً في التفصيلي, فيؤمن بمن جاء تفصيلهم في الكتاب والسنة على التعين, وأعظم ذلك الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وممن يؤمن بهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الآخر1، وبالقدر خيره   تفصيلاً أولوا العزم من الرسل: نوح, وإبراهيم, وموسى, وعيسى, ومحمد عليه أفضل الصلاة والسلام, ويؤمن بغيرهم ممن سمى الله في كتابه أو على لسان رسوله في السنة المطهرة, ومن لم يسمى في النصوص يؤمن بهم إجمالاً {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: من الآية285] والإيمان بهم فرض, وهو: التصديق بأنهم رسل الله إلى عباده, صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى 1 أي: بما يكون بعد الموت في البرزخ, وبالحساب, والميزان, والجنة, والنار, والإيمان بعذاب القبر ونعيمه, وأكبر ذلك وأعظمه الإيمان ببعث هذه الأجساد وإعادتها كما كانت أجساداً بعظامها وأعصابها, حتى يقع الثواب على هذا الجسد والروح جميعاً, على ما فعلا من طاعة الله, أو يعاقبا على المعاصي التي صدرت منها جميعاً, فإن الطاعة والمعصية صدرت منها جميعاً, فلا بد أن يثابا على ما فعلا, أو يعاقبا على ما تركا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَشَرِّهِ1 وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ2 قَوْلُهُ   فتؤمن أن الذي أوجد هذا الجسد وانفرد بخلقه يبعثه ويعيده كما كان 1 أي: بما قدره الله, يعني: كتبه من خير وشر, والإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بأربعة أشياء: الإيمان بعلم الله القديم, فإن الرب تعالى علم بعلمه القديم ما هو كائن, والإيمان بأن الله كتب ما علم أنه كائن من العباد, والإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله تعالى, وأن الله تعالى اوجد جميع الخلق, وأن ما في الكون بتقدير الله وإيجاده, فلا يصير المرء مؤمناً بالقدر إلا بالإيمان بهذه الأربعة الأشياء, وأن يعلم أنما أصابه لم يكن ليخطأه, وما أخطأه لم يكن ليصبه, وفي الأثر: " ما لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار". 2 أي: أنها أركان للإيمان, لا يستقيم إيمان العبد إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 تَعَالَى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ1 وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ2 وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ   بها جميعها, وأنه متى انتفى واحد منها لم يكن المرء مؤمناً 1 قد اشتملت هذه الآية على جملا عظيمة, وعقيدة مستقيمة, وروي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان, فتلا هذه الآية {لَّيْسَ الْبِرَّ} وهو كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة. {أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أي: ليس بالبر كله أن تصلوا إلى بيت المقدس عن لم يكن أمر الله وشرعه, وذلك لما حولوا إلى الكعبة. 2 ولكن البر امتثال أوامر الله وإتباع ما شرع, وأعظم ما ذكر في هذه الآية, أو هذه أنواع البر كلها, وبدأ بالإيمان, أي: ولكن البر الإيمان بالله, أو ولكن البر بر من آمن بالله, أو ذا البر بر من آمن بالله, أي: بتفرده جلّ وعلا بالربوبية والإلهية, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 والنَّبِيِّينَ1} [البقرة:177] ودليل القدر2 قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ3}   والأسماء الحسنى والصفات العليا إذ هو أصل الأصول, والإيمان باليوم الآخر, وهو البعث بعد الموت, ينقضي بقضاء الخلق في الدنيا ويموت كل من فيها ثم يحيى الله الموتى, ويعيد الأجساد كما كانت, ويرد إليها الأرواح كما كانت, ويجمع الأولين والآخرين ويوفي كل عامل عمله 1 أي: وصدق بوجود الملائكة كلهم وأشرفهم السفرة بين الله ورسوله, وآمن بالكتاب, وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حتى ختمها بالكتاب العزيز, وهو القرآن الكريم, المهيمن على ما قبله من الكتب, وجاء أنها مائة كتاب وأربعة كتب, وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى آخرهم, خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. 2 وأنه ركن من أركان الإيمان لا يستقيم الإيمان إلا به. 3 أي: ما خلقناه فمقدور مكتوب في اللوح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 [القمر:49] المرتبة الثالثة: الإحسان1:   المحفوظ, وفي الحديث: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس". 1 قدم مرتبتي الإسلام والإيمان, وثلث بالرتبة الثالثة من مراتب الدين, وهي الإحسان, والإحسان: نهاية الإخلاص, والإخلاص: هو إقاع العمل على أكمل وجوهه في الظاهر والباطن, بحيث يكون قائما به في الباطن والظاهر على أكمل الوجوه, وهذا هو الإحسان, ولذا يفسر بالإخلاص, واشتقاقه من الحسن نهاية الإخلاص الناشئ عن حقيقة الاستحضار, ومن حيث الظاهر كمال المتابعة, وتفسيره بالإخلاص تفسير له بنتيجته وثمرته, فإن من اتصف بذلك فإنه يكمل العلم في الظاهر والباطن فالإحسان أعلى المراتب وأعمها من جهة نفسها وأخصها من جهة أصحابها, كما أن الإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه, ولهذا يقال: كل محسن مؤمن مسلم, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   وليس كل مسلم مؤمناً محسناً, وكلما أطلق الإحسان فإنه يدخل فيه الإيمان والإسلام فإن الإسلام والإيمان والإحسان دوائر, أوسعها دائرة الإسلام ثم يليها في السعة الإيمان, ثم أضيقها الإحسان, كدوائر كل واحدة منها محيطة بالأخرى, ومعلوم أن من كان في دائرة الإحسان فهو داخل في الإسلام والإيمان, وإذا خرج عن الأولى فهو داخل في الثانية, وهي دائرة الإيمان, وإذا خرج عنها فهو داخل في الثالثة وهي دائرة الإسلام, ومن خرج عن هذه الدوائر الثالث فهو خارج إلى غضب الله وعقابه, وداخل في دوائر الشيطان –والعياذ بالله- فظهر بالتمثيل بهذه الدوائر صحة قول من قال: كل محسن مؤمن مسلم , وليس كل مسلم مؤمناً محسناً, فلا يلزم من دخوله في الإسلام أن يكون داخلا في الإحسان والإيمان, وليس المراد أن من لم يكن في الإحسان والإيمان أن يكون كافراً, بل يكون مسلما ومعه من الإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   ما يصحح إسلامه, لكن لا يكون مؤمناً الإيمان الكامل الذي يستحق أن يثنى عليه به, فإنه لو كان مؤمنا الإيمان الكامل لمنعه من المعاصي والمحرمات, وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أعطيتهم وتركت فلان وهو مؤمن, فقال: " أو مسلم", وقال: " لا يزني الزان حين يزني وهو مؤمن, ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ... " الحديث, وقال: "والله لا يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه". فالنصوص ما نفت عنهم الإسلام, بل أثبتت لهم أحكام الإسلام من عصمة الدم وإذا ماتوا غسلوا وكفنوا وصلي عليهم, فأهل الإحسان هم خواص أهل الإيمان, كما أن أهل الإيمان هم خواص أهل الإسلام فإن أهل الإحسان كملوا عبادتة الله حتى وصلوا إلى حد المراقبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ركن واحد1، وهو: " أن تعبد الله كأنك تراه2، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " 3.   1 أي: شيء واحد, ولم يذكر له أركانا كما ذكر للإسلام والإيمان 2 أي: والإحسان: هو أن تعبد الله العبادة البدنية كالصلاة, أو المالية كالذبح, كأنك تشاهد معبودك الذي قمت بين يديه وقربت له القربان وأطعته فيما أمرك به, فإنه إذ انكشفت الحقيقة للقلب وبلغ العبد في مقام المعرفة إلى حد كأنه يطالع ما اتصف به الرب سبحانه من صفات الكمال ونعوت الجلال وأحست الروح بالقرب الخاص الذي ليس كقرب المحسوس من المحسوس حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه أفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب فصار يعبده كأنه يراه 3 أي: وإن لم تعبده على استحضار الدرجة الأولى –درجة المراقبة- فاعلم أنه يراك سميع عليم بصير, مطلع على جميع خفياتك. فهاتان درجتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ1} [النحل:128] وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ2 (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ3 (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ4 (219)   إحداهما أكمل من الأخرى, فإن لم تحصل على عبادة الله كأنك تشاهده فاعبده على مرأى من الله, وأنه سمع عليم بجميع ما تفعله. 1 أي: أن الله عز وجل مع عباده الذين اتقوا المنهيات, والذين هم محسنون في العمل يحفظهم ويكلؤهم ويؤيدهم, وهذه معية خاصة, ومقتضاها مقتضى العامة, وتقتضي المعية الخاصة معنا زائد بحسب مواطنها 2 في جميع أمورك فإنه مؤيدك وحافظك 3 ومعتن بك في جميع حركاتك وسكاناتك 4 أي: يراك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ1} [الشعراء:217 ـ220] وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} 2 [يونس:61] والدليل من السنة3: حديث جبريل المشهور   1أي: سميع لأقوال عباده, العليم بحركاتهم وسكناتهم, وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] وغيرها من الآيات الدالة على رؤية الله عز وجل واطلاعها على أفعال خلقه 2 أي: {وَمَا تَكُونُ} يا محمد في عمل من الأعمال, {وَمَا تَتْلُو} من الله من قرآن نازل, أو من شان من قرآن نزل فيه, {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} أنت وأمتك {إِلاَّ كُنَّا} أي: إلا ونحن عليكم شهوداً مشاهدون لكم راؤون سامعون, {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تأخذون في ذلك الشيء 3 أي: والدليل على مراتب الدين الثلاث من الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 عن عمر رضي الله عنه1 قال: "بينا نحن جلوس عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2 إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ3، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ4، لا يُرى   1من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما ذكر المصنف رحمه الله ما أخرجه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه, لما فيه من زوائد الفوائد, وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة, ولأحمد وغيره نحوه من حديث ابن عباس وغيره, وهو حديث جليل عظيم الشأن, يشتمل على بيان الدين كله 2 وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوماً للناس. 3 ولأبي فروة: فإنا لجلوسا عنده, إذ أقبل رجل أحسن الناس وجهاً, وأطيب الناس ريحاً, كأن ثيابه لم يمسها دنس 4 ولابن حبان: شديد سواد اللحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ1، فجلس إلى النبي فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فخذيه2،   1 ولسليمان التيمي: ليس عليه سحناء السفرو وليس من البلد. اهـ. وتعجب الصحابة من هذا الرجل حيث كان شديد بياض الثياب, شديد سواد الشعر, والمسافر من شأنه أن لا يكون كذلك, ومع ذلك لا يرى عليه أثر السفر, ولم يعرفه الحاضرون. وفي رواية عثمان: فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: ما نعرف هذا. وفي رواية لمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوني" فهابوا أن يسألوه, قال: فجاء رجل 2 وفي حديث ابن عباس وغيره: ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم. ولسليمان التيمي: فتخطى حتى برك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كما يجلس احدنا في الصلاة, ثم وضع يديه على ركبة النبي صلى الله عليه وسلم. وصنيعه عليه السلام منبه للإصغاء إليه, وفيه إشارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام1. قال: "أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزكاة، وتصوم رمضان،   لما ينبغي للمسؤول من التواضع والصفح عما يبدوا من جفاء السائل, كوضعه يده على ركبته, ولعل مبالغة جبرائيل تعمية لأمره 1 ولفظ الترمذي وغيره: أنه بدء بالسؤال عن الإيمان قبل الإسلام, كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة, وفي بعض روايات حديث عمر: أنه سأله عن الإحسان بين الإسلام والإيمان, قال الحافظ: ولا شك أن القصة واحدة اختلف الرواة في تأديتها, وليس في السياق ترتيب, وفي رواية أبي فروة أنه قال: السلام عليك يا رسول الله قبل السؤال. وقوله: يا محمد, أخبرني عن الإسلام, لعله مبالغة في التعمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا"1. قَالَ: صدقت. فعجبنا له يسأله   1 ولفظ الصحيحين قال: "أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً". والمراد بالعبادة: النطق بالشهادتين, وإنما احتاج أن يوضحها بقوله: لا تشرك به شيئاً, ولم يحتج إليها في رواية عمر لاستلزامها ذلك, وفيه: "تقيم الصلاة المكتوبة, وتؤدي الزكاة المفروضة, وتصوم رمضان, وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً". وهذه الأركان الخمسة هي الإسلام, وفي بعض الروايات: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم: نعم. فدل على أن من أكمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس صار مسلماً حقاً وهذا هو دليل المرتبة الأولى، وفسره بأعمال الجوارح الظاهرة, والإسلام: هو الدين, قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: من الآية3] , وهو الصراط المستقيم الذي أمر الله بالاستقامة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَيُصَدِّقُهُ1. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وبالقدر خيره وشره" قال: صدقت2. قال:   1 عجب الصحابة رضي الله عنهم منه, فإن من شأن السائل أن يجهل ما يسأل عنه 2 وقد ذكر الله الإيمان بهذه الأصول في مواضع من كتابه, والنبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه الستة أركان ومبانيه, ‘عادة (تؤمن) عند ذكر القدر, للاهتمام بشأنه, وبهذا الحديث احتج عبد الله بن عمر, وقال في القدرية: والذي يحلف به ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر, وفي رواية: "وتؤمن بالجنة والنار" , فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم. وهذا دليل المرتبة الثانية, وفسره بالأعمال الباطنة, ودل الحديث على أن الإسلام والإيمان إذا اقترنا فير الإسلام بالأعمال الظاهرة, والإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فأخبرني عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"1 قال أخبرني عن   بالأعمال الباطنة. 1 هذا القدر من الحديث أصل من أصول الدين, وقاعدة مهمة من قواعد العلم, وهو من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم, فإن إحسان العبادة: هو الإخلاص فيها, والخضوع, وفراغ البال حال التلبس بها, ومراقبة المعبود, وأشار في الجواب إلى حالتين: أرفعهما: أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه, والثانية: أن يستحضر الحق تعالى مطلعاً عليه, يرى كل ما يعمل, وهاتان الحالتان تثمرهما معرفة الله وخضيته, وفي رواية: "أن تخشى الله كأنك تراه" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا هو الإحسان, وهو دليل المرتبة الثالثة, ففي هذا الحديث دليل هذه المراتب الثالث, وأن أركانها هي ما عدها المصنف رحمه الله, وفي رواية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الساعة1. قال: "ما المسؤول عنها   فعجبنا له يسأله ويصدقه, كما ذكر ذلك بعد الإسلام والإيمان, وفي رواية أبي فروة: "فلما سمعنا قول الرجل: صدقت, أنكرناه" وفي رواية مطر: أنظر إليه كيف يسأله, انظروا إليه كيف يصدقه كأنه أعلم منه. وفي حديث أنس: أنظروا هو يسأله وهو يصدقه كأنه أعلم منه. وفي رواية سليمان بن بريدة: قال القوم ما رأينا رجل مثل هذا, كأنه يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول له: صدقت صدقت. قال القرطبي: إنما عجبوا من ذلك لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف إلا من جهته, وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالسماع منه, ثم هو يسأل سؤال عارف بما يسأل عنه, لأنه يخبره بأنه صادق فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لذلك 1 ولفظ الصحيحين: متى الساعة؟ أي: مت تقوم الساعة؟ والمراد: يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بأعلم من السائل"1. قال: أخبرني عن أماراتها2. قال: "أن تلد الأمة   1 وفي رواية أبي فروة: فنكس فلم يجبه, ثم أعاد فلم يجبه ثلاثاً, ثم رفع رأسه فقال: "ما المسؤول أعلم من السائل", أي. أنا وأنت سواء في العلم بها، فإنها مما استأثر الله بعلمه, كما في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [ان: من الآية34] وفي الحديث: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله" قال: "ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" , وفي حديث ابن عباس هنا فقال: "سبحان الله, خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله" ثم تلا الآية. وفيه التعميم تعريضاً للسامعين أن كل مسؤول وسائل عنها فهو كذلك, وكف السامعين عن السؤال عن وقتها فإنهم قد أكثروا عليه صلى الله عليه وسلم في ذلك 2 وفي حديث أبي هريرة: "وسأخبرك عن أشراطها" , وفي رواية أبي فروة: "ولكن لها علامات تعرف بها" , وفي رواية سليمان التيمي: "ولكن إن شئت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 رَبَّتَهَا1، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشاء يتطاولون في البنيان"2 نبأتك عن أشراطها" قال: "أجل". فالأشراط والعلامات: الأمارات, جمع أمارة, بالفتح: الدلالة والبرهان على اقتراب قيامها, والمراد: العلامات السابقة, وأما ما يقارنها فكطلوع الشمس من مغربها 1 أي: سيدتها, والمعنى: أن السراري تكثر في العرب حتى يوجد أن الأمة تلد سيدتها, وفسر بغير ذلك, وحاصله: الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربي مربيا, والسافل عاليا. 2 أي: ومن أماراتها "أن ترى الحفاة": جمع حاف, وهو الذي لا نعال عليه. "العراة": جمع عارٍ, وهو الذي لا ثياب عليه. "العالة": جمع عائل, والعائل: هو الفقير. "رعاء الشاء": يعني الغنم, "يتطاولون في البينيان" , والعرب كانوا قبل بعثة النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 قال: فمضى. فلبثنا ملياً1. فقال: " يا   صلى الله عليه وسلم حفاة عراة, كما في هذا الحديث وكانوا في أشد حالة وأدناها, فمن الله عليهم بالإسلام وقواهم حتى استنفقوا خزائن كسرى وقيصر, ثم وصلوا إلى أن وقعوا فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه من علامات قيام الساعة, ولفظ الصحيحين من حديث أبي هريرة: "وإذا رأيت الحفاة الرعاة رؤوس الناس" أي: ملوكهم "فذلك من أشراطها, وإذا تطاول الرعاء إليهم في البنيان فذلك من أشراطها". فعدها ثلاثاً, والمراد: أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم حتى يتباه بطول البنيان وزخرفته, وفي الحديث: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" لأنه يفسد نظام الدين والدنيا, وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان وانعكاس الأمور. 1 أي: زمان بعد انصرافه, فكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلمهم بعد مضي الوقت, لكنه في ذلك المجلس إلا أن في رواية الترمذي وغيره: فلبث ثلاثاً, ولفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 عُمَرُ أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ " قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعلم1. قال: " هذا جبريل   الصحيحين: ثم أدبر, فقال: "ردوه" فأخذوا ليردوه فلم يرو شيئاً, وفي رواية سليمان التيمي: فولى, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل", فطلبناه كل مطلب فلم نقدر عليه, فقال: " هل تدرون ... " إلخ, وفي روايات أخر تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة بشأنه في المجلس بعد أن التمسوه, فأما خبر عمر فلعله خطاب له وحده, أو من تصرف بعض الرواة 1 هذا فيه أن من سأل عما لا يعلم أن يكل العلم إلى عالمه, ولا يتكلف ما ليس له به علم, كما قال صلى الله عليه وسلم فيما حكى الله عنه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] فإن من أعظم التكلف أن تسأل الإنسان عن شيء فيتكلف العلم به, ولهذا قيل في (الله أعلم) : نصف العلم, يعني: أن العلم ينقسم إلى قسمين: فوظيفة ما تعلم أن تجيب عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم"1. الأَصْلُ الثَّالِثُ2: مَعْرِفَةُ نبيكم عليه الصلاة والسلام3   بما تعلمه, وما لا تعلمه تقول فيه: الله أعلم 1 وفي رواية: "يعلمكم دينكم" , فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر في هذا الحديث هو أمر الدين, بل هو الدين, فإنه قد اشتمل على أصول الدين والعقائد بل انحصر في العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فرق المسلمين في هذا الحديث, ورجعت كلها إليه, وعقيدة أهل السنة والجماعة عليه, وشرفه وجلالته أمر مجمع عليه. 2 أي: من أصول الدين الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها 3 فمعرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي أحد الأصول الثلاثة, فكما أن الأصل الأول: وهو معرفة الله العظيم وواجب معرفته, وكذلك الأصل الثاني: وهو معرفة دين الإسلام الذي خلقنا الله له وتعبدنا بالقيام به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   أصل عظيم وواجب معرفته, فكذلك هذا الأصل الثالث: وهو معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أصل عظيم يجب معرفته, فإنه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بيننا وبين الله تعالى, ولا وصول لنا ولا اطلاع لنا ولا طريق لنا ولا نعرف ما ينجينا من غضب الله وعقابه ويقربنا من رضي الله وثوابه إلا بما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وإذا كان كذلك عرفنا وجه كون معرفته أحد الأصول الثلاثة التي يجب معرفتها, فإنا لا نعرف الأصل الأول الذي هو معرفة الرب جل جلاله, ولا الأصل الثاني الذي هو دين الإسلام إلا بالواسطة بيننا وبين الله, فتحتمت معرفته صلى الله عليه وسلم, وصارت أصلا ثالثا, إذ لا يمكن معرفة المرسل إلا بمعرفة رسوله, فصار من الضروريات معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم, وبذلك ظهر أن معرفته صلى الله عليه وسلم أحد الأصول الثلاثة, ومعرفته تنتظم أشياء عديدة: منها: معرفة اسمه ونسبه وعمره, وبقائه في الدنيا ووفاته, ومعرفة ما نبئ به , وما أرسل به, وبلده ومهاجره, ومنها-وهو أعظمها-: معرفة ما بعث به, وغير ذلك مما ذكر المصنف وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وهو محمد بن عبد لله1 بن عبد لمطلب بن هاشم2. وهاشم من قريش،   1 كان له صلى الله عليه وسلم عدة أسماء أشهرها محمد, ولهذا جاء في القرآن بهذا الاسم على وجه التنويه, كما في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: من الآية40] , {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: من الآية144] {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: من الآية29] , فهذا أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم, ومعناه: الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره, وهو علم مشتق من التحميد, ولما فيه من الخصال الحميدة, ولقبه: أبو القاسم, وأبوه: عبد الله, وهو الذبيح الثاني المفدى بمائة من الإبل. 2 عبد المطلب اسمه: شيبة, ويقال له شيبة الحمد, لجوده, وجماع أمر قريش إليه, وإنما سمي بعبد المطلب, لأن عمه المطلب قدم به مكة, وهو رديفه, وهو تغير لونه بالسفر فحسبوه عبداً له, فقالوا: هذا عبد المطلب, فعلق به هذا الاسم, وهاشم اسمه: عمرو, وإنما سمي هاشما, لهشمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقريش من العرب1، والعرب من ذرية   الثريد مع اللحم لقومه في سني المحل 1 قريش: هو النضر, فإن إليه جماع قريش, ولا خلاف بين العلماء أن هاشم ابن لعبد مناف, واسمه المغيرة بن قصي بن كلاب مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان, وما فوقه فيها خلاف, والعرب هنا المراد بهم: المستعربة, فإن العرب قسمان: عاربة, ومستعربة, والعاربة قحطان, والمستعربة عدنان, وهم أفضل من العرب العاربة, كيف ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم, وهو القائل: "إن الله اصطفى بني إسماعيل من العرب, واصطفى من بني إسماعيل كنانة, واصطفى من كنانة قريش, واصطفى من قريش بني هاشم, واصطفاني من بني هاشم, فأنا خيار من خيار". وقال أبو سفيان لهرقل لما سأله: كيف هو فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب, قال: وهكذا الرسل تبعث في أنساب قومها, يعني: في أكرمها أحساباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ1. وَلَهُ مِنَ الِعُمُرِ ثَلاثٌ وستون سنة2، منها أربعون قبل   1 وهذا لا خلاف فيه, ولا خلاف أن الخليل من ذرية سام بن نوح, وذكر جمهور المؤرخين أن الخليل عليه السلام بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام, 2 ولد عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول عام الفيل, وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء, وفيه هاجر إلى المدينة, وفيه توفي صلوات الله وسلامه عليه, قال صلى الله عليه وسلم: "ذلك يوم ولدت فيه وأنزل عليه فيه" ووارتج لمولده صلى الله عليه وسلم إيوان كسرى, وخمدت النيران, وخر كثير من الأصنام, وظهر النور معه, حتى أضاءت له قصور الشام, وهتفت به الجن, وجرى من معجزات آياته غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 النبوة1، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً2.   ذلك, وتوفي أبوه وهو حمل, وكان عند جده, ثم عمه أبي طالب, وتزوج خديجة وله خمسة وعشرون سنة, ومنها أولاده إلا إبراهيم فمن مارية, وشهد حلف المطيبين وبناء الكعبة, وكان يسمى: الأمين قبل مبعثه صلوات الله وسلامه عليه 1 عند جماهير أهل العلم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, والنبوة: من النبأ وهو الخبر, لأنه يخبر عن الله, وقيل: من النبوة, وهو الارتفاع, لارتفاع رتبته, وإنما كان كذلك, لأنه ارتفع على غيره. 2 والنبي: ‘إنسان ذكر, أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه, وإن أمر بتبليغه فهو رسول, وبينهما عموم وخصوص, فالرسالة أعم من جهة نفسها ولأخص من جهة أصحابها, والنبوة أخص من جهة نفسها وأعم من جهة أصحابها, فالنبوة جزء من الرسالة, إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها, وكل رسول نبي وليس كل نبي رسول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 نبىء بـ اقْرَأْ1 وأرسل بـ الْمُدَّثِّرُ2. وبلده   1 أي: أنزل عليه يوم الاثنين بلا خلاف, والمشهور أنه أنزل عليه في رمضان بغار حراء صدر سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1،2] ففيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة, وخص بالإنسان, لما أودعه من عجائب آياته, ومن كرم الله أن علمه ما لم يعلم فشرفه بالعلم, والعلم: تارة يكون في الأذهان, وتارة يكون في اللسان, وتارة في الكتابة بالبنان, ولهذا قال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:3-5] ورجع بها يرجف فؤاده, فقالت له خديجة: والله لا يخزيك الله, وأخبرت ورقة ابن نوفل, فقال: هذا الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى. 2 أي: بصدر سورة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} الآيات, بعد فترة الوحي, ولما جاء الملك فرق منه فقال: "دثروني" فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} , ثم حمى الوحي وتتابع, وكان أول ما أنزل عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 مكة1، وهاجر إلى المدينة2، بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد   بعد فترة الوحي, وحينئذ شمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ساق العزم ودعا إلى الله. 1 ولد بها في شعب علي, ونشأ بها إلا ما كان منه وهو مع مرضعته السعدية في البرية, ثم رجع إليها في حضانة جده, ثم عمه, وأوحى إليه بها, وبقي بها ثلاث عشر سنة بعد أن أوحي إليه. 2 بعد أن هموا بقتله صلى الله عليه وسلم, فتغيب في الغار, ثم سار هو وأبو بكر مهاجراً إلى المدينة, وذلك بعد أن بايعوه صلى الله عليه وسلم على النصرة والمؤازرة, وأرخت الأمة من مهاجره صلى الله عليه وسلم. 3 ذكر المصنف رحمه الله جملة مما يعرف به النبي صلى الله عليه وسلم, وأعظمها وأعلاها معرفة ما بعث به صلى الله عليه وسلم, وأنه بعث بالنذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد, وقدم المصنف النذارة عن الشرك قبل الدعوة إلى التوحيد, لأن هذا مدلول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) , ولأن الآية الآتية تقتضي ذلك, فبدأ بجانب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ1 (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ2 (3) وَثِيَابَكَ   الشرك لكون العبادة لا تصح مع وجود المنافي, فلو وجدت والمنافي لها موجود لم تصح, ثم ثنى بالتوحيد, لأنه أوجب الواجبات, ولا يرفع عمل إلا به. 1 هذه أول آية أرسل بها, وأول أمر طرق سمعه في حال إرساله صلى الله عليه وسلم, وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الملك الذي جاءه بحراء حين أنزل عليه {اقْرَأْ} رعب منه, فأتى إلى أهله فقال: "دثروني" فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أي: المتدثر بثيابه, المتغشي بها من الرعب الذي حصل من رؤية الملك عند نزول الوحي. {قُمْ} أي: من دثارك فأنذرهم وحذرهم من عذاب ربك إن لم يؤمنوا, بهذا حصل الإرسال, كما حصل بالأول النبوة. 2 أي: عظم ربك عما يقوله عبدة الأوثان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 التوحيد1 وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ2 وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ أَيْ طَهِّرْ أَعْمَالَكَ   1 فإن الشرك أعظم ذنب عصي الله به, ولا يرفع معه عمل, والتوحيد أوجب الواجبات, وأول دعوة الرسل من أولهم إلى أخرهم {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [لأعراف: من الآية59] , فشمر صلى الله عليه وسلم عن ساق العزم وأنذر الناس, وعم وخص وأوذي على ذلك هو ومن اتبعه, وجرى للمصنف-مجدد هذه الدعوة رحمه الله - نحو مما جرى عليه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه, وصبروا, وكانت لهم العاقبة, وأظهر الله الدين بعد دروسه على يديه وأتباعه, فلله الحمد والمنة, وجزاه الله - ومن آواه ونصره - عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء. 2 فهو سبحانه الإله الحق لا ند له ولا مثل له, فلا شريك له في إلهيته ولا في ربوبيته, بل هو المستحق أن يعبد وحده لا يشرك معه أحد في عبادته, فإن الشرك مع كونه أظلم الظلم فهو هضم للربوبية, وتنقص للألوهية, وسوء ظن برب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 عَنِ الشِّرْكِ1 وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ الرُّجْزَ: الأَصْنَامُ2، وَهَجْرُهَا تركها3 وأهلها4 وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلُهَا، أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سنين يدعو إلى   1 وهو أعظم ذنب عصي الله به, أو طهر نفسك مما يستقذر من الأقوال والأفعال 2 قال ابن عباس وغيره من المفسرين, ويقال: الشرك, ويقال: الزاي منقلبة عن السين, ويدل عليه قوله {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: من الآية30] , وقال ابن عباس أيضاً: اترك المآثم, والمعنى: اترك كل ما أوجب العذاب من الأقوال والأفعال. 3 والإعراض عنها, وهجر الشيء يهجره, صرمه وقطعه, والهجر: ضد الوصل, فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك الأوثان ومباعدتها ومصارميها وجميع المآثم. 4 قال تعالى عن الخليل: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: من الآية48] , {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: من الآية49] , فلا يتم توحيد العبد حتى يتبرأ من الكفر وأهل الكفر ويباعدهم وينابذهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 التوحيد1، وبعد العشر عرج به إلى   يتبرأ من الكفر وأهل الكفر ويباعدهم وينابذهم. 1 أي: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان التوحيد والدعوة إليه, وبيان الشرك والإنذار عنه, والتحذير منه عشر سنين, قبل فرض الصلاة التي هي عماد الدين, وقبل بقية الشرائع, وبهذا يتبين لك حقيقة ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم ودعت إليه الرسل كلهم هو إنذار عن الشرك, والنهي عنه, والدعوة إلى التوحيد, وبيانه وتوضيحه, كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء:25] ,وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: من الآية36] وقال عن نوح وهود وصالح وشعيب, أول شيء بدأوا به قومهم أن قالوا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [لأعراف: من الآية59] , وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم, أول شيء دعاهم إليه أن قال: "قولوا: لا إله إلا الله", فقالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صّ:5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 السماء1، وفرضت عليه الصلوات   وقال صلى اله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" , وفي رواية: "فادعهم إلى توحيد الله" , وهذه الروايات يفسر بعضها بعضاً, فانبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث بالدعوة إلى التوحيد, وذلك لأنه أساس الملة الذي تبنى عليها, وبدونه لا يبني شيء من الأعمال, فالتوحيد هو الأصل, وبقية شرائع الدين فرع عنه, فإذا زال الأصل زال الفرع, فأي بيان أبين من هذا؟ على أن التوحيد أوجب الواجبات, ومعرفته أفرض الفرائض, كونه صلى الله عليه وسلم أخذ عشر سنين يدعو إلى التوحيد, وينذر عن الشرك قبل أن تفرض عليه الفرائض. 1 أسري بجسده صلى الله عليه وسلم وروحه جميعاً من المسجد الحرام على البراق إلى البيت المقدس يقظةً لا مناماً, كما أخبر الله عنه ثم صعد به جبرائيل إلى السماء على المعراج, وهو المصعد الذي تصعد فيه الملائكة, كلّما مر بسماء تلقاه مقربوها حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الْخَمْسُ1، وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثَلاثَ سِنِينَ2، وَبَعْدَهَا أُمِرَ بالْهِجْرَةِ إِلَى المدينة3.   جاوزهم إلى سدرة المنتهى, فبلغ من الارتفاع والعلو إلى ما الله به عليم, ودنا من الجبار جل جلاله, وكلمة بلا واسطة, فأوحى إليه ما أوحى. 1 وكان أول فرضها خمسين صلاة, ولم يزل يتردد بين موسى وربه حتى وضعها إلى خمس, وقال: "هي خمس, وهي خمسون..الحسنة بعشر أمثالها" , ثم هبد إلى البيت المقدس وهبط الأنبياء معه, وأمّهم في بيت المقدس, ثم ركب البراق ورجع إلى مكة, وحدثهم عمّا رآه مسيره صلوات الله وسلامه عليه. 2 يعني: بعد أن عرج به وفرضت غليه قبل الهجرة , كما هو ظاهر في سياق ابن إسحاق: أن الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين, وقيل: سنة, وقيل: ونصف, وقيل: بخمس, والله أعلم. 3 أي: وبعد ثلاث عشرة من مبعثه صلى الله غليه وسلم أمر بمفارقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 والهجرة: الإنتقال من بلد الكفر إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ1 وَالْهِجْرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بلد الإِسْلامِ2،   المشركين وأوطانهم بحيث يتمكن من إظهار دينه, والدعوة إلى الله في غير بلادهم, فإن ذلك واجب وفرض, وما لات يتم الواجب إلا به فهو واجب, ولا يتم الفرض والواجب إلا مع مفارقة المشركين عن الأوطان, فإنه إذا كان في بلد لا يقدر على إظهار دينه والتصريح به وتبيينه, وجب عليه مفارقة ذلك الوطن لإظهار دينه. 1 إحرازاً للدين, وسمي المهاجرون مهاجرون لأنهم هاجروا ديارهم ومساكنهم التي نشأوا بها لله, ولحقوا بدار ليس لهم فيها أهل ولا مال, دين هاجروا إلى المدينة, فكل من فارق بلده فهو مهاجر, والمهاجرة في الأصل: مصارمة الغير ومقاطعته ومباعدته. 2 معلوم ثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع, متوعد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ1: وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ2 قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ3   تركها, وقد حكى الإجماع على وجوبها من بلد الشرك إلى بلد الإسلام غير واحد من أهل العلم, بل فرضها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة قبل فرض الصوم والحج, كما هو مقرر في كتاب الأصول والفروع, معلوم بالضرورة من الدين. 1 باتفاق من يعتد به من أهل العلم, قال شيخ الإسلام: لا يسلم أحد من الشرك إلا بالمباينة لأهله. 2 يعني: بالإقامة بين أظهر الكفار, نزلت في أناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا, فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ} أراد ملك الموت وأعوانه, أو ملك الموت وحده, فإن العرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع. {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بترك الهجرة. 3 أي: لم مكثتهم ههنا وتركتم الهجرة؟ استفهام إنكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ1 قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا2 فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً3 (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ4 لاَ يَسْتَطِيعُونَ   وتوبيخ وتقريع, يعود معناه إلى لم مكثتم ههنا وتركتم الهجرة, وفي أي فريق كنتم؟ والملائكة تعلم في أي فريق كان فيه التاركون للهجرة بعدما وجبت عليهم. 1 عاجزين عن الهجرة, لا نقدر عن الخروج من البلد, ولا الذهاب في الأرض. 2 يعني: إلى المدينة فتخرجوا من بين أهل الشرك, ولم تعذرهم الملائكة, وفي الحديث: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" رواه أبو داود وغيره في أحاديث أخر. 3 أي: بئس المصير إلى جهنم, وهذا فيه أن تارك الهجرة بعدما وجبت عليه مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب. 4 العاجز عن الهجرة, {وَالْوِلْدَانِ} جمع وليد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 حِيلَةً1 وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً2 (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ3 وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً4} [النساء:97 ـ99] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ5   ووليدة والوليد الغلام قبل أن يحتلم. 1 أي: من مفارقة المشركين, فلا يقدرون على حيلة ولا على نفقة, ولا على القوة للخروج. 2 لا يعرفون طريقا إلى الخروج من مكة إلى المدينة، حيث كانت هي إذ ذاك بلد الإسلام. 3 أي: يتجاوز عن المستضعفين وأهل الأعذار بترك الهجرة, وعسى من الله واجب, لأنه للإطماع. 4 {عَفُوّاً} يتجاوز عن سيئاتهم , {غَفُوراً} لمن تاب إليه, لا يكلف نفساً إلا وسعها, قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمستضعفين في الصلاة. 5 أمر تعالى عباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرضه الواسعة, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ1} [العنكبوت:56] قَالَ الْبُغَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ2: "سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يهاجروا،   وأخبر أن الأرض غير ضيقة, بل واسعة تسع جميع الخلائق, فإذا كان الإنسان في أرض لم يتمكن من إظهار الدين فيها, فإن الله قد وسع له الأرض ليعبده فيها كما أمر, وكذلك يجب على كل من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكن تغييرها أن يهاجر منها. 1أي: وحِّدون في أرضي الواسعة التي خلقتها وما عليها لكم, وخلقتكم عليها لعبادتي, وفي الحديث القدسي: "ابن آدم خلقتك لأجلي, وخلقت كل شيء لأجلك". 2 الملقب: محيي السنة, أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء, صاحب التفسير وشرح السنة وغيرهما, المتوفى سنة خمسمائة وستة عشر سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 نَادَاهُمُ اللهُ بِاسْمِ الإِيمَانِ1". وَالدَّلِيلُ عَلَى الْهِجْرَةِ من السنة2 قوله: "لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ3، وَلا تنقطع التوبة حتى   1 حكاه عن جماعة من التابعيين, فأفاد: أن تارك الهجرة بعدما وجبت عليه ليس بكافر, لكنه عاصٍ بتركها, فهو مؤمن ناقص الإيمان, عاصٍ من عصاة الموحدين المؤمنين. 2 أي: على وجوب الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام من سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي أمرنا باتباعها. 3 أي: لا تنقطع الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام حتى تنقطع التوبة, أي: حتى لا تقبل التوبة ممن تاب, فدل الحديث على أن التوبة ما دامت مقبولة فالهجرة واجبة بحالها, وأما حديث ابن عباس: "لا هجرة بعد الفتح, ولكن جهاد ونية" , فالمراد: لا هجرة بعد فتح مكة منها إلى المدينة, حيث كانت مكة بعدد فتحها بلد إسلام, فإن أناساً أرادوا أن يهاجروا منها إلى المدينة ظناً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 تطلع الشمس من مغربها"1. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي الْمَدِينَةِ، أُمِرَ بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ منهم أنه مرغب فيها, فبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه إنما حث عليها لما كانت مكة بلد كفر, أما وقد كانت بلد إسلام فلا, فالمعنى: لا هجرة من مكة إلى المدينة, أما ثبوت الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام, وبقاؤها فمعلوم بالنص والإجماع. 1 فإذا طلعت الشمس من مغربها فهو أوان قيام الساعة, وهي أقرب علاماتها, وإذا طلعت لا تقبل توبة, قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} [الأنعام: من الآية158] , وجاء في ذلك أحاديث كثيرة, وهذا يفسر بقيام الساعة, فدل على أنها تقبل قبل طلوع الشمس من مغربها, وما دامت تقبل التوبة فلا تنقطع الهجرة, وفي الحديث: "أنا بريء من مسلم بات بين ظهراني المشركين" , وقال: "لا ترائا نارهما" , وقال: "الهجرة باقية ما قوتل العدو" , وقال لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر من شاهق إلى شاهق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الإِسْلامِ1، مِثلِ الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالأَذَانِ، وَالْجِهَادِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ2، وَغَيْرِ ذَلِكَ من شرائع   1 أي: لما هاجر من مكة إلى المدينة واستقر بها وفشا التوحيد ودان به أولئك وأقاموا الصلاة, أمر ببقية شرائع الإسلام التي تعبّد الله خلقه بها, إذ عامت شرائع الإسلام لم تشرع إلا في المدينة. 2 قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لأعراف: من الآية157] , وهذه صفته في الكتب المتقدمة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام وفرض على كل واحد بحسبه, قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: من الآية110] وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: من الآية104] وأعلاه باليد, فمن لم يقدر فبلسانه, فمن لم يقدر فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان, والأمر بالمعروف من أعظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الإسلام1. أخذ على هذا عشر سنين2، وبعدها توفي، صلاة الله وسلام عليه3، ودينه باقٍ4. وهذا   شرائع الإسلام, وأعظمه الجهاد الذي هو ذروة الإسلام, وأمر به هو الزكاة والصوم سنة ثنين من الهجرة, وأما الحج فسنة تسع عند الجمهور 1 كبِرِّ الوالدين, وصلة الأرحام, وأداء الأمانات, وسائر مكارم الأخلاق, ومحاسن الأعمال, كما هو معروف من شريعته صلى الله عليه وسلم. 2 كلها توحى غليه فيها الشرائع, أركانها وواجباتها ومستحباتها, وما ينافي ذلك. 3 بعدما أكمل الله به الدين, وبلغ البلاغ المبين, قال أبو ذر: ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علماً. 4 موجود, وهو ما تضمنه الكتاب والسنة, مؤيد محفوظ إلى يوم القيامة, كاف لمن تمسك به, وقال صلى الله عليه وسلمك "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله, وسنتي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 دينه1 لا خير إلا دله الأُمَّةَ عَلَيْهِ2، وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ3، والخير الذي دل عليه:   1 الذي ترك أمته عليه, وتكفل الله بحفظه, فتوارثه أهل العلم والدين خلفاً عن سلف, قال السلف: هذا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا, ونحن عهدناه إليكم, وهذه وصية ربنا وفرضه علينا, وهي وصيته وفرضه عليكم, فجرى الخلف على منهاج السلف, واقتفوا آثارهم, ولا يزالون إلى يوم القيامة. 2 كما تقدم في قوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: من الآية128] , فصلوات الله وسلامه عليه, كما بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة. 3 خوفاً على أمته من الوقوع في المهالك, وقد بلغ الدين كله, وبينه جميعه, كما أمره الله عز وجل, وفي الحديث الشريف: "ما بعث من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم, ويحذرهم من شر ما يعلمه لهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 التَّوْحِيدُ1، وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ2. وَالشَّرُ الَّذِي حَذَّرَهَا مِنْهُ: الشِّرْكُ3 وَجَمِيعُ مَا يَكْرَهُ اللهُ وَيَأْبَاهُ4، بَعَثَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً5، وافترض طاعته على جميع الثقلين:   1 فهو أصل كل خير وأعظمه, وأوجب الواجبات, ولأجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب. 2 من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. 3 فهو أصل كل شر وأعظمه, وأول ما أمر به صلى الله عليه وسلم الإنذار عنه, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:1،2] أي: عن الشرك, وكذا كل رسول يحذر أمته عن الشرك ويدعوهم إلى التوحيد. 4 أي: يمنعه من الأقوال والأعمال. 5 يعني: بعث الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس, عربهم وعجمهم, ذكرهم وأنثاهم, حرهم وعبدهم, أحمرهم وأسودهم, ولا نزاع في ذلك بين المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الْجِنِّ وَالإِنْسِ1. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً2} [الأعراف:158]   1بإجماع المسلمين, وقرن بطاعته في غير موضع من كتابه. 2 وهذا عموم ظاهر في عموم بعثه إلى الناس جميعاً, عربهم وعجمهم, و {جَمِيعاً} تأكيد بعثه إلى الناس كافة, وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: من الآية28] , {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الفرقان:56] , {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: من الآية29] , وسورة الرحمن, وسورة الجن, وغيرهما, دالة أوضح دلالة على شمول رسالته إلى الجن والإنس, وقال: "إن الرسل قبلي يبعثون إلى قومهم خاصة, وبعثت إلى الناس كافة" , وهذا من شرفه صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين, وأنه مبعوث إلى الناس كافة, وهو معلوم من الدين أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الثقلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وأكمل الله به الدين1. والدليل قول تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ2 وَأَتْمَمْتُ   كلهم, وأن طاعته فرض عليهم كلهم, وهو مقتضى رسالته صلى الله عليه وسلم لا يمتري في ذلك إلا مكابر معاند. 1 أي: لم يتوف صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله به الدين وبلّغ البلاغ المبين, حتى قال: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 2 هذه الآية لم تنزل إلا قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بثمانين يوماً, نزلت عليه وهو واقف بعرفة يخطب الناس, وهذا أكبر نعم الله على هذه الأمة, حيث أكمل لها دينها, فلا يحتاجون إلى دين سواه, ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه, وقال تعالى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام: من الآية115] , أي: صدقاً في الأخبار, وعدلاً في الأوامر والنواهي, وفيها بيان أن الله أكمل لنا الدين, وإنه كمل من جميع وجوهه, والكامل لا يزاد فيه, ولا ينقص منه, ولا يبدل, قال تعالى: {لا مُبَدِّلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي1 وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً2} [المائدة:3]   لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: من الآية115] , فمن ادعى أنه يحتاج إلى زيادة فقد كذب وافترى, ورد مدلول هذه الآية ومدلول قوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحدثات الأمور, فإن كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة". لما أخبر تعالى أنه أكمل لنا الدين, وهو أكبر نعمة علينا قال: {وَأَتْمَمْتُ} , أي: أكملت {عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} , ومن تمت عليه النعمة فقد أفلح كل الفلاح. 2 أي: فارضوه أنتم لأنفسكم, فإنه الدين الذي أحبه ورضيه, وبعث به أفضل الرسل, وأنزل به أشرف كتبه, قال كعب: لو نزلت هذه الآية على غير هذه الأمة لا اتخذوا اليوم الذي أنزلت عليهم فيه عيداً, قال عمر: نزلت يوم جمعة يوم عرفة, وكلاهما بحمد الله لنا عيد, وكذا قال حبر الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1 قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ2 وَإِنَّهُم   1 أي من النقل مما يطابق الحس. 2 أي: أنك يا محمد ستموت, وقام أبو بكر لما توفي صلى الله عليه وسلم يبكي, وقال: وقال بأبي أنت وأمي, أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها, وقال تعالى {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: من الآية144] نعم هو حي صلى الله عليه وسلم في قبره حياةً برزخية أعلى وأكمل من حياة الشهداء المذكورة في قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] , وأما الحياة الجثمانية فلا ريب أنه مات صلى الله عليه وسلم, وغسل وكفن وصلي عليه, ودفن في ضريحه صلوات الله وسلامه عليه, ولم يقل أنه لم يمت إلا المبتدعة الخارجة عن منهج الكتاب والسنة, مخافة أن ينتقص عليهم أصلهم الباطل في توجههم إليه, وسؤاله ما لا يقدر عليه, وإلاّ فموته صلى الله عليه وسلم معلوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 مَّيِّتُونَ1 (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ2} [الزمر:31،30] والناس   بالسمع والمشاهدة, مشهور يعلمه العام والخاص لا يمتري فيه إلا مكابر. 1 أي: سيموتون, قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: من الآية185] . 2 فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله تعالى, كما في سورة القيامة, وآخر يس, وغيرهما من السور, فالإيمان بالبعث والنشور من القبور من جملة الإيمان باليوم الآخر, فإن الإيمان باليوم الآخر يشمل الإيمان بالبعث, بل الإيمان بالبعث هو معظم الإيمان باليوم الآخر, وهو الذي كان ينكره أهل الجاهلية, أنكروا أن تعود هذه الأجساد كما كانت عظامها ولحمها وعصبها, وذلك من جهلهم بكمال علمه تعالى وقدرته على كل شيء, ولهذا يقرر تعالى بعث الأجساد وردها كما كانت في مواضع من كتابه بكمال علمه وقدرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 إِذَا مَاتُواْ يُبْعَثُونَ1، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى2} [طه:55] وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً3 (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ 1 ليجازى كل بعلمه, ويقتص لبعضهم من بعض حتى البهائم. 2 أي: من الأرض مبدؤكم, فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض, وفي الأرض نعيدكم, أي: إذا متم تصيرون إليها فتدفنون بها, ومن الأرض نخرجكم يوم البعث والحساب , {تَارَةً} أيك مرة أخرى, كقوله: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [لأعراف: من الآية25] , وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أخذ قبضة من تراب الأرض فألقاها في القبر فقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] 3 أراد تعالى مبدأ خلق آدم من الأرض والناس ولده, و {نَبَاتاً} اسم وضع موضع المصدر, أي: إنبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 إِخْرَاجاً1} [نوح:18،17] وَبَعْدَ الْبَعْثِ مُحَاسَبُونَ2 وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ3. والدليل قول تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا4 بِمَا عَمِلُوا   1 أي: {نُعِيدُكُمْ} في الأرض إذا متم {نُخْرِجُكُمْ} منها بعد البعث أحياء، {إِخْرَاجاً} يعيدكم يوم القيامة كما بدأكم أول مرة. 2 أي: على الأعمال حسنها وسيئها، والإيمان بالحساب والمجازاة على الأعمال من الإيمان باليوم الآخر أيضا. 3 دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها. 4 يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض، الغني عما سواه، الحاكم بالعدل، خالق الخلق بالحق {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا} من الشرك فما دونه، {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا} وحدوا ربهم وأخلصوا له الطاعة {بِالْحُسْنَى} الجنة، وقال: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: من الآية15] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، يقرر فيها تعالى أنه لا يجازي كلا بعمله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ1. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا2 قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ3 ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ4   إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. 1 لتكذيبه الله ورسوله وإجماع المسلمين. 2 كفّرهم الله تعالى بإنكارهم للبعث في زعمهم أن لن يبعثوا, فدل على إنكار البعث كفر, بل هو من أعظم كفر أهل الجاهلية. 3 أي: {قل} يا محمد: {بَلَى وَرَبِّي} , جواب تحقيق وقسم بالله العظيم {لَتُبْعَثُنَّ} يوم القيامة, وهذه الآية الثالثة التي أمر الله نبيه أن يقسم بربه عز وجل على وقوع المعاد ووجوده, وفي يونس: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53] , وفي سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} سبأ: من الآية3] . 4 أي: لتخبرن بجميع أعمالكم, جليلها وحقيرها, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ1} [التغابن:7] وَأَرْسَلَ اللهُ جميع الرسل مبشرين ومنذرين2.   صغيرها وكبيرها, قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الانبياء:47] . 1 سهل هين عليه, كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: من الآية27] , فإن كان هذا النوع الإنساني في العدم لم يوجد قبل, ثم أوجده الله تعالى من طين, وذراريه من ماء مهين, ثم جعل هذا التناسل منه, فإنه لا يعجزه أن يعيدهم وهو الذي أبدعهم, وفي الحديث: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك, فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني, وليس الخلق بأهون علي من آخره". 2 أي: أرسل الله جميع رسله من أولهم نوح عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1 [النساء:165] َوَأَّولُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ2، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم3.   السلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يدعون إلى عبادة الله وحده, وترك عبادة ما سواه, مبشرين من أجابهم إلى ما دعوا إليه برضوان الله وكرامته, ومنذرين محذرين من عصاهم غضب الله وسخطه وعقابه. 1 فلا يقولون يوم القيامة: ما أرسلت إلينا رسولاً, ما أنزلت إلينا كتاباٍ, فانقطعت حجة الخلق على الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب, إقامة الحجج عليهم, وتبيين الحق لهم, وركز الفطر في قلوبهم, وانقطعت المعذرة ولم يبق للناس على الله حجة. 2 كان بينه وبين آدم عشرة قرون كلهم على الإسلام, فلما حدث الشرك بسبب الغلو في الصالحين أرسل إليهم, وهو أول رسول على أهل الأرض بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين, 3 وهو آخر الرسل إلى أهل الأرض بالكتاب والسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} 1 [النساء:163] وكل أمة   وإجماع المسلمين، وهو خاتم النبيين لا نبي بعده, قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: من الآية40] , وثبت عنه من غير وجه أنه لا نبي بعده, وأجمع المسلمون على ذلك, واشتهر كذب من ادعى النبوة بعده, وأخبر بذلك أنه سيأتي بعده كذابون دجالون ثلاثون كلهم يزعمون أنه نبي, ووقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم, وعيسى ابن مريم إذا نزل في آخر الزمان إنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم, فهو من أمته بإجماع المسلمين 1 أي: من بعد نوح, فهو أول رسول وأول نذير عن الشرك, وقوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} , بناء على سبق من قوله {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: من الآية153] , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِا رَسُولا مِنْ نُوحٍ إِلَى محمد1   {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية91] , وقال: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: من الآية91] , وقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: من الآية163] وذكر عدة من الرسل, أي: فقد أنزل عليك كما أنزل عليهم ... إلى أن قال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: من الآية165] , ولابن مردويه وابن أبي حاتم, عن أبي ذر قلت: يا رسول الله, كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً" قلت: كم الرسل منهم؟ قال: "ثلاث مائة وثلاثة عشر جم غفير", فأقام تعالى الحجة, وقطع المعاذير بإرسال الرسل وإنزال الكتب. 1 فنوح أول رسول من بني آدم إلى أهل الأرض, وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم, وما من أمة من الأمم, ولا طائفة من الطوائف, إلا وقد بعث الله فيهم رسولاً, إقامة منه تعالى للحجة على عباده, وإيضاحا للمحجة, قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ1. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ   رَسُولاً} [الاسراء: من الآية15] , ولما كانت الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كلما هلك نبي خلفه نبي, قيض الله لهذه الأمة أئمة هدى حفظ الله بهم دينه, وأقام بهم الحجة على عباده, ولا تزال إلى قيام الساعة, كما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة إلى قيام الساعة". 1 يدعوهم إلى هذا الذي بعثت به الرسل, ودعوتهم كلهم إلى عبادة الله وحده, وترك عبادة ما سواه, فزبدة جميع ما أرسلت به الرسل هو التوحيد, وما سواه من تحريم وتحليل ففروع, ولا يؤمر بها إلا بعد وجود التوحيد, ولا تقبل ولا يلتفت إليها إلا مع التوحيد الذي هو دين الرسل, من أولهم إلى آخرهم, ولأجله خلقت الخليقة, وأرسلت الرسل, وأنزلت الكتب, وخلقت الجنة والنار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ1} [النحل:36] وافترض الله   1 ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء:25] , وغير ذلك من الآيات الدالة على عظم التوحيد, وكلا الآيتين فيهما العموم الواضح, أن أول شيء بدأت به الرسل قومهم هو التوحيد, وأيضا في أفراد الرسل جاءت الآيات, كما قال عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم أن أول شيء بدأوا به قومهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: من الآية32] , فهذه دعوة الرسل, وزبدة الرسالة, وبه تعرف عظمة شأن التوحيد, ومعرفتك عظمه بأن تصرف همتك إليه, وإلى معرفته والعمل به غاية جهدك, وإلى معرفة ما يضاده, وما سواه من أنواع العلوم الفروعية بعد ذلك, فيهتم الإنسان غاية الاهتمام بمعرفة أصل الدين إجمالا قبل الواجب من الفروع, الصلاة والزكاة وغير ذلك, فلا تصح الصلاة ولا الزكاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   قبل الأصل, فلابد من معرفة أصل الدين إجمالاً, ثم معرفة فروعه تفصيلاً, وفي حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن, قال له: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب, فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله, فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" , وهذا يفيد أنهم إذا لم يعلموا التوحيد ولم يعملوا به فلا يدعوهم للصلاة إن لم يطيعوه في الدخول في الإسلام, فإن الصلاة لا تنفع ولا غيرها بدون التوحيد, فإنه لا يستقيم بناء على غير أساس, ولا فرع على غير أصل, والأصل والأساس هو التوحيد, والصلاة وإن كانت هي عمود الإسلام فمع ذلك لم تفرض إلا بعد الأمر بالتوحيد بنحو عشر سنين. ومما يبين أن التوحيد هو الأصل: كونه يوجد من يدخل الجنة ولو لم يصل ركعة واحدة, وذلك إذا اعتقد التوحيد وعمل به ومات متمسكاً به, كأن يقتل قبل أن يصلي أو يموت, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   والصلاة لا تنفع وحدها, ولو صلى وزكى وصام, إذا لم يعتقد التوحيد وبذلك يعرف عظم شأن التوحيد, ومات هلك من هلك إلا بترك العلم بالتوحيد والعمل به, وما دخل الشيطان على من دخل, ولا مزق عقول من مزق, ولا وقع من وقع إلا من آفة قولهم: يكفي النطق بالشهادة, ومجرد المعرفة, حتى أن من علمائهم من لا يعرف التوحيد أصلاً, وذلك لأنهم ابتلوا بالشرك وعبادة الأوثان, وكثرة الشبهات الباطلة, فبذلك خفي التوحيد على كثير ممن يدعي العلم, لعدم المعرفة به, وإلا فمعرفة التوحيد والشرك من أهون ما يكون وأسهله إجمالأً, كما في زمن الصحابة, فإنهم كانوا يعرفون التوحيد والشرك, فمن قال: (لا إله إلا الله) يترك الشرك, ويعلم أنه باطل مناف لكلمة الإخلاص, ولهذا لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد, وقال: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا", قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ، وَالإِيمَانَ بِاللهِ1. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى2: "مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ معبود، أو متبوع، أو مطاع"3.   [صّ:5] , وأما حين كثرت الشبهات صعب معرفة التوحيد, والتخلص من ضده, وكثر النفاق, وصار الكثير يقولها ويعبد مع الله غيره, فالله المستعان. 1 ولأجل ذلك أرسلت الرسل, وأنزلت الكتب, بل الدين أمران: كفر بالطاغوت, وإيمان بالله, ومن كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها. 2 هو الإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي, المعروف بابن القيم الجوزية, صاحب التصانيف المقبولة, المتوفى سنة سبعمائة وإحدى وخمسين. 3 يعني: كل شيء يتعدى به العبد حده, أي: قدره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 والطواغيت كثيرة1، رؤوسهم خَمْسَةٌ2: إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ3، وَمَنْ عُبِدَ وَهُوَ   الذي ينبغي له في الشرع يصير به طاغوتاً, سواء تعدى حده من معبود مع الله بأي نوعه من أنواع العبادة, أو متبوع في معاصي الله, أو مطاع من دون الله في التحليل والتحريم, ثم قال ابن القيم: فإذا تأملت طواغيت العالم فإذا هي لا تخرج عن هذه الثلاثة. 1 أي: إذا عرفت ما حده ابن القيم بتحقق, تبين أن الطواغيت كثيرة جدا من بني آدم بلا حصر, وذلك أن كل من تجاوز حده في الشرع صار بخروجه منه وتجاوزه طاغوتاً. 2 أي: أكبر الطواغيت بالاستقراء والتأمل خمسة. 3 هو رأسهم الأكبر, واللعن في الأصل: الطرد والإبعاد, وتقدم, وإبليس مطرود مبعد عن رحمة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 رَاضٍ1، وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ2، وَمَنْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ3، وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ4. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تعالى: {لاَ   1 بتلك العبادة الصادرة من العابد بأي نوع من أنواعها, فهو طاغوت من رؤساء الطواغيت وكبرائهم. 2 ممن يقر الغلو والتعظيم بغير حق كفرعون ومشائخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد واتخاذهم أرباباً والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم, وحكي عن بعض أئمة الضلال أنه قال: من كان له حاجة فليأتي إلى قبري وليستغث بي. 3 كالمنجمين والرمالين ونحوهم. 4 كمن يحكم بقوانين الجاهلية, والقوانين الدولية, بل جميع من حكم بغير ما أنزل الله، سواء كان بالقوانين, أو بشيء مخترع وهو ليس من الشرع, أو بالجور في الحكم فهو طاغوت من أكبر الطواغيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ1 قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْد مِن   1 أي: لا تكرهوا أحد على الدخول في الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه، فمن هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا، قيل: في عدد من أولاد الأنصار أرادوا استردادهم لما أجليت بنوا النضير، وقيل: كان في إبتداء الأمر ثم نسخ بالأمر بالقتال، قال الشيخ: شرع الجهاد على مراتب: فأول ما أنزل الله فيه الإذن فيه بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: من الآية39] ثم نزل وجوبه بقوله: {كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [النساء: من الآية77] ولم يؤمروا بقتال من سالمهم، وكذا من هادنهم، ثم أنزل الله في (براءة) الأمر بنبذ العهد وقتال المشركين كافة، وبقتال أهل الكتاب إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية، ولم يبح ترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الْغَي1 فَمَن يَكْفُرْ بالطَّاغُوت وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى2}   قتالهم وإن سالموهم وهادنوهم هدنة مطلقة مع إمكان جهادهم، وقال ابن القيم: كان محرما، ثم مأذونا فيه، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورا به لجميع المشركين، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: من الآية5] وقال صلى الله عليه وسلم: "قاتلوا من كفر بالله". 1 أي: ظهر وتميز الحق من الباطل، والإيمان من الكفر، والهدي من الضلال بالآيات والبراهين الدالة على ذلك. 2 أي: تمسك بالتوحيد وهو العروة الوثقى، واستمسك بالشيء وتمسك به وأمسك: أخذ به وتعلق واستعصم، والعروة الوثقى: القوية التي لا تنفك ولا تنفصم، فمن تمسك بالتوحيد –دين الله الذي أرسل به الرسل وأنزل به الكتب الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه- وصل الجنة بكل حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 [البقرة:256] وَهَذَا هُوَ مَعْنَى (لا اله إِلا الله) وفي الحديث: "رأس الأمر الإسلام2،   1 فإن معنى (لا إله إلا الله) : كفر بالطاغوت والإيمان بالله، كما تقدم. 2 يعني: رأس الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الإسلام، فمن انتسب إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وادعى أنه من أمة الإجابة، وقد فقد منه رأس الأمر وحقيقته –وهو: الإسلام- فليس من أمة الإجابة، والإسلام: هو الملة والدين، فمن فقد منه فقد كذب وافترى في دعواه الإستجابة لله ورسوله، كما أن الحيوان إذا فقد منه رأسه فأي شيء ينفع سائر جسده، فمن ادعى أنه من أمة الإجابة، وقد فقد منه الإسلام رأس الأمر –وأساسه إفراد الله بالعبادة- فلا وجود لما يدعيه؛ لفقد حقيقة الإنتساب، قال شيخ الإسلام: كل اسم علق بأسماء الدين من إسلام أو إيمان أو غيرهما إنما يثبت لمن اتصف بتلك الصفة الموجبة لذلك. اهـ. كمن ادعى أنه متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو مع الله غيره، كأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وعموده الصلاة1، وذروة سنامه الجهاد في   يسأله قضاء الحاجات وتفريج الكربات ويزعم أن ذلك قربة إلى الله، وأنه مما يحبه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنه هو المضاد المعاند المعادي للنبي صلى الله عليه وسلم المنتقص المستهزئ بدين النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يقر أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق ومع ذلك يعمل بخلافه، فقد عكس الدين والشرع جميعا، وخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومرق من الإسلام، حيث جعل الشرك توحيدا، وزعم أن هذا مما أمر به، فعطل الشرع والدين جميعا. 1 هذا فيه عظم شأن الصلاة، وأنها من الذين بهذا المكان العظيم، وهو أن مكانها من الدين مكان العمود من الفسطاط، فكما أن عمود الفسطاط إذا سقطت سقط الفسطاط، فكذلك إذا فقدت الصلاة سقط دين تاركها، ولم يبقى له دين؛ لأن مجرد ترك الصلاة كفر مخرج من الملة، وهذا الحديث من أدلة ما اختاره الإمام أحمد وغيره أنه إذا تركها كسلا فهو كافر، فإن قوله: "عموده الصلاة" يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 سبيل الله1".   على أن المراد: فعل الصلاة، ليس المراد بالإقرار بها، فإن المبتدأ والخبر معرفتان يقتضيان الحضر، وأنها وحدها عمود الدين، وأما جحد وجوبها فكفر إجماعا، وإن فعلها، كما أن جحد شيء مجمع عليه عند الأئمة كفر. 1 ذروة الشيء: أعلاه، وذروة البعير: سنامه، وهو أعلاه وأرفعه، وهذا يفيد أن الجهاد هو أعلى وأرفع خصال الدين؛ وذلك لأن فيه بذل المهج التي ليس شيء أنفس منها، ولا يعادلها شيء البتة، فيبذل مهجته، ويبذل ماله لظهور الدين وتأييده، وجهاد الكفار والمنافقين، فبذلك استحق أن يكون من الدين بهذا المكان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: من الآية73] ، {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: من الآية41] ، {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: من الآية11] ، {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف:12] وغير ذلك من الآيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 والله أعلم. وصلى الله علي محمد وآله وصحبه وسلم1.   والأحاديث المستفيضة في فضل الجهاد والحث عليه، وهو ركن من أركان الدين. 1 ختم المصنف رحمه الله هذه النبذة الجليلة كغيره برد العلم إلى من هو بكل شيء محيط علما، وسأله أن يثني على نبيه وآله وصحبه، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174