الكتاب: تسهيل العقيدة الإسلامية المؤلف: عبد الله بن عبد العزيز بن حمادة الجبرين الناشر: دار العصيمي للنشر والتوزيع الطبعة: الثانية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- تسهيل العقيدة الإسلامية عبد الله بن عبد العزيز الجبرين الكتاب: تسهيل العقيدة الإسلامية المؤلف: عبد الله بن عبد العزيز بن حمادة الجبرين الناشر: دار العصيمي للنشر والتوزيع الطبعة: الثانية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم ال مقدمة الحمد لله ذي النعم الكثيرة المتوالية، والتي يجب على العباد أن يشكروه عليها بعبادته وطاعته، ومن أعظم نعمه على هذه الأمة أن أرسل إليها أفضل رسله، وهو نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والذي ما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه وأمر به , ولا ترك أمراً فيه ضرر عليها أو يؤدي بها إلى الضلال والانحراف إلا حذرها منه , حتى ترك أمته على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك , ولهذا يجب على كل مسلم ومسلمة أن يحب الله تعالى وأن يحب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحب نفسه ووالديه وأولاده وأمواله وأي شيء آخر , كما يجب على المسلمين أن يتأسوا بهذا النبي المبارك, فيعملوا بجميع أوامره , ويجتنبوا جميع ما حذر منه , وألا يقدموا على سنته قول أو اجتهاد أحد من البشر كائناً من كان , وهذا هو العلامة الظاهرة لمحبة الله تعالى ومحبة نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم , قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 أما بعد: فهذا كتاب يتناول موضوعات عقدية مهمة , هي: 1- أهم خصائص العقيدة الإسلامية. 2- وسطيَّة العقيدة الإسلامية. 3- التوحيد. 4 - نواقض التوحيد. 5 - منقصات التوحيد. 6- الولاء والبراء. وقد أسميته "تسهيل العقيدة الإسلامية"، وصدَّرته بتعريف وشرح لبعض المصطلحات العقدية المهمة , ليسهل على القارئ فهمها عند مروره عليها في ثنايا هذا الكتاب. وتوخَّيتُ في كتابته سهولة العبارة , ووضوح الأسلوب , وتناول أكثر مسائل الموضوعات السابقة على وجه التفصيل والبيان , معضداً جميع ما أذكر بالأدلة الشرعية من الكتاب , والسنة الصحيحة , والإجماع , وذلك ليكون مناسباً ومفيداً للطلبة في المرحلة الجامعية وما يعادلها من المعاهد الشرعية المتخصصة , وطلبة الدورات الشرعية في داخل هذه البلاد وخارجها , ومن هو في مستواهم. كما أنني توسَّعتُ في حواشي هذا الكتاب وذكرت فيها بعض التفصيلات التي رأيت أن في ذكرها في المتن تطويلاً له , كما ذكرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 فيها نقولات توثيقية عن علماء من المذاهب الأربعة ومن أقوال السلف والأئمة المجتهدين , لتكون هذه الحواشي مرجعاً لمن يريد التوسع في هذه الموضوعات العقدية المهمة من الأساتذة والمتخصصين وغيرهم. وقد حرصت على نشر جميع أبواب وفصول هذا الكتاب في مجلات علمية محكمة على شكل بحوث مستقلة , وذلك للاستفادة من مراجعة الفاحصين المتخصصين لهذه البحوث , فقمت بتجزئة أبوابه وفصوله إلى ستة بحوث. وهذه هي أسماء هذه البحوث مبيَّناً أمام كل بحث المجلة التي قامت بإجراءات نشره: 1- التوحيد والشرك الأكبر – مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 2- الكفر الأكبر – مجلة جامعة أم القرى. 3- النفاق الأكبر – مجلة جامعة أم القرى. 4- الوسائل التي تؤدي إلى الشرك الأكبر – مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 5- منقصات التوحيد – مجلة البحوث الإسلامية التابعة لهيئة كبار العلماء بالمملكة. 6- الولاء والبراء – مجلة البحوث الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 كما قمت بنشر التمهيد في مجلة "الجندي المسلم" التابعة لوزارة الدفاع والطيران بالمملكة في حلقات متتابعة. هذا وقد تفضل مشكوراً بقراءة هذا الكتاب وإتحافي ببعض الفوائد والملحوظات العلمية والطباعية عددٌ من المشايخ وطلاب العلم المتخصصين في العقيدة الإسلامية، ومنهم: 1- أ. د. ناصر بن عبد الكريم العقل الأستاذ بقسم العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض. 2- د. عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف , الأستاذ بقسم العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض. 3- د. فهد بن سليمان الفهيد , وكيل قسم العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض. فلهم جميعاً ولغيرهم ممن راجع هذا الكتاب أو بعض فصوله جزيل الشكر والتقدير. كما أشكر كل من تفضَّل بإتحافي بفائدة أو فوائد علمية أثناء تأليف هذا الكتاب , وأخصُّ منهم بالذكر فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك الأستاذ بكلية أصول الدين بالرياض سابقاً , الذي أفادني بفوائد عقدية مهمة جداً , وفضيلة الشيخ د. عبد العزيز بن عبد الله الراجحي الأستاذ بكلية أصول الدين بالرياض والذي قرأت عليه بعض فصول هذا الكتاب , وأسأل الله أن يثيبهم جميعاً على ذلك أجزل الثواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ولا أنسى أن أشير إلى ما أفادني به شيخاي: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رحمه الله -, وفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين – رحمه الله – من فوائد عقدية مهمة أثناء تأليف هذا الكتاب , فأسأل الله أن يثيبهما وكلَّ مَنْ شارك في مراجعة هذا السِّفْر أعظم الأجر وأن يغفر لي ولهم جميع الذنوب، وأن ينجينا من عذاب القبر ومن أهوال القيامة ومن عذاب النار. وفي ختام هذه المقدمة آمل من كل من كان لديه أي اقتراح يتعلق بهذا الكتاب سواء كان طلب إضافة مبحث معين, أو التوسع في موضوع من المواضيع التي بحثت , أو طلب اختصار الكلام على مسألة معينة , أو أي ملحوظة أو فائدة مناسبة، أن لا يتردد في إتحافي بذلك على صندوق البريد 32454 ورمزه 11428 الرياض. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قاله وكتبه عبد الله بن عبد العزيز الجبرين كلية المعلمين بالرياض - قسم الدراسات الإسلامية - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بسم الله الرحمن الرحيم ال تمهيد ويشتمل على ثلاث مسائل: المسألة الأولى: بيان بعض المصطلحات العقدية، وتعريفها. ونبدأ هذه المصطلحات بذكر تعريف العقيدة نفسها. 1- فالعقيدة في اللغة: مأخوذة من العقد، وهو الشد والربط والإيثاق والثبوت والإحكام"1". وفي الاصطلاح: الإيمان الجازم بالله تعالى، وبما يجب له من التوحيد ، والإيمان بملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشرِّه، وبما يتفرع عن هذه الأصول ويلحق بها"2" مما هو من أصول الدين. وقد أطلق كثير من السلف على العقيدة الصحيحة اسم "السنة"، وذلك لتمييزها عن عقائد ومقولات الفرق الضالة، لأن العقيدة الصحيحة وهي عقيدة أهل السنة والجماعة مستمدة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، التي هي مبينة للقرآن.   1- لسان العرب، مادة "عقد". 2- رسالة العقيدة الصحيحة لشيخنا عبد العزيز بن باز ص3،4، ورسالة مجمل أصول أهل السنة والجماعة ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وقد ألَّف بعض السلف كتباً في العقيدة أسموها "السنة"، ومنها كتاب "السنة" للإمام أحمد بن حنبل، وكتاب "السنة" لابن أبي عاصم، وغيرهما"1". كما أطلق بعض العلماء على العقيدة اسم "أصول الدين"، وذلك أن ملة النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى اعتقاديات وعمليات، والمراد بالعمليات علم الشرائع والأحكام المتعلقة بكيفة العمل، كأحكام الصلاة والزكاة والبيوع وغيرها، وتسمى "فرعية"، أو "فروع"، فهي كالفرع لعلم العقيدة، لأن العقيدة أشرف الطاعات، ولأن صحتها شرط في قبول العبادات العملية"2"، فإذا فسدت العقيدة لم تقبل العبادة، وبطل أجرها،   1- ينظر آخر كتاب السنة لابن أبي عاصم 2/645 647، جامع العلوم والحكم: شرح حديث العرباض ص395، كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/8، لوائح الأنوار 1/147، حكم الانتماء ص46. 2- قال في الدرة المضية: وبعد فاعلم أن كل العلم ... كالفرع للتوحيد فاسمع نظمي لأنه العلم الذي لا ينبغي ... لعاقل لفهمه لم يبتغ ينظر الدرَّة المضيّة مع شرحها لوامع الأنوار البهية: المقدمة، ج1 ص4، وص57. فهذا الإطلاق ينطبق على غالب مسائل العقيدة، كما أن بعض مسائل الأحكام العملية يعتبر من الأمور المهمة في الدين، كالعلم بوجوب الواجبات الظاهرة، مثل أركان الإسلام، ومثل تحريم المحرمات المجمع عليها إجماعاً قطعياً، ونحو ذلك من الأحكام العملية المجمع عليها، والتي من جحدها كفر كما سيأتي عند الكلام على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [الزمر] . قال ابن أبي العز في مقدمة شرح الطحاوية: " أما بعد، فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف العلم بشرف المعلوم"1" - وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى- ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين "الفقه   =كفر الجحود في الباب الثاني إن شاء الله تعالى -. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع. ينظر مجموع الفتاوى فصل في جمل مقالات الطوائف ج6، ص56، وينظر ج3 ص364367، وج19، ص134. وبما أن غالب مسائل العقيدة من الأصول وغالب المسائل العملية من الفروع فقد اصطلح على تسمية العقيدة "أصول الدين" وعلى تسمية الأحكام العملية "الفروع"، ولهذا أسمى بعض العلماء مؤلفاتهم في العقيدة باسم "أصول الدين"، مثل: "الإبانة عن أصول الديانة" لأبي الحسن الأشعري، و"مسائل من أصول الديانات" لأبي يعلى، و "سلم الوصول إلى علم الأصول" للحكمي، وغيرها. وينظر: عقيدة السلف للصابوني ص159، 160، التفريق بين الأصول والفروع للدكتور سعد الشثري. 1- قال البزدوي في كشف الأسرار 1/8 عند كلامه على هذه المسألة: "لأن شرف العلم وعظمته بحسب المعلوم، ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى وصفاته، الذي يبحث فيه هذا العلم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الأكبر" - وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه ... ". هذا وقد أطلق بعض العلماء على العقيدة اسم "الفقه الأكبر"، وذلك لأن العقيدة هي أصل الدين، والفقه العملي - الذي يسمى "الفقه الأصغر" - فروعه، كما سبق. وقد ألّف الإمام أبوحنيفة رسالة في العقيدة أسماها "الفقه الأكبر"1". 2- أهل السنة والجماعة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة"2". وهم: المتمسكون بالعقيدة الصحيحة الخالية من شوائب البدع   1- قال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة السابق كما في فتاويه 12/143 عن نسبة هذا الكتاب لأبي حنيفة: "شهرته معروفة، معلومة، ثابت عن أبي حنيفة بالأسانيد الثابتة". وينظر مقدمة شرح الطحاوية ص5، وكشف الأسرار للبزدوي 1/8. 2- التنبيهات السنية ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 والخرافات وهي العقيدة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق عليها أصحابه رضي الله عنهم "1". وقد سُمُّوا "أهل السنة" لعملهم بمقتضى سنة النبي صلى الله عليه وسلم المبينة للقرآن، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ ""2"، فهم يعلمون أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم خير الهدي، فقدموه على هدي من سواه. وسُمُّوا "الجماعة" لأنهم اجتمعوا على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف هذه الأمة، فهم قد اجتمعوا على الحق، وعلى عقيدة الإسلام الخالية من الشوائب"3". وأيضاً فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة   1- ينظر آخر العقيدة الواسطية ص183، ومجموع فتاوى ابن تيمية 3/159، 346، 375، وفتاوى السعدي ص63، 64، وقد أقر هذا التعريف بعض المخالفين لأهل السنة. ينظر الفصل في الملل 2/113، وتلبيس إبليس الباب الثاني ص25، 26، والأمر بالاتباع للسيوطي ص81. 2- رواه الإمام أحمد 4/126، 127، والترمذي "2676" وقال "حسن صحيح"، وابن ماجه "4244" من طرق يقوي بعضها بعضاً عن العرباض بن سارية. فهو حديث حسن بمجموع طرقه. وقد جوّد إسناده الحافظ أبو نعيم كما في جامع العلوم ص387. 3- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/157، 358، شرح الواسطية لمحمد خليل هراس ص16، شرح الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين 1/52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الناجية المتبعة لسنته وطريقة أصحابه - وهم أهل السنة والجماعة"1" - سماهم "الجماعة"، فقد ثبت عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ"2" بصاحبه ... ""3".   "1" فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الفرقة الناجية: " من كان على ما أنا عليه وأصحابي " وسيأتي تخريجه عند تعريف "السلف"، وهذه صفة أهل السنة والجماعة كما سبق. "2" الكَلَب بفتح اللام مرض يصيب الكلب، فيصيبه شبه الجنون، فإذا عض إنساناً أصيب الإنسان بهذا المرض، وأصيب بالعطش الشديد، ولا يشرب، حتى يموت. ينظر النهاية 4/195، لسان العرب 1/723. "3" رواه الإمام أحمد 4/102، وأبو داود "4597"، وابن أبي عاصم في السنة "1، 2، 65" بإسناد حسن. وله شاهد من حديث أنس رواه ابن ماجه "3993"، وابن أبي عاصم "64"، وأحمد 3/145، والآجري في الشريعة باب ذكر افتراق الأمم ص16، 17 من طرق يشد بعضها بعضاً. وله طرق أخرى تنظر في السلسلة الصحيحة "204"، وله شاهد آخر من حديث عوف بن مالك رواه ابن ماجه "3992"، واللالكائي "149"، وشاهد ثالث من حديث سعد رواه الآجري ص17، 18، وابن بطه في الإبانة "267". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد كلام له: "ولهذا وصفت الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع. فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة""1". وهذه التسمية "أهل السنة والجماعة" وصف صادق يميز أهل العقيدة الصحيحة وأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفرق الضالة التي تسير على غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فمن هذه الفرق من يأخذ عقيدته من عقول البشر وعلم الكلام الذي ورثوه عن فلاسفة اليونان، فيقدمونها على كلام الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيردون النصوص الشرعية الثابتة أو يؤولونها لمجرد أن عقولهم القاصرة لم تقبل أو لم تستسغ ما دلت عليه هذه النصوص. ومن هذه الفرق: الفلاسفة، والقدرية، والماتوريدية, والجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة الذين قلدوا الجهمية في بعض آرائهم. ومن الفرق الضالة من يأخذ عقيدته من آراء مشايخهم وأئمتهم   وقد صحح هذا الحديث الإمام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 3/345، وحسن الحافظ في تخريج الكشاف ص63 حديث معاوية، وصحح البوصيري حديث أنس في الزوائد 4/180. "1" مجموع الفتاوى 3/345، 346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 المبنية في كثير من الأحيان على الهوى، كالصوفية والرافضة وغيرهم، فيقدمون كلامهم على كلام الله وكلام رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. كما أن هذه الفرق منها من تنتسب إلى من أسسها وأنشأ أصولها العقديَّة، كالجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان، وكالأشاعرة نسبة إلى أبي الحسن الأشعري - وإن كان الأشعري رجع عن هذه العقيدة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة"1"، لكن مقلِّدوه استمروا على عقيدته المنحرفة التي رجع عنها -، والأباضية نسبة إلى عبد الله بن أباض، وغيرهم. ومن هذه الفرق من تنتسب إلى بعض آرائها العقدية الضالة، أو إلى بعض أفعالها السيئة، كالروافض نسبة إلى رفضهم إمامة أبي بكر وعمر وتبرؤهم منهما، والقدرية نسبة إلى نفي القدر، والخوارج نسبة إلى الخروج على الولاة، وغيرهم"2". فعصم الله أهل السنة من الانتساب والاتباع لغير سنة المعصوم من   "1" وقد ألف بعد رجوعه إلى عقيدة أهل السنة كتاباً أسماه: "الإبانة عن أصول الديانة" وهو مطبوع، بين فيه أن عقيدة أهل السنة والجماعة هي الحق الذي يجب اعتقاده. وينظر: مجموع الفتاوى 3/227، 228، 261، 262، معارج القبول 1/377، 378. "2" التنبيهات السنية ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الخطأ والزلل رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، المؤيد بالوحي من السماء، والذي لاينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فليس لهم اسم ينتسبون إليه سوى "السنة""1". وقد سأل رجلٌ الإمامَ مالك بن أنس، فقال: من أهل السنة يا أبا عبد الله؟ فقال: "الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا رافضي، ولا قدري""2". وقد أطلق بعض العلماء على أهل السنة اسم "أصحاب الحديث" أو "أهل الحديث"، وذلك لأنهم اهتموا بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم رواية ودراية"3"، واتبعوا ما جاءت به من العقائد والأحكام"4". و"الحديث" و"السنة" لفظان معناهما متقارب.   "1" مجموع فتاوى ابن تيمية 3/415،416، مدارج السالكين 3/180 184، حكم الانتماء: الفصل السادس ص37 51، التنبيهات السنية ص51. "2" رواه ابن عبد البر في الانتقاء ص35، وينظر ترتيب المدارك 1/172. "3" الرواية: ما يتعلق بنقل متن الحديث، وضبطه. والدراية: علم يعرف منه شروط الرواية وأحوال الرواة وشروطهم وأصناف المرويات، وما يتعلق بها. ينظر تدريب الراوي 1/40. "4" معرفة علوم الحديث ص2-4، مجموع فتاوى ابن تيمية 4/9195، حكم الانتماء ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وأهل السنة كذلك هم الفرقة المنصورة"1" إلى قيام الساعة"2"، الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " لن تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة " رواه البخاري ومسلم، وغيرهما"3". وهم الفرقة الناجية"4" المذكورة في حديث معاوية الذي سبق ذكره قريباً، وغيره.   "1" أي التي أيدها الله تعالى وقواها على من خالفها وعاداها، وجعل الغلبة لها. ينظر التنبيهات السنية على الواسطية للرشيد ص33، وشرح الواسطية للشيخ محمد العثيمين 2/377. "2" شرف أصحاب الحديث ص25-27، العقيدة الواسطية ص16،183، مجموع فتاوى ابن تيمية 2/159، السلسلة الصحيحة 1/478486 شرح الحديث "270". "3" رواه البخاري "3640"، ومسلم "1921" من حديث المغيرة، ورواه البخاري "3641"، ومسلم "1037" من حديث معاوية، ورواه مسلم "1920" من حديث ثوبان، و"174" من حديث جابر بن سمرة، و"1923" من حديث جابر بن عبد الله، و"1924" من حديث عقبة بن عامر، ورواه الإمام أحمد 5/34، وابن حبان "61" من حديث قرة المزني بإسناد صحيح. "4" أي التي سلمت من البدع في الدنيا، ومن الهلاك والشرور في الدنيا والآخرة. ينظر العقيدة الواسطية مع شرحها التنبيهات السنية ص12، وشرح الواسطية لابن عثيمين 1/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 3- السلف: السلف في اللغة: الجماعة المتقدمون: يقال: سلَف يسلُف أي مضى، وسلَفُ الإنسان: آباؤه المتقدمون"1". وفي الاصطلاح: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم وسار على طريقتهم من أئمة الدين من أهل القرون الثلاثة المفضلة"2". 4- الخَلَف: الخلف في اللغة: المتأخر، وكل من يجيء بعد من مضى"3". وفي الاصطلاح: من انحرف عن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في باب العقائد من أهل البدع والأهواء كالخوارج والرافضة، وكأهل الكلام الذين قدموا العقل على النصوص الشرعية: كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة والقدرية   "1" ينظر الصحاح، ولسان العرب، مادة "سلف". "2" ينظر مقدمة شرح الطحاوية ص19، ولوامع الأنوار البهية 1/20، والمدخل لابن بدران ص421،422، ونموذج من الأعمال الخيرية لمنير الدمشقي ص10،11، وشرح الواسطية للدكتور صالح الفوزان ص130، وشرح الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين 2/372. وقد أقر هذا التعريف للسلف كثير من الخلف من أهل الكلام. ينظر شرح الجوهرة للبيجوري ص91، وكتاب السنة والجماعة لمحمد بن عبد الهادي المصري ص51. "3" لسان العرب، مادة "خلف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والمرجئة وغيرهم"1". وأهل السنة والجماعة يسيرون على منهج السلف، الذين في مقدمهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " "2"، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الفرقة الناجية قال: " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي ""3"، كما أنهم ينتسبون إلى مذهب السلف، ولذلك يقال   "1" ينظر الفتوى الحموية لابن تيمية ص14، ولوامع الأنوار ص24. "2" سبق تخريجه عند تعريف "أهل السنة والجماعة". "3" رواه الترمذي "2641"، والحاكم 1/120، واللالكائي "147"، وابن بطة العكبري "264، 265"، والآجري ص15، 16 من طرق أحدها صحيح عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو. وإسناده ضعيف، لضعف عبد الرحمن بن زياد، وشيخه ثقة. وقد حسن هذا الحديث الشيخ محمد ناصر الدين في صحيح سنن الترمذي. وله شاهد رواه بحشل في تاريخ واسط ص196، والعقيلي في الضعفاء 2/262، والطبراني في الصغير 1/256 من طريق عبد الله بن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، ورجاله ثقات، عدا عبد الله بن سفيان، فقد ذكره ابن حبان في الثقات، ولم يوثقه غيره. فحديث عبد الله بن عمرو حسن لغيره بهذا الشاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 لمن يتبع مذهب السلف "سلفي" "1"، أو "على عقيدة السلف الصالح""2" أو "من اتباع السلف الصالح" "3"، وهذه التسمية موافقة في المعنى لتسميتهم بـ"أهل السنة" لأن عقيدة السلف الصالح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار على نهجهم هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كما سبق في الحديث. أما من سار على منهج الخلف، فيقال له "خلفي""4"، و "الخلف" يقرون بهذه التسمية، بل إن كثيراً منهم يجترئ فيفضل مذهب الخلف على مذهب السلف"5" الذين في مقدمتهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا اعتراف صريح منهم بمخالفة طريقتهم لطريقة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،   "1" ينظر معجم الشيوخ للذهبي 2/280، 369، وشرح الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين 1/54، وحكم الانتماء للشيخ بكر أبو زيد ص46، ورسالة: نظرات وتعقيبات على كتاب السلفية للشيخ د. صالح الفوزان، ورسالة: مجمل أصول أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل ص5، 6. "2" ينظر معجم الشيوخ للذهبي 1/34. "3" ينظر رسالة "نظرات وتعقيبات على كتاب السلفية" ص15. "4" حكم الانتماء ص46. "5" ينظر شرح الجوهرة ص91. وقد ألف الحافظ ابن رجب في الرد عليهم رسالة "بيان فضل علم السلف على علم الخلف"، وهي مطبوعة، وينظر الحموية ص13، ومقدمة شرح الطحاوية ص21، ولوامع الأنوار ص20، 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 والتي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا اعترافاً بالانحراف عن العقيدة الصحيحة"1".   "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 4/156 159: إن كثيراً من أتباع أبي الحسن الأشعري يصرحون بمخالفة السلف في مثل مسألة الإيمان، ومسألة تأويل الآيات والأحاديث يقولون: "مذهب السلف: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وأما المتكلمون من أصحابنا: فمذهبهم كيت وكيت"، وكذلك يقولون: "مذهب السلف: أن هذه الآيات والأحاديث الواردة في الصفات لا تتأول، والمتكلمون يريدون تأويلها إما وجوباً وإما جوازاً"، ويذكرون الخلاف بين السلف وبين أصحابهم المتكلمين. هذا منطوق ألسنتهم ومسطور كتبهم. أفلا عاقل يعتبر؟ ومغرور يزدجر؟ : أن السلف ثبت عنهم ذلك حتى بتصريح المخالف، ثم يُحدثُ مقالة تخرج عنهم، أليس هذا صريحاً: أن السلف كانوا ضالين عن التوحيد والتنزيه، وعلمه المتأخرون؟ وهذا فاسد بضرورة العلم الصحيح والدين المتين. وأيضاً فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة وأقوال المتكلمين تارة، كما يفعله غير واحد مثل أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، والرازي وغيرهم. ولازم المذهب الذي ينصرونه تارة أنه هو المعتمد. فلا يثبتون على دين واحد، وتغلب عليهم الشكوك. وهذا عادة الله فيمن أعرض عن الكتاب والسنة. وتارة يجعلون إخوانهم المتأخرين أحذق وأعلم من السلف، ويقولون: "طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم"، فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل. وغايتهم عندهم: أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط. ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض، فإنه وإن لم يكن تكفيراً للسلف كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج - ولا تفسيقاً لهم - كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ...................................................................................   كان تجهيلاً لهم وتخطئة وتضليلاً، ونسبة لهم إلى الذنوب والمعاصي، وإن لم يكن فسقاً، فزعماً: أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة. ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة - في الأعمال والأقوال، والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها -: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة: من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا يُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد: أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"، وقال غيره: "عليكم بآثار من سلف فإنهم جاءوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه". هذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم "، فكيف يحدث لنا زمان فيه الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله تعالى؟ هذا لا يكون أبداً. وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله في رسالته: "هم فوقنا في كل علم وعقل ودين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المسألة الثانية: خصائص العقيدة الإسلامية. الخصائص: جمع خصيصة. والخصيصة: هي الصفة الحسنة التي يتميّز بها الشيء ولا يشاركه فيها غيره. وخصائص العقيدة الإسلامية كثيرة، نكتفي بذكر ثلاث منها: 1- أنها عقيدة غيبية: الغيب: ما غاب عن الحس، فلا يدرك بشيء من الحواس الخمس: السمع والبصر واللمس والشم والذوق. وعليه فإن جميع أمور ومسائل العقيدة الإسلامية التي يجب على العبد أن يؤمن بها ويعتقدها غيبي، كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وعذاب القبر ونعيمه، وغير ذلك من   وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا". وأيضاً فيقال لهؤلاء الجهمية الكلابية كيف تَدَعُون طريقة السلف، وغاية ما عند السلف: أن يكونوا موافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن عامة ما عند السلف من العلم والإيمان: هو ما استفادوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجهم به الله من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد. أ.هـ كلامه رحمه الله مع اختصار يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أمور الغيب التي يُعتَمَد في الإيمان بها على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أثنى الله تعالى على الذين يؤمنون بالغيب، فقال سبحانه وتعالى في صدر سورة البقرة: {الم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الآية. 2 - أنها عقيدة شاملة: ويتضح شمول العقيدة في الأمور الثلاثة الآتية: الأول: شمول العبادة، فالعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. فالعبادة تشمل العبادات القلبية، كالمحبة، والخوف، والرجاء، والتوكل، وتشمل العبادات القولية كالذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقراءة القرآن، وتشمل العبادات الفعلية كالصلاة والصوم، والحج، وتشمل العبادات المالية، كالزكاة، وصدقة التطوع. وتشمل كذلك الشريعة كلها، فإن العبد إذا اجتنب المحرمات، وفعل الواجبات والمندوبات والمباحات مبتغيا بذلك وجه الله تعالى كان فعله ذلك عبادة يثاب عليها. وسيأتي الكلام على هذه المسألة بشيء من التفصيل عند الكلام على توحيد الألوهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الثاني: أنها تشمل علاقة العبد بربه، وعلاقة الإنسان بغيره من البشر، وذلك في مباحث التوحيد بأنواعه الثلاثة، وفي مبحث الولاء والبراء، وغيرها. الثالث: أنها تشمل حال الإنسان في الحياة الدنيا، وفي الحياة البرزخية "القبر"، وفي الحياة الأخروية. 3- أنها عقيدة توقيفية: فعقيدة الإسلام موقوفة على كتاب الله، وما صح من سنة رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فليست محلاً للاجتهاد، لأن مصادرها توقيفية. وذلك أن العقيدة الصحيحة لابد فيها من اليقين الجازم، فلابد أن تكون مصادرها مجزوماً بصحتها، وهذا لا يوجد إلا في كتاب الله وما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وعليه فإن جميع المصادر الظنية، كالقياس والعقل البشري لا يصح أن تكون مصادر للعقيدة، فمن جعل شيئاً منها مصدراً للعقيدة فقد جانب الصواب، وجعل العقيدة محلاً للاجتهاد الذي يخطئ ويصيب. ولذلك ضل من ضل من أهل الكلام كالجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، حينما جعلوا العقل مصدراً من مصادر العقيدة، وقدموه على النصوص الشرعية، حتى أصبح القرآن والسنة عندهم تابعين للعقل البشري، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 انحراف عن الصراط المستقيم، واستهانة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتلاعب بعقيدة الإسلام، حيث جعلوها خاضعة لآراء البشر واجتهاداتهم العقلية. والحق أن العقل مؤيد للنصوص الشرعية، فالعقل الصريح يؤيد النص الصحيح، ولا يعارضه، وما توهمه المعطلة والمؤولة من التعارض بينهما فهو بسبب قصور عقول البشر، ولذلك فإن ما قد يراه أحدهم متعارضاً قد لا يراه الآخر كذلك، وهكذا"1". وعليه فإن العقل بعتبر مؤيداً للنصوص الشرعية في باب العقائد وغيرها، وليس مصدراً مستقلاً للعقيدة، فلا يجوز أن يستقل بالنظر في أمور الغيب، ولا فيما لا يحيط به علماً، والبشر لا يحيطون علماً بالله ولا بصفاته، كما قال تعالى {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] "2".   "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند كلامه على مذهب المؤولة: " ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء: أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله. فياليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟ فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أَوَ كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء "". ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 5/29. "2" ينظر شرح العقيدة الطحاوية ص218 221، الجواب الصحيح 3/130136، رسالة العقيدة السلفية في كلام رب البرية ص1922، وينظر ما يأتي في آخر الكلام على الوسطية في الأسماء والصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 المسألة الثالثة: وسطية أهل السنة والجماعة بين فرق الضلال: عقيدة أهل السنة والجماعة والتي هي عقيدة الإسلام الصحيحة وسط بين عقائد فرق الضلال المنتسبة إلى دين الإسلام، فهي في كل باب من أبواب العقيدة وسط بين فريقين آراؤهما متضادة، أحدهما غلا في هذا الباب والآخر قصر فيه، أحدهما أفرط والثاني فرط، فهي حق بين باطلين: فأهل السنة وسط أي عدول خيار بين طرفين منحرفين، في جميع أمورهم. وسأذكر خمسة أصول عقدية كان أهل السنة والجماعة وسطاً فيها بين فرق الأمة: الأصل الأول: باب العبادات: توسط أهل السنة في هذا الباب بين الرافضة والصوفية وبين الدروز والنصيريين"1". فالرافضة والصوفية يعبدون الله بما لم يشرعه من الأذكار والتوسلات، وإقامة الأعياد والاحتفالات البدعية، والبناء على القبور   "1" الدروز والنصيريون فرقتان توجدان في بلاد الشام سوريا ولبنان وفلسطين - ومن عقائد النصيريين: أنهم يؤلِّهون علي بن أبي طالب، ومن عقائد الدروز: أنهم يؤلهون الحاكم بأمر الله العبيدي، ولهذا فقد ذكر أهل العلم أنهم مرتدون خارجون من الملة، وأنهم في حقيقة الأمر ليسوا من المسلمين، وإن انتسبوا إلى الإسلام. وينظر ما يأتي في النفاق الأكبر في مبحث "صفات المنافقين" إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 والصلاة عندها والطواف بها والذبح عندها، وكثير منهم يعبد أصحاب القبور بالذبح لهم أو دعائهم أن يشفعوا له عند الله أو يجلبوا له مرغوباً أو يدفعوا عنه مرهوباً. والدروز والنصيريون - الذين يسمون العلويون - تركوا عبادة الله بالكلية فلا يصلون ولا يصومون ولا يزكون ولا يحجون ... الخ. أما أهل السنة والجماعة فيعبدون الله بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يتركوا ما أوجب الله عليهم من العبادات، ولم يبتدعوا عبادات من تلقاء أنفسهم، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ". متفق عليه"1". وفي رواية لمسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " "2"، وقوله عليه الصلاة والسلام في خطبته: " أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ". رواه مسلم"3".   "1" صحيح البخاري حديث "2697"، وصحيح مسلم مع شرحه للنووي 12/16، حديث "1718". "2" صحيح مسلم الموضع السابق. "3" صحيح مسلم، حديث "867". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الأصل الثاني: باب أسماء الله وصفاته: توسَّط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين المعطلة، وبين الممثلة. فالمعطلة منهم من ينكر الأسماء والصفات، كالجهمية. ومنهم من ينكر الصفات كالمعتزلة. ومنهم من ينكر أكثر الصفات، ويؤولها كالأشاعرة، اعتماداً منهم على عقولهم القاصرة، وتقديماً لها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعرضون النصوص الشرعية على عقولهم فما قبلته قبلوه، وما لم تقبله ردوه أو أولوه، واعتبروا ذلك تنزيهاً، فجعلوا النصوص محكوماً عليها، لا حاكمة على غيرها، فيجعلون العقل وحده أصل علمهم، ويجعلون القرآن والسنة تابعين له، والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن النصوص الشرعية. ولذلك حكموا بوجوب أشياء، وامتناع أشياء أخرى في حق الله تعالى، لحجج عقلية بزعمهم، اعتقدوها حقاً، وهي باطلة، وعارضوا بها نصوص القرآن وسنة المعصوم صلى الله عليه وسلم، حتى قال قائلهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكلّ نصٍّ أَوهَمَ التشبيها"1" ... أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تنزيهَا"2"   "1" السبب الذي أوقع المؤولة في التأويل هو أنهم قاسوا صفات الخالق جل وعلا على صفات المخلوقين، فحملهم ذلك على تأويل أكثر صفات الله تعالى الثابتة في القرآن والسنة، لأنها بزعمهم تشبه صفات المخلوقين، وهذا خطأ ظاهر، فالله جل وعلا يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، فلله تعالى صفات تليق بجلاله وعظمته وكبريائه، وللمخلوق صفات تليق بفقره وذله وضعفه. فصفات الله تعالى لا تماثل صفات المخلوقين. ينظر التوحيد لابن خزيمة 1/57-117, مجموع فتاوى ابن تيمية 5/27,شرح الطحاوية ص57-68. "2"ينظر جوهرة التوحيد لإبراهيم اللقاني الأشعري مع شرحها تحفة المريد للبيجوري ص91. فهم يردون النص ويؤولونه عن معناه الحقيقي المتبادر منه إلى معنى بعيد، بدون دليل من قرآن أو سنة، فيقولون: ليس المراد المعنى الذي يدل عليه ظاهر النص، وإنما الحق ما علمناه بعقولنا، ثم يجتهدون في تأويل هذه النصوص إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات، ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل، بل يقولون: يجوز أن يراد كذا ويجوز أن يراد كذا، وقد يختلفون في تأويل بعض الصفات اختلافاً كثيراً. فهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين المراد من النص، بل نحن عرفنا الحق بعقولنا. وفي هذا اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبين القرآن الذي أرسله الله من أجل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 والممثلة يضربون لله الأمثال، ويدعون أن صفات الله تعالى تماثل صفات المخلوقين، كقول بعضهم: "يد الله كيدي" و "سمع الله كسمعي"تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. فهدى الله أهل السنة والجماعة للقول الوسط في هذا الباب، والذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بجميع أسماء الله وصفاته الثابتة في النصوص الشرعية، فيصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به أعرف الخلق به رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تأويل ومن غير تمثيل ولا تكييف، ويؤمنون بأنها صفات حقيقية، تليق بجلال الله تعالى، ولا تماثل صفات المخلوقين، عملاً بقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] . فأهل السنة يعتمدون على النصوص الشرعية، ويقدمونها على العقول البشرية، ويجعلون العقل البشري وسيلة لفهم النصوص الشرعية، وشرطاً في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه   يبينه للناس، كما قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ويرون أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في باب صفات الله تعالى بكلام المراد منه غير معناه الحقيقي المتبادر، ولم يبين ذلك للناس، وأن السلف من الصحابة ومن جاء بعدهم لم يفهموه ولم يبينوه للناس، حتى جاء الأشعري ومن بعده ممن سار على طريقته ففهموه وبينوه للناس. وهذا قول ظاهر البطلان، وفيه من الاتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير في تبليغ الرسالة ما لا يخفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاً بذلك، فهم قد توسطوا في أمر العقل أيضاً، فلم يقدموه على النصوص كما فعل أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، ولم يهملوه ويذموه كما يفعل كثير من المتصوفة، الذين يعيبون العقل، ويقرون من الأمور ما يكذب به صريح العقل، ويُصَدِّقون بأمور يعلم العقل الصريح بطلانها ممن لم يعلم صدقة"1". الأصل الثالث: باب القضاء والقدر توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين القدرية والجبرية. فالقدرية نفوا القدر، فقالوا: إن أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره، فالله تعالى على زعمهم لم يخلق أفعال العباد ولا شاءها منهم، بل العباد مستقلون بأفعالهم، فالعبد على زعمهم هو الخالق لفعله، وهو المريد له إرادة مستقلة، فأثبتوا خالقاً مع الله سبحانه، وهذا إشراك في الربوبية، ففيهم شبه من المجوس الذين قالوا بأن للكون خالقين، فهم "مجوس هذه الأمة".   1- ينظر آخر العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الحنفي ص 786803، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/168، 338، 373 و 5/545، ودرء تعارض العقل والنقل 1/12،20، 105، 133، ومنهاج السنة 2/103 650، والعقيدة الواسطية مع شرحها للشيخ ابن عثيمين 2/6367، والتنبيهات السنية ص191- 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 والجبرية غلوا في إثبات القدر، فقالوا: إن العبد مجبور على فعله، فهو كالريشة في الهواء لا فعل له ولا قدرة ولا مشيئة. فهدى اللهُ أهلَ السنة والجماعة للقول الحق والوسط في هذا الباب، فأثبتوا أن العباد فاعلون حقيقة، وأن أفعالهم تُنسب إليهم على جهة الحقيقة، وأن فعل العبد واقع بتقدير الله ومشيئته وخلقه، فالله تعالى خالق العباد وخالق أفعالهم، كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] . كما أن للعباد مشيئة تحت مشيئة الله، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] ومع ذلك فقد أمر الله العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين، ولا يرضى عن الفاسقين، وقد أقام الله الحجة على العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فمن أطاع أطاع عن بينة واختيار، فيستحق الثواب الحسن، ومن عصى عصى عن بينة واختيار، فيستحق العقاب {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] . فأهل السنة يؤمنون بمراتب القضاء والقدر الأربع الثابتة في الكتاب والسنة، وهي: 1- علم الله المحيط بكل شيء، وأنه تعالى عالم بما كان وما سيكون، وبما سيعمله الخلق قبل أن يخلقهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 1 - كتابة الله تعالى لكل ما هوكائن في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. 2- مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن كل ما يقع في هذا الوجود قد أراده الله قبل وقوعه. 3- أن الله خالق كل شيء، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه"1". وقد نظم بعضهم هذه المراتب بقوله: علم كتابة مولانا مشيئته ... كذاك خلقٌ وإيجادٌ وتكوين الأصل الرابع: باب الوعد والوعيد: توسط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين الوعيدية وبين المرجئة. فالوعيدية يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد، ومنهم الخوارج الذين يرون أن فاعل الكبيرة من المسلمين كالزاني وشارب الخمر كافر مخلد في النار.   1- تنظر المراجع المذكورة في التعليق السابق، وينظر منهاج السنة 3/5-276، شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل 1/91-179، شرح الطحاوية ص317-364، معارج القبول 3/917-940. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والمرجئة غلبوا نصوص الرجاء على نصوص الوعيد، فقالوا: إن الإيمان هو التصديق القلبي، وأن الأعمال ليست من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان معصية، فالعاصي كالزاني وشارب الخمر لا يستحق دخول النار"1"، وإيمانه كإيمان أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -.   1- وقريب من هذه العقيدة ما يقوله كثير من العصاة المنتسبين إلى الإسلام ويعتقده، فتجد أحدهم يستكثر من المعاصي، فيترك كثيراً من الواجبات ويفعل كثيراً من المعاصي، ثم يتعلق ويحتج بأحاديث الوعد، كحديث: " من قال: لا إله الله ختم له بها دخل الجنة " رواه أحمد 5/391، فيجاب عن قول هؤلاء بأمرين: الأمر الأول: أن الإيمان إذا وجد في القلب حقيقة حمل العبد على فعل الواجبات وترك المحرمات، فكون الإنسان يعرض عن دين الله ولا يعمل به ويصر على معصية الله تعالى فهذا دليل على خلو قلبه من الإيمان، كما سيأتي عند الكلام على كفر الإعراض. الأمر الثاني: أنه لابد من الجمع بين نصوص الوعد ونصوص الوعيد، فمن تعلق بنصوص الوعد وهي نصوص الرجاء وترك نصوص الوعيد فقد ضل، كما فعل المرجئة، وكذلك من تعلق بنصوص الوعيد وترك نصوص الرجاء فقد ضل أيضاً. فنقول لهذا العاصي المتعلق بنصوص الرجاء: يلزمك أن تجمع بين نصوص الرجاء وبين نصوص الوعيد، فيلزمك أن تجمع مثلاً، بين هذا الحديث الذي احتججت به وبين قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] وأن تجمع بينه وبين حديث " لا يدخل الجنة نمام " رواه البخاري "6056"، ومسلم "105"، فإن قلت: إن من قتل مسلماً مع أنه يقول لا إله إلا الله وختم له بها لا يدخل الجنة، ومن وقع في النميمة وأصر عليها وهو من المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أما أهل السنة والجماعة فيرون أن المسلم إذا ارتكب معصية من الكبائر لا يخرج من الإسلام، بل هو مسلم ناقص الإيمان، ما دام لم يرتكب شيئاً من المكفرات، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وهو في الآخرة تحت مشيئة الله، إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه حتى يطهره من ذنوبه ثم يدخله الجنة، ولا يخلد في النار إلا من كفر بالله تعالى أو أشرك به. فالإيمان عند أهل السنة: قول باللسان واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية"1". الأصل الخامس: باب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: توسَّط أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين الشيعة وبين الخوارج. فالشيعة ومنهم الرافضة غلوا في حق آل البيت كعلي بن أبي طالب وأولاده رضي الله عنهم فادعوا أن علياً - رضي الله عنه -   لا يدخل الجنة، فقد ناقضت قولك. ولذلك ينبغي للجاهل أن لا يقول في شرع الله ما لا علم له به، فإن هذا من كبائر الذنوب، ويجب على المسلم أن يعتقد ما دل عليه مجموع النصوص في مرتكب الكبيرة، كما هو عقيدة أهل السنة والجماعة. 1- تنظر المراجع السابقة المذكورة عند الكلام على الوسطية في الأسماء والصفات، وينظر شرح العقيدة الطحاوية ص459-529، الكواكب الدرية ص192-194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 معصوم، وأنه يعلم الغيب، وأنه أفضل من أبي بكر وعمر، ومن غلاتهم من يدعي ألوهيته. والخوارج جفوا في حق علي رضي الله عنه فكفروه، وكفروا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم. كما أن الروافض جفوا في حق أكثر الصحابة، فَسَبُّوهم، وقالوا: إنهم كفار، وأنهم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين، ولا يستثون من الصحابة إلا آل البيت ونفراً قليلاً، قالوا: إنهم من أولياء آل البيت، كما أنهم يشتمون أمهات المؤمنين، وأفاضل الصحابة، وعلى رأسهم أبوبكر وعمر علانية، لكنهم قد يترضون عنهم ويظهرون موالاتهم لهم تقرباً إلى أهل السنة ومخادعة لهم، لأن من عقائدهم عقيدة التقيّة، فيظهرون لأهل السنة خلاف ما يبطنون"1".   1- قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 28/477-479: والرافضة كفَّرت أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكفَّروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين، ولهذا يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين، فهم أشدّ ضرراً على الدين وأهله، وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية، ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة، ولهذا يستعملون التقية التي هي سيما المنافقين واليهود، وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أما أهل السنة والجماعة فيحبون جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويترضون عنهم، ويرون أنهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأن الله اختارهم لصحبة نبيِّه، ويمسكون عما حصل بينهم من التنازع، ويرون أنهم مجتهدون مأجورون، للمصيب منهم أجران، وللمخطئ أجر واحد على اجتهاده، ويرون أن أفضلهم أبوبكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ويحبون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم "1"، ويرون أن لهم حقان، حق الإسلام، وحق القرابة من   يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين. انتهى كلامه بحروفه مختصراً. 1- وهم أقاربه المؤمنون به، الذين تحرم عليهم الصدقة، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، وأزواجه صلى الله عليه وسلم، وقد دل على دخول أزواجه في أهل بيته: قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 32،33] . قال القرطبي في تفسيره: فاقتضت الآية أن الزوجات من آل البيت، لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن، يدل عليه سياق الكلام، وقال بنحو قول القرطبي هذا ابن كثير في تفسيره، وابن القيم في جلاء الأفهام ص114، والشوكاني في تفسيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوالونهم، ويترضون عنهم"1".   1- تنظر المراجع المذكورة عند الكلام على الوسطية في الأسماء والصفات، وينظر العقيدة الطحاوية مع شرحها ص689741، ومنهاج السنة الأجزاء من 4 إلى 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 التوحيد مدخل ... الباب الأول: التوحيد التوحيد في اللغة: مصدر وحّد، يوحّد، وهو جعل الشيء واحداً (1) . وفي الاصطلاح: الإيمان بوجود الله وإفراده بالربوبية والألوهية والإيمان بجميع أسمائه وصفاته (2) . وقد فطر الله تعالى بني آدم على الإيمان به تعالى وتوحيده، فالإنسان يولد مؤمناً بوجود الله تعالى، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، فلو ترك على أصل فطرته لنشأ موحداً لله تعالى (3) . قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه " رواه البخاري، ومسلم (4) .   (1) ينظر لسان العرب، مادة (وحد) ، والتعريفات ص96، والحجة 1/305، 306. (2) ينظر لوامع الأنوار ص57، القول السديد ص16، التنبيهات السنية ص9، القول المفيد 1/5. (3) تفسير البغوي 3/482، تفسير ابن كثير 3/688، معارج القبول 1/91،93. (4) صحيح البخاري (1359) ، وصحيح مسلم (2658) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وفي رواية لمسلم: " ما من مولود يولد إلا على هذه الملة ". وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا، أنه سبحانه وتعالى قال: " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم ". رواه مسلم (1) . ولذلك فإن آدم أبا البشر - عليه السلام - وذريته الذين كانوا في زمنه كانوا موحدين، واستمر ذريته من بعده على التوحيد حتى جاء قوم نوح عليه السلام، فزين لهم الشيطان الشرك ودعاهم إليه فوقعوا فيه. وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أنواع التوحيد في آيات كثيرة، ومن ذلك قوله سبحانه في صدر سورة الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فلفظة {لِلَّهِ} تثبت توحيد الألوهية، ولفظة {رَبِّ الْعَالَمِينَ} تثبت توحيد الربوبية، وأيضاً قوله تعالى في هذه السورة: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يثبت توحيد الأسماء والصفات، وكذلك قوله تعالى في السورة نفسها {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يثبت توحيد الربوبية، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يثبت توحيد الألوهية، والآيات في بيان أنواع التوحيد كثيرة جداً، وصريحة في بيان هذه الأنواع، ولهذا فقد ذكر أهل العلم من سلف هذه الأمة ومن كافة المذاهب الأربعة - الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة - أنواع التوحيد   (1) صحيح مسلم (2865) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الثلاثة (1) ، وهذه الأنواع هي: 1- توحيد الربوبية. 2ـ توحيد الألوهية (العبودية) . 3ـ توحيد الأسماء والصفات (2) . وسأبيّن كل واحد من هذه الأنواع في فصل مستقل فيما يلي:   (1) بعضهم يذكرها مجتمعة، وبعضهم يذكر بعضها عند كلامه على بعض مسائلها. وبعض العلماء يجعل التوحيد نوعين: 1- توحيد في المعرفة والإثبات (وهذا يدخل فيه توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات) . 2- توحيد في الطلب والقصد (وهو توحيد الألوهية) . وكلا التقسيمين صحيح مأخوذ من نصوص القرآن والسنة. ينظر مدارج السالكين لابن القيم الحنبلي 3/484، شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص24، شرح الفقه الأكبر للملا علي القاري الحنفي ص39. (2) ينظر الفقه الأبسط لأبي حنيفة ص51، نقلاً عن (أصول الدين عند أبي حنيفة) ص208، تفسير ابن جرير المتوفي سنة 310هـ للبسملة، وللآية 106 من سورة يوسف، الحجة للأصفهاني المتوفى سنة 535هـ 1/133، 134، 345،346، الفروق للقرافي المالكي المتوفى سنة 604هـ (3/24، 25، الفرق 124) ، الأربعون الصغرى للبيهقي الشافعي المتوفى سنة 458هـ ص15، فتاوى الإمام النووي الشافعي المتوفى سنة 676هـ: (الأقضية ص179) ، تفسير ابن كثير الشافعي للآية 61 من سورة العنكبوت، شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص24، تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله الحنبلي ص17-20، شرح الفقه الأكبر للملا علي القاري الحنفي ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الفصل الأول: توحيد الربوبية توحيد الربوبية هو: الإيمان بوجود الله، واعتقاد تفرده في أفعاله. ومنهم من عرفه بأنه: الاعتقاد بأن الله هو الخالق الرازق المدبر لكل شيء وحده لا شريك له (1) . وهو يشتمل على ما يلي: 1- الإيمان بوجود الله تعالى. 2- الإقرار بأن الله تعالى خالق كل شيء، ومالكه، ورازقه، وأنه المحيي، المميت، النافع، الضار، المتفرد بإجابة الدعاء، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء، المقدر لجميع الأمور، المتصرف فيها، المدبر لها، ليس له في ذلك كله شريك (2) . وقد تكاثرت الأدلة في القرآن والسنة في إثبات الربوبية لله تعالى، فكل نص ورد فيه اسم "الرب" أو ذكر فيه خصيصة من خصائص الربوبية، كالخلق، والرزق، والملك، والتقدير، والتدبير، وغيرها فهو   (1) ومنهم من عرّفه بأنه: توحيد الله بأفعاله. ينظر مجموعة التوحيد 1/5. (2) شرح الطحاوية ص25، مدارج السالكين باب التوحيد 1/33- 46، و3/468، تيسير العزيز الحميد ص17، القول السديد ص18، معارج القبول 1/99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 من أدلة الربوبية،كقوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكقوله سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] ، وكقوله جل وعلا: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون: 88] (1) ، والملكوت: الملك. وقد أمر الله العباد بالنظر والتفكر في آيات الله الظاهرة من المخلوقات العلوية والسفلية، ليستدلوا بها على ربوبيته سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ*وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [لذاريات: 20، 21] فأخبر الباري جل وعلا أن في الأرض آيات وعلامات كثيرة تدل على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد خلق فيها من صنوف النبات، والحيوانات، والجبال، والصحارى، والرمال، والبحار، والأنهار، وكذلك مافي خلق الإنسان من الآيات الكثيرة التي تدل على ربوبية الله تعالى، ومن ذلك ما في تركيبه من الحكم في وضع كل عضو من أعضائه في المحل الذي هو محتاج إليه فيه، ومابين بني الإنسان من الاختلاف في اللغات، والألوان، ومابينهم من التفاوت في العقول، والفهوم، والحركات، وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى، وما في ابتداء خلق الإنسان من الآيات   (1) مدارج السالكين 3/468، 469، شرح الطحاوية ص42، 43، المدخل لدراسة العقيدة ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 العظيمة، إذ كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو سميع بصير، ثم أخرج من بطن أمه صغيراً ضعيف القوى والحركه، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته، حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدن والحصون، ويسافر في أقطار الأرض، ويكتسب ويجمع الأموال، وله فكر، ورأي، وعلم، كل بحسبه، فسبحان من أقدرهم، وسيرهم، وصرفهم في فنون المعاش والمكاسب، وفاوت بينهم في العلم، والفكر، والغنى، والفقر، وغير ذلك. وقال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 163، 164] ففي الآية الأولى ذكر الله تعالى توحيد الألوهية، ثم ذكر في الآية التي بعدها الدليل عليه بذكر بعض خصائص الربوبية. وقد روي عن بعض السلف أنه قال: لما نزلت الآيه الأولى طلب المشركون آية على أنه لا إله إلا الله، فنزلت الآية الثانية. وقال سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17-20] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقد استدل العلماء والحكماء من الموحدين على ربوبية الله بآياته الكونية، ولهم في ذلك أقوال كثيرة، وخطب، وأشعار مشهورة، ومن ذلك قول ابن المعتز: فيا عجبا كيف يُعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة ... وفي كل تسكينة شاهد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد (1) وهذا النوع من أنواع التوحيد - وهو توحيد الربوبية - لا يكفي وحده دخول في الإسلام، فقد كان المشركون مقرين به فلم ينفعهم ذلك، ولم يدخلهم في الإسلام، لأنهم مشركون في توحيد الألوهية، لصرفهم بعض أنواع العبادة كالدعاء والذبح والاستغاثة لمعبوداتهم كالأصنام والملائكة وغيرهم (2) . قال علامة اليمن الامام المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله (3) :   (1) ينظر كتاب التوحيد للحافظ محمد بن إسحاق بن منده 1/97- 308، الاعتقاد والهداية للحافظ البيهقي ص21- 29، تفسير الطبري وابن أبي حاتم وابن كثير - تفسير الآيات (21، 22، 163، 164) من سورة البقرة، ومعارج القبول لحافظ الحكمي 1/100- 112. (2) ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 3/96- 102، ورساله " هدية طيبة " (مطبوعة ضمن مجموعة التوحيد 1/139) ، تيسير العزيز الحميد ص17، 26. (3) ينظر كتابه: تطهير الاعتقاد ص15- 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 " الأصل الرابع: أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله خالقهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] ، وأنه خلق السموات والأرض {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] وأنه الرزاق الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (1) [يونس: 31] . {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (2) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (3) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 84- 89] ، وهذا فرعون مع غلوه في كفره، ودعواه أقبح دعوى، ونطقه بالكلمة الشنعاء (4) ، يقول الله في   (1) أي أفلا تتقون الله فتخلصون له العبادة. ينظر تفسير السعدي. (2) أي ألا ترجعون إلى ما ذكركم الله به مما فطرتم عليه. المرجع السابق. (3) أي فأين تذهب عقولكم حيث عبدتم المخلوقات الضعيفة، ولم تخلصوا العبادة للخالق المالك المدبر، فالعقول التي دلتكم إلى هذا لا تكون إلا مسحورة، سحرها الشيطان بتزيين الباطل وقلب الحقائق. المرجع السابق. (4) وهي إنكاره لوجود الله، ودعواه الربوبية والألوهية لنفسه، بقوله: {مَا عَلِمْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 حقه، حاكياً عن موسى عليه السلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} (1) [الإسراء: 102] ، وقال إبليس: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} [الحجر: 36] وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم، ولهذا احتج عليهم الرسل بقولهم: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17] ، وبقولهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] والمشركون مقرون بذلك لا ينكرونهانتهى كلامه رحمه الله. وتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية (2) ، فمن أقر بأن الله خالقه من العدم، ومالكه، ورازقه والمنعم عليه بأنواع النعم، التي لا يستطيع العبد إحصاءها، والتي هي مستمرة في جميع الأوقات والأحوال منذ أن يولد إلى أن يموت بل وفيما قبل ذلك، وأنه تعالى المصرف لجميع   لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (1) فأخبر أن فرعون يعلم في قرارة نفسه أن الله هو الذي أنزل الآيات حججاً وبراهين على صدق موسى عليه السلام ويترتب عليه أنه يعلم بوجود الله تعالى، وهذا كله من توحيد الربوبيه، ولكنه إنما أنكر ذلك في الظاهر، ولهذا قال الله عنه وعن ملئه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} . (2) شرح الطحاوية ص46، الوابل الصيب ص46، إغاثة اللهفان الباب السادس 1/30، تيسير العزيز الحميد ص17، معارج القبول 1/315، القول السديد ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أموره المدبر لها يلزمه أن يشكر الله تعالى على ذلك بأن يعبده سبحانه وتعالى، وأن يطيع أوامره، ويجتنب نواهيه، ويحرم عليه أن يشرك معه في عبادته أحداً من خلقه (1) . ولذلك عاب الله تعالى على المشركين الذين يقرون بتوحيد الربوبية ثم يشركون في عبادة الله، بصرف بعض أنواع العباده كالدعاء والذبح وغيرهما لمعبوداتهم من الأصنام وغيرها، كما في الآيات السابقة التي نقلها الإمام الصنعاني، كقوله سبحانه {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، وقوله تعالى: {أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وقوله جل وعلا: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22] . فأمر الله تعالى في صدر الآية الأولى جميع الناس بعبادته - وهذا هو أول أمر في القرآن (2) - ثم ذكر سبحانه وتعالى السبب الذي من أجله أوجب على المكلفين عبادته وحده، وهو أنه تعالى ربهم الذي رباهم بأصناف النعم الظاهرة والباطنة، فأوجدهم من العدم، وجعل لهم الأرض فراشاً،   (1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/134، 135، مدارج السالكين 1/88، الفوائد ص128، لوامع الأنوار 1/353. (2) تيسير العزيز الحميد ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 يستقرون عليها، وينتفعون فيها بالأبنية والزراعة والتكسب، وجعل السماء بناء - وهو السقف - وأودع فيها من المنافع ماهو من حاجاتهم، كالشمس والقمر والنجوم، وأنزل من السماء - وهي كل ما علا فوقهم - ماء، فأنبت به الثمرات من الحبوب والفواكه والتمور وغيرها، رزقاً لهم. ثم نهى سبحانه وتعالى في ختام الآية الثانية عن جعل الأنداد لله، وهم الشبهاء والنظراء والشركاء، الذين يعبدون مع الله بصرف شيء من العبادة لهم مع أنهم لم يخلقوا العباد، ولم يرزقوهم، بل هم مخلوقون، مرزوقون، مدبرون، ومن حصل منه من الأولياء والصالحين نفع للعباد فإنما هو بتسخير الله، وتدبيره وإعانته لهم على ذلك، بل إن الله هو خالقهم وخالق أفعالهم، فالله تعالى هو وحده المنعم أولاً وآخراً، وهؤلاء إنما جعلهم الله سببا في وصول هذا الخير إلى العباد، فكيف يعبدونهم مع الله وهم يعلمون أن الله لا شريك له في الربوبية ولا في الألوهية (1) . فالعبادة هي خالص حق الله تعالى، لا يجوز صرف شيء منها لغيره، كائناً ما كان، ومن صرف شيئاً منها لغيره فقد ظلم وأساء في حق الله تعالى، كما قال سبحانه حكاية عن لقمان: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .   (1) ينظر تفسير ابن أبي حاتم، وتفسير ابن كثير، وتفسير الشوكاني، وتفسير السعدي للآيتين (21 و22) من سورة البقره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ومن أقر بتوحيد الربوبية وجب عليه أن يعبد الله تعالى شكراً له، فمن أقرَّ بأن الله تعالى خالقه ورازقه والمنعم عليه بجميع النعم وجب عليه أن يشكر الله تعالى على ذلك بعبادته وحده دون سواه. وقد روى الحارث الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ... " فذكر الحديث بطوله، وفيه: " أولهن - أي أول هذه الكلمات - أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، ثم قال له: هذه داري، وهذا عملي، فاعمل، وأدِّ إليّ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك، وإن الله خلقكم ورزقكم، فلا تشركوا به شيئاً " (1) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك ".متفق عليه (2) . وهذا التوحيد قد أقر به أكثر الخلق في القديم والحديث، ولم ينكره إلا القليل، ومنهم فرعون وملؤه الذين أنكروا وجود الله بالكلية،   (1) رواه الإمام أحمد 4/130، 202، والطيالسي (1161، 1162) ، والترمذي في الأمثال (2863، 2864) ، وقال: " حسن صحيح غريب "، وابن خزيمة في صحيحه (484، 930) ، وابن حبان (6233) ، والحاكم 1/118، وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، وقد حسّن ابن كثير إسناد الإمام أحمد. (2) صحيح البخاري (6861) ، وصحيح مسلم (86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ولذلك جحدوا نبوة موسى عليه السلام وما جاء به من الآيات، وهذا في الظاهر، أما في قرارة أنفسهم فهم مُقِرُّون بذلك كله، كما قال الله تعالى عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] . وممن أنكره أيضاً: الشيوعيون في العصر الحاضر الذين يقولون " لا إله، والحياة مادة "، وهم إنما يقولون هذا في الظاهر، وإلا فإنهم مقرون بقلوبهم بوجود الله تعالى وربوبيته، ولا أدل على ذلك من أنه لما سقطت وانهارت حكومات روسيا وغيرها من دول أوربا الشرقية التي كانت تحكم بالمذهب الشيوعي رجع أكثر من كان ينتسب إلى الشيوعية ظاهراً إلى أديانهم القديمة كالنصرانية واليهودية وغيرهما. أما الشرك في هذا النوع من أنواع التوحيد فقد وقع فيه كثير ممن ينتسب إلى الاسلام، ومنهم كثير من الصوفية والرافضة الذين يدعون الأموات فيسألونهم جلب نفع أو دفع ضر، أو يدعون بعض الأحياء ويسألونهم شيئاً لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فهذا كله من الشرك في الربوبية، كما أنه شرك في الألوهية، لأنهم لم يطلبوا من المخلوق جلب نفع أو دفع ضر إلا وهم يعتقدون أنه يستطيع ذلك ويملكه، وهذا فيه نسبة شيء من أفعال الله تعالى لبعض خلقه، وهو شرك في الربوبية (1) .   (1) تيسير العزيز الحميد ص28، معارج القبول 2/401، 475، وينظر شرح الطحاوية ص38، وتجريد التوحيد ص25، 29، 42، 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 توحيد الألوهية مدخل ... الفصل الثاني: توحيد الألوهية تمهيد: توحيد الألوهية: هو إفراد الله بالعبادة (1) . ويسمى باعتبار إضافته إلى الله تعالى بـ"توحيد الألوهية"، ويسمى باعتبار إضافته إلى الخلق بـ"توحيد العبادة"، و"توحيدة العبودية"و"توحيد الله بأفعال العباد"، و"توحيد العمل"، و"توحيد القصد"، و"توحيد الإرادة والطلب"، لأنه مبني على إخلاص القصد في جميع العبادات، بإرادة وجه الله تعالى (2) . وهذا التوحيد من أجله خلق الله الجن والإنس، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، ومن أجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ،   (1) تطهير الاعتقاد للصنعاني: الأصل الثالث ص13، الدرر السنية 2/291، وينظر شرح الطحاوية ص24. (2) شرح الطحاوية ص24، مجموعة التوحيد 1/6، الدرر السنية 2/250، 304، تيسير العزيز الحميد ص22، القول السديد ص19، القواعد الحسان ص192، الحق الواضح المبين ص57، القول المفيد 1/9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وهو أول دعوة الرسل وآخرها، كما قال سبحانه {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، ومن أجله قامت الخصومة بين الأنبياء وأممهم، وبين أتباع الأنبياء من أهل التوحيد وبين أهل الشرك وأهل البدع والخرافات، ومن أجله جردت سيوف الجهاد في سبيل الله، وهو أول الدين وآخره، بل هو حقيقة دين الإسلام (1) ، وهو يتضمن أنواع التوحيد. فتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية ولتوحيد الأسماء والصفات (2) ، فإن من عبد الله تعالى وحده، وآمن بأنه المستحق وحده للعبادة، دل ذلك على أنه مؤمن بربوبيته وبأسمائه وصفاته، لأنه لم يفعل ذلك إلا لأنه يعتقد بأن الله تعالى وحده هو المتفضل عليه وعلى جميع عباده بالخلق والرزق والتدبير وغير ذلك من خصائص الربوبية، وأنه تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العُلا، التي تدل على أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له. ومع أهمية هذا التوحيد فقد جحده أكثر الخلق، فأنكروا أن يكون   (1) شرح الطحاوية ص21، 24، 29، تطهير الاعتقاد للصنعاني ص20، تيسير العزيز الحميد ص20، 21، الدر النضيد للشوكاني ص65، قرة عيون الموحدين لعبد الرحمن بن حسن ص4، معارج القبول 2/402- 410. (2) شرح الطحاوية ص29، 32، 41، تيسير العزيز الحميد ص23، قرة عيون الموحدين ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وعبدوا غيره معه. قال العلامه المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني:"اعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرون بذلك، كما قررناه وكررناه، ولذا قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [الأعراف: 70] أي لنفرده بالعبادة، ونخصه بها من دون آلهتنا؟ .. فعبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه سواه، واتخذوا له أنداداً" (1) . وهذا التوحيد - توحيد الألوهية - تشتمله وتدل عليه كلمة التوحيد:"لا إله إلا الله". وسأتكلم على هذا النوع من أنواع التوحيد في مبحثين: المبحث الأول: شهادة"لا إله إلا الله": معناها - شروطها - أركانها - نواقضها. المبحث الثاني: العباده: تعريفها - أنواعها - شروطها - أركانها.   (1) تطهير الاعتقاد ص12، 20، وينظر قرة عيون الموحدين ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 شهادة لا إله إلا الله معناها وفضلها ... المبحث الأول: شهادة"لا إله إلا الله" فيه مطلبان: المطلب الأول: معناها، وفضلها معنى شهادة"لا إله إلا الله"إجمالاً: لا معبود بحق إلا الله تعالى (1) . أي أنه لا أحد يستحق أن يعبد إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يدعى إلا الله تعالى، ولا يجوز أن يصلى أو ينذر أو يذبح إلا لله تعالى، وهكذا بقية أنواع العبادة، لا يستحق أحدٌ أن تصرف له سوى الله تعالى. قال علامة اليمن الإمام المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني:"ومعناها: إفراد الله بالعبادة والإلهية، والبراءة من كل معبود دونه" (2) . فـ"لا"نافية للجنس. و"إله"اسمها، وخبرها محذوف تقديره"حق". و"إله"من"أَلَهَ"بالفتح،"يَألَهُ"،"إلاهَةً"، والمعنى"عَبَدَ"،   (1) ينظر تفسير الآية (163) من سورة البقره في تفسيري الطبري والقرطبي، تفسير ابن كثير لسورة "الكافرون"، تفسير الجلالين (تفسير السيوطي لآية الكرسي) ، فتح المجيد 1/121- 126 نقلاً عن البقاعي الشافعي وغيره، مجموعة التوحيد 1/178. (2) تطهير الاعتقاد ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 "يَعبُدُ"،"عِبادةً" (1) . و"الإلهُ"هو المعبود المطاع، الذي تألهه القلوب بالمحبة، والتعظيم، والخضوع، والخوف، وتوابع ذلك من بقية أنواع العباده. واسم"الله"علم على ذات الرب تعالى المقدسة، لا يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى، وأصله"إله"حذفت الهمزه، وعوض مكانها"أل"التعريف (2) . فهذه الكلمة العظيمة تشتمل على ركنين أساسين: الأول:"النفي"، وهو نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، ويدل عليه كلمة:"لا إله"فهي تنفي أن يكون غير الله تعالى مستحقاً للعبادة. الثاني:"الإثبات"، وهو إثبات الإلهية لله تعالى، ويدل عليه كلمة"إلا الله"فهي تثبت أن الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك   (1) ينظر تفسير البسملة في تفسيري الطبري وابن كثير، وشرح الطيبي للمشكاة 1/98، ورسالة "معنى لا إله إلا الله"للزركشي الشافعي ص73- 111، والقاموس المحيط، والصحاح، مادة "أَلِهَ". (2) تنظر المراجع المذكورة في التعليق السابق، وتجريد التوحيد للمقريزي ص18- 24، وتحقيق كلمة الإخلاص لابن رجب ص23، 25، 30، وفتح المجيد ص73- 76، و124- 126، وتفسير الشوكاني 1/18، والدرر السنية 2/257، 296- 298، 305، 326- 331، ومجموعة الرسائل 4/16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 له (1) . فالله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده، لأنه الخالق، الرازق، المالك، المدبر لجميع الأمور، فيجب على جميع العباد أن يفردوه بالعباده شكراً له على نعمه العظيمة عليهم، كما سبق بيان ذلك مفصلاً عند الكلام على توحيد الربوبية. فهذه الكلمة هي حقاً: كلمة التوحيد، والعروة الوثقى، وكلمة التقوى، وفي شأنها تكون السعادة والشقاوة، في الدنيا، وفي القبر، ويوم القيامة، فبالتزامها والقيام بحقوقها تثقل الموازين، وبه تكون النجاة من النار بعد الورود، والفوز بجنات النعيم، وبعدم التزامها أو التفريط في حقوقها تخف الموازين، ويكون العذاب في القبر، وفي يوم القيامة، وفي نار الجحيم. وهي حق الله على جميع العباد، وهي أول واجب، وآخر واجب، فهي أول ما يدخل به العبد في الاسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا (2) .   (1) الكواشف الجلية ص35، وينظر: الأصول الثلاثة: الأصل الثالث ص15، قرة عيون الموحدين ص13، الدرر السنية 2/271، مجموعة الرسائل 4/34، 38. (2) وهي سبب لعصمة دم المسلم وماله وعرضه، إلا بحقها، وبها انقسمت الخليقه إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجار، وفيها يكون الولاء والبراء، وأهلها هم أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أهل غضبه ونقمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ـ ........................................................................   وهي الشهادة العظمى، وأول وأعظم أركان الاسلام، فهي أصل الدين وأساسه، وبقية أركان الدين وفرائضه متفرعة عنها، متشعبة منها، مكملات لها، مقيدة بالتزامها والعمل بمقتضاها. وهي أعظم نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده، وأفضل ما ذكر الله به، وأثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة. وهي رأس الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأصدق الكلام، وأحسن الحسنات، وشهادة الحق، والقول الثابت، والمثل الأعلى، وعنها يكون السؤال للأولين والآخرين يوم الحساب، وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال، وبها قامت السموات والأرض، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة. ينظر رسالة "مسألة في التوحيد وفضل لا إله إلا الله"ليوسف بن عبد الهادي ص89- 117، وقد ذكر 199 فضيلة من فضائلها، وينظر الإيمان لابن منده 1/116- 315، مجموع الفتاوى 3/94، مدارج السالكين 3/462، 465، زاد المعاد 1/34، تحقيق كلمة التوحيد لابن رجب ص52- 66، التمهيد للمقدسي، مجموعة التوحيد 1/175، الدرر السنيه 2/326، 350، فتح المجيد 1/74، 75، 125، مجموعة الرسائل 4/295، مجموعة التوحيد 1/137، 141، قرة عيون الموحدين ص19، 20، القول السديد ص19، 20، معارج القبول 2/410- 415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المطلب الثاني: شروطها ونواقضها دلت النصوص الشرعية الكثيرة على أن الفوائد والفضائل العظيمة لكلمة التوحيد"لا إله إلا الله"، التي سبقت الإشارة إلى بعضها في المطلب السابق، والتي من أهمها: الحكم بإسلام صاحبها، وعصمة دمه وماله وعرضه، ودخول الجنة، وعدم الخلود في النار، أنها لا تحصل لكل من نطق بهذه الكلمة، بل لابد من توافر جميع شروطها، وانتفاء جميع نواقضها، فكما أن الصلاة لا تقبل ولا تنفع صاحبها إلا إذا توافرت جميع شروطها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 من الوضوء واستقبال القبلة وغيرهما، وانتفت مبطلاتها، كالكلام والضحك والأكل والشرب وغيرها، فكذلك هذه الكلمة، لا تنفع صاحبها إلا باستكمال شروطها، وانتفاء نواقضها. ولذلك لما قيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة: لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك (1) . ولما قيل للحسن البصري: إن ناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة. ومن أجل عدم تحقق بعض هذه الشروط لم تنفع هذه الكلمة جميع المنافقين الذين نطقوا بها وفعل كثير منهم بعض شعائر الإسلام الظاهرة. ويدل على وجوب توفر شروط هذه الكلمة وعلى وجوب انتفاء موانعها على وجه الإجمال قوله صلى الله عليه وسلم:" أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى   (1) رواه البخاري تعليقاً في فاتحة الجنائز من صحيحه. ورواه موصولاً البخاري في تأريخه 1/95، وأبو نعيم في الحليه 4/66، والحافظ في تغليق التعليق 2/453، 454. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله " (1) ، فيدخل في حقها: الإتيان بشروطها، واجتناب نواقضها (2) . وقد دلت النصوص الشرعيه على أن لهذه الكلمة العظيمة سبعة شروط، هي: الشرط الأول: العلم بمعناها الذي تدل عليه، فيعلم أنه لا أحد يستحق العبادة إلا الله تعالى. قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] . الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك، فلابد أن يؤمن إيماناً جازماً بما تدل عليه هذه الكلمة من أنه لا يستحق العبادة إلا الله تعالى، فإن الإيمان لا يكفي فيه إلا علم اليقين، لا الظن ولا التردد، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] . فمن كان غير جازم في إيمانه بمدلول هذه الكلمة أو كان شاكاً مرتاباً أو متوقفاً في ذلك لم تنفعه هذه الكلمة شيئاً.   (1) رواه البخاري (1399) من حديث عمر، ورواه مسلم (20، 21، 22) من حديث عمر، ومن حديث أبي هريره، ومن حديث عبد الله بن عمر، ومن حديث جابر، واللفظ له. (2) التوضيح عن توحيد الخلاق ص97، تيسير العزيز الحميد ص69، مجموعة الرسائل ص852، 853. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الشرط الثالث: القبول المنافي للرد، فيقبل بقلبه ولسانه جميع مادلت عليه هذه الكلمة، ويؤمن بأنه حق وعدل. قال الله تعالى عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35، 36] . فمن نطق بهذه الكلمه ولم يقبل بعض مادلت عليه إما كبراً أو حسداً أو لغير ذلك فإنه لا يستفيد من هذه الكلمة شيئاً. فمن لم يقبل أن تكون العبادة لله وحده، ومن ذلك عدم قبول التحاكم إلى شرعه تكبراً، أو لم يقبل بطلان دين المشركين من عباد الأصنام أو عباد القبور أو اليهود أو النصارى أو غيرهم، فيقول: إن أديانهم صحيحة، فلا يقبل ما دلت عليه هذه الكلمة من بطلان هذه الأديان الشركية فليس بمسلم. الشرط الرابع: الانقياد المنافي للترك، فينقاد بجوارحه، بفعل ما دلت عليه هذه الكلمة من عبادة الله وحده. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22] ، ومعنى {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ} : ينقاد. ومعنى {وَهُوَ مُحْسِنٌ} : أي موحِّد. فمن قالها وعرف معناها ولم ينقد للإتيان بحقوقها ولوازمها من عبادة الله والعمل بشرائع الإسلام، ولم يعمل إلا ما يوافق هواه أو ما فيه تحصيل دنياه لم يستفد من هذه الكلمة شيئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب، وهو أن يقول هذه الكلمة صدقاً من قلبه، يوافق قلبُه لسانه. قال الله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1- 3] . ولذلك لم ينتفع المنافقون من نطقهم بهذه الكلمة، لأن قلوبهم مكذبة بمدلولها، فهم يقولونها كذباً ونفاقاً. الشرط السادس: الإخلاص المنافي للشرك. فلابد من تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك. قال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] . فمن أشرك بالله تعالى في أي نوع من أنواع العبادة لم تنفعه هذه الكلمة. الشرط السابع: المحبة. فلابد أن يحب المسلم هذه الكلمة ويحب ما دلت عليه، ويحب أهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها، ويبغض ما ناقض ذلك. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقره: 165] (1) .   (1) ينظر شرح صحيح مسلم للنووي 1/219، توضيح كلمة الإخلاص لابن رجب ص15- 48، الدرر السنية 2/253- 259، مجموعة الرسائل 4/295، 296، معارج القبول 2/100- 110، رسالة "الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما" ص103- 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فمن قال: «لا إله إلا الله» ولكنه أبغض ما دلت عليه من عبادة الله وحده لا شريك الله فليس بمسلم، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9] . أما نواقض"لا إله إلا الله"، وتسمى"نواقض الإسلام" و"نواقض التوحيد"وهي الخصال التي تحصل بها الردة عن دين الإسلام، فهي كثيرة، وقد ذكر بعضهم أنها تصل إلى أربعمائة ناقض (1) . وهذه النواقض تجتمع في ثلاثة نواقض رئيسة، هي: 1- الشرك الأكبر: وهو أنواع كثيره يأتي الكلام عليها في الفصل الأول من الباب الثاني - إن شاء الله تعالى -. 2- الكفر الأكبر: وهو أنواع كثيره يأتي الكلام عليها في الفصل الثاني من الباب الثاني - إن شاء الله تعالى-. 3- النفاق الاعتقادي: وسيأتي الكلام عليه في الفصل الثالث من الباب الثاني - إن شاء الله تعالى-.   (1) الدرر السنية 1/100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 العبادة تعريف العبادة وبيان شمولها ... المبحث الثاني: العبادة وفيه مطلبان: المطلب الأول: تعريف العبادة وبيان شمولها: العبادة في اللغة: قال ابن سيدة:"أصل العبادة في اللغة: التذليل. من قولهم: (طريق معبد) أي مذلل. ومنه أخذ (العبد) لذلته لمولاه. والعبادة والخضوع والتذلل والاستكانة قرائب في المعاني. والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم، كالحياة والفهم والسمع والبصر" (1) . وقال في الصحاح:"أصل العبودية: الخضوع والذل. والعبادة الطاعة" (2) . العبادة في الاصطلاح (3) : عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله   (1) المخصص 13/96. (2) الصحاح، مادة "عبد"، وينظر لسان العرب، مادة "عبد". (3) المراد عبادة الطاعة. أما العبادة العامة فهي عبودية القهر والذل، وهي عبادة أهل السماء وأهل الأرض كلهم. ينظر مدارج السالكين 1/118، 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة (1) . وهذا يدل على شمول العبادة، فهي تشمل: أولاً: العبادات المحضة. وهي الأعمال والأقوال التي هي عبادات من أصل مشروعيتها، والتي دل الدليل من النصوص أو غيرها على تحريم صرفها لغير الله تعالى (2) .   (1) ينظر رسالة العبودية (مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى 10/149) . وعرفها بعض أهل العلم بأنها: طاعة الله بفعل المأمور وترك المحظور. ينظر فتح المجيد 1/85 نقلاً عن ابن كثير، وينظر العدة في أصول الفقه 1/163، وآخر المسودة ص576، والدرر السنية 1/155، وتيسير العزيز الحميد ص31. والتعريف الأول أولى؛ لأنه جامع مانع، فهو جامع لأنه يشمل جميع أنواع العباده، بخلاف التعريف الثاني، فهو لا يشمل المباح إذا نوي به وجه الله تعالى، وهو مانع، لأنه لا يدخل فيه ما ليس من أنواع العبادة. أما التعريف الثاني فإنه يدخل فيه ماليس عبادة، كما إذا فعل العبد ما أمر الله به مماليس في الأصل عبادة، كإكرام الضيف ونحوه، ولم يرد بذلك وجه الله، ومن المعلوم أن هذا ليس عبادة لله تعالى. (2) ذكر في "الدين الخالص"1/215 تعريف العبادة المحضة فقال: "هي ما أمر به الشارع من أفعال العباد وأقوالهم المختصة بجلال الله تعالى وعظمته". فكل عمل أو قول دل الدليل من النصوص أو الإجماع أو غيرها على وجوب الإخلاص فيه فهو عبادة من أصل مشروعيته، وما ليس كذلك فليس هو من العبادات في أصل مشروعيته، وعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مختصر الفتاوى المصرية ص28 بأنها: كل فعل لا يعلم إلا من الشارع. وينظر: التوحيد لإسماعيل الدهلوي ص20-25، الفروق: الفرق "18"، والفرق "65"، طرح التثريب 2/11، المنثور في القواعد "النية" 3/286- 288، الأمنية في إدراك النية: الباب الرابع ص21، والباب الخامس ص27، منتهى الآمال للسيوطي: الوجه 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ويدخل في العبادات المحضة ما يلي: 1- العبادات القلبية. وهي تنقسم إلى قسمين: أ –"قول القلب"، وتسمى"اعتقادية"، وهي: اعتقاد أنه لا رب إلا الله، وأنه لا أحد يستحق أن يعبد سواه، والإيمان بجميع أسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وغير ذلك. ب –"عمل القلب"، ومنها: الإخلاص، ومحبة الله تعالى، والرجاء لثوابه، والخوف من عقابه، والتوكل عليه، والصبر على فعل أوامره وعلى اجتناب نواهيه، وغيرها. 2- العبادات القولية. ومنها النطق بكلمة التوحيد، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى بالتسبيح والتحميد وغيرهما، والدعوة إلى الله تعالى، وتعليم العلم الشرعي، وغير ذلك. 3- العبادات البدنية: ومنها الصلاة والسجود، والصوم، والحج، والطواف، والجهاد، وطلب العلم الشرعي، وغير ذلك. 4- العبادات المالية: ومنها الزكاة، والصدقة، والذبح، والنذر بإخراج شيء من المال، وغيرها (1) .   (1) مدارج السالكين لابن القيم 1/123- 133، التجريد للمقريزي الشافعي ص82، 83، تطهير الاعتقاد للصنعاني ص19، دلائل التوحيد للقاسمي ص100، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ثانياً: العبادات غير المحضة. وهي الأعمال والأقوال التي ليست عبادات من أصل مشروعيتها، ولكنها تتحول بالنية الصالحة إلى عبادات (1) . ويدخل في العبادات غير المحضة ما يلي: 1- فعل الواجبات والمندوبات التي ليست في الأصل من العبادات: ومن ذلك: النفقة على النفس أو على الزوجة والأولاد، وقضاء الدين، والزواج الواجب أو المندوب إليه، والقرض، والهدية، وبر الوالدين، وإكرام الضيف، وغيرها. فإذا فعل المسلم هذه الواجبات أو المندوبات مبتغياً بذلك وجه الله تعالى، كأن ينفق على نفسه بنية التقوي على طاعة الله، وكأن ينفق على أولاده بنية امتثال أمر الله، وبنية تربية الأولاد ليعبدوا الله، وكأن يحمل رجلاً كبير السن على راحلته ليوصله إلى أهله ليريحه من تعب   وينظر رسالة العبودية (مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى 10/149، 150) ، تيسير العزيز الحميد ص20- 27، الدرر السنية 2/290، 318. (1) هذه الأقوال والأفعال إن فعلها الإنسان لوجه الله تحولت إلى عبادات كما سبق، وإن فعلها بنية سيئة تحولت إلى معصية لله تعالى يعاقب عليها العبد، كأن يبيع ويشتري ليحصل على مال ليتقوى به على معصية الله تعالى، أو يأكل أو يشرب ليتقوى بذلك على السرقة مثلاً، أو يدرس علماً مباحاً كالطب أو الهندسة ليحصل على عمل معين يحصل عن طريقة على بعض المحرمات، فإن هذه الأعمال كلها تتحول إلى معاصي بسبب النية السيئة، وإن فعل العبد هذه الأفعال والأقوال دون أن ينوي نية حسنة أو سيئة فإن هذا العمل يبقى على أصله، ولا يتحول إلى طاعة ولا إلى معصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المشي مبتغياً بذلك وجه الله، وكأن ينوي بالزواج إعفاف النفس ونحو ذلك كان ذلك كله عبادات يثاب عليها (1) ، بلا نزاع (2) . ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد:" ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تضعه في في امرأتك " متفق عليه (3) ، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي مسعود البدري:" إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة، وهو يحتسبها كانت له صدقة "متفق عليه (4) ، وحديث الثلاثة أصحاب الغار، ففيه أن كلاً منهم توسل إلى الله بصالح عمله، فتوسل أحدهم إلى الله ببره بوالديه ابتغاء وجه الله، وتوسل الثاني إلى الله بإعطائه للأجير أجره بعد تنميته له ابتغاء وجه الله تعالى ... الخ (5) .   (1) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/171، 172، و18/259، شرح النووي لصحيح مسلم 11/77، 78، مدارج السالكين 1/123- 137، المنثور في القواعد 3/287، شرح الكرماني 1/215، فتح الباري 1/136، طرح التثريب 2/11، عمدة القاري 1/318، الدرر السنية 2/318، 319. (2) المستصفى باب الأمر 2/17، 18، حاشية ابن الشاط على الفروق "الفرق 65". (3) صحيح البخاري كتاب الإيمان (56) ، وصحيح مسلم كتاب الوصيه (1628) . (4) صحيح البخاري (55) ، وصحيح مسلم كتاب الزكاة (1002) . (5) رواه البخاري (2215، 2272) ، ومسلم (2743) من حديث ابن عمر، ولهذا الحديث روايات أخرى عن عدة من الصحابة، وقد خرجتها بتوسع في الرسالة الأولى من مجموعة "قصص وأخبار من صحيح السنه والآثار"، وشرحت رواية النعمان المطوله لهذا الحديث تحت رقم (3) وفيها كثير من الزيادات والفوائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 2- ترك المحرمات ابتغاء وجه الله تعالى: ومن ذلك ترك الربا، وترك السرقة، وترك الغش وغيرها فإذا تركها المسلم طلباً لثواب الله وخوفاً من عقابه وامتثالاً لنهيه كان ذلك عبادة يثاب عليها (1) بلا نزاع (2) . ومما يدل على ذلك حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" يقول الله تعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف " متفق عليه (3) ، وحديث الثلاثة أصحاب الغار، ففيه أن أحدهم توسل إلى الله بتركه   (1) مجموع فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية 10/738، شرح صحيح مسلم للنووي 2/151، شرح الكرماني لصحيح البخاري 1/22، مدارج السالكين 1/123- 137، الفوائد ص138، جامع العلوم والحكم شرح الحديث (37) ، 2/321، عمدة القاري 23/8، فتح الباري 1/14، 15، و11/326، المنثور 3/288، منتهى الآمال للسيوطي الوجه 125، الأشباه والنظائر لابن نجيم مع شرحه غمز عيون البصائر 1/93- 95، الفروق (الفرق18 ج1 ص130) . وإذا ترك المسلم فعل شيء من المحرمات لعدم قدرته عليه، أو خوفاً من الحدِّ أو التعزير، أو لعدم الرغبة فيه، أو لعدم التفكير فيه أصلاً، فلا يثاب العبد على ذلك، ينظر المراجع السابقة. (2) المستصفى باب الأمر: التمكن من الامتثال 2/17، 18. (3) صحيح البخاري (7501) ، وصحيح مسلم (129) . ورواه مسلم (131) من حديث ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الفاحشة ابتغاء وجه الله تعالى. 3- فعل المباحات ابتغاء وجه الله تعالى: ومن ذلك: النوم، والأكل، والبيع والشراء، وغيرها من أنواع التكسب، فهذه الأشياء وما يشبهها في الأصل مباحة، فإذا نوى المسلم بفعلها التقوي بها على طاعة الله، وما أشبه ذلك، كان ذلك عبادة يثاب عليها (1) . ومما يدل على ذلك عموم حديث سعد وحديث أبي مسعود السابقين، وقول معاذ رضي الله عنه لما قال له أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: كيف تقرأ القرآن؟ قال:" أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت حزبي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي "رواه البخاري (2) .   (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/460- 463، الموافقات 3/227- 237، مختصر منهاج القاصدين ص458- 460، عمدة القاري 1/318، فتح الباري 1/14- 17، 136، و8/62، و12/275، شرح الأبي والسنوسي 3/145، و4/34، الأشباه والنظائر للسيوطي ص12، الأشباه والنظائر لابن نجيم مع شرحه غمز عيون البصائر 1/78، المنثور 3/287، منتهى الآمال: الوجه 28، وشرح السيوطي لسنن النسائي 1/59، الفروق 1/130، القول المفيد 2/143. (2) صحيح البخاري: المغازي (4341- 4345) ، واستتابة المرتدين (6923) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وهذا يدل على أن العبادة تشمل حياة الإنسان كلها، وتشمل الدين كله (1) ، ويدل كذلك على أهمية العبادة، ولهذا كانت هي الغايه التي خلق الله الجن والإنس من أجلها، كما قال سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، فالله تعالى خلقهم ليختبرهم في عبادته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه (2) ، كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [تبارك:2] فكل عاقل من الثقلين منذ أن يبلغ إلى أن يموت فهو في حال امتحان واختبار.   (1) الدرر السنية 2/290، الإرشاد ص20. (2) مجموع فتاوى ابن تيمية 8/40-57، تفسير ابن كثير (تفسير الآية الثانية من سورة تبارك، وتفسير الآية الثانية من سورة الإنسان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المطلب الثاني: شروط العبادة وأصولها حقيقة عبادة الله تعالى وأصلها: كمال المحبة له مع كمال الذل والخضوع (3) . فمن يحب من لا يخضع له، فليس عابداً له، وكذلك من يخضع   (3) قاعدة في المحبة ص10، 68، 98، الإمام: الفصل السابع ص169، النونية مع شرحها لهراس 2/135، روضة المحبين ص52، مدارج السالكين 3/31، الجواب الكافي ص265، 271، طريق الهجرتين ص453، تفسير ابن كثير - تفسير الآية الرابعة من سورة الفاتحة -، الدرر السنية 2/290، 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ويذل لمن لا يحبه فليس عابداً له (1) . وعبادة الله تعالى لا تكون مقبولة ولا مرضية له جل وعلا حتى تستكمل شروطها وأركانها. شروط العبادة: للعبادة شرطان هما: الشرط الأول: الإخلاص. وهو: أن يقصد العبد بعبادته وجه الله تعالى دون سواه (2) . قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] . قال علامة الهند الإمام المحدث صديق حسن الحسيني:"لا خلاف في أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله" (3) . وبناء على هذا الشرط فمن أدى العبادة ونوى بها غير وجه الله، كأن يريد مدح الناس، أو يريد مصلحة دنيوية، أو فعلها تقليداً لغيره   (1) قاعدة في المحبه ص98، الدرر السنية 2/291. (2) تفسير البغوي (تفسير الآية الثانية من سورة الملك) 4/469، قواعد الأحكام 1/124، التدمرية مع شرحها التحفة ص418، مجموع الفتاوى 1/333، النونية مع شرحها لهراس 2/129، مدارج السالكين 2/95، أعلام السنه المنشورة ص33، 34. (3) الدين الخالص 2/385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 دون أن يقصد بعمله وجه الله، أو أراد بعبادته التقرب إلى أحد من الخلق، أو فعلها خوفاً من السلطان أو من غيره، فلا تقبل منه، ولا يثاب عليها، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم (1) . وإن قصد بالعبادة وجه الله وخالط نيته رياء حبط عمله أيضاً، ولا يعرف عن السلف في هذا خلافاً (2) . الشرط الثاني: موافقة شرع الله تعالى (3) . وذلك بأن تكون العبادة في وقتها وصفتها موافقة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يزيد في عبادته عملاً أو قولاً لم يرد فيهما، ولا يفعلها في غير وقتها، وكذلك لا يتعبد لله بعبادة لم ترد فيهما، وهذا مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، فلا يعبد الله تعالى إلا بما شرعه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (4) .   (1) مجموع فتاوى ابن تيميه 26/22- 32، الأشباه والنظائر لابن نجيم مع شرحه غمر عيون البصائر 1/54، 58، 76- 78، 98، 99، حاشية السندي على النسائي 1/59، وينظر الإحكام لابن حزم الباب (32) ج5 ص 141- 160. (2) كما قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم 1/81، وسيأتي تفصيل هذه المسألة في الباب الثالث، عند الكلام على الشرك الأصغر – إن شاء الله تعالى -. (3) الرسالة للشافعي ص79- 85، تفسير البغوي 4/469، التدمرية مع شرحها التحفة ص418، 419، مجموع الفتاوى 1/70، 333، أعلام السنة المنشورة ص34. (4) تحقيق كلمة الاخلاص لابن رجب ص23، الشفا للقاضي عياض (مطبوع مع شرحه للقاري 2/14-17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد "متفق عليه (1) ، وفي رواية لمسلم:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد "، فالآية صريحة في وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث بروايتيه صريح في تحريم إحداث عبادة لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ترد في سنته، وتحريم إحداث صفة لعبادة مشروعة، لأن ذلك ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم، وليس من سنته. أصول العبادة: عبادة الله تبارك وتعالى يجب أن ترتكز على أصول ثلاثة، وهي المحبة، والخوف، والرجاء، فيعبد المسلم ربه محبة له، وخوفاً من عقابه، ورجاء لثوابه، ولذلك قال بعض السلف:"من عَبَدَ اللهَ بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن" (2) ، وقد أسمى بعض العلماء هذه الأصول"أركاناً" (3) ، وسأتكلم عليها بشيء من الاختصار فيما يلي:   (1) البخاري: الصلح (2697) ، ومسلم: الأقضية (1718) . (2) مجموع فتاوى ابن تيميه 1/95، و15/21، 26. (3) تفسير سورة الفاتحة ص18، الإرشاد للشيخ صالح الفوزان ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الأصل الأول: المحبة لله تعالى. هذا الأصل هو أهم أصول العبادة، فالمحبة هي أصل العبادة (1) ، فيجب على العبد أن يحب الله تعالى، وأن يحب جميع ما يحبه تعالى من الطاعات، وأن يكره جميع ما يكرهه من المعاصي وأن يحب جميع أوليائه المؤمنين، وفي مقدمتهم رسله عليهم السلام، وأن يبغض جميع أعدائه من الكفار والمنافقين. وكل هذا واجب على المسلم لاخيار له فيه. كما أنه يجب على المسلم أن يحب الله تعالى وأن يحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحب نفسه وأولاده وماله وكل شيء (2) . قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] .   وقال الحافظ ابن القيم في طريق الهجرتين "المثال السابع: الخوف"ص399: "الخوف أحد أركان الايمان والإحسان الثلاثة التي عليها مدار مقامات السالكين جميعها، وهي: الخوف والرجاء والمحبة ... ". وينظر مدارج السالكين"منزلة الرجاء"2/36. (1) قاعدة في المحبة لابن تيمية ص49، 68، 69، 87، مدارج السالكين 3/27، الجواب الكافي ص28، طريق الهجرتين ص455، تجريد التوحيد للمقريزي ص80. (2) قاعدة في المحبة ص92، مجموع الفتاوى 7/15، 37، مدارج السالكين 3/43، الجواب الكافي ص274، 287، تفسير السعدي (تفسير الآية 24 من التوبه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ومحبة الله تعالى إذا قويت في قلب العبد انبعثت جوارحه بطاعة الله تعالى، وابتعد عن معصيته، بل إنه يجد اللذة والراحة النفسية عند فعله لعبادة الله تعالى، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [سورة الرعد: 28] . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" قم يا بلال فأرحنا بالصلاة " (1) ، وكان أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: " جُعلت قرة عيني في الصلاة " (2) . ولهذا فإن من يطيع الله، ويجتنب معاصيه، ويكثر من ذكره، ومن نوافل العبادات محبة لله وخوفاً منه ورجاء لثوابه يعيش في سعادة وانشراح صدر (3) ، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [سورة النحل:97] .   (1) رواه الامام أحمد 5/371، وأبو داود في الأدب باب في صلاة العتمة (4976) وإسناده صحيح، رجاله ثقات، رجال البخاري. (2) رواه الإمام أحمد 3/285، والنسائي 7/61 وإسنادهما حسن. وقد صحح هذا الحديث الحاكم 2/160، والحافظ في الفتح 13/345. وقد توسعت في تخريجه وتخريج الحديث قبله في كتاب أوقات النهي ص61، 62. (3) منازل السائرين للهروي مع شرحه مدارج السالكين لابن القيم 3/38، قاعدة في المحبة ص61، 153، 155، 175، 177، الجواب الكافي ص181- 183، الوابل الصيب (الفائده 34 ص102- 107) طريق الهجرتين ص78، 79، 456- 458، تحقيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وإذا عصى العبد ربه نقصت محبته لله بقدر معصيته (1) ، فمن علامة ضعف محبة الله في القلب إصرار العبد على المعاصي وعدم توبته منها، وكلما أكثر العبد من معصية الله تعالى ضعفت محبته في قلبه أكثر مما كانت قبل ذلك، وهكذا، ولذلك فإنه يخشى على من أسرف على نفسه بالمعاصي أن تذهب محبته لله كلية فيقع في الكفر، ومن ادعى محبة الله مع استكثاره من معصيته فهي دعوى كاذبة، ولذلك لما ادعى قوم محبة الله تعالى أنزل هذه الآية (2) : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران:31] ، وهذه الآيه تسمى آية"المحنة"أو آية"الاختبار"فالذي يحب الله حقيقة يتبع ما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وينتهي عما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، قال بعض العلماء:"من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده فهو كاذب". وقال الشاعر: تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا محال في القياس شنيع لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع (3)   كلمة الاخلاص لابن رجب ص35- 37، وينظر تفسير ابن جرير وابن كثير والشوكاني والسعدي للآية (97) من سورة النحل، وللآية (28) من سورة (الرعد) . (1) قاعدة في المحبة ص72، 73، وينظر مختصر منهاج القاصدين ص441. (2) تفسير الطبري 6/322- 324، مجموع الفتاوى 7/93، مدارج السالكين 3/22. (3) قاعدة في المحبة لابن تيمية ص72، 73، طريق الهجرتين ص422، الشفا لعياض (مطبوع مع شرحه للقاري 2/16) ، فتح الباري لابن رجب 1/47، جامع العلوم والحكم 2/346، 347، شرح الحديث 38، تحقيق كلمة الإخلاص ص32- 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وإذا ضعفت محبة الله تعالى في قلب العبد بسبب كثرة معصيته له فقد لذة العبادة، وربما استولى عليه الشيطان في عباداته بكثرة الوساوس، فتجده ربما صلى أو ذكر الله أو دعاه وقلبه لاه غافل، فتصبح عباداته أقرب إلى العادة منها إلى العباده. ولهذا يجد العاصي قسوة وخشونة في قلبه، ويشعر بعدم الطمأنينة والراحة النفسية، بل إنه يحس بضيق في الصدر، وقلق مستمر (1) ، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] أي: أن من أعرض عن ذكر الله - وهو القرآن - فلم يمتثل أوامره ولم يجتنب نواهيه يعاقبه الله بالشقاء في هذه الحياة، ولذلك تجد كثيراً من العصاة يلجؤون إلى ما يظنون أنه يزيل عنهم الضيق، فيلجأ أحدهم إلى المسكرات، أو المخدرات، أو شرب الدخان أو النظر إلى الصور المحرمة أو سماع الغناء والمحرمات يظن أنه سيجد السعادة فيزيد الطين بلة، فيزيده ضيقاً إلى ضيق، نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك ينبغي للعبد أن يحرص على الأمور التي تجلب وتقوي محبة الله في قلبه، لتحصل له السعاده في الدنيا والآخرة، ومن هذه الأمور: 1- أداء الواجبات، والبعد عن المحرمات.   (1) تنظر أكثر المراجع المذكورة قريباً عند ذكر انشراح صدر المؤمن بالطاعات، وينظر تفسير ابن كثير وتفسير الشوكاني وتفسير السعدي للآية (124) من سورة (طه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 2- الإكثار من نوافل العبادات، ومن أهمها: سماع أو قراءة كلام الله تعالى بتدبر، والإكثار من ذكره، ومن صلاة النافلة، وبالأخص صلاة الليل، والإكثار من دعائه ومناجاته. 3- معرفة أسماء الله تعالى وصفاته. 4 - التفكر في نعم الله الكثيرة عليه (1) . الأصل الثاني: الخوف من الله تعالى. الخوف هو: تألم القلب بسبب توقع مكروه (2) . فيجب على المسلم أن يعبد الله تعالى خوفاً من عقوبته، كما قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] ، وقال   (1) مجموع الفتاوى 1/95، 96، مختصر منهاج القاصدين ص436، مدارج السالكين 1/465، و3/17، 18، طريق الهجرتين ص447- 452، فتح الباري لابن رجب 10/46. (2) مختصر منهاج القاصدين كتاب الخوف والرجاء ص383، شرح القسطلاني كتاب الرقاق 9/269، وقال الحافظ ابن القيم في المدارج "منزلة الخوف"1/549: "والوجل والخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة، غير مترادفة"، وقال في طريق الهجرتين ص402: "الخوف يوجب هروباً إلى الله، وجمعية عليه، وسكوناً إليه، فهي مخافة مقرونة بحلاوة وطمأنينة وسكينة ومحبة، بخلاف خوف المسيء الهارب من الله، فإنه خوف مقرون بوحشة ونفرة". وينظر مدارج السالكين "منزلة الرجاء"2/44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 سبحانه: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44] ، وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] . والخوف من الله تعالى ينشأ ويعظم عند العبد من عدة أمور، أهمها: 1- معرفته بالله تعالى وبصفاته، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف. 2- تصديقه بأن الله تعالى توعد من عصاه بترك الواجبات أو بفعل المحرمات بالعقوبة. 3- معرفته لشدة عقوبة الله تعالى لمن عصاه، وأن العبد لا يستطيع تحمل عقوبته تعالى، وهذا يحصل بمطالعة الآيات والأحاديث الواردة في الوعيد والزجر، والعرض والحساب، وعذاب القبر وعذاب النار. 4- تذكر العبد لمعصيته لله تعالى فيما سبق من عمره. 5- خوفه أن يُحال بينه وبين التوبة، بسبب ارتكابه للذنب، أو أن يختم له بخاتمة سيئة بسبب إصراره على معصية الله تعالى. وكلما قوي إيمان العبد وتصديقه بعذاب الله تعالى ومعرفته بشدة عذابه تعالى لمن عصاه اشتد خوفه من عذاب الله، ولذلك قال بعض العلماء: "من كان بالله أعرف كان منه أخوف"، والخوف المحمود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الصادق هو ما حال بين العبد وبين معصية الله تعالى (1) . الأصل الثالث: الرجاء. الرجاء هو: الطمع في ثواب الله ومغفرته، وانتظار رحمته (2) . فيجب على المسلم أن يعبد الله رغبة في ثوابه، وأن يتوب إليه عند الوقوع في الذنب رجاء لمغفرته، كما قال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} [الأعراف: 56] (3) ، وقال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] ، وقال تعالى عن أنبيائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] .   (1) مجموع فتاوى ابن تيمية 1/96، مختصر منهاج القاصدين ص384، طريق الهجرتين ص400، 401، المدارج 1/551- 553، فتح الباري كتاب الرقاق باب الخوف 11/313، شرح القسطلاني 9/269. (2) مختصر منهاج القاصدين ص376، مجموع الفتاوى 15/21، مدارج السالكين 2/52، 53، فتح الباري كتاب الرقاق باب الرجاء مع الخوف 11/301، تفسير الشوكاني للآيه (218) من البقرة، وقد ذكر الحافظ ابن القيم فوائد الرجاء في طريق الهجرتين ص491، وذكر الإمام ابن تيمية في الفتاوى 1/96 ما يحرك الرجاء، فقال: "وكذلك الرجاء يحركه مطالعة الكرم والحلم والعفو وما ورد في الرجاء". (3) قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه، فقال: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} أي خوفاً مما عنده من وبيل العقاب وطمعاً فيما عنده من جزيل الثواب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 والرجاء ثلاثة أنواع: (اثنان محمودان (1) ، والثالث مذموم) ، وهي: 1 - رجاء من أطاع الله في أن يتقبل الله عمله، وأن يثيبه عليه بالفوز بالجنة والنجاة من النار. 2- رجاء من أذنب ذنوباً ثم تاب منها في أن يغفر الله ذنوبه وأن يعفو عنها. 3 - رجاء من هو متماد في التفريط في الواجبات واقع في المحرمات، مصر عليها، ومع ذلك يرجو رحمة الله، فهذا هو"الغرور"و"التمني" و"الرجاء الكاذب". قال أبوعثمان الجيزي:"من علامة السعادة أن تطيع وتخاف أن لا تقبل، ومن علامة الشقاوة أن تعصي وترجو أن تنجو"، وحال صاحب هذا الرجاء المذموم يشبه حال من يتمنى الأولاد من غير أن يتزوج، فهو من أسفه السفهاء، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] والمعنى: أولئك الذين يستحقون أن   (1) قال ابن أبي العز في شرح الطحاويه ص449، 450: "وينبغي أن يعلم أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه أموراً: 1- محبة ما يرجوه. 2- خوفه من فواته. 3- سعيه في تحصيله بحسب الإمكان". وقال المقدسي في مختصر منهاج القاصدين ص377: "اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس إلى اختياره، وهو فضل الله سبحانه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 يرجو (1) ، وقال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] (2) . وبالجملة فإنه يجب على المسلم أن يعبد الله محبة له، وخوفاً من عقابه، ورجاء لثوابه كما أنه ينبغي له أن لا يفْرِط في الخوف حتى يصل إلى درجة القنوط واليأس من رحمة الله، وأن لا يفرط في الرجاء فيتعلق بسعة رحمة الله مع إصراره على معصيته، بل يجب أن يجمع بينهما، وإن كان ينبغي له في حال الصحة أن يغلب جانب الخوف ليحمله على طاعة الله وعلى البعد عن معصيته، وعند الموت يغلب جانب الرجاء على جانب الخوف حتى يموت وهو يحسن الظن بالله، فيفرح بلقائه تعالى، فلابد من الجمع بينهما كما في الآيات الثلاث السابقة (3) .   (1) ينظر مختصر منهاج القاصدين ص376- 378، مدارج السالكين "منزلة الرجاء" 2/37، شرح الطحاوية ص448 - 450، عمدة القاري 23/66، فتح الباري 11/301، شرح القسطلاني 9/269، 270. (2) وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169] أي أن هؤلاء الخلوف الذين لا خير فيهم يتمنون على الله غفران ذنوبهم التي لايزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها، وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 5] ، فدلت هذه الآية بمفهومها على أن رحمة الله بعيده من غير المحسنين. ينظر بدائع الفوائد لابن القيم 3/17. وقال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية [الأعراف: 156] . (3) ينظر المراجع المذكورة في التعليق المذكور قبل التعليق السابق، وينظر تفسير ابن كثير للآيه (9) من الزمر، وينظر المدارج"منزلة الخوف 1/551، 554". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 توحيد الأسماء والصفات مدخل ... الفصل الثالث: توحيد الأسماء والصفات أسماء الله تعالى وصفاته من الغيب الذي لا يعرفه الإنسان على وجه التفصيل إلا بطريق السمع، لأن البشر لا يحيطون بالله تعالى علماً، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. فلا يمكن للعقل البشري أن يستقل بالنظر في أسماء الله وصفاته ومعرفتها على التفصيل إثباتاً ونفياً، ومن فعل شيئاً من ذلك فقد أخطأ، ومال عن الصراط المستقيم. فيجب على العبد أن يقف عند كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فيؤمن بجميع ما ثبت في النصوص الشرعية من أسماء الله وصفاته، وينفي عنه تعالى ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد دلت النصوص الشرعية الكثيرة على إثبات صفات الكمال لله تعالى على وجه التفصيل فيجب إثباتها له تعالى على الوجه اللائق بجلاله، كما دلت النصوص أيضا على نفي صفات النقص عنه تعالى، فيجب نفيها عنه وإثبات كمال ضدها له سبحانه وتعالى، وهذا هو الحق الواجب في أسماء الله تعالى وصفاته على وجه الإجمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وسأتكلم على هذا التوحيد - توحيد الأسماء والصفات - بشيء من الاختصار في المباحث الأربعة الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 المبحث الأول: طريقة أهل السنة في أسماء الله وصفاته طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته يمكن تلخيصها في ثلاثة أمور رئيسة، هي: الأول: طريقتهم في الإثبات: وهي إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، فيؤمنون بأن جميع ما ثبت في النصوص الشرعية من صفات الله تعالى أنها صفات حقيقية تليق بجلال الله تعالى، وأنها لا تماثل صفات المخلوقين. ويؤمنون كذلك بجميع أسماء الله تعالى الثابتة في النصوص الشرعية، ويؤمنون بأن كل اسم يتضمن صفة لله تعالى، فاسم "العزيز" يتضمن صفة العزة لله تعالى، واسم "القوي"يتضمن صفة القوة له سبحانه، وهكذا بقية الأسماء. وكل ما ثبت لله تعالى من الصفات فهي صفات كمال يحمد عليها، ويثنى بها عليه، وليس فيها نقص بوجه من الوجوه، بل هي ثابتة له على أكمل وجه. الثاني: طريقتهم في النفي: نفي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات النقص، مع اعتقادهم ثبوت كمال ضد الصفة المنفية عنه جل وعلا. وكل ما نفاه الله تعالى عن نفسه فهي صفات نقص، تنافي كماله الواجب، فجميع صفات النقص ممتنعة على الله تعالى لوجوب كماله. وما نفاه الله عن نفسه فالمراد به انتفاء تلك الصفة المنفية وإثبات كمال ضدها، وذلك أن النفي لا يدل على الكمال إلا إذا كان متضمناً لصفة ثبوتية يُحمد عليها، فإن مجرد النفي قد يكون سببه العجز فيكون نقصا، كما في قول الشاعر: قُبيِّلةٌ لا يغدرون بذمّةٍ ... ولا يظلمون النَّاسَ حبَّةَ خردل وقد يكون سببه عدم القابلية فلا يقتضي مدحاً، كما لو قلت: الجدار لا يظلم. إذا تبين هذا فمما نفى الله عن نفسه "الظلم"، والمراد به انتفاء الظلم عن الله مع ثبوت كمال ضده له تعالى، وهو "العدل"، ونفى عن نفسه "اللغوب"وهو التعب والإعياء، والمراد نفي اللغوب مع ثبوت كمال ضده، وهو "القوة"، وهكذا بقية ما نفاه الله تعالى عن نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الثالث: طريقتهم فيما لم يرد نفيه ولا إثباته مما تنازع الناس فيه، كالجسم، والحيز، والجهة ونحو ذلك، فطريقتهم فيه التوقف في لفظه، فلا يثبتونه ولا ينفونه، لعدم وروده، وأما معناه فيستفصلون عنه، فإن أريد به باطل ينزه الله عنه ردوه، وإن أريد به حق لا يمتنع على الله قبلوه"1". وهذه الطريقة هي الطريقة الواجبة، وهي القول الوسط بين أهل التعطيل، وأهل التمثيل، وقد دل على وجوبها وصحتها العقل، والسمع: فأما العقل فوجه دلالته: أن تفصيل القول فيما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى لا يدرك إلا بالسمع، لأنه من أمر الغيب الذي لا يحيط   "1" فإذا سأل سائل مثلاً عن "الجهة"هل تثبت في حق الله أم لا؟ قيل له: أولاً: هذه اللفظة لا نثبتها ولا ننفيها؛ لأنه لم يرد في النصوص الشرعية إثباتها ولا نفيها. وثانياً: يُقال له: ما مرادك بهذا السؤال؟ فإن قال: أريد أنه تعالى في مكان يحويه. قيل: هذا معنىً باطلٌ ينزه الله عنه، وإن قال: أريد أنه تعالى مباين للمخلوقات فوقها وأنه تعالى في جهة العلو المطلق. قيل: هذا حقٌّ يجب الإيمان به، لكن لفظة "الجهة"لفظة مجملة محدثة، الأَوْلَى تركها. وإن كان قصد السائل الاسترشاد فحسن، وإن كان قصده رد ما ثبت في النصوص الشرعية الكثيرة من إثبات صفة العلو لله تعالى فهذا خطأ وزلل يجب عليه أن يتوب عنه. ينظر مجموع الفتاوى 5/299، 366، الرسالة التدمرية مع شرحها التحفة "القاعدة الثانية 153-161"، شرح الطحاوية ص9، القواعد الكلية "القاعدة التاسعة"،"صفات الله عز وجل" للسقاف "القاعدة الرابعة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 به الإنسان علما فوجب اتباع السمع في ذلك، بإثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه، والسكوت عما سكت عنه. وأما السمع: فمن أدلته قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] ، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ، وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] . فالآية الأولى: دلت على وجوب الإثبات من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تمثيل، لأن هذه الأمور الثلاثة من الإلحاد. والآية الثانية: دلت على وجوب نفي التمثيل مع وجوب الإثبات. والآية الثالثة: دلت على وجوب نفي التكييف، وعلى وجوب التوقف فيما لم يرد إثباته أو نفيه"1". ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يؤمنون بأن جميع صفات الله جل وعلا الثابتة في الكتاب والسنة صفات حقيقية، لا مجازية.   "1" «فتح رب البرية بتلخيص الحموية"للشيخ محمد بن عثيمين "مطبوع ضمن مجموع فتاويه ورسائله 4/19-24". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وقد نقل الحافظ ابن عبد البر الأندلسي المالكي المولود سنة "368هـ" إجماع أهل السنة على ذلك"1"، وذكر غير واحد من المتقدمين إجماع السلف على ذلك"2"، فالسلف يعتقدون أن الظاهر المتبادر من لفظ   "1" قال في كتابه التمهيد 7/145: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصوره، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئآ منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة ولله الحمد". "2" قال الحافظ أبوالقاسم الأصبهاني المولود سنة " 457 ": "ما جاء في الصفات في كتاب الله أو رُوي بالأسانيد الصحيحة، فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات". ينظر الحجة في بيان المحجة 1/188، 189. وقال بنحو كلام الأصبهاني السابق: الخطيب البغدادي المولود سنة " 392هـ" في رسالته في الصفات التي كتبها جوابا لأهل دمشق حين سألوه عن الصفات ص 64. ونقل الحافظ الذهبي في العلو ص236 عن أبي سليمان الخطابي المتوفى سنة "388هـ" نحو قول الأصبهاني والخطيب أخصر منه. ثم قال الذهبي: "وكذا نقل الاتفاق عن السلف في هذا: الحافظ أبوبكر الخطيب ثم الحافظ أبو القاسم التيمي الأصبهاني وغيرهم".وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله"ص121: "أطلق غير واحد ممن حكى= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الصفة معنى حقا يليق بجلال الله تعالى"1"، فيثبتون المعنى الذي يدل عليه لفظ الصفة الوارد في الكتاب   إجماع السلف منهم الخطابي مذهب السلف: أنها - أي أحاديث الصفات – تجرى على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها ". ونقل الحافظ الذهبي عن أبي القاسم الأصبهاني في كتاب العلو ص263 أنه قال: "مذهب مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وأحمد ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وإسحاق بن راهويه: أن صفات الله التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله من السمع والبصر والوجه واليدين وسائر أوصافه إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيها، ولا تشبيه، ولا تأويل". "1" ظاهر النصوص هو ما يتبادر إلى الذهن من المعاني التي يدل عليها النص، وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام، قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: "الكلام المفيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: نص، وظاهر، ومجمل. وبرهان الحصر في الثلاثة: أن الكلام إما أن يحتمل معنىً واحداً فقط، فهو النص، نحو: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} . وإن احتمل معنيين فأكثر فلا بد أن يكون في أحدهما أظهر من الآخر أو لا، فإن كان أظهر في أحدهما فهو "الظاهر"، ومقابله "المحتمل" المرجوح، كالأسد، فإنه ظاهر في الحيوان المفترس، ومحتمل في الرجل الشجاع. وإن كان لا رجحان له في أحد المعنيين أو المعاني فهو المجمل، كـ "العين"، و "القرء"، ونحوهما. وحكم النص: أن لا يعدل عنه إلا بنسخ. وحكم الظاهر أن لا يعدل عنه إلا بدليل على قصد المحتمل المرجوح، وذلك هو التأويل. وحكم المجمل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أو السنة، فمثلاً يثبتون المعنى الذي يدل عليه لفظ "العزة» في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} ، وهذا المعنى هو: "القدرة والغلبة"، وكذلك يثبتون المعنى الذي يدل عليه لفظ "استوى"في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وهذا المعنى هو: "العلو والاستقرار" كما سيأتي بيانه عند الكلام على صفة الاستواء – إن شاء الله تعالى -، وهكذا بقية الصفات؛ لأن الله تعالى خاطب عباده في كتابه بلسان عربي مبين، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب أمته بألفاظ عربية صريحة، فوجب إثبات المعنى الحقيقي الذي يدل عليه اللفظ الوارد في القرآن أو السنة في لغة العرب، وهذا هو مقتضى الإيمان بهما ومقتضى الانقياد لما جاء فيهما. بهذا يعلم بطلان مذهب المفوضة الذين يقولون: نؤمن بالصفات الواردة في النصوص، لكن لا نثبت المعنى الذي يدل عليه لفظ الصفة، وإنما نفوض علم معناه إلى الله تعالى، وهذا مذهب حادث بعد القرون المفضلة"1"، والسلف بريؤون منه، فقد تواترت الأقوال عن   يتوقف عن العمل به إلا بدليل على تعيين المراد"أ. هـ ينظر مذكرة أصول الفقه ص176، وينظر القواعد المثلى " القاعدة الرابعة في أدلة الأسماء والصفات". "1" قال الحافظ الذهبي الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه "العلو"ص "532" في ترجمة القاضي أبي يعلى: "المتأخرون من أهل النظر أي أهل الكلام قالوا مقالة مولدة ما علمت أحدا سبقهم بها، قالوا: هذه الصفات تمر كما جاءت ولا تؤول مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، فتفرع من هذا أن الظاهر يعنى به أمران: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 السلف بإثبات معاني الصفات، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله عز وجل"1".   أحدهما: أنه لا تأويل لها غير دلالة الخطاب، كما قال السلف: "الاستواء معلوم"، وكما قال سفيان وغيره: "قراءتها تفسيرها"يعني أنها بينة واضحة في اللغة لا يبتغى بها مضايق التأويل والتحريف، وهذا هو مذهب السلف، مع اتفاقهم أيضا أنها لا تشبه صفات البشر بوجه، إذ الباري لا مثل له لا في ذاته ولا في صفاته. الثاني: أن ظاهرها وهو الذي يتشكل في الخيال من الصفة كما يتشكل في الذهن من وصف البشر، فهذا غير مراد، فإن الله تعالى فرد صمد ليس له نظير، وإن تعددت صفاته فإنها حق، ولكن ما لها مثل ولا نظير"أ. هـ.ونقل الذهبي عن أبي يعلى أنه قال:"ويدل على إبطال التأويل: أن الصحابة ومن بعدهم حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغا لكانوا إليه أسبق". وقال علامة الهند محمد صديق حسن خان في قطف الثمر ص 45 بعد ذكره لمذهب المفوضة وذكره لظن بعضهم أن التفويض هو طريقة السلف قال: "فهذا الظان من أجهل الناس بعقيدة السلف، وأضلهم عن الهدى، وقد تضمن هذا الظن استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة وكبار الذين كانوا أعلم الأمة علما وأفقههم فهما وأحسنهم عملا وأتبعهم سننا، ولازم هذا الظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، وهو خطأ عظيم وجسارة قبيحة نعوذ بالله منها". (1) ينظر مجموع الفتاوى 5/19، 41، 42، 46، 62، 365، التسعينية ص 556 - 573، التدمرية مع شرحها التحفة المهدية " القاعدة الثانية ص 106، 107، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فتبين مما سبق أن عقيدة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته إجمالاً هي: الإيمان بجميع ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وإثباتها له سبحانه على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، وعدم التعرض لشيء من ذلك بتحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل، ونفي ما نفاه الله تعالى عن نفسه أو نفاه عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واعتقاد كمال ضده له سبحانه وتعالى، مع اعتقاد أن جميع صفاته تعالى صفات حقيقية لا تماثل صفات المخلوقين.   والقاعدة الثالثة ص 163- 182 " شرح الطحاوية "شرح: ما زال بصفاته قديماً.. ص96"، القواعد المثلى "القاعدة الثالثة"، وينظر كلام العلامة الشوكاني الذي سيأتي قريباً. وينظر قول الإمام مالك الذي سيأتي عند ذكر صفة الاستواء. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 5/41، 42:؛ فقول ربيعة ومالك: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب"موافق لقول الباقين: "أمروها كما جاءت بلا كيف"فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة. ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول" ولما قالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيف"فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم. وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 والتحريف معناه: تغيير النص لفظاً، أو معنىً، والتغيير اللفظي قد يتغير معه المعنى، وقد لا يتغير. فهذه ثلاثة أقسام: 1- تحريف لفظي يتغير معه المعنى: كتحريف بعضهم قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} بنصب لفظ الجلالة ليكون التكليم من موسى"1". 2- وتحريف لفظي لا يتغير معه المعنى: كفتح الدال من قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وهذا في الغالب لا يقع إلا من جاهل، إذ ليس فيه غرض مقصود لفاعله غالبا. 3- تحريف معنوي: وهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل، كتحريف معنى اليدين المضافتين إلى الله إلى القوة أو النعمة، وتحريف معنى الاستواء إلى الاستيلاء، وتحريف معنى الضحك إلى الثواب، وغير ذلك، كما فعل الأشاعرة وغيرهم. وهذا من الإلحاد في أسماء الله وآياته، فيتأولون نصوص الصفات على غير تأويلها، ويدَّ عون فيها   "1" وقد ذكر الحافظ ابن خزيمة في كتاب التوحيد 1/ 78، 79 أن بعض المعاصرين له من المبتدعة كان لا يجوِّز أن يقرأ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وأنه كان يقرأ: "الله نوَّر السموات والأرض"، وذكر أنه كتب له نصيحة وأرسلها إليه مع بعض أصحابه، وذكر أنه بلغه أن هذا المبتدع رجع بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بغير دليل، سوى الآراء البشرية والشبه العقلية التي ظنوها بينات، وإنما هي في واقع الأمر شبهات كلامية مبنية على الفلسفة اليونانية، فتأويلهم لنصوص الصفات حقيقته تحريف لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن مواضعه"1"، فإن التأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاء في الكتاب   "1" قال علامة اليمن الإمام محمد بن علي الشوكاني في رسالة "التحف في مذاهب السلف" ص47-51: "مذهب السلف من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين وتابعيهم هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل، فاشدد بذلك على هذا، واعلم أنه مذهب خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في الصفات، وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون، واصطلحوا عليها، وجعلوها أصلاً يُردُّ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فإن وافقاها فقد وافقا الأصول المتقررة في زعمهم، وإن خالفاها فقد خالفا الأصول المتقررة في زعمهم، ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم، والمخالف لها من قسم المردود والمتشابه، ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة ظاهرة المعنى، أو ألف حديث مما ثبت في الصحيح لم يبالوا به، ولا رفعوا إليه رؤوسهم، ولا عدوه شيئاً. ومن العجب العجيب والنبأ الغريب أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة من أهل الكلام، التي جعلها من بعدهم أصولاً لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 والسنة، وما خالف ذلك باطل، فإن كل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق ولا معه قرينة تقتضيه فهذا لا يقصده الهادي المبين بكلامه، إذ لو قصده لحفَّ به قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ، فإن الله أنزل كلامه بيانا وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره ولم يلحق به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد لم يكن بيانا ولا هدى. فالتأويل إخبار بمراد المتكلم لا إنشاء، فإذا قيل: "معنى اللفظ كذا وكذا"كان إخباراً بالذي عنى المتكلم وأراده بكلامه، فإن لم يكن الخبر مطابقاً كان تفسيراً لكلام المتكلم بغير مراده، وذلك خطأ ظاهر.   والفرية على الفطرة، وكل فرد من أفرادها قد تنازعت فيه عقولهم، وتخالفت عنده إدراكاتهم، فهذا يقول: حكم العقل في هذا الكلام كذا، وهذا يقول حكم العقل في هذا كذا، ثم قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه، وجعل ذلك أصلا يرد إليه أدلة الكتاب والسنة، وجعل المتشابه عند أولئك محكماً عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقا له عنده، فكان حاصل كلام هؤلاء أنهم يعلمون من صفات الله ما لا يعلمه، وكفاك هذا! وليس بعده شيء، وعنده يتعثر العلم حياء من الله سبحانه وتعالى". انتهى كلامه - رحمه الله - مختصراً. وينظر رسالة "كشف الشبهات عن المشتبهات"للشوكاني أيضاً ص36-42، وينظر كلام ابن عبد البر الآتي عند بيان معنى الاستواء، وكلام الحافظ ابن حجر الآتي عند تعريف البدعة في الاصطلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 والتعطيل معناه: إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات، أو إنكار بعضها. فهو نوعان: 1- تعطيل كلي: كتعطيل الجهمية الذين ينكرون الأسماء والصفات. 2- تعطيل جزئي: كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات ويؤولونها، ويثبتون بعض الصفات. وأول من عرف بالتعطيل من هذه الأمة هو الجعد بن درهم، وكل من جاء بعده من المعطلة فهو مقلد له متأس به في كل ما جاء به من التعطيل أو في بعضه. والتكييف معناه: حكاية كيفية الصفة، كقول القائل: كيفية يد الله كذا وكذا، وكيفية نزوله إلى السماء الدنيا كذا وكذا. وقد يقيد أو يقرن هذه الكيفية بمماثل فيقول مثلاً: نزول الله تعالى كيفيته كنزول المطر، تعالى الله عن ذلك، فيجمع بين التكييف والتمثيل. ومعنى التمثيل: إثبات مثيل للشيء، كأن يقول: يد الله مثل يد الإنسان، تعالى الله عن ذلك"1".   "1" ينظر في عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات: الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة، السنة للإمام أحمد، الرد على الزنادقة للإمام أحمد، خلق أفعال العباد للإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 .....................................................................   البخاري، كتاب الرد على الجهمية للدارمي، كتاب الرد على المريسي له أيضاً، كتاب التوحيد من صحيح البخاري مع شرحه للغنيمان، كتاب السنة لعبد الله بن أحمد، العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الحنفي، شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي، السنة لابن أبي عاصم، السنة للخلال، الإبانة لابن بطة، التوحيد لابن خزيمة، عقيدة السلف للصابوني، الحجة للأصفهاني، التوحيد لابن منده، شرح السنة للبربهاري، الشريعة للآجري، الصفات للدارقطني، النصيحة للواسطية نقلا عن الجويني، الواسطية مع شرحها لهراس، التدمرية مع شرحها التحفة المهدية، مجموع الفتاوى لابن تيمية، الرسالة المدنية، الصواعق المرسلة، تفضيل علم السلف على علم الخلف لابن رجب، الأربعين في صفات رب العالمين للذهبي، التحف في مذاهب السلف للشوكاني، الإقليد في الأسماء والصفات والاجتهاد والتقليد للشنقيطي، معارج القبول 1/346- 368، تلخيص الحموية، القواعد المثلى، القواعد الكلية، صفات الله عز وجل للسقاف، الأسماء والصفات لعمر الأشقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 المبحث الثاني: أقسام الصفات تنقسم صفات الله تعالى من جهة تعلقها بذاته تعالى وأفعاله إلى قسمين: القسم الأول: صفات ذاتية وهي التي لم يزل ولا يزال الله تعالى متصفاً بها، كالعلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والوجه، واليدين ... ونحو ذلك من الصفات التي هي من لوازم ذاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 القسم الثاني: صفات فعلية وهي الصفات المتعلقة بمشيئة الله وقدرته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، كالمجيء، والنزول، والغضب، والفرح، والضحك، ونحو ذلك، وتُسمى "الصفات الاختيارية" أو "الأفعال الاختيارية""1".   "1" ينظر مجموع الفتاوى 6/217، 233، شرح الطحاوية ص 96، التنبيهات السنية ص20، صفات الله عز وجل للسقاف ص27-29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المبحث الثالث: أمثلة لبعض الصفات الإلهية الثابتة في الكتاب والسنة صفات الله تعالى لا يستطيع العباد حصرها، لأن كل اسم لله تعالى يتضمن صفة له جل وعلا، وأسماء الله تعالى لا يستطيع العباد حصرها، لأن منها ما استأثر الله به في علم الغيب عنده"2"، وقد ورد   "2" ويدل لذلك ما رواه الإمام أحمد " 3712 " بإسناد حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أصاب أحداً قط همٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه ". وقد صححه أحمد شاكر، والألباني في صحيح الكلم الطيب. وينظر الأسماء والصفات للبيهقي، باب بيان أن لله تعالى أسماء أخر ص17- 19، وتفسير ابن كثير: تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، بدائع الفوائد 1/162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 في الكتاب والسنة ذكر صفات كثيرة لله تعالى، وأجمع أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على إثباتها له تعالى على الوجه اللائق بجلاله. ومن هذه الصفات: 1- علو الله تعالى. وينقسم إلى قسمين: علو ذات، وعلو صفات. فأما علو الصفات فمعناه: أنه ما من صفة كمال إلا ولله تعالى أعلاها وأكملها. وأما علو الذات فمعناه: أن الله بذاته فوق جميع خلقه، وقد دل على ذلك: الكتاب، والسنة، والإجماع، والفطرة. فأما الكتاب والسنة فهما مملوءان بما هو نص، أو ظاهر في إثبات علو الله تعالى بذاته فوق خلقه، وقد تنوعت دلالتهما على ذلك إلى أنواع كثيرة، منها: 1- التصريح بفوقيته سبحانه على خلقه، مقرونا بأداة "مِنْ"المعيِّنة للفوقية بالذات، كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] . 2- التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو: ذاتاً وقدراً وشرفاً، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] ، وثبت في الحديث أنه يشرع للعبد أن يقول في حال سجوده - وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أكثر ما يكون سفولاً بوضعه أشرف أعضائه - وهو الوجه - على الأرض -: "سبحان ربي الأعلى" "1"، فيصف ربه بصفة العلو وهو - أي الساجد - على هذه الحال من السفول وتنكيس الجوارح تذللا للعلي العظيم"2". 3- التصريح بكونه تعالى في "السماء""3"، كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [تبارك: 16] ، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء " رواه البخاري ومسلم"4".   "1" عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ... فذكر الحديث، وفيه: ثم سجد فقال: " سبحان ربي الأعلى ". رواه مسلم في الصلاة باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، رقم " 772 ". "2" للعلامة ابن القيم - رحمه الله - كلام نفيس عن هذه الحكمة وغيرها من حكم وأسرار الصلاة في كتابه القيم: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل: الوجه الثاني والعشرون من أوجه الجواب عن شبه نفاة الحكمة والتعليل 2/166-170. "3" قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ص383: "وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن تكون "في"بمعنى "على". وإما أن يراد ب "السماء" العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره". "4" صحيح البخاري كتاب المغازي رقم " 4351 "، وصحيح مسلم كتاب الزكاة رقم " 1064 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 4- التصريح بأنه تعالى على العرش مستو عليه، كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر شفاعته يوم القيامة: "فآتي باب الجنة فيفتح لي، فآتي ربي تبارك وتعالى وهو على كرسيه أو سريره فأخر له ساجد اً" "1"   "1" رواه أبو أحمد العسال في كتاب "المعرفة"بإسناد قوي عن ثابت عن أنس كما قال الإمام الذهبي الشافعي في "العلو"ص36. ورواه الإمام أحمد 1/281، 295، والدارمي في رده على المريسي ص371، وعثمان بن أبي شيبة في كتاب العرش ص 72، 73، رقم " 46 " من طرق عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن ابن عباس، ورجاله ثقات، رجال مسلم، عدا علي بن زيد وهو ابن جدعان فهو "ضعيف"، وقال الدارمي: "رواه هؤلاء المشهورون عن ابن عباس على رغم بشر". ورواه الذهبي في العلو "64" من طريق زائدة عن زياد عن أنس. وقال: "زائدة ضعيف". ولهذا الحديث شواهد كثيرة، منها: حديث عمران مرفوعا عند أبي الشيخ في العظمة " 207 " بلفظ "كان الله عز وجل على العرش". ورجاله ثقات، وإسناده متصل، وقال الذهبي في العرش 2/105 "حديث صحيح"، ومنها قول ابن عباس: " إن الله كان على عرشه ... " رواه الدارمي في الرد على المريسي ص445. وإسناده صحيح، وقد صححه الألباني في مختصر العلو ص95. وبالجملة فهذا الحديث صحيح بطرقه وشواهده السابقة، وله أيضاً شواهد كثيرة، يأتي بعضها عند الكلام على صفة الاستواء.= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 5- التصريح بصعود الأشياء وعروجها إليه، كما في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] ، وكما في قوله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] ، وكما في أحاديث المعراج، وهي أحاديث متواترة، وفيها أنه عرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء الدنيا، ثم إلى السماء الثانية، وهكذا حتى وصل إلى سدرة المنتهى فوق السماء السابعة، ثم كلمه ربه وفرض عليه خمسين صلاة، فنزل إلى موسى في السماء السادسة، فأشار إليه أن يرجع إلى ربه، فيسأله التخفيف، فصعد إلى ربه تعالى يطلب منه التخفيف، فخففها تعالى إلى أربعين صلاة، ثم لم يزل هكذا يتردد بين موسى عليه السلام وبين ربه تعالى، حتى خففها الباري وجعلها خمس صلوات"1".   =وقد ثبت أن العرش أعلى المخلوقات، كما في قوله صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن" رواه البخاري في الجهاد "2790" وفي التوحيد "7423". وقال شيخنا عبد العزيز ابن باز في بعض دروسه: "العرش بعضه فوق الجنة وبعضه فوق الماء". "1" تنظر أحاديث المعراج في جامع الأصول في النبوة، ومجمع الزوائد كتاب الإيمان باب الإسراء، وغيرهما. ومما ورد في صعود الأشياء إليه تعالى حديث أبي هريرة رضي الله عنه في عروج روح المؤمن بعد قبض ملك الموت لها، وفيه: "أنها تعرج حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الرب تبارك وتعالى ". وقد أخرج هذا الحديث الإمام أحمد 2/364، وابن خزيمة في= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 6- التصريح بتنزيل الكتاب منه، ونزول جبريل عليه السلام منه جل وعلا بالقرآن، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] ، وكما في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:102] . 7- التصريح بنزوله جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر " وهو حديث متواتر عنه صلى الله عليه وسلم "1"، وفي بعض   التوحيد باب السنن المثبتة أن الله تعالى فوق كل شيء ... رقم "176". وإسناده صحيح، وصححه الحافظ الذهبي في الأربعين "24". وله شاهد من حديث البراء الذي رواه الإمام أحمد 4/287، 295، وابن خزيمة "175، 176" والطيالسي "753"، والحاكم في الإيمان 1/37 40 بإسناد حسن. وصححه الحاكم والبيهقي والمنذري. ينظر الترغيب فصل في عذاب القبر "5221"، وقال ابن القيم في تهذيب السنن 4/337: "صححه أبو نعيم وغيره"، وقال الذهبي في العلو "117": "إسناده صالح". "1" ينظر صحيح البخاري: التوحيد باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} "7494"، وصحيح مسلم: الصلاة باب الترغيب في الدعاء، "758"، وهو عندهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعند مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ألفاظه في آخره زيادة: " ثم يصعد ""1". 8- التصريح بلفظ "الأين"كقول أعلم الخلق بربِّه وأنصحهم لأمته وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح للجارية: "أين الله?" قالت: في السماء. قال صلى الله عليه وسلم لسيدها معاوية بن الحكم: " أعتقها،   "1" هذه الزيادة أخرجها أبوعوانة في مسنده باب الترغيب في قيام الليل 2/288، 289 والدارقطني في رسالة "النزول"133، رقم "55" من طرق عن أبي إسحاق، حدثني الأغر أبو مسلم، عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإسناده صحيح. وقال الدارقطني: "زاد فيه يونس بن إسحاق - وهو الراوي عنده عن أبي إسحاق - زيادة حسنة". ولهذه الرواية شاهد من حديث ابن مسعود عند الدارقطني "12". ورجال إسناده حديثهم لا ينزل عن درجة الحسن، لكن فيه انقطاع. وذكر الحافظ ابن حجر لهذه الرواية شواهد كثيرة في كل منها ضعف يسير، ينظر الفتح كتاب التوحيد باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} . وقال الحافظ بعد ذكره لتأويل النزول: "والتسليم أسلم "، قلت: وماذا يريد العاقل غير السلامة، فيجب على كل مسلم أن يسلِّم لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألا يقدم عليه آراء البشر وأهل الكلام، فيضل عن الطريق المستقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فإنها مؤمنة"رواه مسلم"1". 9- الإشارة إليه حسّاً إلى العلو، فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال في آخر خطبته يوم عرفة مخاطبا لجموع المسلمين: " أنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد، اللهم اشهد " ثلاث مرات"2". 10- التصريح بأنه تعالى فوق السموات السبع، كما في قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة بأن تقتل مقاتلتهم وأن تقسم أموالهم وذراريهم: " لقد حكمتَ فيهم بحكم الله الذي حكم به من   "1 " صحيح مسلم كتاب المساجد باب تحريم الكلام في الصلاة، رقم "537". "2" صحيح مسلم كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم " 1218 ". وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ص348: "أشار إليه من هو أعلم به وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله، في اليوم الأعظم في المكان الأعظم ... فكأنّا نشاهد تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع أصبعه إليه: اللهم اشهد ". وروى البخاري في صحيحه في الحج " 1739 " عن ابن عباس - رضي الله عنهما - خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، وفيه: ثم رفع رأسه، فقال: " اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فوق سبع سماوات " "1". وقد ذكر بعض كبار أصحاب الإمام الشافعي أن أدلة علو الله تعالى بذاته على خلقه في كتاب الله تعالى تزيد على ألف دليل"2". ومع ورود كل هذه الأدلة الشرعية المتواترة المتنوعة والصريحة في دلالتها في إثبات علو الله تعالى بذاته على جميع مخلوقاته لم يقبل المعطلة   "1" رواه ابن سعد في ترجمة سعد بن معاذ 3/426، والنسائي في الكبرى كما في التحفة، حديث " 3881 "، والذهبي في "العلو"، رقم "62" من حديث سعد بن أبي وقاص. وإسناده حسن. وقد صححه الذهبي، وابن أبي العز في شرح الطحاوية ص378. وحسنه الألباني في مختصر العلو. وله شاهد من مرسل محمد بن كعب عند الذهبي "61"، وشاهد آخر من مرسل علقمة بن وقاص عند ابن إسحاق وغيره. وإسناده صحيح إلى مرسله. وقد توسعت في تخريج هذا الحديث في رسالة "اليهود"تحت رقم " 34 ". "2" وقد جمع هذه الأدلة الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب "العرش"، والموفق ابن قدامة في كتاب "إثبات علو الله تعالى على عرشه"، والحافظ الذهبي في كتاب "العلو"، وأبو محمد الجويني في رسالة "إثبات الاستواء والفوقية"، والحافظ ابن القيم في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية"، وغيرهم، وقال ابن أبي العز الحنفي بعد ذكره ثمانية عشر نوعاً من أدلة إثبات علو الله بذاته على خلقه: "وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك". وينظر مجموع الفتاوى 5/226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 كالمعتزلة وكثير من الأشاعرة"1" إثبات هذه الصفة لله تعالى، وقدموا على هذه النصوص الشبهات العقلية التي أخذوها من علم الكلام الذي ورثوه عن فلاسفة اليونان، فجعلوا العقول البشرية حاكمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الميل البيِّنِ عن الصراط المستقيم، وصدق الإمام الشافعي - رحمه الله - حيث قال: "ما أحد ارتدى بالكلام فأفلح" "2". وأما دليل الإجماع: فقد أجمع الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة أهل السنة على أن الله تعالى عال على خلقه بذاته، مستو على عرشه، وكلامهم في ذلك مشهور ومتواتر، وقد حكى أبوعبد الله   "1" غالب الأشاعرة ينكرون صفة العلو لله تعالى، فبعضهم يقول: إنه في كل مكان بذاته، وعامة متأخريهم يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه، وذهب بعض متقدميهم إلى إثبات هذه الصفة لله تعالى، وإثبات أنه تعالى فوق عرشه. ينظر مجموع الفتاوى 2/298، و5/272، العلو ترجمة حماد بن زيد "352". "2" رواه أبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام وأهله"4/285، وقال الحافظ الذهبي في "العلو"ص166 بعد ذكره لبعض أقوال الإمام الشافعي في ذم الكلام وأهله، والتحذير منه قال: "تواتر عن الشافعي ذم الكلام وأهله، وكان شديد الاتباع للآثار في الأصول والفروع"وينظر في ذم كثير من السلف لعلم الكلام كتاب "ذم الكلام وأهله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 القرطبي المالكي إجماع السلف على أن الله تعالى في جهة العلو"1". وقال الإمام الأوزاعي التابعي الجليل: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به السنة من صفاته عز وجل ""2".   "1" ينظر تفسير القرطبي "تفسير الآية 54 من سورة الأعراف" 7/219. ونص كلامه: "قد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة"أ. هـ. ولفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة، ولكن إذا أريد بها أنه تعالى فوق العالم مباين للمخلوقات، ليس داخلاً فيها، فهذا صحيح، ويكون المراد بالجهة حينئذ أمراً عدمياً وذلك بتسمية ما وراء العالم جهة. وإن كان الأولى استعمال اللفظ الشرعي "العلو". وينظر التدمرية مع شرحها التحفة ص153- 157، مجموع الفتاوي 6/39، 40، صفات الله عز وجل للسقاف ص85 - 87. "2" رواه البيهقي في الأسماء والصفات باب ما جاء في قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ص515. وإسناده حسن إن شاء الله. وقد صحح إسناده ابن تيمية كما في مجموع الفتاوي 5/39، وجوده الحافظ ابن حجر في الفتح في التوحيد باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِْ} 13/406، وينظر أيضاً في حكاية الإجماع على أنه تعالى بذاته فوق جميع مخلوقاته عال على عرشه ما يأتي عند الكلام على صفة "الاستواء على العرش". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ولم يقل أحد من السلف قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء. وأما دليل الفطرة: فإن جميع العباد بطباعهم إذا أرادوا دعاء الله تعالى والتضرع إليه رفعوا أيدهم، واتجهت قلوبهم جهة العلو، فالله تعالى قد فطر قلوب عباده على التوجه في دعائه إلى الجهة العلوية، وهذا يدل على أنه تعالى بذاته فوق جميع مخلوقاته"1".   "1" ينظر شرح الطحاوية ص390-392، وينظر الإبانة لأبي الحسن الأشعري 2/107، الحجة للأصبهاني2/117. وقد روى الحافظ أبو منصور بن الوليد بإسناده عن أبي جعفر بن أبي علي الهمداني الحافظ، قال: سمعت أبا المعالي الجويني وقد سُئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ? فقال: كان الله ولا عرش وجعل يتخبط في الكلام. فقلت: قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة ?. فقال: ما تريد بهذا القول وما تعني بهذه الإشارة?، فقلت: ما قال عارف قط: " يا رباه " إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة? فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت. وبكيت، وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: يا للحيرة، ونزل، ولم يجبني إلا: "يا حبيبي الحيرة الحيرة، والدهشة الدهشة". فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: "حيرني الهمداني". ذكره الحافظ الذهبي في "العلو"ص259، وقال الألباني في "مختصر العلو"ص277: "إسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 2- صفة الكلام: فالله تعالى لم يزل متكلماً بمشيئته وإرادته بما شاء وكيف شاء بكلام حقيقي، حرف وصوت، ويسمعه من يشاء من خلقه، وكلامه عز وجل قول حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته. ومن الأدلة على ذلك: قول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ، وقوله جل وعلا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} وقوله جل وعلا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف:109] . ومن الأدلة على ذلك من السنة: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله عز وجل يوم القيامة: "يا آدم" فيقول: لبيك ربنا وسعديك. فينادِي"1" بصوت: "إنَّ الله يأمرك أنْ   "1" قال الحافظ العيني في "عمدة القاري"19/68: "على صيغة المعلوم"أي أن الله تعالى ينادي آدم عليه السلام بصوت يسمع. وفي حديث عمران عند الترمذي في التفسير "3169": "ذاك يوم ينادي الله فيه آدم، فيناديه ربه، فيقول: يا آدم ابعث بعث النار ... "، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال عبد القادر الأرنؤوط في تعليقه على جامع الأصول 9/186: "وهو كما قال"، وقال الألباني في صحيح الترمذي: "صحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 تخرج من ذريتك بعثا إلى النار" قال: يا رب وما بعث النار? قال: "من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين" فحينئد تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد ". فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، وقالوا: أينا ذلك الواحد ... الحديث. رواه البخاري في صحيحه"1". وما رواه جابر عن عبد الله بن أنيس مرفوعاً: "يحشر الله العباد عُرَاةً غُرْلاً بُهْمَاً - أي ليس معهم شيء - فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان " "2".   "1" صحيح البخاري كتاب التفسير باب {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} رقم "4741"، وكتاب التوحيد باب قول الله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ولم يقل ماذا خلق ربكم، رقم "7483". "2" رواه البخاري في صحيحه في العلم باب الخروج في طلب العلم، وفي التوحيد في الباب السابق تعليقاً. ورواه موصولاً الإمام أحمد في 3/495، والبخاري في الأدب المفرد باب المعانقة "970"، وابن أبي عاصم في السنة: الكلام والصوت "514"، والحاكم في التفسير 2/437، وفي الأهوال 4/574، والخطيب في الرحلة في طلب الحديث رقم "1" من طرق عن همام عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد ابن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله.. فذكره. ورجاله حديثهم لا ينزل عن درجة الحسن، عدا القاسم، وهو "مقبول"، وقد صحح هذا الإسناد الحاكم، ووافقه= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ومن كلام الله تعالى: "القرآن" فهو صفة من صفات الله تعالى، تكلم به ربنا جل وعلا، وسمعه منه جبريل عليه السلام، ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، فهو منزل، غير مخلوق. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ، وقوله تعالى: {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1،2] .   الذهبي، وحسنه المنذري في الترغيب: فصل في الحساب "5283"، والحافظ في الفتح 1/174، وقال الألباني في التعليق على السنة: "إسناده حسن أو قريب منه". ورواه الطبراني في مسند الشاميين، رقم "156"، وتمام في فوائده، رقم "928" من طريق محمد بن المنكدر عن جابر. وقال الحافظ في الفتح 1/174: "إسناده صحيح". ورواه الخطيب "33" من طريق أبي جارود، عن جابر. وقال الحافظ 1/174: "في إسناده ضعف". وبالجملة هذه الطرق يشد بعضها بعضاً، فهو حديث صحيح بمجموع طرقه، وقد صححه الألباني بمجموع هذه الطرق في التعليق على السنة لابن أبي عاصم. وقال علامة العراق محمود شكري الألوسي في تفسيره "روح المعاني"ج1: "الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين.. أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغا لا ينبغي معه تأويل، ولا يناسب في مقابلته قال وقيل، بل قد ورد في إثبات الصوت لله تعالى أحاديث لا تحصى". ينظر شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري 2/221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ومن أدلة السنة: ما رواه جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: " هل من رجلٍ يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلّغ كلام ربي " "1". أما الإجماع فقد قال التابعي الجليل عمرو بن دينار: "أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم منذ سبعين سنة، يقولون: القرآن كلام الله، منه خرج وإليه يعود""2".   "1" رواه الإمام أحمد 3/390، وأبو داود في السنة باب في القرآن "4734"، والترمذي في فضائل القرآن "2925"، والبخاري في "خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل"ص18، واللالكائي "554، 555" وغيرهم من طرق عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن ابن أبي الجعد، عن جابر. وإسناده صحيح، رجاله رجال البخاري. "2"روى هذا القول عنه الدارمي في الرد على المريسي: القول في كلام الله ص474، والبيهقي في الشهادات 9/205 عن ابن راهويه عن ابن عينيه عن عمرو بن دينار. وإسناده صحيح على شرط الشيخين. ومعنى "منه خرج": أن الله تعالى تكلم به، ومعنى "إليه يعود"أن القرآن يرفع في آخر الزمان من المصاحف والصدور، كما روى ابن ماجه " 4049 "، والحاكم في الفتن 4/473 من طريقين أحدهما صحيح عن أبي معاوية عن الأشجعي عن ربعي عن حذيفة مرفوعاً: " يُدرس الإسلام كما يُدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسري على كتاب الله عز وجل = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 .......................................................................   =في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: "لا إله إلا الله" فنحن نقولها "وإسناده صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم. وصححه البوصيري، والألباني في الصحيحة "87". ووشي الثوب: نقشه. وينظر مجموع الفتاوى 6/529 و12/164. وقال الإمام أبوعثمان الصابوني في مقدمة رسالة: عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص107: "ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله وكتابه ووحيه وتنزيله، غير مخلوق، ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم". وقد حكى الحافظان أبو حاتم الرازي المتوفى سنة "277هـ"، وأبوزرعة الرازي المتوفى سنة "264هـ" إجماع العلماء الذين أدركاهم في جميع الأمصار على أن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق. روى حكاية هذا الإجماع عنهما اللالكائي 1/176، وابن أبي حاتم كما في العلو للذهبي ص188، وصححه الألباني في مختصر العلو ص204، 205. وحكى الإمام أحمد كما في اختصاص القرآن رقم "9" نقلا عن العقيدة السلفية ص17 إجماع الفقهاء الذين لقيهم على ذلك، وعلى أنه منه بدأ وإليه يعود. وحكى نحو هذا شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 6/528، 529، وينظر ج 12 ص 164. وذكر إسحاق بن راهويه المتوفى سنة 233هـ أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق. روى ذلك عنه ابن أبي حاتم كما في العلو للذهبي ص 179. وصحح إسناده الألباني في مختصره ص194. وحكى الحافظ أبونعيم الأصبهاني المولود سنة 336هـ إجماع السلف على= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وأيضاً حكى الحافظ أبونصر السجزي المتوفى سنة "444هـ" إجماع السلف على أن القرآن كلام الله حرف وصوت"1".   =أن القرآن كلام الله حقيقة، وأنه غير مخلوق. حكى هذا الإجماع في كتابه "الاعتقاد" ونقله عنه الذهبي في العلو ص241 وقال الحافظ الذهبي في كتاب العرش 2/96 بعد ذكره لحديث جابر السابق والذي فيه ذكر "الصوت". قال: "وقد ورد في ذلك بضعة عشر حديثاً مرفوعة من سوى أقوال الصحابة والتابعين، وقد تتبعتها وجمعتها في جزء". "1 " ينظر كتابه "الرد على من أنكر الحرف والصوت"ص169. وقال في هذا الكتاب أيضاً ص80، 81: "لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والصالحي والأشعري. فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا، فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه وألزمتهم المعتزلة أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت، فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن وتركهم قبولها وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل، فالتزموا ما قالته المعتزلة، وركبوا مكابرة العيان، وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة المسلم والكافر. وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما يسمى ذلك كلاماً على المجاز، لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم ". اهـ ملخصاً. وقال في ص 106 "واتفق المنتمون إلى السنة أجمعهم على أنه غير مخلوق، وأن القائل بخلقه كافر. فأكثرهم قال: إنه كافر كفراً ينقل عن الملة، ومنهم من قال: هو كافر بقول غير الحق في هذه المسألة، والصحيح الأول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وحكى أبوالحسن الأشعري إجماع أهل الحديث والسنة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق"1"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس في الأئمة والسلف من قال: إن الله لا يتكلم بصوت ""2". فالقرآن كلام الله تعالى حقيقة حروفه ومعانيه، وإذا قرأ الإنسان كلام الله تعالى فصوت القارئ مخلوق، ولكن المقروء - وهو كلام الله تعالى - غير مخلوق، وكذلك سماعنا لصوت القارئ مخلوق، ولكن المسموع غير مخلوق. وأيضاً إذا كتب الإنسان كلام الله تعالى، فالكتابة مخلوقة، ولكن المكتوب - وهو كلام الله - غير مخلوق"3".   "1" ينظر كتابه "مقالات الإسلاميين "1/345 ثم قال بعد ذكره لمذهب أهل الحديث والسنة في القرآن وغيره من مسائل العقيدة: "وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب". وينظر كتابه الإبانة ص16. "2" مجموع الفتاوى 6/527. وقال أبوحامد الاسفراييني فيما رواه عنه أبوالحسن الكرجي الشافعي، بإسناد صحيح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 2/95،96: "مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: "مخلوق" فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعاً من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا..". "3" ينظر في صفة الكلام لله تعالى المراجع المذكورة عند بيان طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته. وينظر أيضاً: الرد على من أنكر الحرف= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 3- صفة الاستواء على العرش: إذا جاء لفظ "الاستواء"مقيداً بـ "على" فمعناه في لغة العرب: العلو على الشيء والاستقرار عليه، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13] ، والمعنى لتعلوا على ظهورها، وتستقروا عليها، وكما في قوله تعالى عن سفينة نوح عليه السلام: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] أي استقرت على جبل الجودي، وكما في قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] أي استقررت عليه، ويقال: استوى فلان على سطح المنزل إذا صعد عليه وعلاه واستقر عليه. أما العرش فهو في اللغة: السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] "1".   =والصوت للسجزي، والرد على من يقول القرآن مخلوق للنجاد، وحكاية المناظرة في القرآن لابن قدامة، والتسعينية لشيخ الإسلام، والرسالة السلفية في كلام رب البرية لعبد الله الجديع. "1" ينظر تأويل مختلف الحديث "شرح حديث النزول "ص182 للإمام اللغوي أبي محمد بن قتيبة المتوفى سنة 276هـ، والصحاح للإمام اللغوي إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى سنة 393هـ، مادة "سوي "، ومادة "عرش "، وشرح اعتقاد أهل السنة لللالكائي "668" نقلاً عن إمام العربية: أبي العباس ثعلب المتوفى= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فاستواء الله تعالى على عرشه معناه: علوه عليه"1"، واستقراره عليه"2"، علواً واستقراراً حقيقياً يليق بجلاله.   = سنة 291هـ، ومختصر الصواعق للحافظ ابن القيم ص360-368، والمصباح المنير للفيومي، مادة "سوي "، وفتح رب البرية 4/35-45. وينظر ما يأتي في التعليقين الآتيين. "1" روى البخاري في صحيحه في التوحيد باب "وكان عرشه على الماء" تعليقاً عن التابعي الجليل مجاهد بن جبر أنه قال: "استوى: علا على العرش "، ووصله الفريابي، وصحح إسناده الألباني في مختصر العلو ص101. وقال الحافظ أبوعمر الطلمنكي المالكي المولود سنة 339هـ: "قال أبوعبيدة معمر بن المثنى: استوى: علا. وتقول العرب استويت على ظهر الفرس بمعنى: علوتُ عليه "ينظر مجموع الفتاوى 5/520. وروى الدارقطني عن الإمام اللغوي أبي العباس ثعلب المتوفى سنة 291هـ أنه قال في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : علا. ينظر شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي "668". وروى اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة "662" عن بشر بن عمر وهو من أئمة السلف، توفي سنة 207هـ أنه قال: "سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : ارتفع ". وإسناده صحيح. وروى البخاري في صحيحه في الموضع السابق تعليقاً عن التابعي الجليل أبي العالية الرياحي أنه قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : ارتفع. ووصله ابن أبي حاتم في تفسير سورة يونس وفي تفسير سورة الرعد بإسناد حسن. "2" قال الحافظ أبوعمر الطلمنكي المالكي المولود سنة 339هـ: "قال عبد الله بن المبارك ومن تابعه من أهل العلم وهم كثير: إن معنى استوى على العرش: استقر".= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ............................................................................   = ينظر مجموع الفتاوى "شرح حديث النزول "5/519. وقال الإمام اللغوي أبومحمد بن قتيبة المتوفى سنة 276هـ في كتابه "تأويل مختلف الحديث "في شرح حديث النزول ص182: "قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي استقر، كما قال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ} أي استقررت ". وقال الإمام الحافظ أبوعمر بن عبد البر المالكي الأندلسي المولود سنة 368هـ في كتابه "التمهيد "في شرح حديث النزول 7/131 بعد ذكره للآيات الدالة على استواء الله على عرشه: "أما ادّعاؤهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل "استوى": استولى. فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة. والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد. وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه". وقال الحافظ الذهبي في العلو "520" في ترجمة أبي أحمد الكرجي القصاب المتوفى في حدود سنة 360هـ: "قال العلاَّمة أبوأحمد الكرجي في عقيدته التي ألفها فكتبها الخليفة القادر بالله وجمع الناس عليها، وذلك في صدر المائة الخامسة، وفي آخر أيام الإمام أبي حامد الاسفراييني شيخ الشافعية ببغداد، وأمر باستتابة من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 .......................................................................................   =خرج عنها من معتزلي، ورافضي، وخارجي، فمما قال فيها: كان ربنا عز وجل وحده لا شيء معه ولا مكان يحويه، فخلق كل شيء بقدرته، وخلق العرش لا لحاجة إليه، فاستوى عليه استواء استقرار كيف شاء وأراد، لا استقرار راحة كما يستريح الخلق ". وقال أبوعبد الله القرطبي المالكي المتوفى سنة "671هـ" في تفسيره "تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 54 من الأعراف" قال: "الاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار ". وينظر مجموع الفتاوى 5/404، النونية مع شرحها لمحمد خليل هراس 2/242-244، تفسير الإمام الشوكاني: تفسير الآية "54" من الأعراف. وهذا هو التفسير الصحيح لاستواء الله تعالى على عرشه، أما تفسير المعتزلة والجهمية ومن تبعهم الاستواء بالاستيلاء فهو تفسير خاطئ، وتأباه اللغة العربية التي نزل بها القرآن كما ذكر ذلك الإمام اللغوي أبوعبد الله بن الأعرابي المولود سنة 151هـ كما روى ذلك عنه البيهقي في الصفات "879" واللالكائي "666" وصححه الألباني في مختصر العلو ص194-196، وأقر نفطويه إمام العربية المتوفى سنة 243هـ ابن الأعرابي على ذلك. ينظر العلو "496". كما أن هذا التفسير تفسير ينزه الله تعالىعنه، وهذا شأن من حكَّم عقله في صفات الله تعالى التي لا يحيط بها علماً، فهو يريد أن ينزه الله، فيؤوِّل خوفاً من التشبيه، فيقع في شر مما فرَّ منه، وقد سبق ذكر ما قاله ابن عبد البر في ذلك في أول هذا التعليق. وقال أبوالحسن الأشعري في كتاب الإبانة ص86، 87: "وقد قال قائلون من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وهذا الاستواء لا يماثل استواء المخلوقين"1".   = المعتزلة والجهمية والحرورية: إن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إنه استولى وملك وقهر، وإن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض، فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأفراد، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معناه: استواء يختص العرش دون الأشياء كلها ". وقد أبطل شيخ الإسلام ابن تيمية تفسير الاستواء بالاستيلاء من اثني عشر وجهاً كما في مجموع الفتاوى 5/144-149، وأبطله الحافظ ابن القيم من إحدى وأربعين وجهاً. ينظر مختصر الصواعق ص352-368، وينظر شرح النونية لابن عيسى 1/440، 441. "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 5/199: ولله تعالى استواء على عرشه حقيقة، وللعبد استواء على الفلك حقيقة، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوقين، فإن الله لا يفتقر إلى شيء ولا يحتاج إلى شيء بل هو الغني عن كل شيء. والله تعالى يحمل العرش وحملته بقدرته، ويمسك السموات والأرض أن تزولا. فمن ظن أن قول الأئمة: "إن الله مستوٍ على عرشه حقيقة "= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وعرش الله تعالى سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، كما ورد في النصوص الشرعية"1". والكرسي: هو موضع قدمي الرب جل وعلا، كما ثبت عن ابن عباس وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"2".   يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام، لزمه أن يكون قولهم: "إن الله له علم حقيقة، وبصر حقيقة، وكلام حقيقة"يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل علم المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم. انتهى كلامه رحمه الله. "1" كما في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] . وروى البخاري "2412، 7427" ومسلم "2374" عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يُصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش". وقال الحافظ إسماعيل بن كثير الشافعي في أوائل البداية والنهاية 1/20: "العرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] ... فهو أي عرش الرحمن جل وعلا سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات". وينظر مجموع الفتاوى 5/151، 152. "2" روى وكيع كما في تفسير ابن كثير، ومن طريقه الدارمي في الرد على المريسي ص425، 429، وابن أبي حاتم في تفسيره "2601"، والطبراني في الكبير "12404"، والحاكم 2/282، والبيهقي في الأسماء والصفات "758"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فاستواء الله تعالى على عرشه من صفاته الفعلية التي دل عليها الكتاب والسنة وإجماع السلف. فمن أدلة القرآن قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . ومن أدلة السنة: 1- ما رواه ابن عباس - رضي الله عنه ما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما ذكر الشفاعة يوم القيامة: "فآتي باب الجنة فيفتح لي، فآتي ربي تبارك وتعالى وهو على كرسيه أو سريره، فأخر له ساجداً " "1".   والمقدسي في المختارة 10/310، 311 وغيرهم عن سفيان، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله". وإسناده حسن، رجاله ثقات، رجال الصحيحين، عدا عمار الدهني، فهو من رجال مسلم وحده، وهو "صدوق". وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي 6/323: "رجاله رجال الصحيح"، وصحح إسناده الألباني في مختصر العلو ص102. وروى ابن أبي شيبة في العرش "60"، وغيره عن أبي موسى رضي الله عنه قال: "الكرسي موضع القدمين"وصححه الألباني في مختصر العلو ص124. "1" سبق تخريجه عند ذكر النوع الرابع من أدلة العلو. وله شواهد ذكرتها عند تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 2- ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى خلق السموات والأرضين وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش " "1".   "1" رواه النسائي في تفسيره في تفسير سورة السجدة 2/153، 154 ورجاله حديثهم لا ينزل عن درجة الحسن. وقال الألباني في مختصر العلو ص112: "جيد الإسناد"، وحسنه محققا تفسير النسائي. وله شواهد كثيرة، منها حديث قتادة بن النعمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه ". رواه الخلال في السنة كما في اجتماع الجيوش الإسلامية ص107، 108، وكما في العلو للذهبي ص"110". وقال الحافظ ابن القيم في الموضع السابق: "إسناد صحيح، على شرط البخاري"، وقال الحافظ الذهبي في الموضع السابق: "رواته ثقات". ومنها حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه: " ... ثم خلق العرش، ثم استوى عليه تبارك وتعالى "رواه البيهقي في الأسماء والصفات "846"، والذهبي في العلو "13". ورجال البيهقي ثقات، عدا وكيع بن حدس، وهو "مقبول"كما في التقريب. وقال الحافظ الذهبي في العلو ص13، وفي العرش ص"15": "إسناده حسن". ومنها حديث أنس وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة: " وهو اليوم الذي استوى فيه ربك على العرش "رواه الإمام الشافعي في الأم 1/208، وغيره من طرق. وقال الذهبي في العلو ص"44": "هذه طرق يعضد بعضها بعضاً". ومنها قول ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة: "لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش"رواه الطبري في تفسيره تفسير الآية 29 من البقرة، وابن خزيمة في آخر كتاب التوحيد 2/886-888. وقال الألباني في مختصر العلو ص105: "إسناده جيد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 3 - حديث جبير بن مطعم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا: " إنه لفوق عرشه على سماواته " "1".   "1" رواه أبوداود في السنة باب الرد على الجهمية "4726"، وابن خزيمة في التوحيد "147"، والبيهقي في الأسماء والصفات "883، 884"، وابن مندة في التوحيد "643، 644" ورجاله حديثهم لا ينزل عن درجة الحسن، سوى جبير بن محمد، وهو "مقبول"، وقد صححه ابن منده، وحسنه الذهبي في العرش 2/28، وابن القيم في تهذيب السنن 7/98، وقوّاه الحافظ السجزي في "الرد على من أنكر الحرف" ص124، 125، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 16/435. وله شاهد من حديث العباس رضي الله عنه رواه الإمام أحمد 1/206، 207، وأبوداود في الموضع السابق "4723"، وابن خزيمة في التوحيد "144"، وقد صححه الجوزجاني في الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير 1/79، وقال الذهبي في العرش 2/33: "إسناده حسن، وفوق الحسن"، ومال إلى تقويته شيخ الإسلام كما في الفتاوى 3/192، وابن القيم في تهذيب السنن 7/92، 93. وله شاهد آخر من حديث جابر بن سليم رضي الله عنه مرفوعاً، ولفظه " أن رجلاً ممن كان قبلكم لبس بردين، فتبختر فيهما، فنظر الله إليه من فوق عرشه فمقته، فأمر الله الأرض فأخذته، فهو يتجلجل في الأرض، فاحذروا وقائع الله عز وج ل". وقد رواه الطبراني في الكبير "6384" وغيره. وحسّنه محقق كتاب العلو للذهبي 2/396 بمجموع طرقه. وله شاهد ثالث من حديث عامر الشعبي أن أم المؤمنين زينب بنت جحش قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "زوجنيك الرحمن من فوق عرشه"رواه الحاكم بإسناد حسن مرسل. وله شاهد رابع من قول عائشة عن عثمان رضي الله عنهما ولفظه: " علم الله من فوق عرشه أني لم أحب قتله "رواه الدارمي في الرد على الجهمية ص275 بإسناد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وقال الحافظ عثمان بن أبي شيبة المتوفى سنة "297هـ": "تواترت الأخبار أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته""1". وقد أجمع سلف هذه الأمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على أن الله تعالى فوق عرشه مستو عليه، ولم يقل أحد من السلف: إن الله تعالى ليس على العرش. وقد نقل إجماعهم وإجماع جميع أهل السنة على ذلك جمع من أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين"2"   صحيح. وصححه الألباني في مختصر العلو ص104. وله شاهد خامس من قول ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه: "الله تعالى فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه". رواه الدارمي في الموضع السابق، وابن خزيمة 1/242، والذهبي في العلو "67" وإسناده حسن، وصحح إسناده الذهبي، وقال الألباني في مختصر العلو: "سندهم جيد". وبالجملة فهذا الحديث صحيح بشواهده. "1" ينظر كتابه "العرش"ص51. "2" سبق في ختام الكلام على صفة العلو ذكر حكاية الإمام الأوزاعي وهو من أئمة التابعين إجماع الصحابة والتابعين الذين لقيَهم على أن الله تعالى فوق عرشه. وقد حكى الإمام قتيبة بن سعيد المولود سنة "150هـ" إجماع أئمة الإسلام والسنة والجماعة على أن الله تعالى في السماء السابعة على عرشه. ينظر العلو للذهبي ص174، وحكى إمام المحدثين الحافظ علي بن المديني المتوفى سنة "234هـ" إجماع أهل الجماعة على أنه تعالى فوق السموات على عرشه استوى، ينظر العلو ص178، ونقل الحافظ إسحاق بن راهويه المولود سنة 166هـ إجماع أهل العلم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ......................................................................   أن الله تعالى فوق العرش استوى. ينظر العلو ص174. وقال أبوالحسن الأشعري المتوفى سنة 330هـ في مقالات الإسلاميين 1/285: "قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إنه على العرش، كما قال عز وجل {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ولا نقدم بين يدي الله في القول، بل نقول استوى بلا كيف"، وينظر نفس الكتاب 1/345، ثم قال الأشعري بعد ذكره لمجمل عقائد أهل السنة: "وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب". وكذلك نقل الحافظ زكريا الساجي الشافعي المتوفى سنة 307هـ إجماع أهل الحديث الذين لقيهم على أن الله تعالى عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء. ينظر العلو للذهبي "482". وذكر الحافظ أبوإسماعيل الصابوني المولود سنة 372هـ في كتاب السنة له 1/109، 110 أن أهل الحديث يشهدون أن الله تعالى فوق سبع سماوات، على عرشه. ونقل الحافظ ابن عبد البر المالكي المولود سنة 368هـ إجماع علماء الصحابة والتابعين الذين حُمِلَ عنهم التأويل أي التفسير على أن الله تعالى على العرش وعلمه في كل مكان. قال: "وما خالفهم في ذلك أحد يُحتج به". ينظر التمهيد: شرح حديث النزول 7/137، 138، وينظر العلو للذهبي ص249. وقال الحافظ أبوعمر الطلمنكي المالكي المتوفى سنة 429هـ: "أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله تعالى فوق السماوات بذاته مستوٍ على عرشه كيف شاء، وأن الاستواء من الله تعالى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز". ينظر العلو "526"، ومجموع الفتاوى 5/189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقد ثبت عن الإمام مالك إمام دار الهجرة - وهو من تابعي التابعين - أن سأله رجل فقال: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى? فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء " العرق " ثم قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً" ثم أمر به أن يخرج"1". وقال الحافظ الذهبي الشافعي: "هذا ثابت عن مالك، وتقدم   وقال أبوعبد الله القرطبي المالكي المتوفى سنة 671هـ في تفسيره 7/219: "لم ينكر أحدٌ من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة". وقال الحافظ الذهبي الشافعي في آخر كتاب العلو ص267: "والله فوق عرشه كما أجمع عليه الصدر الأول ونقله عنهم الأئمة". وينظر مجموع الفتاوى 3/260. وكذلك نقل إجماع أهل السنة على استواء الله تعالى على عرشه بذاته جمع كثير من أهل العلم غير من ذكر. ينظر مجموع الفتاوى 5/189-193. "1" رواه الدارمي في الرد على الجهمية ص280، والصابوني 1/110، 111، والبيهقي في الصفات "867"، وابن عبد البر في التمهيد 7/151 وغيرهم من طرق عن مالك. وهو بهذه الطرق صحيح إلى مالك. وقد جزم الحافظ الذهبي بثبوته في العلو 2/954. ورواه البيهقي "866" بنحوه أخصر منه. وصحح إسناده الذهبي في العلو "344"، وجوّد إسناده الحافظ في الفتح 13/407. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 نحوه عن ربيعة شيخ مالك"1"، وهو قول أهل السنة قاطبة ""2". ومعنى قوله: "الاستواء غير مجهول"أي غير مجهول المعنى في اللغة، فإن معناه العلو والاستقرار"3".   "1" روى هذا القول عنه اللالكائي "665"، والبيهقي "868"، وابن قدامة في صفة العلو "74"، والذهبي في العلو "322"، وإسناد الذهبي حسن. وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 1/365: "ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك"، وقال في الحموية "مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى 5/40": "روى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان، قال: سُئل ربيعة ... فذكره". وصحح إسناده الذهبي في العلو، والألباني في مختصره ص132. "2" ينظر العلو ص954. "3" قال أبوعبد الله القرطبي المالكي المتوفى سنة 671هـ في تفسيره الآية 54 من الأعراف 7/219، 220 عند كلامه على مذهب السلف: "وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته، قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم يعني في اللغة، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار". وينظر مجموع الفتاوى 3/167. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الحموية "مطبوع ضمن مجموع الفتاوى 5/41": "قول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب. موافق لقول الباقين: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه علىما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وقوله: "والكيف غير معقول"معناه أنا لا ندرك كيفية استواء الله على عرشه بعقولنا، فلا يمكن معرفتها إلا بطريق السمع، ولم يرد السمع بذكر الكيفية، فيجب الكف عن ذكرها. وقوله: "الإيمان به واجب"، معناه: أن الإيمان باستواء الله على عرشه على الوجه اللائق به تعالى واجب، لأن الله أخبر به عن نفسه، فوجب تصديقه والإيمان به. وقوله: "والسؤال عنه بدعة"معناه أن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة، لأنه لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه. وهذا الذي ذكره الإمام مالك وشيخه ربيعة ميزان عام لجميع الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فإن معناها معلوم لنا، وأما كيفيتها فمجهولة لنا، لأن الله أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، ولأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فإذا كنا نثبت ذات الله تعالى من غير تكييف لها فكذلك يكون إثبات صفاته من غير تكييف"1".   مجهولاً بمنزلة حروف المعجم. وأيضاً: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات". انتهى كلامه. "1" فتح رب البرية بتلخيص الحموية لشيخنا محمد بن عثيمين "مطبوع ضمن فتاويه 4/40، 41". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 4- صفة الوجه: "الوجه"من صفات الله تعالى الذاتية، الثابتة له بالكتاب والسنة وإجماع السلف. قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} "1" [الرحمن:26،27] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: " حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " رواه مسلم"2"، وفي حديث الحارث الأشعري   "1" أما قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فالمراد بالوجه هنا: القبلة، أي قبلة الله. لدلالة السياق على ذلك، فإن "أين"ظرف مكان، و "تولوا" معناه: تستقبلوا. فهذه الآية ليست من آيات الصفات، وهذا من المواضع التي قد يقع فيها الغلط، فيستدل بالآية على الصفة وهي لا تدل عليها، فالدلالة في كل موضع بحسب سياقه، وما يحف من به من القرائن اللفظية والحالية، ولذلك لا يصح أن يستدل بمثل هذه الآية على صحة التأويل؛ لأن المعنى هنا دلّ السياق عليه، وليست هذه الآية من آيات الصفات أصلاً حتى يستدل بها على صحة التأويل. ينظر مجموع الفتاوى 6/14-17. "2" صحيح مسلم: الإيمان، باب في قول صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا ينام ... " حديث "293". ومعنى:"سبحات وجهه": نور وجهه وجلاله وبهاؤه. وبصره تعالى يدرك المخلوقات كلها. فالسبحات محجوبة بالنور وفي رواية: النار فهي حجب تحجب الخلق عن الإدراك. ينظر الرد على المريسي ص527، 528،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 مرفوعاً: " وإذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا، فإن الله يقبل بوجهه إلى وجه عبده ""1". وأجمع السلف على إثبات صفة الوجه لله تعالى، وعلى أنها صفة حقيقية، تليق بجلاله وعظمته، ولا تماثل صفات المخلوقين. قال الإمام أبوحنيفة - رحمه الله -: "له يد ووجه ونفس، كما ذكر تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس، فهو له صفات بلا كيف""2". 5- صفة اليدين: مذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى يدين اثنتين، ويعتقدون أنهما يدان حقيقيتان تليقان بجلال الله تعالى، ولا تماثلان أيدي المخلوقين، وهما من صفات الله تعالى الذاتية، الثابتة له بالكتاب والسنة وإجماع السلف. قال الله تعالى مخاطباً الشيطان الرجيم: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] .   الصحاح مادة "سبح"، مجموع الفتاوى 6/10. "1" سبق تخريجه في آخر الكلام على توحيد الربوبية، وهو حديث صحيح. "2" الفقه الأكبر ص37، وينظر شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص264. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أو يا أبا القاسم! إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر، تصديقا له، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] . رواه البخاري ومسلم"1". وعن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الله " ويقبض أصابعه ويبسطها"2"؛" أنا الملك " حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني   "1" صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} "7414، 7415"، وصحيح مسلم، أول كتاب صفة القيامة والجنة والنار "2786". "2" أي أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض أصابعه وبسطها. وهذا منه صلى الله عليه وسلم بيان لقبض الله تعالى السماوات والأرضين بيديه. وأنه قبضٌ حقيقي، وأن لله تعالى يدين حقيقة. ذكر نحو هذا شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله في بعض دروسه عند شرحه لكتاب التوحيد لابن خزيمة، وينظر مختصر الصواعق ص371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم"1". وأجمع سلف هذه الأمة على أن لله تعالى يدين حقيقيتين لا تماثلان أيدي المخلوقين"2".   "1" صحيح مسلم: الموضع السابق "2788". والأحاديث الدالة على إثبات اليدين لله تعالى غير هذا الحديث كثيرة، منها: حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ". رواه مسلم في الإمارة "1827". ومنها حديث أنس في ذكر الشفاعة، وفيه: أن المؤمنين يقولون لآدم: " خلقك الله بيده "رواه البخاري في الموضع السابق "7410"، ومسلم في الإيمان "194". ومنها قول ابن عمر رضي الله عنهما: "خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده: العرش، وجنات عدن، والقلم، وآدم، ثم قال لسائر الخلق: " كن فكان ". رواه الدارمي في الرد على المريسي ص393، واللالكائي "730"، والبيهقي "693". وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح. وله حكم الرفع. وقال الذهبي في العلو: "إسناده جيد". وقال الألباني في مختصره ص105: "سنده صحيح على شرط مسلم". "2" ولا يصح تحريف معنى اليدين إلى القوة، أو النعمة، أو نحو ذلك كما فعل الأشاعرة، لوجوه منها: أولاً: أنه صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه بلا دليل. ثانياً: أنه معنى تأباه اللغة في مثل السياق الذي جاءت به مضافة إلى الله تعالى، فإن الله قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ولا يصح أن يكون المعنى لما خلقت بنعمتيَّ، أو قوتيَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 6- المحبة: المحبة من صفات الله تعالى الثابتة له بالكتاب والسنة وإجماع السلف. قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أحب اللهُ العبدَ نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا   ثالثاً: أنه ورد إضافة اليد إلى الله بصيغة التثنية، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في موضع واحد إضافة النعمة أو القوة إلى الله تعالى بصيغة التثنية، فكيف يفسر هذا بهذا؟. رابعاً: أنه لو كان المراد بهما القوة أو القدرة لاحتج بذلك إبليس على ربه حين قال له: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقال: وأنا أيضاً خلقتني بقوتك وقدرتك. خامساً: أن صفة اليد تصرفت تصرفاً يمنع أن يكون المراد بها النعمة أو القوة، فجاءت بلفظ اليد، والكف، وجاء إثبات الأصابع والقبضة، واليمين، والهز لله تعالى، وهذه التصرفات تمنع أن يكون المراد باليد النعمة أو القوة. قال الإمام أبوحنيفة في الفقه الأكبر ص37: "وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن ... ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف". وينظر الرد على المريسي ص390، شرح الطحاوية ص265، فتح رب البرية 4/56، 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 أبغض الله عبداً .... " رواه البخاري ومسلم"1"، وفي الصحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم خيبر: " لأُعطيَنَّ الراية غداً لرجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ""2". وأجمع السلف على ثبوت صفة المحبة لله تعالى، وعلى أنها صفة حقيقية، لا تماثل صفات المخلوقين، فهو تعالى يحب من يشاء من خلقه. هذا وهناك صفات كثيرة غير ما ذكر ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة، أو بأحدهما، وبإجماع السلف، يطول الكلام بذكرها وذكر أدلتها، ومنها: الخلق، والرزق، والرضى، والضحك، والغضب، والعزة، والعلم، والعدل، والحياء، والجمال، والانتقام من المجرمين، والنزول، والكيد لأعدائه، والخداع لمن خادعه، والعين، والأصابع، والقدم، وأنه يراه المؤمنون يوم القيامة، وغير ذلك"3".   "1" صحيح البخاري: التوحيد، باب كلام الرب تعالى مع جبريل ونداء الله الملائكة "7485"، وصحيح مسلم: البر والصلة "2637". "2" صحيح البخاري: الجهاد "3009"، وصحيح مسلم: فضائل الصحابة "2406". "3" ينظر في جميع الصفات السابقة المراجع المذكورة عند بيان طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته في نهاية المبحث الأول من هذا الفصل. وقد أطال الحافظ النسائي صاحب السنن في كتابه "النعوت"، والشيخ علوي السقاف في كتاب "صفات الله تعالى"في ذكر صفات الله تعالى والاستدلال لكل صفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 المبحث الرابع: ثمرات الإيمان بالأسماء والصفات إن معرفة العبد بأسماء الله وصفاته ومعرفته بمعانيها وإيمانه بأنها صفات حقيقية تليق بجلال الله وعظمته وأنها لا تماثل صفات المخلوقين يكسبه سعادة الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بها أو أوَّلَها وصرَفَها عن معناها الحقيقي حرم السعادة، فإيمان العبد بأسماء الله وصفاته له ثمرات وفوائد كثيرة، من أهمها ما يلي: 1- أعظم ثمرات الإيمان بالأسماء والصفات: تنزيه الله تعالى عن النقائص والعيوب، ووصفه بصفات الكمال اللائقة بجلاله، ونفي مماثلتها لصفات المخلوق الضعيف، وإثبات الأسماء الحسنى له جل وعلا. 2- أن مَنْ آمن بأن من أسماء الله تعالى "العفو"و"الغفور"و"الرحيم"، وأن من صفاته "المغفرة للمذنبين" و"الرحمة" و"العفو" دعاه ذلك إلى عدم اليأس من روح الله، وإلى عدم القنوط من رحمته، بل ينشرح صدره لما يرجو من رحمة ربه ومغفرته. 3- أن من عرف أن من صفات الله تعالى أنه "شديد العقاب"، و"الغيرة إذا انتهكت محارمه"، و"الغضب"، وأنه "ذو انتقام ممن عصاه"حمله ذلك على الخوف من الله تعالى والبعد عن معصيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 4- أن المؤمن إذا أيقن أن من أسماء الله تعالى: "القوي"و"القادر" و "العزيز"، وأنه تعالى "يتولى المؤمنين بالحفظ والنصر"أكسبه ذلك عظمة التوكل على الله، والوثوق بنصره، وعدم الهلع من أعدائه، فيعيش قرير العين، واثقا بحفظ الله وتأييده ونصره. 5- أن من استقر في قلبه أن من أسماء الله تعالى "البصير"وأنه تعالى يرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، وكذلك إذا علم أن من أسماء الله تعالى "الرقيب"، و"العليم"، وأنه تعالى يعلم نيات العباد وخلجات نفوسهم، حمله ذلك على البعد عن معصية الله، وألا يراه الله حيث نهاه، وعلى مراقبته سبحانه في كل ما يأتي وما يذر. 6- أن من آمن بصفات الله واستعاذ بها أعاذه الله مما يخاف منه"1". 7- أن من علم أسماء الله وصفاته وتوسل إلى الله تعالى بها   "1" ينظر شرح السنة، باب الرد على من قال بخلق القرآن 1/185، ومجموع الفتاوى 6/229. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 1/111: "والاستغاثة برحمته استغاثة به في الحقيقة، كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به في الحقيقة، وكما أن القسم بصفاته قسم به في الحقيقة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 استجاب الله دعاءه، فحصل له ما يرجوه من مرغوب، واندفع عنه ما يخافه من مرهوب. وهذا كله قطرة من بحر من ثمرات الإيمان بالأسماء والصفات"1".   "1" ينظر مدارج السالكين: المشهد الثامن 1/449- 453، بدائع الفوائد 1/163، طريق الهجرتين ص 42، معارج القبول 1/126- 128، الصفات لعلوي السقاف ص31-36. ومما ينبغي التنبيه عليه هنا ما ذكره ابن القيم في بدائع الفوائد 1/164 من خطأ من قال: "ينبغي التخلق بأسماء الله". وبيّن أن هذه العبارة غير سديدة، وأنها مأخوذة من قول الفلاسفة بالتشبه بالإله على قدر الطاقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 نواقض التوحيد الشرك الأكبر تعريفه وحكمه ... الباب الثاني: نواقض التوحيد وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: الشرك الأكبر وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريفه، وحكمه: قبل أن نبدأ في تعريف الشرك نذكر الفرق بين نواقض التوحيد ومنقصاته: فنواقض التوحيد: هي الأمور التي إذا وجدت عند العبد خرج من دين الله بالكلية، وأصبح بسببها كافراً أو مرتداً عن دين الإسلام، وهي كثيرة، تجتمع في الشرك الأكبر، والكفر الأكبر، والنفاق الأكبر "الاعتقادي". أما منقصات التوحيد: فهي الأمور التي تنافي كمال التوحيد ولا تنقضه بالكلية، فإذا وجدت عند المسلم قدحت في توحيده ونقص إيمانه، ولم يخرج من دين الإسلام، وهي المعاصي التي لا تصل إلى درجة الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر أو النفاق الأكبر، وعلى رأسها: وسائل الشرك الأكبر، والشرك الأصغر، والكفر الأصغر، والنفاق الأصغر، والبدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أما تعريف الشرك الأكبر: فهو في اللغة يدل على المقارنة، التي هي ضد الانفراد، وهو أن يكون الشيء بين اثنين، لا ينفرد به أحدهما. يقال "لا تشرك بالله" أي لا تعدل به غيره فتجعله شريكاً له، فمن عدل بالله أحداً من خلقه فقد جعله له شريكاً"1". وفي الاصطلاح: أن يتخذ العبد لله نداً يسوِّيه به"2" في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته. أما حكمه: فإن الشرك هو أعظم ذنب عصي الله به، فهو أكبر الكبائر، وأعظم الظلم؛ لأن الشرك صرف خالص حق الله تعالى - وهو العبادة - لغيره، أو وصف أحد من خلقه بشيء من صفاته التي اختص بها - عز وجل -، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، ولذلك رتّب الشرع عليه آثاراً وعقوبات عظيمة، أهمها: 1- أن الله لا يغفره إذا مات صاحبه ولم يتب منه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] .   "1" معجم مقاييس اللغة 3/365، ولسان العرب "مادة: شرك ". "2" مدارج السالكين "منزلة التوبة" 1/368، النونية مع شرحها لابن عيسى 2/263، 266، أعلام السنة المنشورة ص52، سلم الوصول "مطبوع مع شرحه معارج القبول" 2/475. وينظر حجة الله البالغة للدهلوي باب أقسام الشرك 1/183، 184، الدين الخالص 1/78، 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 2- أن صاحبه خارج من ملة الإسلام، حلال الدم والمال، قال الله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5] . 3- أن الله تعالى لا يقبل من المشرك عملاً، وما عمله من أعمال سابقة تكون هباءً منثوراً "1"، كما قال تعالى عن المشركين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان: 23] ، وقال سبحانه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] . 4- يحرم أن يتزوج المشرك بمسلمة، كما يحرم أن يتزوج المسلم مشركة"2"، كما قال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] . 5- إذا مات المشرك فلا يُغسل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، وإنما يحفر له حفرة بعيدة عن الناس   "1" الجواب الكافي ص 210، إغاثة اللهفان: فصل فيما في الشرك من الخبث 1/60 - 62، التيسير باب الخوف من الشرك ص 89، فتح المجيد 1/173، 174، معارج القبول 2/475 - 482، 486. "2" ويستثنى من ذلك نساء أهل الكتاب – اليهود والنصارى - كما قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] . وينظر تفسير الآية 221 من سورة البقرة في تفسير ابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ويدفن فيها، لئلا يؤذي الناس برائحته الكريهة "1". 6- أن دخول الجنة عليه حرام، وهو مخلد في نار الجحيم"2" - نسأل الله السلامة والعافية - كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] .   "1" ينظر المبدع، والروض مع حاشيته لابن قاسم كتاب الجنائز وكتاب المرتد، الدين الخالص 1/187، 193، 242 - 248، 343 - 390، الضياء اللامع " فضل الصلاة وحكم تاركها " ص 294. "2" تنظر المراجع السابقة، وينظر شرح مسلم للنووي 2/97، وتفسير الآية "72" من المائدة في تفسيري: ابن كثير والسعدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 المبحث الثاني: أقسام الشرك الأكبر للشرك الأكبر ثلاثة أقسام رئيسة هي: القسم الأول: الشرك في الربوبية: وهو أن يجعل لغير الله تعالى معه نصيباً من الملك أو التدبير أو الخلق أو الرزق الاستقلالي "3". ومن صور الشرك في هذا القسم: 1- شرك النصارى الذين يقولون: " الله ثالث ثلاثة "، وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور - وهو عندهم الإله   "3" ينظر اقتضاء الصراط المستقيم: فصل النوع الثاني من الأمكنة 2/710، الإرشاد إلى معرفة الأحكام للسعدي " الردة " ص205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 المحمود - وحوادث الشر إلى الظلمة. 2- شرك القدرية الذين يزعمون أن الإنسان يخلق أفعاله. 3 - شرك كثير من غلاة الصوفية والرافضة من عباد القبور الذين يعتقدون أن أرواح الأموات تتصرف بعد الموت فتقضي الحاجات وتفرج الكربات، أو يعتقدون أن بعض مشايخهم يتصرف في الكون أو يغيث من استغاث به ولو مع غيبته عنه. 4 - الاستسقاء بالنجوم: وذلك باعتقاد أنها مصدر السقيا، وأنها التي تنزل الغيث بدون مشيئة الله تعالى، وأعظم من ذلك أن يعتقد أنها تتصرف في الكون بالخلق أو الرزق أو الإحياء أو الإماتة أو بالشفاء أو المرض أو الربح أو الخسارة، فهذا كله من الشرك الأكبر. قال الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] ، والمعنى تجعلون شكركم لله على ما رزقكم الله من الغيث والمطر أنكم تكذبون - أي تنسبونه إلى غيره - "1". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أربع في   "1" ينظر في جميع الأنواع السابقة صحيح البخاري مع الفتح كتاب التوحيد باب " فلا تجعلوا لله أنداداً " 13/490 - 495، الشفا " مطبوع مع شرحه للقاري 2/514"، تفسير القرطبي للآية "82" من سورة الواقعة 17/229، 230، مجموع الفتاوى1/92، الاستغاثة 2/536، الجواب الكافي ص193، 194، شرح الطحاوية ص 26 - 28، 38، تجريد التوحيد ص 25، 29، 42، 43، الدين الخالص 1/69، 71، و2/8، 128- 134، تيسير العزيز الحميد: المقدمة ص28، 29، وباب= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ". رواه مسلم"1". القسم الثاني: الشرك في الأسماء والصفات: وهو: أن يجعل لله تعالى مماثلاً في شيء من الأسماء أو الصفات، أو يصفه تعالى بشيء من صفات خلقه. فمن سمّى غير الله باسم من أسماء الله تعالى معتقداً اتصاف هذا المخلوق بما دل عليه هذا الاسم مما اختص الله تعالى به، أو وصفه بصفة من صفات الله تعالى الخاصة به فهو مشرك في الأسماء والصفات. وكذلك من وصف الله تعالى بشيء من صفات المخلوقين فهو مشرك في الصفات. ومن صور هذا الشرك: 1 - اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الله تعالى، كاشتقاق   من الشرك أن يستغيث بغير الله، وباب ما جاء في التنجيم، وباب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء، رسالة التوحيد للدهلوي ص 20-31، 41، 44، 68، منهاج التأسيس والتقديس ص 265، معارج القبول ص 401، 475، 485، 560، 980 - 983، الإرشاد للفوزان ص 88، 93، عالم السحر للأشقر ص 224، 225، النواقض الاعتقادية للوهيبي " الشرك في الربوبية " 2/89 - 112. "1" صحيح مسلم كتاب الجنائز " 934 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 اسم "اللات" من "الإله"، و "العزى" من "العزيز""1". 2- اعتقاد بعض غلاة الرافضة وبعض غلاة الصوفية أن بعض الأحياء أو الأموات يسمعون من دعاهم في أي مكان وفي أي وقت"2". 3- شرك الممثلة: وهو اعتقاد أن صفات الخالق تماثل صفات المخلوق، كمن يقول: "يد الله كيدي"، أو " سمعه كسمعي "، أو "استواؤه كاستوائي""3"، وهذا كله شرك، فالله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] . 4- الشرك بدعوى علم الغيب، أو باعتقاد أن غير الله تعالى يعلم الغيب، فكل ما لم يطلع عليه الخلق ولم يعلموا به بأحد الحواس الخمس"4" فهو من علم الغيب، كما قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي   "1" بدائع الفوائد 1/169، تيسير العزيز الحميد ص 28. "2" أعلام السنة المنشورة ص 87، معارج القبول 2/475. "3" بدائع الفوائد 1/170، الروح " الفرق بين اثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه " ص 354، تيسير العزيز الحميد ص28. "4" وهي السمع والبصر والشم واللمس والذوق، فمن سمع شيئاً أو أخبره مخبر من الجن أو الإنس بشيء رآه أو سمعه فقد علمه بطريق السمع، إما بنفسه، أو عن طريق سماع كلام هذا الذي رآه أو سمعه، وهكذا بقية الحواس. وليس من ادعاء علم الغيب ما يعرف من نتائج بعض الأمور من النظر في مقدماتها، ولا الإخبار عن المسبَّبات من النظر في أسبابها، كما يحصل في علم الطب، من معرفة شفاء المرض بعلاج معين، ونحو ذلك، وكما يحصل في علم الفلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] ، وقال جل شأنه: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} [يونس: 20] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] ، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضاً: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50] . فمن ادَّعى أنَّ أحداً من الخلق يعلم الغيب، فقد وقع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، لأن في ذلك ادعاء مشاركة الله تعالى في صفة من صفاته الخاصة به، وهي "علم الغيب". ومن أمثلة الشرك بدعوى علم الغيب:   من رصد هبوب الرياح أو معرفة وقت الكسوف، ونحو ذلك - على تفصيل في ذلك لا يتسع المقام له -. ينظر مفتاح دار السعادة ص 217، 218، وينظر فتح المجيد والقول المفيد باب ما جاء في الكهان ونحوهم، وكتاب عالم السحر للأشقر " أدعياء الغيب " ص 263. وقد ذكر شيخنا محمد بن عثيمين في القول المفيد أن الإخبار عن أحوال الطقس في 24 ساعة ونحوها ليس من ادَّعاء علم الغيب لأنه يستند إلى أمور حسية، وهي تكيف الجو، لأن الجو يتكيف على صفة معينة تعرف بالموازين الدقيقة عندهم، فيكون صالحاً لأن يمطر أو لا يمطر. وينظر مفتاح دار السعادة 2/217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أ - اعتقاد أن الأنبياء أو أن بعض الأولياء والصالحين يعلمون الغيب: وهذا الاعتقاد يوجد عند غلاة الرافضة والصوفية، ولذلك تجدهم يستغيثون بالأنبياء والصالحين الميتين وهم بعيدون عن قبورهم، ويدعون بعض الأحياء وهم غائبون عنهم، ويعتقدون أنهم جميعاً يعلمون بحالهم وأنهم يسمعون كلامهم، وهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة "1". ب- الكهانة: الكاهن هو الذي يدعي أنه يعلم الغيب. ومثله أو قريب منه " العرّاف "، و "الرمّال"، ونحوهم، فكل من ادعى أنه يعرف علم ما غاب عنه دون أن يخبره به مخبر، أو زعم أنه يعرف ما سيقع قبل وقوعه فهو مشرك شركاً أكبر، سواء ادّعى أنه يعرف ذلك عن طريق " الطرق بالحصى "، أم عن طريق حروف " أبا جاد ""2"، أم عن طريق " الخط في الأرض "، أم   "1" رسالة التوحيد للدهلوي ص 20، 31، 34، وينظر تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد باب من الشرك أن يستغيث بغير الله. وينظر ما سبق في ختام الكلام على توحيد الربوبية، وينظر ما يأتي عند ذكر أمثلة الشرك في دعاء المسألة – إن شاء الله -. "2" ولا يجوز تعلم الحروف من أجل ذلك، أما تعلمها من أجل التهجي فلا بأس. ينظر التيسير ص364. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 عن طريق "قراءة الكف"، أم عن طريق "النظر في الفنجان"، أم غير ذلك، كل هذا من الشرك"1"، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ليس منا من تَطيَّر أو تُطيِّر له، أو تَكهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِرَ له، ومن أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " "2".   "1" ينظر شرح السنة 12/181 - 184، شرح مسلم للنووي 14/223، مجموع فتاوى ابن تيمية 35/170 – 197، تفسير القرطبي 7/2، 3، مفتاح دار السعادة 2/125 - 242، فتح الباري 10/216، 217، شرح الطحاوية ص 759، 760، الفروع 6/177، 178، الروض مع حاشيته لابن قاسم 7/413، الزواجر 2/109، الدين الخالص 1/423 - 455، و2/137 - 141، تيسير العزيز الحميد باب ما جاء في الكهان، معارج القبول ص 559 - 574، التوحيد للدهلوي ص34، 69، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/164، 165، عالم السحر للأشقر ص 13، الإرشاد للفوزان ص 84، النواقض القولية والعملية للدكتور عبد العزيز بن عبد اللطيف ص 518 - 522. "2" رواه البزار كما في الكشف "3044" من طريق الحسن عن عمران. وذكر الحافظ المنذري في الترغيب "4467" والحافظ ابن حجر في الفتح 10/217: أن إسناده جيد. ولشطره الأول شاهد من حديث ابن عباس عند البزار "3043". قال المنذري في الترغيب: " إسناده حسن ". وشاهد آخر من حديث علي رواه أبو نعيم في الحلية 4/195. ولشطره الثاني شاهد عند أحمد 2/429 من حديث أبي هريرة بلفظ " من أتى كاهناً أو عرافاً ... " إلخ. وإسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ج- اعتقاد بعض العامة أن السحرة أو الكهان يعلمون الغيب، أو تصديقه لهم في دعواهم معرفة ما سيقع في المستقبل"1"، فمن اعتقد ذلك أو صدقهم فيه فقد وقع في الكفر والشرك المخرج من الملة"2"، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " "3".   "1" ومن ذلك تصديقهم في زعمهم أن الغيث سينزل حتماً في وقت كذا، أو أن الدولة الفلانية ستنتصر في وقت كذا، أو أن فلاناً سيكون حظه كذا، أو سيربح أو سيخسر أو سيموت في وقت كذا ونحو ذلك. أما ما سبق وقوعه فقد يعلم به الكاهن عن طريق الجن الذين شاهدوا وقوعه وأخبروه فيكون علمه به بإخبار غيره له، وقد يغتر بعض الجهال بذلك فيصدقه في كل ما يخبر به. ينظر شرح مسلم للنووي 14/223، وفتح الباري 10/ 217، وتيسير العزيز الحميد، وفتح المجيد، وقرة عيون الموحدين باب ما جاء في الكهان. ولا يجوز تصديقهم فيما يزعمون أنه سيقع في المستقبل بدعوى أنهم عرفوا ذلك عن طريق سماع الجن لكلام الملائكة ثم إخبار الكاهن بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر كما في صحيح البخاري "5762"، وصحيح مسلم "2228" أنهم يكذبون مع الكلمة التي سمعت مائة كذبة، وعليه فمن صدقهم فقد صدق بما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كذب وبما هو من دعوى علم الغيب، وظاهر الحديث أن من صدقهم بهذه الحجة يكفر، كما قال في تيسير العزيز الحميد ص 358. "2" ينظر المراجع التي سبق ذكرها قريباً عند الكلام على حكم الكهانة. "3" سبق تخريجه قريباً. قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: ومن يصدق كاهناً فقد كفر بما أتى به الرسول المعتبر.= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 د- التنجيم: وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية المستقبلة. وذلك أن المُنَجِّم يدعي من خلال النظر في النجوم معرفة ما سيقع في الأرض من نصر لقوم، أو هزيمة لآخرين، أو خسارة لرجل، أو ربح لأخر، ونحو ذلك، وهذا لا شك من دعوى علم الغيب، فهو شرك بالله تعالى"1". ومما يفعله كثير من المشعوذين والدجاجلة أن يدعي أن لكل نجم تأثيراً معيناً على من ولد فيه، فيقول: فلان وُلِدَ في برج كذا فسيكون سعيداً، وفلان وُلِدَ في برج كذا فستكون حياته شقاء، ونحو ذلك، وهذا كله كذب، ولا يصدقه إلا جهلة الناس وسفهاؤهم، قال الشيخ ابن عثيمين: " فهذا اتخذ تعلُّم النجوم وسيلةً لادّعاء علم الغيب،   = أما مجرد الذهاب إلى الكاهن وسؤاله مع عدم تصديقه فهو محرم وكبيرةً من كبائر الذنوب، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " رواه مسلم "2230" قال الحافظ في الفتح 10/217: " الوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة وتارة بالتكفير، فيحمل على حالين من الآتي، أشار إلى ذلك القرطبي " وفيه حديث فيه ضعف يستأنس به لهذا الحمل. ينظر في الترغيب "4472"، وينظر معارج القبول 2/572. "1" تنظر المراجع التي سبق ذكرها قريباً عند بيان حكم الكهان، وينظر تيسير العزيز الحميد باب ما جاء في التنجيم، وباب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ودعوى علم الغيب كفر مخرج من الملة ""1". القسم الثالث: الشرك في الألوهية: وهو: اعتقاد أن غير الله تعالى يستحق أن يعبد أو صرف شيء من العبادة لغيره "2". وأنواعه ثلاثة، هي: الأول: اعتقاد شريك لله تعالى في الألوهية"3". فمن اعتقد أن غير الله تعالى يستحق العبادة مع الله"4" أو يستحق أن يصرف له أي نوع من أنواع العبادة فهو مشرك في الألوهية. ويدخل في هذا النوع من يسمي ولده أو يتسمى باسم يدل على التعبد لغير الله تعالى"5"، كمن يتسمى ب "عبد الرسول"، أو "عبد الحسين"، أو غير ذلك. فمن سمى ولده أو تسمى بشيء من هذه الأسماء التي فيها التعبد   "1" القول المفيد باب ما جاء في التنجيم 2/5. "2" مجموع فتاوى ابن تيمية 1/74، 91، الإرشاد للسعدي " الردة " ص205، الدرر السنية 1/157. "3" تيسير العزيز الحميد ص 28 نقلاً عن القرطبي. "4" الإرشاد للسعدي: الردة ص 205. "5" الدين الخالص لصديق حسن خان 2/104، رسالة التوحيد للدهلوي الهندي ص17، 25، وينظر مجموع فتاوى ابن تيمية آخر ج1 ص 378، 379. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 للمخلوق معتقداً أن هذا المخلوق يستحق أن يُعبَد فهو مشرك بالله تعالى. النوع الثاني: صرف شيء من العبادات المحضة لغير الله تعالى: فالعبادات المحضة بأنواعها القلبية والقولية والعملية والمالية حق لله تعالى لا يجوز أن تصرف لغيره - كما سبق بيان ذلك عند الكلام على توحيد الألوهية - فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر. قال علاَّمة الهند: صديق حسن خان القنوجي في تفسير قوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] قال رحمه الله: "قد تقرر أن العبادة لا تجوز إلا لله، وأنه هو المستحق لها، فكل ما يسمى في الشرع عبادة ويصدق عليه مسماها فإن الله يستحقه، ولا استحقاق لغيره فيها، ومن أشرك فيها أحداً من دون الله فقد جاء بالشرك، وكتب اسمه في ديوان الكفر""1". والشرك بصرف شيء من العبادة لغير الله له صور كثيرة، يمكن حصرها في الأمرين التاليين: الأمر الأول: الشرك في دعاء المسألة: دعاء المسألة هو أن يطلب العبد من ربه جلب مرغوب أو دفع مرهوب"2".   "1" الدين الخالص باب في رد الإشراك في العبادات 2/52. "2" الاستغاثة 2/452، تيسير العزيز الحميد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ويدخل في دعاء المسألة: الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والاستجارة "1". قال الخطابي رحمه الله تعالى: "ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه - عز وجل - العناية، واستمداده إياه المعونة. وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله - عز وجل - وإضافة الجود والكرم إليه""2". والدعاء من أهم أنواع العبادة، فيجب صرفه لله تعالى، ولا يجوز لأحد أن يدعو غيره كائناً من كان، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18] ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدعاء هو العبادة ""3"، وقال صلى الله عليه سلم في وصيته لابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله،   = ص 180، وفتح المجيد 2/301، مجموعة الرسائل 5/594. "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 15/227: "الاستعاذة والاستجارة والاستغاثة كلها من نوع الدعاء أو الطلب، وهي ألفاظ متقاربة "، وينظر الاستغاثة الموضع السابق. "2" شأن الدعاء ص 4. "3" رواه ابن أبي شيبة في المصنف في الدعاء 10/200، والطيالسي "801"، وأحمد 4/271، 276، وأبو داود في الصلاة "479"، والترمذي في التفسير "3247"، وابن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وإذا استعنت فاستعن بالله " "1"، فمن دعا غير الله فقد وقع في الشرك الأكبر - نسأل الله السلامة والعافية -. ومن أمثلة الشرك في دعاء المسألة ما يلي: أ - أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق، سواء أكان   =ماجه في فاتحة الدعاء "3828"، والطبراني في الدعاء "1-7"، وابن حبان "الإحسان 890"، والحاكم 1/491، والبيهقي في كتابه " الدعوات " "4"، والخطابي في شأن الدعاء "1" من طريقين صحيحين عن ذر بن عبد الله عن يسيع الحضرمي عن النعمان. وإسناده صحيح، وقال الترمذي "حسن صحيح "، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وصححه كذلك النووي كما في فيض القدير 3/540، وشيخنا عبد العزيز بن باز في تحفة الأخيار ص13، والألباني في صحيح الترمذي. ولهذا الحديث شاهد من حديث ابن عباس رواه الحاكم 1/491 وصححه، ووافقه الذهبي. ومعنى الحديث: أن الدعاء من أفضل أنواع العبادة. ينظر شأن الدعاء للخطابي ص 5، والفتح أول كتاب الدعاء 11/94، وفيض القدير 3/540. "1" رواه الإمام أحمد 1/293، والترمذي في القيامة "2516"، وأبويعلى "2556"، والطبراني في الدعاء "42"، والمزي في ترجمة قيس بن الحجاج من طريق الليث بن سعد، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس. وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا " قيس "، وهو " صدوق "، وقال الترمذي: " حسن صحيح "، وذكره النووي في الأربعين، وحسن هذا الإسناد ابن رجب في جامع العلوم 1/462، وصححه الألباني في صحيح الترمذي. ولهذا الحديث طرق أخرى وشواهد تنظر عند الطبراني في الدعاء، وينظر جامع العلوم 1/460-462. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 هذا المخلوق حياً أم ميتاً، نبياً أم ولياً أم ملكاً أم جنياً أم غيرهم، كأن يطلب منه شفاء مريضه أو نصره على الأعداء، أو كشف كربة، أو أن يغيثه، أو أن يعيذه، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا كله شرك أكبر، مخرج من الملة بإجماع المسلمين"1"؛ لأنه دعا غير الله، واستغاث به، واستعاذ به، وهذا كله عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله بإجماع المسلمين، وصرفها لغيره شرك، ولأنه اعتقد في هذا المخلوق مالا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى"2".   "1" ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 1/124، 194، و27/67 - 87، 145، قاعدة في التوسل ص58، 59، قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام وعبادات أهل الشرك ص 70، الاستغاثة 1/376، و2/619، مدارج السالكين "منزلة التوبة" 3/375، القول الفصل النفيس ص 95، منهاج التأسيس ص 104، الدر النضيد ص 28–92، مصباح الظلام ص 188، الدرر السنية 2/192 – 194، تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله، والأبواب الأربعة بعده، مجموعة الرسائل 4/469، السنن والمبتدعات فصل في الأدعية المحرمة ص 212 – 266، القول الجلي ص56، سيف الله لصنع الله الحنفي ص48. "2" الدر النضيد للشوكاني ص69، 70، "الكواكب الدرية للرباطي الحنفي ص36-39، الوسيلة لجوهر الباكستاني الحنفي ص42 - 67، التبيان للرستمي الحنفي ص 155 - 161نقلاً عن كتاب جهود علماء الحنفية لشمس الدين الأفغاني ص 1472 – 1474"، منهاج التأسيس ص 187، القول الفصل النفيس ص82، حجة= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ب– دعاء الميت. ج – دعاء الغائب. فمن دعا غائباً أو دعا ميتاً وهو بعيد عن قبره، وهو يعتقد أن هذا المدعو يسمع كلامه أو يعلم بحاله فقد وقع في الشرك الأكبر، سواء أكان هذا المدعو نبياً أم ولياً، أم عبداً صالحاً أم غيرهم، وسواء طلب من هذا المدعو ما لا يقدر عليه إلا الله أم طلب منه أن يدعو الله تعالى له، ويشفع له عنده"1"، فهذا كله شرك بالله تعالى مخرج من الملة؛ لما فيه   = الله البالغة 1/185، صيانة الإنسان ص373، مجموعة الرسائل 5/593 - 603، 610 - 618، الصواعق المرسلة الشهابية ص 132 - 137، تصحيح الدعاء ص 247،251. "1" وقريب من هذا من جاء إلى القبر وطلب من صاحبه أن يدعو الله له فهذا عمل محرم، وهو بدعة باتفاق السلف. ينظر قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام ... ص111 - 136، مجموع الفتاوى 1/330، 351، 354 و27/76، قاعدة في المحبة ص190 - 192، رسالة زيارة القبور لابن تيمية ص 25، 49، 50، تلخيص الاستغاثة ص 57، الرد على الأخنائي ص 164، 165، 216، صيانة الإنسان ص 360، القول الجلي ص 56، تعليق شيخنا عبد العزيز بن باز على الفتح كتاب الاستسقاء 2/495، تصحيح الدعاء ص 251. وقد نصّ جمع من أهل العلم على أن هذا العمل شرك أكبر. ينظر مدارج السالكين 1/369، إغاثة اللهفان: "الفرق بين زيارة الموحدين ... "1/218-222،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 من دعاء غير الله، ولما فيه من اعتقاد أن المخلوق يعلم الغيب، ولما فيه من اعتقاد إحاطة سمعه بالأصوات، وهذا كله من صفات الله تعالى التي اختص بها، فاعتقاد وجودها في غيره شرك مخرج من الملة"1". د - أن يجعل بينه وبين الله تعالى واسطة في الدعاء"2"، ويعتقد أن   =تطهير الاعتقاد ص15، الدين الخالص1/191، 213، 226، 227، 238، 413، و2/57، الدرر السنية 1/85، 224 و2/238، 239، "تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله وباب الشفاعة"، "الكواكب الدرية للرباطي الحنفي ص 77 - 108، والتبيان للرستمي الحنفي ص155-161، والوسيلة لجوهر الباكستاني الحنفي ص 42 - 67 نقلاً عن كتاب جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية للدكتور شمس الدين الأفغاني 3/1472 - 1474"، ويراجع الرسالة الصفدية 2/187 - 291. وللتوسع في هذه المسألة ينظر مجموع الفتاوى 24/303، 331، 332، الروح "المسألة الأولى"، تفسير الآية "64" من النساء في تفسيري القرطبي وابن كثير، كتاب الدعاء للعروسي. "1" مجموع الفتاوى 27/81، 82، رسالة التوحيد لإسماعيل الدهلوي ص 17، 20 - 23، 31، 43، "مجموع فتاوى عبد الحي اللكنوي 1/264 نقلاً عن كتاب الدعاء للعروسي ص274، 275، 496"، مصباح الظلام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ابن حسن ص199 - 201، 254، روح المعاني للألوسي 13/67، و17/213، و24/11، صيانة الإنسان لمحمد بن بشير السهسواني الهندي ص373 وتنظر المراجع المذكورة عند ذكر حكم الكهانة. "2" سواء أكانت هذه الواسطة من بني آدام كالأنبياء والصالحين أم من الملائكة أم من= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الله تعالى لا يجيب دعاء من دعاه مباشرة، بل لا بد من واسطة بين الخلق وبين الله في الدعاء، فهذه شفاعة شركية مخرجة من الملة"1". واتخاذ الوسائط والشفعاء هو أصل شرك العرب"2"، فهم كانوا يزعمون أن الأصنام تماثيل لقوم صالحين، فيتقربون إليهم طالبين منهم الشفاعة، كما قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . الأمر الثاني: الشرك في دعاء العبادة: دعاء العبادة هو: عبادة الله تعالى بأنواع العبادات القلبية، والقولية،   =الجن أم من غيرهم. "1" ومثله من يعتقد أن الله تعالى يجيب دعاء الواسطة لحاجته إلى هذه الواسطة، أو يعتقد أن لهذه الواسطة حقاً على الله كما هو حال من يشفع عند الملوك، فهذا كله شرك مخرج من الملة. ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 1/126- 135، 150- 163، و24/341، إغاثة اللهفان 1/62، رسالة التوحيد للدهلوي الهندي ص46-48. "2" شرح الطحاوية ص29، تطهير الاعتقاد ص15، بل هو أصل شرك الخلق كلهم. ينظر إغاثة اللهفان فصل في ما في الشرك والزنا من الخبث 1/62، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 1/134، 135: " من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عُباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى على النصارى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 والفعلية كالمحبة، والخوف، والرجاء والصلاة، والصيام، والذبح، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى وغيرها. وسمي هذا النوع "دعاء" باعتبار أن العابد لله بهذه العبادات طالب وسائل لله في المعنى، لأنه إنما فعل هذه العبادات رجاء لثوابه وخوفاً من عقابه، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب"1"، فهو داع لله تعالى بلسان حاله، لا بلسان مقاله. ومن أمثلة الشرك في هذا النوع: أ- شرك النية والإرادة والقصد: هذا الشرك إنما يصدر من المنافق النفاق الأكبر، فقد يظهر الإسلام وهو غير مقر به في باطنه، فهو قد راءى بأصل الإيمان، كما قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] ، وقد يرائي ببعض العبادات، كالصلاة، كما قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 142] "2"، فهم قد جمعوا بين الشرك والنفاق.   "1" بدائع الفوائد 3/2-5، تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد باب من الشرك أن يستغيث بغير الله، مقدمة تفسير السعدي ص 14. "2" وقد عدَّ بعض العلماء من هذا الشرك: الرياء المحض إذا صدر من المسلم، وإرادة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ب- الشرك في الخوف: الخوف في أصله ينقسم إلى أربعة أقسام: 1- الخوف من الله تعالى: ويسمى "خوف السر"، وهو الخوف المقترن بالمحبة والتعظيم والتذلل لله تعالى، وهو خوف واجب، وأصل من أصول العبادة"1". 2- الخوف الجِبلِّي: كالخوف من عدو، والخوف من السباع المفترسة ونحو ذلك. وهذا خوف مباح؛ إذا وجدت أسبابه، قال الله تعالى عن نبيه موسى عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] . 3- الخوف الشركي: وهو أن يخاف من مخلوق خوفاً مقترناً بالتعظيم والخضوع والمحبة. ومن ذلك الخوف من صنم أو من ميت خوفاً مقروناً بتعظيم ومحبة، فيخاف أن يصيبه بمكروه بمشيئته وقدرته، كأن يخاف أن يصيبه بمرض أو بآفة في ماله، أو يخاف أن يغضب عليه؛ فيسلبه نِعَمَهُ فهذا من الشرك الأكبر، لأنه صرف عبادة الخوف والتعظيم لغير الله، ولما في ذلك من اعتقاد النفع والضر في غير   = الدنيا وحدها بالعبادة، ولعل الأقرب أن هذا من الشرك الأصغر، وسيأتي الكلام على ذلك عند الكلام على الرياء في الباب الآتي - إن شاء الله -. "1 " سبق الكلام على هذا القسم عند الكلام على أصول العبادة في الباب الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الله تعالى"1"، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] قال ابن عطية المالكي الأندلسي المولود سنة 481هـ في تفسيره في تفسير هذه الآية: " يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ". ومن الخوف الشركي: أن يخاف من مخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، كأن يخاف من مخلوق أن يصيبه بمرض بمشيئته وقدرته"2".   "1" ومن هذا النوع: ما ذكره الله تعالى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود: 54، 55] . ومنه: ما رواه ابن إسحاق - كما في السيرة لابن هشام 4/573،574، ومن طريقه الإمام أحمد "2382"، والدارمي "658"، وأبو داود "487"، والحاكم 3/54،55 عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه قال لقومه لما جاءهم مسلماً: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام - أي اسكت - اتق البرص واتق الجنون واتق الجذام. قال: ويلكم، إنهما لاتضران ولاتنفعان.. إلخ. وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً أحمد شاكر في تعليقه على المسند، وحسنه الألباني في تعليقه على فقه السيرة ص424. "2 " فإن صحب هذا الخوف تعظيم فهو شرك في الألوهية كما سبق، وإن لم يصحبه تعظيم فهو شرك في الربوبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 4- الخوف الذي يحمل على ترك واجب أو فعل محرم، وهو خوف محرم"1"، كمن يخاف من إنسان حي أن يضره في ماله أو في بدنه، وهذا الخوف وهمي لا حقيقة له، وقد يكون هناك خوف فعلاً ولكنه يسير لا يجوز معه ترك الواجب أو فعل المحرم"2". قال الله تعالى:   "1 " ينظر في أنواع الخوف تيسير العزيز الحميد ص 24، وينظر باب {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} في تيسير العزيز الحميد، وفتح المجيد، وإبطال التنديد، والقول السديد، والقول المفيد، الإرشاد للفوزان ص53-60. "2 " وهذا حال كثير من ضعفاء الإيمان تجده يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من سباب العاصي أو من أذى يسير يحصل له منه، أو يفعل بعض المحرمات خوفاً من ظالم، وقد يكون هذا الخوف وهمي لا حقيقة له، وقد يكون هناك خوف حقيقة ولكنه يسير لا يجوز ترك الواجب أو فعل المحرم من أجله، فقد نص أهل العلم في مسائل الإكراه ومسائل الخوف أن الضرر الذي يجوز ترك الواجب أو فعل المحرم من أجله هو الضرر الكبير كالقتل أو قطع عضو أو إتلاف مال كثير أو سجن طويل أو ضرب مؤلم، أما الضرر اليسير كإتلاف لجزء يسير من ماله أو سباب أو شتام لا ضرر كبير يلحقه بسببه، فهذا لا يجوز فعل المحرم أو ترك الواجب بسببه، بل يجب على المسلم تحمله، وكذلك يشترط أن يغلب على الظن وقوع ما خافه إن لم يترك هذا الواجب أو إن لم يفعل هذا المحرم. ينظر الإحياء كتاب الأمر بالمعروف 2/347-351 فقد فصل في هذه المسألة، الآداب الشرعية: الأمر بالمعروف 1/155-157، تنبيه الغافلين لابن النحاس الباب الثاني ص107، المغني والشرح الكبير وروضة الطالبين باب التيمم وباب الطلاق، الكنز الأكبر الباب الثاني 1/190-215، تفسير ابن عطية تفسير الآية79 من المائدة، أدب الدنيا والدين "الأمر بالمعروف"، ص102،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يمنعنَّ أحدَكم مخافةُ الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه أو علمه ""1". ج - الشرك في المحبة: المحبة في أصلها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- محبة واجبة: وهي محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم "2"، ومحبة ما يحبه   = غذاء الألباب " الأمر بالمعروف "، نصاب الاحتساب الباب 47، إغاثة اللهفان 1/118، رفع الحرج في الشريعة الإسلامية " الإكراه "، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة " التكليف " ص356،357، وينظر الأمر بالمعروف لابن أبي الدنيا رقم "9،14،39"، والأمر بالمعروف لعبد الغني المقدسي رقم "28، 30، 49، 50، 53". "1" رواه الطيالسي "2151"، وأحمد 3/5،47،84، وابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف "9،15" وغيرهم من طرق صحيحه عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا. ً وإسناده صحيح، وفي آخره قال أبو سعيد: "وددت أني لم أسمعه". وقد صححه الألباني في الصحيحة "168". "2" قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد باب "ومن الناس من يتخذ ... " ص562 عند شرحه للحديث الذي رواه البخاري "15" ومسلم "44" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " قال رحمه الله: "وفيه أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها، فإنها محبة لله= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الله تعالى من العبادات وغيرها"1". 2- محبة طبيعية مباحة: كمحبة الوالد لولده، والإنسان لصديقه، ولماله ونحو ذلك"2". ويشترط في هذه المحبة أن لا يصحبها ذل ولا خضوع ولا تعظيم، فإن صحبها ذلك فهي من القسم الثالث، ويشترط أيضاً أن لاتصل إلى   =ولأجله، وهذه المحبة ليس فيها شيء من شوائب الشرك، كالاعتماد عليه صلى الله عليه وسلم ورجائه في حصول مرغوب منه أو دفع مرهوب، وما كان فيها ذلك فمحبة مع الله، لما فيها من التعلق على غيره والرغبة إليه من دون الله". "1" سبق الكلام على هذه المحبة عند الكلام على أصول العبادة في الباب الأول، وينظر الجواب الكافي ص274. "2" وقد ذكر الحافظ ابن القيم في طريق الهجرتين ص 382،383 أن هذه المحبة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- محبة طبيعية مشتركة: كمحبة الجائع للطعام. 2- محبة رحمة وإشفاق: كمحبة الوالد لولده 3- محبة أنس وإلف: وهي محبة المشتركين في صناعة أو مرافقة أو غيرها. ثم قال: "فهذه الأنواع الثلاتة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله سبحانه ". وينظر الجواب الكافي ص27، وإكمال المعلم 1/283، وتيسير العزيز الحميد باب "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً"، والدرر السنية 2/ 321،322، والإرشاد للفوزان ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 درجة محبته لله ومحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ساوتها أو زادت عليها فهي محبة محرمه"1"، لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] "2".   "1" لكنها لاتصل إلى حد الشرك الأكبر، لأن المحبة إذا لم يكن معها خضوع لم تكن عبادة، ويتصور ذلك فيما إذا كانت محبة الله في قلب العبد ليست قوية، وكان يحب ماله أو أهله أو غيرهما محبة قوية، لكنها لم تصل إلى حد الإفراط، فهذه محبة محرمة؛ لأنه أحب المخلوق أكثر من محبة الله، ولكنها ليست شركاً؛ لأنه لم يصحبها خضوع. ينظر العبودية "مجموع الفتاوى 10/153"، التحفة العراقية "مجموع الفتاوى 10/19،56"، قاعدة في المحبة ص 98، الكلام على حقيقة الإسلام "مجموع الفتاوى 7/271"، الدرر السنية 2/291، الإرشاد للفوزان: " توحيد الألوهية " ص20،21 و "الشرك في المحبة " ص60،62، وينظر الجواب الكافي ص275، وينظر أكثر مراجع المحبة الشركية فيما يأتي. "2" قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية 8/95: "في الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب"، وينظر الشفا لعياض الباب الثاني 2/32-35، المفهم 1/183،184، رسالة الكلام على حقيقة الإسلام "مجموع الفتاوى 7/15،74"، الرسالة التبوكية لابن القيم ص38، فتح الباري لابن حجر، وفتح الباري لابن رجب كتاب الإيمان باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم، استنشاق نسيم الأنس لابن رجب الباب الأول= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 3 - محبة شركية، وهي أن يحب مخلوقاً محبة مقترنة بالخضوع والتعظيم، وهذه هي محبة العبودية، التي لا يجوز صرفها لغير الله، فمن صرفها لغيره فقد وقع في الشرك الأكبر"1"، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] .   =ص 28-35، الإرشاد للفوزان "الشرك في المحبة" ص60،61. "1" قاعدة في المحبة ص 67-107 الجواب الكافي ص 195و263-275، طريق الهجرتين ص383، جلاء الأفهام فصل تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بمحمد ص93، والباب الخامس ص 249، تفسير ابن كثير - تفسير الآية 165 من سورة البقرة، تجريد التوحيد ص80،81، تيسير العزيز الحميد باب "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً"، الدرر السنية 2/291، الإرشاد للفوزان ص60،61. وينظر الدين الخالص 1/69،219. وقال الحافظ ابن القيم في الجواب الكافي ص300،301 عند كلامه على العشق: "وهو أقسام: تارة يكون كفراً، كمن اتخذ معشوقه نداً يحبه كما يحب الله، فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه؟ فهذا عشق لا يغفره الله لصاحبه، فإنه من أعظم الشرك، وعلامة هذا العشق الشركي الكفري أن يقدم العاشق رضاء معشوقه على رضاء ربه، وكثير من العشاق يصرح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه البتة، بل قد ملك معشوقه عليه قلبه كله، فصار عبداً مخلصاً من كل وجه لمعشوقه، فقد رضي هذا من عبودية الخالق جل جلاله بعبوديته لمخلوق مثله، فإن العبودية هي كمال الحب والخضوع، وهذا قد استغرق قوة حبه= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 د- الشرك في الرجاء: وهو أن يرجو من مخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله، كمن يرجو من مخلوق أن يرزقه ولداً، أو يرجو منه أن يشفيه بإرادته وقدرته، فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة"1". هـ- الشرك في الصلاة والسجود والركوع: فمن صلى أو سجد أو ركع أو انحنى لمخلوق محبة وخضوعاً له وتقرباً إليه"2"، فقد وقع في الشرك الأكبر بإجماع أهل العلم"3"، قال الله   =وخضوعه وذلة لمعشوقه، فقد أعطاه حقيقة العبودية". وينظر التحفة العراقية "مجموع الفتاوى 10/68-71". قلت: وقد يقع في هذا الشرك من يحب مغنياً أو لاعباً محبة مفرطة تجعله يعظمه، فيحمله ذلك على الخضوع لذلك المحبوب بسبب تعظيمه له. "1" تيسير العزيز الحميد ص 24. "2" ومن ذلك السجود أمام المشايخ بوضع الرأس على الأرض أو تقبيل الأرض أمامهم، تعظيماً لهم وتقرباً إليهم. ينظر زاد المعاد: الطب: حلق الرأس 4/158-160. "3" حكى هذا الإجماع في السجود القاضي عياض المالكي في آخر كتاب: "الشفاء" 2/521، 528، والحافظ ابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص 215، وذكره ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي في كتابه الإعلام بقواطع الإسلام ص20 نقلاً عن كتاب المواقف وشرحه، وينظر التمهيد 5/45، والاستغاثة 1/356، و2/629، ومجموع الفتاوى 27/92، والجواب الكافي ص 196،199، وسيف الله لصنع الله الحنفي ص69، والدين الخالص 1/94، ورسالة التوحيد للدهلوي ص53،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] ، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162،163] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما سجد له: " لا تفعل، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ""1"،   =54، وينظر أيضاً رسالة "النواقض العملية" ففيها نقول كثيرة عن كثير من العلماء من جميع المذاهب في أن الصلاة والسجود والركوع والانحناء تقرباً إلى المخلوق شرك أكبر مخرج من الملة. وذكر البركوي الحنفي في إيقاظ النائمين ص 79 أن الصلاة لغير الله حرام بالاتفاق. هذا وإذا كان السجود ليس من باب العبادة، وإنما من باب التحية فهو حرام في ملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكبيرة من كبائر الذنوب، لعموم النصوص الواردة في النهي عن السجود للمخلوق، ومثله الركوع والانحناء إذا كان من باب التحية فهو محرم أيضاً، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لا " رواه الإمام أحمد 3/198، والترمذي "2728" وحسنه، وابن ماجه "3702". وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة "160". وينظر الشفا لعياض 2/521، مجموع الفتاوى 1/377، تفسير ابن كثير - تفسير آية 100 من سورة يوسف - غاية المنتهى 3/337، كشاف القناع 6/137، الزواجر "167"، أبجد العلوم 1/127. "1" رواه الإمام أحمد 4/381، وابن ماجه "1853"، وابن حبان في صحيحه "4171" من حديث ابن أبي أوفى. وإسناده حسن، رجاله رجال مسلم، وقال الألباني في= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وقال صلى الله عليه وسلم: " ما ينبغي لأحدٍ أن يسجد لأحد ""1"، ولأنه قد صرف شيئاً من العبادة لغير الله عز وجل. وصرف العبادة لغيره شرك بإجماع أهل العلم"2". و الشرك في الذبح: الذبح في أصله ينقسم إلى أربعة أقسام: 1- ذبح الحيوان المأكول اللحم تقرباً إلى الله تعالى وتعظيماً له، كالأضحية، وهدي التمتع والقران في الحج، والذبح للتصدق باللحم على الفقراء ونحو ذلك، فهذا مشروع، وهو عبادة من العبادات. 2- ذبح الحيوان المأكول لضيف، أو من أجل وليمة عرس ونحو ذلك، فهذا مأمور به إما وجوباً وإما استحباباً. 3- ذبح الحيوان الذي يؤكل لحمه من أجل الاتجار ببيع لحمه، أو لأكله، أو فرحاً عند سكنى بيت ونحو ذلك، فهذا الأصل أنه مباح،   الصحيحة "1203": "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وله شواهد كثيرة، منها الحديث الآتي بعده. "1" رواه ابن حبان في صحيحه "4162" وغيره من حديث أبي هريرة. وإسناده حسن، وحسنه الألباني في الإرواء "1998" وذكر له خمسة شواهد. "2" ينظر تيسير العزيز الحميد باب من الشرك أن يستغيث بغير الله ص 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وقد يكون مطلوباً فعله، أو منهياً عنه حسبما يكون وسيلة إليه"1". 4- الذبح تقرباً إلى مخلوق وتعظيماً له وخضوعاً له، فهذا عبادة -كما سبق- ولا يجوز التقرب به إلى غير الله"2"، فمن ذبح تقرباً إلى مخلوق وتعظيماً له فقد وقع في الشرك الأكبر وذبيحته محرمة لا يجوز أكلها، سواء أكان هذا المخلوق من الإنس أم من الجن أم من الملائكة أم كان قبراً، أم غيره، وقد حكى نظام الدين الشافعي النيسابوري   "1 " ويدخل في المنهي عنه ما كان فيه إسراف، وما ذبح على غير الطريقة الشرعية. "2" ينظر الأشباه والنظائر للسيوطي المبحث الثالث فيما شرعت النية لأجله ص 12، شرح مسلم للنووي 13/141، الأشباه والنظائر لابن نجيم: قاعدة الأمور بمقاصدها ص 29، حاشية ابن عابدين: كتاب الذبائح 5/196،197، شرح الأصول الستة للشيخ ابن عثيمين ص 27،28، وينظر في أنواع الذبائح المباحة الفتح: الأطعمة باب حق إجابة الوليمة، والروض مع حاشية لابن قاسم: النكاح باب الوليمة. وقال ابن نجيم الحنفي في الموضع السابق: " اعلم أن المدار على القصد عند ابتداء الذبح.. ويظهر ذلك أيضاً فيما لو ضافه أمير فذبح عند قدومه، فإن قصد التعظيم لا تحل وإن أضافه بها، وإن قصد الإكرام تحل وإن أطعمه غيرها ". وقال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد باب ما جاء في الذبح لغير الله: " لو قدم السلطان إلى بلد فذبحنا له، فإن كان تقرباً وتعظيماً فإنه شرك أكبر، وتحرم هذه الذبائح، وعلامة ذلك أننا نذبحها في وجهه ثم ندعها. أما لو ذبحناها إكراماً له وضيافة، وطبخت وأكلت، فهذا من باب الإكرام، وليس بشرك ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 المتوفى سنة 406هـ إجماع العلماء على ذلك"1".   "1" فقد حكى في تفسيره في تفسير الآية 173 من البقرة 2/120 إجماع أهل العلم على أن ذبيحة المسلم التي قصد بها التقرب إلى غير الله ذبيحة مرتد وعلى أن المسلم قد صار بهذا الذبح مرتداً، وينظر الدين الخالص 2/61، وذكر في فتح المجيد باب ماجاء في الذبح لغير الله 1/270 أنه لا اختلاف بين العلماء في ذلك. وذكر الإمام النووي الشافعي في شرح مسلم 13/141 أن من ذبح لغير الله فعله محرم. ثم قال: "نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً". وقال علامة اليمن الإمام محمد بن علي الشوكاني في الدر النضيد ص75: "النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم، كما أن النحر للنسك وإخراج صدقة المال والخضوع والاستكانة عبادة لله عز وجل بلا خلاف". وقال الإمام الشوكاني أيضاً في رسالة "شرح الصدور بتحريم رفع القبور"ص34،35:"ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمى بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام ويلقيه على رأسه من أعلى مكان الدين: أن كثيراً منهم يأتي بأحسن ما يملكه من الأنعام وأجود ما يحوزه من المواشي فينحره عند ذلك القبر، متقرباً به إليه، راجياً ما يضمر حصوله منه، فيهلّ به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان، إذ أنه لا فرق بين النحائر لأحجار منصوبة يسمونها وثناً، وبين قبر لميت يسمونه قبراً، ومجرد الاختلاف في التسمية لا يغني من الحق شيئاً ولا يؤثر تحليلاً ولا تحريماً، ولاشك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها، كالهدايا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام 162،163] "1"، وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر2] ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله من ذبح لغير الله ". رواه مسلم"2". ز - الشرك في النذر والزكاة والصدقة: النذر هو: إلزام مكلف مختار نفسه عبادة لله تعالى غير واجبة عليه   =والفدية والضحايا، فالمتقرب بها إلى القبر والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته واستجلاب الخير منه واستدفاع الشر به، وهذه عبادة لاشك فيها، وكفاك من شر سماعه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا عقر في الإسلام " قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر- يعني بقراً أو شياهاً. رواه أبو داود بإسناد صحيح". انتهى كلامه رحمه الله، وينظر التوحيد لعلامة الهند إسماعيل الدهلوي ص 57-61، والشرك ومظاهره لعلامة الجزائر الشيخ مبارك الميلي ص247-272. "1" النسك هو الذبح. وقوله "ومحياي ومماتي" أي إن جميع أعمالي لله تعالى، وهو المتصرف فيَّ في حياتي وبعد مماتي. ينظر تفسير البغوي وتفسير ابن كثير وتفسير الشوكاني وتفسير السعدي لهذه الآية، وسيف الله لصنع الله الحنفي ص69، وتيسير العزيز الحميد وفتح المجيد والقول المفيد باب ما جاء في الذبح لغير الله. "2" صحيح مسلم كتاب الأضاحي باب تحريم الذبح لغير الله "1978". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 بأصل الشرع"1". كأن يقول: لله علي نذر أن أفعل كذا، أو لله علي أن أصلي أو أصوم كذا، أو أتصدق بكذا، أو ما أشبه ذلك. والنذر عبادة من العبادات، لا يجوز أن يصرف لغير الله تعالى، فمن نذر لمخلوق كأن يقول: لفلان علي نذر أن أصوم يوماً، أو لقبر فلان علي أن أتصدق بكذا، أو إن شفي مريضي أو جاء غائبي للشيخ فلان علي أن أتصدق بكذا، أو لقبره علي أن أتصدق بكذا، فقد أجمع أهل العلم على أن نذره محرم وباطل"2"، وعلى أن من فعل ذلك قد أشرك   "1" التوضيح عن توحيد الخلاق ص280، وينظر المقنع والشرح الكبير والإنصاف باب النذر 28/128. قال في الشرح الكبير: " فيقول: لله عليَّ أن أفعل كذا، وإن قال: علي نذر كذا. لزمه أيضاً، لأنه صرح بلفظ النذر ". وقال في التعريفات ص308 في تعريفه: " إيجاب عين الفعل المباح على نفسه تعظيماً لله تعالى ". وقال في كشاف القناع 6/273: " لا تعتبر له صيغة بحيث لا ينعقد إلا بها، بل ينعقد بكل ما أدى معناه، كالبيع ". "2" مجموع الفتاوى 1/286، و31/11، 27، و35/354، منهاج السنة 2/440، كشاف القناع 6/276. وينظر الدر المختار للحصكفي الحنفي مع حاشيته لابن عابدين آخر كتاب الصيام 2/128، والبحر الرائق لابن نجيم الحنفي 2/320 نقلاً عن الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي، ونقل حكاية هذا الإجماع أيضا جمع من= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 بالله تعالى الشرك الأكبر المخرج من الملة"1"، لأنه صرف عبادة النذر لغير الله، ولأنه يعتقد أن الميت ينفع ويضر من دون الله، وهذا كله شرك"2".   =علماء الحنفية، وكذلك نقل جماعة من الحنفية الإجماع على أنه لا يجوز الوفاء به. ينظر رسالة "جهود علماء الحنفية" ص1550-1552. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عند ذكره لنذر الدهن للقبور لتنوَّر به: " وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين، لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالا للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن فيهم شبهاً من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} . والذين اجتاز بهم موسى وقومه، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها أو لسدنة الأبداد -وهي الأصنام- التي في الهند والمجاورين عندها". ينظر فتح المجيد ص288،289. وينظر مجموع الفتاوى 11/504، الدين الخالص 1/183، الدرر السنية 1/298-302. "1" ينظر مجموع الفتاوى 1/286، التوضيح عن توحيد الخلاق ص 282، الدين الخالص 1/183، و2/60، سيف الله لصنع الله الحنفي ص69، السنن والمبتدعات للشقيري المصري ص74-76. "2" حاشية ابن عابدين آخر كتاب الصيام 2/128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ومثله إخراج زكاة المال وتقديم الهدايا والصدقات إلى قبر ميت تقرباً إليه، أو تقديمها إلى سدنة القبر"1" تقرباً إلى الميت، أو تقديمها إلى الفقراء الذين يذهبون إلى القبر، وكان يفعل ذلك تقرباً إلى الميت، فهذا كله من الشرك الأكبر أيضاً، لما فيه من عبادة غير الله ومن اعتقاد أن هذا الميت ينفع أو يضر من دون الله، قال الشيخ قاسم الحنفي: "ما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأموات تقرباً إليهم حرام بإجماع المسلمين""2"، فمن زكى أو تصدق تديناً تقرباً إلى غير الله فقد وقع في الشرك الأكبر"3". ح - الشرك في الصيام والحج: الصيام والحج من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله بالإجماع، فمن تعبَّد بها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر، وذلك كمن يصوم   "1" من المعلوم أن وضع سدنة للقبر يأخذون الهدايا والصدقات من البدع المحرمة، ومن الأسباب التي تؤدي إلى وقوع الجهلة في الشرك الأكبر، وينظر كلام شيخ الإسلام الذي سبق نقله قريباً، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بشيء من التوسع عند الكلام على وسائل الشرك - إن شاء الله تعالى-. "2" البحر الرائق 2/320، نقلاً عن الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي. وقد سبق قريبا نقل كلام الإمام الشوكاني في أن إخراج صدقة المال عبادة بلا خلاف. "3" مجموع الفتاوى 1/75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 أو يحج إلى الكعبة تقرباً إلى ولي أو ميت أو غيرهما من المخلوقين، وكمن يحج إلى قبر تقرباً إلى صاحبه فهذا كله من الشرك الأكبر المخرج من الملة، سواء أفعله العبد أم اعتقد جوازه"1". ط- الشرك في الطواف: الطواف عبادة بدنية لا يجوز أن تصرف إلا لله تعالى، ولا يجوز أن يطاف إلا بالكعبة المشرفة، وهذا كله مجمع عليه، فمن طاف بقبر نبي أو عبد صالح أو بمنزل معين أو حتى بالكعبة المشرفة تقرباً إلى غير الله تعالى، فقد وقع في الشرك الأكبر بإجماع المسلمين"2". وهذا بقية العبادات كالتوكُّل"3"، والتبرك، والتعظيم   "1" منهاج السنة 2/440، درء تعارض العقل والنقل 1/227،228، مجموع الفتاوى 1/75،351، الصارم المنكي ص 215، الدين الخالص، 2/58، رسالة التوحيد للدهلوي الفصل الرابع ص 57،58. "2" مجموع الفتاوى 2/308، الصارم المنكي ص 215، وينظر الجواب الكافي ص 196،199،200 الدين الخالص 2/58،94، رسالة التوحيد للعلامة إسماعيل الدهلوي الهندي الفصل الرابع ص 55، 56. "3" ينظر في الشرك في هذه العبادة: التحفة العراقية، مجموع الفتاوى 7/79، الفوائد ص 163،208،211، مدارج السالكين "منزلة التوكل" 3/521،522، الجواب الكافي ص 199،200، تيسير العزيز الحميد، فتح المجيد، قرة عيون= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 البالغ"1"، والخضوع"2"، وقراءة القرآن، والذكر، والأذان"3" والتوبة والإنابة فهذه كلها عبادات لا يجوز أن تصرف لغير الله، فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد وقع في الشرك الأكبر"4"، وسيأتي التفصيل في الشرك في بعض هذه العبادات وذكر بعض العبادات التي لم تذكر هنا عند الكلام على الشرك الأصغر وعند الكلام على الوسائل التي تؤدي إلى الوقوع في الشرك الأكبر - إن شاء الله تعالى -. النوع الثالث من أنواع الشرك في الألوهية: الشرك في الحكم والطاعة: ومن صور الشرك في هذا النوع: 1- أن يعتقد أحد أن حكم غير الله أفضل من حكم الله أو مثله،   =الموحدين، القول المفيد باب "وعلى الله فتوكلوا"، مجموعة التوحيد 1/285، 415، 474، الإرشاد للفوزان ص 64. "1" مرقاة المفاتيح، باب دفن الميت 2/372. "2" الخضوع عبادة لله تعالى بلا خلاف كما قال الإمام الشوكاني، وقد سبق نقل كلامه في الشرك في النذر. "3" حكى العيني في عمدة القاري شرح الحديث الأول 1/31: أن هذه الأقوال كلها عبادات بلا خلاف. وينظر الجواب الكافي ص 199. "4" ينظر في الشرك في هذه العبادات: مجموع الفتاوى 1/71،291،351، مدارج السالكين 1/374، زاد المعاد: الطب " حلق الرأس " 4/158-162، الجواب الكافي ص 196،197،200، تجريد التوحيد ص31، 38، 45، تيسير العزيز الحميد ص 24-26، الدرر السنية 2/318، جهود علماء الحنفية ص 1575 وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، لأنه مكذب للقرآن، فهو مكذب لقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} [المائدة: 50] ، ولقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] وهذا استفهام تقريري، أي أن الله تعالى أحكم الحاكمين، فليس حكم أحد غيره أحسن من حكمه ولا مثله. 2- أن يعتقد أحد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا شرك أكبر، لأنه اعتقد خلاف ما دلت عليه النصوص القطعية من الكتاب والسنة، وخلاف ما دل عليه الإجماع القطعي من المسلمين من تحريم الحكم بغير ما أنزل الله"1".   "1" ينظر تفسير الآيات "60-65" من سورة النساء, وتفسير الآيات "44-50" من سورة المائدة، وتفسير الآيتين "31، 37" من سورة التوبة في تفاسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير والشوكاني وابن سعدي والشنقيطي، التمهيد 4/226، مجموع الفتاوى 1/97، 98، و3/267، و7/67-72، و35/373، وشرح الطحاوية ص 446، والدين الخالص 2/66، 67، وتيسير العزيز الحميد، وفتح المجيد، والقول المفيد باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم، والباب بعده، ورسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة السابق المطبوعة ضمن فتاويه 12/284-291، ورسالة فتنة التكفير للألباني، وتقديم شيخنا عبد العزيز بن باز - رحمه الله - لها، وتعليق شيخنا محمد بن عثيمين عليها، ورسالة تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن "مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/136-173"،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 3- أن يضع تشريعاً أو قانوناً مخالفاً لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويحكم به"1"، معتقداً جواز الحكم بهذا القانون، أو معتقداً أن هذا القانون خير من حكم الله أو مثله"2"، فهذا شرك مخرج من الملة.   =ورسالة النواقض القولية والعملية ص312-343، ورسالة النواقض الاعتقادية الفصل الأخير 2/222-232، ورسالة الحكم بغير ما أنزل الله للدكتور عبد الرحمن المحمود، ورسالة الغلو ص 289-300. "1" أما لو حكم بغير الشرع في قضية واحدة وشبهها لشهوة أو رشوة أو نحوهما، فهذا من الشرك الأصغر. تنظر أكثر المراجع السابقة. "2" وهذا هو ظاهر حال أغلب الذين يضعون هذه القوانين ويحكمون بها، ومثلهم الذين يحكمون بعادات "سلوم" قبائلهم. ينظر تعليق الشيخ ابن عثيمين على رسالة فتنة التكفير ص 35. أما من وضع هذا القانون مكرها أو تحت ضغط من غيره، مع اعتقاده حرمة الحكم به وأن حكم الله تعالى أفضل منه، فقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يكفر، قال الشيخ ابن عثيمين في الموضع السابق عند كلامه على هذه المسألة: " قد يكون الذي يحمله على ذلك أي على وضع قانون والحكم به خوفاً من أناس آخرين أقوى منه إذا لم يطبقه، فيكون مداهناً لهم، فحينئذ نقول: إن هذا كالمداهن في بقية المعاصي "، ولبعض العلماء خلاف في هذه المسألة، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن مجرد تحكيم قانون أو نظام عام مخالف لشرع الله تعالى كفرٌ مخرجٌ من الملة ولو لم يصحبه اعتقاد أن هذا القانون أفضل من شرع الله أو مثله أو يجوز الحكم به، وقد استدل أصحاب هذا القول بعموم آية المائدة الآتية، رقم "44" ينظر في هذا القول أكثر المراجع السابقة، وقد استدل أصحاب القول الأول بما روى ابن جرير في تفسير هذه الآية، ومحمد بن نصر "571"، وابن بطة "1005" = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ......................................................................................   =بإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيحين عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: «هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله» ، وروى سعيد بن منصور في سننه "749"، وابن جرير، وابن أبي حاتم في تفسير الآية "44" من المائدة، والحاكم 2/313 وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة. وسنده حسن، رجاله رجال الصحيحين. ويؤيد هذه الرواية المفصلة الرواية الثالثة عن ابن عباس عند ابن أبي حاتم "6426"، أما رواية عبد الرزاق في تفسيره عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس بلفظ: هي كفر. قال ابن طاووس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. فإنها تؤيد الروايات السابقة، بدليل فهم راويها ابن طاووس كما سبق، وقد أخرجها ابن جرير وابن نصر "570" وغيرهما من طريق عبد الرزاق بلفظ: «هي به كفر» ، فهي مختصرة من الرواية الأولى، وعلى فرض أنها تعارضها فإن الرواية الأولى أقوى إسناداً فتقدم عليها. فقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما وهو ترجمان القرآن ومن أئمة العربية بأن الكفر المذكور في الآية المراد به الكفر الأصغر، مع أن كلا من " من " و" ما " في الآية من صيغ العموم، فتشمل " من " كل حاكم بغير الشرع، وتشمل " ما " كل نظام أو قانون يحكم به، وقد رجَّح شيخاي الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ ابن عثيمين رحمها الله القولَ الأول، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يكون كفراً مخرجاً من الملة مطلقاً حتى يصحبه اعتقاد جواز الحكم به، أو أنه أفضل من حكم الله أو مثله، أو أي مكفِّر آخر. وقد أطال الحافظ ابن القيم في كتاب الصلاة: فصل كفر الاعتقاد وكفر العمل،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 4- من يحكم بعادات آبائه وأجداده أو عادات قبيلته - وهي ما تسمى عند بعضهم ب: السُّلُوم - وهو يعلم أنها مخالفة لحكم الله، معتقداً أنها أفضل من حكم الله أو مثله أو أنه يجوز الحكم بها، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة. 5- أن يطيع من يحكم بغير شرع الله عن رضى، مقدماً لقولهم على شرع الله، ساخطاً لحكم الله، أو معتقداً جواز الحكم بغيره، أو معتقداً أن هذا الحكم أو القانون أفضل من حكم الله أو مثله"1".   =ص55-59 في التفريق بين كفر الاعتقاد وبين كفر العمل، وذكر أن الحكم بغير ما أنزل الله من كفر العمل، ونقل عن السلف نصوصاً صريحة في ذلك، وذكر أن هذا الكفر لا يخرج من الملة، ثم قال: «وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين ... » . والله أعلم. "1" أما من تابع من يحكم بغير الشرع مع أنه كان راضياً بحكم الله معتقداً أنه أفضل وأصلح للعباد ولكن تابع هؤلاء لهوى في نفسه، كأن يريد وظيفة ونحو ذلك فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يكفر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/70 عند كلامه على هذه المسألة: " أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أصحاب الذنوب "، وقال الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد 2/158: " إننا لو = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ومثل هؤلاء من يتبع أو يتحاكم إلى الأعراف القبلية - التي تسمى: السُّلوم - المخالفة لحكم الله تعالى، مع علمه بمخالفتها للشرع، معتقداً جواز الحكم بها، أو أنها أفضل من الشرع أو مثله، فهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة"1". والدليل على أن هذا كله شرك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] "2"، وقوله تعالى:   =قلنا بكفرهم لزم من ذلك تكفير كل صاحب معصية يعرف أنه عاص لله ويعلم أنه حكم الله ". "1" وألحق بهم بعض العلماء من يقلد العلماء أو المذاهب الفقهية ويترك الدليل لقول مقلده، فيقدم قول مقلده عليه تعصُّباً له. ينظر فتح المجيد آخر باب من أطاع العلماء .... ، والدين الخالص 2/66، وينظر تفسير الآية "31" من التوبة في تفسير الشوكاني. "2" روى الإمام أحمد "18525"، ومسلم "1700" عن البراء بن عازب أن هذه الآية نزلت في شأن اليهود، وقال البراء أيضاً في آخر هذه الرواية بعد ذكر هذه الآية والآيات بعدها قال: «هذه في الكفار كلها» ، وذكر الحافظ ابن جرير الخلاف في المراد بالكفر في هذه الآية، فذكر فيها خمسة أقوال: 1- أنه عُني به اليهود. 2- أنه عني به المسلمون أي من لم يحكم منهم بما أنزل الله. 3- أنه كفر دون كفر. 4- أنها نزلت في أهل الكتاب ومراد بها جميع الناس. 5- أن الكفر لمن لم يحكم بالشرع جاحداً به، والظلم والفسق للمقر به، وذكر آثاراً كثيرة في هذه الأقوال، ثم رجح القول الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ...................................................................................   وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: "قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لَمْ يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقداً ذلك ومستحلاً له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار، وقيل: أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر، فأما من حكم بالتوحيد ولم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية، والصحيح الأول» . وقال ابن العربي في تفسير هذه الآية أيضاً بعد ذكره للخلاف في هذه المسألة: «وهذا يختلف: إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوىً ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين"، وما ذكره ابن العربي من كفر من بدل الشرع مجمع عليه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 3/267، وعليه يحمل ما ذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 15/163 عند كلامه على حكم جنكز خان بالياسق من الإجماع على كفر من حكم به، بدليل أن الحافظ ابن كثير رحمه الله قرنه بالحكم بالشرائع السابقة التي أكثرها مبدل، ويؤيد هذا أن جنكز وابنه كانا يدعيان أنهما نائبان عن رب السماء كما في البداية والنهاية 1/162، ولا يصح حمل كلامه رحمه الله على حكاية الإجماع على كفر من لم يحكم بجميع ما أنزل الله مطلقاً،، فإن كلامَ كثير من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم يدل على وجود الخلاف في هذه المسألة، والقرطبي إنما ذكر في كلامه السابق هذا القول كأحد الأقوال في تفسير آية المائدة التي هي عمدة من قال بكفره، فهذه المسألة بلا شك مسألة خلافية، ولهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] ، وروي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} فقلت: إنا لسنا نعبدهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أليس يحرِّمون ما أحلَّ اللهُ، فتُحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرَّم الله، فتحلُّونه؟ " قال: قلت: بلى. فقال صلى الله عليه وسلم: " فتلك عبادتهم ""1". فذكر في هذا الحديث أن طاعتهم في مخالفة الشرع عبادة لهم، وذكر الله تعالى في آخر الآية أن ذلك شرك، ولأن من كره شرع الله كفر، لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد: 9] "2".   رجح بعض كبار علماء عصرنا كشيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد بن عثيمين القول الآخر في هذه المسألة كما سبق، والله أعلم. "1" رواه البخاري في التاريخ الكبير 7/106، والترمذي في التفسير "3095"، وابن جرير في تفسيره "16631-16633"، وابن أبي حاتم في تفسيره "10057". وقد حسَّنه شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 3/67، والشيخ محمد ناصرالدين في صحيح الترمذي "2471". وله شاهد من قول حذيفة عند ابن جرير "16634"، وابن أبي حاتم "10058" ورجاله ثقات، لكن في سنده انقطاع. "2" ينظر ما يأتي عند الكلام على كفر البغض في الفصل الآتي – إن شاء الله تعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 6- من يدعو إلى عدم تحكيم شرع الله، وإلى تحكيم القوانين الوضعية محاربةً للإسلام وبغضاً له، كالذين يدعون إلى سفور المرأة واختلاطها بالرجال الأجانب في المدارس والوظائف وإلى التعامل بالربا، وإلى منع تعدد الزوجات، وغير ذلك مما فيه دعوة إلى محاربة شرع الله، فالذي يدعو إلى ذلك مع علمه بأنه يدعو إلى المنكر وإلى محاربة شرع الله ظاهر حاله أنه لم يدع إلى ذلك إلا لما وقع في قلبه من الإعجاب بالكفار وقوانينهم واعتقاده أنها أفضل من شرع الله، ولما وقع في قلبه من كره لدين الإسلام وأحكامه، وهذا كله شرك وكفر مخرج من الملة، ومن كانت هذه حقيقة حاله فقد وقع في الشرك الأكبر، وإن كان يظهر أنه من المسلمين فهو نفاق أيضاً؛ للأدلة التي سبق ذكرها في الفقرة السابقة، بل هنا أولى؛ لأن الدعوة إلى الشيء شر من مجرد اتباعه"1".?   "1" ينظر في جميع الصور السابقة أكثر المراجع المذكورة عند بيان الصورتين الأوليين لهذا النوع، وينظر في الصورة الأخيرة أيضاً ما يأتي عند الكلام على النفاق الأكبر في الفصل الثالث من هذا الباب – إن شاء الله تعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الكفر الأكبر تعريفه وحكمه ... الفصل الثاني: الكفر الأكبر المبحث الأول: تعريفه وحكمه الكفر في اللغة: بمعنى الستر والتغطية، يقال لمن غطى درعه بالثوب: قد كفر درعه. ويقال للمزارع: "كافراً " لأنه يغطي البذر بالتراب، ومنه سمي الكفر الذي هو ضد الإيمان "كفراً "؛ لأن فيه تغطيه للحق بجحد أو غيره، وقيل: سُمي الكافر "كافراً " لأنه قد غطى قلبه بالكفر"1".   "1" انظر لسان العرب، مادة"كفر"، وينظر الفصل لابن حزم 3/211. وقال ابن الجوزي في"نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" ص516، 517:"ذكر أهل التفسير أن الكفر في القرآن على خمسة أوجه: أحدها: الكفر بالتوحيد، ومنه قوله تعالى في البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] ، والثاني: كفران النعمة، ومنه قوله تعالى في البقرة: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} ، والثالث: التبري، ومنه قوله تعالى في العنكبوت: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} ، أي يتبرأ بعضكم من بعض، والرابع: الجحود، ومنه قوله تعالى في البقرة: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ، والخامس: التغطية، ومنه قوله تعالى في الحديد: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ، يريد الزراع الذين يغطون الحَب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 والكفر في الاصطلاح: كل اعتقاد أو قول أو فعل أو ترك يناقض الإيمان"1". فالكفر الأكبر يكون بالاعتقاد، ويكون أيضاً بالقول، ويكون كذلك بالفعل ولو لم يكن مع أي منهما اعتقاد"2".   "1" النواقض القولية والعملية ص39، وقال أبو محمد بن حزم بعد ذكره لتعريف الكفر لغة في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل: كتاب الإيمان 3/211:"ثم نقل الله تعالى اسم الكفر في الشريعة إلى جحد الربوبية وجحد نبوة نبي من الأنبياء صحت نبوته في القرآن، أو جحد شيء مما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما صح عند جاحده بنقل الكافة، أو عمل شيئاً قام البرهان بأن العمل به كفر". "2" وقد حكى جمع من أهل العلم إجماع العلماء على أن الكفر يكون بمجرد القول أو مجرد الفعل. قال الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه المتوفى سنة 238هـ كما في تعظيم قدر الصلاة لتلميذه محمد بن نصر "ص930"، رقم "991":"ومما أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد: فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى وما جاء من عنده ثم قتل نبياً أو أعان على قتله، وإن كان مقراً، ويقول: قتل الأنبياء محرم، فهو كافر، وكذلك من شتم نبياً؛ أو ردّ عليه قوله من غير تقية ولا خوف". فقد حكى إسحاق – رحمه الله – إجماع السلف على أن من سبَّ نبياً، أو قتل نبيّاً من أنبياء الله تعالى، أو رد شيئاَ مما أنزل الله تعالى باللسان فقط مع إيمانه بقلبه بجميع ما أنزل الله أنه يكفر بذلك القول أو الفعل المجرد. وقال الإمام أبوثور المتوفى سنة 240هـ كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة "ص849":"ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: المسيح هو الله، وجحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ...............................................................................   =أمرالإسلام، وقال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن"، فقد حكى أبوثور – رحمه الله – إجماع السلف على كفر من أظهر كلمة الكفر، ولو قال: إنه تلفظ بها من غير أن يعتقد مدلولها. وقد حكى أبومحمد بن حزم في"الفصل في الملل والأهواء والنحل"كتاب الإيمان 3/204، 211، 249، 251، 253 الإجماع على التكفير بمجرد النطق ببعض الأمور المكفرة، وبمجرد فعل بعض الأمور المكفرة، وقال 3/209:"بقي من أظهر الكفر لا قارئاً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر، وبحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وبنص القرآن"، وقال 3/200:"وأما قولهم: إن إخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليل على أن في قلوبهم كفراً، وأن شتم الله ليس كفراً، ولكنه دليل على أن في القلب كفراً، وإن كان كافراً لم يعرف الله تعالى قط، فهذه منهم دعاوى كاذبة مفتراة، لا دليل لهم عليها ولا برهان، لا من نص ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا من حجة عقل أصلاً، ولا من إجماع، ولا من قياس، ولا منقول أحد من السلف قبل اللعين جهم بن صفوان، وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور، فسقط قولهم هذا من قرب، ولله الحمد رب العالمين، فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول..". وقال ابن حزم أيضاً في آخر المحلى 11/411:"وأما سبّ الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد إلا أن الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتد بهما يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفراً. قال بعضهم: ولكنه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ......................................................................................   دليل على أنه يعتقد الكفر لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام ... ولم يختلفوا في أن فيه – أي في القرآن - التسمية بالكفر والحكم بالكفر قطعاً على من نطق بأقوال معروفة كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} فصح أن الكفر يكون كلاماً"انتهى كلامه بحروفه مختصراً. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في شرح كشف الشبهات ص102:"فهذا المذكور في هذا الباب – أي باب المرتد – إجماع منهم أنه يخرج من الملة ولو معه الشهادتان لأجل اعتقاد واحد أو عمل واحد أو قول واحد، يكفي بإجماع أهل العلم لا يختلفون فيه". وقال الشيخ عبد الله أبا بطين كما في مجموعة الرسائل والمسائل 1/659:"المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه بكلام أو اعتقاد أو فعل أو شك ... وهذا ظاهر بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع". وقال العلامة الصنعاني في"تطهير الاعتقاد"ص26،25:"قد صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة: أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها". ونقل صاحب المحيط كما في درر الحكام في الفقه الحنفي 1/324 الإجماع من كافة العلماء على كفر من نطق بكلمة الكفر ولو كان غير معتقد لما نطق به. وقد نقل الشيخ علوي السقاف في رسالة"التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد"عن أكثر من مائة من علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين ومن جميع المذاهب الفقهية أن الكفر يكون بمجرد النطق بقول مكفر، وبمجرد فعل مكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ........................................................................................   وينظر ما يأتي من حكاية الإجماع على كفر من جحد بلسانه شيئاً من دين الله تعالى عند الكلام على كفر الإنكار والتكذيب، وما يأتي من حكاية الإجماع على كفر من سب شيئاً من دين الله أو استهزأ أو سخر به بالقول أو الفعل جاداً أو هازلاً عند الكلام على كفر السبّ والاستهزاء. وقد أطال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/199-206 في الرد على من قال: إن الكفر لا يكون بالقول أو الفعل، وذكر أدلة صريحة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على الكفر بمجرد النطق بأمر مكفر، وبمجرد فعل مكفر، وسيأتي بعض هذه الأدلة عند ذكر الأدلة على أنواع الكفر. وهذا كله يدل على أن من قال: إن الكفر إنما يكون بالاعتقاد، وأن القول أو الفعل الذي دلت النصوص على أنه كفر ليس كفراً، وإنما هو دليل على أن في القلب كفراً، قد أخطأ خطأً كبيراً، ورد دلالة النصوص الشرعية، وخالف ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من سلف من هذه الأمة ومن سار على طريقهم. وقال الإمام النووي في الروضة 10/64:"قال الإمام – أي إمام الحرمين -: في بعض التعاليق عن شيخي: أن الفعل بمجرده لا يكون كفراً. قال: وهذا زلل عظيم من المعلق، ذكرته للتنبيه على غلطه"، وقد نقل هذا التعليق أيضاً عن إمام الحرمين ابن حجر المكي في قواطع الإسلام ص23 وأيد تخطئته له. وينظر في الرد على هذا القول أيضاً وفي بيان دلالة النصوص على عدم صحته مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/547، 561، الإيمان لشيخ الإسلام ص484، النونية لابن القيم مع شرحها لابن عيسى 2/118،117، شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم ص126-134، فتاوى اللجنة الدائمة 2/3.= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وحكم الكفر الأكبر هو حكم الشرك الأكبر، كما سبق بيانه"1". وإذا وقع المسلم في الكفر أو الشرك وحكم بكفره فهو"مرتد" له أحكام المرتدين، ومنها أنه يجب قتله إن لم يتب ويرجع إلى الإسلام"2" لقوله صلى الله عليه وسلم: " من بدّل دينه فاقتلوه " رواه البخاري"3"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة " رواه البخاري ومسلم"4".   ولذلك كله فإنه يجب على المسلم الذي يطلب الحق أن ينقاد لما دلت عليه النصوص ولما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وكون بعض أهل العلم أخطأ في ذلك فهو يرجى له أجر واحد، لإرادته الحق، ولكن لا يجوز لنا أن نقلده في خطئه. والله أعلم. "1" ينظر ما سبق في المبحث الأول من الفصل السابق. "2" هذا إذا كان القتل يسقط بالتوبة، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن بعض أنواع الكفر يجب قتل من وقع فيها ولو أظهر توبته، بل يرى بعضهم أن المرتد لا يستتاب ولا تسقط توبتُه من الردة القتلَ في جميع المسائل، وذهب آخرون إلى أن التوبة تقبل في جميع المسائل. ينظر الأوسط لابن المنذر: كتاب المرتد "رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة ص648-657"، المحلى 11/188-194، الصارم المسلول ص531،460، 361، 337، المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 27/114-121، روضة الطالبين 10/76،75، فتح الباري: استتابة المرتدين 12/269، كشاف القناع 6/175-178، فتاوى شيخنا ابن باز "جمع د. الطيار ص526". "3" رواه البخاري في استتابة المرتدين "6922". "4" صحيح البخاري: الديات "6878"، وصحيح مسلم: القسامة "1676". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 المبحث الثاني: أنواع الكفر للكفر أنواع كثيرة، أهمها: 1- كفر الإنكار والتكذيب: وهو أن ينكر المكلف شيئاً من أصول الدين، أو أحكامه، أو أخباره الثابتة ثبوتاً قطعياً. وذلك بأن ينكر بقلبه"1"، أو لسانه"2" أصلاً من أصول الدين، أو حكماً من أحكامه، أو خبراً من أخباره المعلومة من دين الإسلام بالضرورة"3" والتي ورد في شأنها نص صريح من كتاب الله تعالى، أو   "1" من الإنكار بالقلب أن يعزم على الكفر في الحال أو في المستقبل، فهذا كله ردة؛ لأنه يدل على إنكاره لأصول الإسلام وأنه الدين الحق الذي لا يقبل من أحد سواه، ويدل على إيمانه بأصول الكفر وعلى بغضه للإسلام ومحبته للكفر ورضاه به. "2" أي ينكر ذلك بلسانه، وقلبه مصدقٌ به، إما هزلاً أو استهزاءً كما سيأتي عند الكلام على كفر الاستهزاء، وإما إرضاءً لكافر، أو لمصلحة دنيوية، أو عناداً في حال مشاجرة أوغيرها، أو خوفاً من كافر على ما سيأتي تفصيله في خاتمة هذا الفصل عند الكلام على عموم موانع الحكم على المعين بالكفر، وأعظم من هذا الإنكار: أن ينكر بقلبه ولسانه. "3" المعلوم من الدين بالضرورة هو الأمر المقطوع به الذي يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التصديق به، لكثرة النصوص الواردة فيه وتواترها ونقل العامة والخاصة لهذه النصوص أو لنقلهم الحكم الذي دلّت عليه، ولا يجد الإنسان في قلبه أدنى شبهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وردت في شأنها أحاديث نبوية متواترة تواتراً معلوماً"1"، وأجمع   تدعوه إلى إنكاره، فيكون من كذب به مكذباً لهذه النصوص ولإجماع الأمة القطعي، كوجوب أركان الإسلام الخمسة، وكتحريم الزنا والسرقة، ونحو ذلك. قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم باب العبارة عن حدود علم الديانات "ص788":"حد الضروري ما لا يمكن العالم أن يشكك فيه نفسه، ولا يدخل فيه على نفسه شبهة، ويقع له العلم بذلك قبل الفكرة والنظر، ويدرك ذلك من جهة الحس والعقل، كالعلم باستحالة كون الشيء متحركاً ساكناً في حالٍ واحدة، ومن الضروري أيضاً علم الناس أن في الدنيا مكة والهند ومصر والصين وبلداناً قد عرفوها وأمماً قد خلت". انتهى كلامه مختصراً. وينظر التعريفات مادة"ضرر". "1" النص المتواتر هو ما رواه جمع عن جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس. وجميع نصوص القرآن متواترة؛ لأن كل حرف من القرآن رواه الجم الغفير عن الجم الغفير، ولذلك من أنكر حرفاً من القرآن كفر، ومن أنكر شيئاً دلّ عليه نص واحد صريح من القرآن كفر، كما أن هناك أحاديث نبوية كثيرة متواترة. والمتواتر الذي يكفر جاحده هو ما اشتهر عند العامة والخاصة، أو كان مما يعرفه المنكر ضرورة لكونه نشأ بين العلماء ونحو ذلك، ومثله ما إذا أخبر بتواتره بعد إنكاره فاستمر على جحوده له مع أنه لا شبهة لديه تدعوه إلى إنكاره. قال العلامة ابن الوزير في العواصم من القواصم 4/174:"المتواتر نوعان: أحدهما: ما علمه العامة مع الخاصة، كمثل كلمة التوحيد، وأركان الإسلام، فيكفر جاحده مطلقاً؛ لانه قد بلغه التنزيل. وثانيهما: ما لا يعرف تواتره إلا الخاصة فلا يكفر مستحله من العامة؛ لأنه لم يبلغه، وإنما يكفر من استحله وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل تحريم الصلاة على الحائض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أهل العلم عليها إجماعاً قطعياً"1"، أو ينكر ما يجزم هو في   "1" هذا القيد معلوم؛ لأن المعلوم من الدين بالضرورة مجمع عليه إجماعاً قطعياً، ولكن ذكرته للتأكيد عليه، ولذكر أهل العلم له. وينظر إيثار الحق "ص156". قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/39،38 في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء:115] قال:"وهذه الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة، من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول، وأن كل ما أجمعوا عليه فلابد أن يكون فيه نص عن الرسول، فكل مسألة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين فإنها مما بين الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر، كما يكفر مخالف النص البيِّن، أما إذا كان يظن الإجماع ولا يقطع به فهنا قد لا يقطع أيضاً بأنها مما تبيّن فيها الهدى من جهة الرسول، ومخالف هذا الإجماع قد لا يكفر". وقال الحافظ السيوطي في الأشباه والنظائر كتاب الردة "ص488":"منكر المجمع عليه أقسام: أحدها: ما نكفره قطعاً، وهو ما فيه نص وعلم من الدين بالضرورة. الثاني: ما لا نكفره قطعاً، وهو ما لا يعرفه إلا الخواص، ولا نص فيه، كفساد الحج بالجماع قبل الوقوف. الثالث: ما يكفر به على الأصح وهو المشهور المنصوص عليه، الذي لم يبلغ رتبة الضرورة، كحل البيع، وكذا غير المنصوص على ما صححه النووي. الرابع: ما لا على الأصح، وهو ما فيه نص، لكنه خفي غير مشهور، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب"، وينظر روضة الطالبين باب تارك الصلاة 2/146، والإعلام بقواطع الإسلام ص28-31، ونهاية المحتاج 7/415،416، وشرح المنهج "مطبوع مع حاشيته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 قرارة نفسه بأنه من دين الله تعالى"1". ومثل الإنكار بالقلب واللسان: أن يفعل ما يدل على إنكاره شيئاً من دين الله تعالى"2".   =للجمل 5/123". "1" وذلك بأن ينكره في الظاهر مجاملة أو عناداً لغيره، أو في حال غضب أو مشاجرة أو خصومة ونحو ذلك، مع أنه في قرارة نفسه يعلم أنه من دين الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 12/525:"من خالف ما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به فهو كافر بلا نزاع"، والمراد بالمخالفة هنا: الجحد والإنكار. فمن أنكر شيئاً مما ثبت بحديث صحيح بيّن بعد علمه بهذا الحديث، وأن هذا الأمر من الدين، وليس عنده شبهة في إنكار مادل عليه هذا الحديث، وإنما جحده ظاهراً لإرضاء مخلوق أو لمصلحة دنيوية، أو ما أشبه ذلك لا شك أنه قد وقع في الكفر المخرج من الملة. وقد ذكر جمع من أهل العلم أن من أنكر حديثاً صح عنده فهو كافر. ينظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص155، الإحكام لابن حزم الباب الحادي عشر 1/99 فقد نقل هذا عن إسحاق بن راهويه وأقره، وينظر الفصل لابن حزم أيضاً 3/256، وشرح السنة للبربهاري ص31، الإبانة لابن بطة ص211، الروض الباسم لابن الوزير 2/425،426، حاشية الجمل على شرح المنهج 5/123، الدرر السنية 10/181،180،114، مجالس شهر رمضان "المجلس 26 ص149"، وينظر كلام شيخ الإسلام في التعليق السابق. "2" ومن ذلك أن يصلي إلى غير القبلة؛ لأنه يدل على إنكاره الإجماع القطعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وقد أجمع العلماء على كفر من وقع في هذا النوع – أي كفر الجحود –"1"؛ لأنه مكذبٌ لكلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، رادٌّ لهما ولإجماع الأمة القطعي.   =والنصوص الدالة على وجوب التوجه إلى الكعبة وعدم صحة صلاة من توجه إلى غيرها. ينظر أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 5/887. ومثله أن يصلي على غير طهارة عالماً متعمداً، أو يصلي الظهر خمس ركعات عالماً متعمداً. ومن ذلك – أيضاً – أن يُكره مسلماً على الكفر، فهذا يدل على إنكاره النصوص المحرِّمة لترك المسلم دينه، وللنصوص الدالة على أن من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، أو يدل على بغضه للإسلام ومحبته للكفر، فيكون من كفر البغض والكره. وقد ألحق بعض أهل العلم بذلك الطواف بغير الكعبة، كالطواف بالقبور تقرباً إلى الله تعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 2/308:"وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك ديناً فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره". ولا شك أن من فعل ذلك قد خالف إجماع الأمة وما هو معلوم من الدين بالضرورة من أن الطواف بغير الكعبة محرم وليس من دين الإسلام، ففعله هذا يدل على إنكاره لهذا المعلوم من الدين بالضرورة. "1" ينظر في حكاية الإجماع على ذلك قول إسحاق بن راهويه الذي سبق نقله في حاشية تعريف الكفر في الاصطلاح.= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ومن أمثلة هذا النوع من أنواع الكفر الأكبر: أ- أن ينكر شيئاً من أركان الإيمان أو غيرها من أصول الدين، أو ينكر شيئاً مما أخبر الله عنه في كتابه، أو ورد في شأنه أحاديث متواترة وأجمع أهل العلم عليه إجماعاً قطعياً، كأن ينكر ربوبية الله تعالى أو ألوهيته، أو ينكر اسماً أو صفة لله تعالى مما أجمع عليه إجماعاً قطعياً،   وقال أبومحمد بن حزم في معرض رده على القائلين بأن قول الكفر وفعل الكفر ليس كفراً وإنما هو دليل على أن في القلب كفراً، قال في الفصل 3/204،205:"وأما خلاف الإجماع فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن جحد الله تعالى، أو جحد رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه محكوم له بحكم الكفر قطعاً، إما القتل، وإما أخذ الجزية، وسائر أحكام الكفر، وما شك قط أحد في هل هم في باطن أمرهم مؤمنون أم لا، ولا فكروا في هذا، لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، ولا أحد ممن بعدهم". وقال أيضاً في المرجع نفسه 3/255:"وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئاً صح عندنا بالإجماع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى به فقد كفر"، وينظر آخر مراتب الإجماع له أيضاً ص177. وقد حكى أيضاً الإجماع على كفر من جحد معلوماً مجمعاً عليه: القاضي عياض في الشفا 2/510-549،528، وأبويعلى في المعتمد في أصول الدين ص271،272، وابن الوزير في إيثار الحق على الخلق ص377،376،156،116،112،402 وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 3/267، 268، و12/525،496، والمرداوي في الإنصاف 27/108، وعلي القاري في شرح الشفا 2/549، وينظر كتاب توحيد الخلاق ص99، والدرر السنية 1/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 كأن ينكر صفة العلم"1"، أو ينكر وجود أحد من الملائكة المجمع عليهم كجبريل أو ميكائيل – عليهما السلام – "2"، أو ينكر كتاباً من كتب الله المجمع عليها، كأن ينكر الزبور أو التوراة أو القرآن"3"، أو ينكر   "1" ومن الصفات التي وردت فيها أدلة كثيرة متواترة من الكتاب والسنة صفة العلو لله تعالى، وقد ذكر ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ص387،386، أن أدلة علو الله بذاته نحو ألف دليل، ثم نقل ما رواه شيخ الإسلام الهروي عن أبي حنيفة أنه قال:"من أنكر أن الله في السماء فقد كفر"ثم قال: "وقصة أبي يوسف في استتابته لبشر المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق العرش مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره". ومن ذلك أيضاً أن ينفي صفة القدرة، أو ينفي صفة العدل، فيتهم الله تعالى بالظلم، ومنه أيضاً أن ينفي عن الله تعالى صفة الرحمة، ونحو ذلك. "2" ومن ذلك أن ينكر نزول جبريل - عليه السلام – بالقرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو ينكر أن للنار خزنة، أو أن للجنة خزنة، أو ينكر الكرام الكاتبين، أو ينكر ملائكة القبر، أو ملك الموت. "3" ومنه أن ينكر أمراً يتعلق بالقرآن مما أجمع العلماء عليه، كأن ينكر آية أو حرفاً من القرآن، أو يقول: إن القرآن ناقص، أو زيد فيه ما ليس منه، أو يزيد فيه، أو ينقص منه حرفاً أو آية. قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/253:"الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم أن كل من بدل آية من القرآن عامداً وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 نبوة أحد من الأنبياء المجمع عليهم، كأن ينكر رسالة نوح أو إبراهيم أو هود – عليهم السلام –"1"، أو ينكر البعث للأجساد والأرواح، أو ينكر الحساب أو الجنة أو النار، أو ينكر نعيم القبر أو عذابه، أو ينكر أن الله تعالى قدَّر جميع الأشياء قبل حدوثها. ومنه أن يصحح أديان الكفار كاليهود أو النصارى أو غيرهم، أو لا يكفرهم"2"، أو يقول: إنهم لن يخلدوا في النار، ومنه أن ينسب   ذلك، أو أسقط كلمة عمداً كذلك، أو زاد فيها كلمة عامداً، فإنه كافر بإجماع الأمة كلها". "1" ومن ذلك أن ينكر شيئاً مجمعاً عليه يتعلق بأحد من الأنبياء – عليهم السلام -، كأن يعتقد أن جبريل – عليه السلام – غلط في الرسالة، فنزل بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم وكان مرسلاً به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما يقول ذلك بعض غلاة الشيعة الرافضة، أو ينكر معجزة من معجزات الأنبياء المجمع عليها، أو يفضل الأولياء على أحد منهم، أو يعتقد أن أحداً من بني آدم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، أو يعتقد أنه لا يجب العمل بالسّنة، أو ينكر صحة حديث متواتر مجمع عليه إجماعاً قطعياً، ومنه أن يقول: إن بعض الناس لا يجب عليه اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم. "2" قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/198:"اليهود والنصارى كفار بلا خلاف من أحد من الأمة، ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحد من الأمة في كفره وخروجه من الإسلام"، وحكى أيضاً في المرجع نفسه 3/211 الإجماع على كفر من قال:"إن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون". وحكى الإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من اليهود أو النصارى، أو شك في= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 نفسه إلى غير دين الإسلام"1"، ومنه أن ينكر صحبة أبي بكر، أو يقول بردة الصحابة أو أكثرهم، أو يقول بفسقهم كلهم، أو ينكر وجود الجن، أو ينكر إغراق قوم نوح"2". ب- أن ينكر تحريم المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها، كالسرقة، وشرب الخمر، والزنى، والتبرج، والاختلاط بين الرجال والنساء، ونحو ذلك، أو يعتقد أن أحداً يجوز له الخروج على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجب عليه الالتزام بأحكامها، فيجوز له ترك الواجبات   =كفره، أو توقف في ذلك: القاضي عياض في الشفا 2/510، وابن سحمان كما في الدرر 2/361،360. "1" وذلك بأن يقول عن نفسه:"هو كافر"، أو"هو يهودي"، أو"هو نصراني"، ومثله ما إذا قيل له: هل أنت مسلم. فقال: لا. فهذا كله كفر؛ لأنه إما أنه يخبر عن ارتداده فعلاً عن الإسلام، وإما أنه ينسب دين الإسلام إلى الكفر، أو إلى هذه الأديان المحرفة إما اعتقاداً لذلك، وهذا إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، وإما استهزاء واستخفافاً بدين الإسلام، وهذا كله كفر. "2" ونحو ذلك مما أخبر الله عنه في كتابه من أخبار الأمم الماضية، أو غير ذلك، كأن ينكر وجود السماوات السبع، أو ينكر وجود الشيطان، أو ينكر إخراجه من الجنة، أو يقول بتناسخ الأرواح ونقلها إلى أرواح أخرى، أو ينكر إنزال المنّ والسلوى على بني إسرائيل، أو ينكر قصة أصحاب الكهف، أو ينكر قصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وفعل المحرمات"1"، أو يعتقد أن أحداً يجوز له أن يحكم أو يتحاكم إلى غير شرع الله تعالى"2". ج- أن ينكر حِلّ المباحات الظاهرة المجمع على حلها، كأن يجحد حِلَّ أكل لحوم بهيمة الأنعام، أو ينكر حل تعدد الزوجات، أو حل أكل الخبز، ونحو ذلك. د - أن ينكر وجوب واجب من الواجبات المجمع عليها إجماعاً قطعياً، كأن ينكر وجوب ركن من أركان الإسلام، أو ينكر أصل وجوب الجهاد، أو أصل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أو ينكر سنية سنة من السنن أو النوافل المجمع عليها إجماعاً قطعياً، كأن ينكر السنن الرواتب، أو ينكر استحباب صيام التطوع، أو حج التطوع، أو صدقة التطوع، ونحو ذلك"3".   "1" ومن هذا اعتقاد بعض غلاة الصوفية أن بعض مشايخهم يحل له فعل المحرمات، فهذا الاعتقاد كفر بأجماع أهل العلم، قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول: المسألة الرابعة ص521:"من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق". ومنه أن يعتقد أن أحداً حرٌّ في نفسه يفعل ما يشاء، كما يتفوه به بعض المنافقين، ومنه أن يعتقد حل موالاة الكفار. "2" ينظر ما سبق عند الكلام على الكفر بالحكم بغير ما أنزل الله عند بيان النوع الثالث من أنواع الشرك في الألوهية في الفصل السابق. "3" ينظر مدارج السالكين 1/367،366، نهاية المحتاج7/416،415، مغني المحتاج 4/136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 النوع الثاني: كفر الشك والظن: وهو أن يتردد المسلم في إيمانه بشيء من أصول الدين المجمع عليها، أو لا يجزم في تصديقه بخبر أو حكم ثابت معلوم من الدين بالضرورة. فمن تردد أو لم يجزم في إيمانه وتصديقه بأركان الإيمان أو غيرها من أصول الدين المعلومة من الدين بالضرورة، والثابتة بالنصوص المتواترة، أو تردد في التصديق بحكم أو خبر ثابت بنصوص متواترة مما هو معلوم من الدين بالضرورة فقد وقع في الكفر المخرج من الملة بإجماع أهل العلم"1"؛ لأن الإيمان لابد فيه من التصديق القلبي الجازم، الذي لا يعتريه شك ولا تردد"2"، فمن تردد في إيمانه فليس بمسلم،   "1" حكى الإجماع على كفر من وقع في هذا النوع ابن حزم في مراتب الإجماع ص177، والقاضي عياض في الشفا 2/524،520، والملا علي القاري في شرح الشفا 2/549، والشيخ عبد الله أبابطين كما في الدرر السنية 10/419، وشيخنا عبد العزيز بن باز كما في فتاويه "جمع د. الطيار 528،527". وينظر في ذكر الإجماع على بعض مسائل هذا النوع، وفي ذكر بعض أمثلته: الفقه الأكبر مع شرحه للقاري ص227، مجموع الفتاوى 2/368، مدارج السالكين 1/367، قواطع الإسلام ص68،27، الدرر السنية 2/361،360، و10/114، النواقض الاعتقادية 2/69-73، وينظر أكثر المراجع المذكورة عند ذكر الإجماع على كفر الإنكار والتكذيب. "2" ينظر ما سبق في فاتحة المقدمة من أن العقيدة إيمان جازم بأركان الإيمان وما يلحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقد أخبرنا الله تعالى في قصة صاحب الجنة أنه كفر بمجرد شكه في أن جنته – أي بستانه - لن يبيد – أي لن يخرب- أبداً، وشكه في قيام الساعة، حين قال: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} يريد جنته، وحين قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} ، فقال له صاحبه المؤمن: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف:35-38] "1". ومن أمثلة هذا النوع: أن يشك في صحة القرآن، أو يشك في ثبوت عذاب القبر، أو يتردد في أن جبريل – عليه السلام – من ملائكة الله تعالى، أو يشك في تحريم الخمر، أو يشك في وجوب الزكاة، أو يشك في كفر اليهود أو النصارى، أو يشك في سنية السنن الراتبة، أو   بها ويتفرع عنها من أصول الدين، وينظر الشرط الثاني من شروط"لا إله إلا الله"في الفصل الثاني من الباب الأول. "1" قال ابن حزم في الفصل 3/195:"فأثبت الله الشرك والكفر مع إقراره بربه تعالى، إذ شك في البعث". ومن هذا النوع من أنواع الكفر: أن يتردد مسلم في أن يكفر أو لا. ينظر روضة الطالبين 10/65، ونهاية المحتاج 7/416. ومما ينبغي التنبُّه له هنا أن هناك فرقاً بين الشك والريب والتردد - وهي معان متقاربة – وبين الوساوس، فالوساوس والخطرات التي يلقيها الشيطان على قلب المسلم لا تضره، ولا يحكم عليه بسببها بكفر أو غيره إذا دفعها وكرهها. ينظر النواقض الاعتقادية 2/73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 يشك في أن الله تعالى أهلك فرعون بالغرق، أو يشك في أن قارون كان من قوم موسى، وغير ذلك من الأصول والأحكام والأخبار الثابتة المعلومة من الدين بالضرورة، والتي سبق ذكر أمثلة كثيرة لها في النوع الأول. النوع الثالث: كفر الامتناع والاستكبار: وهو: أن يصدق بأصول الإسلام وأحكامه بقلبه ولسانه"1"،   "1" وألحق بعض أهل العلم بهذا النوع من أنواع الكفر من صدق بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود بقلبه ولكنه لم ينطق بالشهادتين ولم ينقد بجوارحه لأحكام الإسلام تكبراً، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] ، كما ألحق به بعضهم كفر فرعون وملئه، كما قال الله تعالى عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] . ينظر النواقض الاعتقادية 2/181،180،135،134. ولا شك أن كفر هؤلاء اليهود وكفر فرعون وملئه كفر استكبار وكفر جحود أيضاً، فهم جاحدون للحق بألسنتهم، حتى من اعترف من اليهود بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فقط، فهم لم ينقادوا لما جاء به، ولم ينطقوا بالشهادتين وهم جاحدون لوحدانية الله تعالى، وجاحدون لما أخبر الله به في كتابه من أنه تعالى لم يتخذ ولداً، فهم يزعمون أن عزيراً ابن الله، بل لم يظهر منهم ما يدل على أنهم مؤمنون بأن القرآن كلام الله تعالى ولا أنهم مؤمنون بما اشتمل عليه كتاب الله تعالى من الأحكام والأخبار وأصول الإيمان، سوى ما بقي في كتبهم المحرفة من الحق الذي لم يغير. وينظر مجموع الفتاوى 7/561، والصارم المسلول ص520، وينظر ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ولكن يرفض الانقياد بجوارحه لحكم من أحكامه"1" استكباراً وترفعاً. وقد أجمع أهل العلم على كفر من امتنع من امتثال حكم من أحكام الشرع استكباراً"2"؛ لأنه معترض على حكمة الله تعالى، وهذا قدح في ربوبيته جلّ وعلا، وإنكار لصفة من صفات الله تعالى الثابتة في الكتاب والسنة، وهي صفة "الحكمة""3". وأوضح مثال على هذا النوع من أنواع الكفر: رفض إبليس امتثال أمر الله تعالى بالسجود لأبينا آدم – عليه السلام – استكباراً وترفعاً عن   يأتي في كفر الإعراض من النقل عن ابن عيينة في حاشية الصورة الثالثة من صور الإعراض المكفّر، وينظر أيضاً رسالة اليهود فصل"فيمن عرف من اليهود صدق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم بغياً وحسداً"ص243-251 فقد ذكرتُ فيها بعض أخبار اليهود الذين ظهر منهم ما يدل على تصديقهم بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يسلموا ولم ينطقوا بالشهادتين ولم ينقادوا للحق. "1" وأعظم منه أن يرفض الانقياد لجميع أحكام الإسلام استكباراً، فمن نطق بالشهادتين وآمن بقلبه بجميع أصول الإسلام وأحكامه، وأقر بذلك بلسانه، ولكنه لم ينقد، فترك جنس العمل بأحكام الإسلام استكباراً وترفعاً فهو كافر كفر استكبار وكفر إعراض كما سيأتي إن شاء الله. "2" حكى إجماع العلماء على ذلك الحافظ إسحاق بن راهويه كما في التمهيد 4/226، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في الصارم المسلول ص521، ومجموع الفتاوى 20/97. "3" ينظر الصارم المسلول ص522،521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 هذا الفعل الذي أمره الله تعالى به، معترضاً على ذلك بأنه هو أفضل من آدم، فلن يسجد له، حيث قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ، وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:61] فاعترض على حكمة الله تعالى في هذا الأمر، ورفض الانقياد له من أجل ذلك. ومن أمثلة هذا الكفر أيضاً أن يرفض شخص أن يصلي صلاة الجماعة، ويترفع عنها، لأنها تسوي بينه وبين الآخرين، ومن أمثلته أيضاً: أن يمتنع شخص عن لبس لباس الإحرام؛ لأنه في زعمه لباس الفقراء ولا يليق به، ونحو ذلك"1".   "1" قال ابن القيم في مدارج السالكين 1/367:"وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس، فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار، ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله، ولم ينقدْ له إباءاً واستكباراً، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل، كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} ، وقول الأمم لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ، وقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} ، وهو كفر اليهود كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ، وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} وهو كفر أبي طالب أيضاً، فإنه صدّقه ولم يشك في صدقه، ولكن أخذته الحمية، وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم، ويشهد عليهم بالكفر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 النوع الرابع: كفر السبّ والاستهزاء: وهو أن يستهزئ المسلم أو يسبّ شيئاً من دين الله تعالى مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو مما يعلم هو أنه من دين الله تعالى. وذلك بأن يستهزئ بالقول أو الفعل"1" بالله تعالى، أو باسم من أسمائه، أو بصفة من صفاته المجمع عليها، أو يصف الله تعالى بصفة   هذا وإذا امتنع فرد عن امتثال حكم من أحكام الإسلام غير الصلاة كسلاً ونحوه وليس تكبراً أو جحوداً فلا يكفر، أما إن تركت جماعة واجباً من الواجبات من غير استكبار ولا جحود، كأن تترك دفع الزكاة بخلاً، أو فعلت محرماً من المحرمات من غير استحلال له، كأن تصر على التعامل بالربا، وتمتنع من تركه جشعاً، وكان لهذه الجماعة شوكة ومنعة فقد اختلف أهل العلم في كفر هذه الجماعة، ورجح بعض المحققين ردتهم، لقتال الصحابة لمانعي الزكاة، وتسميتهم لهم بأهل الردة. ينظر الروايتين والوجهين: أول الزكاة 1/221، المغني: أول الزكاة 4/9،8، مجموع الفتاوى 28/519،548-551، و35/57، والشرح الكبير والإنصاف: إخراج الزكاة 7/147-150، الدرر السنية 10/175-178. "1" من الاستهزاء بالفعل: الإشارة باليد، أو اللسان، أو الشفة، أو العين، أو غيرها مما يدل على الاستهزاء والاستهانة، ومنه إهانة الشيء بوضعه في القاذورات، أو بوضع القدم عليه، أو الجلوس عليه ونحو ذلك، ومنه أن يضرب أو يقتل أو يحارب مسلماً، أو جماعة من المسلمين من إجل إسلامهم،، أو من أجل التزامهم بأحكام الإسلام وتطبيقهم لشرع الله، فإن هذا من أعظم الاستهزاء بدين الله تعالى، وهو أعظم من السبّ، ويدلّ على كرهه لدين الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 نقص، أو يسب الله تعالى "1"، أو يسب دين الله تعالى كأن يلعن هذا الدين، أو يلعن دين شخص مسلم، أو يقول: إن هذا الدين متخلف، أو رجعي، أو لا يناسب هذا العصر، أو يستهزئ بملائكة الله تعالى، أو بواحد منهم: كأن يسب ملك الموت، أو خزنة جهنم"2"، أو يستهزئ أو يسب شيئاً من كتب الله، كأن يسب القرآن، أو يستهزئ به أو بآية منه بالقول، أو بالفعل بأن يهينه بوضعه في القاذورات"3" ونحو ذلك، أو يسب أحداً من أنبياء الله المجمع على نبوتهم أو يستهزئ بهم، كأن يسب النبي صلى الله عليه وسلم أو يستهزئ به، أو يستهزئ بشيء مما ثبت في القرآن أو السنة من الواجبات أو السنن، كأن يستهزئ بالصلاة، أو يستهزئ بالسواك، أو بتوفير اللحية"4"، أو بتقصير الثوب إلى نصف   "1" وذلك كأن يتهم الله تعالى بالظلم، أو يلعن خالقه ورازقه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. "2" وكأن يستهزئ بأجنحة الملائكة أو بنزولهم. "3" قال أبوالبقاء الحنفي في الكليات "ص764":"والفعل الموجب للكفر هو الذي يصدر عن تعمد، ويكون الاستهزاء صريحاً بالدين، كالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات". وينظر منهاج الطالبين مع شرحه مغني المحتاج 4/136، ونهاية المحتاج 7/416، وقواطع الإسلام ص22. "4" جاء في فتاوى اللجنة الدائمة 2/25 ما نصه:"إنْ قصد القائل بقوله "يا دقن" السخرية فذلك كفر، وإن قصد التعريف فليس بكفر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الساقين مع علمه بأن ذلك كله من دين الله تعالى، أو يستهزئ بشخص لتطبيقه واجباً أو سنة ثابتة يعلم بثبوتها، وأنها من دين الله، وكان استهزاؤه بكل هذه الأمور من أجل مجرد فعل هذا الحكم الشرعي، لا من أجل شكل الشخص وهيئته. وقد أجمع أهل العلم على كفر من سبّ أو استهزأ بشيء مما ثبت أنه من دين الله تعالى، سواء أكان هازلاً أم لاعباً أم مجاملاً لكافر أو غيره، أم في حال مشاجرة، أم في حال غضب"1"، أم غير ذلك"2".   "1" ومن الكفر في حال الغضب – والمراد الغضب الذي لا يُفقد المكلف عقله – أن يعلق كفره على أمر مستقبل، وإن كان هذا التعليق في غير حال الغضب، فهو كفر من باب أولى؛ لأنه يدل على استهزائه واستخفافه بدين الإسلام. وينظر روضة الطالبين 10/65، والإعلام بقواطع الإسلام ص18. "2" حكى ابن حزم في المحلى الإجماع على كفر من سب الله تعالى، وقد سبق نقل كلامه عند تعريف الكفر في الاصطلاح، وذكر في المحلى أيضاً في الصلاة 2/243 أن من فسق النبي صلى الله عليه وسلم ارتد عن الإسلام بلا خلاف بين أحد من المسلمين. وحكى القاضي عياض في الشفا 2/549،546،491 الإجماع على كفر من سب الله تعالى، أو سبّ أحداً من الملائكة، أو نبياً من الأنبياء المتفق عليهم، أو استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء من المصحف، أو استهزأ بشيء منهما. وذكر في المرجع نفسه 2/394 أنه قد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على قتل وتكفير من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقصه، ثم نقل حكاية الإمام محمد بن سحنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ...............................................................................   المالكي المتوفى سنة "265هـ" الإجماع على كفر من سب النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع على قتله، ونقل 2/395،393 حكاية ابن المنذر والخطابي الإجماع على قتله. وقال ابن العربي المالكي في أحكام القرآن 2/976:"الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة". وقال شيخ الإسلام في الصارم المسلول على شاتم الرسول ص4 بعد نقله حكاية الإجماع عن من سبق ذكرهم، قال:"وتحرير القول فيه: أن السابّ إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف..". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً في المرجع السابق: المسألة الرابعة ص512:"إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل"، ثم نقل عن بعض العلماء حكاية الإجماع على ذلك، وبيّن غلط من نقل خلافاً في ذلك، وما وجه به القاضي عياض ما نقل عن بعضهم في ذلك، ثم بيّن في ص516 أنه لا ينبغي أن يظن ظان أن في المسألة خلافاً، وبيّن أنه لا يستطع أحد أن يحكي ذلك عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى، ثم قال "ص527":"فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف علىأن التنقص له كفر مبيح للدم". وقال شيخ الإسلام أيضاً في مجموع الفتاوى 8/425:"اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله إهانة له أنه كافر مباح الدم". وينظر الصفدية 2/311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 .................................................................   وقال ابن أمير الحاج الحنفي في التقرير والتحبير 2/267:"وهو – أي التكلم بالكفر هزلاً – كفر بالنص والإجماع".اه. ملخصاً. وقال المرداوي في الإنصاف 27/108: "من أشرك بالله ... أو سب الله أو رسوله كفر بلا نزاع في الجملة". وقال ابن نجيم في البحر الرائق 5/134:"من تكلم بكلمة الكفر هازلاً أو لاعباً كفر عند الكل". ونقل ابن حجر المكي في قواطع الإسلام ص62 عن بعض علماء الحنفية حكاية الاتفاق على كفر من سخر بالشريعة أو بحكم منها، وأقره على ذلك. وذكر ابن العطار تلميذ النووي في آخر كتابه"الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد"ص47: أن أباحنيفة قال بكفر من قال قولاً فيه استهانة بالدين، وأنه لم يخالفه أحد من المسلمين. وذكر الألوسي في روح المعاني 10/131 أنه لا خلاف بين الأئمة أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في التيسير، باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول ص553:"من استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعاً"، وينظر إبطال التنديد ص246. وقال شيخنا عبد العزيز بن باز كما فتاويه "جمع د. الطيار ص525":"سب الدين والرب جل وعلا كل ذلك من أعظم أنواع الكفر بإجماع أهل العلم"، وحكى أيضاً ص527 إجماع العلماء على كفر من سب أو تنقص أو استهزأ بالله أو برسوله صلى الله عليه وسلم أوسب أحداً من رسل الله أو سب الإسلام. وينظر فتح الباري: استتابة المرتدين 12/281، الدرر السنية 2/361،360،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وذلك لأن الله تعالى قد حكم بكفر من استهزأ بالله تعالى وبآياته وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنهم كما قالوا كانوا يلعبون ويقطعون الطريق بذلك"1"، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ*لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} "2" [التوبة:66،65] ؛ ولأن من فعل ذلك   و10/114، والإرشاد للشيخ الدكتور صالح الفوزان ص79، والاستهزاء بالدين له أيضاً، والتبيان شرح نواقض الإسلام ص50-53، والقول المبين في حكم الاستهزاء بالمؤمنين. "1" رواه ابن وهب كما في تفسير ابن كثير، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره "10047"، وابن جرير في تفسيره "16912" بإسناد حسن، رجاله رجال مسلم. ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره "10046-10049، 10402،10401"، وابن جرير في تفسيره "16913-16916" من طرق أخرى متصلة ومرسلة. "2" قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/204 بعد ذكره لهذه الآية:"نص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك: إني علمت أن في قلوبكم كفراً، بل جعلهم كفاراً بالاستهزاء نفسه، ومن ادعى غير هذا فقد قوّل الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى". وقال أيضاً 3/256،255:"صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى أو بملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء عليهم السلام أو بآية من القرآن أو بفريضة من فرائض الدين – فهي كلها آيات الله تعالى – بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر". وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 7/273 في تفسير هذه الآية:"فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 فهو مستخف بالربوبية والرسالة ومستخف بعموم دين الله تعالى غير معظِّم لذلك كله، وهذا مناف للإيمان والإسلام"1". النوع الخامس: كفر البغض: وهو أن يكره دين الإسلام. فقد أجمع أهل العلم على أن من أبغض دين الله تعالى كفر"2"،   وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد ص559:"إن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيماناً قبل أن يقولوا ما قالوه". وينظر فتح المجيد ص516، وأعلام السنة المنشورة ص184،183، وفتاوى اللجنة الدائمة 2/2-14، 24-26. "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/558:"القلب إذا كان معتقداً صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله، وكان محباً لرسول الله معظماً له، امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه، فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته، فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيماناً إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب". وقال أيضاً كما في شرح الأصفهانية ص181:"الظاهر دليل على إيمان القلب ثبوتاً وانتفاء"، وينظر مجموع الفتاوى 7/616، والصارم المسلول ص524،519. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في التيسير ص554:"وهل يجتمع الإيمان بالله وكتابه ورسوله والاستهزاء بذلك في قلب؟ بل ذلك عين الكفر، لذلك كان الجواب مع ما قبله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ". "2" حكى شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 20/97، وكما في الإقناع "مطبوع مع شرحه كشاف القناع 6/168" الإجماع على أن من أبغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 لقوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد:9] ، ولأنه حينئذٍ يكون غير معظم لهذا الدين"1"، بل إن في   وينظر الفصل 3/257، مجموع الفتاوى 7/52،51، البحر الرائق 5/130، الزواجر "الكبيرة 55،54". "1" فإن من تعظيم هذه الدين محبته، وقد سبق في أركان العبادة أن أهم أركانها"المحبة"فمن لم يحب هذا الدين فقد أخل بهذا الركن العظيم، فكيف إذا أبغضه، وكذلك سبق في شروط"لا إله إلا الله"أن من شروطها محبة هذه الكلمة ومحبة ما دلت عليه، فمن لم يحب ما اقتضته فقد أخل بهذا الشرط، فكيف إذا كرهه. وينظر مجموع الفتاوى 14/107-109، والصارم المسلول ص524. وقال شيخ الإسلام في رسالة المحبة ص104:"إذا كان أصل الإيمان صحيحاً، وهو التصديق، فإن هذه المحرمات يفعلها المؤمن مع كراهته وبغضه لها، فهو إذا فعلها لغلبة الشهوة عليه، فلابد أن يكون مع فعلها فيه بغض لها، وفيه خوف من عقاب الله عليها، وفيه رجاء لأن يخلص من عقابها، إما بتوبة، وإما حسنات، وإما عفو، وإما دون ذلك، وإلا فإذا لم يبغضها، ولم يخف الله فيها، ولم يرج رحمته، فهذا لا يكون مؤمناً بحال، بل هو كافر أو منافق". وقال أيضاً في المرجع نفسه ص194،193:"لم يتنازع العلماء في أن الرضا بما أمر الله به ورسوله واجب محبب، لا يجوز كراهة ذلك وسخطه، وأن محبة ذلك واجبة، بحيث يبغض ما أبغضه الله، ويسخط ما أسخطه الله من المحظور، ويحب ما أحبه، ويرضى ما رضيه الله من المأمور. وإنما تنازعوا في الرضا بما يقدره الحق من الألم بالمرض والفقر. فقيل: هو واجب. وقيل: هو مستحب. وهو أرجح، والقولان في أصحاب الإمام أحمد وغيرهم، وأما الصبر على ذلك فلا نزاع أنه واجب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 قلبه عداوة له، وهذا كله كفر"1".   "1" وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن من كره شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كفر. ينظر مجموعة التوحيد 1/38، الدرر السنية 2/360، 361. وعلى هذا القول فمن كره شيئاً مما أجمع أهل العلم عليه أو مما يعلم هو أنه من دين الله تعالى كفر، وقد سبق ذكر أمثلة لذلك عند الكلام على كفر الجحود وكفر السب والاستهزاء. وقال بعض أهل العلم: إن من كره حكماً شرعياً واحد لا يكفر، وأنه لا يكفر حتى يكره الدين كاملاً، وقد مال إلى هذا القول شيخنا عبد الرحمن بن ناصر البراك، وقال: إن الآية السابقة واردة في شأن الكافرين الذين لم يدخلوا في الإسلام، والكافر يكره دين الله كله، وقد ذكر الله تعالى فيها حبوط أعمال من كره جميع ما أنزل الله، لأن «ما» عامة، وليس في المسألة دليل آخر يمكن أن يستدل به على كفر من كره حكماً شرعياً واحداً. ومما يمكن أن يستدل به لهذا القول: ما ثبت من أن عمر رضي الله عنه كره حكم النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وقد قال عمر عن موقفه في ذلك اليوم: «رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر النبي صلى الله عليه وسلم لرددته» ، فقد كره عمر رضي الله عنه حكم النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:" إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً "، بل إن ظاهر حال الصحابة في ذلك اليوم أنهم كرهوا هذا الصلح، ولهذا لم يمتثلوا أمره صلى الله عليه وسلم بالحلق في أول الأمر، والأحاديث في مواقفهم في هذا اليوم ثابتة في صحيح البخاري "2731، 3181، 3182"، وصحيح مسلم "1785، 1786"، ومما يمكن أن يستدل به لهذا القول أيضاً ما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلام ثقيف مع أنها اشترطت عليه أن لا صدقة عليها ولا جهاد. والحديث رواه أبوداود "3025" بإسناد حسن، فظاهر حالهم أنهم دخلوا في الإسلام مع كراهتهم لهذين الحكمين. ومما يمكن أن يستدل به لهذا القول كذلك: أن مجرد فعل بعض المعاصي يحمل العاصي شاء أم لم يشأ على بغض بعض الطاعات، فمثلاً الواقع في شرب الخمر أو في الزنى المسرف على نفسه في فعلهما يكره أن يطبق شرع الله في بلده حتى لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 .....................................................................................   يُمنع من هذه المعاصي، ويكره أن يلتزم من حوله بشرع الله فيمنعونه من فعلهما، كما يكره المحتسبين في منعهما، ومع ذلك فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن مجرد فعلهما لا يخرج العبد من ملة الإسلام، فدلَّ ذلك على أن كره بعض الطاعات التي هي من دين الله تعالى ليس مكفراً. وعلى وجه العموم فالمسألة تحتاج إلى مزيد عناية وتتبع للأدلة الواردة في هذه المسألة. وعلى كلا القولين فلا يدخل في هذا النوع أن يكره المسلم فعل واجب لمشقته عليه، أو أن يكره ترك محرم لمحبته لفعله، فإن هذا كره للفعل أو للترك، ولم يكره أن الله أوجب الواجب أو حرم الحرام، فهو كره أن يفعل هذا الواجب أو أن يترك هذا المحرم لا غير، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] أي تكرهونه من حيث الطبع لما فيه من المشقة عليكم، فيكره المسلم أن يفعله بنفسه لما فيه من المشقة، من تعريض النفس للهلاك وغير ذلك من المشاق، ولكن لا يكره أن الله شرعه، بل يحب ذلك ويرضى به ويعلم أن الخير للأمة في وجوب الجهاد، وأنه ذروة سنام الإسلام. فحال المسلم مع هذا الحكم وأمثاله كحال المريض الذي وصف له الطبيب علاجاً ودواءً فيه مشقة عليه، كأن يصف له شراباً كريه المذاق، أو ينصحه بإجراء عملية جراحية فيها ألم ومشقة، فهو يكره هذا الدواء، لكنه راض عن وصف الطبيب له هذا العلاج، فيكره نفسه عليه، وقد يضعف عن تحمله فيتركه، مع معرفته أن فيه شفاءه، واعترافه بأن فيه نفع له لما يعلم من مهارة هذا الطبيب ونصحه له، وبهذا يجمع بين محبته للمعصية أو كرهه للطاعة طبعاً، وبين رضاه بتقدير الله تعالى وشرعه ومحبته له. ينظر تفسيري البغوي والقرطبي للآية "216" من سورة البقرة، والمفردات ص429، ومدارج السالكين 2/183،182، والنواقض الاعتقادية 2/177-179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 النوع السادس: كفر الإعراض: ورد ذكر الإعراض في كتاب الله تعالى في آيات كثيرة، وأصل الإعراض هو: التولي عن الشيء، والصدود عنه، وعدم المبالاة به. والإعراض عن دين الله تعالى قسمان: القسم الأول: الإعراض المكفر: وهو أن يترك المرء دين الله ويتولى عنه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو يتركه بجوارحه مع تصديقه بقلبه ونطقه بالشهادتين. وهذا القسم له ثلاث صور، هي: 1- الإعراض عن الاستماع لأوامر الله عز وجل، كحال الكفار الذين هم باقون على أديانهم المحرفة أو الذين لا دين لهم، ولم يبحثوا عن الدين الحق مع قيام الحجة عليهم، فهم أعرضوا عن تعلم ومعرفة أصل الدين الذي يكون به المرء مسلماً، فهم يمكنهم معرفة الدين الحق والسير عليه، ولكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك، ولم يرفعوا به رأساً. 2- الإعراض عن الانقياد لدين الله الحق وعن أوامر الله تعالى بعد استماعها ومعرفتها، وذلك بعدم قبولها فيترك ما هو شرط في صحة الإيمان، وهذا كحال الكفار الذين دعاهم الأنبياء وغيرهم من الدعاة إلى الدين الحق، أو عرفوا الحق بأنفسهم، فلم يسلموا، وبقوا على كفرهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3] . 3 - الإعراض عن العمل بجميع أحكام الإسلام وفرائضه بعد إقراره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 بقلبه بأركان الإيمان ونطقه بالشهادتين. فمن ترك جنس العمل بأحكام الإسلام، فلم يفعل شيئاً من الواجبات، لا صلاة ولا صياماً ولا زكاةً ولا حجاً ولا غيرها، فهو كافر كفراً أكبر"1" بإجماع السلف"2"، لقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ   "1" قال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله كما في"السنة"لعبد الله بن أحمد: الإيمان والرد على المرجئة، رقم "745":"ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر، وبيان ذلك في أمر آدم - صلوات الله عليه – وإبليس وعلماء اليهود، أما آدم فسُمِّي عاصياً من غير كفر، وأما إبليس لعنه الله فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمداً، فسُمِّي كافراً، وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم،وأقروا به باللسان ولم يتبعوا شريعته فسمّاهم الله عز وجل كفاراً، فركوب المحارم مثل ذنب آدم – عليه السلام – وغيره من الأنبياء – عليهم السلام -، وأما ترك الفرائض جحوداً فهو كفر مثل كفر إبليس لعنه الله، وتركهم على معرفة من غير جحود فهو كفر، مثل كفر علماء اليهود". انتهى كلامه مختصراً. وقال الإمام الشوكاني في رسالة: إرشاد السائل إلى دلائل المسائل "مطبوعة ضمن الرسائل السلفية ص43":"السؤال الثاني: ما حكم الأعراب سكان البادية الذين لا يفعلون شيئاً من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادة، هل هم كفار أم لا؟ وهل على المسلمين غزوهم أم لا؟ أقول: من كان تاركاً لأركان الإسلام وجميع فرائضه ورافضاً لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال، ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر حلال الدم..". "2" قال الإمام الشافعي كما في كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص197:"وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم، يقولون: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] "1"، ولقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة:22] ، ولآيات أخرى كثيرة تدل على كفر عموم المعرضين، ولأن تركه لجميع الأعمال الظاهرة دليل على خلو باطنه من الإيمان والتصديق الجازم"2".   الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزي واحد من الثلاثة إلا بالآخر". وقد حكى الشيخ سليمان بن سحمان الإجماع على هذا الكفر كما في الدرر السنية 2/362،360. وقال الدكتور محمد الوهيبي في رسالة نواقض الإيمان الاعتقادية 2/140 عند كلامه على حكم تارك أركان الإسلام الأربعة بعد الشهاديتين، بعد ذكره لإجماع السلف على كفر تارك جنس العمل:"إن قول السلف في مسألة ترك جنس العمل يختلف عن قولهم في مسألة ترك الأركان، فالأول أمر لم يخالف فيه منهم أحد – أي في كفر تارك جنس العمل – لأنه مقتضى إجماعهم على حقيقة الإيمان، وأنه قول وعمل، أما الثاني فهو من مسائل الاجتهاد ... ". "1" قال البيضاوي في تفسيره 1/156:"وإنما لم يقل: "لا يحبهم" لقصد العموم والدلالة على أن التولي عن الطاعة كفر، وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله، وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين". وقال أبوالسعود في تفسيره 1/466:"وإيثار الإظهار على الإضمار لتعميم الحكم لكل الكفرة والإشعار بعلته، فإن سخطه عليهم بسبب كفرهم، والإيذان بأن التولي عن الطاعة كفر". "2" فتركه لجنس العمل بأحكام الإسلام بجوارحه دليل على أن ما ادعاه من إقراره بقلبه بأركان الإيمان غير صحيح، إذ لو كان مؤمناً حقاً بوجوب عبادة الله دون سواه لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 القسم الثاني: الإعراض غير المكفر: وهو أن يترك المسلم بعض الواجبات الشرعية غير الصلاة"1"، ويؤدي بعضها.   أعرض بجوارحه عن عبادة الله وطاعته كلية، ولو كان مؤمناً حقاً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله تجب طاعته لما عصاه في كل ما جاء به وأمر به من الأعمال الظاهرة. قال أبوطالب المكي كما في الإيمان لشيخ الإسلام ص318:"من كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/611 بعد ذكره أن الإيمان القلبي يمتنع أن يكون موجوداً مع بقاء الإنسان دهراً لا يؤدي أي واجب من الواجبات، قال:"ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع عن السجود الكفار، كقوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} ". ومعنى "سالمون": ممتنعون عن الصلاة مع قدرتهم على أدائها. وينظر في هذا النوع من أنواع الكفر أيضاً مجموع الفتاوى 7/645،621، و18/272، مدارج السالكين 1/367،366، النواقض العملية ص44،43،26، 86-88، 344-357، النواقض الاعتقادية 2/121-139، وينظر الشرط الرابع من شروط"لا إله إلا الله". وينظر ما يأتي في النفاق –إن شاء الله-. "1" أما ترك الصلوات الخمس فإن تركها المسلم جحداً لفرضيتها كفر إجماعاً، وكذلك لو تركها وأصر على تركها بعد تهديده بالقتل إن استمر على تركها، فتركها حتى قتل، فهذا مرتد أيضاً، لأن إصراره على تركها حتى يقتل دليل على كفره في الباطن وأنه جاحد لوجوب الصلاة، أو دليل على أنه تركها إباءً واستكباراً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ...........................................................................   وكلاهما كفر. أما إن تركها المسلم كسلاً وتهاوناً فقد وردت نصوص شرعية كثيرة فيها الحكم بكفره، منها ما رواه مسلم "82" عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ". وقد ثبت عن جماعة من الصحابة الجزم بكفره وأنه لا حظ له في الإسلام، وحكى بعض أهل العلم الإجماع على ذلك: قال المروزي في تعظيم قدر الصلاة ص925:"ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة – رضي الله عنهم – مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك". ثم روى المروزي "978" بإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيحين عن التابعي الجليل أيوب السختياني أنه قال:"ترك الصلاة كفر لا يختلفون فيه". وصححه الألباني في صحيح الترغيب "547"، وقال المروزي أيضاً "990":"سمعت إسحاق يقول: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا". وذكر ابن حزم في المحلى 2/242 أن هذا قول عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم، وذكر أنه لا يعلم لهم مخالفاً من الصحابة. وقال الحافظ ابن القيم في كتاب"الصلاة وحكم تاركها"ص50:"فصل دلالة الإجماع على كفر تارك الصلاة. وأما إجماع الصحابة ... "ثم ذكر قول عمر بعدما طعن:"لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة"، ثم قال:"قال هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 النوع السابع: كفر النفاق: وهو أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر. فالنفاق كفر، ولكنه يزيد عليه بإظهار الإسلام. وسيأتي الكلام على هذا النوع مفصلاً في الفصل الثالث - إن شاء الله -. النوع الثامن: الكفر بموالاة الكافرين: موالاة الكفار تنقسم إلى قسمين: 1- ولاء كفري. 2- ولاء غير كفري. وسيأتي الكلام على صور هذين القسمين في باب مستقل عند الكلام على الولاء والبراء – إن شاء الله تعالى-.   بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه عليه، وقد تقدم مثل ذلك عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، ولا يعلم عن صحابي خلافهم". وهذا قول أكثر علماء الحديث، وذهب بعض أهل الحديث وبعض متأخري الفقهاء إلى أنه كافر كفراً أصغر. ينظر: تعظيم قدر الصلاة، باب ذكر إكفار تارك الصلاة ص873-1017، الجامع للخلال ص300 وما بعدها، التمهيد 4/224-242، شرح اعتقاد أهل السنة 4/829،825، شرح السنة 2/197، مجموع الفتاوى 20/97، كتاب الصلاة لابن القيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 خاتمة فصل الكفر الأكبر: بعد أن بيَّنتُ تعريف الكفر الأكبر وحكمه وأنواعه أحببت التنبيه إلى مسألة مهمة، وهي: أن المسلم قد يقع في بعض أنواع الكفر الأكبر أو الشرك الأكبر والتي قال أهل العلم: "من فعلها فقد كفر "، ولكن قد لا يحكم على هذا المسلم المعيَّن بالكفر، وذلك لفقد شرط من شروط الحكم عليه بالكفر"1"،   "1" فيشترط للحكم بالكفر أن يكون الواقع في الكفر عالماً عامداً، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم: ينظر البحر الرائق 5/134، إعلام الموقعين: فصل اعتبار النيات 3/62. وقال شيخنا محمد بن عثيمين كما في مجموع فتاويه "جمع فهد السليمان 2/126،125": للحكم بتكفير المسلم شرطان: أحدهما: أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء كفر، الثاني: انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له، فإن كان جاهلاً لم يكفر لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] ، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115] ، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] . لكن إن فرط بترك التعلم والتبين لم يعذر، مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت، ولا يبحث فإنه لا يكون معذوراً حينئذ وإن كان غير قاصد لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك ... لكن من عمل شيئاً مكفراً مازحاً فإنه يكفر لأنه قصد ذلك، كما نص عليه أهل العلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 أو لوجود مانع من ذلك"1"، كأن يكون جاهلاً"2"، كما في قصة الذي أمر أولاده إذا مات أن يحرِّقوه ثم يذروا رماده في يوم شديد الريح في   "1" وذلك كأن يكون مكرهاً، أو جاهلاً جهلاً يعذر مثله به، كحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة عن العلم وأهله ونحو ذلك، أو يكون مخطئاً بسبق لسان أو اجتهاد أو غيرهما، أو يكون ناسياً، أو حاكياً لقول غيره لتعليم أو شهادة أو غيرهما. وقد أجمع أهل العلم على أن من وقع في الكفر ناسياً أو مكرهاً أو مخطئاً أنه لا يكفر. ينظر تفسير القرطبي "تفسير الآية الأخيرة من البقرة 3/432"، إيثار الحق لابن الوزير ص397،395، البحر الرائق لابن نجيم 5/134. أما الخوف الذي لم يصحبه إكراه: فقيل: إنه ليس عذراً، وقيل: إنه عذر، والأقرب أنه إن كان هناك خوف شديد يقرب من الإكراه، كان عذراً، وإلا فلا، ينظر تعظيم قدر الصلاة ص930، شرح المنهج لزكريا الأنصاري مع حاشيته للجمل 5/122،121 رسالة"حكم موالاة أهل الإشراك": الدليل الرابع عشر. "2" ينظر في مانع الجهل: الفصل 3/249، المغني: الردة 12/277، الشفا 2/530،529،524،523، الإعلام بقواطع الإسلام ص52، رسالة الجهل بمسائل الاعتقاد لعبد الرحمن معاش، ورسالة"ضوابط التكفير عند أهل السنة"للدكتور عبد الله القرني، ورسالة"منهج ابن تيمية في التكفير"1/251-260، وينظر فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع د. الطيار ص529،528" فقد فصّل في المسألة، وذكر أن الجهل قسمان: الأول: جهل من نشأ بين المسلمين فهذا لا يعذر في عبادة غير الله من الأصنام والأموات لإعراضه عن السؤال. والثاني: من يعذر بالجهل، كالذي نشأ في بلاد بعيدة عن الإسلام، وكأهل الفترة، ثم قال:"فهؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 البحر وقال: «والله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذب به أحداً» ، فغفر الله له"1"، فهو قد شك في قدرة الله على إعادة خلقه، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، ومع ذلك غفر الله له لجهله وخوفه من ربه"2".   معذورون بجهلهم، وأمرهم إلى الله عز وجل، والصحيح أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيؤمرون، فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، ولأحاديث صحيحة وردت في ذلك". وينظر فتاوى الشيخ ابن عثيمين "جمع فهد السليمان 2/124-138" ففيها تفصيل جيد. "1" رواه البخاري في الأنبياء "3481،3478"، ومسلم في التوبة "2757،2756" من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي سعيد، ورواه البخاري "3479" من حديث حذيفة. وقد ذكر ابن الوزير في إيثار الحق ص394 أن هذا الحديث متواتر. "2" قال أبومحمد ابن حزم في الفصل 3/252:"فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره، وخوفه، وجهله". وقد ذكر ابن حزم في الفصل 3/251-253 أيضاً ثلاثة أدلة أخرى لهذا المانع: أولها: قبول النبي صلى الله عليه وسلم إسلام كل من أسلم مع أنه جاهل بأكثر مسائل أصول الدين. والثاني: قول الحواريين {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} قال:"ولم يبطل بذلك إيمانهم". والثالث: أن من قرأ القرآن فأخطأ جهلاً لا يكفر. وينظر تأويل مختلف الحديث ص81، وإيثار الحق ص394، وينظر أيضاً رسالة منهج ابن تيمية في التكفير 1/243-249، فقد نقل مؤلفها عن شيخ الإسلام في هذا تسعة أدلة قوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ومن موانع التكفير للمعيَّن أيضاً: التأويل، وهو: أن يرتكب المسلم أمراً كفرياً معتقداً مشروعيته أو إباحته له لدليل يرى صحته أو لأمر يراه عذراً له في ذل وهو مخطئ في ذلك كله. فإذا أنكر المسلم أمراً معلوماً من الدين بالضرورة مثلاً، أو فعل ما يدل على إنكاره لذلك، وكان عنده شبهة تأويل، فإنه يعذر بذلك ولو كانت هذه الشبهة ضعيفة إذا كان هذا التأويل سائغاً في لغة العرب وله وجه في العلم، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل السنة"1".   "1" قال الإمام الشافعي في"الأم": الأقضية 6/205:"لم نعلم أحداً من سلف هذه الأمة يقتدى به ولا من التابعين بعدهم ردّ شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله، ورآه استحل فيه ما حرم عليه، ولا رد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال أو المفرط من القول". وقال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/247:"وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة – رضي الله عنهم –لا نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً، إلا ما ذكرنا من اختلافهم في تكفير من ترك صلاة متعمداً حتى خرج وقتها ... ". وينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 5/563، منهاج السنة 5/239، الإرشاد للسعدي ص207. وقال الحافظ في الفتح: استتابة المرتدين. باب ما جاء في المتأولين 12/304:"قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس يأثم إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم". وقال الشيخ محمد بن عثيمين كما في المجموع الثمين 2/63:"النوع الثاني – أي من أنواع الجحود -: إنكار تأويل، وهو أن لا يجحدها، ولكن يؤولها، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 .............................................................................   نوعان: الأول: أن يكون لهذا التأويل مسوغ في اللغة العربية، فهذا لا يوجب الكفر. الثاني: أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية، فهذا موجب للكفر؛ لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار تكذيباً، مثل أن يقول: ليس لله يد حقيقة، ولا بمعنى النعمة أو القوة فهذا كافر؛ لأنه نفاها نفياً مطلقاً، فهو مكذب حقيقة، ولو قال في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} المراد بيديه السماوات والأرض فهو كافر؛ لأنه لا يصح في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية، فهو منكر مكذب". ويشترط في هذه الشبهة ألا تكون في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده ووجوب طاعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو مدلول الشهادتين، كما يشترط عدم احتمال أن يكون مدعيها مكذباً ومستحلاً على الحقيقة، كحال المنافقين والزنادقة الذين يؤولون ما لا يمكن تأويله، كالذين يؤولون القيامة والجنة والنار بأمور أخرى، كما يشترط أن يكون ما تأوله غير معلوم له بالضرورة، بحيث يكون له فيه شبهة. وينظر في عذر التأويل أيضاً: المغني 12/276، الشفا 2/529،500، مجموع الفتاوى 20/263-268، إيثار الحق على الخلق ص393،377،376، وينظر رسالة"منهج ابن تيمية في التكفير"1/193-250، ورسالة ضوابط التكفير عند أهل السنة: ضابط الإعذار بالشبهة ص357-363 وتنظر مراجع عذر الجهل السابقة. وقال الدكتور محمد الوهيبي في النواقض الاعتقادية 2/27 بعد ذكره للتأويلات التي لا خلاف في عذر صاحبها:"وكذلك هناك تأويلات لا خلاف في عدم العذر بها، كتأويلات الباطنية والفلاسفة وغيرهم من الغلاة، وبين ذلك أصول تختلف الأنظار والاجتهاد في العذر بها من عدمه". وقال الدكتور عبد الله القرني في"ضوابط التكفير"ص357:"ولهذا أجمع علماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وعلى وجه العموم فعذر التأويل من أوسع موانع تكفير المعين. ولهذا ذكر بعض أهل العلم أنه إذا بلغ الدليلُ المتأوِّلَ فيما خالف فيه ولم يرجع وكان في مسألة يُحتَملُ وقوع الخطأ فيها، واحتمل بقاء الشبهة في قلب من أخطأ فيها لشبه أثيرت حولها أو لملابسات أحاطت بها في واقعة معينة أنه لا يحكم بكفره، لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] "1".   المسلمين على تكفير الباطنية من نصيرية ودروز وإسماعيلية ونحوهم، وأنهم لا يعذرون بالشبهة؛ لأن حقيقة مذاهبهم أنهم لا يعبدون الله، ولا يلتزمون بشرائع الإسلام، بل يؤولونها بما لا يمكن بحال أن يكون له وجه". وينظر مجموع الفتاوى 35/162،161، إيثار الحق ص377. وقد ألحق بعض أهل العلم بطوائف الباطنية السابقة الفرق التي تقدح في القرآن وتدّعي أنه محرف، أو أن أكثره مفقود ولا تعمل بأكثر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تقبلها؛ لأن الصحابة الذين رووها مرتدون في زعمهم. وينظر قول ابن القيم الآتي قريباً. "1" فمن حصلت له شبهة من جهة عدم الفهم فهو مخطئ معذور، وهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في حكم الظاهر، والحكم على المكلف إنما هو على ظاهره بإجماع أهل العلم، والله يتولى السرائر، ومن القواعد المقررة أن المؤاخذة والتأثيم لا تكون على مجرد المخالفة، ما لم يتحقق القصد إليها، والمتأول في حقيقته مخطئ غير متعمد للمخالفة في الظاهر، بل هو يدّعي أنه على الحق، ويصرح بأنه يعتقد ذلك، فيعذر من أجله، فلا يحكم بكفره. ينظر الفصل 3/285، مجموع الفتاوى 7/472، و23/346، إيثار الحق ص376-406، فتح الباري: استتابة المرتدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ولذلك لم يكِفّر بعض العلماء بعض المعينين من الجهمية"1" الذين   12/273، الإرشاد للسعدي ص209، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/74، ضوابط التكفير ص334،333، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه من أجل هذا لم يكفر عمر رضي الله عنه الذي شرب الخمر معتقداً حلها له؛ لأن لديه شبهة تأويل، مع أنها شبهة ضعيفة واجتهاد أخطأ فيه. والأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه "17076"، ومن طريقه البيهقي في سننه 8/316،315 بإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيحين، وله شواهد عند عبد الرزاق وغيره. ينظر: المصنف "17075"، والإصابة 3/220. وينظر الاستغاثة في الرد على البكري 1/282، 283. قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 3/299:"هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني: أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية والقولية والمسائل العملية". "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/508،507:"المحفوظ عن أحمد وغيره من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة وأمثال هؤلاء، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ولا كل من قال: إنه جهمي كفّره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 يعتقدون بعض الاعتقادات الكفرية في صفات الله تعالى"1". ومن أجل مانع التأويل أيضاً لم يكفر بعض العلماء بعض من يغلون في الموتى ويسألونهم الشفاعة عند الله تعالى"2".   من الأئمة". انتهى كلامه ملخصاً، وينظر أيضاً المرجع نفسه 12/484-501. وهذا الحكم لا يشمل غلاة الجهمية. قال الحافظ ابن القيم كما في الدرر السنية 10/374:"وأما غلاة الجهمية فكغلاة الرافضة، ليس للطائفتين في الإسلام نصيب، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: هم مباينون للملة". وينظر منهج ابن تيمية في التكفير 1/199،198. "1"قال شيخ الإسلام ابن تيمية في"الاستغاثة في الرد على البكري"1/383، 384بعد ذكره لقصة قدامة السابقة وبعد ذكره لحديث الرجل الذي أمر بإحراق جسده بعد موته، قال:"ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائمهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، وكان هذا خطابنا، فلهذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله". "2" قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كما في الدرر السنية 1/235، 236:"فما القول فيمن حرر الأدلة؟ واطلع على كلام الأئمة القدوة؟ واستمر مصراً على ذلك – أي على قول: يا رسول الله أسألك الشفاعة – حتى مات؟ قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر، ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطئ، وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على زمن المؤلفين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ومن أجل مانع التأويل كذلك لم يكفر الصحابة – رضي الله عنهم – الخوارج الذين خرجوا عليهم وحاربوهم، وخالفوا أموراً كثيرة مجمعاً عليها بين الصحابة إجماعاً قطعياً"1". وعلى وجه العموم فمسألة تكفير المعيَّن مسألة كبيرة من مسائل الاجتهاد التي تختلف فيها أنظار المجتهدين، وللعلماء فيها أقوال وتفصيلات ليس هذا موضع بسطها"2".   المذكورين: التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأساً، ومن اطلع عليه أعرض عنه، قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من شاء الله منهم ... ونحن كذلك: لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سريرته، وبلغ من نصحه الأمة، ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة، والتأليف فيها، وإن كان مخطئاً في هذه المسألة أوغيرها، كابن حجر الهيتمي، فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم، ولا ننكر سمة علمه، ولهذا نعتني بكتبه، كشرح الأربعين، والزواجر وغيرها، ونعتمد على نقله إذا نقل لأنه من جملة علماء المسلمين". قلت: والهيتمي ممن يرى مشروعية الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً. ينظر الجامع لألفاظ الكفر ص162. "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 5/95:"لم تكفِّر الصحابةُ الخوارجَ مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم". "2" ينظر أيضاً: الدرر السنية 1/520-525، مجموعة التوحيد 1/54، ضوابط التكفير، الباب الثالث: تكفير المعين، وينظر: رسالة «ضوابط تكفير المعين» فقد ذكرتُ فيها مراجع كثيرة لهذه المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ولهذا ينبغي للمسلم أن لا يتعجل في الحكم على الشخص المعين أو الجماعة المعينة بالكفر حتى يتأكد من وجود جميع شروط الحكم عليه بالكفر، وانتفاء جميع موانع التكفير في حقه"1"، وهذا يجعل مسألة تكفير المعين من مسائل الاجتهاد التي لا يحكم فيها بالكفر على شخص   "1" قال الإمام الشوكاني في السيل الجرار فصل: والردة باعتقاد أو فعل أو زي أو لفظ كفري 4/578:"اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما. هكذا في الصحيح، وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما: " من دعا رجلاً بالكفر، أوقال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه ". أي رجع، وفي لفظ في الصحيح: "فقد كفر أحدهما"، ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر، وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير". وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين كما في الدرر السنية 10/375،374:"وبالجملة: فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين.. وأيضاً: فما تنازع العلماء في كونه كفراً، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام، ما لم يكن في المسألة نص صريح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، وقد استزل الشيطان أكثرالناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أو جماعة أو غيرهم من المعيَّنين إلا أهل العلم الراسخون فيه، لأنه يحتاج إلى اجتهاد من وجهين: الأول: معرفة هل هذا القول أو الفعل الذي صدر من هذا المكلف مما يدخل في أنواع الكفر الأكبر أم لا؟ . والثاني: معرفة الحكم الصحيح الذي يحكم به على هذا المكلف، وهل وجدت جميع أسباب الحكم عليه بالكفر وانتفت جميع الموانع من تكفيره أم لا؟ "1". والحكم على المسلم بالكفر وهو لا يستحقه ذنب عظيم؛ لأنه حكم عليه بالخروج من ملة الإسلام، وأنه حلال الدم والمال، وحكم عليه بالخلود في النار إن مات على ذلك، ولذلك ورد الوعيد الشديد في شأن من يحكم على مسلم بالكفر، وهو ليس كذلك، فقد ثبت   على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم، ومن العجب: أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة، أو البيع ونحوهما، لم يفت بمجرد فهمه واستحسان عقله، بل يبحث عن كلام العلماء، ويفتي بما قالوه، فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم، الذي هو أعظم أمور الدين وأشدها خطراً، على مجرد فهمه واستحسانه؟ فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين! ومحنته من تينك البليتين!! ". "1" ينظر كلام الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين الذي سبق نقله قريباً، وكلام شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين الذي سبق نقله عند الكلام على شروط الحكم على المعين بالكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 عن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ""1". ولذلك كله فإنه يجب على المسلم الذي يريد لنفسه النجاة أن لا يتعجل في إصدار الحكم على أحد من المسلمين بالكفر أو الشرك. كما أنه يحرم على العامة وصغار طلاب العلم أن يحكموا بالكفر على مسلم معيَّن أو على جماعة معيَّنة من المسلمين أو على أُناس معينين من المسلمين ينتسبون إلى مذهب معيَّن دون الرجوع في ذلك إلى العلماء"2".   "1" رواه البخاري "6045"، ومسلم "61"، وله شواهد كثيرة. وقال ابن الوزير بعد ذكره لتواتر هذه الأحاديث وذكره ما يشهد لها قال في إيثار الحق ص385:"وفي مجموع ذلك ما يشهد لصحة التغليظ في تكفير المؤمن وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام وتجنبه للكبائر وظهور أمارات صدقه في تصديقه لأجل غلطة في بدعة لعل المكفر له لا يسلم من مثلها أو قريب منها، فإن العصمة مرتفعة، وحسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلاً ولا شرعاً، بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم والاستحسان لبدعتهم". وقال ابن دقيق العيد في إحكام الإحكام في آخر باب اللعان 4/76 عند شرحه لحديث أبي ذر السابق:"وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث، لما اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم". "2" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 35/100:"إن تسلط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 .............................................................................   والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين؛ لما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق؛ بل ولا يأثم؛ فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال: قد فعلت ". وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في رسالته التي وجهها لبعض المتسرعين في التكفير، بعد ذكره أنه قد أنكر على رجلين صنعا مثلما صنع هذا المتسرع، قال كما في الدرر السنية 1/467-469:"وأخبرتهم – أي هذين الرجلين – ببراءة الشيخ محمد – أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب – من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يُكفِّر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على خلقه، من العبادات والإلهية، وهذا: مُجمع عليه أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلَّدة، يفردون هذه المسألة بباب عظيم، يذكرون فيها حكمها،وما يوجب الردة، ويقتضيها، وينصون على الشرك، وقد أفرد ابن حجر، هذه المسألة، بكتاب سماه: الإعلام بقواطع الإسلام. وقد بلغنا: عنكم، نحو من هذا وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال، والهدايا، ونحو ذلك، من مقالة أهل الشرك بالله، والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة والتي لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله، وأوتي الحكمة، وفصل الخطاب. والكلام في هذا: يتوقف على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 كما أنه يجب على كل مسلم أن يجتنب مجالسة الذين يتكلمون في مسائل التكفير وهم ممن يحرم عليهم ذلك لقلة علمهم؛ لأن كلامهم في هذه المسائل من الخوض في آيات الله، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:68] "1".   معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها وأعرض عنها، وعن تفاصيلها، فإن الإجمال، والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن،قال ابن القيم: في كافيته - رحمه الله تعالى -: وعليك بالتفصيل والتبيين فالـ ... إطلاق والإجمال دون بيان قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ ... أذهان والآراء كل زمان". وينظر التعليق السابق. "1" ينظر: تفسير هذه الآية في تفاسير القرطبي والشوكاني والسعدي. وينظر: رسالة "ضوابط تكفير المعيَّن"فقد توسعتُ فيها في نقل أقوال أهل العلم في هذه المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 النفاق الأكبر (الاعتقادي) تعريفه وحكمه ... الفصل الثالث: النفاق الأكبر "الاعتقادي""1" وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريفه وحكمه: النفاق في اللغة: إخفاء الشيء وإغماضه"2".   "1" سُمي "اعتقادياً"لأنه في أصل الاعتقاد، ولذلك فهو مخرج من الملة، ولا يعترض على هذه التسمية بذكر أعمال المنافقين، كتوليهم للمشركين، وإعانتهم على المسلمين، لأن هذا ليس داخلاً في أصل النفاق، وإنما هو من أعمال المنافق التي يستدل بها على ما في قلبه من اعتقاد كفري كما سيأتي، ولهذا فهو لا يدخل في حد الكفر. أما النفاق الأصغر فهو "عملي"؛ لأنه في الأعمال الظاهرة، لا في أصل الاعتقاد، فهو عمل أعمالاً ظاهرها الصلاح، ولكنه قد أبطن ضد ذلك. وينظر: الإبانة 2/699، رقم "939"، كتاب الصلاة لابن القيم "ص59"، الدرر السنية 2/72. "2" قال في معجم مقاييس اللغة "مادة نفق": "النون والفاء والقاف أصلان صحيحان، يدل أحدهما على انقطاع شيء وذهابه، والآخر على إخفاء الشي وإغماضه، ومتى حصّل الكلام فيهما تقارباً، فالأول: نفقت الدابة نفوقاً: ماتت. والأصل الآخر: النّفق: سَرَب في الأرض له مخلص إلى مكان، والنافقاء: موضع يرققه اليربوع من جحره، فإذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه، فانفتق – أي خرج -. ومنه اشتقاق النفاق؛ لأن صاحبه يكتم خلاف ما يظهر، فكأن الإيمان يخرج منه، أو يخرج هو من الإيمان في خفاء، ويمكن أن الأصل في الباب واحد، وهو الخروج والمسلك النافذ الذي يمكن الخروج منه". انتهى مختصراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وفي الاصطلاح: أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه"1". وذلك بأن يكون في الظاهر أمام الناس يدّعي الإسلام، ويظهر لهم أنه مسلم، وربما يعمل أمامهم بعض العبادات كالصلاة والصيام والحج وغيرها، ولكن قلبه – والعياذ بالله – لا يؤمن بتفرد الله تعالى بالألوهية أو بالربوبية، أو لا يؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يبغضه، أو لا يؤمن بكتب الله المنزلة، أو لا يؤمن بعذاب القبر، أو لا يؤمن بالبعث، أو يعتقد أن دين النصارى أو دين اليهود أو دين غيرهم من الكفار حق أو خير من الإسلام، أو يعتقد أن الإسلام دين ناقص، أو لا يصلح للتطبيق في هذا العصر، أو يعتقد أن فيه ظلماً لبعض فئات المجتمع، أو فيه ظلم للنساء، أو أن بعض تشريعاته فيها ظلم، أو ليس فيها تحقيق لمصالح العباد، وغير ذلك من الاعتقادات المخرجة من الملة التي سبق ذكرها في الشرك الأكبر والكفر الأكبر. أما حكم المنافق فهو حكم المشرك شركاً أكبر وحكم الكافر كفراً   "1" جامع العلوم والحكم "شرح الحديث 48، ج2 ص481". وينظر الفصل 3/244، 245، شرح السنة 1/76، إحياء علوم الدين 3/319، مجموع الفتاوى 7/300، الفروع: المرتد 6/166، مدارج السالكين 1/376، 377. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 أكبر، كما سبق بيانه"1"؛ لأن المنافقين في الحقيقة كفار، وإن كانوا أسوأ حالاً من سائر الكفار، لأنهم زادوا على الكفر: الكذب والمرواغة والخداع، وضررهم على المسلمين أشدّ؛ لأنهم يندسون بين المسلمين ويظهرون أنهم منهم، ويحاربون الإسلام باسم الإصلاح، ولذلك فهم أشد عذاباً في الآخرة من سائر الكفّار، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] .   "1" ينظر ما سبق عند الكلام على حكم الشرك الأكبر في الفصل الأول من هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 المبحث الثاني: أعمال المنافقين الكفرية "2" للمنافقين أعمال كفرية يستدل بها على ما يبطنون من النفاق، وقد بينها الله تعالى في كتابه كما في سورة التوبة التي تسمى "الفاضحة"؛ لأن الله تعالى فضح فيها المنافقين ببيان أعمالهم الكفرية، كما بينها أيضاً في سور أخرى كثيرة، ومن هذه الأعمال: 1- الاستهزاء بالله وبرسوله وبالقرآن، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ   "2" ويطلق عليها بعض أهل العلم " صفات المنافقين "، وبعضهم يجعلها أنواعاً للنفاق الأكبر، وبعضهم يجعلها علامات للنفاق، وهي مسميات متقاربة، إلا أن جعلها أنواعاً للنفاق الأكبر فيه نظر، لأن الأكبر نوع واحد، وهو إخفاء الكفر وإظهار الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65، 66] ، وقال جل وعلا: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] . 2- سبُّ الله تعالى، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم أو تكذيبهما، قال الله تعالى عنهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] أي ومن المنافقين من يعيبك في تفريق الصدقات، فيتهمونك بعدم العدل. وأصل اللمز: الإشارة بالعين ونحوها. 3- الإعراض عن دين الإسلام، وعيبه، والعمل على إبعاد الناس عنه، وعلى عدم التحاكم إليه، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء: 61] . 4- التحاكم إلى الكفار، والحرص على تطبيق قوانينهم مفضلاً لها على حكم الله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] . 5- اعتقاد صحة المذاهب الهدَّامة والدعوة إليها مع معرفة حقيقتها، ومن هذه المذاهب ما جدَّ في هذا العصر من مذاهب هي في حقيقتها حرب للإسلام، ودعوة للاجتماع على غير هديه، كالقومية والوطنية، فكثير من المنافقين في هذا العصر ممن يسمون "علمانيين" أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 "حداثيين" أو "قوميين" يعرفون حقيقة هذه المذاهب، ويدعون إلى الاجتماع على هذه الروابط الجاهلية، ويدعون إلى نبذ رابطة الإيمان والإسلام التي ذكرها ربنا جل وعلا بقوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] "1". 6- مناصرة الكفار ومعاونتهم على المسلمين"2"؛ لأن المنافقين في حقيقتهم كفار فهم يناصرون إخوتهم من الكفار على المسلمين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 51، 52] "3".   "1" وذكرها أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضه بعضاً ". رواه البخاري "481" ومسلم "2585"، وبقوله صلى الله عليه وسلم: " مثل المسلمين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر "رواه البخاري "6011"، ومسلم "2586". وينظر: فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع الطيار ص536"، ورسالة "النفاق"للشيخ عبد الرحمن الدوسري ص119، 120. "2" ينظر تفصيل الإعانة الكفرية التي تدل على نفاق مَنْ قام بها ممن ينتسب إلى الإسلام عند الكلام على الموالاة الكفرية في الباب الرابع إن شاء الله تعالى. "3" قال إمام المفسرين أبوجعفر الطبري في تفسير هذه الآية: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله - تعالى ذكره - نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 7- إظهار الفرح والاستبشار عند انتصار الكفار، وعندما يصيب المسلمين هزيمة أو أي ضرر، قال الله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 119، 120] ، ولهذا تجد منهم في هذا العصر من لا يكترث لمصاب المسلمين في أي مكان، بل قد تسمع منهم أو تقرأ كلاماً لبعضهم في المجلات أو الجرائد ينهى عن مساعدة المسلمين في أي مكان وعن الوقوف معهم في مصائبهم، بحجة أنهم ليسوا عرباً أو ليسوا مواطنين مثلاً، فيدعون إلى التحزب على أساس القومية والوطنية فقط، ولا يرفعون رأساً لرابطة الإسلام، بل يحاربونها. 8- سب وعيب العلماء والمصلحين وجميع المؤمنين الصادقين، بغضاً لهم ولدعوتهم ولدينهم، قال الله تعالى عنهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] ، وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79] ، ولهذا تجد منهم في هذا العصر من يعيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 العلماء والمصلحين، ومن يعيب الدعاة والمجاهدين في وسائل الإعلام وغيرها. 9- مدح أهل الكفر، ومدح مفكريهم، ونشر آرائهم المخالفة للإسلام، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14] ، ولهذا تجد منهم في هذا العصر من يمدح بعض الملاحدة في القديم والحديث أمثال: "أبي العلاء المعري"، و "الحلاَّج" و "فرويد" وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 المبحث الثالث: صفات المنافقين للمنافقين صفات كثيرة جداً، ذكرها ربنا جل وعلا في كتابه وذكر بعضها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، ومن أبرزها: 1- قلة الطاعات، والتثاقل والكسل عند أداء العبادات الواجبة، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] "1".   "1" وفي صحيح البخاري "657"، وصحيح مسلم "651" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام … " الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 2- الجبن وشدة الخوف والهلع، وهذه الصفة من أهم الأسباب التي جعلتهم يخفون كفرهم ويظهرون الإسلام؛ لأنهم يخافون من القتل ومن أن تسلب أموالهم لكفرهم، وليس عندهم شجاعة فيقاتلون مع الكفار، فيلجأون إلى النفاق، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] ، فهُم لشدة خوفهم كلما سمعوا صياحاً ظنوه صياح نذير من عدو هجم عليهم، وقال جل وعلا: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [براءة:56، 57] ، فهم يتصفون بالفرق - وهو الخوف - فلو وجد أحدهم في حال القتال حصناً أو كهفاً في جبل أو نفقاً في الأرض يدخله ليختفي فيه لذهب إليه مسرعاً"1""2". 3 - السَّفَه، وضعف التفكير، وقلة العقل، قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ   "1" ينظر: تفسير ابن أبي حاتم وتفسير ابن كثير لهذه الآية. "2" وقال تعالى: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 21] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] ، ويتضح سفههم فيما يلي: أ- إيثارهم الدنيا الفانية على الآخرة، وحرصهم على حطام الدنيا أكثر من حرصهم على طاعة الله التي هي سبب لسعادتهم في الدنيا والآخرة، ففي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأن المنافقين الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة: " لو يعلم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً أو مرماتين حسنتين"1" لشهد العشاء والفجر ""2"، فهم معرضون عمَّا فيه نجاتهم، حريصون على ما لا يستفيدون منه إلا اليسير، وسيتركونه خلف ظهورهم، ولا يغني عنهم من عذاب الله شيئاً، كما قال تعالى في شأن المنافقين: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المجادلة:17] . ب- أن كثيراً منهم عنده القناعة بأن دين الإسلام هو الدين الحق وأن أحكامه كلها خير وعدل، ولكن بسبب مجالسته للكفار وانبهاره   "1" أي لو يعلم أحد من المنافقين المتكاسلين عن صلاة الجماعة أنه سيجد عند ذهابه إلى المسجد لأداء صلاة العشاء عَرْقاً سميناً – أي قطعة لحم، وقيل: عظم عليه قليل من اللحم – أو يعلم أنه يجد مرماتين حسنتين – وهما سهمان يلعب بهما – لحضر لصلاة العشاء لحرصه على الحقير من مطعوم أو ملعوب به، مع التفريط فيما يحصل به رضى الله وجنته. ينظر جامع الأصول 5/568، 569، الفتح 2/129، 130. "2" صحيح البخاري "644، 722" وأول الحديث كما في الرواية الأخرى: " أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر..". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 بحضارة الغرب المادية، أو بسبب مجالسته لمن انبهر بحضارتهم من المنافقين من علمانيين"1" وحداثيين وقوميين، ومن سماعه لكلامهم ولشبههم التي يثيرونها ضد تعاليم شرع خالقهم وقع في قلبه بغض هذا الدين، وأصبح يدعو إلى تقليد الكفار وتحكيم قوانينهم ويحارب شرع ربه ويعيبه، وهذا منتهى السفه؛ إذ كيف يعيب ويحارب ما يعلم أنه الحق؟ ! . ج- تلاعب الشيطان بهم حتى أوقعهم فيما هو سبب لهلاكهم وعذابهم في أزمان أبدية سرمدية، قال الله تعالى في شأن المنافقين: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] . د- أن المنافق يخادع خالقه الذي يعلم سره وعلانيته، ويحارب شرع ربه، غير مفكر في عاقبة أمره، وأنه غداً في قبره وحشره في قبضة ملائكة القوي العزيز، وأن أمامه عذاب في القبر، وعذاب في   "1" العلمانية بفتح العين، كلمة أعجمية، ظهرت في أوروبا منذ القرن التاسع عشر، وترجمتها الصحيحة: "اللادينية". وهي اصطلاح لا صلة له بالعلم، وهي تطلق على الدعوة إلى إقامة الحياة على القوانين الوضعية وزبالة الأذهان والعقول البشرية، ومحاربة شرع الله تعالى ودينه، وفصل الدين عن الدولة والحياة. ينظر: "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة" نشر الندوة العالمية للشباب الإسلامي "ص689-696". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 النار إن مات على نفاقه، وغير مفكر في مصير من سبقه من المنافقين قبل عشرات أو مئات السنين، كابن أبي سلول، وأبي العلاء المعري"1"، وجمال عبد الناصر"2"   "1" هو أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري، نسبة إلى معرة النعمان التي كان يسكنها، وكان شاعراً، له دواوين ومصنفات في الشعر واللغة، وكان ذكياً، ولم يكن زكياً، وله شعر في الاعتراض على الله تعالى، وفي سبّ أنبياء الله تعالى، ونسب إليه كتاب في معارضة القرآن، وهذا كله كفر وزندقة، فإن كان مات وهو لم يتب من زندقته توبة نصوحاً، فمصيره مصير المنافقين – والعياذ بالله -. وكانت وفاته سنة 449هـ. وينظر في ترجمته وأقواله: تاريخ بغداد 4/240، 241، سير أعلام النبلاء 18/23-39، البداية والنهاية 15/745-753، شذرات الذهب 5/209-212. "2" هو حاكم مصر من عام 1372هـ-1390هـ الموافق لعام 1952-1970م، وكان في أول أمره يظهر أنه من الدعاة إلى الله تعالى، فلما تولى الحكم لم يحكم بشرع الله تعالى، وكان يدعي أنه من المسلمين مع أنه كان يحارب شرع الله ويستهزئ به ويحارب الدعاة إلى الله، فإن كان مات على حاله فمصيره مصير المنافقين، ولكن الله أعلم بم ختم له به، وإن كان يغلب على الظن أنه مات على الكفر والنفاق؛ لأن حالته ووضعه كانا يتابعان من قبل وسائل الإعلام في بلده وغيرها إلى أن هلك، ولم يذكر عنه توبة، ولا شك أن في حاله وحال أمثاله من الطغاة والظلمة والمنافقين أعظم العظة والعبرة، فقد عاش سنوات معدودة وسيجازى على عمله في هذا الزمن القصير في قعر جهنم إن كان مات على النفاق في أزمان أبدية سرمدية، وهو الآن في قبره تحت التراب في قبضة ملائكة الجبار، مرهون بعمله {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] ، والله تعالى قد يستدرج المنافق والظالم بالمال والسلطان والصحة حتى إذا أخذه لم يفلته {وَلا تَحْسَبَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وطه حسين"1"، وعموم الباطنية، كالإسماعيلية، والدروز، والنصيرية"2"،   اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] . ينظر: الموسوعة الميسرة "الناصرية ص489-494، والعلمانية ص692". "1" هو أديب مصري معاصر، وكان من العلمانيين الذين يحاربون كتاب الله، ويقدحون فيه، ومع ذلك كان ينتسب إلى الإسلام، فإن كان مات على هذه الزندقة فمصيره مصير المنافقين. ينظر: كتاب "طه حسين في ميزان العلماء والأدباء" لمحمود الاستانبولي، وكتاب "طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام" لأنور الجندي، والموسوعة الميسرة "العلمانية ص692". "2" هذه الفرق تظهر الإسلام، ولكنهم في الباطن يؤلهون غير الله ويستحلون المحرمات المقطوع بتحريمها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 28/474، 475 عند كلامه على طوائف الشيعة: "والغالية يُقتلون باتفاق المسلمين، وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة في علي وغيره، مثل النصيرية، والإسماعيلية الذين يقال لهم: بيت صاد، وبيت سين، ومن دخل في دينهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع، أو ينكرون القيامة، أو ينكرون ظواهر الشريعة، مثل الصلوات الخمس ... فإن جميع هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، فإن لم يظهر من أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، ومَن أظهَرَ ذلك كان أشد من الكافرين كفراً، .... وليس هذا مختصاً بغالية الرافضة بل من غلا في أحد المشايخ، وقال: إنه يرزق أو تسقط عنه الصلاة أو أن شيخه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هؤلاء يجب قتالهم بإجماع المسلمين، وقتل المقدور عليه منهم". وقال علاّمة اليمن محمد بن إسماعيل الصنعاني في "سبل السلام" 4/357: "الرياء بالإيمان هو إظهار كلمة الشهادة وباطنه مكذب، فهو مخلد في النار في الدرك الأسفل منها، وفي هؤلاء أنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وغالب أئمة الرافضة"1"، وغيرهم من الزنادقة ممن مات منهم على الزندقة"2"، وما هم فيه الآن من العذاب الأليم الذي لا يتحمله البشر   قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ، وقريب منهم الباطنية الذين يظهرون الموافقة في الاعتقاد ويبطنون خلافه، ومنهم الرافضة أهل التقية، الذين يظهرون لكل فريق أنهم منهم تقية". وينظر النفاق للشيخ عبد الرحمن الدوسري ص119، 120. "1" من عقائد الروافض المنتسبين إلى التشيع عقيدة "التقية"، حيث يظهرون لأهل السنة أنهم منهم وعلى عقيدتهم، ولكن كثيراً منهم يبطنون عقائد كفرية، كاعتقاد أن القرآن محرف وناقص، وأن ثلاثة أرباعه في السرداب سيخرج به مهديهم المنتظر، كما يزعمون، وكاعتقاد أن أكثر الصحابة كفار، وعلى رأسهم أبوبكر وعمر، كما هو مذكور في كتبهم المشهورة ككتاب "الكافي" للكليني الذي هو عندهم كصحيح البخاري عند أهل السنة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 28/483: "وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ، فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية، وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النصراني الذي كان يهودياً في إفساد دين النصارى. وأيضاً فغالب أئمتهم زنادقة؛ إنما يظهرون الرفض لأنه طريق إلى هدم الإسلام"، وينظر أيضاً: المرجع السابق 27/161، 175، 176، الفصل في الملل والنحل لابن حزم 4/181-183، الملل والنحل للشهرستاني 2/5-12، النفاق للشيخ عبد الرحمن الدوسري ص119، 120، بذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود للجميلي 1/386-415. وينظر التعليق السابق. "2" من صدر منه فعل من أفعال المنافقين الكفرية أو أقوالهم الكفرية، كأن يسب الله تعالى أو يقدح في دينه حكم عليه بالنفاق والردة إذا توفرت شروط هذا الحكم وانتفت موانعه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 في قبورهم، وما سيلاقونه من العذاب في قعر جهنم خالدين فيها. نسأل الله السلامة والعافية.   وإذا حكم عليه بالنفاق فأظهر التوبة بعد القدرة عليه لم يصدق، لأن إظهاره للتوبة ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل ذلك، وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة، إلا إن ظهر منه من الأقوال والأفعال ما يدل على حسن الإسلام، وكان ذلك قبل رفع أمره إلى السلطان وتكرر منه ما يدل على التوبة النصوح فتقبل توبته، ولا يقتل. ينظر في هذه المسألة: الموطأ مع شرحه المنتقى: الأقضية 5/281، 282، الأم: المرتد 1/259، 260، الخراج لأبي يوسف ص179، التمهيد 10/149-173، إعلام الموقعين 3/128-133. وتنظر المراجع المذكور في حكم الكفر الأكبر. وقد وقع في حوادث إطلاق بعض الصحابة النفاق على بعض من وقع منهم بعض المخالفة كما في قصة عمر مع حاطب، وكما في قصة معاذ مع الأنصاري، وكما في قصة أُسيد مع سعد بن عبادة، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ سليمان بن عبد الله كما في مجموعة التوحيد 1/68: "إذا فعل علامات النفاق جاز تسميته منافقاً لمن أراد أن يسميه بذلك، وإن لم يكن منافقاً في نفس الأمر، لأن بعض هذه الأمور قد يفعلها الإنسان مخطئاً لا علم عنده، أو لمقصد يخرج به عن كونه منافقاً، فمن أطلق عليه النفاق لم ينكر عليه، كما لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أُسيد بن حضير تسميته سعداً منافقاً، مع أنه ليس بمنافق، ومن سكت لم ينكر عليه، بخلاف المذبذب الذي ليس مع المسلمين ولا مع المشركين، فإنه لا يكون إلا منافقاً". وينظر كذلك صحيح البخاري مع شرحه لابن بطّال 9/291، وشرحه للعيني 22/160، ومجموع الفتاوى 7/607، و18/472، 473، والفتح باب وجوب صلاة الجماعة 2/127، وباب إذا طول الإمام 2/197، وإيثار الحق ص389، ومجموعة التوحيد 1/67-69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 4- التذبذب والمراوغة والتلوُّن، فهم كالحِرْباء التي يتغير لونها بحسب حرارة الشمس، فأول النهار لها لون، ووسط النهار لها لون، وآخره لها لون"1"، وكالشاة العائرة بين الغنمين، فهي متحيرة أيهما تتبع، فتتبع هذه مرة، وتتبع هذه مرة"2"، فالمنافق حائر يخشى أن يعلن الكفر فيقتله المسلمون أو تتضرر مصالحه، ويخشى أن ينتصر الكفار فيقتل أو تتضرر مصالحه من قبلهم، فيلجأ إلى إظهار الإسلام، ويسر إلى الكفار وإلى أمثاله من المنافقين بأنه منهم، قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] ، وقال جل وعلا في شأنهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء: 143] "3".   "1" قال في لسان العرب "مادة: حرب": "الحرباء: ذكر أم حبين، يستقبل الشمس برأسه، ويكون معها كيف دارات، ويتلون ألواناً بحر الشمس، والجمع: الحرابي، والأنثى الحرباءة، قال الأزهري: الحرباء: دويبة على شكل سام أبرص، ذات قوائم أربع، دقيقة الرأس، مخططة الظهر، تستقبل الشمس، وهي قذرة لا تأكلها العرب بتة.أهـ. ملخصاً. "2" كما ثبت ذلك في الحديث في صحيح مسلم "2784"، قال النووي في شرح مسلم 17/128: "العائرة: المترددة الحائرة، لا تدري لأيهما تتبع". "3" وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء: 138، 139] ، وتنظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 5- الانهزامية واحتقار الذات والشعور بالنقص أمام الأعداء، فهو يشعر أن عموم الكفار أفضل منه ومن بني جنسه – وبالأخص في هذا الزمن الذي تفوق فيه الكفار في النواحي المادية – ولذلك فهو يقلدهم في جميع الأمور، حتى في الأمور التي لا فائدة منها، بل إنه يقلدهم في أمور يعلم هو ضررها، فهو كالبعير المقطور – أي المربوط – رأسه في ذنب بعير آخر، فيسير خلفه ويطأ على ما يطأ عليه، ويبول على رأسه، وهذا منتهى الضلال والضياع والخسران. 6- قلة الحياء وسلاطة اللسان، قال الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الأحزاب: 18، 19] "1.   الآيات بعدهما، وتنظر الآية "52" من المائدة. "1" ينظر في أعمال المنافقين وصفاتهم أو في بعضها: تفسير آيات النفاق في تفاسير ابن جرير، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، وابن سعدي، وعبد الرحمن الدوسري، وصحيح البخاري مع شرحه لابن حجر: كتاب التفسير، و "صفة النفاق" للفريابي، والسيرة لابن هشام، ودلائل النبوة للبيهقي، والمحلى: المسألة 2119، ج11ص201-226، وزاد المعاد "غزوة المريسيع" 3/256-269، وغزوة تبوك 3/545-550، وطريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ..............................................................................   الهجرتين ص524-528، وقد ذكر فيه مؤلفه ما يقرب من 120 صفة من صفات المنافقين، ومدارج السالكين 1/381-386، والدرر السنية 1/190-193، و2/72، ومجالس شهر رمضان "المجلس26"، ومرويات غزوة بني المصطلق ص60-70، والذهب المسبوك في تحقيق روايات غزوة تبوك ص242-300، والنواقض الاعتقادية 1/158-179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 مقتضيات التوحيد الوسائل التي توصل إلى الشرك الأكبر مدخل ... الفصل الأول: الوسائل التي توصل إلى الشرك الأكبر لما كان الشرك الأكبر أعظم ذنب عُصي اللهُ به؛ حرَّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كل قول أو فعل يؤدي إليه، أو يكون سبباً في وقوع المسلم فيه. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية أمته، وسلامتها من كل ما يكون سبباً في هلاكها، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة: 128] . وقال أبو ذر رضي الله عنه: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علماً. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما بقي شيء يقرّب من الجنة ويباعد من النار إلا بين لكم ""1". وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يحجزهن، ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فأنا   "1" رواه الطبراني في الكبير "1647" بإسناد حسن، وقد توسعت في تخريجه في رسالة "الأجل في القرض" ص62،63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، تقحّمون فيها " رواه البخاري ومسلم"1". فالرسول صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد من كل ما يهدمه أو ينقصه حماية محكمة، وسد كل طريق يؤدي إلى الشرك ولو من بعيد؛ لأن من سار على الدرب وصل؛ ولأن الشيطان يزين للإنسان أعمال السوء، ويتدرج به من السيء إلى الأسوأ شيئاً فشيئاً حتى يخرجه من دائرة الإسلام بالكلية – إن استطاع إلى ذلك سبيلاً – فمن انقاد له واتبع خطواته خسر الدنيا والآخرة. ولذلك لما عصى كثيرٌ من المسلمين نبيَّهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بفعل بعض الأمور التي نهاهم عنها وحذرهم منها، واتبعوا خطوات الشيطان الذي زين لهم الباطل ودعاهم إليه حتى ظنوا أنهم على الحق مع مخالفتهم ومعصيتهم الصريحة للنبي صلى الله عليه وسلم أدى بهم ذلك إلى الوقوع في الشرك الأكبر المخرج من الملة. وسأبيِّن – إن شاء الله – ثلاثاً من أهم الوسائل التي توصل إلى الشرك   "1" صحيح البخاري: الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي "6483"، وصحيح مسلم: الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم "2284" من حديث أبي هريرة، وله شاهد من حديث جابر، رواه مسلم "2285". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وتوقع المسلم فيه، والتي حذر منها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في المباحث الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 المبحث الأول: الغلو في الصالحين لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو على وجه العموم، فقال صلى الله عليه وسلم:" إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ""1". وثبت أن الغلو في الصالحين كان هو أول وأعظم سبب أوقع بني آدم في الشرك الأكبر، فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما – أنه أخبر عن أصنام قوم نوح أنها صارت في العرب، ثم قال:"أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً"2" وسموها   "1" رواه الإمام أحمد 1/215، والنسائي 5/268، وابن ماجه "3029"، وابن حبان في صحيحه "3871" من حديث ابن عباس بإسناد صحيح. وقال النووي في المجموع 8/127:"صحيح على شرط مسلم". ورواه الطبراني 18/289، والبيهقي 5/127 بإسناد حسن عن ابن عباس عن أخيه الفضل، وحسنه النووي في المجموع، ورواه الإمام أحمد 1/347 عن ابن عباس أو أخيه الفضل. "2" الأنصاب: جمع نصب، وهو كل ما ينصب من عصا أو حجر أو غيرهما لغرض ما، وكانت للعرب في الجاهلية أنصاب – وهي أحجار – كانوا ينصبونها ويذبحون عليها، فتحمر بالدم، وقيل: إنها أحجار كانوا ينصبونها ويتخذونها صنماً يعبدونه. ينظر: عمدة القاري 19/263، النهاية، مادة "نصب"، القول المفيد 1/368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونُسخ العلم"1"، عُبدت""2". ولذلك ينبغي للمسلم أن يحذر من التساهل في هذا الباب؛ لئلا يؤدي به أو يؤدي بمن يراه أو يقلده أو يأتي بعده إلى الوقوع في الشرك الأكبر. ومن أنواع الغلو المحرم في حق الصالحين والذي يوصل إلى الشرك: أولاً: المبالغة في مدحهم، كما يفعل كثير من الرافضة، وقلدهم في ذلك كثير من الصوفية، وقد أدت هذه المبالغة بكثير منهم في آخر الأمر إلى الوقوع في الشرك الأكبر في الربوبية"3"، وذلك باعتقاد أن بعض الأولياء   "1" النسخ: تبديل الشيء بغيره. والمراد هنا: تبديل علم سبب نصب هذه الصور من تذكر أحوالهم إلى أنه من أجل عبادتهم. ينظر: تهذيب اللغة 7/182، الفتح 8/669. "2" صحيح البخاري: التفسير "4920". "3" قال العلامة شكري الألوسي الحنفي:"وقد علمت أن الذي أوقع المشركين السابقين في شبكة الشرك هو غلوهم في المخلوق، وإثبات خصائص الألوهية لغير الله، كما هو ديدن غلاة زماننا"، وقال أيضاً:"الغلو في الأنبياء والرسل عليهم السلام، والغلو في المخلوق أعظم سبب لعبادة الأصنام والصالحين، كما كان في قوم نوح من عبادة لنسر وسواع ويغوث ونحوهم، وكما كان من عبادة النصارى للمسيح عليه السلام"، ينظر: كتابا الألوسي: فتح المنان ص477، ومسائل الجاهلية ص71 نقلاً عن جهود علماء الحنفية ص824،826، وينظر: التيسير والقول المفيد، باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 يتصرفون في الكون، وأنهم يسمعون كلام من دعاهم ولو من بعد، وأنهم يجيبون دعاءه، وأنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يعلمون الغيب"1"، مع أنه ليس لديهم دليل واحد يتمسكون به في هذا الغلو، سوى أحاديث مكذوبة أو واهية ومنامات، وما يزعمونه من الكشف إما كذباً، وإما من أثر تلاعب الشيطان بهم، وقد أدى بهم هذا الغلو إلى الشرك في الألوهية أيضاً، فدعوا الأموات من دون الله، واستغاثوا بهم، وهذا والعياذ بالله من أعظم الشرك"2".   "1" ومن هذا الغلو قول البوصيري في بردته يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم وهذا المدح لا مستند له من كتاب ولا سنة ولا قول صحابي، وإنما هو كذب محض ومعصية للنبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن إطرائه بالغلو في مدحه كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى. والبوصيري ليس من أهل العلم أصلاً، وإنما هو شاعر برع في النظم، ومع ذلك تجد كثيراً من الصوفية يرددون قصيدته هذه مع ما فيها من الغلو والشرك الصريح، فهم إن استمروا على ذلك ولم يتوبوا منه قد شاركوه في معاندة النبي صلى الله عليه وسلم والاستهانة بسنته، وارتكاب نهيه. ينظر: شذرات الذهب 7/753،754، الاستغاثة 1/308، كشف الظنون 2/1031-1036، جهود الحنفية ص696،802. "2" قال الشيخ شمس الدين الأفغاني في جهود علماء الحنفية ص823،824:"قال الإمام محمود الألوسي "1170هـ"، وتبعه ابنه نعمان الألوسي "1317هـ" وحفيده شكري الألوسي "1342هـ"، والشيخ غلام الله الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن، والعلامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه عليه الصلاة والسلام، فقال:" لا تطروني كما أطرت"1" النصارى المسيح بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا:   الرباطي، والعلامة الرستمي: وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} [الحج: 73] إلخ، إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله، حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى، وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون: إنهم وسائلنا إلى الله.. ورأيت كثيراً منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعاً في قبورهم، وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف، قاتلهم الله ما أجهلهم وأكثر افتراءهم!! ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة. وعلماؤهم يقولون: إنما تظهر أرواحهم متشكلة، وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد، أو غزال، أو نحوه، وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة، وكلام سلف الأمة، وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية، نسأل الله تعالى العفو والعافية". انتهى، وهذا النص موجود بحروفه في روح المعاني لمحمود الألوسي، تفسير الآية 78 من سورة الحج 17/202، وسيأتي مزيد بيان لتلاعب الشيطان بغلاة القبور ونحوهم في المبحث الثالث عند بيان حال من دعا الناس إلى الغلو في القبور - إن شاء الله تعالى -. "1" قال في لسان العرب، مادة"طرا":"أطرى فلان فلاناً إذا مدحه بما ليس فيه، ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح. ."، وأطرى: إذا زاد في الثناء، والإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 عبد الله ورسوله " رواه البخاري"1"، وإذا كان هذا في حقه صلى الله عليه وسلم فغيره من البشر أولى أن لا يزاد في مدحهم، فمن زاد في مدحه صلى الله عليه وسلم أو في مدح غيره من البشر فقد عصى الله تعالى، ومن دعا إلى هذا الغلو وأصر عليه بعد علمه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم فقد ردَّ سنته صلى الله عليه وسلم، ودعا الناس إلى عدم اتباعه عليه الصلاة والسلام، وإلى اتباع وتقليد اليهود والنصارى في ضلالهم وغلوهم في أنبيائهم، والذي نهاهم الله تعالى عنه"2". والنبيُّ صلى الله عليه وسلم له فضائل كثيرة ثابتة في كتاب الله تعالى وفي صحيح سنته عليه الصلاة والسلام"3"، فهو عليه الصلاة والسلام ليس في حاجة إلى أن يكذِب ويزوِّر الناسُ له فضائل صلوات ربي وسلامه عليه.   "1" في أحاديث الأنبياء، باب "واذكر في الكتاب مريم" "3445". "2" وذلك في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] ، وفي قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] . "3" ومن فضائله صلى الله عليه وسلم الثابتة في الكتاب والسنة أنه أفضل الخلق على الإطلاق، ورسول رب العالمين إلى جميع الثقلين، وعبد الله وخليله، وأفضل رسله وخاتمهم، أكرمه الله تعالى بعروجه إليه وتكليمه له بلا واسطة، وبالإسراء، والصلاة بالأنبياء، وكان أشجع الناس، وأجودهم صدراً، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، وأتقاهم لله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ..................................................................................   وأكثرهم له محبة، وأكثرهم منه خوفاً، وأحسن الناس خلقاً، فما من خلق كريم فاضل إلا وقد اتصف به وفاق الناس فيه، وكان أشرف الناس نسباً، وأفصحهم لساناً، وأحسنهم بياناً، أوتي جوامع الكلم، قد شرح الله صدره، ورفع منزلته وذكره، وأوجب على من ذكره أو ذكر عنده أن يصلي عليه، ووعده إذا صلى عليه أن يصلي عليه جل وعلا عشراً، وأوجب على جميع الثقلين طاعة أمره واجتناب نهيه، ووعد من أطاعه بالسعادة في الدارين، ومن عصاه بالشقاء فيهما، وأوجب عليهم محبته أكثر مما يحبون أنفسهم وأموالهم وأولادهم والناس أجمعين، وهو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأول شافع، وأول مشفع، وصاحب المقام المحمود - مقام الشفاعة يوم القيامة -، والحوض المورود، وصاحب الوسيلة - وهي أعلى منزلة في الجنة- وصاحب الكوثر - وهو نهر عظيم في الجنة -، وهو صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية أفضل من حياة الشهداء إذ هو أفضل منهم بلا ريب، ومن قضى أكثر أوقاته في الصلاة عليه فاز بسعادة الدارين وكُفي همه وغمه، وغير ذلك كثير من فضائله الثابتة في الكتاب والسنة. ينظر: جامع الأصول، كتاب الفضائل ج8، ومجمع الزوائد، كتاب علامات النبوة ج8، والشفا لعياض، والدرر السنية 1/230. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 27/220:"والنبي صلى الله عليه وسلم يجب علينا أن نحبه حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا، ونعظمه ونوقره ونطيعه باطناً وظاهراً، ونوالي من يواليه، ونعادي من يعاديه، ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ولياً لله بل ولا مؤمناً ولا سعيداً ناجياً من العذاب إلا من آمن به واتبعه باطناً وظاهراً. ولا وسيلة يتوسل إلى الله عز وجل بها إلا الإيمان به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ثانياً: تصوير الأولياء والصالحين من المعلوم أن أول شرك حدث في بني آدم سببه الغلو في الصالحين بتصويرهم، كما حصل من قوم نوح عليه السلام، وقد سبق ذكر قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في ذلك في مقدمة هذا المبحث"1".   وطاعته. وهو أفضل الأولين والآخرين، وخاتم النبيين، والمخصوص يوم القيامة بالشفاعة العظمى التي ميزه الله بها على سائر النبيين، صاحب المقام المحمود، واللواء المعقود، لواء الحمد، آدم فمن دونه تحت لوائه، وهو أول من يستفتح باب الجنة، فيقول الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا محمد. فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك. "1" يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" إن أولئك كانوا إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور "رواه البخاري "427" ومسلم "528" من حديث عائشة - رضي الله عنها - قال الحافظ ابن القيم الحنبلي في إغاثة اللهفان ص 188، 189 بعد ذكره لأثر ابن عباس السابق:"وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته" ثم ذكر حديث عائشة السابق، ثم قال:"فقد رأيت أن سبب عبادة ود ويغوث ويعوق ونسرا واللات، إنما كانت من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم". وقال الإمام القرطبي المالكي في المفهم في شرح حديث عائشة السابق 2/931،932:"إنما فعل ذلك أوائلهم ليأتنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا بها أحوالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ولخطر التصوير وعظم جرم فاعله وردت نصوص شرعية فيها تغليظ على المصورين، وتدل على تحريم التصوير لذوات الأرواح بجميع صوره وأشكاله"1".   الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله تعالى عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم إنه خلف من بعدهم خلف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءهم وأجدادهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك، فقال: اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد - أي أنهاكم عن ذلك –". وينظر: تفسيره، تفسير الآية 104 من البقرة2/58. وقد نقل الحافظ ابن حجر في الفتح 1/525 قول القرطبي السابق إلى قوله:"فعبدوها"مقراً له دون أن يعزوه إلى القرطبي. وينظر الجواب المفيد ص27، المجموع الثمين 2/249، الشرح الممتع: شروط الصلاة 2/201. "1" وقد اختلف علماء هذا العصر في حكم التصوير الفوتوغرافي، وهو التصوير بالآلة "الكمرة"، وكثير من العلماء المعاصرين يرون تحريمه، ويرون أنه لا يجوز منه إلا ما له ضرورة أو حاجة، كالتصوير من أجل الحفيظة ونحو ذلك، وعلى رأسهم شيخ مشايخنا الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة الأسبق، وأعضاء اللجنة الدائمة بهيئة كبار العلماء بالمملكة، وفي مقدمتهم شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى. وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا النوع ليس من التصوير المحرم. وإليك قول أفضل من وقفت على قوله ممن فصَّل في هذه المسألة من أصحاب هذا القول – وهو شيخنا محمد بن صالح بن عثيمين – فقد قال في القول المفيد: باب ما جاء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ..............................................................................   المصورين 2/439،440، عند ذكره الخلاف في هذه المسألة:"القول الثاني: أنها ليست بتصوير، ولكن يبقى النظر هل يحل هذا الفعل أو لا؟ والجواب: إذا كان الغرض محرماً كان حراماً، وإذا كان الغرض مباحاً صار مباحاً؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وعلى هذا فلو أن شخصاً صور إنساناً لما يسمونه بالذكرى فإن ذلك محرم ولا يجوز؛ لما فيه من اقتناء الصور؛ لأنه لا شك أن هذه صورة، ولا أحد ينكر ذلك، وإذا كان لغرض مباح كما يوجد في التابعية والرخصة والجواز وما أشبهه فهذا يكون مباحاً"، وقال أيضاً كما في فتاواه جمع أشرف بن عبد المقصود 1/149:"إذا كان الغرض من هذا الالتقاط هو أن يقتنيها الإنسان ولو للذكرى صار ذلك الالتقاط حراماً، وذلك لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، واقتناء الصور للذكرى محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وهذا يدل على تحريم اقتناء الصور في البيوت، وأما تعليق الصور على الجدران فإنه محرم ولا يجوز، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة". وذهب بعض أهل العلم إلى أن التصوير السينمائي – وهو التصوير الفلمي – والتصوير التلفزيوني ليسا من التصوير المحرم أيضاً، وذهب بعض العلماء إلى القول بتحريمهما لعموم النصوص، واستثنى بعضهم ما كان لمصلحة شرعية كبعض مسائل التعليم والدعوة ونحو ذلك. ولذلك كله فإنه ينبغي لأهل التوحيد الحريصين على محاربة الشرك ومحاربة كل ما هو وسيلة إليه أن يحذروا من التساهل في أمر التصوير، وبالأخص تصوير كبار أهل العلم ومن لهم منزلة كبيرة في قلوب الناس من أهل الخير والصلاح، فالتساهل في هذا الأمر خطير، والزلل فيه كبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ومن النصوص الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" إنّ أشدَّ الناس عذاباً يوم القيامة المصورون " رواه البخاري ومسلم"1"، وروى البخاري ومسلم أيضاً عن ابن عباس - رضي الله عنهما – أنه أتاه رجل فقال: إني رجلٌ   وكثير من المسلمين يتساهل في أمر التصوير الفوتوغرافي والسينمائي مع أنهم لم يبذلوا الجهد في معرفة القول الصحيح في ذلك، وكثير منهم ليس من أهل العلم الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، وإنما يقلد غيره من أقرانه، أو يتمسك بقول بعض المفتين، ومن المعلوم أنه لا يجوز للمسلم أن يختار من أقوال أهل العلم ما تهواه نفسه، فإن هذا من اتباع الهوى، ومن تتبع رخص الفقهاء، وليس من اتباع الشرع، وقد نصَّ أهل العلم على تحريم تتبُّع رخص الفقهاء، وغلظوا القول في حق من يستكثر من ذلك، والذي يجب على المقلد أن يتبع أقوال أفضل العلماء ديناً وعلماً في جميع المسائل، كما نص على ذلك أهل العلم. ينظر: إعلام الموقعين "الفتوى: الفائدة 66" 4/261، الأصول من علم الأصول: الاجتهاد: مواضع التقليد ص100. وينظر في بيان حكم التصوير فتح الباري، باب التصاوير، والأبواب التسعة التي بعده، فتاوى شيخ مشايخنا محمد بن إبراهيم مفتي المملكة في وقته 1/178-195، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع د. عبد الله الطيار: التصوير 2/797-83"، فتاوى اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء بالمملكة 1/458-464، الشرح الممتع: باب شروط الصلاة 2/195-205، رسالة"التنوير فيما ورد في حكم =التصوير"للشيخ محمد الغفيلي، وينظر: رسالة"أحكام التصوير"للشيخ محمد بن أحمد الواصل، فهي شاملة لجل مسائل التصوير والأحكام المتعلقة به. "1" صحيح البخاري: اللباس "5950"، وصحيح مسلم: اللباس "2109". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 أصوّر هذه الصور، فأفتني فيها، فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم ". وقال: إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له"1". وثبت عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج الأسدي:"ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته". رواه مسلم"2". ولذلك فإنه ينبغي للمسلم ألا يتساهل في أمر التصوير بجميع أنواعه، سواء منه ما كان مجسماً، كالتماثيل وغيرها مما له ظل – وهو أشد حرمة وأعظم إثماً"3" – أم ما كان على ورق أو جدار أو خرقة أو غيرها،   "1" صحيح البخاري: البيوع "2225"، وصحيح مسلم "2110"، واللفظ له، ولفظ البخاري: سمعته يقول:" من صور صورة فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً "، فربا الرجل ربوة شديدة واصفَّر وجهه، فقال ابن عباس: ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه روح. أ. هـ. ومعنى قوله: ربا ربوة: ذعر وامتلأ خوفاً. "2" صحيح مسلم "969". "3" وقد حكى ابن العربي المالكي الأندلسي في عارضة الأحوذي في اللباس 7/253 وغيره الإجماع على تحريم الصور المجسمة. واستثنى بعضهم من ذلك لعب الأطفال إذا كانت الصورة إجمالية لا تفصيلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ويعظم خطر التصوير إذا كان المصوَّر من كبار أهل العلم، أو ممن لهم منزلة كبيرة في قلوب الناس. قال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان:"التصوير معناه نقل شكل الشيء وهيئته بواسطة الرسم أو الالتقاط بالآلة أو النحت، وإثبات هذا الشكل على لوحة أو ورقة أو تمثال، وكان العلماء يتعرضون للتصوير في مواضيع العقيدة؛ لأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك، وادعاء المشاركة لله بالخلق أو المحاولة لذلك، وأول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير … فالتصوير هو منشأ الوثنية؛ لأن تصوير المخلوق تعظيم له، وتعلق به في الغالب، خصوصاً إذا كان المصوّر له شأن من سلطة أو علم أو صلاح، وخصوصاً إذا عُظمت الصورة بنصبها على حائط أو إقامتها   والعبرة في تحريم الصورة بوجود الرأس، لحديث:"الصورة الرأس"الذي، رواه الإسماعيلي في معجمه كما في الجامع الصغير، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة "1921"، ولقول جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام:" مُرْ برأس التمثال يقطع فيصير كهيئة الشجرة "رواه أبو داود "4158" بإسناد حسن. والتحريم يشمل في قول الجمهور: الصور الخيالية التي لا يوجد لها مثيل في الواقع، كإنسان له منقار، وفرس له جناحان، ونحو ذلك، ويشبه ذلك ما يعرف بأفلام الكرتون، وألحق بعض أهل العلم بالصور المحرمة تحنيط الحيوان؛ لأنه يؤدي إلى تعليق الصور، ولأن ذلك يكون وسيلة إلى تعلق بعض الجهال بها، ظناً منهم أنها تدفع البلاء عن البيت وأهله. ينظر: رسالة"أحكام التصوير"لمحمد الواصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 في شارع أو ميدان، فإن ذلك يؤدي إلى التعلق بها من الجهال وأهل الضلال ولو بعد حين، ثم هذا فيه أيضاً فتح باب لنصب الأصنام والتماثيل التي تعبد من دون الله" "1". ثالثاً: التبرك الممنوع بالصالحين، وسيأتي الكلام عليه عند الكلام على التبرك الممنوع في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.   "1" ينظر كتاب الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد: خطر الشرك 1/45، 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 المبحث الثاني: التبرك الممنوع : التبرك: طلب البركة، والبركة: كثرة الخير وزيادته واستمراره"2".   "2" ينظر: معجم مقاييس اللغة 1/230، تهذيب اللغة 10/231، النهاية، المصباح، مادة "برك"، تفسير القرطبي "تفسير الآية 96 من آل عمران"، بدائع الفوائد 2/182، 183، جلاء الأفهام: الفصل الثامن ص165، 166، وقال في النهاية "مادة: يمن":"وقد تكرر ذكر اليمن في الحديث، وهو البركة وضده الشؤم". أما"تبارك"فذكر الشعبي أنها بمعنى عظم وتعالى وكثرت بركته، وذكر ابن عطية أنها صفة لا يوصف بها إلا الله تعالى، ينظر: تفسير ابن عطية 7/77. والتبرك ينقسم من حيث الأصل إلى قسمين: الأول: تبرك ديني شرعي: وهو أن يريد المتبرك بهذا التبرك التقرب إلى الله تعالى، كأن يريد الثواب من الله تعالى أو النجاة من عذابه. الثاني: تبرك دنيوي: وهو أن يريد الإنسان بتبركه مصلحة دنيوية، كالشفاء من مرض ونحو ذلك.= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 والتبرك ينقسم من جهة حكمه إلى قسمين: أ- تبرك مشروع: وهو أن يفعل المسلم العبادات المشروعة طلباً للثواب المترتب عليها، ومن ذلك أن يتبرك بقراءة القرآن والعمل بأحكامه، فالتبرك به هو ما يرجو المسلم من الأجور على قراءته له وعمله بأحكامه، ومنه التبرك بالمسجد الحرام بالصلاة فيه ليحصل على فضيلة مضاعفة الصلاة فيه، فهذا من بركة المسجد الحرام"1".   الشيء الذي يتبرك به – أي تطلب البركة بواسطته – قد يكون فيه بركة دينية، وقد يكون فيه بركة دنيوية، وقد يكون فيه بركة دينية ودنيوية معاً. فمثال الأول: المساجد الثلاثة، لما فيها من الأجر العظيم لمن صلى فيها وغير ذلك. ومثال الثاني: الماء واللبن، لما فيهما من المنافع الدنيوية الكثيرة. ومثال الثالث: القرآن، ففيه منافع دينية ودنيوية كثيرة، ويكفي أن من تمسك به أفلح في الدنيا والآخرة، وهو شفاء للقلوب والأبدان. ومن ذلك: خير البشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اقتدى به وسار على هديه سعد في الدنيا والآخرة، وصلحت دنياه وآخرته، وأيضاً في جسده وآثاره عليه الصلاة والسلام بركات دينية ودنيوية. وما ذكرته من أمثلة النوع الأول والثاني إنما هو تمثيل أغلبي، وإلا قد يوجد في المساجد الثلاثة منافع دنيوية، وقد يوجد في الماء منافع دينية. وينظر: التبرك، للدكتور ناصر الجديع ص43 وما بعدها. "1" سيأتي أيضاً ذكر بعض الأمثلة على التبرك المشروع عند الكلام على أنواع التبرك البدعي، وينظر التعليق السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ب- تبرك ممنوع: وهو ينقسم من حيث حكمه إلى قسمين: 1- تبرك شركي: وهو أن يعتقد المتبرِّك أن المتبرَّك به – وهو المخلوق – يهب البركة بنفسه، فيبارك في الأشياء بذاته استقلالاً"1"؛ لأن الله تعالى وحده موجد البركة وواهبها، فقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" البركة من الله ""2"، فطلبها من غيره، أو اعتقاد أن غيره يهبها بذاته شرك أكبر. 2- تبرك بدعي: وهو التبرك بما لم يرد دليل شرعي يدل على جواز التبرك به، معتقداً أن الله جعل فيه بركة، أو التبرك بالشيء الذي ورد التبرك به في غير ما ورد في الشرع التبرك به فيه. وهذا بلا شك محرم؛ لأن فيه إحداث عبادة لا دليل عليها من كتاب أو   "1" كتاب التبيان ص26، 27، وكتاب التنشيط ص60-65، كلاهما للرستمي الحنفي نقلاً عن كتاب جهود علماء الحنفية لشمس الدين الأفغاني 3/1575-1578، وينظر: التيسير، باب من تبرك بشجرة أو حجر ص148. "2" صحيح البخاري، آخر كتاب الأشربة "5639". وروى مسلم في صحيحه، في الصلاة "771" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه في استفتاح الصلاة: " والخير كله في يديك ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 سنة"1"، ولأنه جعل ما ليس بسبب سبباً، فهو من الشرك الأصغر"2"؛ ولأنه يؤدي إلى الوقوع في الشرك الأكبر"3" كما سيأتي بيانه. وهذا القسم من التبرك – وهو التبرك البدعي – ينقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: التبرك الممنوع بالأولياء والصالحين: وردت أدلة كثيرة تدل على مشروعية التبرك بجسد وآثار النبي صلى الله عليه وسلم، كشعره وعرقه وثيابه وغير ذلك"4".   "1" وهذا خاص بالتبرك الديني. "2" وهذا يشمل التبرك الديني والدنيوي، وسيأتي التوسع في هذه المسألة عند الكلام على الشرك الأصغر – إن شاء الله تعالى -. "3" مجموع الفتاوى 27/137، القول المفيد، باب من تبرك بشجرة أو حجر، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص99، جهود علماء الحنفية ص1578،1579، وينظر: التيسير ص148، 153، والقول السديد ص53، وكتاب التوحيد للدكتور صالح الفوزان ص112. "4" وقد وردت في ذلك نصوص كثيرة تنظر في كتب السيرة، وكتب السنة، وقد جمعها الدكتور ناصر الجديع في رسالة"التبرك"، والدكتور علي العلياني في رسالة"التبرك". وآثار النبي صلى الله عليه وسلم كلها قد فقدت، ومنبره احترق سنة 654هـ فلا يوجد شيء من آثاره الآن على سبيل القطع واليقين، فلم يبق إلا التبرك باتباعه عليه الصلاة والسلام، فمن آمن به صلى الله عليه وسلم واتبعه حصل له خير كثير في الدنيا والآخرة من بركة الرسول عليه الصلاة والسلام بسبب إيمانه به، وطاعته له. ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص727، مجموع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 أما غير النبي صلى الله عليه وسلم من الأولياء والصالحين فلم يرد دليل صحيح صريح يدل على مشروعية التبرك بأجسادهم ولا بآثارهم"1"، ولذلك لم يرد عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من التابعين أنهم تبركوا بجسد أو آثار أحد من الصالحين، فلم يتبركوا بأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولا بغيره من العشرة المبشرين بالجنة، ولا بأحد من أهل البيت ولا غيرهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، لحرصهم الشديد على فعل جميع أنواع البر والخير، فإجماعهم على ترك التبرك بجسد وآثار غيره صلى الله عليه وسلم من الصالحين"2" دليل صريح على عدم مشروعيته.   الفتاوى 11/113،114، هداية السالك للكتاني الشافعي 3/1390، التوسل للألباني ص161، هذه مفاهيمنا للشيخ صالح آل الشيخ ص204. "1"بركة المسلم هي في طاعته لله تعالى، وما يجري الله على يديه من النفع للمسلمين، وما يغيث الله تعالى به العباد من المطر والخير والنصر، وما يدفع عنهم من الشر ببركة طاعته وصلاحه ودعائه، فهذا حق وثابت، وليس من التبرك الممنوع. ينظر: مجموع الفتاوى 11/113-115، و27/96. "2" وقد حكى إجماعهم على ذلك الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي الأندلسي في الاعتصام 2/8،9، وابن رجب في"الحكم الجديرة بالإذاعة"ص55، وصديق حسن البخاري في الدين الخالص 2/249، وسليمان بن عبد الله في التيسير، وعبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد كلاهما في باب من تبرك بشجرة أو حجر، وشيخ مشايخنا محمد بن إبراهيم كما في فتاواه 1/103،104، والميلي الجزائري في الشرك ومظاهره ص103، والشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وعليه فإن من تبرك بذات أو آثار أحد من الصالحين غير النبي صلى الله عليه وسلم قد عصى الله تعالى، وعصى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأعطى هذه الخاصية التي خص بها ربنا جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم لغيره من البشر، وسواهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فسوى عموم الأولياء والصالحين بخير البشر وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه هضم لحقه صلى الله عليه وسلم، ودليل على نقص محبته عليه الصلاة والسلام في قلب هذا المتبرك"1". ومن أنواع التبرك المحرم بالصالحين: أ) التمسح بهم"2" ولبس ثيابهم أو الشرب بعد شربهم طلباً للبركة. ب) تقبيل قبورهم"3"، والتمسح بها، وأخذ ترابها طلباً للبركة، وقد   عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته ص95، وشيخنا عبد العزيز بن باز في تعليقه على فتح الباري: الجنائز 3/130، 144. "1" قال علامة الهند حسن صديق خان في الدين الخالص 2/250:"ولا يجوز أن يقاس أحد من الأمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذاك الذي يبلغ شأوه؟ قد كان له صلى الله عليه وسلم في حال حياته خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره". "2" وقد ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة"الحكم الجديرة بالإذاعة"ص56 أن رجلاً جاء إلى الإمام أحمد، فمسح يديه على ثيابه، ومسح بهما وجهه، فغضب الإمام أحمد، وأنكر ذلك أشد الإنكار، وقال: عمن أخذتم هذا الأمر؟!. "3" قال الإمام عزالدين بن جماعة الكناني الشافعي في هداية السالك ص1390،1391: "عَدَّ بعض العلماء من البدع الانحناء للقبر المقدس عند التسليم، قال: يظن من لا علم له أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 حكى جمع من أهل العلم إجماع العلماء على أن هذا كله منهي عنه"1"، وذكر أبو حامد الغزالي الشافعي المتوفي سنة 505هـ، وغيره من علماء   من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل الأرض للقبر، لم يفعله السلف الصالح، والخير كله في اتباعهم – رحمهم الله تعالى ونفعنا بهم – ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم، وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى بتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف، واستشهد لذلك بالشعر. نسأل الله أن يوفقنا في القول والعمل، وأن يعصمنا من الهوى والزلل بمنه وكرمه". وينظر: رسالة التوحيد للدهلوي الهندي ص23،24. "1" ينظر: رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور، ص27-32، الاستغاثة في الرد على البكري 1/356، مجموع الفتاوى4/521، و26/97، و27/79-109، 136، 294، الاختيارات: الجنائز ص92، الصارم المنكي ص109،178، الزواجر: الكبيرة 93-98، ج1 ص149، وقال الهيتمي في حاشيته على منسك النووي ص454: "قال: - أي الإمام أحمد -: رأيت أهل العلم بالمدينة لا يمسون القبر". وينظر: الصارم المنكي ص191. وقال الإمام النووي الشافعي في منسكه ص453:"الثامن – أي من مسائل الزيارة – لا يجوز أن يطاف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار القبر، قاله الحليمي وغيره. ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته صلى الله عليه وسلم، هذا هو الصواب، وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، وينبغي أن لا يغتر بكثير من العوام في مخالفتهم ذلك، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وجهالاتهم.. ومن خطر بباله أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الشافعية والحنفية أن هذه الأفعال من عادات النصارى"1"، وذكر بعض علماء الشافعية وبعض علماء الحنفية أن استلام القبور تبركاً كبيرة من كبائر   المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء، وكيف يبتغي الفضل في مخالفة الصواب". قال محدث الشام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في تحذير الساجد بعد نقله لكلام النووي السابق ص107:"رحم الله الإمام النووي فإنه بهذه الكلمة أعطى لهؤلاء المشايخ الذين يتمسحون بالقبور فعلاً أو يحبذونها قولاً ما يستحقونه من المنزلة، حيث جعلهم من العوام الذين لا يجوز أن يلتفت إلى جهالاتهم، فهل من مدَّكر؟! ". "1" قال الهيتمي الشافعي في حاشيته على منسك النووي ص454:"قال في الإحياء: مس المشاهد وتقبيلها عبادة للنصارى واليهود، وقال الزعفراني: ذلك من البدع التي تنكر شرعاً، وروي عن أنس أنه رأى رجلاً وضع يده على القبر الشريف فنهاه، وقال: ما كنا نعرف هذا – أي الدنو منه إلى هذا الحد – وعلم مما تقرر كراهة مس مشاهد الأولياء وتقبيلها". وينظر: الإحياء، الباب السادس 4/522، والغزالي مع أن عنده شيئاً من التصوف لكن لما ظهر له الحق في هذه المسألة قال به، فيجب على المسلم أن ينقاد للحق وألا يتبع هواه فيما يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام النووي في المجموع 5/311:"قال الإمام أبو الحسن محمد بن مرزوق الزعفراني، وكان من الفقهاء المحققين في كتابه الجنائز: ولا يستلم القبر بيده ولا يقبله، قال: وعلى هذا مضت السنة، قال أبو الحسن: واستلام القبور وتقبيلها الذي يفعله العوام الآن من المبتدعات المنكرة شرعاً، ينبغي تجنب فعله وينهى فاعله. قال أبو موسى: وقال الفقهاء المتبحرون الخراسانيون: المستحب في زيارة القبور أن يقف مستدبر القبلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الذنوب"1". ج) عبادة الله عند قبورهم تبركاً بها، معتقداً فضل التعبد لله تعالى عندها، وأن ذلك سبب لقبول هذه العبادة، وسبب لاستجابة الدعاء، وسيأتي الكلام على هذا النوع بشيء من التفصيل في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.   مستقبلاً وجه الميت يسلم ولا يمسح القبر ولا يقبله ولا يمسه، فإن ذلك عادة النصارى، قال: وما ذكروه صحيح لأنه قد صح النهي عن تعظيم القبور؛ ولأنه إذا لم يستحب استلام الركنين الشاميين من أركان الكعبة لكونه لم يسن مع استحباب استلام الركنين الآخرين، فلأن لا يستحب مس القبور أولى والله أعلم. وقال أبو محمد العيني الحنفي في البناية في الجنائز عند كلامه على وضع اليد على القبر 3/305:"قال شرف الأئمة: بدعة، قال: جاء الله بمشايخ مكة ينكرون ذلك ويقولون إنه عادة أهل الكتاب، وفي الأخبار: هو عادة النصارى. وقال الزعفراني: لا يلثم القبر ولا يقبله، قال: وعلى هذا مضت السنة، وما يفعله القوم الآن من البدع المنكرة شرعاً، وفي جوامع الفقه: يزار القبر من بعد ولا يقعد الزائر، وعند الدعاء للميت يستقبل القبلة وكذا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم". وينظر: إصلاح المساجد للقاسمي ص72، 217. "1" ذكر ذلك ابن حجر الهيتمي الشافعي في الزواجر عن اقتراف الكبائر: الكبيرة 93-98، ج1 ص 148، 149، ونقل ذلك أيضاً عن بعض الشافعية، ونقل كلامَ الهيتمي الألوسيُّ الحنفي في تفسيره روح المعاني، "تفسير الآية 21 من الكهف" مقراً له، وسيأتي نقل كلام الهيتمي في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى عند بيان أن بناء المساجد وغيرها على القبور والتعبد لله عندها من كبائر الذنوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 النوع الثاني: التبرك بالأزمان والأماكن والأشياء التي لم يرد في الشرع ما يدل على مشروعية التبرك بها. ومن أمثلة هذه الأشياء: 1- الأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم، أو تعبد لله فيها اتفاقاً من غير قصد لها لذاتها، وإنما لأنه صلى الله عليه وسلم كان موجوداً في هذه الأماكن وقت تعبده لله تعالى بهذه العبادة، ولم يرد دليل شرعي يدل على فضلها. ومن هذه الأماكن: جبل ثور، وغار حراء، وجبل عرفات"1"، والأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره، والمساجد السبعة التي قرب الخندق، والمكان الذي يزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيه - مع أنه مختلف في مكان ولادته عليه الصلاة والسلام اختلافاً كثيراً – ومثل الأماكن التي قيل إنه ولد فيها نبي أو ولي أو عاشوا فيها ونحو ذلك – مع أن كثيراً من ذلك لم يثبت -. فلا يجوز للمسلم قصد زيارة هذه الأماكن للتعبد لله تعالى عندها، أو فوقها، بصلاة أو دعاء أو غيرهما، كما لا يجوز للمسلم مسح شيء من هذه الأماكن لطلب البركة، ولا يشرع صعود هذه الجبال لا في أيام الحج   "1" ويسمى جبل"إلال"على وزن"هلال"، ويسميه العامة"جبل الرحمة"، ينظر: الاقتضاء ص810، رسالة:"جبل إلال بعرفات"للشيخ بكر أبو زيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ولا غيرها، حتى جبل عرفات، لا يشرع صعوده في يوم عرفة، ولا غيره، ولا التمسح بالعمود التي فوقه، وإنما يشرع الوقوف عند الصخرات القريبة منه إن تيسر، وإلا وقف الحاج في أي مكان من عرفات. ولذلك لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه قصد شيئاً من هذه الأماكن للتبرك بها بتقبيل أو لمس أو غيرهما"1" ولا أن أحداً منهم   "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء ص806-811 بعد ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه قبل الهجرة وبعد فتح مكة وفي حجهم وعمرهم لم يزوروا شيئاً من البقاع بمكة ولا حولها، ولم يزوروا جبل ثور ولا غار حراء، ولم يتعبدوا لله إلا بالصلاة في المسجد الحرام والمشاعر في حجهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يشرع شيئاً من ذلك لأمته، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يبن بمكة مسجداً غير المسجد الحرام، قال:"بل تلك كلها محدثة، مسجد المولد وغيره، ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف منى، وقد بني هناك له مسجد. ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعاً مستحباً يثيب الله عليه، لكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك، ولكان يعلم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك علم أنه من البدع المحدثة، التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله". ثم ذكر شيخ الإسلام –رحمه الله– أنه لا يشرع التبرك بمقامات جميع الأنبياء، وذكر أن أكثرها كذب أو لا تعلم صحته، وذكر أنه لا يشرع قصد المساجد المبنية في كثير من البقاع حول مكة وفي داخل مكة للتبرك بالصلاة فيها أو الدعاء أو غير ذلك، ثم قال:"وأما تقبيل شيء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 قصدها للتعبد لله فيها"1".   ذلك والتمسح به فالأمر فيه أظهر، إذ قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا ليس من شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج، في أول عمري لبعض الشيوخ، جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لنا أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يفعلوا شيئاً من ذلك، وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك، وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف، وغير ذلك من العبادات، ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه، ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأحكام، وما يفعله الرجل في مسجد من تلك المساجد، من دعا وصلاة وغير ذلك، إذا فعله في المسجد الحرام كان خيراً له. بل هذا سنة مشروعة، وأما قصد مسجد غيره هناك تحرياً لفضله فبدعة غير مشروعة". وينظر: مجموع الفتاوى 26/133، 144،150. وقال ابن وضاح المالكي الأندلسي المتوفى سنة "287هـ" في رسالة"ما جاء في البدع" باب ما جاء في ابتداع الآثار ص91:"كان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما عدا قباء وأحداً". "1" أما ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنهما – من صلاته في مواضع صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم فهو رضي الله عنه لم يسافر إليها ولم يقصد زيارتها وهو في مكان آخر، وإنما لما مر بها وهو في طريقه في سفره وهو في وقت صلاة، أو يريد أن يصلي نافلة معينة صلى فيها هذه الصلاة، فهو يحب أن يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الفعل لا غير، ويدل على ذلك ما سيأتي عن ابن عمر في التعليق الآتي، وما سيأتي عنه عند تخريج قطع عمر لشجرة بيعة الرضوان في ختام الكلام على هذا النوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى "رواه البخاري ومسلم"1"، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي هو ثاني   أما إنشاء صلاة لأجل البقعة أو السفر من أجل التعبد لله فيها، فهذا لم يفعله ابن عمر ولا غيره من سلف هذه الأمة، فالصحابة متفقون على أنه لا يعظم من الأماكن إلا ما عظمه النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى فرض أن ابن عمر أنشأ نافلة من أجل الصلاة في موضع من هذه المواضع لما مر بها – مع أنه لم يسافر من أجلها قطعاً – فقد خالف ابن عمر في فعله هذا بقية الصحابة، وعلى رأسهم والده ثاني الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -. ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص570-758،803-828، مجموع الفتاوى 10/410،411، و17/466-481، 496، 497، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 26/144:"أما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام، كالمسجد الذي تحت الصفا، وما في سفح أبي قبيس، ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كمسجد المولد وغيره، فليس شيء من ذلك من السنة ولا استحبه أحد من الأئمة". "1" صحيح البخاري: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة "1189"، وصحيح مسلم: الحج "1397". قال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في فتح الباري 3/660: "معنى الحديث: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان، إلا إلى الثلاث المذكورة"، ومما يدل على أن المراد في الحديث: الأماكن والبقع إنكار أبي بصرة الغفاري على من سافر إلى جبل الطور، واستدلاله بهذا الحديث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم أنه لما رأى الناس وهو راجع من الحج ينزلون فيصلون في مسجد، فسأل عنهم، فقالوا: مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيََعاً"1"، من مر بشيء من هذه المساجد فحضرت الصلاة فليصل، وإلا فليمض""2".   وقد أقره أبو هريرة – رضي الله عنه – بسكوته عند إنكار أبي بصرة، والخبر رواه الإمام مالك في الموطأ في ساعة الجمعة 1/109، والطيالسي "1348"، وأحمد 6/7، 397، والنسائي "1429" من طريقين صحيحين، وقد صححه الألباني في الإرواء "970"، وفي تحذير الساجد ص95، ويدل على ذلك أيضاً ما رواه الأزرقي: حد المسجد الحرام وفضله 2/65 بإسناد حسن عن قزعة قال:"أردت الخروج إلى الطور فسألت ابن عمر فقال: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. ." ودع عنك الطور فلا تأته". وينظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/374، 375، وقد صحح إسناده الألباني في الجنائز ص287. "1" البيَع: جمع بيعة بكسر الباء، وهي المكان الذي يتعبد فيه اليهود والنصارى، ينظر: القاموس والمصباح، لفظة"بيع". حاشية السندي على سنن النسائي 2/369. "2" رواه عبد الرزاق: ما يقرأ في الصبح "2734"، وابن أبي شيبة في الصلاة: الصلاة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم 2/376، وسعيد كما في الاقتضاء ص751، وابن وضاح "104". وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيحين، وقد صححه شيخ الإسلام كما في الفتاوى 10/410، والحافظ في الفتح 1/569، وقال الألباني في تحذير الساجد ص93. "سنده صحيح على شرط الشيخين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فهذا قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ""1". وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر - رضي الله عنهما -:" اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ""2"، وهو – أي قول عمر السابق - يدل على التحذير من التبرك بالأماكن التي مر بها أو تعبد فيها نبينا صلى الله عليه وسلم دون قصد لها، وعلى عدم مشروعية قصد هذه الأماكن للتعبد لله فيها، وعلى هذا أجمع سلف هذه الأمة وكل من سار على طريقتهم"3" لما سبق؛ ولأن ذلك من المحدثات التي لا دليل عليها.   "1" رواه الإمام أحمد 2/401، وابن أبي شيبة 12/25، وابن أبي عاصم "1250"، وابن حبان في صحيحه "6889". وإسناده صحيح، وله شاهد عند ابن حبان "6895"، وغيره. "2" رواه الإمام أحمد 5/399، والترمذي "3663"، وابن أبي شيبة 12/11، وابن حبان "6902"، وابن عدي 2/666. وإسناده صحيح. "3" ينظر: ما سبق نقله قريباً عند بيان أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة قصد هذه الأماكن للتبرك بها من كلام شيخ الإسلام وابن وضاح، وينظر: الاقتضاء ص806-812، ومجموع الفتاوى 3/274، و27/110، الاختيارات: الحج ص118، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري: الزيارة ص246، القول السديد، باب من تبرك بشجرة أو حجر ص53، وقد نقل الشيخ شمس الدين الأفغاني في جهود علماء الحنفية ص650-652 عن جمع من علماء الحنفية النهي عن التبرك بآثار الأنبياء ومواضع عباداتهم، وقال ابن عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 2- التبرك ببعض الأشجار وبعض الأحجار وبعض الأعمدة وبعض الآبار والعيون التي يظن بعض العامة أن لها فضلاً، إما لظنهم أن أحد الأنبياء والأولياء وقف على ذلك الحجر، أو لاعتقادهم أن نبياً نام تحت تلك الشجرة، أو يرى أحدهم رؤيا أن هذه الشجرة أو هذا الحجر مبارك، أو يعتقدون أن نبياً اغتسل في تلك البئر أو العين، أو أن شخصاً اغتسل فيها فشفي، ونحو ذلك، فيغلون فيها ويتبركون بها فيتمسحون بالأشجار والأحجار، ويغتسلون بماء هذه البئر أو تلك العين طلباً للبركة، ويعلقون بالشجرة الخرق والمسامير والثياب"1"، فربما أدى بهم غلوهم هذا في آخر الأمر إلى عبادة هذه الأشياء، واعتقاد أنها تنفع وتضر بذاتها.   الباقي في شرح الموطأ، كما في التيسير ص295:"وقد كره مالك طلب موضع شجرة بيعة الرضوان مخالفة لليهود والنصارى". وينظر: حجة الله البالغة للدهلوي الهندي 1/543. "1" قال أبو شامة الشافعي في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث ص23، عند كلامه على أقسام البدعة التي تعرف العامة والخاصة أنها بدعة، قال:"ومن هذا القسم أيضاً ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون بهذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ولا شك أن التبرك بالأشجار والأحجار والعيون ونحوها، بأي نوع من أنواع التبرك، من مسح أو تقبيل، أو اغتسال، أو غيرها مما سبق ذكره محرم بإجماع أهل العلم"1"، ولا يفعله إلا الجهال؛ لأنه إحداث عبادات ليس   ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق -صانها الله تعالى– من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمي خارج باب توما، والعمود المخلَّق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهّل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات الأنواط الواردة في الحديث". ومن الأشياء التي توقع كثيراً من العامة في هذا الغلو تمسكهم ببعض الأحاديث المكذوبة، كحديث: " لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به "، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 11/513، 514، بعد ذكره لهذا الحديث:"هو من كلام أهل الشرك والبهتان، فإن عباد الأصنام أحسنوا ظنهم بها فكانوا هم وإياها من حصب جهنم، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} "، وينظر: إغاثة اللهفان 1/215. "1" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص808،809:"اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يُشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم عليه السلام، الذي ذكره الله في القرآن، فقال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ، فإذا كان هذا بالسنة المتواترة، وباتفاق الأئمة لا يشرع تقبيله بالفم، ولا مسحه باليد، فغيره من مقامات الأنبياء أولى ألا يُشرع تقبيلها بالفم ولا مسحها باليد. وأيضاً، فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه في المدينة النبوية دائماً لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا المواضع التي صلى فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 لها أصل في الشرع"1"، ولأنه من أعظم أسباب الوقوع في الشرك الأكبر"2"، ولما روى أبو واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم وأمتعتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم:" الله   بمكة وغيرها، فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين ويصلي عليه لم يُشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال: إن غيره صلى فيه أو نام عليه". "1" هذا فيما يتعبد به لله تعالى، أما فيما يتعلق بالاستشفاء بها مع أنه لم يثبت بالتجربة أو غيرها أن فيها شفاء، ونحو ذلك فهو محرم أيضاً من جهة اتخاذ ما ليس بسبب سبباً، فهو من الشرك الأصغر. "2" قال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجهاد، باب البيعة 6/118 في شرح قول ابن عمر: "كانت رحمة من الله"يريد خفاء موضع شجرة بيعة الحديبية على الصحابة:"سيأتي في المغازي موافقة المسيب بن حَزَن – والد سعيد – لابن عمر على خفاء الشجرة، وبيان الحكمة في ذلك: هو ألا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهداً فيما هو دونها، وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: كانت رحمة..". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 27/136، 137:"وأما الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها بعض العامة، أو يعلقون بها خرقاً، أو غير ذلك، أو يأخذون ورقها يتبركون به، أو يصلون عندها، أو نحو ذلك: فهذا كله من البدع المنكرة، وهو من عمل أهل الجاهلية، ومن أسباب الشرك بالله تعالى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف: 138] ، ثم قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم ""1". فلما طلب حدثاء العهد بالإسلام من الصحابة شجرة يتبركون بها تقليداً للمشركين أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبرهم أن طلبهم هذا يشبه طلب بني إسرائيل من موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة تقليداً لمشركي زمانهم، فطلبهم مشابه لطلب بني إسرائيل من جهة طلب التشبه بالمشركين فيما هو شرك، وإن كان ما طلبه هؤلاء الصحابة من الشرك الأصغر"2".   "1" رواه الإمام الشافعي في السنن المأثورة "400" وعبد الرزاق "20763"، وأحمد 5/218، والترمذي "2180"، وابن حبان في صحيحه "6702"، وغيرهم بإسناد صحيح. رجاله رجال الصحيحين، وقد صححه جمع من أهل العلم، ينظر: جهود الحنفية ص660. ومعنى ينوطون: أي يعلقون، وذات أنواط: اسم لشجرة بعينها. ينظر: الصحاح، والنهاية، مادة"نوط". "2" قال في القول المفيد، باب من تبرك بشجرة أو حجر 1/205 عند شرحه لحديث أبي واقد السابق:"فهؤلاء طلبوا سدرة يتبركون بها كما يتبرك المشركون بها، وأولئك طلبوا إلهاً كما لهم آلهة، فيكون في كلا الطلبين منافاة للتوحيد؛ لأن التبرك بالشجر نوع من الشرك، واتخاذه إلهاً شرك واضح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه ليس هناك حجر أو غيره يشرع مسحه أو تقبيله تبركاً، حتى مقام إبراهيم الخليل – عليه السلام – لا يشرع تقبيله مطلقاً مع أنه قد وقف عليه، وأثرت فيه قدماه – عليه السلام -، وهذا كله قد أجمع عليه أهل العلم"1". ومسح الحجر الأسود وتقبيله وكذلك مسح الركن اليماني في أثناء الطواف إنما هو من باب التعبد لله تعالى، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عمر رضي الله عنه لما قبل الحجر الأسود:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"رواه البخاري ومسلم"2".   "1" حكى هذا الإجماع شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 3/274، والاقتضاء ص808، كما حكاه جمع من علماء الحنفية كما في جهود علماء الحنفية ص657. "2" صحيح البخاري: الحج "1597"، وصحيح مسلم: الحج "1270". قال الملا علي القاري الحنفي في مرقاة المفاتيح: الحج، باب دخول مكة الفصل الثالث 3/213 في شرح قول عمر هذا:"فيه إشارة منه – رضي الله عنه – إلى أن هذا الأمر تعبدي، فنفعل، وعن علته لا نسأل، وإيماء إلى التوحيد الحقيقي الذي عليه مدار العمل، وقال الطيبي رحمه الله: إنما قال ذلك لئلا يغتر به بعض قريبي العهد بالإسلام ممن ألفوا عبادة الأحجار، فيعتقدون نفعه وضره بالذات، فبيَّن رضي الله عنه أنه لا يضر ولا ينفع لذاته، وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع باعتبار الجزاء"، وينظر شرح هذا الأثر في فتح الباري 3/462، 463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 كما أنه يجب قطع الأشجار وهدم الآبار والعيون، وإزالة الأحجار التي يتبرك بها العامة"1"، حسماً لمادة الشرك، كما فعل عمر –رضي الله عنه– حين قطع شجرة بيعة الرضوان"2".   "1" قال أبو بكر الطرطوشي المالكي المتوفى سنة 530هـ في الحوادث والبدع، الباب الثاني ص38، 39، بعذ ذكره لحديث أبي واقد الليثي السابق، قال:"فانظروا – رحمكم الله – أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها". "2" روى ابن سعد 2/100، وابن أبي شيبة 2/375، وابن وضاح "105" عن نافع مولى ابن عمر قال: "بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت"، قال الحافظ ابن حجر الشافعي في الفتح 7/44:"وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع … ". قلت: وهو كما قال، وقد كانت هذه الشجرة خفي مكانها على الصحابة فلم يستطيعوا معرفة مكانها، فقد جاء في صحيح البخاري "2958" عن ابن عمر قال: "رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله"، وقد سبق قريباً نقل كلام ابن حجر في شرح قول ابن عمر هذا، ومع ذلك فقد قام بعض الجهال من حدثاء العهد بالإسلام وغيرهم في عهد عمر بالتبرك بإحدى الأشجار بالحديبية بالتعبد لله عندها ظناً منهم أنها شجرة بيعة الرضوان، فقام عمر رضي الله عنه بقطع هذه الشجرة، حسماً لمادة الشر، وخوفاً عليهم من الغلو فيها فيقعوا هم أو من يأتي بعدهم في الشرك الأكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 3- التبرك ببعض الليالي والأيام التي يقال: إنها وقعت فيها أحداث عظيمة، كالليلة التي يقال إنها حصل فيها الإسراء والمعراج، ونحو ذلك، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بشيء من التفصيل في الفصل الخامس من هذا الباب عند الكلام على البدعة إن شاء الله تعالى. النوع الثالث: التبرك بالأماكن والأشياء الفاضلة: وردت نصوص شرعية كثيرة تدل على فضل وبركة كثير من الأماكن، كالكعبة المشرفة، والمساجد الثلاثة، وكثير من الأزمان كليلة القدر ويوم عرفة، وكثير من الأشياء الأخرى، كماء زمزم، والسحور للصائم، والتبكير في طلب الرزق ونحوه، وغير ذلك. والتبرك بهذه الأشياء يكون بفعل العبادات وغيرها مما ورد في الشرع ما يدل على فضلها فيها"1"، ولا يجوز التبرك بها بغير ما ورد، وعليه فمن تبرك بالأزمان أو الأماكن أو الأشياء التي وردت نصوص تدل على فضلها   "1" فمثلاً يكون التبرك بالكعبة المشرفة بالطواف بها، والتعبد لله تعالى باستلام الحجر الأسود والركن اليماني، أو تقبيل الحجر الأسود حال الطواف فقط، وبالصلاة داخلها، والتبرك بالمسجد الحرام بالصلاة والاعتكاف فيه، ونحو ذلك، والتبرك بليلة القدر بقيامها بالصلاة وقراءة كتاب الله تعالى ونحو ذلك، وماء زمزم بشربه والاغتسال منه طلباً للشفاء من الأمراض ونحو ذلك، وهكذا بقية الأشياء المباركة الفاضلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 أو بركتها بتخصيصها بعبادات أو تبركات معينة لم يرد في الشرع ما يدل على تخصيصها بها، فقد خالف المشروع، وأحدث بدعة ليس لها أصل في الشرع، وذلك كمن يخص ليلة القدر بعمرة، وكمن يتبرك بجدران الكعبة بتقبيلها أو مسحها، أو يتمسح بمقام إبراهيم أو بالحجر المسمى حجر إسماعيل، أو بأستار الكعبة، أو بجدران المسجد الحرام، أو المسجد النبوي وأعمدتهما ونحو ذلك، فهذا كله محرم، وهو من البدع المحدثة، وقد اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة على عدم مشروعيته"1"،   "1" اقتضاء الصراط المستقيم ص808،809، مجموع الفتاوى 4/521، و27/79،106-110، الاختيارات: الجنائز 92، والحج ص118، زيارة القبور للبركوي الحنفي ص52، مجلس الأبرار للرومي الحنفي مع خزينة الأسرار لسبحان بخش الهندي الحنفي ص130، ونفائش الأزهار للسورتي الحنفي ص161 نقلاً عن جهود علماء الحنفية ص657، إصلاح المساجد للقاسمي ص52، القول السديد للسعدي ص53، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 5/11،12. وروى عبد الرزاق: المقام "8957"، والفاكهي: ذكر مسح المقام "1005" بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ارأيت أحداً يقبل المقام أو يمسه؟ قال: أما أحد يعتد به فلا. وعطاء – وهو ابن أبي رباح – من أجلة التابعين، وممن لازم التدريس بالمسجد الحرام، فهذا يدل على إجماع الصحابة وعلماء التابعين على عدم مشروعيته، إذ لو كان مشروعاً لبادروا إلى فعله لحرصهم على الخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ومثله أن يتبرك بأحجار أو تراب شيء من المواضع الفاضلة بالتمرغ عليه أو بجمعه والاحتفاظ به. ومما يدل أيضاً على تحريم التبرك بالأشياء الفاضلة بغير ما ورد في الشرع ما ثبت في صحيح البخاري عن ثاني الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله جعل الحق على قلب عمر ولسانه ""1"، وقال صلى الله عليه وسلم عنه وعن أبي بكر:" اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ""2"، أنه قال رضي الله عنه لما قبَّل الحجر الأسود:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي   وروى الأزرقي 2/29، والطبري في تفسير الآية "125" من البقرة "2000" بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن التابعي الجليل قتادة بن دعامة في تفسير: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها. وقال الإمام النووي في منسكه، الباب الخامس ص397:"لا يُقبِّل مقام إبراهيم ولا يستلمه، فإنه بدعة"، وقال الهيتمي الشافعي في حاشيته عليه:"التقبيل والاستلام عبادتان مطلوبتان في الحجر الأسود، فلا يثبتان لغيره إلا بنص كذلك" ثم ذكر ما ثبت في الركن اليماني – يعني مسحه – وذكر أنه لم يثبت في المقام شيء. "1" سبق تخريجه قريباً عند بيان النوع الثاني. "2" سبق تخريجه قريباً عند بيان النوع الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"رواه البخاري ومسلم"1"، فقول عمر هذا صريح في أن تقبيل الحجر الأسود إنما هو اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمسلم يفعله تعبداً لله تعالى، واقتداءً بخير البرية صلى الله عليه وسلم، وليس من باب التبرك في شيء"2". وإذا كان هذا في شأن الحجر الأسود الذي هو أفضل الكعبة، فغيره من الأماكن والأشياء الفاضلة أولى، فيتعبد المسلم فيها بما ورد في الشرع ولا يزيد عليه. ومما يدل كذلك على تحريم التبرك بالأشياء الفاضلة بغير ما ورد في الشرع ما ثبت عن حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما– أنه أنكر على من استلم أركان الكعبة الأربعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني. رواه البخاري"3"، وما ثبت عن الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير – رضي الله عنهما – من الإنكار على من مسح مقام إبراهيم"4".   "1" سبق تخريجه قريباً. "2" ينظر: كلام الملا علي القاري الحنفي حول هذا الأمر، والذي سبق نقله بعد تخريج هذا الحديث. "3" صحيح البخاري، باب من لم يستلم إلا الركنين "1608"، ورواه الإمام أحمد 1/217 مطولاً، وفيه أن معاوية قال لابن عباس - رضي الله عنهم -: صدقت. "4" روى عبد الرزاق: باب المقام "8958" بإسناد صحيح عنه أنه رأى الناس يمسحون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وفي ختام الكلام على هذا الموضوع – أي التبرك البدعي – أقول: إن هذا النوع من التبرك من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الوقوع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، ولذلك لما عصى الله تعالى بعض المسلمين بفعل التبرك البدعي أدى ذلك بكثير منهم إلى الوقوع في الشرك الأكبر، وذلك بالوقوع في التبرك الشركي، أو بالوقوع في نوع آخر من أنواع الشرك الأكبر. وقد نقل ابن إسحاق صاحب المغازي وغيره ما يدل على أن سبب وقوع العرب في الشرك هو تعظيم حجارة حرم مكة والتبرك بها"1"، بل قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي عند كلامه على التبرك:" العامة لا تقتصر في ذلك على حد، بل تتجاوز فيه الحدود، وتبالغ في جهلها في التماس البركة، حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد، فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس فيه، وهذا التبرك هو أصل العبادة، ولأجله   المقام، فنهاهم، وقال: إنكم لم تؤمروا بالمسح، وإنما أمرتم بالصلاة، ورواه ابن أبي شيبة: مسح المقام 4/61، والفاكهي "1004" من طريق آخر. "1" ينظر: السيرة لابن هشام، قصة عمرو بن لحي 1/77، السيرة لابن كثير: ذكر بني إسماعيل 1/117، نقلاً عن ابن إسحاق، وقد ذكر ابن إسحاق والكلبي أن مشركي الجاهلية كانوا يتمسحون بالأصنام ويتبركون بها. ينظر: السيرة لابن هشام 1/81،83، الأصنام للكلبي ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 قطع عمر – رضي الله عنه – الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية حسبما ذكره أهل السير""1"، وهذا يدل أيضاً على تحريم جميع أنواع التبرك الممنوع.   "1" الاعتصام 2/9، وقال ابن الحاج المالكي كما في إصلاح المساجد ص "101":"التعليل الذي لأجله كره العلماء رحمهم الله تعالى التمسح بالمصحف والمنبر والجدران إلى غير ذلك أن ذلك كان السبب في عبادة الأصنام". وينظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص757،758،776، الحكم الجديرة بالإذاعة ص55، التيسير والقول السديد، باب من تبرك بشجرة أو حجر، الدين الخالص2/250، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/102،104، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص99، جهود علماء الحنفية ص621-682. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 المبحث الثالث : رفع القبور وتجصيصها، وإسراجها، وبناء الغرف فوقها، وبناء المساجد عليها، وعبادة الله عندها. وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن هذه الأمور كلها، ومنها: 1- ما رواه جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس"2" وهو يقول:" ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، إني أنهاكم عن ذلك "رواه مسلم"3".   "2" أي قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام بخمس ليال. "3" صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور "532". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 2- ما رواه ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد ""1". 3 - ما روته أم المؤمنين عائشة وابن عباس - رضي الله عنهم – قالا:"لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه"2"، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك:" لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر مثل ما صنعوا. قالت عائشة - رضي الله عنها -:"ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي"3"، أن يتخذ مسجداً". رواه البخاري ومسلم"4".   "1" رواه الإمام أحمد "3844،4143، 4342"، وابن أبي شيبة في الجنائز 3/345، والطبراني "10413" وابن خزيمة في صحيحه "789،790"، وابن حبان في صحيحه "2325" بإسنادين أحدهما حسن، والثاني محتمل للتحسين، وقد جود إسناده شيخ الإسلام في الاقتضاء، والشوكاني في النيل 1/139، وحسنه الهيثمي في المجمع 2/27، وقال الألباني في الجنائز ص287:"رواه أحمد بإسنادين حسنين". "2" أي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضره الموت جعل يضع خميصة له – وهي كساء له أعلام – على وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم. "3" ضبط بفتح الخاء، وضبط بضمها. ينظر: فتح الباري 3/200. "4" صحيح البخاري "435، 436"، وصحيح مسلم "529، 531". قال الحافظ ابن حجر الشافعي في الفتح، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور من كتاب الجنائز 3/200 عند قول عائشة - رضي الله عنها -:"ولولا ذلك لأبرز قبره" قال:"أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 .................................................................................   لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ عليه الحائل، والمراد الدفن خارج بيته، وهذا قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي، ولهذا لما وسع جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة، حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة". وقال أبو العباس القرطبي المالكي المتوفى سنة "656هـ" في المفهم 2/932 عند شرحه لهذا الحديث: "ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتتصوَّر الصلاة إليه بصورة العبادة فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وتحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من جهة الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره، ولهذا الذي ذكرناه كله قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبر نبيه". اهـ. وهذه العلة لدفنه صلى الله عليه وسلم في غرفة عائشة – رضي الله عنها – هي السبب الثابت في ذلك، لثبوته في الصحيحين كما سبق. أما حديث:" ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه " فقد اختلف في ثبوته. وعلى فرض ثبوته فهو يؤيد رواية الفتح للفظة"خشي". في حديث عائشة، وعليه يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بدفنه في موضع وفاته لئلا يتخذ قبره مسجداً. ينظر: الفتح 1/529، و3/200. وكانت توسعة المسجد النبوي وإدخال غرفة عائشة - رضي الله عنها - فيه في عهد الوليد بن عبد الملك الأموي بأمر منه بعد موت جميع الصحابة الذين بالمدينة لما احتاجوا إلى توسعته، وكانت حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بجانب المسجد، فاشتريت وضمت إلى المسجد، ومنها حجرة عائشة - رضي الله عنها – التي فيها قبر خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، فأعيد بناء الحجرة وجعلت مثلثة لكي لا تستقبل عند الصلاة كما سبق، وفي العصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 4- ما رواه أبو الهياج الأسدي – رحمه الله – قال: قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:" ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنْ لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ". رواه مسلم. 5- ما رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما – قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه. رواه مسلم"2".   المتأخرة بنيت قبة على القبر، بناها أحد ملوك مصر المتأخرين، سنة 678هـ. ينظر: تاريخ الطبري، حوادث سنة "88هـ" 6/435، تاريخ الإسلام للذهبي الشافعي، حوادث سنة "81-100 "ص32، اقتضاء الصراط المستقيم ص685، مجموع الفتاوى 27/399، البداية والنهاية 12/413-415، الصارم المنكي ص196-201، فتح الباري، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم 3/257. وقال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في آخر رسالة تطهير الاعتقاد ص53:"فإن قلت: هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عمرت عليه قبة عظيمة أنفقت فيها الأموال؟ قلت: هذا جهل عظيم بحقيقة الحال، فإن هذه القبة ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم، ولا من أصحابه، ولا من تابعيهم، ولا تابعي التابعين، ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وسلم من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي، المعروف بالملك المنصور، في سنة 678هـ، ذكره في تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة، فهذه أمور دولية، لا دليلية يتبع فيها الآخر الأول". "1" صحيح مسلم، الجنائز، النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه "969". "2" صحيح مسلم "970". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ولهذه الأحاديث شواهد كثيرة من أحاديث جمع من الصحابة بلغت حد التواتر"1".   "1" وقد جزم بتواترها جمع من أهل العلم منهم شيخ الإسلام في الاقتضاء ص672، والحافظ السيوطي الشافعي في الأمر بالاتباع ص9، والبركوي الحنفي في زيارة القبور ص6، وأبوعبد الله الكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر رقم "109"، ومن هذه الأحاديث: 6 - حديث أبي هريرة مرفوعاً:" اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " رواه أحمد 2/246 بإسناد حسن. 7 - حديث عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة "رواه البخاري "434"، ومسلم "528". 8 - حديث أبي هريرة مرفوعاً:" قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "رواه البخاري "437"، ومسلم "530". 9 - حديث أبي عبيدة بنحو الحديث الذي قبله، رواه الإمام أحمد 1/196، والبزار "439"، وقال الهيثمي 2/28: "رجاله ثقات"وصححه الألباني في تحذير الساجد ص1. 10 - حديث أسامة عند الطيالسي "منحة 2/113"، وأحمد 5/204، والطبراني "393، 411" بنحو حديث أبي هريرة، وقال الهيثمي 2/27:"رجاله موثقون" وقال الشوكاني في النيل 2/139: "سنده جيد". 11 - حديث زيد بن ثابت بنحو حديث أبي هريرة، رواه أحمد 5/184، 186، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 .........................................................................   والطبراني "4907"، وقال الهيثمي 2/27:" رجاله موثقون"، وقال الشوكاني في النيل 2/139:"سنده جيد". 12، 13، 14- أحاديث أبي سعيد، وابن عباس، وأبي مرثد في النهي عن الصلاة إلى القبور، وفي بعضها النهي عن البناء على القبر، وستأتي مفصلة قريباً إن شاء الله تعالى. 15 - حديث فضالة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بتسوية القبور. رواه مسلم "968". 16 - حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما – قال:" إن تسوية القبور من السنة، وقد رفعت اليهود والنصارى، فلا تشبهوا بهما". رواه الطبراني في الكبير 19/352 رقم "823" وإسناده حسن، وقد صححه الألباني في أحكام الجنائز ص267، وقال الهيثمي 3/57:"رجاله رجال الصحيح". 17 - حديث الحارث النجراني بمثل حديث جندب، رواه ابن أبي شيبة: الصلاة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم 2/375، 376، وصحح إسناده في تحذير الساجد ص15. 18 - حديث كعب بن مالك بمثل حديث جندب، قال الهيتمي الشافعي في الزواجر 1/148:"أخرجه الطبراني بسند لا بأس به". 19 - حديث عائشة مرفوعاً في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وفي آخره:"يحرم ذلك على أمته"رواه الإمام أحمد 6/274. 20،21 - حديثا علي وأبي هريرة:" لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً " وسيأتي تخريجهما قريباً إن شاء الله تعالى. 22 - حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً:" الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه الإمام أحمد3/8، وأبو داود "492"، وابن خزيمة في صحيحه "791"، وابن حبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ومعنى اتخاذ القبور مساجد: بناء المساجد عليها، ويدخل فيه أيضاً جعلها مكاناً للصلاة ولو لم يبن عليها أو بينها مسجد، ويشمل السجود   في صحيحه "2316" وجود إسناده شيخ الإسلام في الاقتضاء ص677، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على الإحسان. 23 - حديث علي:"إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة" رواه أبو داود "490، 491"، وهو حسن لغيره. 24 - حديث أبي هريرة مرفوعاً:" لا تجعلوا بيوتكم مقابر "رواه مسلم "780". 25 - حديث ابن عمر مرفوعاً:" اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً "رواه البخاري "432"، ومسلم "777". 26 - حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة بين القبور، رواه البزار كما في كشف الأستار "441،442،443"، وأبو يعلى "2788"، وابن حبان في صحيحه "2322،2323"، وقال الهيثمي 2/27:"رجاله رجال الصحيح". 27 - حديث عبد الله بن عمرو بنحو حديث أنس رضي الله عنه. رواه ابن حبان في صحيحه "2319" وهو حسن لغيره. 28 - حديث واثلة في النهي عن الصلاة إلى القبور. رواه الطبراني 22/79، وهو حسن لغيره. وفي الباب عدة مراسيل عن جمع من التابعين منهم الحسن بن الحسن بن علي وعمر بن عبد العزيز وزيد بن أسلم، وعمرو بن دينار، وعطاء في النهي عن اتخاذ القبور مساجد. تنظر في الموطأ 2/892، ومصنف عبد الرزاق "1587،1591"، ومصنف ابن أبي شيبة 2/375، وتحذير الساجد ص18، 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 على القبر، ويشمل الصلاة إليه وجعله في قبلة المصلي، ويشمل قصد الصلاة والدعاء والذكر عنده"1". وقد وردت أحاديث فيها النص على النهي عن هذه الأمور بخصوصها، ومنها: 1- ما رواه أبو مرثد الغنوي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تصلوا إلى القبور "2" ولا تجلسوا عليها "رواه مسلم"3".   "1" وقد نص على هذا أو على بعضه جمع من أهل العلم، ينظر: مصنف عبد الرزاق 1/406، الأم للإمام الشافعي 1/278، الاقتضاء ص677، فتح الباري 3/200، الأمر بالاتباع ص61، الزواجر 1/147، سبل السلام 1/263، معارج الألباب للنعمي اليماني ص123، القول المفيد، باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر 1/409. ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل "رواه البخاري "335"، ومسلم "521". وقد وردت أحاديث خاصة في تحريم الصلاة في المقابر وإلى القبر، وقد سبق ذكر بعضها قريباً، وقد ذكر ابن حزم في المحلى 4/130 أن الأحاديث في ذلك بلغت حد التواتر. "2" قال الملا علي القاري الحنفي في مرقاة المفاتيح، باب دفن الميت 2/372:"أي مستقبلين إليها لما فيه من التعظيم البالغ؛ لأنه من مرتبة المعبود، ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظِّم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم". "3" صحيح مسلم: الجنائز "972". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 2- ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور، أو يقعد عليها، أو يصلى عليها"1". 3- ما رواه ابن عباس مرفوعاً:" لا تصلوا إلى قبر، ولا تصلوا على قبر ""2". وورد في الأحاديث أيضاً النهي عن اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلم عيداً، والعيد المكاني هو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة"3". ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني   "1" رواه الطبراني في الكبير "12051، 12168" من طريقين، وقد صححه بمجموعهما الألباني في تحذير الساجد ص2. "2" رواه أبو يعلى "1020"، وابن ماجه "1562"، وإسناد أبي يعلى صحيح، رجاله رجال مسلم، وقد صححه الألباني في أحكام الجنائز ص264. "3" قال الحافظ ابن القيم الحنبلي في إغاثة اللهفان ص194:"العيد: مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله تعالى عيداً للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام التعبد فيها عيداً"، وينظر: الاقتضاء ص665، الأمر بالاتباع للسيوطي ص58، شرح الصدور بتحريم رفع القبور للشوكاني ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 حيث كنتم ""1"، وإذا كان هذا في حق قبره صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل قبر على وجه الأرض، فكيف بقبر غيره من البشر"2". ولصحة هذه الأحاديث وتواترها عن النبي صلى الله عليه وسلم وتنوع الوعيد الوارد   "1" رواه أحمد 2/367، وأبو داود "2042" بإسناد حسن، وقد حسنه الحافظ ابن عبد الهادي وابن حجر وغيرهما، وقد توسعت في تخريجه في رسالة"اليهود"رقم "53". وله شاهد من حديث علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، ثم روى عن أبيه عن جده مرفوعاً.. فذكره بنحو الحديث السابق، رواه إسماعيل بن إسحاق المالكي في رسالة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم "20" وغيره. وقد حسنه بعض أهل العلم، تنظر: رسالة اليهود "53". وله شاهد آخر من حديث الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب مرسلاً بنحو الرواية السابقة الموقوف منها والمرفوع، رواه عبد الرزاق "6726" وإسماعيل بن إسحاق وغيرهما. وهو حسن لغيره، وقد توسعت في تخريجه في رسالة اليهود "53"، وينظر: تحذير الساجد ص96. "2" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء 2/662 عند كلامه على هذا الحديث:"وجه الدلالة أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً " أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم". وينظر: الأمر بالاتباع للسيوطي الشافعي ص58، زيارة القبور للبركوي الحنفي ص6، ورحلة الصديق لحسن خان البخاري ص153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 فيها"1" فقد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من سلف هذه الأمة وجميع من سار على طريقتهم على تحريم بناء المساجد أو الغرف أو القبب على القبور أو بينها"2".   "1" قال علامة اليمن محمد بن علي الشوكاني في رسالة:"شرح الصدور بتحريم رفع القبور"ص27،28:"إن رفع القبور ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله تارة، كما تقدم، وتارة قال: " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " فدعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية. وذلك ثابت في الصحيح. وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث من يهدمه، وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى، وتارة قال: " لا تتخذوا قبري وثناً "، وتارة قال: " لا تتخذوا قبري عيداً " "أي موسماً يجتمعون فيه"، كما صار يفعله كثير من عباد القبور، يجعلون لمن يعتقدون من الأموات أوقاتاً معلومة يجتمعون فيها عند قبورهم ينسكون لها المناسك، ويعكفون عليها". "2" قال العلامة محمد بن علي الشوكاني اليماني في أول رسالة"شرح الصدور بتحريم رفع القبور"ص17:"اعلم أنه اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة - رضي الله عنهم – إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها – كما يأتي بيانه – ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين". وروى ابن سعد 6/108 بإسناد حسن عن التابعي الجليل عمرو بن شرحبيل أنه قال: "لا ترفعوا جدثي – أي القبر – فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك". وصححه الألباني في تحذير الساجد ص98، وقال الإمام الشافعي في الأم، باب ما يكون بعد الدفن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 .......................................................................................   1/278:"وأكره أن يبنى على القبر مسجد، أو يصلى إليه، وإن صلى إليه أجزأه، وقد أساء، وأكره هذا للسنة والآثار"، والكراهة عند السلف يراد بها التحريم، وهذا هو معناها الذي استعملت فيه في القرآن والسنة، كما في قوله تعالى بعد ذكره لجملة من عظائم الذنوب: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} ، وينظر: إعلام الموقعين 1/39-43. وقال الحافظ السيوطي الشافعي في الأمر بالاتباع ص59،60:"فأما بناء المساجد عليها وإشعال القناديل والشموع أو السرج، فصرح عامة علماء الطوائف بالنهي عن ذلك ولا ريب في القطع بتحريمه". وقال ابن عابدين الحنفي في حاشيته 1/601:"أما البناء عليه فلم أر من اختار جوازه". وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يعلم خلافاً بين العلماء المعروفين في تحريم إسراج القبور، ولا في تحريم اتخاذ المساجد عليها وبينها. ينظر: مجموع الفتاوى 3/398، و22/194 و24/302، و26/153، و27/448،495، و31/45، 60، الاقتضاء ص747، الاختيارات: الجنائز ص8. وقال الإمام البركوي الحنفي المتوفى سنة 981هـ في زيارة القبور ص6 عند كلامه على أحكام القبور:"وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها". وقال الإمام النووي الشافعي المتوفى سنة "676هـ" في المجموع في الجنائز 5/316: "اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهوراً بالصلاح أو غيره، لعموم الأحاديث"وسيأتي النقل عن بعض علماء الشافعية أن هذا من كبائر الذنوب قريباً إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ...............................................................................   وقال الإمام محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة في الآثار 2/191 عند كلامه على أحكام القبر: "نكره أن يجصص أو يطين أو يجعل عنده مسجد … وهو قول أبي حنيفة"وقال العيني الحنفي في البناية 3/303:"وكره أبو حنيفة أن يبنى على القبر أو يصلى إليه، أو يصلى بين القبور"وإذا أطلق الإمام أبو حنيفة الكراهة فمراده كراهة التحريم، وعند محمد وأبي يوسف بمعنى المحرم كما نص على ذلك علماء الحنفية. ينظر: تكملة فتح القدير لابن الهمام، أول كتاب الكراهية 10/4، وينظر أصله الهداية للمرغيناني الحنفي المطبوع معه. وقال الإمام القرطبي المالكي المتوفى سنة "671هـ" في تفسير الآية 21 من الكهف 10/379،380:"اتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز"ثم ذكر الأحاديث التي فيها النهي عن ذلك، ثم قال:"قال علماؤنا: وهذا يحرِّم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد"وقال ابن عبد البر المالكي الأندلسي المتوفى سنة "463هـ" في التمهيد 1/128 بعد ذكره لحديث عائشة في ذكر كنيسة الحبشة السابق:"هذا يحرِّم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء والصالحين مساجد". وقال في المنتهى وشرحه في الفقه الحنبلي: الجنائز 1/353:"ويحرم إسراجها – أي القبور – ويحرم التخلي على القبور وبينها، ويحرم جعل مسجد عليها وبينها". وينظر: بدائع الصنائع 1/320، وتبيين الحقائق 1/246، والتيسير، باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر ص288-290، ورسالتا"عمارة القبور" و"البناء على القبور"للمعلمي اليماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 كما أجمع أهل العلم على تحريم رفع القبور، سواء كان رفعها بجعل تراب القبر مرتفعاً أكثر من شبر"1" أم برفع جوانب القبر بطين أو بأحجار أو بغيرهما"2"، وعلى تحريم إيقاد المصابيح والأنوار عندها"3".   "1" أما رفع التراب إلى مقدار شبر فهو جائز؛ لما روى ابن حبان "6635"، والبيهقي 3/410 أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم رُفع قدر شبر. وإسناده حسن. قال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق 2/209:"ويسنم قدر شبر، وقيل: قدر أربع أصابع، وما ورد في الصحيح من حديث علي: أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، محمول على ما زاد على التسنيم"، وينظر: المجموع 5/296، 297. "2" ينظر التعليق المذكور قبل التعليق السابق. "3" ينظر التعليق المذكور قبل التعليقين السابقين. وقال علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في إصلاح المساجد الباب الرابع ص 210: "وقال في شرح الإقناع: من نذر إسراج بئر أو مقبرة أو جبل أو شجرة أو نذر له أو لسكانه أو المضافين إلى ذلك المكان لم يجز الوفاء به إجماعا". وقال البركوي الحنفي المتوفي سنة "918"هـ في زيارة القبور ص6عند ذكره لإيقاد السرج عند القبور: " صرح الفقهاء بتحريمه ولهذا قال العلماء: لا يجوز أن ينذر للقبور لا شمع ولا زيت ولا غير ذلك فإنه نذر معصية لا يجوز الوفاء به بالإتفاق ولا يوقف عليه شيئا لأجل ذلك فإن هذا الوقف لا يصح ولا يحل إثباته وتنفيذه" وقال الرومي الحنفي المتوفي سنة "1043"هـ في المجالس الأربعة من مجالس الأبرار ص366: "يجب إزالة كل قنديل وسرج وشمع أوقدت على القبور لأن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الكبائر ولهذا قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 كما أجمعوا على تحريم الصلاة في المسجد الذي بني على قبر"1"، وقال   العلماء لا يجوز أن ينذر للقبور الشمع ولا الزيت ولا غير ذلك فإنه نذر معصية لا يجوز الوفاء به ". "1" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص775:"فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم أو غيره، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه، ولا تصح عندنا في ظاهر المذهب لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك، ولأجل أحاديث أخر". وفي الاختيارات لشيخ الإسلام أيضاً ص44:"عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم – أي الإمام أحمد وأصحابه – يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب، والمقبرة كل ما قبر فيه، لا أنه جمع قبر، وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه، فهذا يعين أن المنع يكون متناولاً لحرمة القبر الواحد وفنائه المضاف إليه، وذكر الآمدي وغيره أنه لا يجوز الصلاة فيه – أي المسجد الذي قبلته إلى القبر – حتى يكون بين الحائط – أي حائط المسجد – وبين المقبرة حائل آخر، وذكر بعضهم أنه منصوص أحمد". وقال شيخ الإسلام في رسالة"الجواب الباهر في زور المقابر"كما في مجموع الفتاوى 26/ 348، 424:"والصلاة في المساجد المبنية على القبور منهي عنها مطلقاً، بخلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 كثير منهم ببطلان هذه الصلاة، لأجل النهي عنها"1". وأجمعوا على أنه لا يجوز دفن الميت في المسجد"2"، وأجمعوا على وجوب إزالة المسجد المبني على القبر، أو إزالة صورة القبر من المسجد،   مسجده صلى الله عليه وسلم، فإن الصلاة فيه بألف صلاة، فإنه أسس على التقوى، وكانت حرمته في حياته صلى الله عليه وسلم وحياة خلفائه الراشدين قبل دخول الحجرة فيه، … فإنها أدخلت بعد انقراض عصر الصحابة … وهم لم يقصدوا دخول الحجرة فيه، وإنما قصدوا توسيعه بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت الحجرة فيه ضرورة، مع كراهة من كره ذلك من السلف". وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في فتح الباري 2/442 بعد ذكره رواية لحديث عائشة في لعن من اتخذ القبور مساجد، وفي آخرها زيادة:"يحرم ذلك على أمته"قال:"وقد اتفق أئمة الإسلام على هذا المعنى". وينظر التعليق الآتي عند ذكر حكاية الإجماع على أن الذهاب إلى القبور للتعبّد لله عندها من البدع. "1" ينظر: مجموع الفتاوى 3/398، وفتح الباري للحافظ ابن رجب 2/399. وقال علامة اليمن محمد بن علي الشوكاني في نيل الأوطار بعد ذكره لأحاديث النهي عن الصلاة في المقبرة، وبعد نقله قول ابن حزم: إن الأحاديث في ذلك متواترة ج2ص137: "أحاديث النهي المتواترة كما قال ذلك الإمام لا تقصر عن الدلالة على التحريم الذي هو المعنى الحقيقي له، وقد تقرر في الأصول: أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، فيكون الحق التحريم والبطلان، لأن الفساد الذي يقتضيه النهي هو المرادف للبطلان من غير فرق بين الصلاة على القبر وبين المقابر وكل ما صدق عليه لفظ المقبرة". "2" قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 22/194، 195:"اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر … وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غيّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وصرح كثير منهم بوجوب إزالة كل بناء على القبور أو رفع لها"1".   إما بتسوية القبر، وإما بنبشه إن كان جديداً، وإن كان المسجد بني بعد القبر فإما أن يزال المسجد، وإما أن تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل، فإنه منهي عنه". وقال ابن عبد الباقي في شرح الموطأ كما في التيسير ص295:"روى أشهب عن مالك أنه كره لذلك أن يدفن الميت في المسجد". وقال الحافظ العراقي الشافعي كما في فيض القدير للمناوي 5/247: "لو بنى مسجداً بقصد أن يدفن في بعضه دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط، لمخالفته لمقتضى وقفه مسجداً". وقال مرعي الحنبلي المقدسي في دليل الطالب 1/177:"ويحرم إسراج المقابر، والدفن في المساجد، وفي ملك الغير، ويُنبش" "1"قال الحافظ السيوطي الشافعي المتوفى سنة "911هـ" في الأمر بالاتباع ص61:"فهذه المساجد المبنية على القبور يتعين إزالتها، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف". وقال الشيخ أحمد الرومي الحنفي المتوفى سنة "1043هـ" كما في المجالس الأربعة من مجالس الأبرار ص366: "المساجد المبنية على القبور فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض، وكذا القباب التي بنيت على القبور يجب هدمها؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفته، وكل بناء أسس على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفته فهو بالهدم أولى من مسجد الضرار؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن البناء على القبور، ولعن المتخذين عليها مساجد، فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وأجمعوا أيضاً على أن الذهاب إلى القبور بقصد التعبد لله تعالى عندها، بالصلاة عندها أو إليها، أو للذبح لله عندها، أو دعاء الله تعالى   وجاء في فتاوى الإمام النووي الشافعي ص46 ما نصه:"مسألة: مقبرة مسبلة للمسلمين بني إنسان فيها مسجداً وجعل فيها محراباً، هل يجوز ذلك؟ وهل يجب هدمه؟ الجواب: لا يجوز له ذلك، ويجب هدمه؟ ". وقال الإمام النووي أيضاً في شرح مسلم 7/37، 38:"قال الشافعي في الأم: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويؤيد الهدم قوله - أي في الحديث -:" ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ". وقال ابن حجر الهيتمي الشافعي في شرح المنهاج كما في روح المعاني 8/226:"وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية، حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة فيتعين الرفع للإمام أخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح". وقال الإمام القرطبي المالكي المتوفى سنة 671هـ في تفسيره 10/381 بعد ذكره لحديث علي:" ولا قبراً مشرفاً إلا سويته "، قال:"قال علماؤنا: ظاهرة منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة، وقد قال به بعض أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم … وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيماً وتعظيماً فذلك يهدم ويزال، فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، تشبهاً بمن كان يعظم القبور ويعبدها، وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي ينبغي أن يقال: هو حرام، والتسنيم في القبر ارتفاعه قدر شبر". وينظر: التعليق السابق، والتعليق السابق عند ذكر حكاية الإجماع على تحريم الصلاة في المسجد الذي بُني على قبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 عندها"1"، أو بغير ذلك من العبادات أن ذلك كله من البدع المنهي عنها"2".   "1" قال العلامة محمد بن بشير السهسواني الهندي في صيانة الإنسان ص265:"المقصود من الدعاء الذي ينهى عنه عند القبر هو الدعاء الذي يقصد زيارة القبر لأجله، ويظن أن الدعاء عند القبر مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته لأجل طلب حوائجه، وأما الدعاء لنفسه عند القبر بالعافية وعدم حرمان الأجر وعدم الفتنة تبعاً للدعاء لأصحاب القبور والترحم عليهم والاستغفار لهم فلا ينهى عنه أحد من المسلمين". "2" ينظر: مجموع الفتاوى 1/354، و23/224، و24/318،320، و26/146-156، و27/22، 115،130-152، 180،380،488،495، واقتضاء الصراط المستقيم ص680-687، وص762-775، وص827، الصارم المنكي ص109،178، 179، رحلة الصديق ص153. وروى ابن حزم في المحلى 4/32 النهي والتغليظ على الصلاة في المقبرة أو عند القبر عن جمع من الصحابة، ثم قال:"فهؤلاء عمر وعلي وأبو هريرة وأنس وابن عباس ما نعلم لهم مخالفاً من الصحابة". وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عمن يأتي إلى قبر نبي أو غيره من الصلحاء ثم يدعو في كشف كربته، فأجاب كما في مجموع الفتاوى 27/151،152:"الحمد لله رب العالمين، ليس ذلك بسنة بل هو بدعة، لم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، ولا من أئمة الدين الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم، ولا أمر بذلك ولا استحبه: لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، ولا أئمة الدين، بل لا يعرف هذا عن أحد من أهل العلم والدين من القرون المفضلة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لا من أهل الحجاز، ولا من اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا المغرب، ولا خراسان، وإنما أحدث بعد ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 .................................................................................   ومعلوم أن كل ما لم يسنه ولا استحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم فإنه يكون من البدع المنكرات.. فمن اتخذ عملاً من الأعمال عبادة وديناً وليس ذلك في الشريعة واجباً ولا مستحباً فهو ضال باتفاق المسلمين". وقال الإمام النووي في المجموع 5/316،317:"قال الشافعي والأصحاب: وتكره الصلاة إلى القبور، سواء كان الميت صالحاً أو غيره. قال الحافظ أبو موسى: قال الإمام أبو الحسن الزعفراني – رحمه الله -: ولا يصلى إلى قبر ولا عنده تبركاً به وإعظاماً له، للأحاديث"، وقال الملا علي القاري الحنفي في المرقاة 2/372 عند شرحه لحديث"لا تصلوا إلى القبور"قال:"ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه حقيقة لكفر المعظِّم، فالتشبه به مكروه، وينبغي أن تكون كراهة تحريم". وقال الحافظ السيوطي الشافعي في الأمر بالاتباع ص63 عند كلامه على أحكام القبور:"فأما إن قصد الإنسان الصلاة عندها، أو الدعاء لنفسه في مهامه وحوائجه متبركاً بها راجياً للإجابة عندها فهذا عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه وشرعه، وابتداع دين لم يأذن به الله ولا رسوله ولا أئمة المسلمين المتبعين آثاره وسننه". وقال البركوي الحنفي في"زيارة القبور"ص6:"وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها – أي على القبور – والصلاة إليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، ونص أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة وإن أطلقت الكراهة لكن ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم، إحساناً للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وأجمعوا كذلك على أن الطواف بالقبور تقرباً إلى الله تعالى أو إلى غيره محرم"1". وذكر بعض علماء الشافعية وبعض علماء الحنفية أن هذه الأمور كلها من كبائر الذنوب"2".   وحكى إسماعيل بن إسحاق المالكي والقاضي عياض المالكي كما في صيانة الإنسان للسهسواني ص260، 262 عن الإمام مالك أنه قال:"لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي"، وقال المناوي الشافعي في فيض القدير 6/407 عند شرحه لحديث:" لا تصلوا إلى قبر ولا على قبر "قال:"إن قصد إنسان التبرك بالصلاة في تلك البقعة فقد ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله، ويؤخذ من الحديث النهي عن الصلاة في المقبرة، فهي مكروهة كراهة تحريم" انتهى كلامه ملخصاً، وينظر التعليق المذكور بعد التعليق الآتي. "1" قال الكناني الشافعي في هداية السالك: الزيارة 3/1391:"ولا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم، ولا ببناء غير الكعبة الشريفة بالاتفاق". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 26/146 عند كلامه على زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:"واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها، وإذا قال في سلامه: السلام عليك يا رسول الله، يا نبي الله، يا خيرة الله من خلقه، ويا أكرم الخلق على ربه، يا إمام المتقين، فهذا كله من صفاته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة"وينظر أيضاً: مجموع الفتاوى 2/521، و4/521، و26/149، الصارم المنكي ص214، 215. "2" قال الهيتمي الشافعي في الزواجر عن اقتراف الكبائر " الكبيرة 93-98ج1 ص148،149":"الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وحكى بعض العلماء من الحنفية وغيرهم الإجماع على أنه لا يستحب السفر من أجل زيارة القبر"1".   القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها"ثم ذكر الأحاديث التي فيها النهي عن هذه الأمور ولعن فاعلها، ثم قال:"تنبيه: عد هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية، وكأنه أخذ ذلك مما ذكرته من هذه الأحاديث، ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجداً منها واضح؛ لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم القيامة، ففيه تحذير لنا، ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً … وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت" انتهى كلامه – رحمه الله – بحروفه مختصراً. وقد نقل الألوسي الحنفي كلام الهيتمي هذا مقراً له مستحسناً له في تفسيره روح المعاني 8/225،226. "1" قال البركوي الحنفي المتوفى سنة 981هـ في"زيارة القبور"ص22 عند كلامه على مفاسد الغلو في القبور:"ومنها السفر إليها مع التعب الأليم والإثم العظيم، فإن جمهور العلماء قالوا: السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول رب العالمين، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك قربة وطاعة فقد خالف السنة والإجماع – أي الإجماع على عدم الاستحباب – ولو سافر إليها بذلك الاعتقاد – أي اعتقاد أن السفر مستحب – يحرم بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلا لذلك". وينظر: مجموع الفتاوى 4/520، و26/150، و27/13-385، الصارم المنكي ص109، 219،220، رحلة الصديق إلى البيت العتيق، لصدّيق حسن خان البخاري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فيجب على المسلم الذي يريد لنفسه السلامة البعد عن هذه البدع المحرمة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم وغلظ على من فعلها، كما ابتعد عنها جميع سلف هذه الأمة اتباعاً منهم للنبي صلى الله عليه وسلم، واجتناباً لما نهى عنه"1".   الباب الخامس ص139-150. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 27/308:"علماء المسلمين إذا تنازعوا في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بل القول الثالث يكون مخالفاً لإجماعهم، والمسلمون تنازعوا في السفر لغير المساجد الثلاثة على قولين: هل هو حرام أو جائز غير مستحب، فاستحباب ذلك قول ثالث مخالف للإجماع، وليس من علماء المسلمين من قال: يستحب السفر لزيارة القبور". قلت: والعمدة في تحريم السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة حديث:" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ". متفق عليه، وقد أجاد محدث الشام الألباني رحمه الله في بيان أن المراد من الحديث النهي عن السفر إلى بقعة سوى المساجد الثلاثة، وأيضاً قد ثبت الإنكار من أبي بصرة وابن عمر على من أراد السفر إلى جبل الطور بسيناء، واستدلا على ذلك بهذا الحديث، وأقر أبو هريرة أبا بصرة على ذلك بسكوته، فهؤلاء ثلاثة من الصحابة يرون المنع من ذلك، ولم يخالفهم أحد في عصرهم، وقد قال بتحريم السفر إلى القبور أيضاً من المتأخرين علماء من كافة المذاهب من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ينظر: فتح الباري لابن حجر: شرح حديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 3/65، وحجة الله البالغة للدهلوي الحنفي 1/192، والجنائز للألباني ص285-293، وتنظر المراجع المذكورة أول هذا التعليق. "1" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص762:"ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 ................................................................................   وتابعيهم في بلاد الإسلام، لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني على قبر، ولا مشهد يقصد للزيارة أصلاً، ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي، لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره. وينظر المرجع نفسه ص769، ومجموع الفتاوى 27/81،466، الصارم المنكي ص109، الدرر السنية 1/305، 306. وقال علامة اليمن الإمام المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني في حاشيته"العدة"على إحكام الأحكام لابن دقيق العيد في الجنائز شرح الحديث الحادي عشر 3/258، 259: "وكان البناء على القبور رأي الجاهلية ودأبهم، ولهذا أخرج مسلم وأصحاب السنن عن أبي الهياج الأسدي عن علي رضي الله عنه أنه قال له: ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته … . فإن قلتَ: ما هذا البلاء الذي عم الدنيا فلا تجد بلدة من بلاد الإسلام غالباً إلا فيها قباب ومشاهد مجصصة مفضضة مبني عليها، ويسرجون عليها الشموع والقناديل بحيث إنها تضاهي كنائس أهل الكتاب أو تنيف عليها؟ . قلتُ: هذا يفعله الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، وهل يفعل هذا إلا ملوك الدنيا وأساطين الظلم الذين يأكلون أموال الناس بالباطل؟ وهل فعله الصحابة بقبره صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف قبر على وجه الأرض؟ بل كان قبره صلى الله عليه وسلم كما رواه أبو داود وغيره عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: دخلت على عائشة – رضي الله عنها – فقلت: يا أمه، اكشفي لي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وعليه فمن أصر على فعل شيء من هذه الأمور المحرمة أو دعا إلى فعلها فقد عرّض نفسه لعقوبة الله في الدنيا والآخرة. والبعد عن هذه الأمور التي حذر منها نبينا – عليه الصلاة والسلام – علامة على محبته صلى الله عليه وسلم، وفعلها محادة له – عليه الصلاة والسلام – ومخالفة لسنته ورد لها"1".   قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. وكذلك لم يفعله أمير المؤمنين بقبر سيدة نساء العالمين فاطمة بنت سيد المرسلين، ولا فعله الحسنان بقبر أبيهما أمير المؤمنين عليه السلام، ولا يعلم عن أحد من أئمة الدين وصالحي عباد الله فعل ذلك". وقال الصنعاني أيضاً في المرجع السابق 3/261:"التحقيق أن قبره صلى الله عليه وسلم لم يعمر عليه المسجد لأنه موضع مستقل قبل بناء المسجد بدفنه صلى الله عليه وسلم، فلم يصدق عليه أنه جعل قبره مسجداً أو وثناً يعبد، بل قد أجاب الله دعاءه فدفن في بيته وفي منزله الذي يملكه أو تملكه زوجه عائشة، وكان المسجد أقرب شيء إليه، ثم لما وسع المسجد لم يخرج صلى الله عليه وسلم عن بيته ولا جعل بيته مسجداً، بل غايته أنه اتصل المسجد به اتصالاً أشد مما كان، فالذي يصدق عليه أنه اتخذ مسجداً إنما هو أن يدفن الميت في مسجد مسبل أو في مباح ثم يعمر عليه مسجد". وينظر فيما يتعلق بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً التعليق السابق المذكور بعد تخريج الحديث الثالث من أحاديث النهي عن رفع القبور والبناء عليها، وينظر: كتاب"المشاهد المعصومية"للمعصومي الحنفي ص280، 292. "1" فهو صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على استقامة أمته على الحق حثهم عند وفاته على الحرص على بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ـ ...................................................................................   الأمور المهمة في الإسلام كعمود الإسلام: الصلاة، وحذرهم من فعل بعض الأمور التي توقعهم في الشرك، وهو اتخاذ القبور مساجد، كما أن لهذا التحذير علة أخرى أيضاً أشار إليها ابن حجر الشافعي في الفتح 1/532 عند شرحه لحديث عائشة السابق، فقال:"وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظم قبره، كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم". وقال علامة العراق محمود الألوسي البغدادي الحنفي في تفسيره "روح المعاني"في تفسير الآية "21" من سورة الكهف 8/225-228:"استُدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء، واتخاذ مسجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي، وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد"ثم ذكر الأحاديث التي فيها النهي عن هذه الأمور، وأقوال بعض العلماء في تحريمها وكونها من كبائر الذنوب، وقولهم بوجوب هدم ما بني على القبور، ثم ذكر عدم صحة الاستدلال بهذه الآية على بناء المساجد على القبور، ثم قال:"وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة، والآثار الصريحة معولاً على الاستدلال بهذه الآية، فإن ذلك في الغواية غاية، وفي قلة النُّهى نهاية، ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها وبنائها بالجص والآجر، وتعليق القناديل عليها، والصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة، إلى غير ذلك محتجاً بهذه الآية الكريمة، وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً، وجعله إياهم في توابيت من ساج ومقيساً البعض على البعض، وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإبتداع دين لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 كما أن في فعل هذه الأمور المحرمة في السنة تقديم لأقوال المشايخ وعادات الآباء والأجداد على سنة الحبيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وفعل لما يبغضه عليه الصلاة والسلام أشد البغض، ولذلك حذر منه عند فراقه للدنيا أشد التحذير وغلظ على من فعله"1"، وعليه فمن فعل ذلك وأصر عليه بعد   يأذن به الله عز وجل. ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره – عليه الصلاة والسلام – وهو أفضل قبر على وجه الأرض، والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له والسلام عليه – عليه الصلاة والسلام – فتتبع ذلك وتأمل ما هنا وما هناك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك". وقال البركوي الحنفي في زيارة القبور ص19، 20: "ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به، ونهى عنه، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً، فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة إلى القبور وهم يخالفونه ويصلون عندها، ونهى عن اتخاذ المساجد عليها وهم يخالفونه ويبنون عليها مساجد ويسمونها مشاهد، ونهى عن إيقاد السرج عليها وهم يخالفونه ويوقدون عليها القناديل والشموع، بل يوقفون لذلك أوقافاً، وأمر بتسويتها وهم يخالفونه ويرفعونها من الأرض كالبيت، ونهى عن تجصيصها والبناء عليها، وهم يخالفونه ويجصصونها ويعقدون عليها القباب، ونهى عن اتخاذها عيداً، وهم يخالفونه ويتخذونها عيداً، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد وأكثر، والحاصل أنهم مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه، ومحادون لما جاء به"وينظر: معارج الألباب لحسين النعمي اليماني ص54. "1" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص680:"فأما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 علمه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولعنه لمن فعل ذلك عند فراق هذه الحياة لحرصه الشديد على بُعد أمته عنه، فذلك علامة على استهانته بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم مبالاته بمخالفتها، وهذا أكبر برهان على نقص محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، كما أن فعل ذلك من أعظم أسباب الوقوع في الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في أصحاب القبور والتعلق بهم حتى يصل إلى الشرك الأكبر المخرج من الملة"1".   الأنبياء والصالحين متبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم من أن الصلاة عند القبر – أي قبر كان – لا فضل فيها لذلك، ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلاً، بل مزية شر"، وينظر: فتح الباري لابن رجب 2/441، 442، وينظر كلام الحافظ السيوطي الذي سبق نقله في التعليق المذكور قريباً عند حكاية الإجماع على تحريم الطواف بالقبور تقرباً إلى الله تعالى. "1" ذكر شيخ الإسلام في الاقتضاء 2/678،679،776 أن هذه العلة – وهي خوف الوقوع في الشرك الأكبر – علة صحيحة للنهي عن اتخاذ القبور مساجد باتفاق العلماء. وينظر: مجموع الفتاوى 11/292، و19/41، و21/321-323، و27/488،489. وقال الإمام الشافعي في الأم 2/278:"كره - أي النبي صلى الله عليه وسلم - والله أعلم أن يعظمه أحد من المسلمين – يعني يتخذ قبره مسجداً – ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعده". وقال الحافظ السيوطي الشافعي في الأمر بالاتباع ص62:"المقصود الأكبر بالنهي إنما هو مظنة اتخاذها أوثاناً، كما ورد عن الإمام الشافعي، وهذه العلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ..............................................................................   التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه". وقال الإمام النووي الشافعي في شرح مسلم 5/13:"قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأمم الخالية". وقد ذكر الحافظ ابن القيم الحنبلي في إغاثة اللهفان ص188، 189 ما رواه ابن جرير عن مجاهد من عكوف قوم نوح على قبر اللات، وما قاله غير واحد من السلف من أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا كانوا قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، ثم قال ابن القيم: "فقد رأيت أن سبب عبادة ود ويغوث ويعوق ونسر واللات إنما كان من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها". وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني 3/441:"وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها". وقال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص680:"وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي أوقعت كثيراً من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب، ونحو ذلك. فلأن يشرك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه، أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله. ولهذا نجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها – أي عند القبور – ويخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المسجد، بل ولا في السحر، ومنهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 فيؤدي ذلك إلى أن القبر وثناً يُعبد من دون الله"1". ولذلك لما سَنَّ العُبيديون المنتسبون إلى التشيع في مصر وغيرها سنة سيئة؛ وذلك ببناء المساجد والقباب والمشاهد على القبور، وكانوا أول من أحدثها في ديار الإسلام"2" تقليداً لليهود والنصارى"3" انتشر وكثر الغلو في القبور.   يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال". وينظر: تفسير الإمام القرطبي 10/380، والصارم المنكي ص459، وزيارة القبور للبركوي الحنفي ص27-32، والسيل الجرار للشوكاني: الجنائز 1/367، 368، والتيسير، باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً، ودلائل التوحيد للقاسمي ص106. "1" قال الشيخ حسين بن محمد المغربي في شرح بلوغ المرام لابن حجر بعد ذكره لأحاديث لعن من اتخذ القبور مساجد، قال:"وهذه الأخبار المعبر عنها باللعن والتشبيه بقوله: لا تجعلوا قبري وثناً يعبد من دون الله. تفيد التحريم للعمارة والتزيين والتجصيص ووضع الصندوق المزخرف ووضع الستائر على القبر وعلى سمائه والتمسح بجدار القبر، وأن ذلك قد يفضي مع بعد العهد وفشو الجهل إلى ما كان عليه الأمم السابقة من عبادة الأوثان، فكان في المنع عن ذلك بالكلية قطع لهذه الذريعة المفضية إلى الفساد، وهو المناسب للحكمة المعتبرة في شرع الأحكام من جلب المصالح ودفع المفاسد، سواء كانت بأنفسها أو باعتبار ما تفضي إليه". انتهى، وقد نقل كلامه هذا الإمام الصنعاني في سبل السلام 2/214 ثم قال:"وهذا كلامٌ حسن". "2" ينظر: مجموع الفتاوى 27/167، 174،465،466. "3" سبق ذكر الأحاديث التي فيها بيان أن هذا من فعل اليهود والنصارى، وقال الإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342   الطحاوي الحنفي المتوفى سنة "321هـ" كما في مختصر اختلاف العلماء للجصاص الحنفي المتوفى سنة "370هـ" 1/407: "قال الليث: بنيان القبور ليس من حال المسلمين، وإنما هو من حال النصارى". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 27/461،462:"والذين يعظمون القبور والمشاهد لهم شبه شديد بالنصارى حتى أني لما قدمت القاهرة اجتمع بي بعض معظّميهم من الرهبان، وناظرني في المسيح ودين النصارى، حيث بينت له فساد ذلك، وأجبته عما يدعيه من الحجة، … وكان من آخر ما خاطبت به النصراني أن قلت له: أنتم مشركون، وبينت من شركهم ما هم عليه من العكوف على التماثيل والقبور وعبادتها والاستغاثة بها،. قال لي: نحن ما نشرك بهم ولا نعبدهم، وإنما نتوسل بهم كما يفعل المسلمون إذا جاءوا إلى قبر الرجل الصالح، فيتعلقون بالشباك الذي عليه ونحو ذلك. فقلت له: وهذا أيضاً من الشرك، ليس هذا من دين المسلمين وإن فعله الجهال، فأقر أنه شرك.. وكان بعض النصارى يقول لبعض المسلمين: لنا سيد وسيدة ولكم سيد وسيدة: لنا السيد المسيح والسيدة مريم، ولكم السيد الحسين والسيدة نفيسة، فالنصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم، ويشابهونهم فيه، ويحبون أن يقوى ذلك ويكثر". وقال الألباني في تحذير الساجد ص124:"قرأت مقالاً في مجلة المختار عدد مايو 1958م تحت عنوان "الفاتيكان المدينة القديمة المقدسة" يصف فيه كاتبه"رونالد كارلوس بيتي"كنيسة بطرس في هذه المدينة فيقول ص40:"إن كنيسة القديس بطرس، وهي أكبر كنيسة من نوعها في العالم المسيحي، تقوم على ساحة مكرسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ثم إنه لما تبع كثيرٌ من المسلمين العبيديين في بناء القبور، وجعلوا المقابر مكاناً للصلاة والدعاء"1"، أدى بهم ذلك إلى عبادة المقبورين من دون الله، فأصبحوا يستغيثون بهم، ويطلبون منهم كشف الكربات، وجلب النفع"2"، ويطوفون بقبورهم تقرباً إليهم، ويذبحون عندها تقرباً إليهم،   للعبادة منذ سبعة عشر قرناً، إنها قائمة على قبر القديس نفسه، وتحت أرضيتها يقع تيه من المقابر الأثرية". "1" قال العلامة محمد بن علي الشوكاني اليماني في آخر رسالة"شرح الصدور بتحريم رفع القبور"ص39،40 رداً على من قال من أئمة الزيدية وغيرهم: إنه يصح بناء المساجد على قبور أهل الفضل والصلاح، قال: "ثم انظر كيف يصح استثناء أهل الفضل برفع القباب على قبورهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قدمناه أنه قال: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً. ثم لعنهم بهذا السبب. فكيف يسوغ من مسلم أن يستثني أهل الفضل بفعل هذا المحرم الشديد على قبورهم، مع أن أهل الكتاب الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر الناس ما صنعوا لم يعمروا المساجد إلا على قبور صلحائهم. ثم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد البشر وخير الخليقة وخاتم الرسل، وصفوة الله من خلقه ينهى أمته أن يجعلوا قبره مسجداً أو وثناً أو عيداً، وهو القدوة لأمته … فإن كان هذا محرماً منهياً عنه، ملعوناً فاعله في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بقبر غيره من أمته؟ ". "2" قال علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في دلائل التوحيد ص108:"وهذا علي رضي الله عنه يقول لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها. وعلى هذا النهج الواضح من المحافظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وهذا كله من الشرك الأكبر المخرج من الملة"1".   على التوحيد سار السلف الصالح وأئمة الهدى من بعدهم، لم يسمحوا لأحد أن يخرق سياج التوحيد، أو يستبيح بيضته، حتى نبتت طوائف الشيعة والمتصوفة، فأعملوا فيه معاول هدمهم بغلوهم في أئمتهم وشيوخهم وتقديسهم للمشاهد والمزارات، وتبركهم بالآثار والمخلفات، وسجودهم على العتبات وتقديمهم النذور والقربانات. وما زال الأمر يستفحل والخطر يشتد حتى وصل إلى ما نشاهده الآن في معظم بلاد الإسلام من إقامة القباب على القبور، وإنشاء المقاصير حولها وتزيينها بالزخارف وفرشها بالبسط، وإيقاد السرج عليها ووضع صناديق النذور عندها، وفتحها للزائرين والزائرات يحجون إليها ويرتكبون عندها كثيراً من الأعمال الشركية، كالطواف والتقبيل ووضع النذور والتوسل والمناجاة وذبح القرابين، وإقامة المهرجانات الجاهلية التي يسمونها الاحتفالات، إلى غير ذلك مما يخالف عقيدة الإسلام، وينقض الإيمان". "1" قال علامة اليمن محمد بن علي الشوكاني في رسالة "شرح الصدور بتحريم رفع القبور" بعد ذكره للاعتقاد الشركي بأن أصحاب القبور ينفعون ويضرون، قال ص30-32: "لا شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زيّنه الشيطان للناس من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين. فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها، ونظر على القبور الستور الرائعة والسرج المتلألئة، وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ..............................................................................   سبحانه. فيصير في عداد المشركين. وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أول زورة له إذ لا بد أن يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلا لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية أو أخروية، فيستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر وعاكفاً عليه ومتمسحاً بأركانه، وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر، يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أموراً من أنفسهم، وينسبونها إلى الميت على وجه لا يفطن له من كان من المغفلين، وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس، ويكررون ذكرها في مجالسهم وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات، ويقبل عقله ما يروى عنهم من الأكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي، وينذرون على ذلك الميت بكرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم، لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيراً عظيماً، وأجراً كبيراً، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة نافعة، وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر. فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل، وهولوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا تلك الأكاذيب لينالوا جانباً من الحطام من أموال الطغام الأغتام. وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية، تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغاً عظيماً، حتى بلغت غلات ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه لبلغ ما يقتاته أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 .....................................................................................   قرية كبيرة من قرى المسلمين، ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله". انتهى كلام الإمام الشوكاني – رحمه الله -. وقال الإمام المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني اليماني في تطهير الاعتقاد:"الشبهة السابعة"ص52:"هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، غالب – بل كل من يعمرها – هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم، أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير، أو شيخ، أو كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به، ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم فيأتي من بعدهم فيجد قبراً قد شيّد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وارخيت عليه الستور، وألقيت عليه الأوراد والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو لدفع ضر، ويأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل وأنزل بفلان الضرر، وبفلان النفع، حتى يغرسوا في جبلته كل باطل". وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني اليماني في"الدر النضيد"ص46، 47:"ولا شك أن علة النهي عن جعل القبور مساجد، وعن تسريجها وتجصيصها ورفعها وزخرفتها هي ما ينشأ عن ذلك من الاعتقادات الفاسدة، وكل عاقل يعلم أن لزيادة الزخرفة للقبور وإسبال الستور الرائعة عليها، وتسريجها والتأنق في تحسينها تأثيراً في طبائع غالب العوام ينشأ عنه التعظيم والاعتقادات الباطلة، وهكذا إذا استعظمت نفوسهم شيئاً مما يتعلق بالأحياء، وبهذا السبب اعتقد كثير من الطوائف الإلهية في أشخاص كثيرة"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 بل وصل الحال بسبب الغلو في القبور وتقديم الصدقات والقرابين لها أن قام كثير من المرتزقة والدجاجلة بإقامة مشاهد، وبناء مساجد على بعض القبور، وزعموا أن هذه القبور لبعض الأنبياء، أو لبعض الصحابة وآل البيت، كذباً وزوراً"1"، بل وصل الحال بسبب كثرة الكذب والدجل   ثم ذكر قصتين حصل في كل منهما تأثير تعظيم بعض المخلوقين في قلوب بعض العامة، حتى ظن أن هذا المعظم هو الله تعالى. وينظر: المشاهدات المعصومية للشيخ محمد سلطان المعصومي الحنفي ص281. "1" مع أنه لا يعرف بالتحديد مكان قبر نبي سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي قبر إبراهيم عليه السلام خلاف، وكذلك قبور أكثر الصحابة وأكثر التابعين لا تعرف أماكنها بالتحديد، لأن الصحابة والتابعين ما كانوا يحرصون على معرفة أماكن قبور الأنبياء السابقين، ولا غيرهم من الصالحين، بل كانوا يخفون قبور من يخشون الافتتان بقبورهم، كما فعل الصحابة بقبر النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه عند تخريج الحديث الثالث في النهي عن رفع القبور والبناء عليها، وكما فعل الصحابة - رضي الله عنهم – بأمير المؤمنين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث دفنوه في قصر الإمارة بالكوفة، فخفي موضع قبره على الناس، والرافضة يعظمون قبراً بالنجف يظنونه قبره، وهو قبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وكما فعلوا لما فتحوا تستر فوجدوا جثمان رجل يقال: إنه دانيال، وإنه نبي، وقيل: رجل صالح، وكان الكفار يتوسلون به عند الاستسقاء، فحفر الصحابة له بالنهار ثلاثة عشر قبراً، ودفنوه في أحدها بالليل، وسووا القبور ليخفوا قبره. والقصة رواها يونس بن بكير كما في الاقتضاء ص686، ومجموع الفتاوى 27/270، وإغاثة اللهفان ص205، والبداية والنهاية 2/376 بإسناد رجاله رجال الصحيح، وقد صحح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 في ذلك أن جعل للحسين بن علي - رضي الله عنهما – ثلاثة قبور، وقد أجمع العلماء من أهل السير وغيرهم على أن القبر المنسوب إليه في القاهرة غير صحيح"1"، ووصل الحال أيضاً إلى أن جعل للجيلاني مائة قبر في العالم الإسلامي"2". وهذا كله يُبيِّن خطر التساهل فيما حذرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم منه ونهانا عنه، ويبين لنا أهمية التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يجب تقديمها على اجتهادات البشر وآرائهم، وما تميل إليه نفوسهم. وبالجملة فإن من دعا الناس إلى الغلو في القبور فقد دعا الناس إلى خلاف ما دعا إليه رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وإلى خلاف ما دعا إليه جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه، وقد دعاهم أيضاً إلى ما هو سبب في وقوعهم فيما يبغضه النبي صلى الله عليه وسلم ويبغضه جميع أولياء الله تعالى من الشرك   إسناده الحافظ ابن كثير، وقد ذكر نعيم في الفتن "37" وابن كثير للقصة ولدفنه متابعة وطرقاً أخرى تؤيد الرواية السابقة. وينظر مجموع الفتاوى 27/270،271، 444-494، تاريخ الإسلام للذهبي"عهد الراشدين"ص651. "1" أحد هذه القبور في كربلاء بالعراق، والثاني بالشام، والثالث هذا الذي بالقاهرة، ينظر: الفتاوى 27/444-494، الاستغاثة ص500-504. "2" ينظر: تصحيح الدعاء ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 والكفر، والذي أرسل جميع رسل الله تعالى من أجل محاربته"1".   "1" وليس لمن دعا إلى هذه الأمور المبتدعة دليل واحد يعتمدون عليه، لذلك تجدهم يتعلقون بشبه ضعيفة كقصة أصحاب الكهف، مع أن جميع الروايات التي يحتجون بها في تفسير الطبري من طريق محمد بن حميد، وهو متهم بالكذب، كما أنها مجرد حكاية فعل أهل الغلبة لا غير، ومع ذلك يقدمون ذلك على سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولهم شبه أوهى من هذه أجاب عنها أهل العلم، فالواجب على المسلم أن ينقاد لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وألا يبحث عن الشبه لرد سنة خير الخلق صلى الله عليه وسلم. وكثير ممن يغلو في القبور ببناء المساجد عليها، والتعبد لله عندها، وغير ذلك عمدتهم قول بعض المتأخرين الذين أباحوا هذه الأمور المحرمة خطأ وزللاً، تأثراً بما أحدث العبيديون والرافضة من الغلو في القبور، واعتماداً على أحاديث مكذوبة ونصوص من المتشابه، فيردون بها الأحاديث الصحيحة الصريحة. قال البركوي الحنفي بعد ذكره للأحاديث الواردة في زيارة القبور وما ورد فيها من مشروعية الدعاء للميت عند زيارة القبور في رسالة"زيارة القبور"ص37-39:"فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعاً وعشرين سنة، وهذه سنة الخلفاء الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين، فبدل أهل البدع والضلال قولاً غير الذي قيل لهم، فإنهم بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه أو بالدعاء به، وبدلوا الشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت وإلى الزائر سؤال الميت، والإقسام به على الله تعالى، وخصصوا تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وجعلوا حضور القلب وخشوعه عندها أعظم منه في المساجد وأوقات الأسحار، ومن المحال أن يكون دعاء الموتى والدعاء بهم والدعاء عند قبورهم مشروعاً عملاً صالحاً، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يظفر به الخلوف الذين يقولون ما لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 .................................................................................   يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون.. فإن كنت في شك من هذا فانظر هل يمكن بشراً على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها. فضلاً أن يصلوا عندها ويسألوا الله تعالى بأصحابها ويسألوهم حوائجهم، فليوقفونا على أثر واحد منها في ذلك. كلا، لا يمكنهم ذلك، بل يمكنهم أن يأتوا بكثير من ذلك عن الخلوف التي خلفت من بعدهم، ثم كلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء الراشدين ولا عن الصحابة والتابعين حرف واحد من ذلك، بل فيها من خلاف ذلك كثير كما سبق من الأحاديث المرفوعة التي من جملتها قوله عليه الصلاة والسلام: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجراً أي فحشاً. وأي فحش أعظم من الشرك عندها قولاً وفعلاً. وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يحاط بها، ومن ذلك ما في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رأى أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند القبر، فقال: القبر القبر". انتهى كلامه رحمه الله. وأثر عمر هذا رواه البخاري في الصلاة "فتح1/523" تعليقاً. ووصله عبد الرزاق "1581" بإسناد حسن، رجاله رجال الصحيحين، وزاد في آخره قال ثابت: فكان أنس بن مالك يأخذ بيدي إذا أراد أن يصلي فيتنحى عن القبور، وللأثر طرق أخرى عند ابن حجر في التغليق 2/229، 230، وعند غيره. وصحح بعضها الألباني في التحذير ص26، وينظر: عمدة القاري 4/172. والآثار عن السلف في النهي عن التبرك بالقبور وفي النهي عن الغلو فيها بالبناء أو غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ...................................................................................   كثيرة جداً. ينظر بعضها في مصنف عبد الرزاق 1/404-407، و5/502-507، مصنف ابن أبي شيبة: الجنائز 3/334-342، سنن البيهقي 2/435، المحلى: الجنائز 5/133،134، تحذير الساجد ص88-98. ومما ينبغي التنبه له أن الشيطان يعمل جاهداً على تزيين الباطل والشرك ليوقع بني آدم فيه، وليجعلهم يستمرون عليه، ولذلك تجد الشياطين كثيراً ما تتمثل في صور الآدميين لإعانة من يحاربون الحق ويقعون في الشرك، كما تمثل لقريش لما خرجوا لحرب النبي صلى الله عليه وسلم في بدر في صورة سراقة بن مالك، وشجعهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في ذلك روايات كثيرة عن ابن عباس وغيره رواها ابن جرير وغيره في تفسير قول الله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] . وثبت في الأحاديث الصحيحة أنه سيتمثل في آخر الزمان للأعراب في صور آبائهم عند خروج المسيح الدجال فيدعوهم إلى اتباع هذا الدجال الخبيث فيتبعونه، وثبت في وقائع كثيرة في أزمان متباعدة ومتقاربة أن الشيطان يتمثل لمن يغلون في القبور في صورة الميت فيقضي لهم بعض ما يطلبون، وأيضاً قد يستدرجهم الله تعالى فيحقق لهم بعض ما يدعون به عند القبور أو يطلبون من الموتى، فيحمل هذا كله هؤلاء الجهال ومن يسمع أخبارهم على زيادة الغلو في الموتى والاستمرار في ذلك، واعتقاد أنهم ينفعون ويضرون. ينظر: الفتن لنعيم بن حماد شيخ البخاري 2/530-557، مصنف عبد الرزاق 11/391-403، مجموع الفتاوى 1/82،83، 168،175،350، 359-365 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ..................................................................................   و10/293،416، و17/457-460، و19/41،42، الاستغاثة ص338، 506، الاقتضاء ص691-708، إغاثة اللهفان ص216، الدر النضيد للشوكاني ص93، صيانة الإنسان للسهسواني الهندي ص197 نقلاً عن جلاء العينين للألوسي الحنفي. وقال الشيخ أحمد الرومي الحنفي كما في المجالس الأربعة من مجالس الأبرار ص368،369:"والذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها – أي بالقبور – أمور منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله – تعالى – به رسوله من تحقيق التوحيد، وقطع أسباب الشرك، فالذين قل نصيبهم من ذلك إذا دعاهم الشيطان إلى الفتنة بها ولم يكن لهم ما يبطل دعوته استجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا منه بقدر ما معهم من العلم. ومنها أحاديث مكذوبة وضعها على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشباه عبّاد الأصنام القبورية، وهي تناقض ما جاء به في دينه، كحديث: إذا تحيّرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور. وحديث: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور. وحديث: لو حسن أحدكم ظنه بحجر نفعه. وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها أشباه عباد الأصنام من القبورية، وراجت على الجهال والضُلاّل، والله – تعالى – إنما بعث رسوله لقتال من حسن ظنه بالأحجار والأشجار. فإنه – عليه السلام – جنب أمته الفتنة بالقبور بكل طريق. ومنها حكايات حكيت عن أهل تلك القبور، أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها. وفلان نزل به فاستدعى صاحب ذلك القبر، فكشف ضره، وفلان دعاه في حاجة فقضيت حاجته، وعند السدنة والقبوريين شيء من ذلك يطول ذكره، وهم من أكذب خلق الله على الأحياء والأموات، والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، وإزالة ما يضرها، لا سيما من كان مضطراً يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه كراهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 بل إن من دعا الناس إلى الغلو في القبور قد دعاهم إلى أن يكونوا أعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع أولياء الله تعالى ومحاربين لطريقتهم، وهم يظنون أنهم يوالونهم"1".   ما، فإذا سمع أحد أن قبر فلان ترياق مجرب، يميل إليه فيذهب إليه ويدعو عنده، بحرقة وذلة وانكسار، فيجيب الله – تعالى – دعوته لما قام بقلبه من الذلة والانكسار، لا لأجل القبر، فإنه لو دعا كذلك في الحانة والحمام والسوق لأجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيراً في إجابة تلك الدعوة، ولا يعلم أن الله – تعالى – يجيب المضطر ولو كان كافراً". وينظر: الاقتضاء ص748،749، إغاثة اللهفان ص193، 214. "1" فهم يظنون أنهم بهذا العمل يوالون الأنبياء والصالحين والأولياء الذين غلوا في قبورهم بالبناء عليها والتبرك بها بالدعاء والصلاة والذبح عندها والطواف بها، وغير ذلك من البدع التي أحدثها الجهال، ثم تلقاها من قل علمه وتلاعب به الشيطان، وهم في الحقيقة إنما عملوا بما يبغضه جميع أولياء الله ويحاربونه، لأنه معصية لله تعالى، ولنبيه صلى الله عليه وسلم. قال البركوي الحنفي المتوفى سنة "981هـ" في زيارة القبور بعد ذكره لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في القبور ص12، 13:"أبى أكثر الناس إلا عصياناً لأمره وارتكاباً لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين … وتعظيم الأولياء والصالحين ومحبتهم إنما يكون باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم، دون عبادة قبورهم، والعكوف عليها واتخاذها أوثاناً، فإن من اقتفى آثارهم كان سبباً لتكثير أجورهم باتباعه لهم ودعوته الناس إلى اتباعهم، فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وإياهم من ذلك الأجر، فأي تعظيم واحترام في هذا؟ "، وقال رحمه الله أيضاً في المرجع نفسه ص52:"وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب، فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عباد الأصنام، كما قال السلف من الصحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 والمسلم الذي يبتغي لنفسه النجاة من عذاب الله يجب عليه أن يختار طريق أنبياء الله وأوليائه على طريق من خالف دعوتهم وهو يحسب أنه يحسن صنعاً"1".   والتابعين، فإن الشيطان ينصب لهم قبر رجل معظم يعظمه الناس ثم يجعله وثناً يعبد من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيداً، وجعله وثناً، فقد تنقصه وهضم حقه، فيسعى الجاهلون في قتله وعقوبته، ويكفرونه، وما ذنبه إلا أنه أمر بما أمر به الله تعالى ورسوله، ونهى عما نهى عنه الله ورسوله". وقال الشيخ شمس الدين الأفغاني في جهود علماء الحنفية ص557-560:"إن علماء الحنفية قد صرحوا بأن أهل التوحيد الذين لا يغالون في الأنبياء والأولياء من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة في الحقيقة هم المعظمون للرسل الموقرون لهم، العارفون بحقوقهم، القائمون بما يجب لله وما يجب لعباده من الحقوق، فهم ليسوا بأهل شرك بهم، ولا أهل المعصية لهم، ولا نبذوا أوامرهم، ولا تركوا ما جاءوا به من الحق، فهم أهل التوحيد لله تعالى، وأهل طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الإخلاص لله، فتركهم الاستغاثة بهم عند الكربات، وترك الطواف بقبورهم عند الملمات هو عين التعظيم لهم، وتركهم النذور لهم، وترك السجود لهم، وترك الغلو فيهم هو عين التوقير لهم". انتهى كلامه وقد أحال على غاية الأماني للألوسي الحنفي. "1" هذا هو حال كثير من الدعاة إلى الغلو في القبور وتعظيمها، وبعضهم قد يكون هدفه الحظوظ الدنيوية من جمع المال، والحصول على مكانة بين أتباعه ونحو ذلك. ولذلك تجدهم يكذبون في نسبة بعض القبور إلى بعض الصالحين الذين لهم مكانة في قلوب المسلمين، كالحسين بن علي وغيره من آل البيت، بل ربما ينسبون بعض القبور إلى بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 .................................................................................   الأنبياء كذباً وزوراً، ليكثر الجهال من النذور والصدقات والذبائح عند قبورهم. قال علامة اليمن محمد بن علي الشوكاني في الدر النضيد ص93، 94: "واعلم أن ما حررنا وقررنا من أن كثيراً مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركاً، قد يخفى على كثير من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفياً في نفسه، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر، وكونه قد شاب عليه الكبير وشبّ عليه الصغير، وهو يرى ذلك ويسمعه ولا يرى ولا يسمع من ينكره، بل ربما يسمع من يرغب فيه ويندب الناس إليه. وينضم إلى ذلك ما يظهره الشيطان للناس من قضاء حوائج من قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة، وللعامة فيهم اعتقاد، وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا منهم الأرزاق، ويقتنصوا النحائر، ويستخرجوا من عوامّ الناس ما يعود عليهم وعلى من يعولونه، ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً. وربما يهولون على الزائر لذلك الميت بتهويلات، ويجملون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه، ويوقدون في المشهد الشموع، ويوقدون فيه الأطياب، ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة يتجمع فيها الجمع الجم فينبهر الزائر، ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق وازدحامهم، وتكالبهم على القرب من الميت، والتمسح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به، والالتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات، ونجاح الطلبات، مع خضوعهم واستكانتهم وتقريبهم إليه نفائس الأموال ونحرهم أصناف النحائر. فبمجموع هذه الأمور مع تطاول الأزمنة، وانقراض القرن بعد القرن، يظن الإنسان مبادئ عمره وأوائل أيامه أن ذلك من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ثم لا ينفعه ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 هذا، وهناك وسائل أخرى تؤدي إلى الشرك الأكبر غير هذه الوسائل الثلاث، يأتي بعضها عند الكلام على البدعة في الفصل الخامس من هذا الباب إن شاء الله تعالى.   تعلمه من العلم بعد ذلك، بل يذهل عن كل حجة شرعية تدل على أن هذا هو الشرك بعينه، وإذا سمع من يقول ذلك أنكره، ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه، لأنه يبعد كل البعد أن ينقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطاعات، إلى كونه من أقبح المقبحات، وأكبر المحرمات، مع كونه قد درج عليه الأسلاف، ودبّ فيه الأخلاف، وتعاودته العصور، وتناوبه الدهور، وهكذا كل شيء يقلد الناس فيه أسلافهم، ويحكمون العادات المستمرة. وبهذه الذريعة الشيطانية، والوسيلة الطاغوتية، بقي المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتبدلت الأمة بكثير من المسائل الشرعية غيرها، وألفوا ذلك، ومرنت عليه نفوسهم، وقبلته قلوبهم، وأنسوا إليه حتى لو أراد من يتصدى للإرشاد أن يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء النقية التي تبدلوا لها غيرها لنفروا عن ذلك، ولم تقبله طبائعهم، ونالوا ذلك المرشد بكل مكروه، ومزّقوا عرضه بكل لسان". انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الشرك الأصغر تعريفه وحكمه ... الفصل الثاني: الشرك الأصغر وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريفه وحكمه سبق تعريف الشرك في اللغة عند الكلام على تعريف الشرك الأكبر. أما تعريفه في الاصطلاح، فهو: كل ما كان فيه نوع شرك لكنه لم يصل إلى درجة الشرك الأكبر"1".   "1" ويمكن أن يقال: هو كل قول أو عمل بالقلب أو الجوارح جعل العبد فيه نداً لله تعالى، ولم تصل هذه الندية إلى إخراج صاحبها من الملة. وهذا التعريف أسلم من جهة عدم استعمال لفظ المعرف في التعريف، ولكن الأول أوضح. أما تعريفه بأنه: "كل ما ورد تسميته شركاً ولم يصل إلى درجة الشرك الأكبر". فهو غير جامع، وكذلك تعريفه بأنه "كل ما يؤي إلى الشرك"غير مانع، لأنه يدخل فيه كثير من البدع والمعاصي التي ليست من الشرك الأصغر، كالتصوير لغير التعظيم، فهو وسيلة للشرك، ولكن ليس فيه نوع إشراك حتى يكون شركاً، ومثله التساهل بالصلاة عند القبر من غير تعظيم له ولا قصد للصلاة عنده، وغير ذلك مما ليس فيه عند فعله نوع إشراك من الفاعل له فلا يدخل في الشرك الأصغر؛ لأنه ليس فيه إشراك أصلاً. وينظر المفردات ص425، القول السديد باب الخوف من الشرك، وباب الذبح ص34، 59، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 أما حكمه فيتلخص فيما يأتي: 1- أنه كبيرة من كبائر الذنوب، بل هو من أكبر الذنوب بعد نواقض التوحيد"1".   حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد ص50، فتاوى اللجنة الدائمة 1/517. وقد أطلق بعض العلماء الشرك الأصغر على جميع المعاصي؛ لأن فيها اتباعاً للهوى، وتقديماً له على طاعة الله تعالى، مُستدلين بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] . ينظر: مجموع الفتاوى 10/216، 217، 261، 262، تحقيق كلمة الإخلاص لابن رجب ص26-30، الدين الخالص 1/162-171، معارج القبول ص424، 433، القول المفيد 1/61. وقد ذهب كثير من المفسرين، وعلى رأسهم ابن عباس - رضي الله عنهما - إلى أن الآية السابقة في المشرك الذي يعبد ما تهواه نفسه من معبودات، فما استحسن من شيء عبده. ينظر تفسير الطبري، وتفسير القرطبي، وتفسير الشوكاني للآية السابقة، وينظر مجموع الفتاوى 10/592، تجريد التوحيد ص46. وهذا القول هو الأقرب، وعليه فإن المعاصي لا يدخل منها في الشرك الأصغر إلا ما كان فيه نوع إشراك لمخلوق آخر. والله أعلم. "1" والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم لما رأى في يد رجل حلقة من صفر: " ما هذه؟ " قال: من الواهنة. قال: " انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مِتَ وهي عليك ما أفلحت أبداً "، وسيأتي تخريجه عند الكلام على التمائم. ويؤيد هذا قول ابن مسعود رضي الله عنه: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً". وسيأتي تخريجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362   عند الكلام على الحلف بغير الله، فجعل الحلف بالله كاذباً الذي هو من كبائر الذنوب أخف من الحلف بغيره صادقاً؛ لأنه من الشرك الأصغر. وينظر مجموع الفتاوى 1/204، الفروع: الأيمان 6/340، إعلام الموقعين: فصل بعض الكبائر "آخر الكتاب 4/403"، وآخر كتاب التخويف من النار لابن رجب: فصل في ذكر أول من يدخل النار "ص250"، كتاب التوحيد باب من الشرك لبس الحلقة، الدرر السنية 1/185، و2/189، و11/496، تيسير العزيز الحميد "ص530". هذا وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الشرك الأصغر لا يغفر إذا مات العبد وهو لم يتب منه، لعموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48 و116] . لكن أجيب عن هذا الاستدلال بأمرين: 1 - أن الآيتين في الشرك الأكبر؛ لأنهما وردتا في ضمن آيات تتحدث عن المشركين والمنافقين وأهل الكتاب. 2- أن الآيات الأخرى في كتاب الله تعالى والتي رتب فيها الحكم على وصف الشرك لم يختلف أهل العلم في أن المراد به في هذه الآيات الشرك الأكبر، كقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72] ، وكقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، فكذلك آيتا النساء. وهذا هو الأقرب. وينظر: تلخيص الاستغاثة "ص148"، مدارج السالكين 1/308، 368، 373، الدرر السنية 2/185، الدين الخالص 1/387، 388، قرة عيون الموحدين ص46، التوضيح عن توحيد الخلاق ص415، 416، رسالة "الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة"للعبّاد ص194، 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 2- أن هذا الشرك قد يعظم حتى يؤول بصاحبه إلى الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام"1"، فصاحبه على خطر عظيم من أن يؤدي به الوقوع في الشرك الأصغر إلى الخروج من دين الإسلام. 3 - أنه إذا صاحب العمل الصالح أبطل ثوابه"2"، كما في الرياء وإرادة الإنسان الدنيا وحدها بعمله الصالح، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ". رواه مسلم"3".   "1" ينظر: مدارج السالكين 1/373، الدرر السنية 1/200، وسيأتي عند ذكر أنواع الشرك الأصغر بيان ذلك. "2" وفي المسألة تفصيل يأتي عند الكلام على الرياء – إن شاء الله تعالى -. "3" صحيح مسلم "2985"، وله شاهد رواه النسائي "3140" عن أبي أمامة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر؟ . فقال صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له"فأعادها ثلاث مرار، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا شيء له ". ثم قال: " إن الله - عز وجل – لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه ". وإسناده حسن. وقد صححه جمع من أهل العلم، وقد توسعت في تخريجه في رسالة النية، برقم "14". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 المبحث الثاني أنواع الشرك الأصغر : للشرك الأصغر أنوع كثيرة، أشهرها: النوع الأول: الشرك الأصغر في العبادات القلبية ومن أمثلة هذا النوع: المثال الأول: الرياء الرياء في اللغة مشتق من الرؤية، وهي: النظر، يقال: رائيتُه، مراءاة، ورياء، إذا أريتُه على خلاف ما أنا عليه"1". وفي الاصطلاح: أن يظهر الإنسان العمل الصالح للآخرين أو يحسنه عندهم، أو يَظهر عندهم بمظهر مندوب إليه ليمدحوه ويعظم في أنفسهم"2".   "1" ويقال: أريته العمل إراءة، ورئاء، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 264] ، فالياء في "رياء"مقلوبة عن همزه. ينظر بصائر ذوي التمييز 3/116، القاموس المحيط "مادة رئاء". "2" وينظر الرعاية ص209، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ص160، الإحياء 3/314، تفسير القرطبي للآية 36 من سورة النساء 5/181، وتفسيره للآية 142 من سورة النساء 5/422، وتفسيره للآية الأخيرة من سورة الكهف 11/71، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فمن أراد وجه الله والرياء معاً فقد أشرك مع الله غيره في هذه العبادة، أما لو عمل العبادة وليس له مقصد في فعلها أصلاً سوى مدح الناس فهذا صاحبه على خطر عظيم، وقد قال بعض أهل العلم: إنه قد وقع في النفاق والشرك المخرج من الملة"1".   مختصر منهاج القاصدين "ص275"، الفروق "الفرق 122"، فتح الباري: الرقاق، باب الرياء 11/336، الزواجر "الكبيرة الثانية 1/43"، الموافقات 2/217، 221، 222، سبل السلام 4/356. وقد أدخل بعض العلماء إرادة الدنيا في الرياء، والصحيح أن الرياء من إرادة الدنيا، لا العكس؛ لأن المرائي إما أن يريد أن يعظم في نفوس الخلق ليحصل على رئاسة أو مال من قبلهم ونحو ذلك، وهذا كله من الدنيا، وإما أن يريد مدح الناس والجلالة في أعينهم فقط، وهذا أيضاً من إرادة الدنيا؛ لأنه إنما يريد هذه الأمور العاجلة في هذه الحياة الدنيا، ولا يريد وجه الله والدار الآخرة، أما كون الإنسان يعمل العمل الصالح من أجل الوظيفة ونحو ذلك فهذا ليس من الرياء؛ لأنه لم يُرِ عمله أحداً، وإنما هو من إرادة الدنيا، وهي أعمّ من الرياء، وأفرد الرياء بمبحث مستقل لخطره. ينظر: الفروق "الفرق122"، الموافقات 2/217، فتح المجيد ص437، رسالة "الشرك الأصغر"ص102-104. "1" قال ابن نجيم في "الأشباه""ص39": "في الينابيع: قال إبراهيم بن يوسف: لو صلى رياء فلا أجر له، وعليه الوزر. وقال بعضهم: يكفر. وقال بعضهم: لا أجر له ولا وزر عليه، وهو كأنه لم يصل". وقال الشيخ حافظ الحكمي في "معارج القبول"2/493: "إن كان الباعث على العمل هو إرادة غير الله - عز وجل – الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 والرياء له صور عديدة، منها: 1 - الرياء بالعمل، كمراءاة المصلي بطول الركوع والسجود"1".   فذلك النفاق الأكبر، سواء في ذلك من يريد به جاهاً ورئاسة وطلب دنيا ومن يريد حقن دمه وعصمة ماله وغير ذلك". وينظر: شعب الإيمان للبيهقي 5/335، سبل السلام 4/356، 357، النواقض الاعتقادية ص204. وبعض العلماء كالغزالي وابن رجب والهيتمي لا يجعل الرياء المحض في العبادات مكفراً، وهو ظاهر كلام كثير من أهل العلم، ولعله الأقرب، ومثله من أراد بعبادته الدنيا وحدها؛ لأنه لم يخضع ولم يتذلل في ذلك لأحد، ولم يعظمه، وإنما أراد تحقيق ما تهواه نفسه من المدح ونحوه من الحظوظ العاجلة وقد حكى أبوالبقاء في الكليات "مادة: شرك" الإجماع على أن العمل لغير الله معصية من غير كفر، وبالجملة فإن المسألة خطيرة، لكونه قصد بالعبادة غير وجه الله. وينظر: الرعاية ص210-214، إحياء علوم الدين 3/317-320، مختصر منهاج القاصدين ص279، 463، قواعد الأحكام 1/124، مجموع الفتاوى 22/21، الفروع: الردة 6/166، الزواجر 1/44، جامع العلوم والحكم 1/79، النواقض الاعتقادية ص204. أما الرياء بأصل الإيمان، أو إظهار بعض العبادات الأخرى رياءً مع إبطان الكفر فهذا من الشرك الأكبر والنفاق الأكبر، كما سبق بيانه عند الكلام على شرك النية والإرادة والقصد في الباب السابق. "1" وكبِرِّ الوالدين ليُقال: بارٌّ وكإكرام الضيوف ليقال: كريم، وكالصدقة على الفقراء وفي أوجه الخير الأخرى ليقال: كريم. أما الإنفاق على الأغنياء وإقامة الولائم لهم لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 2 - المراءاة بالقول، كسرد الأدلة إظهاراً لغزارة العلم، ليقال: عالِم"1". 3- المراءاة بالهيئة والزيِّ، كإبقاء أثر السجود على الجبهة رياءً"2".   على وجه العبادة والصدقة، بل ليقال: سخي، فليس من الرياء؛ لأنه ليس من أعمال الخير. "1" وكتحريك الشفتين بالذكر أمام الناس رياءً. ومن الرياء بالقول أن يحسن صوته بالقراءة، ليقال: فلان قارئ، وهذا من السمعة المحرمة، وقد روى البخاري "6499"، ومسلم "2987" عن جندب مرفوعاً: " من يرائي يراء الله به، ومن يسمع يسمع الله به " والمعنى أن الله يفضحه يوم القيامة بإظهار قصده السيء. ومن أنواع السمعة المحرمة أيضاً أن يذكر للناس ما عمله من أعمال صالحة فيما مضى، ليمدحوه أو يعظم في نفوسهم. وهل السمعة بعد انتهاء العمل تبطل العمل؟ ورد في ذلك حديثان عند البيهقي في "الشعب" "الباب: 45 في الإخلاص وترك الرياء، رقم 6813، 6864"، وعند الخطيب في "تاريخ بغداد" 6/63، 64 في أنه يبطل. وإسناد كل منهما ضعيف. قال في الإحياء 3/325: "الأقيس أنه مثاب على عمله الذي مضى، ومعاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها". وقال في مختصر منهاج القاصدين ص283: "أما إن تحدث به بعد تمامه وأظهره فهذا مخوف، والغالب عليه أنه كان في قلبه وقت مباشرة العمل نوع رياء، فإن سلم من الرياء نقص أجره". "2" وكتقصير الثياب، والظهور بمظهر الزهاد من أجل أن يمدح بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ..............................................................................   ينظر في صور الرياء: الرعاية للمحاسبي ص227-232، 264، 273، إحياء علوم الدين 3/314-316، قواعد الأحكام 1/123-125، مختصر منهاج القاصدين ص276-278، شرح الأربعين للنووي ص10، مجموع الفتاوى 22/506، 507، قواعد الأحكام 1/123-125، شرح الطيبي 10/7، فيض القدير 6/155، 157، فتح الباري 11/336، عمدة القاري 1/33، 320، الزواجر 1/43-47، المرقاة 5/98، سبل السلام 4/356، الشرك الأصغر ص84-94. هذا وهناك بعض الصور أدخلها بعض أهل العلم في الرياء، والأقرب أنها لا تدخل فيه ومنها: 1- ترك فعل العبادات أمام الناس خوفاً من الرياء، فقد عمم بعض العلماء الحكم في هذا، والأقرب في ذلك هو التفصيل: فمن علم من نفسه أنه سيقع في الرياء إن أدى هذه العبادة أمام الناس ينبغي له أن لا يفعلها أمامهم، بل إنه قد ورد الندب إلى فعل النوافل في البيوت، وورد الندب إلى الإسرار بالصدقة، فهنا أولى. وينظر: تفسير القرطبي للآية 271 من البقرة، الإحياء 3/339-347، قواعد الأحكام 1/128، 129، الزواجر 1/48، 49. أما من ترك العبادة من أجل مجرد رؤية الناس له فهو رياء، لأنه تركها من أجل الناس، لكن لو تركها ليصليها في الخلوة فهذا مستحب. ينظر: شرح الأربعين للنووي ص15. 2- ترك المعصية خوفاً من ذم الناس، فإن الأقرب أن هذا ليس من الرياء؛ لأن المسلم مأمور بالستر على نفسه، ومأمور بأن يبتعد عما يسيء إلى عرضه، ومأمور بإبعاد قالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الرياء وعظم عقوبة فاعله، وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه"1"، منها حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه   السوء عن نفسه، وترك المعصية وإخفاؤها خوفاً من الذم داخل في هذا، وقد ذكر الغزالي في الإحياء 3/336-339: ثمانية أعذار يجوز أو يندب من أجلها إخفاء المعصية، ثم قال: "ومهما قصد بستر المعصية أن يخيل إلى الناس أنه ورع كان مرائياً"، وبالجملة فإن العبرة بالنية والقصد. وينظر المقدمات لابن رشد ص30، مختصر منهاج القاصدين ص286، 287، مقاصد المكلفين ص47. 3- الفرح بعلم الناس بعمله بعد أدائه للعبادة. قال في مختصر منهاج القاصدين ص283: "فإن ورد عليه بعد الفراغ سرور بالظهور من غير إظهار منه فهذا لا يحبط العمل، لأنه قد تم على نعت الإخلاص، فلا ينعطف ما طرأ عليه بعده". وقال شيخنا محمد بن عثيمين في القول المفيد 2/228: "وليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته؛ لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة". وينظر الإحياء 3/323، 324، شرح النووي لمسلم 16/189، جامع العلوم والحكم 1/83، سبل السلام 4/357. "1" قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم 1/79-83: "تارة يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص تدل على بطلانه وحبوطه، ولا نعرف عن السلف في هذا خلافاً، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين، وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء، فإن كان خاطراً ودفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه فهل يحبط به عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجَّحا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 مرفوعاً: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر "، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم جزاءً؟ " "1". وحديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الآخر، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس! إياكم وشرك السرائر " قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟. قال: " يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى   عمله لا يبطل بذلك، وأنه يُجازى بنيته الأولى". انتهى كلامه مختصراً. وينظر: شعب الإيمان للبيهقي 5/334، 335، نقلاً عن الحليمي، مختصر منهاج القاصدين ص279، 283، شرح الأربعين للنووي ص9، 10، قواعد الأحكام 1/124، الفروق: الفرق 122، مجموع الفتاوى 22/506، 507، 612، و26/28-32، إعلام الموقعين 2/182، الاختيارات ص59، الوابل الصيب ص16، تجريد التوحيد ص91، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص39، الزواجر 1/43-45، رسالة الشرك الأصغر لعبد الله السليم "رسالة ماجستير ص81-86". "1" رواه أحمد "23630"، والبغوي "4135" بإسناد حسن. وقال المنذري في الترغيب 1/82، 83: "رواه أحمد بإسناد جيد، وقد رواه الطبراني بإسناد جيد عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج، وقيل: إن حديث محمود هو الصواب دون ذكر رافع بن خديج فيه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر ""1". وحديث أبي هريرة في خبر الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وهم رجل قاتل في الجهاد حتى قتل، ليقال: جرئ، ورجل تعلّم العلم وعلّمه أو قرأ القرآن ليقال: عالم أو قارئ، ورجل تصدَّق ليُقال: جواد. رواه مسلم"2". ولهذا ينبغي للمسلم البعد عن الرياء والحذر من الوقوع فيه، وهناك أمور تعين على البعد عنه، أهمها: 1- تقوية الإيمان في القلب، ليعظم رجاء العبد لربه، ويعرض عمن سواه، ولأن قوة الإيمان في القلب من أعظم الأسباب التي يعصم الله بها العبد من وساوس الشيطان، ومن الانقياد لشهوات النفس. 2- التزود من العلم الشرعي، وبالأخص علم العقيدة الإسلامية، ليكون ذلك حرزاً له بإذن الله من فتن الشبهات، وليعرف عظمة ربه   "1" رواه ابن أبي شيبة 2/481، وابن خزيمة "937" بإسناد حسن، وله شاهد من حديث أبي سعيد عند أحمد 3/30، وابن ماجه "4204"، وفي سنده ربيح بن عبد الرحمن، قال البخاري "منكر الحديث". "2" صحيح مسلم: الإمارة باب: من قاتل للرياء والسمعة "1905"، ورواه الترمذي "2382"، وابن خزيمة "2482"، وابن حبان "408" مطولاً بإسناد صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 جل وعلا، وضعف المخلوقين وفقرهم، فيحمله ذلك كله على مقت الرياء واحتقاره والبعد عنه، وليعرف أيضاً مداخل الشيطان ووساوسه، فيحذرها. 3- الإكثار من الالتجاء إلى الله تعالى ودعائه أنه يعيذه من شر نفسه ومن شرور الشيطان ووساوسه، وأن يرزقه الإخلاص فيما يأتي وما يذر، والإكثار من الأذكار الشرعية التي هي حصن من شرور النفس والشيطان. 4- تذكر العقوبات الأخروية العظيمة التي تحصل للمرائي، ومن أعظمها أنه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة. 5- التفكُّر في حقارة المرائي وأنه من السفهاء والسَّفَلة؛ لأنه يضيع ثواب عمله الذي هو سبب لفوزه بالجنة ونجاته من عذاب القبر وشدة القيامة وعذاب النار من أجل مدح الناس والحصول على منزلة عند المخلوقين، فهو يبحث عن رضا المخلوق بمعصية الخالق، ولهذا لما سُئل الإمام مالك رحمه الله: مَنِ السَّفَلة؟ قال: "من أكل بدينه" "1".   "1" روى البيهقي في "الشعب""6933" عن الإمام مالك أنه سأله شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن –وهو من أئمة التابعين- فقال له: من السفلة؟ فقال مالك: من أكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 6- الحرص على كل ما هو سبب في عدم الوقوع في الرياء، وذلك بالحرص على إخفاء العبادات المستحبة، وبمدافعة الرياء عندما يخطر بالقلب، وبالبعد عن مجالسة المدّاحين وأهل الرياء، ونحو ذلك"1". وفي ختام الكلام على مسألة الرياء يحسن التنبيه إلى أنه لا يجوز للمسلم أن يرمي مسلماً آخر بالرياء، فإن الرياء من أعمال القلوب ولا   بدينه. قال ربيعة: من سفلة السفلة؟ قال: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه. قال مالك: فصدَّرني. وممن يأكل بدينه: المرائي. فقد يريد بأدائه للعبادة الحصول على مكانة في نفوس الناس ليكرم من أجلها أو يُولى عملاً يتقاضى عليه أجراً، أو يكرم بالهدايا والهبات ونحو ذلك، كما سبق بيانه عند تعريف الرياء، ويدخل في سفلة السفلة الذين يصلحون دنيا غيرهم بإفساد أديان أنفسهم: من يعمل في تجارة محرمة لغيره، ومن يظلم الآخرين أو يعذبهم أو يتجسس عليهم فيتسبب في أذاهم من أجل المحافظة على مصالح غيره، ومن يفتي بحل ما حرّم الله من أجل تحقيق رغبات وشهوات ومصالح من يفتيهم، فيهلك نفسه من أجل مصلحة أو هوى غيره. "1" ينظر الرعاية ص233-242، الإحياء 3/321-334، مختصر منهاج القاصدين ص283-285، الزواجر "الكبيرة الثانية 1/49، 50"، مقاصد المكلفين للأشقر ص465-473، "نور الإخلاص"لسعيد بن علي القحطاني ص20-30، الإخلاص لحسين العوايشة ص41-56، الإخلاص والشرك الأصغر للدكتور عبد العزيز العبد اللطيف ص10-12، الشرك الأصغر لعبد الله السليم ص95-99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 يعلمه إلا علاّم الغيوب، واتهام المسلمين بالرياء هو من أعمال المنافقين"1"، والأصل في المسلم السلامة، وأنه إنما أراد وجه الله، وأيضاً فإن المسلم يندب له في بعض المواضع أن يظهر عمله للناس، إذا أمن على نفسه من الرياء، كما إذا أراد أن يُقتدى به في الخير، فليس كل من حرص على إظهار عمله للناس يعتبر مرائياً"2". المثال الثاني: من أمثلة الشرك الأصغر في العبادات القلبية: إرادة الإنسان بعبادته الدنيا المراد بهذا النوع: أن يعمل الإنسان العبادة المحضة ليحصل على مصلحة دنيوية مباشرة "3"   "1" ينظر ما سبق في الباب السابق عند الكلام على أعمال المنافقين الكفرية. وقد قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [براءة:79] ، وروى البخاري "4668"، ومسلم "1018" في سبب نزول هذه الآية عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبوعقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء. ومعنى نتحامل: نحمل على ظهورنا للناس بالأجرة من أجل أن نتصدق بها، لأنه ليس عندهم شيء يتصدقون به. "2" ينظر: الرعاية ص315-324، الإحياء 3/334-336، مختصر منهاج القاصدين ص287. "3" وقد قيدت هذا النوع بإرادة المصلحة المباشرة؛ لأن الرياء يريد به صاحبه أيضاً مصلحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وإرادة الإنسان بعمله الدنيا ينقسم من حيث الأصل إلى أقسام كثيرة"1"، أهمها: 1- أن لا يريد بالعبادة إلا الدنيا وحدها، كمن يحج ليأخذ المال، وكمن يغزو من أجل الغنيمة وحدها، وكمن يطلب العلم الشرعي من أجل الشهادة والوظيفة ولا يريد بذلك كله وجه الله البتة، فلم يخطر بباله احتساب الأجر عند الله تعالى، وهذا القسم محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب، وهو من الشرك الأصغر"2"، ويبطل العمل الذي يصاحبه. ومن الأدلة على تحريم هذا القسم وأنه يبطل العمل الذي يصاحبه:   دنيوية، لكن ذلك غير مباشر، لأنه يرائي الناس ليعظم في أنفسهم رجاء أن يحصل مصلحة دنيوية من قبلهم، كما سبق بيانه عند تعريف الرياء. وينظر في المراد بالعبادة المحضة ما سبق عند الكلام على تعريف العبادة وبيان شمولها. "1" من إرادة الدنيا: النفاق بأصل الإيمان، أو أن يظهر بعض العبادات الأخرى مع إبطان الكفر من أجل الحصول على مصالح دنيوية، فهذا من الشرك الأكبر، كما سبق بيانه في شرك النية والإرادة والقصد في الباب السابق. "2" وقد سبق عند ذكر حكم الرياء قول بعض العلماء: إن هذا النوع من الشرك الأكبر، ولعل الأقرب أنه من الأصغر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 أ- قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15، 16] . ب- حديث عمر رضي الله عنه مرفوعاً: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ". رواه البخاري ومسلم"1". ج- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: " من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة ". يعني ريحها"2".   "1" صحيح البخاري "1"، وصحيح مسلم "1907" "2" رواه أحمد 2/338، وأبوداود "3664"، وابن حبان "78" بإسناد حسن إن شاء الله، رجاله رجال الصحيحين، وله شواهد بنحوه هو بها صحيح، وقد ذكرتها في رسالة النية في تخريج هذا الحديث تحت رقم "33"، وله شواهد أخرى كثيرة في تحريم طلب الدنيا بالعمل الصالح، ذكرتها في المرجع نفسه برقم "31، 32، 35، 42". وتفسير العرف بالريح هو من تفسير بعض رواة الحديث، وفي حديث عبد الله بن عمرو في صحيح البخاري "6914": " وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 2 - أن يريد بالعبادة وجه الله والدنيا معاً، كمن يحج لوجه الله وللتجارة، وكمن يقاتل ابتغاء وجه الله وللدنيا، وكمن يصوم لوجه الله وللعلاج، وكمن يتوضأ للصلاة وللتبرد، وكمن يطلب العلم لوجه الله وللوظيفة، فهذا الأقرب أنه مباح؛ لأن الوعيد إنما ورد في حق من طلب بالعبادة الدنيا وحدها، ولأن الله رتب على كثير من العبادات منافع دنيوية عاجلة، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2، 3] ، وكما في قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] ، والنصوص في هذا المعنى كثيرة"1"،   "1" ومن ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد "3669"، والترمذي "810"، والنسائي "2632" بإسناد حسن عن ابن مسعود مرفوعاً: " تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب دون الجنة ". ولأوله شاهد من حديث ابن عباس عند النسائي "2631" وإسناده حسن. وكما في حديث الثلاثة أصحاب الغار، وقد سبق تخريجه عند الكلام على تعريف العبادة وبيان شمولها، وكما في حديث أبي سعيد في قصة رقية اللديغ، فهو صريح في جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن. وسيأتي تخريجه عند الكلام على الرقى إن شاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فهذه النصوص تدل على جواز إرادة وجه الله وهذه المنافع الدنيوية معاً بالعبادة"1"؛ لأن هذه المنافع الدنيوية ذكرت على سبيل الترغيب في   الله تعالى، وقد ذكر القرافي في الفروق "الفرق 122" أن من جاهد ليحصل طاعة الله بالجهاد وليحصل المال من الغنيمة أن ذلك لا يضره ولا يحرم عليه بالإجماع، وذكر السيوطي في منتهى الآمال ص175: أن من خرج حاجاً ومعه تجارة صح حجُّه وأثيب عليه بإجماع الأمة. "1" في هذا القسم كلام وخلاف لبعض أهل العلم، وبعضهم يفرق بين ما إذا كان الباعث على العمل وجه الله وكان طلب الدنيا تابعاً له، وبين ما سوى ذلك، وبعضهم يفرق في الحكم بحسب تساوي القصدين أو عدم تساويهما، والأقرب عدم التفريق، لأن النصوص أطلقت، ولم تفصل، بل إن حديث أبي سعيد في رقية اللديغ والذي سيأتي عند الكلام على الرقية –إن شاء الله تعالى– صريح في جواز أن تكون إرادة الدنيا هي الباعث على قراءة الفاتحة رقية، ولذلك امتنع الصحابة عن الرقية إلا بجعل. وينظر في هذا القسم: جامع بيان العلم 1/187، إحياء علوم الدين 3/321، المحلى 1/76، المسألة 113، تفسير القرطبي 5/180، و9/14، مختصر منهاج القاصدين ص393، الفروق "الفرق 12"، المجموع 1/325، شرح الأربعين للنووي ص16، فيض القدير 6/107، قاعدة في المحبة ص99، تجريد التوحيد للمقريزي ص53، 54، دليل الفالحين شرح رياض الصالحين لابن علان 4/191، جامع العلوم والحكم 1/81، 82، إعلام الموقعين 2/182، الموافقات 2/217-222، فتح الباري: الجهاد باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، الأشباه لابن نجيم ص39، 40، منتهى الآمال ص174-180، التيسير وفتح المجيد والقول المفيد باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 هذه العبادات"1". وهذا القسم لا يبطل العمل الذي يصاحبه، ولكن أجر هذه العبادة يُنقص منه بقدر ما خالط نيته الصالحة من إرادة الدنيا"2".   الدنيا، العدة للصنعاني 1/60 الشرك ومظاهره للميلي ص66، 67، إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار لشيخنا محمد بن عثيمين - رحمه الله – ص5، 6، وينظر رسالة "الشرك الأصغر" ص109-115 ففيها تفصيل جيد لهذه المسألة. "1" ولو لم يجز للعبد أن يريدها بعبادته مع إرادة وجه الله لما وردت على هذه النحو، وكيف يرد الترغيب في أمر بذكر هذه الفوائد ثم يقال للعبد: لا تقصدها عند أدائك لهذه العبادة، ولا يكن في نفسك إرادة شيء من حظوظ الدنيا حتى ما رُغِّبت فيه، فدلّ ذلك على إباحة إرادة الأمرين معاً. ينظر رسالة "الشرك الأصغر" ص110. "2" والدليل على هذا حديث " وإنما لكل امرئ ما نوى "، وحديث " ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم " رواه مسلم "1906"، فإذا كان هذا في حق من غنم وهو لم يقصد الغنيمة مع إرادة الجهاد، فمن أرادها وأراد وجه الله من باب أولى ولو لم يغنم؛ لأن العبد يُجزى على نيته، كما في حديث أبي كبشة عند أحمد 4/231، والترمذي "2325" بإسناد حسن، وقد توسعت في تخريجه في رسالة "النية"، الحديث رقم "45". . ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أنه إذا طلب المسلم العلم الشرعي في المدارس والكليات الشرعية ونحوها مبتغياً تعليم نفسه ليعبد الله على بصيرة، وتعليم الناس ودعوتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 المثال الثالث من أمثلة الشرك الأصغر في الأعمال القلبية: الاعتماد على الأسباب السبب لغة: الحبل، ويطلق على "كل شيء يُتوصل به إلى غيره" استعير من الحبل الذي يتوصل به إلى الماء"1". وفي الاصطلاح هو: الأمور التي يفعلها الإنسان ليحصل له ما يريده من مطلوب، أو يندفع عنه ما يخشاه من مرهوب في الدنيا أو في الآخرة. فمن الأسباب في أمور الدنيا: البيع والشراء أو العمل في وظيفة ليحصل على المال، ومنها: أن يستشفع بذي جاه عند السلطان ليسلم من عقوبة دنيوية، أو ليدفع عنه ظلماً، أو لتحصل له منفعة دنيوية كوظيفة أو مال أو غيرهما، ومنها: أن يذهب إلى طبيب ليعالجه من   ونفعهم، ومبتغياً الحصول على شهادة أو وظيفة يستعين بها على عبادة الله وعلى التفرغ لتعليم الناس ودعوتهم ونفعهم يرجى أن يكون في دراسته هذه مخلصاً العمل لله تعالى وأن لا ينقص من أجره شيء. هذا ما ظهر لي في هذه المسألة المهمة، وهو ما ذهب إليه جمعٌ من مشايخي من علماء هذه البلاد "المملكة العربية السعودية". والله أعلم. "1" ينظر: لسان العرب، والتعريفات، والكليات "مادة: سبب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 مرض، ونحو ذلك"1". ومن الأسباب في أمور الآخرة: فعل العبادات رجاء ثواب الله تعالى والنجاة من عذابه"2"، ومنها: أن يطلب من غيره أن يدعو الله له بالفوز بالجنة والنجاة من النار، ونحو ذلك. والذي ينبغي للمسلم في هذا الباب هو أن يستعمل الأسباب المشروعة التي ثبت نفعها بالشرع أو بالتجربة الصحيحة"3"، مع توكله   "1" كأن يستعمل دواء أو رقية للعلاج من مرض، وكأن يجري عملية جراحية لاستئصال مرض أو علاجه، وكأن يأخذ السلاح ويلبس الدرع في حال الحرب، وكأن يحمل الزاد معه في السفر ونحو ذلك. "2" مجموع الفتاوى 8/175، 176. "3" قال شيخنا محمد بن عثيمين - رحمه الله – في القول المفيد، باب من الشرك لبس الحلقة 1/165: "طريق العلم بأن الشيء سبب: إما عن طريق الشرع، وذلك كالعسل {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] ، وكقراءة القرآن فيها شفاء، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:83] وإما عن طريق القدر، كما إذا جرّبنا هذا الشيء فوجدناه نافعاً في هذا الألم أو المرض، ولكن لابدّ أن يكون أثره ظاهراً مباشراً كما لو اكتوى بالنار فبرئ بذلك مثلاً؛ فهذا سبب ظاهر بيّن، وإنما قلنا هذا لئلاّ يقول قائل: أنا جرّبت هذا وانتفعت به، وهو لم يكن مباشراً، كالحلقة، فقد يلبسها إنسان وهو يعتقد أنها نافعة، فينتفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 على الله تعالى "1"، واعتقاد أن هذا الأمر إنما هو مجرد سبب، وأنه لا أثر له إلا بمشيئة الله تعالى، إن شاء نفع بهذا السبب، وإن شاء أبطل   لأن للانفعال النفسي للشيء أثراً بيّناً، فقد يقرأ إنسان على مريض فلا يرتاح له، ثم يأتي آخر يعتقد أن قراءته نافعة فيقرأ عليه الآية نفسها فيرتاح له ويشعر بخفة الألم، كذلك الذين يلبسون الحِلَق ويربطون الخيوط؛ قد يحسون بخفة الألم أو اندفاعه أو ارتفاعه بناءً على اعتقادهم نفعها، وخفة الألم لمن اعتقد نفع تلك الحلقة مجرد شعور نفسي، والشعور النفسي ليس طريقاً شرعياً لإثبات الأسباب، كما أن الإلهام ليس طريقاً للتشريع". وينظر مجموع الفتاوى 1/137. "1" تنوَّعت عبارات أهل العلم في تعريف التوكل، فقيل هو: الاكتفاء بالله تعالى مع الاعتماد عليه. وقيل هو: اعتماد القلب على الله دون سواه في جلب المنافع ودرء المفاسد في الدنيا والآخرة، واعتقاد أنه تعالى هو النافع والضار دون سواه. ينظر: المفهم 1/467، 468، تلبيس إبليس ص315، شرح النووي لصحيح مسلم: الإيمان باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب 2/90-92. وقال الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف: وظيفة شهر صفر "ص70": "فالتوكل علم وعمل: والعلم معرفة القلب بتوحيد الله بالنفع والضر، وعامة المؤمنين تعلم ذلك. والعمل: هو ثقة القلب بالله، وفراغه من كل ما سواه، وهذا عزيز، ويختص به خواص المؤمنين". وقال الحافظ ابن القيم في "طريق الهجرتين" "ص335، 336": "التوكل يجمع أصلين: علم القلب، وعمله، أما علمه: فيقينه بكفاية وكيله، وكمال قيامه بما وكله إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك. وأما عمله: فسكونه إلى وكيله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 أثره"1". أما إن اعتمد الإنسان على السبب فقد وقع في الشرك، لكن إن   وطمأنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أمره إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك، ورضاه بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه، فبهذين الأصلين يتحقق التوكّل، وهما جماعه". وينظر مدارج السالكين: منزلة التوكل 2/116- 148، وقد أطال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم: شرح الحديث 49: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكّله.. الخ"في الكلام على التوكل وفيما يكون وعاقبته وبيان عاقبة صدق اليقين والتوكل، وعواقب ضعف التوكل، وإن كان بعض ما ذكره من توكل بعض الزّهاد والعبّاد وسفرهم بغير زاد، وترك آخرين للتكسب فيه نظر، وليس هذا من عمل الأنبياء عليهم السلام، ولا من عمل الصحابة، ولم يدل عليه نص من كتاب أو سنة، أو حتى أثر عن صحابي فيما أعلم. والله تعالى أعلم. "1" قال شيخنا محمد بن عثيمين في القول المفيد باب ما جاء في الرقى 1/184: "ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب، بل يعلقها بالله، فالموظف الذي يتعلق بمرتبه تعلقاً كاملاً، مع الغفلة عن المسبِّب – وهو الله – قد وقع في نوع من الشرك، أما إذا اعتقد أن المرتب سبب، والمسبِّب هو الله سبحانه وتعالى، وجعل الاعتماد على الله، وهو يشعر أن المرتب سبب، فهذا لا ينافي التوكّل، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبِّب، وهو الله - عز وجل -". وينظر مجموع الفتاوى 1/137، و8/169، المدخل لابن الحاج 4/324-326، مدارج السالكين 3/521، الفتاوى الهندية: الكراهية الباب 18 في التداوي 5/254، شرح الطحاوية ص680. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 اعتمد عليه اعتماداً كلياً، مع اعتقاد أنه ينفعه من دون الله فقد وقع في الشرك الأكبر، وإن اعتمد على السبب مع اعتقاده أن الله هو النافع الضار فقد وقع في الشرك الأصغر"1"، فالمؤمن مأمور بفعل السبب مع التوكل على مسبّب الأسباب جل وعلا. وعليه فإن ترك الأسباب واعتقادَ أن الشرع أمر بتركها، وأنها لا نفع فيها كذب على الشرع، ومخالفة لما أمر الله به وأجمع عليه أهل العلم، ومخالفة لمقتضى العقل"2"، ولهذا قال بعض أهل العلم: "الالتفات إلى   "1" لطائف المعارف: وظيفة شهر صفر ص70، التيسير، وقرة عيون الموحدين، وإبطال التنديد، وفتح الله الحميد باب "وعلى الله فتوكلوا"، القول السديد باب لبس الحلقة ص45، 46، القول المفيد باب الرقى 1/183، وينظر: مجموع الفتاوى 8/169، شرح الطيبي: الطب 8/320، آخر مدارج السالكين 3/521، آخر مفتاح دار السعادة 2/712، فيض القدير: شرح حديث "الطيرة شرك"4/294، مرقاة المفاتيح 4/523. وينظر ما سيأتي عند الكلام على الرقى المحرمة، وعند الكلام على التمائم المحرمة عند بيان وجه كونهما من الشرك – إن شاء الله تعالى -. "2" قال القرطبي في "قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذلّ السؤال بالكتب والشفاعة"ص107 نقلاً عن رسالة الشرك الأصغر ص139: "القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله، وهو الحق المبين، والصراط المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين". وينظر: الفروق "الفرق 257 بين قاعدة التوكل وبين قاعدة ترك الأسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدحٌ في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع""1". ومن الشرك في الأسباب: أن يجعل ما ليس بسبب سبباً، فإن اعتقد أن هذا الشيء يستقل بالتأثير بدون مشيئة الله فهو شرك أكبر، كحال عبّاد الأصنام وعبّاد القبور الذين يعتقدون أنها تنفع وتضر استقلالاً، وإن اعتقد أن الله جعله سبباً، مع أن الله لم يجعله سبباً فهو شرك أصغر"2"؛ لأنه شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بالسببية مع أن الله لم يجعله سبباً"3".   4/221-224"، الموافقات: القسم الثاني من قسمي الأحكام 1/187-262، مجموع الفتاوى 1/137، و8/485، 486، مدارج السالكين 3/516-523، آخر مفتاح دار السعادة 2/711، 712. "1" مجموع الفتاوى 8/169، وينظر آخر مدارج السالكين 3/521، وشرح الطحاوية: الدعاء ص679. "2" ومن أمثلته: التطيّر، والاستسقاء بالنجوم، وسيأتي بيانهما وبيان كونهما من الشرك في هذا الفصل إن شاء الله تعالى. "3" القول السديد باب من الشرك لبس الحلقة ص45، 46، القول المفيد باب الرقى 1/183، مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين 1/102، 104، الشرك الأصغر ص135-147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 المثال الرابع من أمثلة الشرك الأصغر في الأعمال القلبية: التَّطَيُّر التطيُّر لغة: مصدر "تطيَّر"، ويُسمى "الطِّيَرة"، و "الطَّيْر""1". وفي الاصطلاح: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو غيرهما"2". ومعنى ذلك أن يكون الإنسان قد عزم على أمر ما، فيرى أو يسمع أمراً لا يعجبه فيحمله ذلك على ترك ما يريد فعله. ويلحق بالتطيُّر في الحكم: عكسه، بأن يرى أو يسمع أمراً يسر به، فيحمله على فعل أمر لم يكن عازماً على فعله"3".   "1" ينظر: الصحاح، والقاموس المحيط، والنهاية "مادة: طير "، إكمال المعلم 7/141، جامع الأصول 7/628. "2" أو هي: ما يتشاءم به من الفأل الردئ، والشؤم: ضد اليمن، وهو عدم البركة. تنظر: المراجع السابقة، وينظر شرح السنة: الطب 12/170، شرح صحيح مسلم للنووي كتاب السلام باب الطيرة 13/218، شرح الطيبي: الطب 8/313، آخر كتاب مفتاح دار السعادة 2/246، القوانين الفقهية ص296، فتح المجيد باب ما جاء في التطير 2/525، معارج القبول 3/990-993، القول السديد ص116، القول المفيد 1/559. "3" ويلحق بذلك أيضاً الاستقسام بالأزلام الذي حرمه الله تعالى بقوله {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] ، وبقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وهو ما كان يفعله أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 ومن أمثلة التطيُّر: ما كان يفعله أهل الجاهلية من أن أحدهم إذا أراد سفراً زجر أو أثار طيراً، فإن اتجه ذات اليمين تفاءل، فعزم على السفر، وإن اتجه ذات الشمال تشاءم، وترك هذا السفر، وقد كثر استعمال أهل الجاهلية للطيور في هذا الأمر حتى قيل لكل من تشاءم "تطيَّر"، ومن أمثلة التشاؤم أيضاً: التشاؤم بسماع كلمة لا تعجبه ك "يا هالك"، أو بملاقاة عجوز شمطاء، أو برؤية الغراب، أو البوم، أو صاحب عاهة في أول سفره، أو في أول نهاره فيترك هذا السفر، أو يترك البيع والشراء في هذا اليوم، ومن أمثلته: التشاؤم ببعض الأشهر كصفر، والتشاؤم ببعض الأرقام كثلاثة عشر، كما يفعله كثير من أصحاب الفنادق والعمارات وغيرهم في هذا العصر، فتجد بعضهم لا يضع هذا الرقم في أدوار العمارة أو في المصعد أو في مقاعد الطائرات، ونحو ذلك تشاؤماً.   الجاهلية من أنهم إذا أرادوا عمل أمر من الأمور أتوا بقداح مثل السهام أو الحصى، وقد كتب على أحدها علامة الخير، وعلى الثاني علامة الشر، والثالث غفل لا شيء عليه، فإذا خرج هذا فعلوا، وإذا خرج هذا تركوا، وإذا خرج الغفل أعادوا الاستقسام، ومثله الضرب بالحصى والشعير واللوح والخشب ونحوها، ينظر تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم والقرطبي وابن كثير للآيتين السابقتين، والفتاوى الكبرى 1/209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 والتطيّر محرم"1"، وشرك أصغر"2". ومثله: الفعل الذي يقدم عليه العبد أو يعزم عليه لرؤيته أو سماعه ما يسر به – كما سبق – ويستثنى   "1" ينظر: الكبائر للذهبي "الكبيرة 63"، وتنبيه الغافلين لابن النحاس ص209، وقد سبق عند بيان حكم الشرك الأصغر أنه من أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر. "2" السبب في كونه شركاً هو بسبب ما يعتقده المتطير من أن ما فعله من التطيُّر كان سبباً في دفع مكروه عنه أو في جلب الخير له مع أنه سبب غير صحيح، وإنما هومن خرافات الجاهلية، ومما يزينه الشيطان في نفوس الجهال، فإذا وقع بعض ما تطيروا به في بعض الأحيان جعلهم الشيطان يتعلقون بهذا التطير ويظنون أنه صحيح، كما أن في هذا التطير نوعاً من الاعتماد على الأسباب في دفع الضر وجلب الخير، فهي أسباب باطلة شرعاً وعقلاً، فهو قد اعتمد على سبب لم يجعله الله سبباً، وتعلّق قلبه بهذه الأسباب الباطلة، كما أن في التطير نوع اعتماد على هذه الأمور الباطلة في دعوى معرفة ما سيكون في المستقبل. وينظر: مشكل الآثار 2/299، التمهيد 24/195، عارضة الأحوذي 7/116، 117، شرح صحيح البخاري لابن بطال 9/436، شرح النووي لصحيح مسلم باب الطيرة "13/219، شرح الطيبي 8/320، فتح المجيد 2/506، 521، 526، الدين الخالص 2/142، 143، القول السديد ص116-118، القول المفيد 1/574، 580، الشرك الأصغر ص124، 125، وهذا الحكم إنما هو في حق من اعتقد أن ما تطير به جعله الله علامة على هذا الأمر المكروه أو سبباً في حصوله، أما من اعتقد أن هذا المتشاءَم به يحدث الشر بنفسه ويفعله استقلالاً، أو اعتقد أنه يعلم الأمر الذي سيقع في المستقبل ويخبر به، فهذا من الشرك الأكبر. ينظر: فيض القدير 4/294، مرقاة المفاتيح 4/522، 523، القول المفيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 منه الفأل الحسن، وهو: أن يكون الإنسان قد عزم على أمر معين فيرى أو يسمع أمراً حسناً من غير قصد له، فيسر به ويستبشر به، ويزيده ذلك اطمئناناً بأن ما كان قد عزم على فعله سيكون فيه خير وبركة بمشيئة الله تعالى، ويعظم رجاؤه في الله تعالى في تحقيق هذا الأمر، من غير اعتماد على هذا الفأل، فهذا حسن، فالفأل حسن ظن بالله تعالى، ورجاء له، وباعث على الاستعانة به، والتوكل عليه، وعلى سرور النفس، وانشراح الصدر، وهو مسكن للخوف، باعث للآمال، والطيرة على النقيض من ذلك: فهي سوء ظن بالله، وتوكل على غيره، وقطع للرجاء، وتوقع للبلاء، وقنوط للنفس من الخير، وهو مذموم وباطل شرعاً وعقلاً"1".   1/577، الدعاء للعروسي السوداني 2/912. ومثل التطير في الحكم: الاستقسام بالأزلام الذي سبقت الإشارة إليه قريباً، ومثله قراءة الكف أو الفنجان أو فتح المصحف أو كتاب ثم الاستدلال بما يقرأ في هذه الصفحة على ما سيقع، وقد سبقت الإشارة إلى شيء من ذلك عند الكلام على الشرك في الأسماء والصفات في الباب السابق، وينظر تفسير القرطبي "تفسير الآية 90 من المائدة 6/285، وتفسير الآية 26 من الجن 19/28". "1" ينظر شرح السنة 12/175، المفهم 5/627، 628، إكمال المعلم 7/144، جامع الأصول: الكتاب الخامس في الطيرة والفأل والشؤم والعدوى 7/638، تفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وقد وردت أدلة كثيرة تدل على بطلان التطير"1"، وتحريمه، ومن   القرطبي للآية "3" من سورة المائدة، مفتاح دار السعادة "2/244-247"، حاشية ابن عابدين باب العيدين 1/555، وتنظر أكثر المراجع الآتية في التعليق بعده. "1" أما حديث ابن عمر الذي رواه البخاري "5094، 5753"، ومسلم "2225" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا عدوى ولا طيرة، وإن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس "ومثله حديث سهل بن سعد عند البخاري "2859"، ومسلم "2226" فالأقرب أن المراد بالشؤم في هذا الحديث وشواهده ما رجّحه الإمام البخاري في صحيحه وغيره، ورجّحه شيخنا عبد العزيز بن باز - رحمه الله – في بعض دروسه من أن المراد ما يكون في بعض أعيان هذه الثلاثة من الضرر المحسوس، كالمرأة السيئة الخلق، والدار الضيقة، أو السيئة الجيران، والفرس السيئة الطباع، ونحو ذلك، كما في الحديث الذي رواه ابن حبان "4032" بإسناد حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء ". وينظر: صحيح البخاري مع شرحه لابن بطال وشرحه لابن حجر: الجهاد باب ما يتقي من شؤم الفرس، والطب باب الطيرة، والنكاح باب ما يتقي من شؤم المرأة، وقوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} [التغابن: 14] . مصنف عبالرزاق "كتاب الجامع لمعمر باب الشؤم 10/411"، التمهيد 9/278، 291، شرح السنة 12/178، 179، معالم السنن وتهذيب السنن 1/380، 381، شرح النووي لصحيح مسلم 13/220-222، شرح الطيبي 8/321، معارج القبول 3/990-993، وينظر أيضاً الموطأ مع شرحه المنتقى باب ما يتقى من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ذلك ما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطيرة شرك ""1".   الشؤم 7/293، 295، تهذيب الآثار "مسند علي ص34"، شرح معاني الآثار: الكراهية باب الرجل يكون به الداء 4/314، المعلم 3/104، مفتاح دار السعادة 2/251-256، الآداب الشرعية 3/365، لطائف المعارف ص75، فتح المجيد والقول السديد، والقول المفيد باب الطيرة، عالم السحر والشياطين ص304-310، رسالة "الطير والطيرة "ص11-109، ورسالة "الشرك الأصغر"ص125-131، الطيرة والفأل لمحمود الجاسم ص47-77، وينظر المراجع المذكورة في التعليق السابق. "1" رواه الإمام أحمد "3687 تحقيق شاكر"، وابن أبي شيبة "6442"، وأبوداود "3910"، والترمذي "1614"، وابن حبان "6122"، والحاكم 1/17، 18. وإسناده صحيح. وقد صححه الترمذي، والحاكم، وصححه أيضاً الذهبي والعراقي كما في فيض القدير 4/294، وابن العربي في عارضة الأحوذي 7/116 وتمامه: "وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل "وهذه التتمة من قول ابن مسعود رضي الله عنه كما في سنن الترمذي، والمعنى: وما منا أحد إلا وقد يعتريه التطير. وهذا يدل على أن ما يقع في القلب من التطير من غير قصد من العبد ولم يستقر في القلب معفو عنه، لكن إن ترتب عليه إقدام أو إحجام فهو محرم، ويؤيد هذا حديث معاوية بن الحكم عند مسلم "537": قال قلت: ومنا رجال يتطيرون؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم "، وفي رواية: " فلا يصدنّكم "، ويؤيده حديث ابن عمرو الآتي. وينظر: شعب الإيمان 2/62-64، المفهم 1/465، و5/628، الآداب الشرعية 3/361، مرقاة المفاتيح 4/523، فتح المجيد 2/526. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ومما يدل على تحريم الطيرة أيضاً وإباحة الفأل: ما رواه عروة بن عامر، قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم: لا   ولهذا الحديث شواهد، منها ما رواه الإمام أحمد "7045 تحقيق شاكر" وابن وهب في الجامع "656" ومن طريقه ابن السني "292" عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: " من أرجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك "، قالوا: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: " يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك " وليس عند ابن وهب قوله: "قالوا.. الخ "وسنده حسن. وللنهي عن الطيرة وبيان بطلانها شواهد أخرى كثيرة منها: قوله تعالى عن قوم صالح: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} "النمل:47"، ففي الآية نفي الطيرة، وإثبات أن ما أصابهم إنما هو بتقدير الله تعالى، ومن قبله، ومنها الحديث السابق، ومنها حديث ابن عباس في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم في صفتهم: " هم الذين لا يتطيرون، ولا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون "رواه البخاري "5752" واللفظ له، ومسلم "220"، ومنها حديث جابر عند مسلم "2222": "لا عدوى، ولا طيرة، ولا غول"، ومنها ما رواه تمام في فوائده "1444"، والبيهقي في شعب الإيمان "1177" عن أبي الدرداء مرفوعاً: " لن يلجَ الدرجات العلى من الجنة من تَكَهَّن أو تُكُهن له، أو رجع من سفر تطيراً "، وغيرها، وقد ذكر الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/311 أن الأحاديث في النهي عن الطيرة متواترة، وينظر المجمع 5/101-116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 يأتِ بالحسنات إلا أنت "1"، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك "2" ""3"، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل الحسن" قالوا: وما الفأل؟ قال: " الكلمة الصالحة يسمعها   "1" قال شيخنا محمد بن عثيمين في القول المفيد 1/571، 572: "وهذا هوحقيقة التوكل، وقوله "اللهم" يعني: ياألله، ولهذا بُنيت على الضم؛ لأن المنادى علم، بل هو أعلم الأعلام وأعرف المعارف على الإطلاق". "2" قال في فتح المجيد ص522: "وقوله: " ولا حول ولا قوة إلا بك " استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سبباً لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها، وذلك الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات". "3" رواه أبوداود في الطب "3919"، وابن أبي شيبة في الأدب "6443"، وابن السني "293"، والبيهقي في كتابه "الدعوات" "500". وإسناده صحيح إن ثبت سماع حبيب من عروة، والأقرب أن عروة صحابي، فقد أثبت صحبته جماعة، ونفاها آخرون، والمثبت مقدم على النافي. ينظر الإصابة 2/469، تهذيب التهذيب 2/185، وقد صحح هذا الحديث النووي في رياض الصالحين "1686". وله شاهد من مرسل الشعبي رواه عبد الرزاق في الجامع لشيخه معمر باب الطيرة "19512"، وسنده صحيح، ومراسيل الشعبي قوية، وله شاهد آخر من مرسل عبد الرحمن بن سابط، رواه أبوداود في المراسيل "539"، وإسناده حسن، فحديث عروة على القول بأن سنده ضعيف حسن لغيره بهذين الشاهدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 أحدكم ". رواه البخاري ومسلم "1". قال الحافظ ابن رجب بعد ذكره أن التشاؤم باطل شرعاً وعقلاً، قال: "وفي الجملة فلا شؤم إلا المعاصي والذنوب فإنها تسخط الله عز وجل، فإذا سخط على عبده شقي في الدنيا والآخرة، كما أنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا والآخرة، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله، واليُمن هو طاعة الله وتقواه كما قيل: إنَّ رأياً دعا إلى طَاعةِ اللهِ ... لَرَأيٌ مُبارَكٌ مَيمُونُ والعدوى التي تهلك من قاربها هي المعاصي، فمن قاربها وخالطها وأصر عليها هلك، وكذلك مخالطة أهل المعاصي ومن يحسِّن المعصية ويزيِّنها ويدعو إليها من شياطين الإنس، وهم أضر من شياطين الجن، قال بعض السلف: شيطان الجن تستعيذ بالله منه فينصرف،   "1" صحيح البخاري "5754"، وصحيح مسلم "2223" من حديث أبي هريرة، وله شاهد من حديث أنس عند البخاري "5756"، ومسلم "2224"، وله شاهد آخر رواه البخاري "2731"، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية لما جاء سهيل بن عمرو: " سُهِّل لكم من أمركم "، وهو من مرسل عكرمة، وله شاهد ثالث رواه الترمذي "1616"، وشاهد رابع رواه أبوداود "3920" وما ذكر فيه من تغيره صلى الله عليه وسلم إذا سمع اسماً مكروهاً يحمل على أنه من أجل كراهته لهذا الاسم لا غير. وينظر التمهيد 24/68-74، مجمع الزوائد: الطب 5/105، 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وشيطان الإنس لا يبرح حتى يوقعك في المعصية، وفي الحديث: " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل " "1"، وفي حديث آخر: " لا تصحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي ""2"، فالعاصي مشؤوم على نفسه وعلى غيره فإنه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعم الناس، خصوصاً من لم ينكر عليه عمله فالبعد عنه متعين، فإذا كثر الخبث هلك الناس عموماً" "3". النوع الثاني من أنواع الشرك الأصغر: الشرك في الأفعال ومن أمثلة هذا النوع: المثال الأول: الرقى الشركية"4".   "1" رواه أبوداود "4833"، والترمذي "2378"، وسنده حسن. "2" رواه أحمد 3/38، وأبوداود "4832"، والترمذي "2395"، وابن حبان "554"، وسنده حسن. "3" ينظر: لطائف المعارف: وظيفة شهر صفر ص77. "4" الرقية تشتمل على قول اللسان، وذلك بقراءة الأذكار، وتشمل على عمل القلب، وهو اعتماد كل من الراقي والمرقي بقلبه على ما استعاذ به والتجأ إليه، وتشتمل في الغالب على أفعال كالنفث ومسح الجسد بعد الرقية، ووضع اليد على موضع الألم، وصب الماء على المريض، وشرب المريض للماء، وبعضهم يكتب الأذكار في إناء أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الرُّقى في اللغة: جمع رقية، والاسم منه "رقيا"، يقال: رقيته، أرقيه، رَقياً، والمرة "رقية""1". وفي الاصطلاح: الأمور التي يعوَّذ بها لرفع البلاء أو دفعه"2". والرقية الشرعية هي الأذكار من القرآن والأدعية والتعويذات الثابتة في السنة أو الأدعية الأخرى المشروعة التي يقرؤها الإنسان على نفسه أو يقرؤها عليه غيره ليعيذه الله من الشرور بأنواعها، من الأمراض وشرور جميع مخلوقات الله الأخرى من السباع والهوام والجن والإنس وغيرها، فيعيذه منها بدفعها قبل وقوعها، بأن لا تصيبه"3"، أو يعيذه   على ورق بماء الزعفران أو غيره على ورق أو على إناء، ثم يغسله، ثم يصبُّه على المريض أو يسقيه إياه، وبعضهم يكتب الأذكار على بدن المريض، ونظراً لكثرة الأفعال في الرقية، ولارتباطها كثيراً بالتمائم – كما سيأتي إن شاء الله تعالى – ولذكرها معها في الحديث، والتمائم غالبها أفعال، لذلك كله ذكرت الرقى مع الأفعال في هذا الباب. "1" النهاية، والمصباح، "مادة: رقى ". "2" وينظر المرجعين السابقين وفتح الباري: الطب باب الرقى بالقرآن 10/195، وعمدة القاري 21/262. والرقى تسمى العزائم. والعزائم في الأصل: رقى كانوا يعزمون بها على الجن، فيقال: عزم الراقي، كأنه أقسم على الداء. ينظر لسان العرب "مادة: عزم "، وينظر المراد بالعزائم عند المشعوذين في الفروق "الفرق 242، 4/147". "3" بعض الفقهاء لا يجيز الرقية إلا للعلاج لا للوقاية من الأمراض، والأقرب صحتها لرفع البلاء ولدفعه قبل وقوعه، للأدلة الدالة على ذلك، كما سيأتي، وهي صريحة في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 منها بعد وقوعها بأن يرفعها ويزيلها عنه، وغالباً يصحب قراءة هذه الأذكار نفث من الراقي"1"، وقد تكون الرقية بالقراءة والنفث على بدن المرقي أو في يديه ويمسح بهما جسده ومواضع الألم إن وجدت، وقد تكون بالقراءة في ماء ثم يشربه المرقي أو يُصبُّ على بدنه"2"،   "1" وهذا النفث قد يصحبه ريق وقد يكون هواء بلا ريق، وفي حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه البخاري "5736"، ومسلم "2201" في قصة رقية أحد الصحابة لسيد أهل الحي الذين نزل بهم جماعة من الصحابة فلم يضيفوهم لما لدغ، فرقاه بقطيع من الغنم، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيه: "فجعل يقرأ أم القرآن، ويجمع بزاقه، ويتفل"، قال القاضي عياض في إكمال المعلم 8/101: "وفائدة ذلك – والله أعلم – التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء والنَفَس المباشر للرقية والذكر الحسن والدعاء والكلام الطيب، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء الحسنى في النشر، وقد يكون على وجه التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض وانفصاله عنه، كانفصال ذلك النفث عن في الراقي". وينظر صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الطب باب النفث في الرقية 10/209، 210، مصنف ابن أبي شيبة: الطب 7/400-403، شرح ابن بطال 9/434، التمهيد 8/129-133، التبيان للنووي: آخر الباب السابع ص99، 100، تفسير القرطبي "تفسير سورة الفلق 2/258"، المفهم 5/580، زاد المعاد: الطب، فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية اللديغ 4/179، عمدة القاري: الطب 21/262، الآداب الشرعية 2/457، 458، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/91، 92. "2" ويدل لهذا ما رواه أبوداود "3885"، وابن حبان "6069" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نفث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وبعضهم يقوم بكتابة الأذكار بزعفران أو غيره على ورق أو في إناء، ثم يغسله بماء، ثم يسقيه المريض"1".   في ماء، وصبه على ثابت بن قيس، وفي إسناده ضعف يسير. وله شاهد موقوف على عائشة رضي الله عنها رواه ابن أبي شيبة "3560" أنها كانت لا ترى بأساً أن يعوذ في الماء ثم يصب على المريض، وسنده صحيح. فيتقوى به الحديث السابق، وقد جزم بثبوت هذا الحديث شيخنا عبد العزيز بن باز - رحمه الله – كما في مجموع فتاويه ومقالاته 1/270، وينظر تفسير القرطبي "تفسير الآية 82 من الإسراء 10/318"، زاد المعاد 4/178، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/92-94. "1" وثبت نحو هذا عن بعض التابعين، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في المصنف لابن أبي شيبة: الطب 7/385، وإسناده ضعيف، ورواه ابن السني "619"، عن ابن عباس مرفوعاً، وفي إسناده محمد بن عبد الله بن المغيرة، وهو منكر الحديث، وقد ذكره شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 19/64 بإسناد أحمد بنحو رواية ابن أبي شيبة، وذكر أن أحمد أشار إلى إسناد آخر له، ولم يذكره بتمامه. وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء كما في مجلة البحوث الإسلامية العدد 12 ص102، والعدد 21 ص47، 48 بأن الأولى ترك الرقية التي بهذه الصفة والاستغناء عنها بالرقى الثابتة. ولعل هذا هو الأقرب والأولى، لأن قراءة القرآن وذكر الله في حال الرقية عبادة، والأصل في العبادات التوقيف، ومن قال بجواز هذه الرقية استدل بالقياس على ما ورد، وأخذ بعموم الاستشفاء بالقرآن، وبعموم حديث: " لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" رواه مسلم "2200". ينظر: فضائل القرآن لأبي عبيد ص231، المصنف لابن أبي شيبة 7/386، 387، الجامع لابن أبي زيد ص237، شرح السنة 12/166، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 والرقى التي يفعلها الناس تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: الرقى الشرعية، وهي الرُّقى التي سبق ذكرها، وقد أجمع أهل العلم على جوازها في الجملة"1".   التبيان للنووي: آخر الباب السابع ص98، 99، زاد المعاد 4/358، الآداب الشرعية 2/455، 456، أسهل المدارك في فقه الإمام مالك 3/367، المدخل لابن الحاج 4/326-328، حاشية ابن عابدين: أول البيع 5/232، الفتاوى الهندية: الكراهية 5/356، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/94، الفتاوى الذهبية في الرقى الشرعية ص102-108، كتاب دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة "بحث أ. د. محمد شبير عن الرقى والتمائم 2/491-495". وقريب من هذا ما يفعله بعضهم من القراءة في زيت ثم يدهن به جسد المريض. وينظر المدخل لابن الحاج 4/328، 329، الفتاوى الذهبية في الرقى الشرعية ص39، 40. وبعضهم يقوم بكتابة الأذكار على بدن المريض، وقد أفتى بعض أهل العلم بجوازه، ولم يرد في ذلك شيء عن السلف فيما أعلم، ولذلك فالأقرب والأولى تركه. وينظر الآداب الشرعية فصل فيما يجوز من التمائم 2/457، زاد المعاد 4/358، 359، الفتاوى الهندية كتاب الكراهية الباب 18 في التداوي 5/356، التبرك للجديع ص233، 234. "1" قال الحافظ ابن حجر الشافعي في الفتح في كتاب الطب باب الرقى بالقرآن 10/195: "أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسماء الله وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ويشترط في هذه الرقية أيضاً أن يعتقد الراقي والمرقي أن الرقية لا تؤثر بذاتها، وأن لا يعتمد عليها المرقي بقلبه، وأن يعتقد أن النفع إنما هو من الله تعالى، وأن هذه الرقية إنما هي سبب من الأسباب المشروعة"1"، ويشترط أن لا تكون هذه الرقية من ساحر أو متهم بالسحر، وحكم هذه الرقية عند اجتماع الشروط السابقة أنها مستحبة، وهي من أعظم أسباب الشفاء من الأمراض بإذن الله تعالى"2".   يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى، واختلفوا في كونها شرطاً، والراجح أنه لابد من اعتبار الشروط المذكورة"، وقال النووي في شرح مسلم 13/169: "وقد نقلوا الإجماع على جواز الرقى بالآيات وأذكار الله تعالى"، وقال ابن رشد في الجامع من المقدمات ص309: "لا اختلاف في جواز الاستعاذة بالقرآن والرقية به"، ونقل عن الحافظ السيوطي نحو قول الحافظ ابن حجر السابق. ينظر فتح المجيد ص243، وينظر التمهيد 5/264-285، و23/156، 157، أسهل المدارك كتاب جامع 3/367، مجلة البحوث الإسلامية "العدد 12 ص101". "1" وقد حكى الحافظ ابن حجر والحافظ السيوطي الإجماع على هذين الشرطين، وقد سبق نقل كلامهما قريباً، وينظر المدخل لابن الحاج 4/326. "2" سبق قريباً ذكر حديث أبي سعيد في رقية اللديغ، وفيه: أنه لما رُقي بسورة الفاتحة قام كأنما نشط من عقال. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح في كتاب المرضى باب فضل من يصرع من الريح 10/115: "علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، وإن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 .......................................................................   البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما: من جهة العليل، وهو صدق القصد، والآخر: من جهة المداوي، وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل"انتهى كلامه مع تصرف يسير. وذكر الحافظ ابن القيم في زاد المعاد 4/182 أن الأدوية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله، وتمنع من وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً، وإن كان مؤذياً، أما الأدوية فإنما تنفع بعد حصول الداء، وقال في مدارج السالكين 1/67 بعد ذكره لحديث أبي سعيد السابق: "فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه، فأغنته عن الدواء، وربما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدواء، هذا مع كون المحل غير قابل، إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين أو أهل بخل ولؤم، فكيف إذا كان المحل قابلاً"، وقال أيضاً في المرجع نفسه 1/69: "فهنا أمور ثلاثة: موافقة الدواء للداء، وبذل الطبيب له، وقبول طبيعة العليل. فمتى تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء. وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولابد بإذن الله سبحانه وتعالى. ومن عرف هذا كما ينبغي تبين له أسرار الرقى، وميز بين النافع منها وغيره، ورقى الداء بما يناسبه من الرقى، وتبين له أن الرقية براقيها وقبول المحل، كما أن السيف بضاربه مع قبول المحل للقطع، وهذه إشارة مطلعة على ما وراءها لمن دق نظره، وحسن تأمله. والله أعلم. وأما شهادة التجارب بذلك فهي أكثر من أن تذكر، وذلك في كل زمان، وقد جربتُ أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أموراً عجيبة، ولا سيما مدة المقام بمكة، فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة، بحيث تكاد تقطع الحركة مني، وذلك في أثناء الطواف وغيره، فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم فكأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 والدليل على استحباب الرقية في حق المرقي"1": ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى   حصاة تسقط، جربت ذلك مراراً عديدة، وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مراراً، فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء. والأمر أعظم من ذلك، ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين، والله المستعان". وينظر: زاد المعاد 4/11، 12، 178-180، وقد ذكر فيه أن من قويت طبيعته ونفسه، وقويت استعانته بربّه وتوكله عليه كان ذلك لها من أكبر الأدوية، وأنه كلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى كانت الرقية أتم. وينظر التمهيد 2/270، و23/29. "1" قال القرطبي في المفهم: الإيمان باب يدخل الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سبعون ألفاً بغير حساب 1/464، 465: "الرُّقى باسماء الله تعالى هو غاية التوكل على الله، فإنه التجاء إليه، ويتضمن ذلك رغبته له، وتبركاً بأسمائه، والتعويل عليه في كشف الضر والبلاء، فإن كان هذا قادحاً فيلكن الدعاء والأذكار قادحاً في التوكل، ولا قائل به، وكيف يكون ذلك؟ وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم واسترقي، ورقاه جبريل وغيره، ورقته عائشة، وفعل ذلك الخلفاء والسلف، فإن كانت الرقى قادحة في التوكل ومانعة من اللحوق بالسبعين ألفاً فالتوكل لم يتم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لأحد من الخلفاء، ولا يكون أحد منهم في السبعين ألفاً، مع أنهم أفضل من وافى القيامة بعد الأنبياء، ولا يتخيل هذا عاقل". وقال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم في شرح الحديث 49، ج2 ص501: "ومن رجَّح التداوي قال: إنه حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يداوم عليه، وهو لا يفعل إلا الأفضل، وحمل الحديث – أي حديث السبعين الفاً – على الرقى المكروهة التي يُخشى منها الشرك، بدليل أنه قرنها بالكي والطيرة، وكلاهما مكروه". وينظر ما ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فراشه نفث في كفيه بـ: قل هو الله أحد، وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به"1".   ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص325، وابن القيم في زاد المعاد 4/10، 15، 16، حول عموم التداوي، وأنه لا ينافي التوكل، بل إن حقيقة التوحيد لا تتم إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً. "1" صحيح البخاري: الطب. باب النفث في الرقية "5748"، ورواه البخاري "5016"، ومسلم "2192" عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيمينه رجاء بركتها. وأيضاً روى مسلم "2185" عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى رقاه جبريل عليهما السلام، وروى البخاري "5738"، ومسلم "2195"، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تسترقي من العين، وروى البخاري "5739"، ومسلم "2197" عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة، فقال: " استرقوا لها، فإن بها النظرة "، والنظرة: الصفرة كما في رواية مسلم وقيل: المراد:عين من نظر الجن كما في عمدة القارئ 21/266، فهذه الأحاديث صريحة في استحباب طلب الرقية، وأنه لا نقص في توكل العبد إذا رقى نفسه أو طلب من غيره أن يرقيه، لفعله وأمره بذلك لأهله صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل البشر توكلاً عليه الصلاة والسلام، وهو صلى الله عليه وسلم لا يفعل ولا يأمر أهله إلا بما هو الأفضل في حقه وحق أهل بيته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 والدليل على استحبابها في حق الراقي: ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كان لي خال يرقي من   أما حديث السبعين الفاً الذي سبق ذكره عند الكلام على التطير، والذي فيه "ولا يسترقون" فمحمول على الرقى المحرمة التي كان يفعلها أهل الجاهلية، كما ذكر غير واحد من أهل العلم. ينظر: تأويل مختلف الحديث ص223-227، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 13/455، 456، شرح معاني الآثار كتاب الكراهية باب الكي 4/320-329، معالم السنن 4/212، شرح السنة 12/159، شرح مسلم للنووي 14/169، المفهم 1/463-467، المعلم 1/231، التمهيد 5/273، الآداب الشرعية 2/348-352، الشرك الأصغر ص206، 207. ويؤيد استحباب الاسترقاء ما رواه أحمد 4/278، وأبوداود "3855"، والترمذي "2038"، وابن حبان "6061، 6064"، والحاكم 4/198، 199، 399، 400، عن أسامة بن شريك مرفوعاً: " تداووا عباد الله. وسنده صحيح. وله شاهد عند أحمد 3/156 من حديث أنس، وسنده حسن. وله شواهد أخرى كثيرة بمعناه، وأقل أحوال الأمر الاستحباب، وأحسن التداوي ما كان بكتاب الله، وذكره، ودعائه، كما مر في التعليق السابق، وأيضاً فإن طلب الرقية من المسلم من جنس طلب الدعاء منه كما قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 1/182، 328، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من أفضل أصحابه رضي الله عنهم وهو عمر بن الخطاب في شأن أويس بن عامر: " إن استطعت أن يستغفر لك فافعل ". وفي رواية: " فمن لقيه فليستغفر لكم ". رواه مسلم "2542"، وأقل أحوال الأمر الاستحباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 العقرب، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، قال: فأتاه فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب؟ فقال: " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل " "1". النوع الثاني: الرُّقى المحرمة ومنها: الرقى الشركية، وهي الرقى التي يعتمد فيها الراقي أو المرقي على الرقية، فإن اعتمد عليها مع اعتقاده أنها سبب من الأسباب، وأنها لا تستقل بالتأثير فهذا شرك أصغر"2"، وإن اعتمد عليها اعتماداً كلياً حتى اعتقد أنها تنفع من دون الله، أو تضمنت صرف شيء من العبادة لغير الله، كالدعاء، أو الاستعاذة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو من الشرك الأكبر المخرج من الملة"3".   "1" صحيح مسلم، كتاب السلام. باب استحباب الرقية رقم "2199"، وروى البخاري "4439"، ومسلم "2192" عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات، فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلتُ أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه، لأنها كانت أعظم بركة من يدي، والمعوذات: الفلق والناس، أو هما والصمد، وسُميت "المعوذات" تغليباً. ينظر الفتح 9/62. "2" ومن الشرك الأصغر في الرقية: أن يرقى بأسماء الملائكة أو الأنبياء أو الجن أو غيرهم من المخلوقين من غير استعاذة بهم، ومنه أيضاً أن يقسم بأحد منهم. "3" قال الحافظ ابن حجر الشافعي في "الفتح" كتاب الطب باب الرقى بالقرآن 10/196 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 والدليل على تحريم جميع الرقى الشركية: قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الرقى والتمائم والتولة"1" شرك " "2"، وما روى عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: " أعرضوا عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيه شرك "رواه مسلم"3". ومن الرقى المحرمة: أن تكون الرقية فيها طلاسم، أو ألفاظ غير مفهومة، والغالب أنها رقى شركية، وبالأخص إذا كانت من شخص غير معروف بالصلاح والاستقامة على دين الله تعالى"4"، أو كانت من   "وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله". "1" التِّولة: نوع من السحر، يحبب المرأة إلى زوجها. ينظر غريب الحديث لأبي عبيد 4/50، الصحاح "مادة: تول"، جامع الأصول 7/575. "2" رواه الإمام أحمد 1/381، وأبوداود "3883 "، وابن ماجه "3530"، والطبراني "8863"، وابن حبان "6090"، والحاكم 4/217 من طرق عن ابن مسعود. وهو صحيح بمجموع طرقه، وقد توسعت في تخريجه في رسالة "اليهود"تحت رقم "87"، وأوله أن ابن مسعود دخل على زوجته، فرأى في عنقها خيطاً، فقال: ما هذا الخيط؟ قالت: خيط رُقي لي فيه. فأخذه وقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الرقى.. ."فذكره. "3" صحيح مسلم: السلام "2200". "4" قال الحافظ ابن حجر الشافعي في فتح الباري: الطب باب الرقى بالقرآن والمعوذات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 كافر كتابي أو غيره"1". المثال الثاني من أمثلة الشرك الأصغر في الأفعال: التمائم الشركية التمائم في اللغة: جمع تميمة, وهي في الأصل خرزة كانت تُعلّق   10/195: "دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك، فيمنع احتياطاً"، وقال ابن الحاج المالكي في المدخل 4/326: "ينهى عن الرقى إذا كانت باللغة العجمية أو بما لا يدرى معناه، لجواز أن يكون فيه كفر". وبعض العلماء يمنع أن تكون الرقية بغير العربية، والأقرب أنها جائزة إذا كانت بلغة مفهومة عند المرقي عليه، أو عند من يثق به ممن يسمع هذه الرقية. ينظر: تأويل مختلف الحديث 227، المعلم 3/95، شرح السنة 12/159، الفروق للحازمي ص185، البيان والتحصيل 1/438-440، و17/165، الفروق "الفرق 242، 4/147"، مجموع الفتاوى 1/362، و19/13، 61، و24/278، شرح ابن بطال 9/427، الآداب الشرعية 2/455، النهاية "مادة: رقى"، الدر المختار في الفقه الحنفي مع حاشيته لابن عابدين: أول البيوع 5/232، الإقناع مع شرحه كشاف القناع: الردة 6/188، مجموع فتاوى ومقالات شيخنا عبد العزيز بن باز 1/275، السنن والمبتدعات ص279. "1" ينظر: التمهيد 15/254، 255، الجامع لابن أبي زيد القيرواني ص239، شرح ابن بطال لصحيح البخاري: الطب باب الرقى بالقرآن 9/428، فتح الباري: الطب باب الرقى بالقرآن 9/195، منهج الإمام مالك في إثبات العقيدة ص400-403، الرقى للدكتور علي العلياني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 على الأطفال، يتقون بها من العين ونحوها"1"، وكأنّ العرب سموها بهذا الاسم لأنهم يريدون أنها تمام الدواء والشفاء المطلوب"2". وفي الاصطلاح: هي كل ما يعلق على المرضى أو الأطفال أو البهائم أو غيرها من تعاويذ لدفع البلاء أو رفعه"3". ومن أنواع التمائم: الحجب والرقى التي يكتبها بعض المشعوذين ويكتبون فيها طلاسم وكتابات لا يفهم معناها، وغالبها شرك، واستغاثات بالشياطين، وتعلق على الأطفال أو على البهائم، أو على بعض السلع أو أبواب البيوت يزعمون أنها سبب لدفع العين أو أنها سبب لشفاء المرضى من بني الإنسان أو من الحيوان، ومنها: الخلاخيل التي يجعلها بعض الجهّال على أولادهم يعتقدون أنها سبب   "1" ينظر: تأويل محتلف الحديث ص226، والصحاح، والنهاية، والقاموس، ولسان العرب "مادة: تمم". "2" كما قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة "مادة: تمَّ"، وكما قال ابن الأثير في النهاية "مادة: تمم". "3" التمهيد 17/162، سنن البيهقي: الضحايا 9/350، تفسير القرطبي "تفسير الآية 82 من الإسراء 10/320"، النهاية لابن الأثير "مادة: تمم"، شرح السنة 12/158، القوانين الفقهية كتاب الجامع ص295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 لحفظهم من الموت، ومنها: لبس حلقة الفضة للبركة أو للبواسير"1"، ولبس خواتم لها فصوص معينة يعتقدون أنها تحفظ من الجن، ولبس أو   "1" وقريب من ذلك لبس المعضد للعلاج، وقد أطال شيخنا عبد العزيز بن باز الكلام على حكمه كما في مجموع فتاويه ومقالاته 1/206-210، وقد ذكر خلاف العلماء المعاصرين في حكمه، ثم قال: "ما عرف أنه من جنس الأسباب المحرمة فهو محرم، وإنْ قدر فيه بعض النفع، ومعلوم أن لبس المعضد يبقى على الإنسان كما تبقى الحروز والتمائم الأيام والليالي والسنوات، بخلاف الحبة التي يأكلها ويفرغ منها، وبخلاف الإبرة التي يستعملها وينتهي منها، فلبس المعضد من جنس هذه الأشياء، بل هو أشبه بلبس الحلقة التي ورد فيها حديث عمران بن حصين". انتهى كلامه مختصراً. وسيأتي حديث عمران قريباً إن شاء الله تعالى. وقد أطال أيضاً –رحمه الله– في بيان حكم السوار الذي يستعمله بعضهم لعلاج "الروماتيزم" في المرجع السابق 1/21، 212، وبيَّن الخلاف في حكمه، ثم قال: "والذي أرى في هذه المسألة هو ترك الأسورة المذكورة وعدم استعمالها، سداً لذريعة الشرك، وحسماً لمادة الفتنة بها والميل إليها وتعلق النفوس بها، ورغبة في توجه المسلم بقلبه إلى الله سبحانه ثقة به واعتماداً عليه واكتفاء بالأسباب المشروعة المعلومة إباحتها بلا شك، وفيما أباح الله ويسر لعبادة غنية عما حرّم عليهم، وعما اشتبه أمره" وينظر فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 1/110، 111، والقول المفيد 1/192. وقال شيخنا ابن باز في المرجع السابق 1/207: "ليس كل ما فيه نفع يباح استعماله، بل لابد من أمرين: أحدهما: أن لا يرد فيه نهي خاص عن الشارع عليه الصلاة والسلام. والأمر الثاني: أن لا تكون مضرته أكبر من نفعه"، وذكر شيخنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 تعليق خيوط عقد فيها شخص له اسم معين كـ"محمد " عقداً للعلاج من بعض الأمراض"1"، ومنها الحروز وجلود الحيوانات والخيوط وغيرها مما يعلق على الأطفال أو على أبواب البيوت ونحو ذلك، والتي يزعمون أنها تدفع العين أو المرض أو الجن أو أنها سبب للشفاء من الأمراض. وهذه التمائم كلها محرمة، وهي من الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك ""2"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " من علق تميمة فقد أشرك ""3"، فهي من الشرك، لأنهم ظنوا أن لغير الله تأثيراً في   محمد بن عثيمين في شرح رياض الصالحين: شرح حديث " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه " 3/326، 327 أن الضرورة لا تبيح المحرم إلا بشرطين: 1 - أن لا تندفع الضرورة بسواه. 2- أن يكون مزيلاً للضرورة. وذكر أنه على ذلك لا يجوز التداوي بالمحرم؛ لأن الإنسان قد يشفى بغيره، كرقيه أو علاج آخر مباح؛ ولأنه ليس يقيناً أنه سيشفى بهذا الدواء المحرم. "1" ينظر تعليق الشيخ محمد حامد الفقي المصري – رحمه الله – على فتح المجيد باب من الشرك لبس الحلقة ص114، 118. "2" سبق تخريجه في الرقى. "3" رواه الإمام أحمد 4/156، والحاكم 4/219 بإسناد حسن من حديث عقبة بن عامر، وأول الحديث: أن عقبة رضي الله عنه جاء في ركب عشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبايع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الشفاء"1"، وطلبوا دفع الأذى من غيره تعالى مع أنه لا يدفعه أحد   تسعة، وأمسك عن بيعة رجل منهم، فقالوا: ما شأن هذا الرجل لا تبايعه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إن في عضده تميمة "، فقطع الرجل التميمة، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " من علق تميمة فقد أشرك ". وله شاهد بنحوه رواه ابن وهب في الجامع "666" من حديث رجل من صداء من الصحابة، وسنده حسن. وله شاهد آخر بلفظ: "من تعلّق شيئاً وُكل إليه"- أي لم يعنه الله تعالى ووكله إلى هذا السبب الذي لا نفع فيه. والحديث رواه أحمد 4/311، والترمذي "2070" من حديث عبد الله بن عكيم، ورواه النسائي "4090" من حديث أبي هريرة، وفي كل منهما ضعف، ورواه ابن وهب في الجامع "667" بإسناد حسن من مرسل الحسن البصري، فهو حسن بهذه الأسانيد الثلاثة. وله شاهد ثالث رواه الإمام أحمد 4/445، وابن حبان "6085" عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة، فقال: " ويحك، ما هذه؟ " قال: من الواهنة. قال: " أما إنها لا تزيدك إلا وهناً، أنبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً ". وسنده حسن. وله شاهد رابع رواه البخاري "3005"، ومسلم "2115" عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر –أو قلادة– إلا قطعت "، زاد مسلم في روايته: "قال مالك: أرى ذلك من العين". وله شواهد أخرى كثيرة يطول الكلام بذكرها، تنظر في أكثر مراجع التخريج السابقة. "1" التمهيد 17/163، الدر النضيد للشوكاني ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 سواه جل وعلا"1". لكن إن اعتقد متخذ هذه التمائم أنها تنفع بذاتها من دون الله فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أن الله هو النافع وحده، لكن تعلّق قلبه بها في دفع الضر، فهو شرك أصغر، لاعتماده على الأسباب، ولأنه جعل ما ليس بسبب سبباً"2"، فهذه التمائم السابق ذكرها كلها ليس فيها نفع بوجه من الوجوه، وهي من خرافات الجاهلية التي ينشرها السحرة والمشعوذون، ويدجلون بها على السذج والجهلة من الناس. ويدخل في التمائم أن تكتب آيات من القرآن أو بعض الأذكار الشرعية "الرقى" في ورقة ثم توضع في جلد أو غيره ثم تعلق على الأطفال أو على بعض المرضى، وقد اختلف في جواز تعليقها"3"، والأحوط المنع من هذه التمائم، لعدة أمور، أهمها:   "1" النهاية لابن الأثير "مادة: تمم"، حاشية ابن عابدين: أول البيع 5/232. "2" ينظر: التيسير، وقرة عيون الموحدين، والقول السديد، والقول المفيد باب من الشرك لبس الحلقة، وتعليق شيخنا عبد العزيز بن باز على فتح المجيد باب الرقى "ص12" ومجموع فتاويه ومقالاته 1/275، والشرك الأصغر ص216. "3" ينظر: في أقوال العلم من الصحابة فمن بعدهم في هذه المسالة في الجامع لعبد الله بن وهب ص750-759، ومصنف عبد الرزاق "11/208، 209"، مصنف ابن أبي شيبة: الطب باب في تعليق التمائم 7/371-376، وباب من رخص في تعليق التعاويذ 7/396-398، غريب الحديث لأبي عبيد 4/51، فضائل القرآن لأبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 1- أن الأحاديث جاءت عامة في النهي عن التمائم"1"، ولم يأتِ   عبيد أيضاً،ص231-234، الموطأ مع شرحه المنتقى كتاب العين باب الرقية من العين، جامع الأصول: الطب والرقى 7/575، 576، الجامع لابن أبي زيد القيرواني ص236-240، البيان والتحصيل 1/438-440، و17/196 و18/426، 427، شرح معاني الآثار: الكراهية 4/325، سنن البيهقي: الضحايا 9/350، 351، التمهيد 17/160-165، مجمع الزوائد 5/103، شرح السنة 12/158، المجموع آخر الأطعمة 5/66، 67، الجامع لابن رشد ص309، تفسير القرطبي تفسير الآية 82 من الإسراء 1/319، 320"، شرح ابن بطال 9/428، مختصر خليل مع شرحه للزرقاني "مس المصحف 1/94"، الفتح 6/165، زاد المعاد 4/357، الآداب الشرعية 2/455، 456، القوانين الفقهية ص295، شرح المنهج مع حاشيته للجمل: الأحداث 1/76، أسهل المدارك 3/367، تيسير العزيز الحميد،= = وفتح المجيد، والقول المفيد باب ما جاء في الرقى والتمائم، حاشية قليوبي: أول البيع 2/156، حاشية ابن عابدين: أول البيع 5/232، الفتاوى الهندية 5/356، معارج القبول 1/382، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/5-99، كتاب "دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة "بحث ضوابط التداوي بالرقى والتمائم للأستاذ الدكتور محمد شبير ص487-491"، مجلة البحوث الإسلامية "العدد 12 ص102، والعدد 21 ص46، 47، التمائم للدكتور علي العلياني، التبرك للدكتور ناصر الجديع ص237-239، رسالة "الشرك الأصغر"لعبد الله السليم ص217-219. "1" ويؤيد ذلك أن الصحابة الذين رووا أحاديث النهي عن التمائم كابن مسعود وعقبة بن عامر فهموا منها عموم النهي عن جميع التمائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 حديث واحد في استثناء شيء منها"1". 2- أن تعليق التمائم من القرآن والأدعية والأذكار المشروعة نوع من الاستعاذة والدعاء، فهي على هذا عبادة، وهي بهذه الصفة لم ترد في القرآن ولا في السنة، والأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز إحداث عبادة لا دليل عليها"2" 3- أن في تعليقها تعريضاً للقرآن وكلام الله تعالى وعموم الأذكار   "1" أما ما ثبت عن عبد الله بن عمرو من الترخيص في تعليق التمائم من الأذكار الشرعية حرزاً قبل وقوع المرض فهو معارض بما ثبت عن عائشة رضي الله عنها من أن ما علق قبل المرض فهو من التمائم المنهي عنها، ومعارض أيضاً بما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه من قطع التميمة والتشديد في أمر التمائم مطلقاً، وبما ثبت عن عقبة ابن عامر أنه قال: "وضع التميمة على الإنسان والطفل شرك"، وما ثبت عن حذيفة من قوله لرجل وجد على عضده خيطاً: ما هذا؟ قال: خيط رقي لي فيه. فقال حذيفة: "لو متَّ ما صليت عليك"، وبما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول: "تعليق التمائم شعبة من شعب الجاهلية"، فعموم قوله يدل على نهيه عن جميع التمائم. وإذا تعارضت الآثار عن الصحابة تقابلت، ولم يعمل بشيء منها، ويرجع إلى الأدلة الأخرى، والنصوص من السنة كلها عامة في النهي عن التمائم كما سبق. "2" هذا التعليل لم أقف على من ذكره، ولكنه فيما ظهر لي تعليل صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 الشرعية للإهانة، إذ قد يدخل بالتميمة أماكن الخلاء، وقد ينام عليها الأطفال أو غيرهم، وقد تصيبها بعض النجاسات، وفي منع تعليقها صيانة للقرآن ولذكر الله تعالى عن الإهانة"1". 4- سد الذريعة؛ لأن تعليق هذه التمائم يؤدي إلى تعلُّق القلوب بها من دون الله، ويؤدي إلى تعليق التمائم الأخرى المقطوع بتحريمها من التمائم الشركية وغير الشركية، كما هو الواقع عند كثير من المسلمين"2".   "1" قال شيخ مشايخنا محمد بن إبراهيم مفتي المملكة في وقته كما في مجموع فتاويه 1/99: "ثم ههنا شؤم يقعون فيه، وهو أنهم بعض الأحيان يتخذون مصحفاً صغيراً تميمة، فيدخلون به المحال القذرة، فيجعلون المصحف كالأمتعة، وكفى بهذا القول ضعفاً أن يكون من فروعه اتخاذ مصحف يعلق في الرقبة، ويعلقه الجنب والحائض". "2" تنظر أكثر مراجع أقوال العلم في هذه المسألة والتي سبق ذكرها قريباً. وقريب من هذه المسألة: مسألة تعليق القرآن أو آيات أو سور منه في البيوت ونحوها للتبرك أو للزينة، أو كتابة القرآن أو آيات منه على جدران البيوت أو جدران المساجد أو غيرها، أو وضع المصحف في البيت أو المحل أو السيارة تبركاً أو لدفع ضرر، فقد صرح جمع من أهل العلم بكراهة ذلك؛ لأنه مخترع لا دليل عليه من كتاب أو سنة. ينظر: شرح السنة للبغوي الشافعي: فضائل القرآن 4/529، التذكار في أفضل الأذكار للقرطبي المالكي الباب ص279، المغني لابن قدامة الحنبلي: الوليمة 10/205، الشرح الكبير 27/343، التبيان للنووي ص99، 115، تنبيه الغافلين لابن النحاس ص264، الحوادث والبدع للطرطوشي ص101، نقلاً عن التبرك للجديع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 النوع الثالث: الشرك الأصغر في الأقوال ومن أمثلة هذا النوع: المثال الأول: الحلف بغير الله الحلف في اللغة: مصدر حلَف، يحلف، وهو الملازمة؛ لأن الإنسان يلزمه الثبات على ما حلف عليه، ويُسمى "اليمين"؛ لأن المتحالفين كان أحدهما يصفق بيمينه على يمين صاحبه"1"، ويُسمّى أيضاً "القسم""2". والحلف في الأصل: توكيد الشيء بذكر معظَّم مصدَّراً بحرف من حروف القسم.   ص239، 240، الفتاوى الهندية: الكراهية الباب 18، ج2 ص356، حاشية ابن عابدين: أول البيع 5/232، مجموع فتاوى ومقالات شيخنا عبد العزيز بن باز 1/51، 52، مجموع فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 1/105-107 "1" ينظر: معجم مقاييس اللغة "مادة: حلف، ومادة: يمن"، المطلع ص387، الدر النقي 3/796. "2" وأصلها من "القسامة"، وهي الأيمان التي تقسم على أولياء المقتول إذا ادّعوا دم مقتولهم على أناس اتهموهم به. ثم أطلق القسم على كل حلف. ينظر: معجم مقاييس اللغة، ولسان العرب"مادة: قسم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وفي الاصطلاح: توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله تعالى"1" مصدراً بحرف من حروف القسم. وقد أجمع أهل العلم على أن اليمين المشروعة هي قول الرجل: والله، أو بالله، أو تا لله"2"، واختلفوا فيما عدا ذلك"3".   "1" روضة الطالبين 11/3، فتح الباري: أول كتاب الأيمان والنذور 11/516، القول المفيد باب قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} 3/213، وينظر: المنتهى "مطبوع مع شرحه للبهوتي 3/419"، فتح القدير لابن الهمام 5/67، مغني المحتاج 5/320، المطلع ص387. "2" حكى الإجماع على ذلك ابن المنذر في الإجماع ص136، وابن حزم في مراتب الإجماع ص185، وابن عبد البر في التمهيد 14/369، وابن قدامة في المغني 13/452، وابن جزي في القوانين الفقهية ص106، وحكوا جميعاً الإجماع على انعقاد اليمين إذا كانت باسم من أسماء الله تعالى التي لا يسمى بها سواه، ك "الله"، و"الرحمن". وحكى الحافظ في الفتح: الأيمان باب لا تحلفوا بآبائكم 11/531 الإجماع على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته. "3" ومما اختلفوا فيه: الحلف باسم من أسماء الله التي يسمى بها غيره، ومما اختلفوا فيه قول: "لعمر الله"، والمراد به: الحلف ببقاء الله تعالى وحياته، وقول: بحق الله، وقول: علي يمين، وقول: علم الله، وقول: "أيم الله"وقيل: إن "أيم"عوض عن واو القسم، وقيل: إنها بمعنى "أحلف بالله"، كما اختلفوا في الحلف بفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 واليمين عبادة من العبادات التي لا يجوز صرفها لغير الله"1"، فيحرم الحلف بغيره تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت " متفق عليه"2"، فمن حلف بغير الله سواء أكان نبياً أم ولياً أم الكعبة أم غيرها فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب"3"، ووقع في الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم:   من أفعال الله تعالى. ينظر: المراجع السابقة، ومختصر اختلاف العلماء للطحاوي 3/239-241، دلائل الأحكام لابن شداد 4/275-277، المنهاج مع شرحه مغني المحتاج 5/320، 321، الفروق "الفرق 124"، المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 27/430-444 شرح الزركشي 5/76-79، الفتح 11/522، 526، 547، فتح القدير لابن الهمام 5/67، نهاية المحتاج 8/174-177. "1" بدائع الصنائع: الأيمان 3/2. "2" صحيح البخاري: الأدب "6108"، وصحيح مسلم: الأيمان "1646". وقد سبق في تعريف العبادة المحضة عند الكلام على أنواع العبادة في الباب الأول أن ما دلّ دليل على تحريم صرفه لغير الله فهو عبادة محضة. "3"قال الإمام الذهبي الشافعي في الكبائر "الكبيرة 25: اليمن الغموس ص91" قال: "ومن ذلك الحلف بغير الله - عز وجل-، كالنبي والكعبة والملائكة والسماء والماء والأمانة، وهي من أشد ما هنا، والروح والراس وحياة السلطان ونعمة السلطان وتربة فلان". وذكر ابن النحاس في تنبيه الغافلين ص201 أن الحلف بغير الله من كبائر الذنوب، وقال الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر "الكبيرة 412، 2/184": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ""1"، ولأن الحلف فيه تعظيم   "الحكم عليه – أي الحلف بغير الله – بالكبيرة غير بعيد، لما في الحديث السابق والأحاديث الآتية من الوعيد الشديد". ومما يؤيد أن الحلف بغير الله كبيرة من كبائر الذنوب سوى ما يأتي من الأحاديث: قول عبد الله بن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذباً أحبّ إلي من أحلف بغيره صادقاً". رواه عبد الرزاق "15929"، والطبراني "8902"، من طريقين عن وبرة، عن عبد الله. وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيحين، وقال الألباني في الإرواء "2562" عن إسناد الطبراني: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، ورواه ابن وهب كما في المدونة 2/33 من طريق وبرة عن همام بن الحارث عن عبد الله ورجاله ثقات، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه "الجزء المفقود ص18" من طريق أبي بردة عن عبد الله، ورجاله ثقات. وقال ابن عبد البر في التمهيد 14/366: "لا يجوز الحلف بغير الله عز وجل في شيء من الأشياء ولا على حال من الأحوال، وهذا أمر مجتمع عليه"، وقال 14/367: "أجمع العلماء أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها، لا يجوز الحلف بها لأحد". وينظر: الأم: الأيمان 7/61، مجموع الفتاوى 1/290، 335، الاستغاثة 1/364، 365، بداية المجتهد 1/407، نيل الأوطار 9/124، إرشاد السائل إلى دلائل المسائل للشوكاني "مطبوع ضمن الرسائل السلفية ص47"، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع. د. الطيار ص719". "1" رواه الإمام أحمد "329، 4904، 5375 تحقيق شاكر "، وأبوداود "3251"، والترمذي "1535"، وابن حبان "4358"، والحاكم 1/18، و 4/297، وإسناده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 للمحلوف به، فمن حلف بغير الله كائناً من كان"1"، فقد جعله شريكاً لله عز وجل في هذا التعظيم الذي لا يليق إلا به سبحانه وتعالى"2".   صحيح، رجاله رجال مسلم. وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقال الذهبي في مختصر الكبائر "الكبيرة 23": "إسناده على شرط مسلم". وأوله: أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: "لا والكعبة"، فقال ابن عمر: ويحك لا تحلف بغير الله، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ... فذكره. وله شاهد يأتي في التشريك في الألفاظ قريباً – إن شاء الله تعالى - "1" وما ورد من الأحاديث مما ظاهره الحلف بغير الله، كحديث " أفلح وأبيه إن صدق "، وحديث " نعم وأبيك لتنبأنّ " فقد أجيب عنها بعدة أجوبة، منها: أن ذكر الحلف في الحديثين شاذ لم يثبت كما بين ذلك الحافظ ابن عبد البر المالكي وغيره، كما أجيب عن ذلك – على فرض ثبوته – بأن ذلك كان جائزاً في أول الإسلام، ثم نسخ، وقال بعض أهل العلم: إن هذا على فرض ثبوته خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما غيره فهو منهي عن ذلك؛ لأنهم لا يساوون النبي صلى الله عليه وسلم في الإخلاص والتوحيد. ينظر معالم السنن 1/230، 231، سنن البيهقي 10/29، التمهيد 14/367، شرح السنة 10/6، 7، المغني 3/438، الفتح 11/534، القول المفيد 1/215. "2" قال الحافظ في الفتح 11/531، والسيوطي في التوشيح شرح الجامع الصحيح 9/3924: "قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده"، وقال الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع 3/8 عند كلامه على النهي عن الحلف بغير الله: "وروى عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: " من حلف بغير الله فقد أشرك "؛ لأن هذا النوع من الحلف لتعظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وهذا الحلف يكون من الشرك الأصغر إن كان الحالف أشرك في لفظ القسم لا غير"1"، أما إن قصد الحالف بحلفه تعظيم المخلوق الذي   المحلوف، وهذا النوع من التعظيم لا يستحقه إلا الله تعالى"، وقال الحجاوي في الإقناع "مطبوع مع شرحه الكشاف 6/234": "ويحرم الحلف بغير الله وصفاته ولو بنبي، لأنه شرك في تعظيم الله"، وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار 9/124: "قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، فلا يحلف إلا بالله وذاته وصفاته، وعلى ذلك اتفق الفقهاء". وينظر صحيح البخاري مع شرحه لابن بطال 9/292، وشرحه للعيني 22/160 كتاب الأدب باب من لم يرَ إكفار من قال ذلك متأولاً، المبسوط 8/126، شرح الكرماني لصحيح البخاي: الأيمان 23/105، فيض القدير 6/207، مغني المحتاج 5/320، سبل السلام 4/197. وذكر علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في دلائل التوحيد ص101، وعلامة مصر محمد خليل هراس في دعوة التوحيد ص55 أن الحلف بغير الله إنما نهي عنه لأن في الحلف تعظيماً للمحلوف به، وهو لا ينبغي إلا لله، ولأن فيه معنى إشهاد المحلوف به على صدق الحالف، وهذا لا يصح إلا بمن يعلم صدق المحلوف عليه أو كذبه، وهو الله تعالى، كما أن من يُحلف به يجب أن يكون يملك عقاب من حلف به والانتقام منه عند حلفه به كاذباً، وهو الله تعالى دون سواه. "1" ينظر: مشكل الآثار للطحاوي الحنفي 2/297-299، مدارج السالكين 1/373، "معطية الأمان من حنث الأيمان"لابن العماد الحنبلي ص83، 84، فتح المجيد والقول السديد باب {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} ، "اليمين"لسعاد الشايقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 حلف به كتعظيم الله تعالى، كما يفعله كثير من المتصوفة الذين يحلفون بالأولياء والمشايخ أحياء وأمواتاً، حتى ربما بلغ تعظيمهم في قلوبهم أنهم لا يحلفون بهم كاذبين مع أنهم يحلفون بالله وهم كاذبون، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأن هذا المحلوف به أجل وأعظم وأخوف عندهم من الله تعالى"1".   ص157، 158، فقه الأيمان للدكتور أمير عبد العزيز ص29-32، فقه الأيمان للدكتور محمد عبيدات ص31-33: "من أحكام اليمين"لناجي الطنطاوي ص22، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع فهد السليمان" 2/215-221". "1" قال علاّمة اليمن محمد بن علي الشوكاني في الدر النضيد ص10 بعد ذكره لبعض الأحاديث التي فيها أن من حلف بغير الله فقد أشرك، والتي سبق ذكر بعضها، قال: "وهذه الأحاديث في دواوين الإسلام، وفيها: أن الحلف بغير الله يخرج به الحالف عن الإسلام، وذلك لكون الحلف بشيء مظنة تعظيمه"، وقال النووي في روضة الطالبين 11/6: "قال الأصحاب – أي الشافعية – فلو اعتقد الحالف في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى كفر". وقال الرملي في نهاية المحتاج 8/175: "لو اعتقد تعظيمه كما يعظم الله كفر"، وقال الشيخ أحمد بن يحيى المرتضى في البحر الزخار 5/235: "فإن أراد تعظيمها –أي الكعبة والملائكة والأنبياء والأئمة ونحوهم– كتعظيم الله حرم وكفر، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من حلف بغير الله فقد أشرك بالله " إذ لم يكفر المشركون إلا لتعظيمهم الأوثان"، ونقل ابن العماد في "معطية الأمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 المثال الثاني من أمثلة الشرك الأصغر في الأقوال: التشريك بين الله تعالى وبين أحد من خلقه بـ"الواو". العطف بالواو يقتضي مطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، ولذلك فإنه يحرم العطف بها"1" بين الله وبين أحد من خلقه في أي أمر   من حنث الأيمان"عن "جامع الرموز"للقهستاني الحنفي أن الحالف بغير الله إن اعتقد أن حلفه به حلف يجب الوفاء به كفر. وينظر: الجواب الكافي ص198، الدر المختار "مطبوع مع حاشيته لابن عابدين 3/53"، تجريد التوحيد ص64، تطهير الاعتقاد ص38، الزواجر "الكبيرة 412"، الدررالسنية 1/232، سبل السلام 4/197، سيف الله لصنع الله الحنفي ص69، دليل الفالحين 4/540، دلائل التوحيد ص101، التيسير والقول المفيد باب {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادا} ، أحكام اليمين للدكتور خالد المشيقح ص80، "اليمين"للدكتور عطية الجبوري ص59، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع فهد السليمان 2/22". وينظر أيضاً: أكثر المراجع المذكورة في التعليق السابق. "1" أما العطف ب "ثم" فهو جائز؛ لأن "ثم"تفيد الترتيب والتراخي.ينظر: شرح شذور الذهب ص576، أوضح المسالك ص317-319، وأولى من العطف ب "ثم" أن ينسب الأمر إلى الله وحده كما في حديث ابن عباس، وكما في قول ابن عباس الآتيين قريباً – إن شاء الله تعالى – وهذا أكمل في الإخلاص. وينظر: فتح المجيد باب قول ما شاء الله وشئت ص499. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 من الأمور التي يكون للمخلوق فيها دخل في وقوعها"1"، كأن يقال: "ما شاء الله وشئت"، أو يقال: "هذا من بركات الله وبركاتك"، أو يقال: "ما لي إلا الله وأنت"، أو يقال: "أرجو الله وأرجوك"، ونحو ذلك، فمن تلفظ بأحد هذه الألفاظ أو ما يشبهها فقد وقع في الشرك، والدليل قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة:22] قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلانة، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص "2"، وقول   "1" قال فضل الله الجيلاني في فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد 2/253: "وهذا في الأمور التي يكون فيها لأحد دخل عادي أو شرعي في وقوعها وعدمه، ولو بحسب الغالب"، وعليه فإن الأمور الشرعية التي ليس للمخلوق دخل في وقوعها يجوز العطف بالواو، كما في حديث " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ". متفق عليه، وإن كان الأولى عدم الجمع بين اسم الله واسم رسوله صلى الله عليه وسلم بالضمير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للخطيب الذي قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعصِ الله ورسوله ". رواه مسلم "870". وينظر: معجم المناهي اللفظية ص315. "2" وهذا يدل على أن هذه اللفظة وما يشبهها من الألفاظ التي فيها نسبة التأثير والتدبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها "فلان"، فإن هذا كله به شرك""1"، وما روته قتيلة بنت صيفي - رضي الله عنها - أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنكم   أو النعمة لغير الله تعالى من الأشياء التي جعلها الله تعالى سبباً كقول بعضهم: "هذا الخير من عرق الجبين"، أو "لولا فلان لم يحصل كذا"، ونحوها مما ينهى عنها، وقد ذكر بعضهم كابن القيم في مدارج السالكين 1/373 أن هذا من الشرك الأصغر، وذكر ابن رجب في لطائف المعارف: وظائف شهر صفر ص70 أنه من الشرك الخفي، وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] : "قيل: معناها: أنهم يدعون الله ينجيهم من الهلكة، فإذا أنجاهم قال قائلهم: لولا فلان ما نجونا، ولولا الكلب لدخل علينا اللص، ونحو هذا، فيجعلون نعمة الله منسوبة إلى فلان، ووقايته منسوبة إلى الكلب، وقد يقع في هذا القول كثير من عوام المسلمين". وقد استثنى بعض أهل العلم من هذا الحكم: ما إذا أضاف النعمة إلى سبب صحيح ثابت على سبيل الإخبار لا غير، مع اطمئنان القلب إلى أن المنعم الحقيقي هو الله تعالى، وأن هذا السبب إنما هو من فضل الله وإنعامه، فقالوا: بأن هذا جائز، ولهذا أدلة منها حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، هل نفعت أباطالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هو في ضحضاح من نار، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ". رواه البخاري "6208"، ومسلم "209". وينظر الشرك الأصغر ص183-187. "1" رواه ابن أبي حاتم في تفسيره في تفسير هذه الآية، رقم "230" وسنده حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 تندِّدون، وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة"، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقولوا: ما شاء الله ثم شئت"1". فأقر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اليهودي على تسمية هذا العطف شركاً، وعليه: فإن كان هذا القائل يعتقد أن   "1" رواه الإمام أحمد 6/371، 372، والنسائي في المجتبى: الأيمان "3782"، والطحاوي في مشكل الآثار "328" من طريقين أحدهما صحيح، عن معبد بن خالد عن عبد الله بن يسار عن قتيلة، ورجاله ثقات، وقد صححه الحافظ في الإصابة 4/378. ورواه بنحوه أخصر منه الإمام أحمد 5/484، وأبوداود "4980"، وابن أبي شيبة: الأدب 9/117، والدعاء 10/346 من طرق عن شعبة عن منصور عن عبد الله بن يسار عن حذيفة. ورجاله ثقات، وقد صححه النووي في الأذكار كتاب حفظ اللسان ص308، وفي رياض الصالحين كتاب الأمور المنهي عنها "1754"، ورجّحه البخاري على حديث قتيلة كما في العلل للترمذي "658". وله شواهد بنحوه أخصر منه، منها حديث الطفيل بن سخبرة الذي رواه الإمام أحمد 5/72، والحاكم 3/462، وسنده صحيح. ومنها حديث ابن عباس الذي رواه أحمد 1/214، والبخاري في الادب المفرد "783"، وسنده حسن، ولفظه: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده ". وقد صحح الألباني في السلسلة الصحيحة "136-139" هذه الأحاديث الأربعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ما نسبه إلى المخلوق الذي عطفه على اسم الله تعالى بـ"الواو" ليس على سبيل الاستقلال، ولكن نسبه إلى هذا المخلوق لأنه هو المباشر لهذا الأمر لا غير، مع اعتقاده أن الله هو الخالق المقدِّر، فهو شرك أصغر، من أجل هذا اللفظ الذي فيه تشريك. وإن كان يعتقد أن هذا المخلوق مشارك لله تعالى على سبيل الاستقلال، وأن تصرفه في ذلك بدون مشيئة الله تعالى فهو شرك أكبر"1".   "1" مدارج السالكين 1/373، الدر النضيد "مطبوع ضمن الرسائل السلفية ص14، 15"، القول المفيد باب "فلا تجعلوا لله أنداداً"، وباب قول ما شاء الله وشئت، الشرك الأصغر ص166-168. وينظر: الجامع لمعمر "مطبوع في آخر المصنف لعبد الرزاق 11/27"، الصمت لابن أبي الدنيا 5/215-221، صحيح البخاري مع الفتح: الأَيمان باب لا يقول ما شاء الله وشئت 11/539، 540، مشكل الآثار 1/220، 221، آخر الاعتبار للحازمي ص188، 189، المفهم: الجمعة 2/510-512، شرح السنة: الاستئذان 12/361، شرح الكرماني للبخاري 23/108، مجموع الفتاوى: "رسالة زيارة القبور 27/95"، شرح الطيبي للمشكاة: الآداب باب الأسامي 9/79، إكمال المعلم: الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة 3/275، عمدة القاري 23/180، إعلام الموقعين: الوجه 43 من الأوجه المؤدية إلى المحرّم 3/146، تجريد التوحيد ص65، التيسير، وفتح المجيد، والقول السديد "البابين السابقين"، الدين الخالص 1/413، التوحيد للدهلوي ص76، الشرك ومظاهره للميلي ص50 مرقاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 المثال الثالث من أمثلة الشرك الأصغر في الأقوال: الاستسقاء بالأنواء الاستسقاء في اللغة: من سقى، يسقي، والمصدر: سَقياً، بفتح السين وتسكين القاف، والاسم: السُّقيا، والمراد: إنزال الغيث"1"، والسين والتاء في "الاستسقاء" تدل على الطلب، أي طلب السقيا، كالاستغفار، فهو طلب المغفرة، فمادة "استفعل"تدل على الطلب غالباً"2". والأنواء: جمع نوء، وهو النجم، وفي السنة الشمسية ثمانية وعشرون نجماً، كنجم الثريا، ونجم الحوت"3". فالاستسقاء بالأنواء: أن يُطلب من النجم أن ينزل الغيث، ويدخل فيه أن يُنسب الغيث إلى النجم، كما كان أهل الجاهلية يزعمون، فكانوا إذا نزل مطر في وقت نجم معين نسبوا المطر إلى ذلك النجم،   المفاتيح 4/608 وقد قال الملا علي القاري الحنفي في هذا الموضع: "لو قالوا: ما شاء الله وشاء محمد لكان شركاً جلياً". "1" معجم مقاييس اللغة، والنهاية "مادة: سقي". "2" القول المفيد باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء. "3" ومدة النجم 13 يوماً، وهذه النجوم هي منازل القمر، وفي نهاية كل منزلة يغيب نجم من جهة المغرب، ويطلع نجم من جهة المشرق، وأصل النوء: طلوع النجم، وقيل: غروب النجم، ثم أطلق على نفس النجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 فيقولون: مطرنا بنوء كذا، أو هذا مطر الوسمي، أو هذا مطر الثريا، ويزعمون أن النجم هو الذي أنزل هذا الغيث "1". والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن ينسب المطر إلى النجم معتقداً أنه هو المنزل للغيث بدون مشيئة الله وفعله جلّ وعلا، فهذا شرك أكبر بالإجماع"2". القسم الثاني: أن ينسب المطر إلى النوء معتقداً أن الله جعل هذا النجم سبباً في نزول هذا الغيث، فهذا من الشرك الأصغر"3"؛ لأنه   "1" ينظر: التمهيد 16/287، 288، شرح السنة 4/420، شرح النووي لصحيح مسلم 2/61، النهاية "مادة: نوأ "، جامع الأصول: النجوم 11/577، 578. "2" قال في الفروع 2/163: "وإضافة المطر إلى النوء دون الله كفر إجماعاً ". وهذا شرك في الربوبية، ومن الشرك الأكبر في هذا الباب: أن يدعو النجم أن ينزل الغيث، فهذا شرك أكبر في الربوبية والألوهية، وقد سبق الكلام على نحو من هذا عند الكلام على شرك الدعاء في الباب السابق، وينظر الأم 1/252، الأنواء لابن قتيبة، التمهيد 16/268، إكمال المعلم 1/330، شرح مسلم للنووي 2/60، الأذكار للنووي ص308، تنبيه الغافلين ص192، مغني المحتاج 1/326، الفتاوى الكبرى 1/393، لطائف المعارف ص70. "3" بعض العلماء يسمي هذا الشرك بـ"كفر النعمة"؛ لأنه نسب إنعام الله تعالى عليه بالغيث إلى النجم، وجعله سبباً في ذلك، مع أن الله لم يجعله سبباً. وينظر: إكمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 جعل ما ليس بسبب سبباً"1"، فالله تعالى لم يجعل شيئاً من النجوم سبباً في نزول الأمطار، ولا صلة للنجوم بنزولها بأي وجه، وإنما أجرى الله العادة بنزول بعض الأمطار في وقت بعض النجوم. وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الاستسقاء بالأنواء، ومنها: 1- ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مُطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا ". قال: فنزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] حتى بلغ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} "2"، ومعنى الآية الأخيرة: أنكم تجعلون شكر ما أنعم الله به عليكم من الغيث أنكم تُكذّبون بذلك، وذلك بنسبة إنزال الغيث إلى غير الله تعالى"3".   المعلم 1/332، شرح مسلم للنووي 2/61، الفروع 2/163، لطائف المعارف: وظيفة شهر صفر ص70، التيسير ص402. "1" القول المفيد باب ماجاء في الاستسقاء بالأنواء 2/19. "2" صحيح مسلم: الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء "73". "3" ينظر تفسير ابن جرير، وتفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير، وتفسير الشوكاني للآية 82 من سورة الواقعة، المفهم 1/261، إكمال المعلم 1/333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 2- ما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل"1"، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب " "2". وهذا الحديث يشمل على الصحيح النوعين السابقين، فهذا القول كفر، لكن إن نسب الغيث إلى النجم من دون الله فهو كفر وشرك أكبر، وإن نسبه إليه نسبة تسبب فهو كفر نعمة وشرك أصغر"3".   "1" أي بعد مطر نزل في الليل، وسمى المطر سماءً لأنه ينزل من السماء. ينظر: شرح السنة 4/420. "2" صحيح البخاري "846"، وصحيح مسلم "71". وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم "72"، ومن حديث معاوية الليثي عند أحمد "3/429" وسنده حسن. "3" التمهيد 16/286، ولهذا قال كثير من العلماء: إن الحديث يحتمل الأمرين. ينظر الأم 1/252، المنتقى 1/334، المفهم 2/261، جامع الأصول 11/578، شرح مسلم للنووي 2/60، الفتح: آخر الاستسقاء 2/524. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 3- ما رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً: "أربعٌ في أمّتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ""1". هذا وإذا قال المسلم: "مُطرنا بنوء كذا وكذا "ومقصده أن الله أنزل المطر في وقت هذا النجم"2"، معتقداً أنه ليس للنجم أدنى تأثير لا استقلالاً ولا تسبباً فقد اختلف أهل العلم في حكم هذا اللفظ: فقيل: هو محرم"3". وقيل: مكروه"4". وقيل: مباح"5"، ولا شك أن هذا اللفظ ينبغي   "1" صحيح مسلم: الجنائز "934". "2" لأن الباء تأتي للظرفية بمعنى "في"، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: وفي الليل، وكما في قوله تعالى: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34] ، لكن الباء أظهر في كونها للسببية. ينظر: مغني اللبيب 1/121، القول المفيد 2/31. "3" الفروع: صلاة الاستسقاء 1/163، التيسير وفتح المجيد باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء، وينظر كلام ابن قتيبة وكلام الباجي وكلام ابن العربي وكلام القاضي عياض التي سيأتي نقلها قريباً – إن شاء الله تعالى -. "4" الأذكار للنووي ص308، شرح مسلم للنووي 2/61، وينظر كلام الإمام الشافعي الذي سيأتي قريباً –إن شاء الله تعالى-. "5" شرح السنة: الاستسقاء 4/421، النهاية "مادة: نوأ"؛ جامع الأصول: النجوم 11/578. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 تركه، واستبداله بالألفاظ الأخرى التي لا إيهام فيها، فإما أن يقول: "مطرنا بفضل الله ورحمته"، أو يقول: "هذه رحمة الله"، وهذا هو الذي ورد الثناء على من قاله، كما سبق في النصوص، فهو أولى من غيره، وإما أن يقول: "هذا مطر أنزله الله في وقت نجم كذا"، أو يقول: "مطرنا في نوء كذا" "1"، ونحو ذلك من العبارات الصريحة التي لا لبس ولا إشكال فيها، فقول "مطرنا بنوء كذا "أقل أحواله الكراهة الشديدة، والقول بالتحريم قول قوي، لما يلي: 1- أنه قد جاء الحديث القدسي مطلقاً بعيب قائلي هذا اللفظ، وباعتبار قولهم كفراً بالله تعالى، وإيماناً بالكوكب"2".   "1" مغني المحتاج: صلاة الاستسقاء 1/326، الفروع 1/163، الإنصاف 5/439. "2" قال الإمام الشافعي في "الأم": الاستسقاء: كراهية الاستمطار بالأنواء 1/252: "من قال: "مطرنا بنوء كذا" على معنى: مطرنا بوقت كذا فإنما ذلك كقوله: مطرنا في شهر كذا. ولا يكون هذا كفراً، وغيره من الكلام أحب إلي منه". قال الحافظ ابن حجر في الفتح: الاستسقاء باب قول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 2/523 بعد نقله لكلام الإمام الشافعي السابق: "يعني حسماً للمادة، وعلى ذلك يحمل إطلاق الحديث"، وقال الإمام ابن قتيبة في "الأنواء"كما في الفتح 2/524: "وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة فليس بشرك، لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وإرادة كفر النعمة؛ لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 2- أن هذا القول ذريعة إلى الوقوع في الاعتقاد الشركي، فاعتياد الناس عليه في عصر قد يُؤدي بجُهَّالهم أو بمن يأتي بعدهم إلى الوقوع في الاستسقاء الشركي بالأنواء"1". 3- أنه لفظ موهم لاعتقاد فاسد"2". 4 - أن فيه استبدالاً للفظ المندوب إليه شرعاً في هذه الحال، وهو قول: " مطرنا بفضل الله ورحمته "بلفظ من ألفاظ المشركين، ففي هذا ترك للسنة وتشبّهٌ بالمشركين، وقد نُهينا عن التشبه بهم"3".   بين الكفر والشرك واسطة، فيُحمل الكفر فيه على المعنيين لتناول الأمرين"، وقال الباجي المالكي في المنتقى: الاستسقاء 1/335: "هذا اللفظ لا يجوز إطلاقه بوجه، وإن لم يعتقد قائله ما ذكرناه، لورود الشرع بالمنع منه، ولما فيه من إيهام السامع ما تقدم ذكره"، وينظر كلام القرطبي الآتي قريباً - إن شاء الله تعالى-. "1" ينظر قول الحافظ ابن حجر السابق، وقول القرطبي الآتي. "2" ينظر قول الباجي الذي سبق نقله قريباً، وينظر فتح المجيد ص373. "3" قال القرطبي في المفهم: الإيمان باب نسبة الاختراع إلى غير الله حقيقة كفر 1/259، 260: "من اعتقد أن الله تعالى هو الذي خلق المطر واخترعه، ثم تكلم بذلك القول فليس بكافر، ولكنه مخطئ من وجهين: أحدهما: أنه خالف الشرع؛ فإنه قد حذر من ذلك الإطلاق. وثانيهما: أنه قد تشبه بأهل الكفر في قولهم، وذلك لا يجوز، لأنا قد أمرنا بمخالفتهم، فقال: " خالفوا المشركين "، و " خالفوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 هذا وهناك أمثلة أخرى كثيرة للشرك الأصغر تركتها خشية الإطالة، ومن ذلك التسمي بالأسماء التي فيها تعظيم لا يليق إلا بالله تعالى، كملك الملوك، وقاضي القضاة ونحوهما"1"، ومنها التسمّي   اليهود "، ونهينا عن التشبه بهم، وذلك يقتضي الأمر بمخالفتهم في الأقوال والأفعال علىما يأتي إن شاء الله تعالى؛ ولأن الله تعالى قد منعنا من التشبه بهم في النطق بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} لما كان اليهود يقولون تلك الكلمة للنبي صلى الله عليه وسلم يقصدون ترعينه منعنا الله من إطلاقها وقولها للنبي صلى الله عليه وسلم وإن قصدنا بها الخير، سدّاً للذريعة، ومنعاً من التشبه بهم.."ثم ذكر القرطبي مقولة المشركين السابقة عند نزول الغيث وبَيَّنَ اعتقادهم الشركي في ذلك، ثم قال: "فنهى الشرع عن إطلاق ذلك، لئلا يعتقد أحد اعتقادهم، ولا يتشبه بهم في نطقهم"، وقال القاضي عياض في إكمال المعلم 1/332: "فأما القول "مطرنا بنوء كذا" وإن لم يعتقد قائله تأثير النجوم وفعلها ففيه مشابهة لقول من يعتقد قائله ذلك، والشرع قد حرّم التشبّه بالكفار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} إذ كانت كلمة اليهود والمنافقين معرضين بها". "1" وقد روى البخاري "6205"، ومسلم "2143" عن أبي هريرة مرفوعاً: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه وأغيظه عليه: رجل كان يسمى: ملك الأملاك، لا ملك إلا الله ". وينظر التيسير، وفتح المجيد، والقول السديد، والقول المفيد باب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 بأسماء الله تعالى"1"، ومنها التسمِّي باسم فيه تعبيد لغير الله تعالى، كعبد الرسول، وعبد الحسين، ونحوهما"2"،   التسمي بقاضي القضاة ونحوه، وباب احترام أسماء الله تعالى، الشرك الأصغر ص169-171. "1" وقد قيل: إن النهي إنما يكون إذا لوحظت الصفة عند التسمية، كما في قصة "أبي الحكم"الذي غير النبي صلى الله عليه وسلم كنيته بعد أن ذكر أن سبب تكنيته بذلك هو حكمه بين قومه. والحديث رواه أبوداود "4955"، والنسائي "5402" وإسناده حسن. وقد كنَّاه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي شريح، وهو أكبر أولاده. فعلى هذا إذا كان الاسم لمجرد العلمية فلا بأس. وينظر: معالم السنن 7/256، النهاية "مادة: حكم"، شرح الطيبي للمشكاة: الآداب باب الأسامي 9/75، الشرك الأصغر ص172، 173. وتنظر في أسماء الله تعالى الخاصة به المراجع المذكورة فيما سبق في أول الكلام على الحلف بغير الله. "2" ولهذا غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء من اسلم من الصحابة، وكان اسمه معبَّداً لغيرالله، وقد جمع هذه الأسماء التي غيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ بكر أبوزيد في كتاب "معجم المناهي اللفظية"ص225-234، وخرّج الأحاديث الواردة فيها. وقد حكى ابن حزم في مراتب الإجماع باب الصيد والضحايا والذبائح والعقيقة ص179 الإجماع على تحريم كل اسم معبّد لغير الله، عدا عبد المطلب. ولعل استثناء هذا الاسم "عبد المطلب"من أجل أن التعبيد فيه المراد به عبودية الرق لا غير، كما هو معروف في سبب تسميته بهذا الاسم، حيث ظن بعض من رآه في صغره أنه عبد للمطلب، فسموه "عبد المطلب" ينظر: شأن الدعاء للخطابي ص84، 85. وينظر تحفة المودود ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ومنها بعض صور التبرك البدعي"1"، ومنها التصوير لذوات الأرواح إذا كان فيه نوع تعظيم"2"، ومنها سبّ الدهر"3"، ومنها الحكم بغير   وقد ألحق بعض أهل العلم بذلك اسم: "غلام رسول"لأن "غلام"في اللغة الأردية بمعنى "عبد". ينظر الدين الخالص 2/213، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/176، 177. أما قول السيد لعبده "عبدي"فقد ورد النهي عنه في حديث مرفوع في صحيح البخاري "2552"، وصحيح مسلم "224"، لكن حكى ابن حجر في الفتح: العتق باب كراهة التطاول على الرقيق 5/178 الاتفاق على أن النهي للتنزيه، وحمل بعض العلماء النهي على أن المقصود من النهي هو الإكثار من استعمال هذا اللفظ وما يشبهه، أو أن ذلك في حق من استعملها على سبيل التعاظم. ينظر: المفهم 5/552-555، شرح النووي لصحيح مسلم 15/6، 7، شرح الطيبي: الآداب 9/72، التيسير، وفتح المجيد، والقول المفيد باب لا يقول: عبدي وأمَتي، الشرك الأصغر 174-181. "1" ينظر ما سبق عند الكلام على بدعة التبرك في فصل "وسائل الشرك"وهو الفصل الأول من هذا الباب. "2" ينظر ما سبق عند الكلام على الغلو في الصالحين في فصل "وسائل الشرك"وهو الفصل الأول من هذا الباب. "3" روى البخاري "4826"، ومسلم "2246" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه تعالى: "يُؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار". فالله هو الفاعل حقيقة، فمن سبّ الدهر فقد سبّ الله، وسبّ الدهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ما أنزل الله، وبالأخص إذا كان في قضية واحدة"1".   يكون من الشرك الأصغر في حق من سبَّ الدهر وهو يعتقد عدم تأثيره، فالشرك من أجل اللفظ الذي فيه نوع تشريك بين الله وبين الدهر في الفعل والتأثير، أما إن كان الساب للدهر يعتقد ما يعتقده أهل الجاهلية من تأثير الدهر وفعله من دون الله، كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم يقولون: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] فهو شرك أكبر. وينظر: الأسماء والصفات للبيهقي 1/378، زاد المعاد 2/355، فتح الباري: تفسير سورة الجاثية 8/574، 575، الشرك الأصغر ص197-200. "1" ينظر ما سبق في الباب السابق عند الكلام على الشرك في الحكم والطاعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الكفر الأصغر تعريفه وحكمه ... الفصل الثالث: الكفر الأصغر وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريفه وحكمه الكفر الأصغر هو: كل معصية ورد في الشرع تسميتها كفراً ولم تصل إلى حد الكفر الأكبر المخرج من الملة"1". فكل معصية ورد في الشرع أنها كفر أو أن من فعلها كفر ولم تصل إلى درجة الكفر الأكبر المخرج من الملة فهي كفر أصغر، وبعض أهل العلم يطلق عليه اسم "كفر دون كفر" "2"، وبعضهم يطلق عليه   "1" ينظر: أعلام السنة المنشورة ص185. "2" ينظر: تفسير عبد الرزاق، وتفسير ابن جرير، وتفسير ابن أبي حاتم، وسنن سعيد بن منصور "تفسير الآية 44 من المائدة"، صحيح البخاري مع الفتح: الإيمان باب كفران العشير وكفر دون كفر 1/83، 84، سنن الترمذي 5/21، مستدرك الحاكم 2/313، الإبانة لابن بطة ص723-737، المفهم 1/253، مجموع الفتاوى 11/140، الإيمان لشيخ الإسلام ص286-289، شرح البخاري لابن رجب 1/128-138، كشاف القناع: الردة 6/169، 170، إيثار الحق ص389، 390، الدر النضيد ص102-110، السيل الجرار: الردة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 اسم "كفر النعمة" "1"، وهو تسمية له بمثال من أشهر أمثلته"2". وحكم هذا الكفر: أنه محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب؛ لأنه من أعمال الكفار التي حرمها الإسلام، ولكنه لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام"3".   4/579، الدرر السنية 1/480-484، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع الطيار ص538، 985-992"، الجهل بمسائل الاعتقاد ص108، الغلو ص254، مجلة البحوث الإسلامية: العدد 49، ص373، 374. "1" الإيمان لابي عبيد باب الخروج من الإيمان بالمعاصي ص86، 87، الفِصَل 2/247، غريب الحديث للخطابي 1/305، نزهة الأعين النواظر لابن الجوزي ص516، 517، شرح صحيح مسلم للنووي: الإيمان 2/50-61، مجموع الفتاوى "المناظرة مع ابن المرحل في الحمد والشكر" 11/137-139، الدرر السنية 2/71. "2" وقد رد أبوعبيد في المرجع السابق ص88 تعميم هذه التسمية على جميع أمثلة الكفر، وسيأتي كلامه قريباً – إن شاء الله تعالى-. "3" قال أبوعبيد في الموضع السابق ص93: "وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي، فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفراً ولا شركاً يزيلان الإيمان عن صاحبه، وإنما وجوهها أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون". ثم ذكر أدلة هذا الحكم. وينظر سنن الترمذي: الإيمان 5/21، المفهم 1/254-261، شرح ابن بطال 1/85-90، إكمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444   المعلم 1/322-328، وقال ابن القيم في مدارج السالكين 1/365: "المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر، فإنها ضد الشكر" وما ذكره ابن القيم - رحمه الله – فيه نظر، فإن من المعاصي ما هو كفر أكبر، ومنها ما هو كفر أصغر، ومنها ما هو دون الكفر الأصغر؛ كصغائر الذنوب، ومنها ما هو من الكبائر، ولكن لم يطلق عليها الشرع اسم "الكفر"، فهي لا تدخل في الكفر في الاصطلاح، وإن كان كثير من العلماء –ومنهم ابن القيم كما سبق- يدخلونها في كفر النعمة؛ لأنهم يتوسعون فيه، فيجعلون عدم شكر النعمة من كفر النعمة، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى ما قاله أبوعبيد وما قاله صاحب "العباب" في تفسير كفر النعمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 المبحث الثاني: أمثلته للكفر الأصغر أمثلة كثيرة، أهمها: 1- كفر النعمة والحقوق، وذلك بأن لا يعترف العبد بنعمة الله تعالى عليه"1"، ومنه أن ينكر معروفاً أسداه إليه أحد المخلوقين"2"،   "1" الاستدلال على هذا المثال بقوله تعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً..} [النحل:112] فيه نظر، فإن الأقرب أن الآية في الكفر الأكبر، والقرية هي مكة، لما كفر أهلها بالنبي صلى الله عليه وسلم كما ورد عن كثير من المفسرين، أما ما رواه الطبري في تفسير هذه الآية عن حفصة رضي الله عنها من أن القرية هي المدينة النبوية لقتلهم عثمان رضي الله عنه فإسناده ضعيف. "2" قال أبوعبيد في رسالة "الإيمان" ص87، 88 بعد ذكره لبعض الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عمن فعل بعض المعاصي، وبعض الأحاديث التي فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ومن أوضح الأدلة على هذا المثال ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في ذكر صلاة الكسوف، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وأُريت النار، فلم أرَ منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت   البراءة ممن فعل بعض المعاصي، كحديث: " من غشنا فليس منا "، وبعض أحاديث الشرك الأصغر، وبعض أحاديث الكفر الأصغر، قال: "فهذه أربعة أنواع من الحديث، قد كان الناس فيها على أربعة أصناف من التأويل: فطائفة تذهب إلى كفر النعمة، وثانية تحملها على التغليظ والترهيب. وثالثة تجعلها كفر أهل الردة. ورابعة تذهبها كلها وتردها، فكل هذه الوجوه عندنا مردودة غير مقبولة، لما يدخلها من الخلل والفساد. والذي يرد المذهب الأول ما نعرفه من كلام العرب ولغاتها، وذلك أنهم لا يعرفون كفران النعم إلا بالجحد لإنعام الله وآلائه وهو كالمخبر عن نفسه بالعدم، وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم، وقد منَّ الله عليه بالسلامة. وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب، فهذا الذي تسميه العرب كفراناً إن كان ذلك فيما بينها وبين الله، أو كان من بعضهم لبعض إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه. ينبئك عن ذلك مقالة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: " إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير - يعني الزوج - وذلك أن تغضب إحداكن فتقول: ما رأيت منك خيراً قط "، فهذا ما في كفر النعمة"، وقال في العباب كما في عمدة القاري 1/200: "الكفر: نقيض الإيمان، والكفر أيضاً جحود النعمة، وهو ضد الشكر، وأصل الكفر التغطية، وقد كفرت الشيء أي سترته، وكل شيء غطى شيئاً فقد كفره، ومنه الكافر، لأنه يستر توحيد الله أو نعمة الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 أكثر أهلها النساء " قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: " بكفرهن"، قيل: يكفرن بالله؟ قال: " يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط " "1". 2- قتال المسلم لأخيه المسلم، ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " "2". 3 و4- الطعن في أنساب الآخرين"3"، والنياحة على الميِّت"4"،   "1" صحيح البخاري: الكسوف "1052"، وصحيح مسلم: الكسوف "907"، ولموضع الشاهد منه شاهد من حديث ابن عمر عند مسلم في الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والح قوق "79"، وله شاهد آخر من حديث أبي سعيد عند البخاري "304"، ومسلم "80"، وله شاهد ثالث من حديث جابر عند مسلم "885"، وليس في هذه الشواهد قوله: " لو أحسنت إلى إحداهن.. الخ". "2" صحيح البخاري "48"، وصحيح مسلم "64"، وله شاهد من حديث جرير عند البخاري "121"، ومسلم "65"، ومن حديث ابن عمر عند البخاري "4403"، ومسلم "66"، ولفظهما: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ". "3" وذلك كأن يقدح في نسب قبيلة بقادح، وكأن يقول: إن نسبهم وضيع، ونحو ذلك. "4" النياحة هي: ما يفعله من توفي له قريب من البكاء بصياح ورنة وندب، والندب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: " اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت " "1". 5- إباق العبد – أي هروبه – عن سيده، ففي صحيح مسلم عن جرير قال: "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم""2". 6- انتساب الإنسان لغير أبيه، ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه   هو النداء بحرف "وا"، وهذا غالباً يصدر من النساء، كأن تقول: "واأبتاه" عند وفاة أبيها، أو "وامحمداه" عند وفاة "محمد"، أو تقول "واجبلاه" أو "واعضداه"، فتذكر محاسن الميت، وفي البخاري "1294" مرفوعاً: " ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية " وهي النياحة ونحوها. وفي البخاري أيضاً "1296" أن النبي صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. والصالقة: التي ترفع صوتها بالبكاء، والحالقة: التي تحلق شعرها. وينظر الفتح 2/164-166، المطلع ص121، لسان العرب "مادة: ندب". "1" صحيح مسلم: الإيمان "67". "2" رواه مسلم "68" عن منصور بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن جرير. ثم قال: قال منصور: قد والله روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكني أكره أن يروى عني ههنا بالبصرة. فمنصور قد رواه مرفوعاً أيضاً، ولكنه لم يذكر رواية الرفع بالبصرة لئلا يتمسك بها الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة، وكانت البصرة من مواطن تجمعهم. ينظر شرح مسلم للنووي 2/59 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 مرفوعاً: " ليس من رجل ادّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر " "1".   "1" صحيح البخاري "3508", وصحيح مسلم "61"، وله شاهد عند البخاري "6768"، ومسلم "62" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: " لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 النفاق الأصغر تعريفه وحكمه ... الفصل الرابع: النفاق الأصغر وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريفه وحكمه النفاق الأصغر هو: أن يظهر الإنسان أمراً مشروعاً ويبطن أمراً محرماً يخالف ما أظهره"1".   "1" قال البغوي في شرح السنة باب علامات النفاق 1/76:"الثاني – أي من أنواع النفاق – ترك المحافظة على حدود أمور الدين سراً ومراعاتها علناً، فهذا يسمى منافقاً، ولكنه نفاق دون نفاق"، وقال القاضي عياض في إكمال المعلم 1/313 عند ذكره لتفسير حديثي أبي هريرة وابن عمرو في خصال المنافقين وللاحتمالات في ذلك قال:" ... أو يكون أراد النفاق اللغوي الذي هو خلاف المضمر، وإذا تأملت هذه الأوصاف وجدت فيها معنى ذلك؛ لأن الكاذب يُظهر إليك أنه صدق، ويبطن خلافه، والخصم يظهر أنه أنصف ويضمر الفجور، والواعد يظهر أنه سيفعل وينكشف الباطن بخلافه "، وقال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم: شرح الحديث 48، ج2 ص481:"النفاق الأصغر – وهو نفاق العمل – هو أن يظهر الإنسان علانية صالحة ويبطن ما يخالف ذلك"، ثم ذكر خصال هذا النفاق، ثم قال ص490:"وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، قاله الحسن، وقال الحسن أيضاً: من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 فكل من فعل أو قال قولاً مشروعاً واجباً أو مستحباً أو مباحاً، وقد أبطن ضد ما أظهره فقد فعل خصلة من خصال النفاق الأصغر، ويسميه بعض أهل العلم"النفاق العملي" لأنه يتعلق بالأعمال، وليس في الاعتقاد"1"، وأطلق عليه بعض أهل العلم أيضاً "نفاقاً دون   النفاق اختلاف القلب واللسان، واختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج. وقالت طائفة من السلف: خشوع النفاق: أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع". وأثر الحسن الثاني رواه ابن بطة "690"، والفريابي في صفة المنافق "49" بإسناد صحيح، وقال ابن مفلح في الفروع: الردة 6/166 نقلاً عن القاضي أبي يعلى:"ومن أظهر الإسلام وأسر الكفر فمنافق كافر، كعبد الله بن أبيّ بن سلول، وإن أظهر أنه قائم بالواجب وفي قلبه أن لا يفعل فنفاق". وينظر: مجموع الفتاوى 11/140-144، شرح الطيبي 1/190-192، فيض القدير 1/463، 464. "1" ينظر ما سبق عند تعريف النفاق الأكبر في الاصطلاح في الباب السابق، وقد ثبتت تسمية هذا النوع ب"نفاق العمل"عن الحسن البصري عند ابن بطة في "الإبانة""939" بإسناد صحيح، وقال الترمذي في سننه 5/20 تعليقاً على حديث " أربعٌ من كنّ فيه. ."، قال:"وإنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل". وينظر المفهم 1/250، عارضة الأحوذي 10/98، 101، مجموع الفتاوى 28/435، تفسير ابن كثير "تفسير الآية 8، والآية 20 من سورة البقرة" فتح الباري 1/89، كتاب الصلاة لابن القيم ص59، عمدة القاري 1/217، الفروع وتصحيحه 6/166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 نفاق""1". وحكم هذا النفاق أنه محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب"2"، ومن فعل خصلة من خصاله فقد تشبّه بالمنافقين"3"، ولكنه لا يخرج من ملة الإسلام بإجماع أهل العلم"4".   "1" ينظر عارضة الأحوذي: الإيمان 10/98، الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص66. "2" قال ابن كثير في أول تفسير الآية "8" من البقرة: "هو من أكبر الذنوب"، وينظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر: الكبيرة 53: عدم الوفاء بالعهد. "3" قال القاضي عياض في إكمال المعلم 1/314 بعد ذكره لحديثي أبي هريرة وعبد الله بن عمرو في خصال النفاق الأصغر وبعد ذكره لما ذكره ابن الأنباري من أوجه سبب تسمية المنافق منافقاً، قال:"اختلف تأويل العلماء لهذا الحديث على الوجوه التي ذكرها وغيرها، وأظهرها التشبيه بهذه الخصال بالمنافقين والتخلق بأخلاقهم في إظهار خلاف ما يبطنون، وهو معنى النفاق"، وينظر التعليق الآتي. "4" قال النووي في شرح صحيح مسلم 2/46، 47 عند كلامه على حديث:" أربع من كن فيه.." قال: "هذا الحديث مما عدّه جماعة من العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك وقد اجمع العلماء على أمن كان مصدقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عيه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار، فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455   الصحيح المختار أن معناه: أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار"، وينظر: المحلى "المسألة 2199، ج11 ص202-204، الفِصَل 2/245 مجموع الفتاوى 7/352، 478، 479، شرح صحيح البخاري لابن بطال 1/90، 91، المفهم 1/249، 250، الفروع مع تصحيحه: الردة 6/166، 167، فيض القدير 1/63. أحمد 4/183، وأبوداود "4971"، والبخاري في الأدب المفرد "393" من طريقين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 المبحث الثاني: خصاله وأمثلته للنفاق الأصغر خصال كثيرة، أهمها: 1- أن يكذب في كلامه متعمداً، ومن يسمع كلامه مصدق له"1". 2- أن يعدَ وفي نيته وقت الوعد أن لا يفي بما وعد به"2"، ثم لا   "1" جامع العلوم والحكم 2/486، وينظر كلام القاضي عياض الذي سبق نقله عند تعريف النفاق الأصغر. وقد روى الإمام أحمد 4/183، وأبوداود "4971"، والبخاري في الأدب المفرد "393" من طريقين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو مصدق لك، وأنت به كاذب ". وقد جوّدَ العراقي في تخريج الإحياء 3/143 أحد طريقيه. "2" قال في عمدة القاري 1/221: "خلف الوعد لا يقدح إلا إذا عزم عليه مقارناً بوعده، أما إذا كان عازماً ثم عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم توجد فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 يفي فعلاً بهذا الوعد"1". 3- أن يخاصم غيره، ويفجر في خصومته، بأن يعدل عن الحق إلى الباطل متعمداً"2"، فيدّعي ويحتج بالباطل والكذب، ليأخذ   صفة النفاق، ويشهد لذلك ما رواه الطبراني بإسناد لا بأس به في حديث طويل من حديث سلمان رضي الله عنه: " إذا وعد يحدث نفسه أنه يخلف " وكذا في باقي الخصال"، وقال بنحو هذا القسطلاني، في شرح صحيح البخاري 1/119، وقال بنحوه أخصر منه القاري في المرقاة 1/106، وينظر: الإحياء: آفات اللسان "الآفة 13"، جامع العلوم 2/482. والصحيح أن إرادة إخلاف الوعد المتأخرة عن الوعد محرمة، وقد توسّعت في بيان حكم هذه المسألة في رسالة"الأجل في والقرض" ص75-87، وحديث سلمان المشار إليه أعلّه أبوحاتم كما في"العلل" لابنه 2/274 بجهالة اثنين من رواته وبالاضطراب، وقال الدارقطني كما في جامع العلوم 2/483:"الحديث غير ثبت"، ورواه الطبراني "6186" وأعله الهيثمي 1/108 بجهالة اثنين من رواته نقلاً عن الترمذي، وقال ابن حجر في"الفتح" 1/90:"إسناده لا بأس به، ليس فيهم من أجمع على تركه". "1" عدم وفائه بالوعد يظهر إرادة عدم الوفاء به كما سبق في كلام القاضي عياض المنقول عند تعريف النفاق الأصغر. "2" جامع العلوم 2/486، وينظر كلام القاضي عياض الذي سبق عند تعريف النفاق الأصغر. وقد روى الإمام أحمد 2/70، وأبوداود "3597" عن ابن عمر رضي الله عنهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ما لا يجوز له أخذه"1". 4- أن يعاهد غيره بعهد، وفي نيته وقت العهد أن لا يفي به، ثم لا يفي فعلاً بهذا العهد"2". والدليل على كون هذه الخصال الأربع من النفاق الأصغر: ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – عن   عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع ". وإسناده حسن. وروى أحمد 2/82، وأبوداود "3598"، وابن ماجه "2320" عن ابن عمر أيضاً مرفوعاً: " من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله " وهو حسن بمجموع طرقه. "1" قال القاضي عياض في إكمال المعلم 2/315:"قال الهروي وغيره: أصل الفجور: الميل عن القصد، ويكون أيضاً: الكذب"، وينظر: شرح الطيبي 1/192، عمدة القاري 1/224. "2" قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77] ، قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم 2/488: "ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها ويحرم الغدر فيها: جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاء بها، وكذلك ما يجب الوفاء به لله - عز وجل – مما يعاهد العبدُ ربَّه عليه من نذر التبرر ونحوه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً"1"، وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر " "2". 5- الخيانة في الأمانة، وذلك بأن يأخذ الأمانات من الآخرين وفي نيته وقت أخذها أن يجحدها، ثم لا يؤدّيها إليهم"3"، فقد روى   "1" للعلماء أقوال في تفسير هذه الجملة من الحديث، فقيل: معناه: أنه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، إذا كان مستكثراً منها. وقيل: معناه: التحذير للمسلم من أن يعتاد هذه الخصال، فتفضي به إلى النفاق. وقيل: معناه: أن من غلبت عليه هذه الخصال وتهاون بها واستخف بأمرها كان فاسد الاعتقاد غالباً. وقيل: معناه: أن من اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع كلها فهو منافق النفاق الأكبر. ولعل الأقرب هو التفسير الثاني. وينظر: شرح السنة 1/76، المفهم 1/250، عارضة الأحوذي 10/98، 99، شرح النووي لمسلم 2/47، شرح صحيح البخاري لابن بطال 1/91-94، إكمال المعلم 1/313-315، فتح الباري لابن حجر: الإيمان 1/90، 91، شرح الطيبي 1/190، 191، فبيض القدير 1/463، عمدة القاري 1/221، 222، 224، التيسير شرح الجامع الصغير 1/137، شرح القسطلاني 1/119، كتاب الصلاة لابن القيم ص59، دليل الفالحين 4/436، شرح الأبي وشرح السنوسي 1/167، 168، المرقاة 1/106، 107، الدرر السنية 1/483، 484. "2" حيح البخاري "34"، وصحيح مسلم "58". "3" قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: " آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان " "1". 6- الرياء في الأعمال الصالحة"2"، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أكثر منافقي أمّتي قراؤها " "3".   تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] . "1" حيح البخاري "33"، وصحيح مسلم "59"، وفي رواية لمسلم:" من علامات المنافق ثلاثة.." وفي رواية أخرى له: " آية المنافق ثلاث، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم". "2" سبق الكلام على الرياء في الفصل الأول من هذا الباب عند الكلام على أنواع الشرك الأصغر. وقال ابن بطة في الإبانة ص703:"الرياء هو النفاق؛ لأن المنافق هو الذي يُسرّ خلاف ما يبطن، ويصف المحاسن بلسانه، ويخالفها بفعله، ويقول ما يعرف، ويأتي ما ينكر، ويترصد الغفلات لانتهاز الهفوات"، وقال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم 2/493: "ومن أعظم خصال النفاق العملي: أن يعمل الإنسان عملاً ويظهر أنه قصد به الخير، وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض له سيئ.."، وروى الفريابي "69" عن الحسن البصري، قال: "المنافق الذي إذا صلى راءَى بصلاته، وإن فاتته لم يأسَ عليها، ويمنع زكاة ماله" وسنده حسن. وينظر عارضة الأحوذي 10/99، المفهم 1/251، إتحاف السادة المتقين:"ذم تلاوة الغافلين" 5/21، الفتاوى السعدية: المسألة 32. "3" رواه الإمام أحمد 2/175، والفريابي "36" من حديث عبد الله بن عمرو بإسناد حسن، ورواه أيضاً أحمد 4/151، 154، والفريابي "33" من حديث عقبة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 والمراد بنفاق القراء: الرياء"1". 7- إعراض المسلم عن الجهاد، وعدم تحديث نفسه به"2"، فقد روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من مات ولم يغز ولم يحدِّث به نفسه مات على شعبة من نفاق " "3". 8- إظهار مودة الغير، والتقرب إليه بما يحب، مع إضمار بغضه، أو التكلّم فيه في غيبته بما لا يرضيه"4"، فقد روى البخاري عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، قال: قال أناس لابن عمر: إنا ندخل على سلطاننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نَعُدُّ هذا نفاقاً "5".   عامر بإسناد حسن. وللحديثين طرق أخرى وشواهد تنظر في فيض القدير 2/81، والسلسلة الصحيحة "750". "1" قال في شرح السنة 1/77:"قوله: " أكثر منافقي أمتي قراؤها " هو أن يعتاد ترك الإخلاص في العمل". وقال ابن مفلح في الفروع 6/166 بعد ذكره لهذا الحديث: "والمراد: الرياء"، وكذا قال الزمخشري كما في إتحاف السادة المتقين 5/21، والمناوي في التيسير 1/200. "2" ينظرشرح النووي لصحيح مسلم: الإمارة 13/56، مجموع الفتاوى 28/436. "3" صحيح مسلم: الإمارة "1910". "4" النواقض الاعتقادية 2/157. "5" صحيح البخاري "7178". ورواه الإمام أحمد "5829 تحقيق شاكر" بإسناد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 9- بغض الأنصار – رضي الله عنهم – فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آية المنافق بغضُ الأنصار، وآية المؤمن حبُّ الأنصار " "1". 10 - بغض الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: والذي فلَقَ الحبّةَ وبَرَأ النسمة إنه لعهد النبيِّ الأميِّ صلى الله عليه وسلم إليَّ: أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق "2".   صحيح، رجاله رجال الصحيحين، بلفظ:"كنا نعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق". "1" صحيح البخاري "17"، وصحيح مسلم "74". وله شاهد من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنصار:" لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق " رواه البخاري "3783"، ومسلم "75". قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري "1/59":"محبة أولياء الله عموماً من الإيمان، وهي من أعلى مراتبه، وبغضهم محرم، فهو من خصال النفاق؛ لأنه مما لا يتظاهر به غالباً، ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه، فهو شر ممن كتمه وأخفاه". "2" صحيح مسلم "78". قال الحافظ ابن حجر في الفتح: الإيمان باب علامة الإيمان حب الأنصار 1/63 بعد ذكره لهذا الحديث: "وهذا جار باطراد في أعيان الصحابة، لتحقّق مشترك الإكرام، لمالهم من حسن الغناء في الدين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وهناك أمثلة أخرى كثيرة لهذا النفاق "1"، وبالجملة فإن من اجتمعت فيه أكثر خصال هذا النفاق، واستمر عليها فهو على خطر عظيم، ويُخشى أن يقع في النفاق الأكبر"2"، ولذلك خاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كعمر رضي الله عنه"3"   "1" ومنها: 1- الغلول من الغنيمة. 2- الجبن. فقد روى الفريابي "20" عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال:"المنافق الذي إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا غنم غلّ، وإذا أُمر عصى، وإذا لقي جبن، فمن كن فيه ففيه النفاق كله، ومن كان فيه بعضهن ففيه بعض النفاق"وسنده حسن، وقال القرطبي في المفهم: الإيمان 1/251:"ولا شك في أن للمنافقين خصالاً أخر مذمومة، كما قد وصفهم الله تعالى، حيث قال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] فيحتمل أن يُقال: إنما خصت تلك الخصال الخمس بالذكر لأنها أظهر عليهم من غيرها.."، وينظر: فيض القدير شرح حديث: آيةٌ بيننا وبين المنافقين شهود العشاء والفجر 1/63"، الفتاوى السعدية: المسألة 32، ص10. "2" ينظر: ما سبق قريباً عند شرح لفظه: " كان منافقاً خالصاً " في حديث عبد الله بن عمرو. "3" روى الفريابي في صفة النفاق "86" ومن طريقه الذهبي في سير النبلاء 11/435 بإسناد حسن عن معاوية بن قرة أن عمر كان يخشى النفاق. وهو مرسل حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 ـ ......................................................................   وله شاهد من مرسل الحسن عند الفريابي "84" بإسناد حسن، ويؤيده الأثران بعده. فهو حسن لغيره. وروى الفريابي "81"، وأبونعيم في الحلية 3/308 عن الجعد أبي عثمان، قال: سألت أبارجاء العطاردي: قلت: يا أبارجاء، أرأيت من أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كانوا يخافون على أنفسهم النفاق؟ - وكان قد أدرك عمر بن الخطاب – فقال: أما إني أدركت بحمد الله منهم صدراً حسناً، نعم شديداً، نعم شديداً. وسنده حسن. وروى يعقوب بن سفيان 2/769 من طريق الأعمش عن زيد بن وهب قال: مات رجل من المنافقين، فلم يصل عليه حذيفة فقال له عمر: أمِن القوم هو؟ قال: نعم. قال: بالله أنا منهم؟ قال: لا، ولن أخبر أحداً بعدك. وسنده صحيح، رجاله رجال الصحيحين. وقد أعلّه يعقوب بنكارة متنه، وردّ قوله الذهبي في الميزان 2/107، وابن حجر في هدي الساري ص404.رواه البزار كما في كشف الأستار: الجنائز "831" من طريق الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة. ورجاله حديثهم لا ينزل عن درجة الحسن، وقال القرطبي في المفهم 1/250 عند شرحه لحديث: " آية المنافق ثلاث.."، قال:"اختلف العلماء فيه على أقوال: أحدها: أن هذا النفاق هو نفاق العمل الذي سأل عنه عمر حذيفة، لما قال له: هل تعلم فيَّ شيئاً من النفاق؟ أي من صفات المنافقين الفعلية. ووجه هذا أن من كانت فيه هذه الخصال المذكورة كان ساتراً لها ومظهراً لنقائضها، فصدق عليه اسم منافق..". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وحنظلة"1"، وغيرهم"2"، وخاف السلف الصالح"3" على أنفسهم من   "1" صحيح مسلم: التوبة "2750". "2" روى البخاري تعليقاً مجزوماً به في الإيمان باب خوف المؤمن أن يحبط عمله عن ابن أبي مليكة، قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. ورواه موصولاً: البخاري في تاريخه الكبير 5/137، وأبوزرعة في تاريخه، ومن طريقه الحافظ في التغليق 2/52 وإسناده قريب من الحسن، ويشهد له قول أبي رجاء السابق، فهو حسن لغيره. وله طريق آخر، فيه"الصلت" وهو متروك. وينظر في خوف بعض الصحابة أيضاً: صفة النفاق باب فيمن كان يخاف النفاق ولا يأمنه على نفسه ص69-72، الإبانة ص754، 755، فتح الباري لابن رجب 1/178، وقال الحافظ في الفتح في 1/111 بعد تخريجه لأثر ابن أبي مليكة السابق وذكره لجماعة من الصحابة الذين أدركهم، قال: "وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع.. وذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى". "3" ينظر في خوف كثير من السلف: صفة النفاق ص71-73، وقد روى الإمام أحمد كما في الفتح لابن رجب 1/180، والفريابي "87" بإسنادين صحيحين عن الحسن البصري قال:"والله ما أصبح على وجه الأرض مؤمن ولا أمسى على وجهها مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه، وما أمن النفاق إلا منافق". وقال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم 2/492، 493: "والآثار عن السلف في هذا كثيرة جداً.. وسُئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف النفاق؟ فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟ "، وقال في شرحه للبخاري 1/178 بعد ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الوقوع في النفاق الأصغر"1".   خوف بعض الصحابة:"وأما التابعون فكثير، وكلام الحسن في هذا كثير جداً، وكذلك كلام أئمة الإسلام بعدهم". "1" قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم 2/492، 493:"قال الأوزاعي قد خاف عمر النفاق على نفسه. والظاهر أنه أراد أن عمر كان يخاف على نفسه في الحال من النفاق الأصغر، والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، فكما يخشى علىمن أصر على المعصية أن يُسلب الإيمان عند الموت كذلك يخشى على من أصر على خصال النفاق أن يسلب الإيمان، فيصير منافقاً خالصاً"، وقال ابن رجب بنحو قوله هذا أيضاً في شرحه للبخاري 1/179، وينظر: المفهم 1/250، وينظر كلام ابن حجر الذي سبق قريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الفصل الخامس: البدعة البدعة في اللغة: مصدر "بدع"، وهو: ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال سابق"1"، وإحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر"2". فالبدعة لغة: خلاف السنة، وهي اسم لما ابتدع في الدين وغيره"3". والبدعة في الاصطلاح الشرعي: كل اعتقاد أو قول أو فعل أو ترك تعبّد به لله تعالى، وليس في الشرع ما يدل على مشروعيته"4".   "1" معجم مقاييس اللغة 1/209. "2" العين للخليل بن أحمد 2/54. "3" المرجع السابق. والبَدْع – بفتح الباء – إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر، كما قال الله تعالى عن نفسه: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي أن الله تعالى ابتدعهما ولم يكونا قبل ذلك شيئاً. والبِدْع - بكسر الباء وسكون الدال-: الشيء الذي يكون أولاً في كل أمر، كما قال جل شأنه: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} أي لست بأول مرسل. ينظر: المرجع السابق. "4" للعلماء تعريفات كثيرة قريبة من هذا التعريف، تنظر في مجموع الفتاوى 4/107،108، 195،196، و18/246، فتح الباري 13/253، جامع العلوم شرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 .....................................................................   الحديث 28، الاعتصام لأبي إسحاق الشاطبي المالكي 1/37، السنن والمبتدعات للشقيري المصري ص15، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع أشرف بن عبد المقصود" 1/122، وتنظر: رسالة حقيقة البدعة 1/263-267، فقد نقل تعريفات للبدعة لجماعة من أهل العلم. ومن هذا التعريف يعلم أن المستحدث في العادات كأمور المأكل والمشرب والملبس وما يستعمله الناس في حياتهم من آلات ونحوها، كل هذا لا يدخل في البدعة الشرعية – وإن كان يسمى في اللغة بدعة – إلا إن قصد به التقرب إلى الله تعالى، فحينئذ إن كان له أصل في الشرع فهو مشروع، وليس ببدعة في الشرع، وإن لم يكن له أصل في الشرع فهو بدعة شرعية محرمة. وقال الشيخ أحمد الرومي الحنفي المتوفى سنة "1043هـ" كما في المجالس الأربعة من مجالس الأبرار ص371، 372 بعد ذكره لحديثي جابر والعرباض الآتيين، قال: "المراد بالبدعة المذكورة في هذين الحديثين البدعة السيئة التي ليس لها من الكتاب والسنة أصل وسند ظاهر أو خفي، ملفوظ أو مستنبط. لا البدعة غير السيئة التي يكون لها أصل وسند ظاهر أو خفي، فإنها لا تكون ضلالة، بل هي قد تكون مباحة كاستعمال المنخل والمواظبة على أكل لب الحنطة، والشبع منه، وقد تكون مستحبة كبناء المنارة، وتصنيف الكتب، وقد تكون واجبة كنظم الدلائل لرد شبه الملاحدة والفرق الضالة؛ لأن البدعة لها معنيان، أحدهما: لغوي عام، وهو المحدث مطلقاً، سواء كان من العادات أو من العبادات، والثاني: شرعي خاص، وهو الزيادة في الدين أو النقصان منه بعد الصحابة بغير إذن من الشارع، لا قولاً ولا فعلاً، لا صريحاً ولا إشارةً، فإنها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 والبدعة تنقسم بحسب متعلقها إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: البدعة الاعتقادية: وهي اعتقاد خلاف ما أخبر الله به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة هذه البدعة: بدعة التمثيل أو التعطيل، وبدعة نفي القدر أو القول بالجبر، والابتداع باستعمال علم الكلام والاعتماد على العقل البشري"1" وكاعتقاد أن الأولياء يتصرفون في الكون ونحو ذلك.   الحديثين وإن كانت عامة تشتمل على جميع المحدثات لكن عمومها ليس بحسب معناها اللغوي، بل عمومها بحسب معناها الشرعي الخاص، فلا تتناول العادات أصلاً، بل تقتصر على بعض الاعتقادات وبعض صور العبادات … إذا تقرر هذا، فالمنارة عون لإعلام وقت الصلاة، وتصنيف الكتب عون للتعليم والتبليغ، ونظم الدلائل لرد شبه الملاحدة والفرق الضالة، نهي عن المنكر وذب عن الدين، فكل منها مأذون فيه، بل مأمور به؛ لأن البدعة غير السيئة ما لم يحتج إليه الأوائل ثم احتاج إليه الأواخر ورأوه حسناً على سبيل الإجماع بلا خلاف، ولا نزاع". وينظر التعليق الآتي قريباً فيما يتعلق بما أحدث وله أصل في الشرع وفيما يتعلق بالبدع في الأمور الدنيوية المباحة. "1" قال الحافظ ابن حجر في الفتح: الاعتصام باب الاقتداء 13/253 بعد ذكره لبعض الأمور التي أحدثت وأدركها بعض السلف، قال: "اشتد إنكار السلف لذلك كأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي، وكلامهم في ذم أهل الكلام مشهور، وسببه أنهم تكلموا فيما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وثبت عن مالك أنه لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 القسم الثاني: البدعة العملية: وهي التعبد لله بغير ما شرع، وذلك بإحداث عبادة لم تُشرع، أو الزيادة أو النقص في عبادة مشروعة، أو الإتيان بالعبادة على صفة محدثة، أو المواظبة على عبادة مشروعة في وقت معين، مع أنه لم يرد دليل شرعي على مشروعيتها في هذ الوقت. ومن أمثلة هذه البدعة: البناء على القبور، والدعاء عندها، وبناء المساجد عليها، والأعياد والاحتفالات المحدثة التي يتعبد لله تعالى بها، ونحوذ لك. القسم الثالث: بدعة الترك: وهي ترك المباح أو ترك ما طلب فعله تعبداً.   يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر شيء من الأهواء – يعني بدع الخوارج والروافض والقدرية – وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرهاً، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة والله الموفق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ومن أمثلة هذه البدعة: ترك أكل اللحم تعبُّداً، وترك الزواج تعبُّداً "1".   "1" ولا يدخل في هذا ترك ما طلب فعله إيجاباً أو ندباً لدليل شرعي آخر، فلا حرج عليه إذا تركه تعبداً كأن يترك الحج المندوب لأنه يؤدي إلى تعطيل عبادة أهم منها، أو يؤخر الحج الواجب لأنه يخشى فتنة في دينه. وكذلك لا يدخل في هذا ما لو منع نفسه من أكل نوع من الأطعمة المباحة مدة من الزمن؛ لأنه يؤدي به إلى الوقوع في أمر محرم. وفي كل من البدع الاعتقادية والعملية ما هو بدعة في الأصول أو في الفروع، وإن كان الغالب على البدع الاعتقادية أنها بدع في الأصول، وكثير من البدع العملية مبني على بدعة اعتقادية. وقد ذكر الإمام أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي المالكي أن الابتداع الذي يخرج صاحبه من الفرقة الناجية، ويصيّره من الفرق الضالة هو ما كان في أ) معنى كلي في الدين. ب" أو كان في قاعدة من قواعد الشريعة. ج" أو كان في أصل عام من أصول الشرع. د" أن يكثر من اختراع وإنشاء الفروع والجزئيات بحيث تعود لكثرتها على كثير من الشريعة بالمعارضة. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن البدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء –وهم أهل البدع– هي ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية ونحوهم. وذكر أن مذهب السلف أنهم لا يؤثمون مجتهداً في المسائل الأصولية ولا الفرعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم البدع والتغليظ على مبتدعها وفاعلها، ومن أهمها قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى:21] ، وما رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما – قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته:" أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة "رواه مسلم "1"، وما رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ""2"،   ينظر فيما سبق: الحوادث والبدع للطرطوشي ص36،40،مجموع الفتاوى 6/56-58، و11/200، و12/484-501، و19/203-219، و34/414،415، الاستقامة 1/254، 255، مختصر الفتاوى المصرية ص320، الاعتصام 1/162-166، و2/200—258، المجالس الأربعة من مجالس الأبرار للرومي الحنفي ص371، رسالة: سؤال وجواب في أهم المهمات للسعدي " مطبوعة ضمن المجموعة الكاملة 1/69"، رسالة حقيقة البدعة 2/262-267، و273-279، رسالة موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع 1/64-72، و100-102، و118-122. "1" صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة "867". "2" سبق تخريجه في المقدمة عند تعريف"أهل السنة والجماعة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ". رواه البخاري ومسلم"1"، وفي رواية لمسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ". وما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين أرادوا أن يزيدوا على عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني "رواه البخاري ومسلم"2". فصيغ العموم الواردة في النصوص السابقة تدل على تحريم جميع البدع التي يحدثها الناس ويتعبدون لله بها وليس لها أصل في الشرع"3" وأنه ليس شيء منها حسنا ً.   "1" صحيح البخاري: الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور "2697"، وصحيح مسلم: الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة "1718". "2" البخاري: فاتحة النكاح "5063"، ومسلم: فاتحة النكاح "1401"، قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث في الفتح 9/105: "المراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني". "3" أما ما له أصل في الشرع فليس من البدع، اللهم إلا أن يراد أنه بدعة لغة، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 .......................................................................   البدعة في اللغة أعم منها في الشرع، كما هو ظاهر من التعريفين اللغوي والشرعي للبدعة – كما سبق بيانهما -. وقد نص على هذا بعض أهل العلم، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: الاعتصام، باب الاقتداء 13/253:"المحدثات: جمع محدثة، والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع "بدعة"، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة، بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة, سواء كان محموداً أو مذموماً". وعلى هذا فقد يكون الفعل بدعة في اللغة ولا يكون بدعة في الشرع، كأن يأتي في النصوص الحث على عبادة معينة فلا يتحقق فعلها إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، إما لوجود علة مانعة من فعلها في حياته صلى الله عليه وسلم أو لغير ذلك، فهي في حق أول من فعلها تعتبر بدعة لغوية، لأنه إحداث على غير مثال سابق، ولا تعتبر بدعة شرعية، لدلالة النصوص على مشروعيتها، ومن ذلك جمع القرآن في مصحف واحد، وكتابة الحديث في المسانيد والسنن والجوامع، وصلاة التراويح، وتأليف كتب العلم في الفنون المختلفة، وفتح المدارس، ونحو ذلك، فهذه كلها ليست بدعاً شرعية، لدلالة الأدلة الشرعية على جوازها، ولذلك قال عمر رضي الله عنه عن جمعه للناس في صلاة التراويح على إمام واحد: "نعمت البدعة هذه"ومراده البدعة اللغوية لا الشرعية كما سيأتي بيان ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى. ومن ذلك ما إذا صنع أو اشترى المسلم آلة حربية من المخترعات الحديثة واستعملها في حرب الكفار أو اقتناها لذلك، كمدفع أو دبابة أو طائرة أو غيرها، فهذه كلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476   يصح أن تسمى"بدعة"في اللغة، ولكنها ليست بدعة شرعية، بل هي من الأمور المطلوبة شرعاً، لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} . ومما يدخل في البدعة اللغوية ما يحدثه الناس في الأمور الدنيوية المباحة، ولا يقصدون التعبد به لله تعالى، كالمخترعات والمحدثات في أمور الملبس والمركب، وكأساليب البناء، وكأجهزة الاتصالات، وكالأجهزة والعقاقير الطبية، وغيرها، فهذه كلها لا تعتبر بدعة في الشرع، بل هي من المباحات، إذا لم يوجد في شيء منها ما هو ممنوع شرعاً من وجه آخر، كأن يكون فيه تشبه محرم، أو فيه إسراف أو خيلاء، أو كان فيه ضرر أو مخالفة لنص أو أصل شرعي، ينظر: السنن والمبتدعات للشقيري ص18. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ص598، قاعدة تضبط بها البدعة الشرعية المحرمة، فقال: "ما رآه الناس مصلحة نظر في السبب المحوج إليه، فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض زال بموته. وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد، فهنا لا يجوز الإحداث، فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً لو كان مصلحة ولم يفعل - يعلم أنه ليس بمصلحة-، وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخلق، فقد يكون مصلحة". وقال شيخنا محمد العثيمين في رسالة"الإبداع"وهي مطبوعة ضمن مجموع فتاواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وهذه الصيغ العامة هي:" ما " في الآية والحديث و " كل محدثة بدعة "، و" كل بدعة ضلالة " و" عملاً "، فهذه الألفاظ كلها   "جمع فهد السلمان 5/251" عند كلامه على إنشاء المدارس وتصنيف الكتب، وما أشبه ذلك مما استحسنه المسلمون، وكيف يجمع بينه وبين حديث " كل بدعة ضلالة "؟ قال:"هذا في الواقع ليس ببدعة، بل هذا وسيلة إلى مشروع، والوسائل تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ومن القواعد المقررة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فوسائل المشروع مشروعة … فالمدارس وتصنيف العلم، وتأليف الكتب وإن كان بدعة لم يوجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه، إلا أنه ليس مقصداً بل هو وسيلة، والوسائل لها أحكام المقاصد". وينظر أيضاً: مجموع الفتاوى 21/317-319، الاقتضاء 2/591-597، الاعتصام 2/79،80، 205، جامع العلوم شرح الحديث 28، فتح الباري 13/253، السنن والمبتدعات ص 15،18، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع الطيار ص 838،839"، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع أشرف بن عبد المقصود 1/123، وجمع فهد السليمان 2/292،293 "، رسالة حقيقة البدعة، الباب الأول والباب الثاني، ورسالة موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع 1/93، وينظر ما سبق نقله عن الرومي الحنفي عند تعريف البدعة. وينبغي التنبيه إلى مسألة مهمة، وهي أن بعض من يقع في بعض البدع يحتج على جوازها بفعل بعض أهل السنة لبعض الأمور التي يرى أنها تشبه البدعة التي وقع فيها، وهذا ليس بحجة، فالواجب أن تعرض تصرفات الناس على الكتاب والسنة، فما وافقهما فهو الحق، وما خالفهما فهو الباطل بغض النظر عن فاعلها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 تدل على العموم، فهي صريحة في أن جميع البدع محرمة وممنوع من فعلها"1". فلا يجوز لمسلم أن يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول غيره من البشر كائناً من كان"2"، فإن عارض قوله صلى الله عليه وسلم بقول غيره، كان ذلك   "1" قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي في الاعتصام 1/141،143:"قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكررها، وإعادة تقررها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم، كقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وما أشبه ذلك، وبسط الاستدلال على ذلك هنالك، فما نحن بصدده من هذا القبيل، إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة: أن كل بدعة ضلالة، وأن كل محدثة بدعة، وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة. ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها. فدلّ ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها"انتهى كلامه رحمه الله، وينظر: "شرح الواسطية"ورسالة"الإبداع"كلاهما لشيخنا محمد بن عثيمين "مطبوعتان ضمن مجموع فتاواه 5/248،و8/640". "2" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ص591: "ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية، وهي قوله:"كل بدعة ضلالة"بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم أقرب منه إلى التأويل". وقال أيضاً في المرجع السابق ص586: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 دليلاً على ضعف التأسِّي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودليلاً على نقص محبته له عليه الصلاة والسلام؛ لتقديمه قول غيره وهوى نفسه على سنة خير البشر صلى الله عليه وسلم"1".   "إن قيل عن بدعة معينة: هذه البدعة حسنة؛ لأن فيها من المصلحة كيت وكيت، فهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة، والجواب: أما القول: إن شر الأمور محدثاتها، وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والتحذير من الأمور المحدثات: فهذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم". قلت: أي قد نبذ الشرع وتركه وخرج على حكمه، ينظر: الصحاح ولسان العرب، مادة"رغم". "1" إذ كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " ثم يأتي ويقول: بل ليس كل بدعة ضلالة، وبدعة كذا حسنة، وهذا بلا شك مضادة للشرع الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. قال الإمام أبوإسحاق الشاطبي المالكي في الاعتصام 1/142-144 بعد كلامه الذي سبق نقله قريباً، وبعد ذكر إجماع الصحابة على ترك البدع:"إن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه؛ لأنه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع، والشرع قد دل على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع، وهو المقصود السابق في حقهم ودليل الشرع كالتبع في حقهم، ولذلك تجدهم يتأولون كل دليل خالف هواهم، ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} فأثبت لهم الزيغ أولاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 .....................................................................   وهو الميل عن الصواب، ثم اتباع المتشابه وهو خلاف المحكم الواضح المعنى، الذي هو أم الكتاب ومعظمه. ومتشابهه على هذا قليل، فتركوا اتباع المعظم إلى اتباع الأقل المتشابه الذي لا يعطي مفهوماً واضحاً ابتغاء تأويله، وعامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح، فهو عمدتهم الأولى، وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع، فهو المقدم في نحلهم بحيث لا يتهمون العقل، وقد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر، حتى يردوا كثيراً من الأدلة الشرعية. وقد علمت - أيها الناظر - أنه ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقاً، ولذلك تراهم يرتضون اليوم مذهباً ويرجعون عنه غداً، ثم يصيرون بعد غد إلى رأي ثالث، ولو كان كل ما يقضي به حقاً لكفى في إصلاح معاش الخلق ومعادهم، ولم يكن لبعثة الرسل عليهم السلام فائدة، ولكان على هذا الأصل تعد الرسالة عبثاً لا معنى له، وهو كله باطل، فما أدى إليه مثله. فأنت ترى أنهم قدموا أهواءهم على الشرع، ولذلك سموا في بعض الأحاديث وفي إشارة القرآن: أهل الأهواء". انتهى كلامه بحروفه مختصراً. وقال الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري المصري في السنن والمبتدعات ص15،17:"كل بدعة في الدين ضلالة، كما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلا يمكننا أن نغير ولا نحرف ولا نؤول ما قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه ضلالة وفي النار، إلى أنه مستحسن.. وتقسيم بعض متأخري الفقهاء البدعة إلى خمسة أقسام خطأ وظن: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} بل هذا منهم مشاقة ومحادة للرسول صلى الله عليه وسلم القائل: " وكل بدعة ضلالة " فلهم نصيب من الوعيد المذكور في آية: {وَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وقد ثبت عن الإمام مالك أنه قال:"من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً""1"، وقد ثبت عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن كثير من البدع في وقائع متعددة"2".   يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} . وينظر ما يأتي ذكره في التعليق الآتي في أواخر الكلام على بدعة الغلو في القبور من تزيين الشيطان البدعة في نفس فاعلها وتمثله لبعض العصاة في صورة آدمي ليعينه على المعصية، فيؤدي به ذلك إلى أن يحرص عليها ويدعو إليها. "1" روى هذا القول عن الإمام مالك تلميذه ابن الماجشون كما في الاعتصام 1/49، وقال أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي المالكي في الموضع السابق من الاعتصام: "فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها". "2" ومن ذلك ما رواه الدارمي في كراهية أخذ الرأي "204"، وبحشل في تاريخ واسط في ترجمة أبي الشعثاء ص 198، 199 بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- أنه أخبر عن قوم جالسين حلقاً في المسجد ينتظرون الصلاة، وفي كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبِّروا مائة، فيكبرون مائة, فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فوقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 .......................................................................   ابن مسعود على حلقة من تلك الحلق، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. فقال: ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة محمد صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. ورواه عبد الرزاق في ذكر القُصَّاص رقم "5409"، وابن وضاح في "البدع" رقم "9، 19،20،23" والطبراني في الكبير رقم "8628" إلى "8633"، ورقم "8636" إلى "8639" من طرق كثيرة، وبعض أسانيد الطبراني حسن، وقد صحح بعضها الهيثمي 1/181. ورواه عبد الرزاق "5408" مختصراً بإسناد صحيح رجاله رجال الصحيحين. وروى أبو داود "5384"، والطبراني "13486"، والبيهقي في السنن 1/424 عن مجاهد قال: كنت مع ابن عمر فثوب رجل في الظهر أو العصر، فقال: اخرج بنا، فإن هذه بدعة. وإسناده حسن، وقد حسنه الألباني في الإرواء "236". والتثويب هو أن ينادي المؤذن بعد الأذان للصلاة إذا أبطأ الناس. وروى ابن وضاح "32" عن عبد الله بن خباب بن الأرت - رضي الله عنهما - قال: "بينما نحن في المسجد ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي، فأرسل إلي أبي، فوجدته قد احتجز، معه هراوة، فأقبل علي، فقلت: يا أبت مالي مالي؟ قال: ألم أرك مع العمالقة؟ ثم قال: هذا قرن خارج الآن. وإسناده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وقد حكى الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي الأندلسي إجماع السلف من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذم البدع وتقبيحها"1"، وهذا إجماع صحيح غير مخروم، فلم يثبت عن أحد من الصحابة أو التابعين أنه أجاز شيئاً من البدع أو تساهل في أمرها"2"، بل قد ثبت عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال:"كل بدعة ضلالة، وإن   صحيح رجاله ثقات رجال مسلم، عدا شيخ ابن وضاح، وهو ثقة إمام مترجم في سير النبلاء 12/108، والظاهر أن عبد الله بن خباب ومن معه كانوا يختارون بعض الآيات التي فيها سجدة تلاوة، فيقرأها أحدهم ثم يسجدون، ويبكون في سجودهم. وهذه طريقة محدثة ليس لها أصل في الشرع، وقد أنكرها غير واحد من الصحابة، وفي الباب آثار أخرى عن جماعة من الصحابة يطول الكلام بذكرها، تنظر في مراجع التخريج السابقة. "1" الاعتصام، الباب الثالث في أن ذم البدع والمحدثات عام 1/142. "2" أما ما رواه البخاري "2010" عن عمر – رضي الله عنه - أنه قال لما جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح:"نعمت البدعة هذه". فالمراد بدعة لغة – كما سبق بيانه عند الكلام على التعريف اللغوي للبدعة – ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري في صلاة التراويح "2012" عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس التراويح ثلاث ليال ثم اجتمع الناس في الليلة الرابعة فلم يخرج عليهم صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: " أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها "، فهل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يصح أن تسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 رآها الناس حسنة ""1". فالبدع محرمة ومذمومة كلها"2"، وخطرها كبير سواء منها ما هو شرك وكفر أم ما لم يصل منها إلى درجة الشرك والكفر.   بدعة شرعية؟ فمراد عمر – رضي الله عنه – كما قال الحافظ ابن رجب:"أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها"، إذن فهو بدعة في اللغة لا في الشرع، ثم إن ما فعله الخلفاء الراشدون مما لم يكن له مثال سابق لا يعتبر بدعة بالمعنى الشرعي، بل هو سنة لحديث: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين.." الحديث، ومثل فعل الخلفاء الراشدين أو قولهم ما جاء عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند من يرى أن قول الصحابي حجة، وبالأخص إذا كان في عصر الخلفاء الراشدين. وينظر: الاقتضاء ص591-595، مجموع الفتاوى 21/317-319، جامع العلوم شرح الحديث 28، تفسير ابن كثير، تفسير الآية 117 من البقرة، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز، جمع الطيار 2/840، شرح شيخنا محمد بن عثيمين للواسطية "مطبوع ضمن مجموع فتاواه 8/642،643"، رسالة حقيقة البدعة، الباب الثاني. "1" رواه المروزي في السنة رقم "82" ص29، وابن بطة في الإبانة 1/339، رقم "205"، واللالكائي 1/92، رقم "126"، وإسناد المروزي وابن بطة حسن، وقد صححه الألباني في تحذير الساجد. "2" ذكر الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي أن ما قيل فيه من البدع"مكروه"ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" والضلالة ضد الهدى، ولأنه ليس في الشرع دليل يدل على ارتفاع الإثم عن فاعل أي بدعة، بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 ......................................................................   ورد في الشرع ما يدل على خلاف ذلك، وهو حديث: " فمن رغب عن سنتي فليس مني "وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار، مع أنهم إنما التزموا ترك بعض المباحات تعبداً، وبعضهم التزم فعل بعض العبادات التي أصلها مشروع كالصلاة والصيام لكن على طريقة لم ترد في السنة. ثم ذكر الشاطبي رحمه الله انقسام البدع إلى صغائر وكبائر، ثم ذكر إشكالاً في إطلاق لفظ"الصغيرة"على بعض البدع؛ لأن الابتداع راجع إلى الإخلال بالدين؛ لأنه مضادة للشارع ومراغمة له، حيث نصب المبتدع نفسه منصب المستدرك على الشريعة، لا منصب المكتفي بما حُد له، فهو إما قد أتى بتشريع زائد أو ناقص أو قد غير التشريع الصحيح، وهذا كله قدح في التشريع، وهذا لو قصده المسلم لكفر، فمن فعله بتأويل فاسد أو رأي غالط، أو ألحقه بالمشروع إذا لم نكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر. ثم ذكر ما ثبت عن الإمام مالك – رحمه الله – من إنكاره التثويب على المؤذن – وهو أن ينادي بعد الأذان إذا أبطأ الناس للصلاة - فقال الإمام مالك: "التثويب ضلال، ومن أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ ديناً لم يكن اليوم ديناً. ثم ذكر قول الإمام مالك أيضاً للرجل الذي أراد أن يُحْرِمَ من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم " لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة " فقال الرجل: وأي فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها. فقال الإمام مالك: "وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 ......................................................................   فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} "، ثم قال الشاطبي:"كأنه –أي الإمام مالك– يقول: يلزمك في هذا القول كذا". ثم ذكر الخلاف في لازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟ وذكر أن رأي المحققين أنه ليس بمذهب، ومال إلى ذلك، وذكر أنه على هذا تكون البدع كالمعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر، ثم ذكر أن البدعة إذا اجتمع فيها وصفان صح أن تسمى صغيرة، وهما: أن تكون جزئية، وأن تكون بتأويل يقرب مأخذه، ومثل لها بمسألة من نذر أن يصوم قائماً وضاحياً لا يستظل. وذكر أن الصغائر قد تتحول إلى كبائر إذا داوم عليها، أو دعا إليها، أو فعلها في مجتمعات الناس، أو استحقرها واستهان بها، فالاستهانة بالذنب أعظم من الذنب، ينظر: الاعتصام: الباب السادس 2/49-72. وقال الشيخ أحمد الرومي الحنفي كما في المجالس الأربعة من مجالس الأبرار ص372:"البدعة في الاعتقاد بعضها كفر، وبعضها ليس بكفر، لكنها أكبر من كل كبيرة حتى القتل والزنى، وليس فوقها إلا الكفر، والبدعة في العبادة وإن كانت دونها لكن فعلها عصيان وضلال، لا سيما إذا صادمت سنة مؤكدة". وقال الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري المصري في السنن والمبتدعات ص17:"وقد ذهب كثير من محققي العلماء إلى أن كل بدعة في الدين صغيرة كانت أو كبيرة فهي محرمة، واستدلوا لذلك بالأحاديث التي جاءت في ذم البدع بصيغ العموم". وينظر أيضاً الاعتصام: الباب الثاني 1/46-53، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وما كان من البدع دون الشرك والكفر فهو من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الوقوع في الشرك والكفر"1"، فإذا فتح المسلم لنفسه باب الابتداع في الدين، أو استحسن شيئاً من البدع فلن يقف في غالب الأحوال"2" هو أو من يقلده عند حد حتى يقع في الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر.   "جمع الطيار" ص838،839، حقيقة البدعة: الباب الثالث، منهج الإمام مالك في إثبات العقيدة: الفصل الثاني. وسيأتي الكلام على البدع الجزئية والمركبة قريباً إن شاء الله تعالى. "1" ذكر الحافظ ابن القيم الحنبلي في بدائع الفوائد 2/260 أن البدعة هي باب الكفر والشرك وقال الشيخ محمد بن عثيمين في القول المفيد، باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم الغلو في الصالحين 1/384:"نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر، قال أهل العلم: إن الكفر له أسباب متعددة، وذكروا من أسبابه: البدعة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ". انتهى كلامه مختصراً. وذكر الإمام الشاطبي المالكي في الاعتصام 1/106-133 عشرين عقوبة أو وصفاً محذوراً أو معنى مذموماً يقع فيها المبتدع وتحصل له بارتكابه للبدعة، وذكر منها: أنه يخاف عليه أن يكون معدوداً في الكفار الخارجين من الملة؛ لاختلاف السلف في تكفير كثير من المبتدعة، وذكر منها أيضاً: أنه يخشى عليه من سوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء ص611،612 بعض أضرار ومفاسد البدع. "2" وبالأخص عند وقوعه في البدع الكلية والبدع المركبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 والبدع كثيرة، وقد سبق ذكر كثير منها "1"، وسأذكر بشيء من التفصيل ثلاثاً من أخطر البدع العملية، وأكثرها وقوعاً والتي لا تصل إلى حد الشرك الأكبر، ولكن أدى ابتداعها والتساهل بها إلى الوقوع فيه فيما يلي:   والبدع الكلية هي التي تعتبر كالقاعدة أو الأصل لبدع أخرى تنبني عليها، كبدعة الشيعة "الرافضة" في قولهم بعصمة الأئمة، فقد ترتب عليها بدع كثيرة، كاعتقادهم أن الأئمة أفضل من الرسل، وكاعتقادهم الصواب المطلق في أقوالهم، وكتقديمهم لأقوالهم على القرآن والسنة، وكاعتقادهم خروج مهديهم المزعوم من السرداب وغير ذلك من الضلالات. ومثلها بدعة الخوارج في قولهم: لا حكم إلا لله. فالبدع الكلية لا تختص بفرع من فروع الشريعة، بل تنتظم ما لا يحصى من الفروع، والغالب أن البدع الكلية من البدع الكفرية. والبدعة المركبة: هي التي تنتظم بدعاً كثيرة وتحتوي عدة محدثات انضمت إلى بعضها حتى أصبحت كأنها بدعة واحدة، ومن أمثلتها: بدعة المولد، فهي تضم عدة بدع، منها تخصيص ليلة معينة، وتخصيص ذكر معين، وهيئة معينة بلا دليل، ومنها إحداث أوراد وأشعار مبتدعة تحوي كثيراً من الأكاذيب والضلالات. ما البدعة الجزئية والبسيطة فهي في الغالب لا تتجاوز ذاتها. والبدعة الجزئية هي التي يكون الخلل الواقع بسببها في فرع من الفروع فقط، ومثالها: بدعة التثويب بالصلاة، وبدعة الأذان والإقامة في العيدين. والبدعة البسيطة: هي عكس البدعة المركبة، وهي تشبه البدعة الجزئية، ينظر: الاعتصام 2/59- 64، حقيقة البدعة 2/34،35. "1" ومن ذلك التبرك الممنوع، والغلو في الصالحين وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 البدعة الأولى: التوسل البدعي التوسل في اللغة: هو التقرب إلى الشيء بالشيء. ومنه أن يتقرب شخص إلى شخص بعمل معين، أو بهدية معينة، أو بقرابة أو غيرها ليحصل له ما يريد منه"1". والتوسل في الاصطلاح له تعريفان: الأول: تعريف عام: وهو التقرب إلى الله تعالى بفعل المأمورات وترك المحرمات"2". الثاني: تعريف خاص بباب الدعاء: وهو أن يذكر الداعي في دعائه ما يرجو أن يكون سبباً في قبول دعائه، أو أن يطلب من عبد صالح أن يدعو له.   "1" ينظر: الصحاح ولسان العرب، مادة "وسل". وينظر: جهود الحنفية ص1440-1445، والشرك للميلي الجزائري ص199، 200 فقد توسعا في نقل أقوال أهل اللغة. "2" فالعبد يتقرب إلى ربه بذلك ليتوصل به إلى رضوانه تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار، وينظر: رسالة التوسل والوسيلة "مجموع الفتاوى 1/142،143،153، 199-202، 247"، الاقتضاء ص787-792، تفسير الآية 35 من سورة المائدة في تفسيري ابن كثير والشنقيطي، الشرك ومظاهره للميلي ص200-202، صيانة الإنسان للسهسواني ص194، 201-203، جهود علماء الحنفية ص1447،1448،1459،1460، فتاوى ابن عثيمين 5/279، الدعاء للعروسي ص628، 629. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 والتوسل في أصله ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: التوسل المشروع: وهذا القسم يشمل أنواعاً كثيرة، يمكن إجمالها فيما يلي: 1- التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف:180] . وذلك بأن يدعو الله تعالى بأسمائه كلها، كأن يقول: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى أن تغفر لي"1"، أو أن يدعو الله تعالى باسم معين من أسمائه تعالى يناسب ما يدعو به، كأن يقول: اللهم يا رحمن ارحمني، أو أن يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم أن ترحمني"2".   "1" ومن ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك … الخ"رواه الإمام أحمد "3712"، وابن حبان "972" بإسناد حسن، وقد صححه الألباني في الصحيحة "199". "2" ومن أهم ما يتوسل به اسم الله الأعظم، وهو"الله"أو"الحي"أو"القيوم"، وإن جمع بينها فهو أولى، فيقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الحي القيوم أن ترحمني. وينظر: مشكل الآثار 1/160-165، مجموع الفتاوى 18/311، صحيح سنن الترمذي "1493-1496"، الدر المنظم في الاسم الأعظم للسيوطي "الحاوي 1/394"، تحفة الذاكرين ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 أو أن يدعو الله تعالى بجميع صفاته، كأن يقول:"اللهم إني أسألك بصفاتك العليا أن ترزقني رزقاً حلالاً"أو أن يدعوه بصفة واحدة من صفاته تعالى تناسب ما يدعو به، كأن يقول:"اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ""1"، أو يقول مثلاً: "اللهم انصرنا على القوم الكافرين إنك قوي عزيز" "2". 2- الثناء على الله تعالى، والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في بداية الدعاء"3"، لما ثبت عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يدعو   "1" روى الترمذي "3513"، وابن ماجه "3850"، وأحمد 6/171، وابن السني "767" عن عائشة قالت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني "، وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيحين، وصححه النووي في الأذكار "557". "2" ومن ذلك دعاء الاستخارة الثابت في صحيح البخاري "1162"، وفيه: " اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر، ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال: عاجل أمري وآجله – فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه … ". ومن ذلك أيضاً الاستعاذة بكلمات الله تعالى، والاستعاذة بعزته تعالى، ففي كل منهما توسل بصفة من صفات الله تعالى. ينظر فتاوى ابن عثيمين "5/281". "3" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 1/347:"والذين يتوسلون بذاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال:"عجل هذا"، ثم دعاه فقال له: " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء "، قال: وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي فمجَّد الله وحمده، وصلى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام:" ادع تجب، وسل تعط " "1". ومن ذلك أن يثني على الله تعالى بكلمة التوحيد"لا إله إلا الله"، التي هي أعظم الثناء على الله تعالى، كما توسل بها يونس عليه السلام في بطن الحوت"2"، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول في توسله مثلاً:"لا إله   لقبول الدعاء عدلوا عما أمروا به وشرع لهم، وهو أنفع الأمور لهم إلى ما ليس كذلك، فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التي بها يستجاب الدعاء، وقد أمر الله بها، والصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع". وينظر: صيانة الإنسان ص206، وقال الإمام النووي في الأذكار: كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الباب الثالث ص99:"أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد لله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك تختم الدعاء بهما". وينظر: تصحيح الدعاء ص67. "1" رواه الإمام أحمد "23937"، وأبو داود "1481"، والترمذي "3476 و3477"، والنسائي 3/44،45، وابن حبان "1960" بإسناد حسن، وزيادة: "قال: وسمع … " عند النسائي وحده، وروى بعضها الترمذي. "2" روى الإمام أحمد 1/170 عن سعد مرفوعاً: " دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 إلا الله، اللهم صل على محمد، اللهم اغفر لي". ومن ذلك سورة الفاتحة، فشطرها الأول ثناء على الله تعالى، وآخرها دعاء"1". 3- التوسل إلى الله تعالى بذكر وعده جل وعلا، كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [سورة آل عمران: 194] ، ومنه أن يقول الداعي: اللهم إنك وعدت من دعاك بالإجابة، فاستجب دعائي. 4- التوسل إلى الله تعالى بأفعاله جل وعلا، كأن يقول: اللهم يا من   لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له". وإسناده حسن، وقد صححه الألباني في الصحيحة "1744". "1" روى مسلم في صحيحه "395" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي، " "وقال مرة: فوض إلي عبدي "، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". وينظر: التوصل إلى حقيقة التوسل ص60-64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 نصرت محمداً صلى الله عليه وسلم يوم بدر انصرنا على القوم الكافرين"1". 5 - أن يتوسل العبد إلى الله تعالى بعباداته القلبية، أو الفعلية، أو القولية، أو غيرها، كما في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [سورة المؤمنون: 109] ، وكما في قصة الثلاثة أصحاب الغار، فأحدهم توسل إلى الله تعالى ببره بوالديه، والثاني توسل إلى الله تعالى بإعطاء الأجير أجره كاملاً بعد تنميته له، والثالث توسل إلى الله تعالى بتركه الفاحشة، وقال كل واحد منهم في آخر دعائه:" اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ""2". ومن ذلك أن يقول الداعي: اللهم إني أسألك بمحبتي لك ولنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ولجميع رسلك وأوليائك أن تنجيني من النار، أو يقول: اللهم إني صمت رمضان ابتغاء وجهك فارزقني السعادة في الدنيا والآخرة. 6- أن يتوسل إلى الله تعالى بذكر حاله، وأنه محتاج إلى رحمة الله وعونه، كما في دعاء موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ   "1" ومن ذلك الدعاء الوارد في التحيات: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم "، والكاف هنا للتعليل، فأنت تسأل الله تعالى الذي من على إبراهيم عليه السلام وآله بالصلاة، أن يمن على محمد صلى الله عليه وسلم وآله بالصلاة أيضاً. ينظر: فتاوى ابن عثيمين 5/281. "2" سبق تخريجه عند الكلام على تعريف العبادة وبيان شمولها في الباب الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 خَيْرٍ فَقِيرٌ} [سورة القصص: 24] ، فهو عليه السلام توسل إلى ربه جل وعلا باحتياجه للخير أن ينزل عليه خيراً. ومن ذلك قول الداعي: اللهم إني ضعيف لا أتحمل عذاب القبر ولا عذاب جهنم فأنجني منهما، أو يقول: اللهم إني قد آلمني المرض فاشفني منه. ويدخل في هذا الاعتراف بالذنب وإظهار الحاجة لرحمة الله ومغفرته، كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . 7- التوسل بدعاء الصالحين رجاء أن يستجيب الله دعاءهم. وذلك بأن يطلب من مسلم حي حاضر أن يدعو له. كما في قول أبناء يعقوب عليهم السلام له: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [سورة يوسف: 97] ، وكما في قصة الأعرابي الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو بنزول المطر، فدعا صلى الله عليه وسلم"1"، وكما في قصة المرأة التي طلبت منه عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله لها بأن لا تتكشف"2"، وكما طلب عمر – ومعه الصحابة – في عهد عمر من   "1" رواه البخاري في الاستسقاء "1013"، ومسلم في الاستسقاء "897". "2" رواه البخاري في المرض "5652"، ومسلم في البر "2576". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 العباس أن يستسقي لهم، أي أن يدعو الله أن يغيثهم بنزول المطر"1". فهذه التوسلات كلها صحيحة؛ لأنه قد ثبت في النصوص ما يدل على مشروعيتها، وأجمع أهل العلم على ذلك"2". القسم الثاني: التوسل الممنوع لما كان التوسل جزءاً من الدعاء، والدعاء عبادة من العبادات، كما ثبت في الحديث: " الدعاء هو العبادة ""3"، وقد وردت النصوص الصحيحة   "1" رواه البخاري في الاستسقاء "1010"، ولفظه: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، قال: فيسقون. وسيأتي شرح هذا الحديث بشيء من التفصيل عند الكلام على التوسل الممنوع. "2" ينظر: رسالة التوسل والوسيلة "مجموع الفتاوى 1/288، 309-318،326-329، وينظر أيضاً: مجموع الفتاوى 27/131-133، الاقتضاء ص781-787، 793-796، الاختيارات ص84، الأذكار للنووي، كتاب جامع الدعوات، جلاء الأفهام، الباب الثالث ص70،71، جهود علماء الحنفية ص1459-1463، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع د. الطيار ص947-952"، مجموع فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 5/280-287، الدعاء للعروسي السوداني ص631-635، منهج الإمام مالك في بيان العقيدة ص317-323، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص202-205، التوسل للألباني ص31-54، التوصل إلى حقيقة التوسل للرفاعي الحلبي ص23-180. "3" سبق تخريجه في الباب السابق عند الكلام على الشرك في دعاء المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 الصريحة"1" بتحريم إحداث عبادة لم ترد في النصوص الشرعية، فإن كل توسل لم يرد في النصوص ما يدل على مشروعيته فهو توسل بدعي محرم، ومن أمثلة هذه التوسلات المحرمة: 1- أن يتوسل إلى الله تعالى بذات نبي أو عبد صالح، أو الكعبة، أو غيرها من الأشياء الفاضلة، كأن يقول:"اللهم إني أسألك بذات أبينا آدم عليه السلام أن ترحمني". 2- أن يتوسل بحق نبي أو عبد صالح أو الكعبة أو غيرها. 3- أن يتوسل بجاه نبي أو عبد صالح أو بركته أو حرمته أو بحق قبره ونحو ذلك. فلا يجوز للمسلم أن يدعو الله تعالى بشيء من هذه التوسلات، ولذلك لم يثبت في رواية صحيحة صريحة أن أحداً من الصحابة أو التابعين توسل إلى الله تعالى بشيء منها، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وقد نقلت عنهم أدعية كثيرة جداً، وليس فيها شيء من هذه التوسلات، وهذا إجماع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين على عدم مشروعية جميع هذه التوسلات"2".   "1" سبق ذكر هذه النصوص في بداية هذا الفصل. "2" وقد حكى إجماع الصحابة والتابعين على ترك هذه التوسلات جمع من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية "مجموع الفتاوى 1/202و27/83،85،133"، الاستغاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 ......................................................................   336،363،537. ونقل ابن القيم في إغاثة اللهفان 1/218 عن شيخه شيخ الإسلام أنه قال عند ذكره للبدع التي تفعل عند القبر:"المرتبة الثانية: أن يسأل الله تعالى به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين". وقال الشيخ محمد الشقيري المصري في القول الجلي في حكم التوسل بالنبي والولي ص55:"التوسل بحق النبي أو الولي أو بجاهه أو بركته، أو بحق قبره أو قبته، وهذا مذموم منهي عنه بلا نزاع". وقال محدث الشام محمد ناصر الدين الألباني في رسالة "التوسل" ص74،75 بعد ذكره ما صح عن عمر والصحابة من التوسل بدعاء العباس وما صح عن معاوية وأهل الشام من التوسل بدعاء يزيد بن الأسود وهو من التابعين، قال:"إن جريان عمل الصحابة على ترك التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم عند نزول الشدائد بهم – بعد أن كانوا لا يتوسلون بغيره صلى الله عليه وسلم في حياته – لهو من أكبر الأدلة الواضحة على أن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم غير مشروع، وإلا لنقل ذلك عنهم من طرق كثيرة في حوادث متعددة، ألا ترى إلى هؤلاء المخالفين كيف يلهجون بالتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم لأدنى مناسبة لظنهم أنه مشروع، فلو كان الأمر كذلك لنقل مثله عن الصحابة، مع العلم أنهم أشد تعظيماً ومحبة له صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، فكيف ولم ينقل عنهم ذلك ولا مرة واحدة، بل صح عنهم الرغبة عنه إلى التوسل بالصالحين". وينظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي سيأتي عند الكلام على رد الاستدلال بالاستسقاء بالعباس على التوسل الممنوع، وما ذكر من أن فعل عمر ومعه الصحابة يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 وهذا لا يدل على نقص مكانة أو جاه أحد من الأنبياء أو الصالحين بوجه من الوجوه، ومن ظن ذلك فقد وهم، فمكانة الأنبياء والصالحين كبيرة، وجاههم عظيم، ولكن جاههم منزلة لهم، خاصة بهم، وهم يشفعون في حياتهم في الدنيا وفي الآخرة لمن شاءوا"1" وليس هناك ما يدل   على إجماعهم على تحريم التوسل بالذات أو الحق أو الجاه ونحوها. وقد ذكر الشيخ جيلان العروسي السوداني ما يقرب من خمسة عشر دليلاً لتحريم هذا التوسل البدعي في كتاب الدعاء ص636-647. وقد نص على تحريم هذه التوسلات أو بعضها جم غفير من فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة، وغيرهم، وفي مقدمتهم أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف. ينظر على سبيل المثال لا الحصر كتاب بداية المبتدي مع شرحه الهداية ومع شرحهما البناية في الفقه الحنفي: كتاب الكراهية 11/277-281، صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان للسهسواني الهندي ص187-206، 273،274، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص213، جلاء العينين للألوسي الحنفي ص452، نقلاً عن جهود علماء الحنفية ص1485، فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز، جمع الطيار ص946، التوصل إلى حقيقة التوسل للرفاعي الحلبي ص186، جهود علماء الحنفية ص1123 وما بعدها، وينظر كلام ابن أبي العز الحنفي الذي سيأتي نقله قريباً. "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 27/133،134:"التوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم وبطاعتهم، كالصلاة والسلام عليهم، ومحبتهم وموالاتهم، أو بدعائهم وشفاعتهم، وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضي حصول مطلوب العبد وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم والمنزلة العالية، بسبب إكرام الله لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 على أن لغيرهم أن يتوسل إلى الله بذواتهم أو بجاههم"1"، وكذلك لا يجوز لأحد أن يقسم على الله في دعائه بأحد من خلقه؛ لأن القسم بغير الله لا   وإحسانه إليهم وفضله عليهم وليس في ذلك ما يقتضي إجابة دعاء غيرهم، إلا أن يكون بسبب منه إليهم، كالإيمان بهم والطاعة لهم، أو بسبب منهم إليه، كدعائهم له وشفاعتهم فيه، فهذان الشيئان يتوسل بهما، وأما الإقسام بالمخلوق فلا، وما يذكره بعض العامة من قوله: " إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم ". حديث كذب موضوع". "1" قال شيخ الإسلام في التوسل والوسيلة "مجموع الفتاوى 1/143":"وهو صلى الله عليه وسلم شفيع الخلائق، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فهو أعظم الشفعاء قدراً وأعلاهم جاهاً عند الله، وقد قال تعالى عن موسى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} وقال عن المسيح: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم جاهاً من جميع الأنبياء والمرسلين؛ لكن شفاعته ودعاؤه إنما ينتفع به من شفع له الرسول ودعا له، فمن دعا له الرسول وشفع له توسل إلى الله بشفاعته ودعائه، كما كان أصحابه يتوسلون إلى الله بدعائه وشفاعته، وكما يتوسل الناس يوم القيامة إلى الله تبارك وتعالى بدعائه وشفاعته صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً. ولفظ "التوسل" في عرف الصحابة كانوا يستعملونه في هذا المعنى". وقال شيخ الإسلام أيضاً في الاقتضاء ص786:"وأما إذا سُئل بشيء ليس سبباً للمطلوب: فإما أن يكون إقساماً عليه به، فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالاً بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة، فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وبكلماته التامة، ورحمته لهم أن ينعمهم ولا يعذبهم، وهم وجهاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 يجوز أصلاً"1"، فكيف بمن يقسم به على الله تعالى"2"، وأيضاً لا يجوز لأحد أن يسأل الله بحق فلان؛ لأن الحق لله على العباد، وليس للعباد حق على الله تعالى إلا ما أوجبه تعالى على نفسه من نصرة المؤمنين ومن عدم تعذيبه للمخلصين، وإثابته لهم واستجابته لدعائهم"3"، وإنما يجوز أن يتوسل إلى الله   عنده، يقبل من شفاعتهم ودعائهم ما لا يقبله من دعاء غيرهم. فإذا قال الداعي: أسألك بحق فلان، وفلان لم يدع له، وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته، بل بنفس ذاته، وما جعله له ربه من الكرامة لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب". وينظر: الدرر السنية 2/238، 239، التوسل للألباني"دفع توهم"ص84-87. "1" سيأتي الكلام على حكم الحلف بغير الله مفصلاً في الباب الثالث إن شاء الله تعالى. "2" ينظر: التعليق الآتي، ومثال القسم بالمخلوق في الدعاء أن يقول:"أقسم بفلان عليك يا رب أن تغفر لي"أو يقول:"أسألك بفلان أن ترحمني"إذا كانت الباء للقسم، أما إن كانت للسببية فهو توسل بالذات، ينظر: مجموع الفتاوى 1/205، 206، 239-245، الشرك ومظاهره للميلي ص211. "3" قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ص294-297:"وأما الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إلى الله تعالى في الدعاء، ففيه تفصيل: فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيك، أو بحق فلان، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته، فهذا محذور من وجهين: أحدهما: أنه أقسم بغير الله. والثاني: اعتقاده أن لأحد على الله حقاً. ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد على الله حق إلا ما أحقه على نفسه، كقوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم:47] . وكذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ - رضي الله عنه -: " أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 تعالى بمحبته للأنبياء والأولياء والصالحين، ونحو ذلك من التوسلات الجائزة التي سبق ذكرها.   أعلم. قال: " حقهم عليه أن لا يعذبهم "، فهذا حق وجب بكلماته التامة، ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئاً، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به، ولا أن يُسأل بسببه، ويتوسل به، لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً، فكأنه يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعائي، وأي مناسبة في هذا وأي ملازمة؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [سورة الأعراف:55] ، وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتبها الجهال والطرقية. والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والاتباع، لا على الهوى والابتداع، وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان، فذلك محذور أيضاً؛ لأن الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من حلف بغير الله فقد أشرك "، ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه - رضي الله عنهم -: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، والمشعر الحرام، ونحو ذلك". انتهى كلامه رحمه الله. وينظر: الاقتضاء ص785،786، الصواعق المرسلة الشهابية ص155-280، تصحيح الدعاء ص257-259، وينظر كلام البركوي الحنفي الذي سيتم نقله إن شاء الله تعالى في نهاية الكلام على هذه البدعة "التوسل البدعي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وليس للذين أجازوا التوسلات البدعية دليل صحيح يعتمد عليه، وقد احتجوا ببعض الأحاديث والآثار التي فيها الحث على التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاه غيره من الأنبياء، ولكنها كلها موضوعة أو واهية"1"، لا يعتمد عليها، كما احتجوا بحديث أبي سعيد، والذي فيه التوسل إلى الله تعالى بحق السائلين، وبحق المشي إلى المسجد"2"، وهو حديث ضعيف، وعلى   "1" ومن ذلك حديث: " إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم " وهو حديث موضوع لم يرد في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها في رواية الحديث، وأحاديث أخرى وآثار واهية أو موضوعة. ينظر: مجموع الفتاوى 1/252-264، 287،319، الاقتضاء ص792، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص208-216، التوسل للألباني ص108-144، التوصل إلى حقيقة التوسل ص246-331، الدعاء للعروسي السوداني، الباب الرابع الفصل الثاني. "2" رواه الإمام أحمد 3/21، وابن ماجه "778"، وابن السني "85" وغيرهم، كلهم من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد. وإسناده ضعيف، قال في التقريب عن عطية: "صدوق يخطئ كثيراً، وكان شيعياً مدلساً"، وكان يدلس تدليس الشيوخ، فيقول:"عن أبي سعيد"ليوهم الناس أنه سمعه من أبي سعيد الخدري، وهو إنما سمعه من الكلبي المتهم بالكذب، ينظر: تهذيب التهذيب 7/225،226. ولم يصرح عطية بالتحديث إلا في رواية موقوفة، والراوي عنه فضيل بن مرزوق، وهو صدوق يهم، وقد شك في بعض الروايات في رفع الحديث، وهذا كله يوهن هذا الإسناد. وقد ضعف هذا الحديث النووي في الأذكار "85"، والألباني في الضعيفة "24". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 فرض صحته فإن حق السائلين هو الإجابة من الله تعالى"1"، وحق المشي إلى المسجد هو الإثابة من الله تعالى"2"، والإجابة والإثابة صفتان من صفات الله تعالى، "3" والتوسل إلى الله بصفاته من التوسل المشروع كما سبق بيانه. كما احتجوا ببعض الأحاديث الصحيحة، ولكنها غير صريحة فيما ذهبوا إليه من جواز التوسل الممنوع"4".   وله شاهد لا يفرح به من حديث بلال، رواه ابن السني "84"، وإسناده ضعيف جداً، قال النووي في الأذكار "84":"أحد رواته الوازع بن نافع، وهو متفق على ضعفه، وأنه منكر الحديث". "1" كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر: 60] ، فهو حق وعد الله تعالى به عباده. وينظر: مجموع الفتاوى 1/341. "2" وهذا مقتضى عدله جل وعلا، وقد وعد سبحانه وتعالى من عبده وأخلص في عبادته أن لا يعذبه، كما في حديث معاذ في صحيح البخاري "5967"، وصحيح مسلم "30"، وسبق ذكر لفظه قريباً ضمن كلام ابن أبي العز الحنفي. "3" ينظر: مجموع الفتاوى 1/209، 288، 339، 341، و27/84، الاقتضاء ص796، 797، صيانة الإنسان للسهسواني الهندي ص195، الشرك للميلي الجزائري ص206،207، التوسل للألباني ص109. "4" ومن ذلك حديث عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال:" إن شئت صبرت وهو خير لك، وإن شئت دعوت "، فقال: ادعه. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين، ويدعو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 ......................................................................   بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في وشفعني فيه. رواه الإمام أحمد 4/138، والترمذي "3578"، وابن ماجه "1385"، والطبراني في الدعاء "1051" وغيرهم، وقد اختلف أهل العلم في تصحيحه، وقد توسعت في تخريجه في كتاب"أوقات النهي"ص246،247. ورواه الطبراني في الكبير "8311"، وفي الصغير 1/183، وابن السني "628" من طريق آخر، وفي أوله قصة لرجل مع عثمان بن عفان وعثمان بن حنيف. وإسناد هذه الرواية ضعيف. وقد توسع في الكلام عليها محدث الشام محمد ناصر الدين الألباني في رسالة التوسل ص92-99، والشيخ محمد نسيب الرفاعي الحلبي في التوصل ص241-245، وبيّنا علل هذه الرواية وعلى القول بصحة الرواية الأولى لهذا الحديث فإنه لا دلالة فيه على التوسل الممنوع، لأمور أهمها: 1- أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده أن يدعو له – أي يشفع له عند الله تعالى – والنبي صلى الله عليه وسلم لا يخلف وعده. 2- أن في الدعاء الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يدعو به: "اللهم فشفعه في " أي شفع نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم فيّ، والشفاعة عند الله هي الدعاء، فيكون المعنى: اقبل دعاءه فيّ أن ترد عليّ بصري. 3- أن في هذا الدعاء أيضاً قوله: " وشفعني فيه " أي اقبل دعائي في أن تقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لي. وهذه الأمور الثلاثة تدل على أن الأعمى إنما توسل إلى الله تعالى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 بل إن أصح الأحاديث التي احتجوا بها يدل على تحريم هذا النوع من التوسل، وهو توسل عمر والصحابة بالعباس رضي الله عنهم"1".   وأنه لم يتوسل إليه لا بذاته ولا بحقه ولا بجاهه صلى الله عليه وسلم. قال علامة الجزائر الشيخ مبارك الميلي في الشرك ص205 عند كلامه على هذا الحديث:"والتوجه بالنبي صلى الله عليه وسلم معناه التوجه بدعائه، دل على هذا المحذوف اختيار الأعمى لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تخييره له بينه وبين الصبر، وأمره للأعمى بالدعاء بعد دعائه صلى الله عليه وسلم، نظير ما أخرجه مسلم وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله مرافقته في الجنة: " أعنّي على نفسك بكثرة السجود ". فنصح لهم بعبادتي: الصلاة والدعاء، لمناسبتهما للمطلوب". وينظر أيضاً: التوسل والوسيلة "مجموع الفتاوى 1/265-285،323-326"، الاقتضاء ص792، السنن والمبتدعات للشقيري المصري: صلاة الحاجة ص125،126، صيانة الإنسان للسهسواني الهندي ص195، التوسل للألباني ص75-83، التوصل للرفاعي الحلبي ص236-240. "1" سبق تخريج هذا الحديث وذكر لفظه عند ذكر التوسل المشروع. وهذا الحديث يدل على عدم مشروعية هذا التوسل، لأنه لو كان جائزاً لما عدل عمر عن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلمإلى جاه العباس رضي الله عنه؛ لأن جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم؛ ولأن جاهه صلى الله عليه وسلم لا ينقص بعد موته، وقد نص عمر في دعائه على العدول عن التوسل بالفاضل إلى المفضول، فدل قطعاً على أن التوسل بالفاضل– وهو النبي صلى الله عليه وسلم– بعد وفاته غير ممكن، لا بدعائه، لوفاته صلى الله عليه وسلم، ولا بذاته أو حقه أو جاهه، لتحريمها، ومن ظن أن جاه النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته وقدره قد نقص بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وأن عمر والصحابة إنما عدلوا إلى العباس من أجل ذلك، فقد أخطأ خطأ فاحشاً، يجب عليه أن يتوب منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 .....................................................................   قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التوسل والوسيلة "مجموع الفتاوى 1/284،285" بعد ذكره لدعاء عمر المذكور في هذا الحديث والذي أقره عليه المهاجرون والأنصار، قال:"وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس، فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم به في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟ فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به، لا بذاته". وقال ابن أبي العز الحنفي عند ذكره لأنواع التوسل في شرح الطحاوية ص298: "وتارة يقول: بجاه فلان عندك، أو يقول: نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك، ومراده: لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة، فأجب دعاءنا، وهذا أيضاً محذور، فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صلى الله عليه وسلم، قال عمر – رضي الله عنه – لما خرجوا يستسقون-: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. معناه بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك، إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 ولما أعرض كثير من المسلمين عن التوسلات الشرعية التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم   وقال السهسواني الهندي في صيانة الإنسان ص213:"ولم يرد في حديث ضعيف، فضلاً عن الحسن أو الصحيح أن الناس طلبوا السقيا من الله في حياته - أي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - متوسلين به صلى الله عليه وسلم من غير أن يفعل صلى الله عليه وسلم ما يفعل في الاستسقاء المشروع من طلب السقيا والدعاء والصلاة وغيرهما مما ثبت بالأحاديث الصحيحة، ومن يدعي وروده فعليه الإثبات» . ومما يدل على أن الصحابة في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أشار إليه عمر في هذه الرواية إنما هو التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم: رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث، ولفظها:"كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به، فيستسقي لهم، فيسقون، فلما كان في إمارة عمر … "فقوله في هذه الرواية:"فيستسقي لهم"صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهم، فالاستسقاء هو الدعاء بأن يسقيهم الله تعالى. ومما يدل أيضاً على أنهم إنما توسلوا بدعاء العباس - رضي الله عنه - أنه قد روى الزبير بن بكار صفة استسقاء العباس رضي الله عنه لما طلب منه عمر ذلك، وهو أن العباس – رضي الله عنه – قال:"اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث". ينظر: فتح الباري لابن حجر 2/495، 497، وينظر: الاستغاثة ص537، ومجموع الفتاوى 1/201،202،314-319، و27/85،86، الاقتضاء ص793، صيانة الإنسان للسهسواني الهندي ص202،213، الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص205،206، التوسل للألباني ص55-74، التوصل إلى حقيقة التوسل للرفاعي الحلبي ص173-177، 261-266. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 وقدموا عليها التوسلات البدعية، فدعوا الله تعالى بما لم يشرعه من التوسل المحرم، وكان بعضهم يذهب إلى القبر ويتوسل إلى الله بجاه أو بذات صاحب القبر، أدى ذلك بكثير منهم وكثير ممن قلدهم واغتر بفعلهم إلى الوقوع في التوسل الشركي"1"، المخرج من الملة، فأصبحوا يدعون الأموات مباشرة، ويطلبون منهم جلب الخير ودفع الضر، أو يطلبون منهم أن يشفعوا لهم عند الله تعالى"2".   "1" وتسمية هذا النوع توسلاً إنما أطلقها بعض المتأخرين، وإلا فهو في حقيقته استغاثة بالميت. ينظر: مجموع الفتاوى 1/143، وقال الشيخ شمس الدين الأفغاني في جهود الحنفية ص1484:"توسل القبورية نوعان: الأول: ما فيه خطاب للميت وطلب منه، فهذا وأمثاله ليس من التوسل بالميت لغة، بل هو استغاثة بالميت وطلب منه، وهو إشراك صريح بالله تعالى"انتهى بحروفه مختصراً. وينظر المرجع نفسه ص1479-1483، والدعاء للعروسي ص629. "2" قال البركوي الحنفي المتوفى سنة "981هـ" في زيارة القبور ص47، 48:"والمقصود أن الشيطان يلطف كيده للإنسان بتحسين الدعاء له عند القبر وجعله أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار. فإذا قرر ذلك عنده نقله درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء بصاحب القبر والإقسام على الله تعالى به، وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأنه تعالى أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه … فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله تعالى به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنجح في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله تعالى والنذر له". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 ولذلك كله ينبغي للمسلم البعد عن هذه التوسلات البدعية التي لم ترد أدلة صحيحة صريحة تدل عليها، والتي أعرض عنها جميع الصحابة والتابعين، وجزم بتحريمها جماهير السلف والخلف، وأقل أحوالها عند من يسهل في أمرها أنها من المشتبهات، ومن ابتعد عن الشبهات فقد استبرأ لدينه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلم يقدم عليها الأدعية الكثيرة الثابتة في كتاب الله تعالى وفي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وعن صحابته - رضي الله عنهم – فلا يزاحم الأدعية النبوية بهذه التوسلات، ولا يقدمها عليها، بل السلامة – فضلاً عن رجاء الإجابة – في الإعراض عن هذه التوسلات. ثم إنه قد ثبت في السنة أن هناك أسباباً أخرى كثيرة لإجابة الدعاء"1"، وثبت في القرآن والسنة أن هناك أسباباً كثيرة لمغفرة الذنوب، وأن يحصل للإنسان ما أهمه، فيحقق الله له ما يرجوه من مرغوب ويدفع عنه ما   وينظر: إغاثة اللهفان 1/216،217، معارج الألباب للنعمي اليماني ص192-194، وقد سبق بيان الدعاء الشركي في المبحث الأول من هذا الفصل. "1" ومن ذلك اختيار الأزمان والأماكن التي يستجاب فيها الدعاء، كثلث الليل الآخر، وآخر ساعة من يوم الجمعة، وحال السجود، وغيرها، ومن ذلك فعل ما هو سبب لإجابة الدعاء، كالمكسب الحلال، والبعد عن المكسب الحرام. ينظر في تفصيل هذه الأسباب: كتاب الدعاء للطبراني، والدعوات للبيهقي، والترغيب للمنذري: الذكر والدعاء، وتحفة الذاكرين للشوكاني، الباب الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 يخشاه من مرهوب، ومن أعظم هذه الأسباب تقوى الله تعالى"1"، والإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"2"، فينبغي للمسلم أن يقدمها على تلك التوسلات البدعية.   "1" قال الله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:29] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وينظر ما سبق ذكره عند الكلام على الأصل الأول من أصول العبادة. "2" روى الإمام أحمد 5/136، والترمذي "2457"، والحاكم 2/421 عن أبي بن كعب رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام، فقال: " يا أيها الناس اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه ". قال أبي بن كعب: قلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال - أي قال أبي بن كعب -: قلت الربع؟ قال: " ما شئت، فإن زدت فهو خيرٌ لك ". قلت: النصف؟ قال: " ما شئت، فإن زدت فهو خيرٌ لك "، قلت: فالثلثين؟ قال:"ما شئت، فإن زدت فهو خيرٌ لك". قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: " إذن تكفى همك ويغفر لك ذنبك ". وإسناده قريب من الحسن، وقد حسنه الألباني في الصحيحة "954". ولموضع الشاهد منه شاهد عند يعقوب في المعرفة 1/389، والبيهقي في الشعب "1580" عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلاً مختصراً، وهو مرسل صحيح الإسناد، رجاله رجال الصحيحين، ووصله الطبراني "3574"، وحسن إسناده المنذري "2482"، والهيثمي 10/160، فالحديث بمجموع الروايتين صحيح. والراجفة والرادفة هما نفختا الصور، ومعنى"من صلاتي"أي من دعائي. ينظر: تفسير ابن جرير لسورة النازعات، والترغيب للمنذري، ومجموع الفتاوى 1/349. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 البدعة الثانية: إقامة الأعياد والاحتفالات البدعية شرع الله تعالى لأهل الإسلام عيدين يفرحون فيهما بما أنعم الله به عليهم من إدراك المواسم الفاضلة، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى"1"، كما شرع لهم عيداً ثالثاً وهو يوم الجمعة، وهو يتكرر في كل أسبوع يجتمع فيه المسلمون لصلاة الجمعة وسماع الذكر في خطبتها – وهو عيد نسبي"2"- فلا يجوز للمسلمين التعبد لله تعالى بإحداث أعياد واحتفالات أخرى تتكرر بتكرر الأيام أو الشهور أو السنين"3".   "1" ويلحق بعيد الأضحى يوم عرفة وأيام التشريق. ينظر: لطائف المعارف: وظائف شهر ذي الحجة: المجلس الثاني ص287. "2" وهو أفضل أيام الأسبوع، ويأتي في آخر الأسبوع بعد إكمال الصلوات المكتوبات التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين في الأيام التي قبله، ولذلك نهي عن تخصيصه بالصوم. ينظر: المرجع السابق ص286، 287. "3" ينظر: الاقتضاء ص634-636. أما الاحتفالات التي لا يتعبد لله بها، والتي حدث كثير منها في هذه العصور تقليداً للكفار، والتي تسمى"أعياداً"أو"يوماً"أو"أسبوعاً"فللعلماء فيها كلام وتفصيل. ينظر: فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 3/51، 106-122، فتاوى شيخنا عبد العزيز ابن باز "جمع د. الطيار ص894"، وفتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع فهد السليمان2/300-303"، وفتاواه "جمع أشرف بن عبد المقصود 1/130،131"، القول المفيد، باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم هو الغلو في الصالحين 1/387، رسالة "عيد اليوبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 فلا يجوز تخصيص شيء من الأزمنة، سواء من الليالي، أم الأيام، أم الشهور، أم السنين بعبادة أو عبادات معينة لم يرد في الشرع تخصيصها بها، سواء أكانت هذه الأزمان أزماناً فاضلة أم لا؛ لأن ذلك من البدع المحدثة، ولذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من سلف هذه الأمة تخصيص ليلة معينة بعبادة معينة، وهذا إجماع منهم على عدم مشروعيته"1"، بل إنه قد جاء عن بعض الصحابة الإنكار على من خص   للشيخ بكر أبو زيد، رسالة "أعياد الكفار" للشيخ إبراهيم الحقيل ص54،55، 68-71. "1" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص581،603:"ومن المنكرات سائر الأعياد والمواسم المبتدعة، فإنها من المنكرات المكروهات، سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه، وذلك أن أعياد أهل الكتاب نهي عنها لسببين: أحدهما: أن فيها مشابهة للكفار، والثاني: أنها من البدع. فما أحدث من المواسم والأعياد هو منكر، وإن لم يكن فيها مشابهة لأهل الكتاب، لوجهين: أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع المحدثات … الثاني: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين. واعلم أنه ليس كل أحد، بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذا النوع من البدع، لا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة، بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد. والواجب على الخلق: اتباع الكتاب والسنة، وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة"ثم ذكر لها مفاسد كثيرة ص634-636. وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف: وظيفة رجب ص123: "يشبه الذبح في رجب اتخاذه موسماً وعيداً كأكل الحلوى ونحوها، وقد روي عن ابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 بعض الشهور بعبادة معينة، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم"1". وقد أحدث كثير من المسلمين في العصور المتأخرة أعياداً واحتفالات وعبادات في كثير من الأزمان، مع أنه لم يرد دليل صحيح يدل على مشروعيتها، وهذه الأزمنة ثلاثة أنواع: النوع الأول: يوم لم تعظمه الشريعة أصلاً، ولم يحدث فيه حادث له شأن، مثل أول خميس من رجب، وليلة الجمعة التي تليه، فهذا اليوم وهذه الليلة يعظمها بعض الجهال، بصيام نهار ذلك الخميس، وقيام هذه الليلة التي تليه، ويصلون فيها صلاة يسمونها صلاة الرغائب، وكل هذا لا دليل عليه، وهو من البدع المحرمة، وإنما أحدثت هذه الصلاة بعد   -رضي الله عنهما– أنه كان يكره أن يتخذ رجب عيداً، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن صيام رجب كله لئلا يتخذ عيداً، وعن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا شهراً عيداً ولا يوماً عيداً "، وأصل هذا أنه لا يشرع أن يتخذ المسلمون عيداً إلا ما جاءت الشريعة باتخاذه عيداً، وهو يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق، وهي أعياد العام ويوم الجمعة وهو عيد الأسبوع، وما عدا ذلك فاتخاذه عيداً وموسماً بدعة لا أصل له في الشريعة"، وينظر: المراجع المذكورة في التعليق السابق. "1" ينظرما سيأتي من إنكار عمر على من صام رجب، وفي ذلك أيضاً آثار عن السلف، يأتي بعضها في التعليق المذكور بعد تعليقين، إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 الأربعمائة"1"، وقد وضع بعضهم حديثاً في فضلها، وهو حديث موضوع بإجماع أهل العلم"2"، وقد وردت أيضاً أحاديث في فضل صيام بعض أيام رجب، ووردت كذلك أحاديث في فضل الصلاة في بعض أيام أو ليالي رجب، وكل هذه الأحاديث ضعيفة أو موضوعة"3"، وقد ثبت عن بعض   "1" الحوادث والبدع للطرطوشي ص132، الباعث ص42، لطائف المعارف ص123، الأمر بالاتباع للسيوطي ص77،78. "2" ينظر في بيان وضع هذا الحديث: الباعث ص61، الاقتضاء ص617، المنار المنيف ص95-97، لطائف المعارف ص123، تبيين العجب ص54، الأمر بالاتباع ص77،78، المدخل ص426-450، الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص47-50، إصلاح المساجد ص98، السنن والمبتدعات ص140. "3" وقد ألف بعض أهل العلم مؤلفات مستقلة في بيان ضعف أو وضع هذه الأحاديث، وبيان بدعية تخصيص شيء من أيام شهر رجب بصيام أو عبادة معينة، وبدعية تخصيص شيء من ليالي هذا الشهر بقيام أو عبادة معينة. ومن هذه المؤلفات"الباعث على إنكار البدع والحوادث"لأبي شامة الشافعي،"تبيين العجب فيما ورد في شهر رجب"للحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي، رسالة العز بن عبد السلام في الرد على من أجاز صلاة الرغائب، وهي مطبوعة، وطبع معها فتوى للشيخ زكريا الأنصاري الشافعي، وفتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وفتوى للنووي الشافعي، وفتوى لتلميذه علي بن إبراهيم العطار. وتكلم عن ذلك أيضاً بعض العلماء ضمن مؤلفاتهم، ومن هذه المؤلفات المراجع المذكورة في التعليقين السابقين وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 الصحابة النهي أو الكراهة لتعظيم رجب بصيام أو غيره، وثبت عن بعضهم أن تعظيم شهر رجب من عمل أهل الجاهلية"1" فمن عظمه فقد اقتدى بهم. النوع الثاني: الأيام والليالي التي جاء في الشرع ما يدل على فضلها، مثل يوم عرفة، ويومي العيدين، ويوم عاشوراء، وليلة القدر، وليلة النصف من   قال الحافظ ابن حجر الشافعي في تبيين العجب ص23:"لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيام شيء منه معين ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره". "1" روى ابن أبي شيبة في مصنفه: صوم رجب 3/102 بإسناد صحيح رجاله رجال الصحيحين عن خرشة بن الحر قال: رأيت عمر يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان، ويقول: كلوا، فإنما هو شهر يعظمه أهل الجاهلية. ورواه سعيد بن منصور كما في تبيين العجب ص70. وروى ابن أبي شيبة أيضاً في الموضع السابق بإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيحين عن ابن عمر أنه إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كره ذلك. وروى عبد الرزاق: صيام الأشهر الحرم "7854" عن ابن عباس أنه كان ينهى عن صيام رجب كله لئلا يتخذ عيداً. ورجاله ثقات، رجال الصحيحين، وقد صححه الحافظ ابن حجر في تبيين العجب ص70. وينظر: الحوادث والبدع للطرطوشي المالكي ص140،141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 شعبان"1"، فهذه الأوقات يستحب أن يفعل فيها من العبادات ما ورد في الشرع ما يدل على مشروعيته فيها، ولا يجوز فيها إحداث عبادات ليس لها أصل في الشرع، كصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان"2" التي أحدثت   "1" ورد في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث كثيرة في أن الله تعالى يغفر فيها لكثير من عباده ذنوبهم، إلا من كان مشركاً أو مشاحناً. وهو صحيح بمجموع طرقه، ينظر في الكلام على هذا الحديث: صحيح ابن حبان "5665"، الاقتضاء ص631، لطائف المعارف ص143، السلسلة الصحيحة "1144". "2" وهي أن يصلي مائة ركعة، يقرأ في كل ركعة الفاتحة ثم يقرأ بعدها "قل هو الله أحد" عشر مرات، فتتكرر ألف مرة، لذلك سميت"الألفية"، ولم يرد في مشروعيتها سوى حديث موضوع، وكذلك لا يشرع تخصيص يومها بالصوم أو الاحتفال في يومها أو ليلتها، ولا يشرع كذلك تخصيصها بصلاة نافلة جماعة، أو بعبادة معينة تتكرر في كل عام. ينظر"ما جاء في البدع"لابن وضاح المالكي ص100، الباعث لأبي شامة الشافعي ص51-59، الحوادث والبدع للطرطوشي المالكي ص128-133، الاقتضاء ص632، المنار المنيف في الصحيح والضعيف للحافظ ابن القيم الحنبلي ص98، 99، لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص144-147، الأمر بالاتباع للسيوطي الشافعي ص79-84، الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للقاري الحنفي ص272، الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني ص50، 51، إصلاح المساجد لعلاّمة الشام القاسمي ص99، السنن والمبتدعات للشقيري المصري ص145، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع دار الإفتاء 1/191-197". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 في القرن الخامس الهجري"1"، وكالتعريف بالأمصار في يوم عرفة"2"، وكالاحتفال في يوم عاشوراء"3"، كما لا يجوز للمسلم تخصيص شيء من   "1" المنار المنيف ص99، إصلاح المساجد ص99. "2" الاجتماع في مساجد الأمصار بعد عصر يوم عرفة للدعاء أو الذكر الجماعي، ومثله إنشاد الشعر، كل هذا من البدع، ومثله السفر إلى غير عرفات، كالسفر إلى مسجد بيت المقدس أو غيره من أجل الجلوس فيه بعد العصر من يوم عرفة للدعاء والذكر. أما جلوس غير الحاج في مسجد بلده عشية عرفة للدعاء والذكر بمفرده فهذا اختلف فيه أهل العلم، وقد أنكره بعض التابعين وبعض السلف كالإمام مالك. ينظر: مصنف ابن أبي شيبة "الجزء المفقود ص310، 311"، سنن البيهقي 5/117،118، ما جاء في البدع لابن وضاح ص102، الحوادث والبدع للطرطوشي ص126-128، الاقتضاء ص643، الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة ص29-32، لطائف المعارف: عشر ذي الحجة ص283، هداية السالك، الباب 11 ص1037، المجموع للنووي 8/116،117، الإيضاح له: آخر الباب الرابع ص305،306، الشرح الكبير والإنصاف ومنار السبيل: آخر باب العيدين، الأمر بالاتباع للسيوطي ص85-87، تصحيح الدعاء: تصحيح الدعاء الزماني ص113. "3" لم يثبت في فضل عاشوراء سوى الندب إلى صومه؛ لأن الله تعالى نجى فيه موسى عليه السلام وقومه. وقد جعل الرافضة المنتسبون إلى التشيع هذا اليوم مأتماً، وذلك لأن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- قتل فيه، وقابلهم بعض الناصبة وبعض الجهال، فجعلوا هذا اليوم يوم فرح، ووضع بعضهم فيه أحاديث، وورد حديث ضعيف في فضل التوسيع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 هذه الأوقات الفاضلة بعبادة يكررها كلما جاء هذا الوقت الفاضل مما لم يرد في الشرع ما يدل على تخصيصها بها، كتخصيص ليلة القدر بعمرة أو بذكر خاص أو بصلاة خاصة يكررها في كل عام"1". النوع الثالث: الأيام والليالي التي حدثت فيها حوادث مهمة، ولكن لم يأت في الشرع ما يدل على فضلها أو على مشروعية التعبد لله أو الاحتفال فيها. ومن هذه الأوقات: الليلة التي يقال: إنه حصل فيها الإسراء والمعراج لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يثبت في تحديد هذه الليلة شيء"2".   الأهل فيه، واغتر بعض المنتسبين إلى السنة ممن قلت بضاعتهم في معرفة صحيح السنة من سقيمها بهذه الأحاديث والآثار فقالوا بذلك، وهذا كله بلا شك من البدع المحرمة، كما أن جعل أيام المصائب مآتم محرم، وهو من عمل أهل الجاهلية، ينظر ما جاء في البدع لابن وضاح ص95، مجموع الفتاوى 25/307-314، الأمر بالاتباع ص88،89، لطائف المعارف ص52،53، السنن والمبتدعات، الباب22، ص134، تصحيح الدعاء ص109. "1" لم يثبت في ليلة القدر ذكر خاص سوى دعاء: " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني "، أما ما أحدثه بعضهم من صلاة خاصة بهذه الليلة فهو من البدع المحرمة، ينظر: الأذكار للنووي ص163، لطائف المعارف ص217-220، السنن والمبتدعات ص156. "2" فالإسراء والمعراج ثابتان، أما تحديد يوم معين لوقت الإسراء والمعراج فلم يرد في ذلك حديث صحيح ولا ضعيف، وليس هناك ما يعتمد عليه في تحديد الشهر الذي حدثا فيه، وقد اختلف في ذلك على أكثر من عشرة أقوال، كما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ومن هذه الليالي أيضاً الليلة التي يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيها، مع أنه لم يثبت في تحديد شهر ولادته ولا يومها شيء يعتمد عليه، بل في ذلك خلاف مشهور"1"، وقد جزم وقطع العبيديون الرافضة في القرن الرابع   الشافعي، وكثير من الجهال يعتقدون أن الإسراء والمعراج حصل في ليلة سبع وعشرين من شهر رجب، ويعملون فيها أموراً محدثة، كتخصيصها بدعاء معين وصلاة معينة، وتخصيصها بقراءة قصة الإسراء والمعراج فيها، أو الاحتفال وتعطيل الأعمال في يومها. وكل هذا من البدع المحرمة. قال أبو شامة الشافعي في الباعث ص71:"وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب، وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب "، وقال الشيخ بكر أبو زيد في تصحيح الدعاء ص111: "وليعلم أن تحديد الإسراء والمعراج في هذا التاريخ هو أضعف الأقوال"وينظر: شرح النووي لصحيح مسلم: الإيمان باب الإسراء 2/209، تبيين العجب بما ورد في شهر رجب لابن حجر، ومقدمة محققه طارق الدارعمي ص9-23، زاد المعاد 1/57-59، السيرة النبوية لابن كثير 2/81، فتح الباري 7/203، شرح الحديث "3887"، لطائف المعارف ص126، فتاوى الشيخ ابن باز "جمع دار الإفتاء 1/188-190"، فتاوى الشيخ ابن عثيمين "جمع أشرف بن عبد المقصود1/130". "1" فقد قيل إنه صلى الله عليه وسلم ولد في شهر رمضان، وقيل: في شهر رجب، وقيل في شهر ربيع الأول، وقد اختلف القائلون بأنه ولد في شهر ربيع الأول في تحديد يوم ولادته، فقال بعضهم: في اليوم الثاني منه، وقيل: في الثامن، وقيل: في العاشر، وقيل: في الثاني عشر، وقيل: في السابع عشر، وقيل: الثامن عشر، وقيل: في الثاني والعشرين، وليس على شيء منها دليل يعتمد عليه. ينظر: الطبقات الكبرى 1/100، 101، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 الهجري أن مولده صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، مع أنه ليس هناك ما يرجح هذا القول. وهذا الشهر قد أصيبت فيه الأمة الإسلامية بأعظم مصيبة، وهي وفاته صلى الله عليه وسلم"1"، فقد كانت وفاته عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول بلا خلاف. بل إن العبيديين اختاروا يوم الثاني عشر منه، فأقاموا فيه احتفالاً وقت حكمهم لمصر زعموا أنه من باب الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم، مع أن هذا اليوم هو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم في قول عامة أهل العلم"2".   السيرة لابن هشام 1/158، تاريخ الإسلام "السيرة ص25،26"، لطائف المعارف ص95، البداية والنهاية 3/373-380، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع فهد السليمان 2/298" "1" فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها أعظم المصائب "رواه ابن ماجه "1599" متصلاً بإسناد فيه ضعف، ورواه الدارمي "85، 86"، وابن سعد 2/75 من طريقين صحيحين مرسلين، فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن، وقد صححه الألباني في الصحيحة "1106". "2" ينظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/272-275، تاريخ الإسلام للذهبي الشافعي "السيرة ص568-571"، فتح الباري لابن حجر الشافعي: المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته 8/129، 130، البداية والنهاية 3/373-380، لطائف المعارف للحافظ ابن رجب: المجلس الثاني في ذكر المولد ص97، 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وكان كثير من هؤلاء العبيديين من الملاحدة الحاقدين على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ادعى بعضهم الألوهية، وعلى رأسهم الحاكم بأمر الله العبيدي الذي يؤلهه الدروز إلى الآن"1"، ومنهم أو من أتباعهم: القرامطة، الذين قتلوا الحُجَّاج في عرفات وعند الكعبة المشرفة، وهدموا جزءاً من الكعبة، وأخذوا الحجر الأسود منها، ولم يعيدوه إلا بعد عدة سنوات"2". والعبيديون هم أول من أقام الاحتفال بالمولد في القرن الرابع الهجري، وكان ذلك سنة 363هـ أثناء حكمهم لمصر"3".   "1" قال الإمام الذهبي الشافعي في ترجمته في سير أعلام النبلاء 15/173:"صاحب مصر، الحاكم بأمر الله العبيدي، المصري، الرافضي، بل الإسماعيلي، الزنديق، المدعي الربوبية"وينظر: البداية والنهاية "حوادث سنة 411هـ، 15/582-584". "2" وكان قائدهم وقتئذ: أبو طاهر القرمطي، وكان ينشد وهو يقتل الناس عند الكعبة: أنا بالله وبالله أنا ... يخلق الخلق وأفنيهم أنا ينظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير 8/207، 208، البداية والنهاية "حوادث سنة 317هـ، 15/37-41"، لطائف المعارف: المجلس الثاني في ذكر المولد ص96، 97. "3" ينظر: "تاريخ الاحتفال بالمولد» للسندوبي ص62، والسندوبي من الصوفية الذين يرون جواز الاحتفال في هذا اليوم، ومع ذلك أقر بأن العبيديين هم أول من أحدثه، ومثله علي محفوظ في كتاب الإبداع في مضار الابتداع ص251، وينظر"عيد اليوبيل"لبكر أبو زيد ص16، وينظر ما يأتي قريباً من حكاية الإجماع على أن السلف لم يفعلوه، والنقل عن جمع من أهل العلم في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 فلا يُبعد أن هؤلاء العبيديين المنحرفين الذين يجزم بأن بعضهم يبغض النبي صلى الله عليه وسلم قد اختاروا شهر ويوم وفاته صلى الله عليه وسلم وقتاً لهذا الاحتفال، فرحاً بوفاته صلى الله عليه وسلم، وأظهروا للناس أنه للفرح بولادته عليه الصلاة والسلام. وقد اتفق أهل العلم على أن السلف الصالح من أهل القرون الثلاثة المفضلة، وفي مقدمتهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا هذا الاحتفال، ولذلك لم ينقل فعله ولا القول بمشروعيته عن أحد من أهل القرون الثلاثة المفضلة، مع شدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وحرصهم على الخير"1".   وقد ذهب السيوطي في"حسن المقصد"ص189، وتبعه في ذلك بعض المعاصرين إلى أن أول من عمله السلطان كوكبري الأيوبي المتوفى سنة "630هـ"، وهذا وَهْمٌ منه؛ لأنه قد أحدث قبله، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ولكن هذا السلطان اهتم به اهتماماً عظيماً وعمل فيه سماعاً للصوفية، وكان يرقص معهم بنفسه، ينظر: البداية والنهاية 17/205، 206. "1" وقد حكى هذا الإجماع جمع من أهل العلم ممن يرى تحريم هذا الاحتفال، ووافقهم على حكاية إجماع السلف على ترك الاحتفال بالمولد جميع من كتب عنه ممن يرى إباحته. قال الإمام الفاكهاني المالكي في المورد في عمل المولد ص8-10:"لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكَّالون … لم ياذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون –فيما علمت– وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن سئلت عنه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 ......................................................................   وقال ابن الحاج المالكي المتوفى سنة "738هـ" بعد ذكره لكثير من المفاسد التي أحدثها الناس لما عملوا المولد في كتابه: المدخل: فصل في المولد 1/234،235:"وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع، فإن خلا منه وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ إن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى، بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه؛ لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له ولسنته صلى الله عليه وسلم، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك. ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما وسعهم". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 25/298:"أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال – الذي يسميه الجهال: عيد الأبرار – فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها". وقال الحافظ ابن حجر الهيثمي المصري الشافعي – وهو ممن لا يرى تحريم عمل المولد "نقلاً عن حسن المقصد للسيوطي" 1/196 قال:"أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن السلف الصالح من القرون الثلاثة". وقال الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري المصري في السنن والمبتدعات ص139: "اتخاذ مولده موسماً والاحتفال به بدعة منكرة ضلالة، لم يرد بها شرع ولا عقل، ولو كان في هذا خير فكيف يغفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة وأتباعهم، لا شك أنه ما أحدثه إلا المتصوفون الأكالون أصحاب البدع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 وهذا إجماع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجميع سلف هذه الأمة على عدم مشروعيته، وعلى عدم مشروعية جميع الاحتفالات المحدثة. ولما قلد كثير من المسلمين هؤلاء الشيعة العبيديين في إقامة الاحتفالات في هذا اليوم، وقلدوا النصارى الذين غلوا في عيسى عليه السلام حتى عبدوه وأقاموا احتفالات بذكرى مولده أدى بهم ذلك إلى الوقوع في بدع أخرى، كبدعة القيام أثناء إقامة هذا الاحتفال ظناً من بعض الجهال أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر هذه الاحتفالات، وهذا من الكذب الذي يفتريه بعض   وتبع الناس بعضهم بعضاً فيه إلا من عصمه الله ووفقه لفهم حقائق دين الإسلام". وقال علامة مصر رشيد رضا كما في فتاواه 4/1242،1243: "هذه الموالد بدعة بلا نزاع، وأول من ابتدع الاجتماع لقراءة قصة المولد النبوي أحد ملوك الشراكسة بمصر". وقال شيخنا محمد بن عثيمين في القول المفيد، باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم الغلو في الصالحين 1/386،387: "الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم علىالوجه المعروف بدعة ظاهرة؛ لأنه لم يكن معروفاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه". وينظر أيضاً في ذكر الإجماع على عدم فعل الصحابة للمولد، وأن ذلك دليل على أنه بدعة محرمة: فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز، جمع الإفتاء 1/185، 230، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين "جمع أشرف بن عبد المقصود 1/127"، الرد القوي للشيخ حمود التويجري 1/70، الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف لإسماعيل الأنصاري 1/358، 359، القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل لأبي بكر الجزائري 2/429، عيد اليوبيل لبكر أبو زيد ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 من يدعي العلم ممن يقومون على هذه الاحتفالات، فيصدقهم الجهال"1"، وكبدعة الذكر الجماعي وضرب الطبول وغيرها من المحرمات"2". بل إن إقامة هذه الاحتفالات المحدثة أدت بكثير ممن أقامها إلى الوقوع في الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وإعطائه بعض صفات الله تعالى التي لا يشاركه فيها غيره، كعلم الغيب، والنفع والضر وغير ذلك، وكثير منهم يتلو في هذا الاحتفال قصيدة البوصيري مع أن فيها شركاً صريحاً"3"، وهكذا تفعل جميع البدع بأصحابها، وهذا هو مصداق قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة "، فهي ضلالة وتؤدي إلى ضلالة.   "1" قال شيخنا عبد العزيز بن باز كما في مجموع فتاواه "جمع الإفتاء1/186،187": "بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد، ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل، واقبح الجهل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم". وينظر المرجع نفسه 1/232،233، الفتاوى الحديثية لابن حجر المكي الشافعي ص60. "2" ينظر في بيان هذه البدع والمحرمات المدخل لابن الحاج المالكي 1/229-239، ورسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي، والسنن والمبتدعات للشقيري ص139، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق" ينظر: رسالة "حكم الاحتفال بالمولد"1/34. "3" قال الشيخ محمد بن عثيمين كما في فتاواه "جمع أشرف بن عبد المقصود 1/127، 128" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وبالجملة فإنه ينبغي للمسلم الذي يحب الله تعالى، ويحب نبيه صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحب نفسه وولده أن يسير على خطى ومنهج الحبيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم -فداه أبي وأمي– وأن يكثر من قراءة وحفظ الكتاب الذي أنزل عليه ومن حفظ وتدارس سنته وسيرته في كل أيام وليالي العام، وأن يكثر من الصلاة والسلام عليه في جميع الأوقات"1"، وبالأخص في كل يوم جمعة وليلتها من كل أسبوع"2".   بعد ذكره لبعض الشركيات التي ذكرها البوصيري في بردته، ومنها: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم قال: "وأنا أعجب لمن يتكلم بهذا الكلام إن كان يعقل معناه كيف يُسوّغ لنفسه أن يقول مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام: فإن من جودك الدنيا وضرتها. ومِنْ للتبعيض، والدنيا هي الدنيا وضرتها هي الآخرة، فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس كل جوده، فما الذي بقي لله عز وجل، ما بقي له شيء من الممكن لا في الدنيا ولا في الآخرة. وكذلك قوله: ومن علومك علمُ اللوح والقلم. ومِنْ: هذه للتبعيض، ولا أدري ماذا يبقى لله تعالى من العلم إذا خاطبنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب". "1" ينظر ما سبق في آخر مسألة التوسل من أن الإكثار من الصلاة عليه – عليه الصلاة والسلام – في الدعاء من أسباب استجابة الدعاء ومغفرة الذنوب. "2" فقد ورد في فضل الإكثار من الصلاة والسلام عليه في هذا اليوم عدة أحاديث تنظر في صحيح ابن حبان "910"، 3/190-193، وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم "22"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وليس من محبته صلى الله عليه وسلم أن نقيم احتفالاً في وقت وفاته عليه الصلاة والسلام، والذي قطع الرافضة العبيديون أنه وقت ولادته"1" ولا أن تقرأ سيرته والقصائد الشركية أو غير الشركية في ليلة من ليالي العام، فإن هذا من مخالفة سنته، ومن الزيادة المبتدعة المحرمة في شريعته صلى الله عليه وسلم، وفيها تقليد لطرق الكفار والرافضة وترك لطريقته صلى الله عليه وسلم وطريقة جميع أصحابه - رضي الله عنهم –"2"،   وجلاء الأفهام ص32-38، و227. "1" قال الفاكهاني المالكي في المورد ص14:"هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم – وهو ربيع الأول – هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح أولى من الحزن فيه". وقال ابن الحاج المالكي في المدخل 1/238:"ثم العجب العجيب كيف يعملون المولد بالأغاني والفرح والسرور لأجل مولده صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الكريم، وهو عليه الصلاة والسلام انتقل فيه إلى كرامة ربه وفجعت الأمة فيه، وأصيبت بمصاب عظيم لا يعدل ذلك غيرها من المصائب أبداً؟ على هذا كان يتعين البكاء والحزن الكثير لما أصيب به. فانظر في هذا الشهر الكريم كيف يلعبون فيه ويرقصون، ولا يبكون ولا يحزنون؟ ولو فعلوا ذلك لكان أقرب إلى الحال، مع أنهم لو فعلوا ذلك والتزموه لكان أيضاً بدعة". وقال محمد بن عبد السلام الشقيري المصري في السنن والمبتدعات ص139:"في هذا الشهر ولد، وفيه توفي، فلماذا يفرحون بميلاده ولا يحزنون لوفاته". "2" قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص619: "ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيماً … من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 فليختر المسلم لنفسه أي الطريقين شاء"1".   وعدم المانع منه لو كان خيراً. ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف - رضي الله عنهم – أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان". وقال شيخنا عبد العزيز بن باز - رحمه الله - كما في فتاواه "جمع الإفتاء 1/232-235" عند مناقشته لكلام من يبيح هذا الاحتفال:"نقول لمن يقول بذلك إذا كنت سنياً ومتبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهل فعل ذلك هو أو أحد من صحابته الكرام أو التابعين لهم بإحسان، أم هو التقليد الأعمى لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى ومن على شاكلتهم. وليس حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل فيما يقام من الاحتفالات بمولده، بل بطاعته فيما أمر به، وتصديقه فيما أخبر به، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وكذا بالصلاة عليه عند ذكره، وفي الصلوات، وفي كل وقت ومناسبة … وليس منع الاحتفال البدعي بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يكون فيه من غلو أو شرك ونحو ذلك عملاً غير إسلامي، أو إهانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو طاعة له وامتثال لأمره، حيث قال: " إياكم والغلو في الدين "، وقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله ". "1" قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث:" فمن رغب عن سنتي فليس مني "، والذي سبق تخريجه عند الكلام عل بدعة الترك، قال في الفتح 9/105:"المراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 البدعة الثالثة: الأذكار المبتدعة الأذكار في أصلها قسمان: القسم الأول: الأذكار المشروعة جاءت في القرآن والسنة أذكار قولية كثيرة، يشرع للإنسان أن يقولها وأن يشتغل بها، وقد وردت أذكار كثيرة يستحب قولها عند غالب الأعمال التي يفعلها الإنسان في اليوم والليلة، كما جاء فيهما أذكار أخرى يشرع قولها في كثير من الأوقات والمناسبات والعبادات، ومن هذه الأذكار ما هو توحيد لله، ومنها ما هو تنزيه له، ومنها ما هو ثناء عليه، ومنها ما هو دعاء واستعاذة، إلى غير ذلك من أنواع الأذكار الكثيرة المتنوعة التي يشرع للمسلم أن يقول كل ذكر منها على الصفة التي وردت في النصوص، وأن يقوله في الزمان أو المكان، أو العبادة، أو عند الفعل الذي ورد في النصوص ما يدل على مشروعيته فيه إن كان مقيداً بشيء من ذلك، وإن كان مطلقاً فيستحب للمسلم أن يكثر منه في كل وقت، وينبغي له أن لا يتحرَّى به وقتاً معيناً، ولا يربطه بعمل معين وجوداً أو عدماً"1".   "1" من الأذكار المقيدة بالزمان: أذكار الصباح والمساء، ومن الأذكار المقيدة بالمكان: أذكار دخول المسجد والمنزل والخروج منهما، ومن الأذكار المقيدة بالعبادة: أذكار الطواف والسعي، ومن الأذكار المقيدة بالفعل الذكر عند العطاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 وقد ورد في النصوص ذكر فضائل وأجور عظيمة وكثيرة في حق من أتى ببعض الأذكار، وورد في شأن بعض أذكار التعوذات أن من قالها عُصم من شر كل ذي شر، وذلك إذا قالها عارفاً بمعناها موقناً بها. القسم الثاني: الأذكار غير المشروعة وهي: أن يأتي الإنسان بذكر لم يرد في النصوص، أو يأتي بذكر مشروع بطريقة محدثة، أو يكرره في زمان أو مكان أو في عبادة لم يرد ما يدل على مشروعيته فيه"1". وعليه فإن الأذكار غير المشروعة – وتسمى: الأذكار البدعية – ثلاثة أنواع:   وهناك أذكار مقيدة بأحوال معينة، كدعاء الهم، ودعاء المصيبة، ونحو ذلك. ومن الأذكار المطلقة: سبحان الله عدد خلقه، ورضاء نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته. وقد يكون الذكر مطلقاً ومقيداً، كالتكبير والتسبيح، فيشرع ذكر الله بهما في كل وقت، كما أن كلاً منهما مشروع في الصلاة وبعدها. ومن ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مشروعة في الصلاة وعند دخول المسجد، وعند الخروج منه وغير ذلك، كما أنها مشروعة في كل وقت، ويستحب للمسلم أن يستكثر منها. وقد الف العلماء مؤلفات مستقلة في الأذكار، من أهمها: عمل اليوم والليلة للنسائي، وعمل اليوم والليلة لابن السني، والأذكار للنووي، والكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية، والوابل الصيب لابن القيم، وحصن المسلم، وغيرها. "1" ومثله أن يكرره في حالة أو عند فعل لم يرد ما يدل على مشروعيته عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 النوع الأول: أن يأتي ببعض ألفاظ الأذكار المشروعة ويترك بعضها بحيث لا يتم المعنى الذي يدل عليه هذا الذكر، كالذكر بضمير الغائب"هو"، أو الذكر بالاسم المفرد"الله"، وقد يكرر هذه الأذكار مرات عديدة. النوع الثاني: أداء الأذكار المشروعة بطريقة محدثة مبتدعة. ومن أمثلة ذلك: 1- أن يؤدي جماعة الذكر مجتمعين، فيكبرون أو يهللون أو يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت واحد، أو يذكر الله أحدهم والبقية يذكرون الله بعده، أو يأمرهم أن يسبحوا عدداً معيناً، فيفعلون ما يطلب منهم، كما فعله بعض العُبَّاد في عهد ابن مسعود رضي الله عنه فأنكر عليهم ابن مسعود ذلك "1". 2 - أن يؤدي واحد أو أكثر الذكر بطريقة مطربة، تخرج الذكر عن ما شرع له من التعبد لله وتقوية إيمان العبد. وبعضهم قد يجعل مع هذا الذكر شيئاً من آلات الطرب كالدف والطبل ونحو ذلك. 3- أن يزيد على الأذكار المشروعة ما ليس منها، ويلتزم هذه الزيادة   "1" سبق تخريجه عند ذكر أدلة تحريم جميع البدع في بداية هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 كلما كرر هذا الذكر"1".   "1" قال الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري المصري في السنن والمبتدعات، الباب 24 في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها وصفتها وحسرة وبخل تاركها ص246،247:"اعلم أن الصلوات البكرية والدرديرية والميرغنية كلها مخترعات ومبتدعات، وكذا كتاب " أفضل الصلوات على سيد السادات"، وكتاب " صلوات الثناء على سيد الأنبياء للنبهاني"، وكتاب "روضة الأسرار في الصلاة على المختار"، وكتاب "التحفة الربانية بالصلاة على إمام الحضرة القدسية"، و"مفتاح المدد في الصلاة على الرسول السند"، وكتاب "التفكر والاعتبار في الصلاة على النبي المختار لأحمد بن ثابت المغربي". وكذا كل كتاب رتبت فيه الصلاة على النبي على حروف المعجم، كأن يقول فيها: اللهم صل على سيدنا محمد القائل: إنما الأعمال بالنيات، ويذكرون بعد كل تصلية حديثاً نبوياً أو سجعاً، فاعلم أنه حدث في الدين، وشرع لم يأذن به الله، فلا تتعبد أخي أصلاً إلا بكل ما يتعبد به محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا تلتفت إلى ما لم يخرج من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فلست محباً له ولا متبعاً لما جاءك به، ولا مطيعاً لربك في قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، وقوله: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، ولا تكونن آمناً من أن يكون لك نصيب من آية: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال الإمام أبو بكر بن العربي في شرحه على الترمذي: "حذار حذار من أن يلتفت أحد إلى ما ذكره ابن أبي زيد فيزيد في الصلاة على النبي -عليه السلام-: " وارحم محمداً " فإنه قريب من البدعة؛ لأن النبي –عليه السلام– علم الصلاة بالوحي، فالزيادة فيها استقصار له – أي اتهام له بالتقصير -، واستدراك عليه، ولا يجوز أن يزيد على النبي –عليه السلام– حرفاً" أ. هـ. وقال الإمام النووي في الأذكار ما حاصله:"وأما زيادة "وارحم محمداً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 النوع الثالث: أن يأتي بالذكر المشروع المقيد بزمان أو بمكان، أو بحالة معينة في غير محله، وبالأخص إذا صحب ذلك تكرار هذا الذكر في هذا الموطن الذي لم يشرع فيه، كمن يلازم الاستعاذة عند كل تثاؤب، وكأن ينادي المؤذن للصلاة بعد الأذان، وهو ما يعرف ب "التثويب"، ولذلك أنكره ابن عمر رضي الله عنه على من فعله من المؤذنين"1"، وأنكره الإمام مالك – رحمه الله –"2".   وآل محمد" فهذا بدعة لا أصل لها، قال: وقد بالغ الإمام أبو بكر بن العربي في إنكار ذلك، وتخطئة ابن أبي زيد في ذلك، وتجهيل فاعله"أ. هـ. فهذه زيادة خفيفة لا تساوي عشر معشار الزيادات التي زادوها، وألفوا فيها ألوف المجلدات العديدة، ومع هذا فقد أنكروا عليها أشد إنكار، فكيف إذا رأوا ما حدث وعم وطم، وصارت السنة بجانبه نسياً منسياً، وشيئاً لا يذكر إلا في بطون كتب السنن، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فيا عباد الله: إن الزيادة على تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم بدعة ضلالة لا تقربكم من الله، بل تبعدكم عن دار كرامته ورضوانه؛ لأنه سبحانه لا يعبد إلا بما شرع، لا بالمحدثات والبدع، يا عباد الله: أتظنون أن ما ألفه لكم شيوخكم في الصلاة والتسليم أفضل مما خرج من فم المعصوم صلى الله عليه وسلم؟ لا شك أنه كذلك عندكم، وإلا فلماذا لا تصلون على النبي بما ورد في الصحاح والسنن، بل لا تعرفونه بالكلية؟ أفضلتم مشائخكم على نبيكم الذي لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعه؟ … ". انتهى كلام الشقيري رحمه الله. "1" سبق تخريجه عند ذكر أدلة تحريم جميع البدع في بداية هذا الفصل. "2" ينظر ما سبق نقله عن مالك بعد ذكر أدلة تحريم جميع البدع في بداية هذا الفصل. وينظر: الاعتصام للشاطبي المالكي 1/39، و2/351، مجموع الفتاوى 36/97 –20، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 ومن ذلك أن يجعل لكل شوط من أشواط الطواف ذكراً معيناً، أو يجعل لمقام إبراهيم ذكراً معيناً وهكذا، كما هو موجود في بعض الكتيبات التي يقرأها بعض الحجاج والمعتمرين جهلاً منهم بحرمة قراءتها في هذه المواضع لعدم الدليل على تخصيصها بها. فكل هذه الأنواع محرمة؛ لأنها من البدع المحدثة، وقد تكاثرت النصوص في النهي عن البدع والتغليظ على فاعلها"1" ولإجماع الصحابة على تركها، ولو كانت مشروعة لبادروا إلى فعلها لحرصهم على الخير، بل قد ثبت عن بعضهم النهي عنها والإنكار الشديد على من فعلها كما سبق، وبعض هذه الأذكار مكروه عند بعض أهل العلم، ولا يصل إلى حد الحرمة، والله أعلم. ولذلك فإنه يجب على المسلم أن يحرص على المواظبة على الأذكار المشروعة، وأن يبتعد عن الأذكار المبتدعة؛ لأنها معصية لله تعالى، ولأن   و37/63،64، تطهير الاعتقاد للصنعاني اليماني ص54، 55، السنن والمبتدعات للشقيري المصري، الباب 24 في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلموفضلها وصفتها وحسرة وبخل تاركها، والإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف لإسماعيل الأنصاري ص339، إصلاح المساجد لعلامة الشام محمد القاسمي، رسالة"الدعاء"للعروسي السوداني ص658-663، 931. "1" سبقت هذه النصوص في مقدمة هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 استمراءها والاستمرار عليها يؤدي في آخر الأمر إلى إحداث واختراع أوراد شركية. ولذلك لما عصى الله تعالى كثير من المسلمين بابتداع أوراد بدعية محرمة، أدى بهم ذلك إلى ابتداع أوراد أخرى شركية، مثل: ذكر أو "وظيفة ابن مشيش" المشهورة عند بعض الصوفية"1". ومن ذلك:"صلاة الفاتح"التي اعتُقِد فيها اعتقادات شركية، فمبتدعوها ومن سار على طريقتهم يعتقدون أنها أفضل من القرآن الكريم الذي تكلم به ربنا جل وعلا، وأنها أفضل من جميع الأذكار التي نطق بها خير البرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت من بين شفتيه الكريمتين، وندب إليها صلوات ربي وسلامه عليه، ومثله اعتقاد بعضهم أن ورد "دلائل الخيرات"أو غيره أفضل من القرآن، فهذا كله شرك أكبر مخرج من الملة. كما أنه يجب على المسلم إذا أراد أن يذكر الله تعالى بأي ذكر أن ينظر   "1" وهي:"اللهم انشلني من أوحال التوحيد وألقني في بحار الوحدة". فهو يجعل توحيد الرسل - عليهم السلام - أوحالاً يطلب أن يخرج منه إلى أن يتحد مع الله تعالى، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ينظر: الدعاء للعروسي السوداني، الباب الثالث، الفصل الثالث ص661 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 هل هو من الأذكار الثابتة في النصوص الشرعية فيعمل به، أو لم يرد في النصوص فيتركه، بغض النظر عن قائله، ويقدم عليه الأذكار التي نطق بها خير البرية صلى الله عليه وسلم. خاتمة فصل البدعة: بعد أن استعرضنا النصوص الواردة في ذم البدع والتغليظ على فاعلها، وعرفنا ما أدى إليه التساهل بالبدع، واستمراؤها، وما أدى إليه إحداث ما ليس له أصل في هذه الشريعة الكاملة من الوقوع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، نعلم يقيناً أنه يجب على كل مسلم أن يسير على طريقة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يغير فيها، وأن لا يزيد فيها ما ليس منها من البدع المحدثات؛ لئلا يجره ذلك إلى الوقوع في الشرك؛ ولئلا يقتدي به غيره من عوام الناس وجهلتهم، فيقعوا في الشرك، فيبوء بإثمه وإثمهم؛ لأنه سن في الإسلام سنة سيئة. كما أنه يجب على كل مسلم أن يتمسك بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن يقدمها على أقوال البشر، ففي سنته الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، والسلامة من الضلال والانحراف لمن تمسك بها، وهو من علامة محبة المسلم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإصرار على البدعة علامة على ضعف محبته للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأن فعل البدعة أو تحسينها يستلزم اتهام النبيَّ صلى الله عليه وسلم بأن شريعته ناقصة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 أو أنه صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس الشريعة كاملة، فهي في مفهوم هذا المبتدع ناقصة تحتاج إلى زيادة أو إكمال"1". وهذا لا شك كفر إن اعتقده من اخترع هذه البدعة أو أصر على فعلها، فمن المعلوم أن الله تعالى لم يتوفَّ نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أكمل هذا الدين، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] . كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين للأمة جميع الأحكام الشرعية أتم بيان وأكمله، فلا حاجة إلى أن يزيد المسلم في دين الله ما ليس منه. كما أنه يجب على المسلم البعد عن المبتدع، وعدم سماع كلامه أو مناظرته"2"؛ لئلا يقع في قلبه شيء من ضلالاته أو الشبه التي يثيرها؛ لأن المبتدع يحتج بالمتشابه ويؤوله إلى ما تهواه نفسه، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة   "1" سبق ذكر قول الإمام مالك والإمام الشاطبي في هذا بعد ذكر الأدلة على تحريم جميع البدع في بداية هذا المطلب. "2" وهذا في حق غير أهل العلم، أما أهل العلم الراسخون فيه فلا حرج في مناظرتهم للمبتدعة، وذلك من باب دعوتهم وإقامة الحجة عليهم. ينظر: رسالة"موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 آل عمران:7] . وروى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا على عائشة – رضي الله عنها – الآية السابقة، ثم قال: " إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه فأولئك الذين سَمَّى الله فاحذروهم " "1". فالمبتدع يترك الآيات الصريحة المحكمة، والأحاديث الصحيحة الواضحة، ويخالفها ويعارضها بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، أو بالنصوص المتشابهة، فيستدل بآية أو بحديث أو أثر صحيح فيفسره بغير تفسيره، ويؤوله إلى ما يوافق هواه، ويرد غيره من النصوص التي لم توافق عقله وهواه"2"، والله أعلم.   "1" صحيح البخاري: التفسير "4547". "2" ينظر ما سبق في بداية هذا الفصل بعد ذكر الأدلة على تحريم البدع وبيان تحريم معارضة السنة أو تقديم أقوال المشايخ أو هوى النفس عليها. ولهذه العلة أي اتباع المبتدع لهواه تجد كثيراً من المبتدعة يحرص على فعل البدعة حرصاً شديداً أكثر من حرصه على فعل السنن؛ لأنها توافق ما تهواه نفسه، ولذلك اخترعها أو قلد من اخترعها، كما أنك تجد كثيراً من العصاة يشاركون في كثير من هذه البدع، كبدع الموالد، بينما تجده لا يأتي بكثير من الواجبات، بل ربما تجده لا يعرف من الدين إلا هذه البدع، فربما تجده لا يصلي الصلوات المفروضة، ولا يزكي أمواله، ومما يحبب البدعة إلى صاحبها أيضاً أن الشيطان يحببها إليه ويزينها في نظره، وقد سبق ذكر ما يتعلق بذلك في أواخر الكلام على بدعة الغلو في القبور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 الولاء والبراء تعريفها وحكمها ... الولاء والبراء المبحث الأول: تعريفهما وحكمهما الولاء في اللغة: المحبة والنصرة، والقرب. والوليّ: المحب والصديق والنصير، وهو ضد العدو. والموالاة والوَلاية: ضد المعاداة"1". والولاء في الاصطلاح هو: محبة المؤمنين لأجل إيمانهم، ونصرتهم، والنصح لهم، وإعانتهم، ورحمتهم، وما يلحق بذلك من حقوق المؤمنين"2".   "1" الصحاح، ومعجم مقاييس اللغة، والقاموس، والكليات، ولسان العرب "مادة: ولي"، وقال في النهاية "مادة: ولي": "تكرر ذكر "المولى" في الحديث، وهو اسم يقع على جماعة كثيرة"ثم ذكر بعضها كالرب، والسيد، والناصر، والمحب، وابن العم، ثم قال: "وكل من ولي أمراً أو قام به فهو مولاه ووليه". "2" ينظر: تفسيرالجصاص للآية 28 من آل عمران 2/288؛ مجموع الفتاوى 28/209، الفرقان ص4، 5 تفسير الآية 71 من التوبة في تفسير ابن كثير، شرح الطحاوية ص546، 547، مجموعة الرسائل والمسائل 3/290، تيسير العزيز الحميد باب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} ص422، الدرر السنية 2/325، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع الطيار 3/1021", الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وهذا الولاء يكون في حق المسلم الذي لم يصر على شيء من كبائر الذنوب. أما إذا كان المسلم مصراً على شيء من كبائر الذنوب، كالربا، أو الغيبة، أو إسبال الثياب، أو حلق شعر العارضين والذقن "اللحية" أو غير ذلك فإنه يُحبّ بقدر ما عنده من الطاعات، ويبغض بقدر ما عنده من المعاصي"1". والمحبة للمسلم العاصي تقتضي أن يهجر إذا كان هذا الهجر يؤدي إلى إقلاعه عن هذه المعصية وإلى عدم فعل ما يشبهها من قبله أو من قبل غيره، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وأمر الصحابة أن يهجروهم، فلم يكلموهم خمسين يوماً. متفق عليه "2".   الإرشاد للدكتور صالح الفوزان ص279، الولاء والبراء ص89، 90، النواقض القولية والعملية ص360. "1" مجموع الفتاوى 28/209، رسالة "المحبة"لشيخ الإسلام ابن تيمية ص89، 90، 133، 198، شرح الطحاوية ص547، مجموع فتاوى ورسائل شيخنا محمد بن عثيمين 3/11، الإرشاد للدكتور صالح الفوزان ص290، حقيقة الولاء والبراء ص532-557. "2" صحيح البخاري: المغازي "4418"، وصحيح مسلم: التوبة "2769". ومن الهجر لهم: أن لا يُبدأوا بالسلام ولا يرد عليهم إذا سلموا، ويقاطعوا بالكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 كما أن المحبة للمسلم العاصي تقتضي مناصحته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ليفعل الخير ويجتنب المعصية، فينجو من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، كما تقتضي المحبة للعاصي إقامة الحدود والتعزيرات عليه ليتوب ويرجع إلى الله تعالى، ولتكون تطهيراً له من ذنوبه"1". وقريب من العاصي: المتهم بالنفاق، فيوالى بقدر ما يظهر منه من الخير، ويعادى بقدر ما يظهر منه من الخبث"2"، وإذا تبين نفاقه   وبالزيارة ونحو ذلك. وينظر: التمهيد 6/118، 127، مجموع الفتاوى 28/203-218، روضة الطالبين 7/367، 368، زاد المعاد 3/575، 578، جامع العلوم والحكم: شرح الحديث 35، ج2، ص268، 269، شرح الطحاوية ص533، الزجر بالهجر للسيوطي، فتح الباري: المغازي 8/124، والأدب باب الهجرة 10/496، الآداب الشرعية 1/229-239، تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعادة والحب والبغض والهجران للشيخ حمود التويجري ص41-64، هجر المبتدع للشيخ بكر أبوزيد، الهجر لمشهور حسن ص153-201. وينظر فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 3/16-18 ففيها تفصيل جيد في المسألة، وفيها قوله: "أما اليوم فإن كثيراً من أهل المعاصي لا يزيدهم الهجر إلا مكابرة وتمادياً في معصيتهم، ونفوراً وتنفيراً من أهل العلم والإيمان، فلا يكون في هجرهم فائدة لهم ولا لغيرهم". وقد حكى القاضي أبويعلى الفراء الحنبلي إجماع الصحابة والتابعين على مشروعية الهجر. ينظر: هجر المبتدع 32. "1" الإرشاد للشيخ الدكتور صالح الفوزان ص290. "2" ينظر: الولاء والعداء في علاقة المسلم بغير المسلم للدكتور عبد الله الطريقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 وحكم عليه بالنفاق فحكمه في باب الولاء والبراء حكم بقية الكفار على ما سيأتي بيانه في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى. أما المبتدعة كالجهمية والقدرية والرافضة والأشاعرة ونحوهم فهم ثلاثة أقسام: القسم الأول: من كان منهم داعياً إلى بدعته أو مظهراً لها وكانت بدعته غير مكفِّرة فيجب بغضه بقدر بدعته"1"، كما يجب هجره   ص17، والتدابير الواقية من التشبه بالكفار للدكتور عثمان دوكوري 2/430. وقال الحافظ ابن القيم في زاد المعاد 3/161: "وأما سيرته في المنافقين: فإنه أُمِرَ أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم" "1" قال شيخ الإسلام إسماعيل الصابوني في عقيدة السلف وأصحاب الحديث "مطبوع ضمن الرسائل المنيرية 1/131" عند كلامه على عقيدة السلف وأصحاب الحديث: "ويتجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات ... ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم، ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت في القلوب ضرت، وجرّت إليها الوساوس والخطرات الفاسدة". وقال الشيخ بكر أبوزيد في رسالة "هجر المبتدع " ص19 عند كلامه على قاعدة: الحب في الله والبغض في الله. قال: "يؤصِّل علماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 ومعاداته، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم"1"، فلا تجوز مجالسته، ولا التحدث معه إلا في حال دعوته ونصحه، وهذه المجالسة إنما تجوز في حق العلماء خاصة.   الإسلام "هجر المبتدع ديانة" تحت القاعدة العقدية الكبرى "قاعدة الولاء والبراء". ومفهوم هذه القاعدة الشريفة لدى أهل السنة والجماعة هو: الحب والبغض في الله، فهم يوالون أولياء الرحمن ويعادون أولياء الشيطان، وكل بحسب ما فيه من الخير والشر، وهذه القاعدة من مسلَّمات الاعتقاد في الإسلام، لكثرة النصوص عليها، من الكتاب والسنة، والأثر، ومن أولى مقتضياتها التي يثاب فاعلها ويُعاقب تاركها – البراءة من أهل البدع والأهواء، ومعاداتهم وزجرهم بالهجر ونحوه، على التأبيد حتى يفيئوا، وهذا معقود في كتب اعتقاد أهل السنة والجماعة"، وينظر مجموع الفتاوى 28/209، 210، تفسير القرطبي وتفسير الشوكاني للآية 140 من النساء، والآية 68 من الأنعام، والآية 153 من الأنعام أيضاً، والآية 133 من هود، والآية 22 من المجادلة، موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع للرحيلي ص529-564، وينظر كلام الشيخ ابن عثيمين الذي سيأتي قريباً. "1" قال البغوي في شرح السنة باب مجانبة أهل الأهواء 1/226، 227 بعد ذكره لحديث كعب بن مالك: "هذا حديث صحيح، وفيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة علىهذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم". ونقل في الآداب الشرعية 1/232 عن القاضي أبي يعلى حكايته إجماع الصحابة والتابعين على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 .....................................................................   عدم مجالسة المبتدعة،وحكى نحوه الصابوني في عقيدته 1/132 وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ كما في الدرر السنية 8/439، 440: "مواكلة الرافضي والانبساط معه وتقديمه في المجالس والسلام عليه لا يجوز؛ لأنه موالاة وموادة، والله تعالى قد قطع الموالاة بين المسلمين والمشركين.. وقال الحسن: لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك، وقال النخعي: لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم؛ فانظر رحمك الله: إلى كلام السلف الصالح، وتحذيرهم عن مجالسة أهل البدع، والإصغاء إليهم، وتشديدهم في ذلك، ومنعهم من السلام عليهم. فكيف بالرافضة: الذين أخرجهم أهل السنة والجماعة من الثنتين والسبعين فرقة؟ مع ما هم عليه من الشرك البواح، من دعوة غيرالله في الشدة والرخاء، كما هو معلوم من حالهم، ومواكلتهم، والسلام عليهم – والحالة هذه – من أعظم المنكرات، وأقبح السيئات، فيجب هجرهم والبعد عنهم، والهجر مشروع لإقامة الدين، وقمع المبطلين، وإظهار شرائع المرسلين، وردع لمن خالف طريقتهم من المعتدين". وقال شيخنا محمد بن عثمين في شرح لمعة الاعتقاد ص159، 160: "وهجران أهل البدع واجب.. لكن إن كان في مجالستهم مصلحة لتبيين الحق لهم وتحذيرهم من البدعة فلا بأس بذلك.. ومن هجر أهل البدع ترك النظر في كتبهم خوفاً من الفتنة بها أو ترويجها بين الناس، فالابتعاد عن مواطن الضلال واجب، لقوله صلى الله عليه وسلم في الدجال: " من سمع به فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه، مما يبعث به من الشبهات "، لكن إن كان الغرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 أما من لم يكن من العلماء فلا يجوز له مجالسة المبتدع، ولا أن يسمع كلامه، ولا أن يجادله، ولا أن يقرأ ما يكتبه، لئلا يقع في قلبه شيء من بدعته، ولئلا يؤثر عليه بما يثيره من الشبهات بين الحين والآخر"1".   من النظر في كتبهم معرفة بدعتهم للرد عليها فلا بأس بذلك لمن كان عنده من العقيدة الصحيحة ما يتحصن به، وكان قادراً من الرد عليهم". "1" روى ابن بطة 2/438، والآجري ص61، 62 عن ابن عباس وأبي قلابة والملائي أنهم قالوا: "لا تجالسوا أهل الأهواء، فإنهم يمرضون القلوب". وروى الدارمي في سننه باب اجتناب أهل الأهواء، وابن وضاح في باب النهي عن الجلوس مع أهل البدع، واللالكائي في باب ما روي في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم والمكالمة معهم، وابن بطة في التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب، والبيهقي في الاعتقاد باب النهي عن مجالسة أهل البدع ومكالمتهم عن جماعة من السلف التحذير من مجالسة المبتدعة وسماع كلامهم وأن ذلك من أسباب ضلال من يجالسهم أو وقوع بعض شبههم في قلبه. وقال المروذي كما في الآداب الشرعية 1/256 لأحمد بن حنبل: أيُستعان باليهودي والنصراني وهما مشركان ولا يستعان بالجهمي؟ فقال: يا بني، يغتر بهم المسلمون، وأولئك لا يغتر بهم المسلمون. ونقل في الآداب 1/237 أيضاً عن أحمد قال: "يجب هجر من كفر أو فسق ببدعة، أو دعا إلى بدعة مضلة أو مفسِّقة على من عجز عن الرد عليه أو خاف الاغترار به والتأذي، دون غيره". وقال ابن قدامة كما في الآداب 1/232: "كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم". وينظر إتحاف الإخوان ص64 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 أما السلام على المبتدع والرد عليه إذا سلم فهو جائز، لكن يستحب ترك السلام عليه، وترك إجابة سلامِه إذا كان في ذلك مصلحة، كأن يكون ذلك سبباً في تركه لها، أو ليَعْلَم من حوله قبح عمله وعقيدته، ليحذره العامة، ونحو ذلك"1".   77، هجر المبتدع، موقف أهل السنة من أهل الأهواء 2/529-563، الهجر ص162-186. "1" روى ابن القاسم كما في المدونة 1/84 عن الإمام مالك قال: "لا ينكح أهل البدع ولا ينكح إليهم، ولا يسلم عليهم، ولا يصلى خلفهم"، وروى الخلاّل في السنة باب ذكر الروافض 1/493، 494 أن رجلاً سأل الإمام أحمد عن جار له رافضي هل يسلم عليه؟ قال: لا، وإذا سلَّم عليه لا يرد عليه. وسنده صحيح. وروى ابن هانئ في مسائله باب السنة 2/153 أن رجلاً من الشاكَّة في خلق القرآن سلَّم على الإمام أحمد فلم يرد عليه، فأعاد عليه، فدفعه الإمام أحمد، ولم يسلم عليه. وروى العقيلي في الضعفاء 1/179 عن الأوزاعي أنه لقيه ثور الكلاعي فمدّ ثورٌ يده إليه، فأبى الأوزاعي أن يمد يده إليه، وقال: يا ثور إنه لو كانت الدنيا كانت المقاربة، ولكنه الدين، يقول: لأنه كان قدرياً. وقال الشاطبي في الاعتصام 1/229 عند ذكره لأحكام أهل البدع: "الثاني: الهجران وترك الكلام والسلام، حسبما تقدم عن جملة من السلف في هجرانهم لمن تلبس ببدعة، وما جاء عن عمر من قصة صبيغ العراقي". وقصة صبيغ رواها الدارمي "150" وابن بطة "330" بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، فهو حسن لغيره، وكان يسأل عن المتشابهات، وفيها أن عمر نهى المسلمين عن مجالسته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 والقسم الثاني من المبتدعة: من كانت بدعته مكفرة، كغلاة الصوفية الذين يدعون الأموات والمشايخ، وكغلاة الرافضة"الشيعة الإمامية" الذين يزعمون أن القرآن محرف أو بعضه غير موجود أو يستغيثون بالمخلوقين، فهؤلاء إذا أُقيمت عليهم الحجة وحكم بكفرهم فحكمهم في باب الولاء والبراء حكم بقية الكفار على ما سيأتي تفصيله في المبحث الآتي – إن شاء الله تعالى - والقسم الثالث: من كان يخفي بدعته ولا يدعو إليها ولا يحسِّن شيئاً من ضلالاتها ولا يمدح أهلها ولا يثير بعض الشبه التي تؤيدها فهو كالعاصي المخفي لمعصيته، يجالس ويسلم عليه، ولا يهجر"1".   وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح لمعة الاعتقاد ص159: "المراد بهجران أهل البدع: الابتعاد عنهم، وترك محبتهم وموالاتهم والسلام عليهم وزيارتهم وعيادتهم ونحو ذلك". وينظر: موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع 2/511-528. "1" روى الفضل عن الإمام أحمد كما في الآداب الشرعية 1/229 أنه قال: إذا عرفت من أحد نفاقاً فلا تكلمه. قال الفضل: قلت: كيف يصنع بأهل الأهواء؟ قال: أما الجهمية والرافضة فلا. قيل له: فالمرجئة؟ قال: هؤلاء أسهل؛ إلا المخاصم منهم فلا تكلمه ". وينظر: مجموع الفتاوى 24/174، 175، الآداب الشرعية 1/232-234، موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع 2/554. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 والبراء في اللغة: التباعد عن الشيء ومفارقته، والتخلص منه، يقال: تبرأت من كذا، فأنا منه براء، وبريء منه"1". وفي الاصطلاح: بغض أعداء الله من المنافقين وعموم الكفار، وعداوتهم، والبعد عنهم، وجهاد الحربيين منهم بحسب القدرة"2". وحكم الولاء والبراء أنهما واجبان، وهما أصل عظيم من أصول الإيمان. فقد وردت أدلة كثيرة جداً تدل على وجوب موالاة المؤمنين ووجوب البراء من جميع الكافرين من يهود ونصارى وبوذيين وعباد أصنام ومنافقين وغيرهم، وعلى تحريم موالاتهم، حتى قال بعض أهل العلم: "أما معاداة الكفار والمشركين: فاعلم أن الله سبحانه وتعالى   "1" ينظر معجم مقاييس اللغة، وأساس البلاغة، ولسان العرب "مادة برأ"، الفائق 1/100. "2" قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في الفتاوى السعدية: المسألة 33، ص111: "كل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية فإنه تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل من كان بخلاف ذلك فإنه يجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته، وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة". وتنظر: مراجع تعريف الولاء في الاصطلاح، وينظر تفسير الآية 4 من الممتحنة في تفسير ابن كثير وتفسير السعدي، وينظر: بدائع الفوائد: الاستثناء 3/69، وسيأتي في المبحث الثالث بيان المراد بالمحاربين – إن شاء الله تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 قد أوجب ذلك وأكد إيجابه، وحرم موالاتهم وشدد فيها، حتى أنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده""1" ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله " "2". ومن وأوضح الأدلة على وجوب الولاء للمؤمنين قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] ومن أوضح الأدلة على وجوب البراء من الكافرين وتحريم موالاتهم قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا   "1" سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك للشيخ حمد بن علي بن عتيق "مطبوع ضمن مجموعة التوحيد 1/319". "2" رواه الطبراني "10357" بإسناد قريب من الحسن. وله شاهد رواه أحمد "4/286 وفيه ضعف، وله شواهد أخرى تنظر في مجمع الزوائد في الإيمان 1/89، 90، وفي السلسلة الصحيحة "998"، فالحديث حسن بشواهده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4] ، وقد أجمع أهل العلم على وجوب الولاء للمؤمنين وعلى تحريم الولاء للكافرين"1".   "1" الفتاوى السعدية ص111، القول المبين في حكم المعاملة بين الأجانب والمسلمين للشيخ محمد حسنين مخلوف شيخ الأزهر سابقاً ص110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 مظاهر الولاء المشروع والولاء المحرم مظاهر الولاء المشروع ... المبحث الثاني: مظاهر الولاء المشروع والولاء المحرم وفيه مطلبان: المطلب الأول: مظاهر الولاء المشروع هناك أمور كثيرة تدخل في الولاء المشروع، وأهم هذه الأمور والمظاهر ما يلي: 1- محبة جميع المؤمنين في جميع الأماكن والأزمان ومن أي جنسية كانوا من أجل إيمانهم وطاعتهم لله تعالى، وهذه المحبة واجبة على كل مسلم"1"، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم ""2".   "1" ينظر: الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص36-38، الزواجر "الكبيرة 54 و55، ج1 ص110، 111"، مجموع فتاوى ورسائل شيخنا محمد بن عثيمين 3/14. "2" صحيح مسلم: الإيمان "54". وروى الإمام أحمد 3/418، 440، والترمذي "2521" عن معاذ بن أنس الجهني مرفوعاً: " من أعطى الله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، وأنكح لله، فقد استكمل الإيمان " وحسنه الترمذي، وهو كما قال، وله شاهد عند أبي داود "4681"، والمعنى: فقد استكمل الإيمان الواجب. ينظر الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص36-38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وينبغي للمسلم الحذر من معاداة أحد من المؤمنين من أجل دنيا أو تعصب قبلي أو مذهبي أو من أجل مشاجرة حصلت بينهما، فإن معاداة المؤمن الذي هو من أولياء الله تعالى حرب لله تعالى، فقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ". رواه البخاري"1". 2- نصرة المسلم لأخيه المسلم إذا ظُلم أو اعتدي عليه في أي مكان، ومن أي جنسية كان، وذلك بنصرته باليد، وبالمال، وبالقلم، وباللسان فيما يحتاج إلى النصرة فيه، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوم اً". رواه البخاري"2"، والأمر للوجوب. فيجب على المسلم أن ينصر المسلمين إذا اعتدى عليهم الأعداء، فإذا اعتدى الكفار على بلد من بلاد المسلمين وعجز أهلها عن صد   "1" صحيح البخاري "6502"، وينظر: الزواجر "الكبيرة" 56، ج1 ص111، 112"، مجموع فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 3/15. "2" صحيح البخاري "2444" من حديث أنس، وتمام الحديث: فقال رجل: أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: " تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره "، وله شاهد من حديث جابر عند مسلم "2584". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 عدوانهم وجب على من يليهم من المسلمين نجدتهم والدفاع عنهم بالأموال والأنفس، وكذلك يجب على المسلم أن يعين أخاه على أخذ حقه ممن ظلمه، وأن يذب عن عرض أخيه المسلم إذا اغتيب أو قدح فيه وهو يسمع، كما يجب على المسلم أن يدافع عن المسلمين بلسانه أو قلمه عندما يقدح فيهم أحد في كتاب أو غيره، وهذا كله من فروض الكفايات"1". 3- مساعدتهم بالنفس والمال عند اضطرارهم إلى ذلك. فيجب على المسلم أن يعين أخاه المسلم ببدنه عند اضطراره إلى ذلك، فيجب عليه مثلاً إذا وجده منقطعاً في سفرٍ أن يعينه بإصلاح ما يحتاج إليه لمواصلة سفره، ونحو ذلك، ويجب عليه أن يعينه بماله عند اضطراره إلى ذلك، كأن يكون فقيراً ولم يجد ما يأكله هو وأولاده فيجب على الأغنياء من المسلمين مساعدته، وهذا كله من فروض   "1" ينظر: صحيح البخاري مع شرحه الفتح: المظالم: باب أعِن أخاك ظالماً أو مظلوماً، وباب نصر المظلوم 5/98، 99، صحيح مسلم مع شرحه للنووي: البر، باب تحريم الظلم، والبابان بعده 16/132-140، جامع العلوم "شرح الحديث الخامس والثلاثين"، الإرشاد ص285، الولاء والبراء ص267-269، حقيقة الولاء ص252-263. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 الكفايات، فإن لم يُوجد ممن يستطيع مساعدته إلا شخص واحد كان فرض عين عليه. 4 - التألُّم لما يصيبهم من المصائب والأذى، والسرور بنصرهم، وجميع ما فيه خير لهم، والرحمة لهم وسلامة الصدر نحوهم، قال تعالى في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ". رواه البخاري ومسلم "1". هذا وهناك أمور أخرى تدخل في الولاء للمسلمين يطول الكلام بذكرها، منها ما هو فرض عين على المسلم، كتشميت العاطس، وكف أذاه عنهم.   "1" صحيح البخاري "13"، وصحيح مسلم "45" والمعنى: لا يؤمن الإيمان الواجب. ينظر: الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص36-38. وروى البخاري "6011"، ومسلم "2586" أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "، وقال جرير رضي الله عنه: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم. رواه البخاري "58"، ومسلم "56". وينظر: الإرشاد ص285، الموالاة والمعاداة: أسباب تحقيق الموالاة 1/254-260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 ومنها ما هو فرض كفاية، كرد السلام، وتجهيز الميت، والصلاة عليه، ودفنه، والقيام بما يحتاج إليه المسلمون في أمور دينهم من طلب للعلم، ومن تعليم له، ومن دعوتهم إلى الله تعالى وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ومن القيام بما يحتاجون إليه في أمور دنياهم من أمور الطب والصناعة والزراعة وغيرها، ومن تحذيرهم مما يضرهم، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في أمور حياتهم. ومنها ما هو مستحب، كعيادة المريض، ومساعدة المحتاج غير المضطر بالبدن والمال، والدعاء لهم، والسلام على من لقيه منهم، وغير ذلك"1".   "1" وينظر: الإرشاد ص284-286، الموالاة والمعاداة: حقوق الموالاة 1/266-282، وينظر: كتاب "حقيقة الولاء والبراء" لسيد عبد الغني: الباب الأول ص36-278 فقد توسع في مظاهر وأمثلة الولاء المشروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 المطلب الثاني: مظاهر الولاء المحرم موالاة أعداء الله من عباد الأصنام والبوذيين والمجوس واليهود والنصارى والمنافقين وغيرهم والتي هي ضد البراء بجميع أقسامها وأمثلتها محرمة بلا شك – كما سبق بيانه – وهي تنقسم إلى قسمين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 القسم الأول: الموالاة الكفرية بعض مظاهر وأمثلة الولاء المحرم مظاهر كفرية تخرج مرتكبها من ملة الإسلام، وهي كثيرة، أهمها: 1- الإقامة ببلاد الكفار اختياراً لصحبتهم مع الرضى بما هم عليه من الدين، أو مع القيام بمدح دينهم، وإرضائهم بعيب المسلمين، فهذه الموالاة ردة عن دين الإسلام، قال الله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] فمن تولى الكافرين ورضي عن دينهم، وابتعد عن المسلمين وعابهم فهو كافر عدو لله ولرسله ولعباده المؤمنين"1".   "1" ينظر: الدواهي المدهية للكتاني ص46، وقال الشيخ عبد الله الأهدل اليماني الشافعي في السيف البتار على من يوالي الكفار ص7: "حكم من ينتقل إلى البلدة التي استولى عليها أهل الشرك فهو عاص فاسق مرتكب لكبيرة من كبائر الإثم إن لم يرضَ الكفر وأحكامه، فإن رضي بها فهو كافر مرتد تجري عليه أحكام المرتد"، وقد نقل هذا القول الكتاني المالكي في الدواهي المدهية ص210 مقراً له. وينظر: رسالة: الدفاع عن أهل السنة والأتباع للشيخ حمد بن عتيق "مطبوع ضمن مجموعة كتبه ورسائله ص12"، رسالة: أوثق عرى الإيمان "مطبوع ضمن مجموعة التوحيد 1/159، 160"، القول المبين ص106، 107، النواقض القولية والعملية ص361، الموالاة والمعاداة 2/850. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 2- أن يتجنس المسلم بجنسية دولة كافرة تحارب المسلمين، ويلتزم بجميع قوانينها وأنظمتها بما في ذلك التجنيد الإجباري، ومحاربة المسلمين ونحو ذلك، فالتجنس على هذه الحال محرم لا شك في تحريمه، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه كفر وردة عن دين الإسلام بإجماع المسلمين"1" وهذا كله فيما إذا كان ذلك عن رغبة ورضى من المسلم، أما إن كان ملجئاً إلى ذلك لعدم وجود بلد مسلم يمكنه الهجرة إليه أو لعدم وجود بلد كافر أحسن حالاً من حال هذا البلد المحارب للمسلمين ينتقل إليه، فحكمه حكم المكره، فلا يحرم عليه ذلك إذا   "1" كما قال علامة مصر محمد رشيد رضا. ينظر مجلة المنار "مجلد 25، ج1، ص22". وقد سئلت لجنة مصر برئاسة الشيخ علي محفوظ عن حال من يتجنس بجنسية دولة كافرة حالها كما ذكر أعلاه، فقالت: "إن التجنس بجنسية أمة غير مسلمة على نحو ما في السؤال هو تعاقد على نبذ أحكام الإسلام عن رضى واختيار، واستحلال لبعض ما حرم الله، وتحريم لبعض ما أحل الله، والتزام لقوانين أخرى يقول الإسلام ببطلانها، وينادي بفسادها، ولا شك أن شيئاً من ذلك لا يمكن إلا بالردة، ولا ينطبق عليه حكم إلا حكم الردة، فما بالك بهذه الأربعة مجتمعة في ذلك التجنس الممقوت". ينظر بحث "التجنس"للشيخ محمد السبيل المطبوع في مجلة المجمع الفقهي العدد الرابع ص156، 157، وينظر أيضاً فتوى مشابهة للشيخ يوسف الدجوي المصري الأزهري في المرجع السابق ص153، وينظر مجالس العرفان لمحمد جعيط 2/66، نقلاً عن النواقض القولية والعملية ص367-370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 كره ذلك بقلبه. 3- التشبه المطلق بالكفار، بأن يتشبه بهم في أعمالهم، فيلبس لباسهم، ويقلدهم في هيئة الشعر وغيرها، ويسكن معهم، ويتردد معهم على كنائسهم، ويحضر أعيادهم، فمن فعل ذلك فهو كافر مثلهم بإجماع أهل العلم"1"، وقد ثبت عن عبد الله ابن عمرو قال: "من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبّه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة" "2". 4- أن يتشبه بهم في أمر يوجب الخروج من دين الإسلام، كأن يلبس الصليب أو يتبرك به مع علمه بأنه شعار للنصارى وأنهم يشيرون بلبسه إلى عقيدتهم الباطلة في عيسى عليه السلام، حيث يزعمون أنه قتل وصلب، وقد نفى الله تعالى ذلك في كتابه"3" فقال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] .   "1" ينظر التعليق الذي يلي التعليق الآتي، وينظر الاقتضاء 1/242. "2" رواه البيهقي في سننه في الجهاد 9/234 بإسنادين، وهو حسن بمجموع الطريقين. وقد صححه شيخ الإسلام في الاقتضاء ص242، والغزي الشافعي. والنيروز والمهرجان من أعياد المجوس. ينظر: التشبه ص130، 131. "3" قال القاضي عياض المالكي في الشفا 2/521، 522: "وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر وإن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله ذلك الفعل، كالسجود للصنم وللشمس والقمر والصليب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 5- أن يزور كنائسهم معتقداً أن زيارتها قربة إلى الله تعالى"1". 6- الدعوة إلى وحدة الأديان، أو إلى التقريب بين الأديان، فمن قال إن ديناً غير الإسلام دين صحيح ويمكن التقريب بينه وبين الإسلام أو أنهما دين واحد صحيح فهو كافر مرتد، بل إن من شك في بطلان جميع الأديان غير دين الإسلام كفر، لرده لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] ، ولرده لما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة من أن دين الإسلام قد نسخ جميع الأديان السابقة، وأنها كلها أديان محرفة، وأن من دان بشيء منها فهو كافر مشرك"2".   والنار، والسعي إلى الكنائس والبيَع مع أهلها، والتزيي بزيهم من شد الزنانير وفحص الرؤوس فقد أجمع المسلمون أن هذا لا يوجد إلا من كافر وإن صرح فاعلها بالإسلام". وينظر: تشبه الخسيس بأهل الخميس ص50، الفروع 6/168، الدواهي المدهية ص46، 47، مجموعة التوحيد 1/355-358، 365،، فتاوى اللجنة الدائمة 2/87، النواقض القولية والعملية ص37، 371. "1" مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 27/14، مختصر الفتاوى المصرية ص514. "2" قال ابن حزم في مراتب الإجماع ص139: "اتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفاراً"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 28/524: "معلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 والدعوة إلى توحيد الأديان دعوة إلحادية قديمة، دعا إليها بعض ملاحدة الصوفية المتقدمين، كابن سبعين، والتلمساني وغيرهم، وجدد الدعوة إليها في هذا العصر بعض المنتسبين إلى الإسلام، ومن أشهرهم جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده المصري، ورجاء جارودي الفرنسي وغيرهم"1". 7 - موالاة الكفار بإعانتهم على المسلمين: إعانة الكفار على المسلمين سواء أكانت بالقتال معهم، أم بإعانتهم بالمال أو السلاح، أم كانت بالتجسس لهم على المسلمين، أم غير ذلك تكون على وجهين"2".   اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر"، وينظر الشفا لعياض 2/520، مختصر الفتاوى المصرية ص507، تشبُّه الخسيس ص50، وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة 2/85: "إن من يحدث نفسه بالجمع أو التقريب بين الإسلام واليهودية والنصرانية كمن يجهد نفسه في الجمع بين النقيضين بين الحق والباطل، بين الكفر والإيمان". "1" ينظر: الصفدية 1/98، 99، 268، مجموع الفتاوى 14/164، 165، النواقض القولية والعملية ص377-380، وتنظر رسالة "دعوة التقريب بين الأديان"ففيها تفصيل في هذه المسألة وفي المسائل المتعلقة بها. "2" قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9] : "وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان تولياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 الوجه الأول: أن يعينهم بأي إعانة محبةً لهم ورغبةً في ظهورهم على المسلمين، فهذه الإعانة كفر مخرج من الملة"1".   تاماً، كان ذلك كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه". وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] : إن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يكون العبد منهم". وقال أطال الدكتور عبد العزيز العبد اللطيف في "نواقض الإيمان القولية والعملية" ص381-384 في نقل أقوال أهل العلم في بيان معنى "التولي" وأنه بمعنى "الموالاة" عند جمهور المفسرين، وينظر: التعليق الآتي. "1" ذكر الإمام ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] أن معنى هذه الآية: النهي عن مناصرة الكفار موالاة لهم على دينهم ومظاهرة لهم على المسلمين، وأن هذا موجبٌ للردة. وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بعد ذكره لقصة حاطب ونزول صدر سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآيات في شأن حاطب، قال: "فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه, وله خصوص السبب، الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 ......................................................................   ذلك قد ضل سواء السبيل، لكن قوله: " صدقكم، خلوا سبيله " ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذ كان مؤمناً بالله ورسوله، غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قال: خلوا سبيله. ولا يقال، قوله صلى الله عليه وسلم: " ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم " هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لحاق الكفر وأحكامه؛ فإن الكفر يهدم ما قبله، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] ، وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع؛ فلا يظن هذا. وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ، وقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] فقد فسَّرته السنة وقيَّدته وخصَّته بالموالاة المطلقة العامة. وأصل الموالاة هو: الحب، والنصرة، والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة، ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وفي غيره؛ وإنما أشكل الأمر وخفيت المعاني والتبست الأحكام على خلوف من العجم والمولَّدين الذين لا دراية لهم بهذا الشأن، ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن. ولهذا قال الحسن رضي الله عنه: من العجمة أتوا. وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 وقد حكى غير واحد من أهل العلم إجماع العلماء على ذلك"1".   ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار، واحتج ابن عبيد: أن هذا وعد، والله لا يخلف وعده، يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود؛ فقال له ابن العلاء: من العجمة أُتيتَ، هذا وعيد لا وعد، وأنشد قول الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلفٌ إيعادي ومنجز موعدي وقال بعض الأئمة فيما نقل البخاري أو غيره: إن من سعادة الأعجمي والعربي إذا أسلما أن يُوفَّقا لصاحب سنة، وإن من شقاوتهما أن يمتحنا وييسرا لصاحب هوى وبدعة". انتهى كلام الشيخ عبد اللطيف رحمه الله. وينظر: مجموع الفتاوى 28/240، 530، 531، 534، 535، وينظر: ما سبق عند الكلام على كفر الإباء والاستكبار، وما سيأتي عند الكلام على الاستعانة بالكفار إن شاء الله تعالى. "1" ينظر: الدرر السنية 2/361، و10/8، 9، و15/479، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع الإفتاء 1/274". ومن أطلق من العلماء المتأخرين حكاية هذا الإجماع على كفر من أعان الكفار فيحمل على من أعانهم محبةً لهم ورغبةً في ظهورهم على المسلمين، ولا يصح حمله على عموم الإعانة مهما كان الحامل عليها؛ لأن في ذلك دعوى الإجماع على ما حكى بعض العلماء المتقدمين الإجماع على ضده وهو تحريم قتل الجاسوس، وهو إجماع صحيح فيما يتعلق بعدم ردته، أما تحريم قتله فقد حكي إجماعاً، وقيل: إنه قول الجمهور كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 الوجه الثاني: أن يُعين الكفارَ على المسلمين بأي إعانة ويكون الحامل له على ذلك مصلحة شخصية، أو خوف، أو عداوة دنيويّة بينه وبين من يقاتله الكفار من المسلمين، فهذه الإعانة محرمة، وكبيرة من كبائر الذنوب، ولكنها ليست من الكفر المخرج من الملة. ومن الأدلة على أن هذه الإعانة غير مكفرة: ما حكاه الإمام الطحاوي من إجماع أهل العلم على أن الجاسوس المسلم لا يجوز قتله"1"، ومقتضى ما حكاه الطحاوي أنه غير مرتد. ومستند هذا الإجماع: أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قد جسَّ على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في غزوة فتح مكة، فكتب كتاباً إلى   "1" نقل الحافظ في الفتح 12/310 عن الإمام الطحاوي أنه حكى الإجمال على أن الجاسوس المسلم لا يُباح دمه أي أنه غير مرتد، فلا يقام عليه حد الردة، ولا يقتل تعزيراً، وحكى القرطبيُّ في المفهم 3/47، و7/440-442، والقاضي عياض في إكمال المعلم 6/71، و7/539، وابن الملقن في الإعلام 10/322، والحافظ في الفتح 12/310 هذا القول عن الجمهور، وذكروا أن بعض أهل العلم قالوا بجواز قتله تعزيراً. وينظر: المعلم 3/160، كشف المشكل 1/141، معالم السنن 4/4، عارضة الأحوذي 12/193، زاد المعاد 3/114، 115، الفروع: التعزير 6/113-115، كشاف القناع: التعزير 6/126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 مشركي مكة يخبرهم فيه بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد أخفى وجهة سيره، لئلا تستعد قريش للقتال، وكان الدافع لحاطب رضي الله عنه لكتابة هذا الكتاب هو مصلحة شخصية، ومع ذلك لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بردته، ولم يُقمْ عليه حدَّ الردة"1"، فدلَّ ذلك على أن ما عمله ليس كفراً مخرجاً من الملة"2".   "1" أخرج حديث قصة حاطب رضي الله عنه البخاري في الجهاد، باب الجاسوس "3007"، ومسلم في الفضائل "2494"، وقال النووي في شرح مسلم 16/57،56 عند شرحه لقصة حاطب: "قال العلماء: معناه الغفران لهم أي لأهل بدر في الآخرة، وإلا فلو توجَّه على أحد منهم حد أو غيره أُقيم عليه في الدنيا، ونقل القاضي عياض الإجماعَ على إقامة الحد، وأقامه عمر على بعضهم، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مِسْطحاً الحد وكان بدرياً"، وقد حكى الإجماع أيضاً على وجوب إقامة الحدود على أهل بدر ابن بطال في شرح البخاري 8/597، والحافظ في الفتح 7/306، والعيني في عمدة القاري 24/95، وقد يكون نقله عن التوضيح، ونقل قول النووي ابن مفلح في الفروع 6/115 وعلي القاري في المرقاة 5/631 مقرَّين له. وينظر: كلام الشيخ عبد اللطيف السابق. "2" قال ابن العربي في تفسير أول سورة الممتحنة: "من كثرتطلعه على عورات المسلمين ويُنبِّه ويُعَرِّف عدوَّهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافراً إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينوِ الردة عن الدين"، وقد ذكر مثل هذا القول أبوعبد الله القرطبي في تفسيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 ....................................................................   وقال أبوالعباس القرطبي في المفهم 6/442 عند شرحه لقصة حاطب: "ومن جملة ما فيه من الفقه: أن ارتكاب الكبيرة لا يكون كفراً"، وقال القاضي عياض 7/395: "فيه أن التجسس لا يخرج عن الإيمان"، وقال النووي في شرح مسلم 16/55: "فيه أن الجاسوس وغيره من أصحاب الذنوب الكبائر لا يكفرون بذلك، وهذا الجنس كبيرة قطعاً؛ لأنه يتضمن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كبيرة بلا شك، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [الأحزاب:57] "، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/523 عند كلامه على الكفار: "وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة، فتكون ذنباً ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] ، وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أُبَي في قصة الإفك، فقال لسعد بن معاذ: والله لا تقتله، ولا تقدر على قتله. قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية. ولهذه الشبهة سَمَّى عمرُ حاطباً منافقاً.. فكان عمر متأولاً في تسميته منافقاً للشبهة التي فعلها". قلت: ولهذا التأويل من عمر مع أن عمل حاطب ليس ردة أورد البخاري قصته في الأدب باب من لم ير إكفار من قال ذلك أي قال لأخيه: يا كافر ونحوه متأولاً، وفي استتابة المرتدين باب في المتأولين. وقال الحافظ ابن القيم في زاد المعاد 3/424،423 بعد ذكره لهذه القصة: "وفيها: أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 وهذا كله إنما هو في حق من كان مختاراً لذلك، أما من كان مكرهاً أو ملجئاً إلى ذلك إلجاءً اضطرارياً كمن خرج مع الكفار لحرب المسلمين مكرهاً "1" ونحو ذلك فلا ينطبق عليه هذا الحكم لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] .   فإذا ثبت أن ما فعله حاطب رضي الله عنه ليس ردة وهذا مجمع عليه مع أن رسالته لو وصلت إلى مشركي مكة لاستعدَّت قريش للحرب، وهذا خلاف ما قصد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من تعمية خبر غزوه لهم، فما عمله حاطب رضي الله عنه إعانةٌ عظيمة للكفار في حربهم للمسلمين في غزوة من أهم الغزوات الفاصلة في الإسلام إذا ثبت ذلك عُلم أن الإعانة لا تكون كفراً حتى يكون الحامل عليها محبة الكفار والرغبة في انتصارهم على المسلمين، وعلم أن القول بأن إعانة الكفار على المسلمين كفر وردة مهما كان الحامل عليها كما هو ظاهر كلام ابن حزم في المحلى 11/198 مستدلاً ببعض أحاديث الوعيد فيه نظر ظاهر. وينظر: كلام الشيخ عبد اللطيف السابق، ففيه تفصيل وتجليه لهذه المسألة. وهذا التفصيل في أوجه الإعانة المذكور أعلاه هو ما قرره شيخنا عبد الرحمن بن ناصر البراك، وهو ما يدل عليه مجموع الأدلة الواردة في هذه المسألة، والله أعلم. "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 5/121 عند كلامه على الكفار: "وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه، يشهد القتال معهم، ولا يمكنه الهجرة، وهو مكره على القتال، ويُبعث يوم القيامة على نيته، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يغزو جيش هذا البيت، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم " فقيل: يا رسول الله، وفيهم المكره؟ فقال: " يُبعثون على نياتهم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 القسم الثاني: الموالاة المحرمة غير الكفرية هناك مظاهر وأمثلة من الولاء المحرم – الذي هو ضد البراء – لا تخرج صاحبها من الإسلام، ولكنها محرمة –كما سبق– وهي كثيرة، أهمها: 1- محبة الكفار"1"، واتخاذهم أصدقاء، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] والمودة: المحبة "2"، وقال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحب رجلٌ قوماً إلا جاء معهم يوم القيامة" "3".   "1" ينظر ما يأتي من تفصيل أنواع المحبة عند الكلام على جواز الزواج بالكافرة الكتابية في المبحث الثالث – إن شاء الله تعالى-. "2" ينظر: تفسير القرطبي للآية السابقة، وإتحاف ذوي البصائر "مادة: ودَّ" 5/183-186. "3" رواه أبويعلى "4666" وسنده صحيح رجاله رجال الصحيحين، وله طرق أخرى وشواهد تنظر في مجمع الزوائد 1/37، والسلسلة الصحيحة "1387". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 والواجب على المسلم بغض جميع الكفار والمشركين، والبعد عنهم، وهذا مجمع عليه بين المسلمين"1"، وذلك لأن الكفار يحادون الله تعالى ويبارزونه بأعظم المعاصي بجعل شريك معه في عبادته أو بادّعاء أن له صاحبة أو ولداً أو بغير ذلك مما فيه تنقص لله تعالى، فهم أعداء الله تعالى، فيجب التقرب إلى الله تعالى ببغضهم ومعاداتهم، وعدم الركون إليهم"2"، قال شيخنا محمد بن عثيمين: "الكافر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، ويجب علينا أن نكرهه بكل قلوبنا""3".   "1" قال شيخنا عبد العزبز بن باز كما في مجموع فتاويه "جمع الطيار 3/1028" قد دل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أنه يجب على المسلمين أن يعادوا الكافرين من اليهود والنصارى وسائر المشركين،ويحذروا مودتهم واتخاذهم أولياء"، وينظر: المرجع نفسه 3/1021-1054، وقال الشيخ محمد حسنين مخلوف في القول المبين ص87: "اتفق السلف على عدم جواز إظهار التودد والمحبة للظلمة والفسقة، وكل من عصى الله تعالى من المسلمين بمعصية متعدية كالقتل والسرقة والغصب، فما بالك بغير المسلم". وينظر: الإيمان لشيخ الإسلام ص38، الزواجر "الكبيرة 54، و55، ج1 ص11، 111"، مجموعة التوحيد "سبيل النجاة والفكاك 1/339، 340"، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 3/27، 28، 31، 40، التدابير الواقية من التشبه بالكفار 1/443. "2" والركون إليهم: مودتهم أو مداهنتهم أو الرضى بأعمالهم. ينظر تفسير الجلالين وتفسير الشوكاني للآية 113 من سورة هود، وسبيل النجاة 1/339. "3" ينظر: مجموع فتاويه 3/12، وينظر فتاوى اللجنة الدائمة 3/313، وقد سبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 2- الاستيطان الدائم في بلاد الكفار، فلا يجوز للمسلم الانتقال إلى بلاد الكفار"1" للاستيطان فيها"2"، ولا يجوز له التجنس   عند الكلام على مظاهر الولاء الواجب حديث: " من أحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان ". "1" بلاد الكفار -وتسمى: دار الكفر – هي البلاد التي يحكمها الكفار، ويجري فيها أحكام الكفر، أو يغلب فيها حكم الكفر ولو كان بعض أهلها من المسلمين. ينظر: الأم 7/334، المحلى 11/200، المبسوط 10/144، بدائع الصنائع 7/130، 131، السيل الجرار 4/575، اختلاف الدارين ص30-36. "2" قال الشيخ عبد الله الأهدل اليماني الشافعي في السيف البتار على من يوالي الكفار ص7: "وحكم من ينتقل إلى البلدة التي استولى عليها أهل الشرك أنه عاص فاسق مرتكب لكبيرة من كبائر الإثم إن لم يرض بالكفر وأحكامه، وإلا فإن رضي بها فهو كافر مرتد، تجري عليه أحكام المرتد، وليتأمل العاقل ما الحامل لهذا المسلم من النقلة من دار الإسلام الخالية عن الكفار إلى الدار التي أخذها الكفار وأظهروا فيها كفرهم وقهروا من فيها بأحكامهم الطاغوتية الكفرية إلا الزيغ والعياذ بالله تعالى وحب الدنيا التي هي رأس كل خطيئة وجمع حطامها من غير مبالاة بالدين وعدم الأنفة من إهانة أهل التوحيد، ومحبة جوار أعداء الله على جوار أوليائه"، وقد نقل هذا القول الكتاني المالكي في الدواهي المدهية ص210، 211 مقراً له، وقال شيخنا محمد بن عثيمين كما في مجموع فتاويه 3/30: "كيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر، ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله، وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بإذنه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين، مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 بجنسيتها"1" ولو كان يستطيع إظهار شعائر دينه فيها إلا في حال الضرورة"2"، لقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، وعلى مفارقة المشرك"3".   وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم"، وقال شيخ الإسلام في الاقتضاء 1/488: "رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام"، وينظر: المقدمات لابن رشد 2/612، 613، المعيار المعرب 2/119-141، الدرر السنية17/165، معالم السنن مع تهذيب السنن 3/437، القول الفصل النفيس ص266. "1" ينظر: حكم اللجوء والإقامة في بلاد الكفار للشيخ صالح الشثري، فتاوى اللجنة الدائمة 2/69-74، مجلة المجمع الفقهي "المجلد الرابع: بحث الشيخ محمد السبيل في التجنس"، وقد سبق عند الكلام على المثال الثاني من أمثلة الولاء الكفري ذكر مراجع أخرى لهذه المسألة. "2" كأن لا يجد بلداً مسلماً ينتقل إليه ويخشى على نفسه إن بقي في بلده ونحو ذلك. ينظر المحلى: الردة "المسألة 2198"، ج11، ص200. "3" رواه الإمام أحمد 4/365، والنسائي "4186، 4187" بسند صحيح، وله شاهد بنحوه رواه أحمد 5/3، 4، 5 بسند حسن، وله شاهد آخر رواه أبوداود "2645"، والترمذي "1604" بسند الراجح أنه مرسل، بلفظ: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى ناراهما "، وله شاهد ثالث رواه أبوداود "2787" بسند ضعيف، فيه رجل ليس بالقوي، وآخر مجهول، ورجلان لم يوثقا، ولفظه: " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ". وينظر: التلخيص "2285"، والإرواء "1207"، والسنن والآثار في النهي عن التشبه بالكفار ص397-400. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 وإذا أسلم الكافر وبلده بلد كفر فإن كان لا يستطيع إظهار شعائر دينه ويستطيع الهجرة وجبت عليه الهجرة إلى بلد من بلاد المسلمين بإجماع أهل العلم"1"، ولا يجوز له البقاء في هذا البلد إلا في حال الضرورة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء:97، 98] "2".   "1" قال في الإنصاف: الجهاد 10/35: "وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه في دار الحرب بلا نزاع في الجملة"، وينظر التعليق الآتي. "2" قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي بترك الهجرة، {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي: لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة؟ "، وقال أبوالمواهب الكتاني المالكي في الدواهي المدهية ص167 بعد ذكره لهذه الآية: "وهذا دليل على أن الإنسان إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب – والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر – أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة حقت عليه الهجرة"، وجاء في مجموع فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 3/30 أنه سئل –رحمه الله– عن رجل أسلم وبقي في بلده مع أن أهل بلده يكرهون الإسلام ويحاربون المسلمين، لأنه يشق عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 أما إن كان المسلم يستطيع إظهار شعائر دينه من توحيد وصلاة وتعلُّم لأحكام الإسلام وتمسك بالحجاب للمرأة وغيرها فالهجرة إلى بلاد المسلمين مستحبة في حقه حينئذ، ويجوز له أن يبقى في بلده الأول، فقد روى أبوسعيد الخدري أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة، فقال: " إن شأن الهجرة لشديد، فهل لك من إبل؟ "قال: نعم. قال: " فهل تؤتي صدقتها؟ "قال: نعم. قال: " فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئاً ". متفق عليه"1".   ترك الوطن: فقال: "هذا الرجل يحرم عليه بقاؤه في هذا البلد ويجب عليه أن يهاجر، فإن لم يفعل فليرتقب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية فالواجب على هذا إذا كان قادراً على الهجرة أن يهاجر إلى بلد الإسلام، أما كونه لا يستطيع مفارقة بلد يحارب الإسلام وأهله لمجرد أنها وطنه الأول فهذا حرام، ولا يجوز له البقاء فيها"وينظر: فتاوى اللجنة الدائمة 2/45. والهجرة الواجبة منها هذه الهجرة، ومنها الهجرة من دار البدعة، كما قال الإمام مالك: لا يحل لأحد أن يقيم ببلد يُسب فيه السلف، ومنها الهجرة من دار غلب عليها الحرام، فإن طلب الحلال فرض. ينظر المحلى: المسألة "2198"، ج11 ص200، أحكام القرآن لابن العربي "تفسير الآية 94 من النساء"، الشرح الكبير مع الإنصاف: الجهاد 10/35-38، مجموع الفتاوى 18/284، الولاء والبراء ص286-288. "1" صحيح البخاري: الزكاة "1452"، وصحيح مسلم: الإمارة "1865"، ويشهد لمعنى هذا الحديث حديث بريدة الذي رواه مسلم في أول الجهاد"1731"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 وقد يُستحب له البقاء في بلده الأول إذا كان في ذلك مصلحة شرعية، كالدعوة إلى الإسلام، ونحو ذلك"1". 3- السفر إلى بلاد الكفر في غير حال الحاجة، فيحرم على المسلم أن يسافر إليها إلا في حال الحاجة، فإن كانت هناك حاجة إلى السفر إلى تلك البلاد سواء كانت خاصة بالمسافر أو عامة للمسلمين جاز له السفر بثلاثة شروط: الأول: أن يكون من يذهب إلى تلك البلاد ذا علم بأمور دينه، وعنده علم ودراية بالأمور النافعة والضارة.   كما يشهد له أحاديث الوفود، حيث لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الوفود الذين وفدوا عليه مسلمين ومخبرين عن إسلام قومهم قبل الفتح بالهجرة كما قال أبوعبيد، ويشهد له كذلك ما روي أن العباس بقي بمكة بعد إسلامه، وما ثبت أن ثمامة رجع إلى بلده بعد إسلامه. وينظر: الأموال، كتاب مخارج الفيء ص271-285، المقنع مع شرحيه: الشرح الكبير والإنصاف 10/35-39، شرح صحيح مسلم للنووي: الجهاد باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان بلده 13/7، فتح الباري: الجهاد باب لا هجرة بعد الفتح 6/190، الدفاع عن أهل السنة والأتباع للشيخ حمد بن عتيق "مطبوع ضمن مجموعة كتبه ورسائله ص14-17"، مجموعة الرسائل والمسائل 1/39، مجموعة التوحيد 1/34، 35، 366-376. "1" ينظر الموالاة والمعاداة 2/848 نقلاً عن الابتعاث ومخاطره للدكتور محمد لطفي الصباغ ص12، وينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 27/39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 الثاني: أن يكون في مأمن وبعد عن أسباب الفتنة في الدين والخلق. الثالث: أن يكون قادراً على إظهار شعائر دينه. ومن الحاجات التي يجوز السفر من أجلها: السفر للدعوة إلى الله تعالى، والسفر للتجارة، والسفر للعلاج، والسفر لحاجة المسلمين في تلك البلاد كسفراء الحكومات المسلمة ونحوهم، والسفر لتعلم علم يحتاجه المسلمون ولا يُوجد إلا في بلاد الكفر"1   "1" قال شيخنا محمد بن عثيمين كما في مجموع فتاويه 3/28، 29 عند ذكره لأقسام السفر إلى بلاد الكفار، وبعد ذكره للشرطين الثاني والثالث المذكورين أعلاه، قال: "القسم الخامس: أن يقيم للدراسة وهي من جنس الإقامة للتجارة والعلاج، فهي لهاحاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكاً بدين المقيم وأخلاقه، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم، فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال، والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله، فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسين شروط: الشرط الأول: أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد، فأما بعث الأحداث "صغار السن" وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم، وخلقهم، سلوكهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 أما السفر إلى بلاد الكفر من أجل السياحة ونحوها فهو سفر محرم، لعموم الأحاديث المذكورة في الفقرة السابقة، فإن فيها المنع من الإقامة في بلد الكفر، وهذا يشمل الإقامة اليسيرة، كاليوم واليومين، ولما في ذلك من تعريض دين المسلم وخلقه للخطر من غير ضرورة أو   ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإن كثيراً من أولئك المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في ديانتهم، وأخلاقهم وسلوكهم، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية. الشرط الثاني: أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل، ومقارعة الباطل بالحق، لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقاً أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل. الشرط الثالث: أن يكون عند الطالب دين يحميه ويتحصن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله، وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم، فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة ومتنوعة فإذا صادفت محلاً ضعيف المقاومة عملت عملها. الشرط الرابع: أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من أجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم" انتهى كلامه رحمه الله، وينظر: المقدمات لابن رشد 2/612، 613. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 حاجة"1". 4 - مشاركة الكفار في أعيادهم الدينية، كعيد رأس السنة الميلادية "الكرسمس"، فلا يجوز للمسلم مخالطة أو مشاركة الكفار في أعيادهم الدينية بإجماع أهل العلم"2"، لأن في ذلك إقراراً لعملهم ورضى به وإعانة   "1" ينظر: مجموعة التوحيد 1/65، 66، 373، 374، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز 2/1066-1070، الموالاة والمعاداة 2/847-874، وقال شيخنا محمد بن عثيمين كما في مجموع فتاويه 3/24: "السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات. الشرط الثاني: أن يكون عند تقوى وخوف من الله يمنعانه الوقوع في الشهوات المحرمة. الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك. فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة وفيه إضاعة المال لأن الإنسان ينفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار. أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به. وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام". "2" قال الكتاني المالكي في الدواهي المدهية ص58: "وقد اتفق أهل العلم على أنه لا يجوز الحضور معهم في شعائر دينهم، وقال عبد الملك بن حبيب في الواضحة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 عليه، وقد قال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] ، ولا شك أن مشاركتهم في أعيادهم الباطلة المحرمة من الإعانة على الإثم"1". كما يحرم تهنئتهم بهذه الأعياد بإجماع أهل العلم "2"، ويحرم حضور أعيادهم الدنيوية وتهنئتهم بها، لأنها أعياد مبتدعة محرمة في ديننا، كما يحرم جعل هذه الأيام التي لهم فيها عيد ديني أو دنيوي   سُئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخط علهيم بشركهم الذي اجتمعوا عليه، ورآه من تعظيم دينهم وعون لهم على كفرهم.. قال: وهو قول مالك وغيره، لم أعلم أحداً اختلف فيه". "1" اقتضاء الصراط المستقيم 1/424-488، و2/514-570، الآداب الشرعية 3/431-433، وينظر تفسير الآية 72 من سورة الفرقان في تفاسير ابن جرير والقرطبي والسيوطي، مجموع فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 3/32، 33، كتاب أعياد الكفار للشيخ إبراهيم الحقيل ص100، الموالاة والمعاداة 2/732-737، النواقض القولية والعملية ص373-376. "2" قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: فصل في تهنئة أهل الذمة 1/162: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد، ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصنم"، وقال شيخنا محمد بن عثيمين كما في مجموع فتاويه 3/45، 46: "وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا. وإذا هنئونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 عيداً، لأن هذا من التشبه المنهي عنه"1". 5– التشبه بهم فيما هو خاص بهم مما يتميز به الكفار عن المسلمين، فيحرم على المسلم أن يقلدهم في كل ما هو خاص بهم من عبادات أو عادات وتقاليد أو آداب أو هيئات، سواء أكان أصل ذلك مباحاً في ديننا أم محرماً"2"، فلا يجوز للمسلم أو المسلمة أن يقلدهم مثلاً   بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك، لأنها ليست بأعياد لنا، ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى، لأنها إما مبتدعة في دينهم وإما مشروعة لكن نسخت بدين الإسلام.. وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام، لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها، لما في ذلك من مشاركتهم فيها، وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى أو أطباق الطعام أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك ... ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملة أو تودداً أو حياءً أو لغير ذلك من الأسباب، لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم". "1" الاقتضاء 1/426-640، و2/581-616، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع الطيار" ص894"، الولاء والبراء ص331. وينظر كلام الإمام الذهبي الآتي قريباً – إن شاء الله تعالى – فهو مهم جداً. "2" قال شيخنا محمد بن عثيمين كما في مجموع فتاويه 3/47: "مقياس التشبه أن يفعل المتشبه ما يختص به المتشبه به، فالتشبه بالكفار: أن يفعل المسلم شيئاً من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين وصار لا يتميز به الكفار فإنه لا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 في اللباس أو هيئة الأكل أو الشرب، أو طريقة تسريح أو حلق شعر الرأس أو شعر الوجه"1"، أو طريقة الأكل والشرب أو طريقة الجلوس أو المشي أو كيفية السلام أو طريقتهم في بناء مساكنهم أو في أنظمتهم في الحكم والإدارة والاقتصاد ونحو ذلك مما لا فائدة فيه ظاهرة للمسلمين"2".   تشبهاً، فلا يكون حراماً من أجل أنه تشبه، إلا أن يكون محرماً من جهة أخرى"وينظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص242، الفتح: اللباس باب البرانس وباب الميثرة 10/272، 307، إرشاد أولى الألباب ص40 – 49، سبل السلام باب الزهد والورع 4/338، رسالة"التشبه المنهي عنه"لجميل اللويحق الباب الأول: مطلب القواعد الشرعية في باب التشبه بالكفار ص96 – 127. "1" جاء في فتاوى اللجنة الدائمة 3/308: "ويختلف حكم مشابهتهم، فقد يكون كفراً كالتشبه بهم في الاستغاثة بأصحاب القبور، والتبرك بالصليب، واتخاذه شعاراً، وقد يكون محرماً فقط، كحلق اللحية، وتهنئتهم بأعيادهم، وربما أفضى التساهل في مشابهتهم المحرمة إلى الكفر والعياذ بالله". "2" فيستثنى من ذلك ما كان فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين من الأمور الدنيوية كالاكتشافات والمخترعات وطرق الإدارة وطرق حفظ الأموال وتنميتها، وما اكتشفوه من الأمور النافعة من الأمور الدنيوية الطبيَّة وغيرها مما كان أصله مباحاً في دين الإسلام، وسيأتي الكلام على ذلك عند بيان ما يجوز من التعامل مع الكفار، ويستثنى من ذلك ما إذا كان على المسلم ضرر فيه كما سيأتي من كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 ومن المعلوم أن التقليد للغير دليل على الشعور باحتقار الذات، وأن هذا المقلِّد يرى بأن من قلَّده أفضل منه وأرفع منه قدراً"1"، ولذلك حاول أن يتشبه به. وهذا لا يليق بالمسلم تجاه الكافر. فالمسلم أرفع قدراً من جميع الكفار"2" بنص القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ   شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم عند الكلام على وجوب رد السلام على الكافر – إن شاء الله تعالى–. "1" ينظر مقدمة ابن خلدون: الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده ص147، وينظر كلام أحمد شاكر الذي سيأتي عند ذكر الأحاديث الدالة على تحريم التشبه. "2" قال الإمام الذهبي الشافعي في "تشبُّه الخسيس بأهل الخميس" ص21 – 23 عند كلامه على تشبه بعض جهال المسلمين بالنصارى بالاحتفال مثلهم في يوم عيدهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون "، وقد أوجب الله عليك يا هذا المسلم أن تدعو الله تعالى كل يوم وليلة سبع عشرة مرة بالهداية إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، فكيف تطيب نفسك بالتشبه بقوم هذه صفتهم، وهم حطب جهنم، ولو قيل لك: تشبه بمسخرة لأنفت من ذلك وغضبت، وأنت تشبَّه بأقلف – أي غير مختون – عابد صليب في عيده، وتكسو صغارك، وتفرِّحهم، وتصبغ لهم البيض، وتشتري البخور، وتحتفل لعيد عدوك كاحتفالك لعيد نبيك … ، فأين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18] وقال سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً} [الطلاق:10] ، والألباب هي العقول التامة السالمة من شوائب النقص"1"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه ""2". وينبغي للمسلم أن ينظر إلى الكفار بالنظرة الشرعية الصحيحة، قال الله تعالى عنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}   يُذهَبُ بك إن فعلت ذلك إلا إلى مقت الله وسخطه إن لم يغفر الله لك، إن علمت أن نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم كان يحض على مخالفة أهل الكتاب في كل ما اختصوا به". "1" ينظر: تفسير ابن كثير، وتفسير الشوكاني، وتفسير السعدي للآية 190 من آل عمران. "2" رواه البيهقي 6/205، والدارقطني 3/252، والروياني كما في التغليق 2/489 من حديث عائذ بن عمرو، وفي سنده مجهولان، ورواه بحشل في تاريخ واسط 1/155 من حديث معاذ، وفي سنده رجل ضعيف، وبقية رجاله ثقات، فالحديث محتمل للتحسين، وله شاهد موقوف على ابن عباس يتقوى به، رواه البخاري في الجنائز باب إذا أسلم الصبي تعليقاً. ووصله الطحاوي في شرح معاني الآثار: كتاب السير باب الحربية تسلم 3/257 بسند صحيح. وقد حسن الحافظ في الفتح 3/220 حديث عائذ، وصححه العيني في عمدة القاري 8/169، وقال في الإرواء "1268": "الحديث حسن مرفوعاً بمجموع طريقي عائذ ومعاذ، وصحيح موقوفاً ". وينظر في معنى هذا الحديث: سبل السلام 4/132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 [الروم: 7] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد: 12] ، وقال جل وعلا: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44] "1".   "1" كما أن التشبه بالكفار الذين هم أدنى منزلة من المسلم والذين يعتقدون اعتقادات كفرية ضالة ويتصفون بصفات أو يتخلقون بأخلاق لا تليق بالمسلم أن التشبه بهم في الأمور الظاهرة يورث بين المتشابهين محبة وتقاربا، ويقود المتشبِّه إلى أن يتخلق بأخلاق من تشبه به وأن يعمل مثل أعماله، وربما يقوده في آخر الأمر إلى أن يعتقد اعتقاداته الكفرية الضالة. وهذا مشاهد، فإن من يلبس ثياب الجند يشعر من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، وتصير طبيعته منقادة لذلك إلا أن يمنعه مانع ولذلك ورد النهي عن التشبه بالكفار، وعن التشبه بكل من هو في منزلة أدنى من منزلة المسلم أو يتصف ببعض الصفات التي لا تليق بالمسلم، فورد في بعض الأحاديث النهي عن التشبه بالشيطان، والبهائم، وأهل الجاهلية، والفساق، والنساء، والعجم والأعراب، والمراد النهي عن التشبه بما اختص بفعله العجم والأعراب ولو كانوا مسلمين ولم يفعله السلف؛ لأن ترك السلف له دليل على أنه مفضول في أقل أحواله. وينظر: الاقتضاء 1/80 – 83، 164، 366، 371 – 411، 486 – 488، مجموع فتاوى ابن تيمية 28/256 – 260، 304، 307، 310، فيض القدير 6/104، التشبه المنهي عنه ص54، 130، 156، 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 وقد وردت أدلة شرعية كثيرة تدل على تحريم التشبه بالكفار"1"، منها:   "1" ذهب بعض أهل العلم إلى أن مجرد التشبه بالكفار إذا كان عن قصد للتشبه بهم من الكفر الأكبر المخرج من الملة، وعلى هذا القول فلو تشبه بهم من غير قصد للتشبه بهم، ولكن لأنه استحسن هذا العمل وأعجبه ففعله فهذا محرم وليس بكفر، قال القاضي حسين الشافعي: "لو تقلنس المسلم بقلنسوة المجوسي أو تزنر بزنار النصراني صار كافراً؛ لأن الظاهر أنه لا يفعل ذلك إلا عن عقيدة الكفر"، قال الشيخ جميل اللويحق عند ذكره لهذا القول: "وممن أطلق ذلك الحنفية والمالكية وجمهور الشافعية، وعللوا ذلك بأن عوائد الكفار الخاصة بهم هي علامة الكفر، ولا يفعلها إلا من التزم الكفر، والاستدلال بالعلامة والحكم بما دلت عليه مقرر في العقل والشرع"، كما استدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، والتشبه من التولي، وبقوله صلى الله عليه وسلم: " من تشبه بقوم فهو منهم"، ولعل الأقرب أن هذا التشبه محرم ولا يخرج من الملة، كما هو قول كثير من أهل العلم، وهذه النصوص من باب الوعيد. وينظر: روضة الطالبين: كتاب الردة 10/6، الاقتضاء 1/242، 420، 491، مختصر خليل مع شرحه التاج والإكليل "مطبوع بهامش شرح الحطاب: الردة 6/279"، الفتاوى الهندية: أحكام المرتدين 2/276، الفتاوى البزازية "مطبوع بهامش الفتاوى الهندية 6/332"، شرح روض الطالب مع حاشيته للرملي 4/11، تشبه الخسيس بأهل الخميس ص34، 50، مجموعة التوحيد 1/340 – 365، النواقض العملية ص372، مخالفة الكفار لعلي عجين ص22، التشبه المنهي عنه لجميل اللويحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} [الحديد: 16] فنهى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية المؤمنين أن يتشبهوا بالذين أوتوا الكتاب من قبلنا، وهم اليهود والنصارى"1"، ومنها ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من تشبه بقوم فهو منهم ""2"، ومنها ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم مخبراً عما سيفعله كثير من   "قواعد التشبه ص81 – 84"، وينظر: كلام شيخ الإسلام وكلام الصنعاني الذي سيأتي نقله قريباً عند تخريج حديث "من تشبه بقوم فهو منهم"، وكلام شيخ الإسلام الذي سيأتي عند الكلام على رد السلام على الكفار. وقد ذكر بعض أهل العلم أن التشبه بالكفار يكون مكروهاً لا محرماً إذا كان أصل الفعل مشروعاً في ديننا ولكن أمر بمخالفة الكفار في صورته، كصيام عاشوراء وحده، وكتأخير الإفطار. ينظر: الاقتضاء 1/492، النهي عن التشبه ص84، 118. "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء ص258، 259: "فقوله: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} نهي مطلق عن مشابهتهم، وهو خاص أيضاً في النهي عن مشابهتهم في قسوة القلب". وقال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية". "2" رواه الإمام أحمد "5114"، وأبو داود "4031"، وابن أبي شيبة 5/313، والطحاوي في مشكل الآثار "231" وفي سنده اضطراب. وينظر: فيض القدير 6/104، 105، الإرواء "1269". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 ضعفاء الإيمان الذين يشعرون بالنقص واحتقار أنفسهم أمام الكفار"1"، منكراً عليهم صنيعهم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لتبعتموهم " قال   قال شيخ الإسلام في الاقتضاء 1/241: "وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهرة يقتضي كفر المتشبِّه بهم"، وقال الصنعاني في سبل السلام في باب الزهد والورع في شرح هذا الحديث 4/338: "قالوا – أي العلماء – فإذا تشبه بالكافر في زي واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر، فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء، منهم من قال: يكفر. وهو ظاهر الحديث. ومنهم من قال: لا يكفر، ولكن يؤدب". "1" قال علامة مصر أحمد محمد شاكر المتوفى سنة 1377هـ في تعليقه على قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: " ثياب الكفار لا تلبسها " في مسند أحمد 10/19: "هذا الحديث يدل بالنص الصريح على حرمة التشبه بالكفار في اللبس وفي الهيئة والمظهر كالحديث الآخر الصحيح: " ومن تشبه بقوم فهو منهم "، ولم يختلف أهل العلم منذ الصدر الأول في هذا –أعني في تحريم التشبه بالكفار– حتى جئنا في هذه العصور المتأخرة فنبتت في المسلمين نابتة ذليلة مستعبدة، هجيراها وديدنها التشبه بالكفار في كل شيء والاستحذاء لهم والاستعباد، ثم وجدوا من الملتصقين بالعلم المنتسبين له، من يزين لهم أمرهم ويهون عليهم أمر التشبه بالكفار في اللباس والهيئة والمظهر والخلق وكل شيء، حتى صرنا في أمة ليس لها من مظهر الإسلام إلا مظهر الصلاة والصيام والحج، على ما أدخلوا فيها من بدع، بل من ألوان من التشبه بالكفار أيضاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 أبوسعيد الخدري: قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: " فمن؟ " رواه البخاري ومسلم"1"، والسنن هي الطريقة، وهذا الحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم، ولهذا ترى كثيراً من المسلمين والمسلمات اليوم يقلدون الكفار في كثير من الأمور، حتى فيما لا فائدة لهم فيه، كهيئة اللباس، وهيئة شعر الرأس، وحلق شعر العارضين والذقن، حتى إن من المسلمين والمسلمات من يبحث في المجلات أو غيرها عن آخر ما يفعله الكفار في الغرب أو الشرق فيفعله. وقد وردت أحاديث كثيرة متواترة في النهي عن كثير من الأفعال وعُلِّل النهي فيها بالتشبه باليهود والنصارى"2" فدلَّ ذلك على أن مخالفتهم أمرٌ مطلوبٌ شرعاً، وعلى أن التشبه بهم محرم. وقد أجمع أهل العلم على تحريم التشبه بالكفار"3".   "1" صحيح البخاري "3456"، وصحيح مسلم "2669" من حديث أبي سعيد. ورواه البخاري "7319" بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. "2" وقد جمع هذه الأحاديث الشيخ محمد ناصرالدين الألباني رحمه الله في رسالة "حجاب المرأة المسلمة " ص80-97، والدكتور عثمان دوكوري في رسالة "التدابير الواقية من التشبه بالكفار"، وجميل اللويحق في رسالة "التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي"، وقد ذكرتُ بعضها في "رسالة اليهود " برقم 111-123. "3" كشاف القناع: الجهاد باب الهدنة 3/131، وينظر كلام العلامة أحمد شاكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 6 – تركهم يظهرون شعائر دينهم من عبادات وأعياد ونحوهما بين المسلمين، أو تركهم يبنون كنائس أو معابد لهم في بلاد المسلمين، أو تركهم يظهرون المعاصي بين المسلمين"1". 7 – اتخاذهم بطانة، فلا يجوز للمسلم أن يجعل الكافر بطانة له، بأن يطلعه على بواطن أموره، ويستشيره في أموره الخاصة، أو يستشيره في أمور المسلمين، أو يعتمد عليه في قضاء شيء من أمورهم التي يطلع فيها على أسرارهم، كأن يكون كاتباً يطلع على أخبار المسلمين"2"؛   الذي سبق قريباً، وينظر الاقتضاء 1/165، 350، 420. "1" مصنف عبد الرزاق: كتاب أهل الكتابين 11/319، 320، 366، 377، الأموال لأبي عبيد باب ما يجوز لأهل الذمة أن يحدثوا في أرض العنوة وفي أمصار المسلمين وما لا يجوز ص123– 133، الوجيز 2/199، مجموع الفتاوى 28/632 – 647. وفيها قوله: "اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة مثل ما فتحه المسلمون صلحاً وأبقوا لهم كنائسهم القديمة"، بدائع الصنائع 7/113، 114، أحكام أهل الذمة 2/116 – 149. "2" روى ابن أبي شيبة 8/470، وابن أبي حاتم "1274" بإسناد صحيح عن عمر أنه قيل له في كاتب نصراني ليتخذه كاتباً له، فقال: "قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين". وقال الحافظ ابن كثير في شرح الآية الآتية وبعد ذكره لهذا الأثر: "في هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 لأن الكافر عدو للمسلم لا ينصح له، بل يفرح بما يعنته – أي ما يشق عليه ويضره – وما فيه خبال للمسلم – أي فساد عليه – قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 118– 120] "1" ولا يستثنى من هذا إلا ما اضطر إليه المسلم ضرورة ملجئة مع الأمن من   فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء". وروى ابن أبي حاتم في تفسير الآية 51 من المائدة، والبيهقي 9/204 بإسناد حسن أن عمر أنكر على أبي موسى الأشعري لما اتخذ كاتباً نصرانياً. "1" ينظر تفسير الطبري، وتفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير، وتفسير الشوكاني لهذه الآية، ومعنى "من دونكم" أي من سواكم، وهم جميع الكفار، وينظر: أحكام أهل الذمة 1/184 – 189. وينظر ما يأتي في المبحث الآتي عند الكلام على استئجار الكافر عند الكلام على الأمر الأول من الأمور التي تباح أو تستحب في حال التعامل مع الكفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 ضرر الكافر"1". 8– السكن مع الكافر، فيحرم على المسلم أن يسكن مع الكافر في مسكن واحد ولو كان قريباً له أو زميلاً له، كما لا يجوز له أن يسكن معه من أجل مصلحة دنيوية كأن يريد أن يتعلم منه لغته أو لتجارة أو لغير ذلك"2"، كما لا يجوز أن يزوره في منزله من أجل مجرد إيناسه أو الاستئناس به، أو للعب، ونحو ذلك، كما لا يجوز طلب زيارتهم للمسلم من أجل ذلك؛ لأن هذا من الموالاة لهم، ولأن الكفار أعداء لنا، ولا يؤمن على المسلم من ضررهم في دينه أو بدنه، أما إن زاره من أجل قرابته له أو جواره له فلا بأس"3"، وهكذا إن زاره المسلم أو طلب منه أن يزوره وكان ذلك لحاجة شرعية، كتأليف قلبه ودعوته إلى الإسلام وأَمِنَ من ضرره على دين المسلم وبدنه أبيح بقدر الحاجة، كما تباح ضيافته واستضافته"4".   "1" ويدل لهذا ما رواه البخاري "3905" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استأجر ابن أريقط وهو مشرك في وقت الهجرة ليكون دليلاً في الطريق إلى المدينة لما أَمِنَه. "2" ويُستثنى من ذلك من كان تابعاً للمسلم كالعبد المملوك، والزوجة الكتابية، والخادم، كما يُستثنى السكن مع الوالدين، للأمر بصحبتهما في الدنيا معروفاً، ولأن بعض الصحابة سكنوا مع والديهم أو أحدهما، كأبي هريرة. وقد سبقت بعض النصوص في هذه المسألة عند الكلام على الاستيطان في بلاد الكفار. "3" ينظر: أحكام أهل الذمة: عيادة أهل الذمة 1/158، فتاوى شيخنا عبد العزيز ابن باز "جمع الطيار 3/1051"، رسالة "أوثق عرى الإيمان" "مطبوعة ضمن مجموعة التوحيد1/155"، الموالاة والمعاداة 1/729 – 731. "4" ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة 2/44، 63-65، 75. ومما قد يستدل به هنا زيارة سعد بن معاذ لأمية بن خلف في مكة، وزيارة أمية لسعد في المدينة. رواه البخاري "2632". وقال في الآداب الشرعية فصل في إباحة المعاريض 3/22: "لا تجب إجابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594   دعوتهم – أي الكفار – بل تستحب، أو تجوز، أو تكره، مع أن الشارع أمر بها أمراً عاماً وأجاب دعوة يهودي، فالدليل الذي أخرجهم من الإطلاق والعموم –وهو لما فيه من الإكرام والمودة– "انتهى كلامه. والحديث الذي أشار إليه من إجابته صلى الله عليه وسلم دعوة يهودي رواه الإمام أحمد 3/210، 211 عن أبان عن قتادة عن أنس أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه. ورجاله ثقات، لكن قتادة مدلس، وقد عنعن. وقد رواه أحمد 3/270 عن أبان به؛ ثم قال في آخره: "وقال أبان أيضاً: إن خياطاً "، ورواه كذلك أحمد 3/289 عن همام عن قتادة، حدثنا أنس بلفظ "أن خياطاً ... " ورواه بهذا اللفظ البخاري "2092، 5420"، ومسلم "2041" من أربع طرق عن أنس به. فرواية أبان باللفظ الأول رواية شاذة أو منكرة. وينظر: الإرواء "35". فهذا يدل على عدم ثبوت إجابته صلى الله عليه وسلم لدعوة الكافر. وينظر ما يأتي عند الكلام على الأمر الخامس من الأمور التي تباح في حال التعامل مع الكفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 المبحث الثالث: ما يجوز أو يجب التعامل به مع الكفار مما لا يدخل في الولاء المحرم بعد أن بينت حكم الولاء والبراء، ومظاهر كل منهما، أحببت أن أبين بعض الأمور التي لا تدخل في الولاء المحرم، والتي يجوز أو يستحب التعامل بها مع الكفار، وأن أذكر أيضاً ما يجب لهم على المسلم. وقبل أن أبين هذه الأمور ينبغي أن يعلم أن الكفار ينقسمون إلى أربعة أقسام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 القسم الأول: المعاهدون. وهم الذين يسكنون في بلادهم، وبينهم وبين المسلمين عهد وصلح وهدنة، وذلك ككفّار قريش وقت صلح الحديبية"1"، وككفار الدول الكافرة في عصرنا هذا التي بينها وبين الحاكم المسلم الذي يخضع المسلم لسلطانه عهود وسفارات، فيجوز أن يصالح المسلمون الكفار على السلم وترك الحرب إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، قال الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] "2". القسم الثاني: الذِّمِّيون. وهم الكفار الذين يسكنون بلاد المسلمين وصالحهم المسلمون على أن يدفعوا للمسلمين الجزية"3"   "1" حديث صلح الحديبية رواه البخاري "2698"، ومسلم "1783". "2" صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري: الجزية والموادعة باب الموادعة والمصالحة 6/275، 276، شرح السنة 11/157 – 167، مراتب الإجماع ص143، 144، بداية المجتهد 1/387، 388، المغني 8/153 – 163، الوجيز 2/203، 204، بدائع الصنائع 7/108 – 110، منهاج الطالبين مع شرحه مغني المحتاج 4/260 – 265، مجموع فتاوى ابن تيمية 29/140 – 142، الشرح الكبير مع الإنصاف 10/373 – 392، مواهب الجليل 3/360، اختلاف الدارين ص131 – 135. "3" الجزية هي المال الذي يدفعه الكفار الذين يسكنون بلاد المسلمين مقابل حماية المسلمين لهم ولأموالهم وتسييرهم لشؤونهم، وخضوعاً لسلطان المسلمين. ينظر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 فيجوز السماح للكافر الموجود أصلاً في بلاد المسلمين أو في بلاد يحكمها المسلمون بالاستمرار في سكنى بلاد المسلمين –سوى جزيرة العرب كما سيأتي– وذلك في حال دفعهم الجزية للمسلمين – قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . القسم الثالث: المستأمنون. وهم الذين يدخلون بلاد المسلمين بأمان من ولي الأمر أو من أحد من المسلمين. فيجوز السماح للمشرك بدخول بلاد المسلمين والإقامة فيها فترة مؤقتة للتجارة أو للعمل ونحوهما إذا أمن شرهم وضررهم على   مختصر الفتاوى المصرية ص512، المبسوط 7/81، بدائع الصنائع 7/111، مغني المحتاج 4/242، نيل الأوطار 8/215. ولأهل الذمة أحكام وعليهم واجبات، ويمنعون من بعض الأعمال. وقد فصل أهل العلم هذه المسائل في كتب الفقه في أبواب الجهاد "باب عقد الذمة"، وباب "أخذ الجزية "، وينظر مصنف عبد الرزاق "كتاب أهل الكتابين 6/85 – 90، وكتاب أهل الكتابين 10/324 – 333، مراتب الإجماع ص142، 143، فهرس مجموع الفتاوى 37/182– 185، أحكام أهل الذمة لابن القيم، وزاد المعاد له 3/348، 349، فتاوى اللجنة الدائمة 3/100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 المسلمين، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6] ، وهذا الأمان يعرف الآن بـ"تأشيرة الدخول" "1". ويستثنى من ذلك جزيرة العرب، فلا يجوز دخولهم لها إلا للحاجة، ولا يسمح لهم بالاستيطان فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم عند موته " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب "رواه البخاري ومسلم"2"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يترك بجزيرة العرب دينان " "3"، لكن إن كانت هناك حاجة تدعو إلى دخولهم لهذه الجزيرة فلا بأس"4"، كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر على البقاء فيها للعمل للحاجة الماسة لعملهم فيها، ثم أجلاهم عمر   "1" اختلاف الدارين ص129، 130. "2" صحيح البخاري "3053"، وصحيح مسلم "1637". "3" رواه الإمام أحمد 6/275 بإسناد حسن، رجاله رجال مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال ... فذكره. ورواه الإمام مالك 2/892 عن الزهري مرسلاً. "4" ينظر: مراتب الإجماع ص142، بدائع الصنائع 7/114، المغني 13/75 - 83، شرح السنة 11/180 - 183، الشرح الكبير مع الإنصاف 10/340 - 364، مجموع فتاوى ابن تيمية 28/414، و29/213، 214، مواهب الجليل 3/360، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 3/41، 42، اختلاف الدارين ص127 - 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 -رضي الله عنه- لما زالت الحاجة إليهم"1"، وعليه فلا يجوز استقدامهم إلى جزيرة العرب كعمال أو خدم أو سائقين أو غيرهم مع وجود من يقوم بعملهم من المسلمين"2". القسم الرابع: الحربيون. وهم من عدا الأصناف الثلاثة السابقة من الكفار"3".   "1" رواه البخاري "2338"، ومسلم "1551". "2" وقال شيخنا عبد العزيز بن باز كما في مجموع فتاويه 3/1044، 1045 بعد ذكره للأدلة السابقة: "هذه الجزيرة لا يجوز أن يقيم فيها المشركون لما ذكرنا آنفاً، ولا يجوز السماح لهم بدخولها إلا لحاجة كباعة الحاجات التي تستورد من بلاد الكفرة إلى هذه الجزيرة، وكالبرد الذين يقدمون من بلاد الكفرة لمقابلة ولي الأمر في هذه الجزيرة، أما أن تكون محل إقامة لهم فلا يجوز ذلك. أما استقدامهم ليكونوا عمالاً أو موظفين فيها، وما أشبه ذلك فلا يجوز ذلك، بل يجب الحذر منهم، وأن يُستغنى عنهم بالعمال المسلمين، ويكتفى بهم في العمل بدلاً من الكفار، إلا عند الضرورة القصوى التي يراها ولي الأمر لاستقدام بعضهم لأمور لابد منها، ولا يوجد من يقوم بها من المسلمين، أو صنعة لا يجيدها المسلمون والحاجة ماسة إليها، أو نحو ذلك، ثم بعد انتهاء الحاجة منهم يردون إلى بلادهم، كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في خيبر للحاجة ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه، لما زالت الحاجة إليهم"، وينظر: المرجع نفسه 3/1027، 1053 - 1055، وفتاوى اللجنة الدائمة 2/42. "3" وهم قسمان: 1- قسم بيننا وبينهم حرب قائمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 فهؤلاء يشرع للمسلمين جهادهم وقتالهم بحسب الاستطاعة"1"، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء: 91] . أما الأمور التي تجب للكفار غير الحربيين على المسلمين فمن أهمها: 1- حماية أهل الذمة والمستأمنين ما داموا في بلاد الإسلام، وحماية المستأمن إذا خرج من بلاد المسلمين حتى يصل إلى بلد يأمن فيه"2"، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6] .   2- قسم محايد. فهؤلاء لا مانع من الإعراض عنهم في بعض الأزمنة إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك. وينظر: تفسير البغوي، وتفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير، وتفسير الشوكاني للآية 90 من النساء، مقدمة د. عبد الله الطريقي لرسالة "المذمة في استعمال أهل الذمة" ص8، اختلاف الدارين ص137-139. "1" مراتب الإجماع ص139، بداية المجتهد 1/381 - 389، بدائع الصنائع 7/130، اختلاف الدارين ص141، 142. "2" تفسير الجصاص، وتفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير، وتفسير الألوسي للآية 6 من التوبة، المغني 13/159، 250، الفروق "الفرق 119"، الوجيز 2/201، 202، اختلاف الدارين ص123، 124، 129، 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 2- العدل عند الحكم فيهم وعند الحكم بينهم وبين المسلمين وبين بعضهم بعضاً عند وجودهم تحت حكم المسلمين"1"، قال الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8] ، ومعنى الآية: لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا عند الحكم فيهم أو بينهم وبين غيرهم، بل اعدلوا، فإن العدل أقرب إلى تقوى الله تعالى"2"، والعدل إنما يكون بالحكم بما جاء في كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. 3- دعوتهم إلى الإسلام، فإن دعوة الكفار فرض كفاية على   "1" مصنف عبد الرزاق 11/321 - 324، المغني 13/250، الوجيز 2/201، 202، الشرح الكبير مع الإنصاف 10/491 - 493، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز 3/1027 - 1035. "2" تنظر: قصة عبد الله بن رواحة وعدله في اليهود لما عدل بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في قسم ثمر خيبر، وكانوا أرادوا أن يرشوه، فقال لهم: "يا أعداء الله تطعموني السحت، والله لأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه -يعني النبي صلى الله عليه وسلم - على أن لا أعدل عليكم". فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض. وقد رواها ابن حبان في صحيحه "5199" وغيره، وهي قصة ثابتة، وقد توسعت في تخريجها في رسالة "اليهود" تحت رقم "128، 132". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 المسلمين، وذلك لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولإخراجهم من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق جل وعلا، وإن زار أو عاد المسلم كافراً من أجل دعوته فحسن"1"، فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً يهودياً في مرضه، ودعاه إلى الدخول في الإسلام، فأسلم. رواه البخاري"2". 4 - يحرم إكراه اليهود والنصارى والمجوس على تغيير أديانهم، قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] "3". 5- يحرم على المسلم أن يعتدي على أحد من الكفار غير الحربيين في بدنه بضرب أو قتل أو غيرهما"4"، فقد روى البخاري عن عبد الله بن   "1" مصنف عبد الرزاق 6/34 - 36، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز 3/1039، 1047، 1051. "2" صحيح البخاري "1356". "3" وفي غير اليهود والنصارى والمجوس خلاف. ينظر: تفسير هذه الآية في تفاسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير والشوكاني والسعدي، بداية المجتهد 2/389، 404، المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 10/393 - 399. "4" ينظر: الوجيز 2/201، 202، الزواجر "الكبيرة 403: قتل أو غدر أو ظلم من له أمان أو ذمة أو عهد"، مواهب الجليل 3/360، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز 3/1039، 1047، اختلاف الدارين ص123، 124، 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 عمرو مرفوعاً: " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً " "1"، وروى الإمام أحمد والنسائي عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة " "2". 6 - يحرم على المسلم أن يغش أحداً من الكفار غير الحربيين في البيع أو الشراء، أو أن يأخذ شيئاً من أموالهم بغير حق، ويجب عليه أن يؤدي إليهم أماناتهم"3"، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " "4".   "1" صحيح البخاري: الجزية والموادعة "3166"، وروى مسلم في صحيحه "2613" عن هشام بن حكيم بن حزام أنه مر على أناس من الأنباط في الشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ". "2" رواه أحمد 4/237، و5/369، والنسائي "4763" وإسناده صحيح. وصححه شيخنا عبد العزيز بن باز في بعض دروسه، والألباني في غاية المرام "450". "3" ينظر المراجع السابقة قبل تعليقين، وينظر مصنف عبد الرزاق كتاب أهل الكتاب: ما يحل من أموال أهل الذمة 6/91 - 94, فتاوى اللجنة الدائمة 2/73. "4" رواه أبو داود "3052"، والبيهقي 9/205 بأسانيد كثيرة، يقوي بعضها بعضاً، فهو حديث صحيح. وقد قوى إسناده العراقي والسخاوي، وله شواهد كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 7- يحرم على المسلم أن يسيء إلى أحد من الكفار غير الحربيين بالقول، ويحرم الكذب عليهم، لعموم قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83] "1"، بل ينبغي له أن يلين القول لهم، وأن يخاطبهم بكل ما هو من مكارم الأخلاق مما ليس فيه إظهار للمودة وليس فيه تذلل لهم ولا إيثار من المسلم لهم على نفسه"2". 8- يجب إحسان الجوار لمن كان له جار من الكفار غير الحربيين بكف   "1" ينظر: فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز 3/1047. "2" قال القرافي المالكي في الفروق: الفرق 119 بين قاعدة برِّ أهل الذمة وبين قاعدة التودد لهم 3/15: "أما ما أمر به من برهم من غير مودة باطنية: فالرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف بهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفاً منا بهم لا خوفاً وتعظيماً، والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم جميع حقوقهم، وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله ومن العدو أن يفعله مع عدوه فإن ذلك من مكارم الأخلاق"، وينظر: فتاوى اللجنة الدائمة 2/21، 43، 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 الأذى عنه، ويستحب أن يحسن إليه بالصدقة عليه إن كان فقيراً، وأن يهدي إليه، وأن ينصح له فيما ينفعه"1" لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ". متفق عليه"2". 9- يجب على المسلم أن يرد السلام على الكافر، فإذا سلم على المسلم بقول: "السلام عليكم" وجب على المسلم أن يرد عليه بقوله: " وعليكم " فقط، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم ". متفق عليه"3". لكن لا يجوز أن يبدأ الكافر بالسلام عليه،   ينظر: المقاصد الحسنة، رقم "1044"، السلسلة الصحيحة، رقم "445". "1" ينظر: التعليق السابق، وينظر: قصة إهداء عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - لجاره اليهودي واستدلاله بالحديث الآتي في سنن الترمذي "1943"، وقد توسعت في تخريجه في رسالة اليهود تحت رقم "129"، وينظر: فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز 3/1040، 1047، 1056. "2" صحيح البخاري "6015"، وصحيح مسلم "2625". "3" صحيح البخاري "6258"، وصحيح مسلم "2163" من حديث أنس. وروى البخاري "6257"، ومسلم "2164" عن ابن عمر مرفوعاً: " إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم. فقولوا: وعليكم ". وبعض أهل العلم يرون أن يرد على الكافر السلام بمثل ما قال، لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] ، وقالوا: إن هذا الحديث وارد في حق اليهود الذين كانوا يقولون: "السام عليكم" ويقصدون بـ"السام": الموت، قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة 1/157: "العدل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام ". رواه مسلم"1". ويجوز للمسلم أن يتلطف بالكافر، فيناديه بكنيته، ويسأله عن حاله   التحية يقتضي أن يرد عليه نظير سلامه". وينظر في هذه المسألة أيضاً: مصنف عبد الرزاق كتاب أهل الكتاب 6/10 - 13، 117، وكتاب أهل الكتابين 11/372، المصنف لابن أبي شيبة كتاب الأدب فصل في أهل الذمة يبدأون بالسلام 8/438 - 440، وفصل في رد السلام على أهل الذمة 8/442-444، تفسير ابن جرير "تفسير الآية 86 من النساء"، فتح الباري: الاستئذان باب التسليم في مجلس فيه أخلاط، والبابان بعده 11/39 - 46، الشرح الكبير مع الإنصاف 10/452 - 454، وينظر التعليق الآتي. "1" صحيح مسلم "2167"، وتتمة الحديث: " فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه "، قال أهل العلم: المراد: أن لا يوسع لهم في الطريق بحيث يضيِّق على نفسه، فلا يؤثرهم على نفسه ويجعلهم في منزلة أعلى منه، أما أذاهم في الطريق أو غيره فهو محرم. ينظر: شرح النووي 14/147، شرح الطيبي 9/11، أحكام أهل الذمة 1/218، إكمال المعلم 5/435، 436، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 2/39. وقال شيخنا محمد بن عثيمين كما في المرجع السابق 3/34، 38: "ولا يجوز كذلك أن يبدؤا بالتحية كأهلاً وسهلاً وما أشبهها؛ لأن في ذلك إكراماً لهم وتعظيماً لهم، ولكن إذا قالوا لنا مثل هذا فإننا نقول لهم مثل ما يقولون؛ لأن الإسلام جاء بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه ... وإذا مد يده إليك للمصافحة فمد يدك إليه وإلا فلا تبدأ"، وينظر 3/41، 47 من هذا المرجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 وحال أولاده، ويهنئه بمولود ونحوه، ويبدأه بالتحية ك"أهلاً" ونحوها إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك، كترغيبه في الإسلام، وإيناسه بذلك ليقبل الدعوة إلى الإسلام ويستمع لها"1"، أو كان في ذلك مصلحة للمسلم بدفع ضرر عنه أو جلب مصلحة مباحة له، ونحو ذلك"2". كما يجوز للمسلم أن يعزِّي الكافر في ميَّته إذا رأى مصلحة شرعية في ذلك، لكن لا يدعو لميتهم بالمغفرة؛ لأنه لا يجوز الدعاء لموتى الكفار بالرحمة والمغفرة"3". وعلى وجه العموم فإنه يجوز للمسلم أن يتلطف بالكافر بالقول وبالفعل الذي ليس فيه إهانة للمسلم عند وجود مصلحة شرعية في   "1" ينظر: مصنف عبد الرزاق 6/42، 122، و11/391، المغني 13/251، الفروع 6/269 - 272، أحكام أهل الذمة 1/161، 162، الشرح الكبير مع الإنصاف 10/453 - 457، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز 3/1040 - 1042، فتاوى اللجنة الدائمة 3/312، فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 3/34 - 37. "2" الفتح: الاستئذان باب من لم يسلم على من اقترف ذنباً 11/41، الفروع 6/271، شرح النووي لصحيح مسلم 14/144، 145، فتاوى اللجنة الدائمة 3/312، الولاء والبراء ص359 - 363، الموالاة والمعاداة 2/725 - 737، وينظر كلام الألوسي الآتي عند الكلام على بر الكافر بالهدية - إن شاء الله تعالى-. "3" تنظر المراجع المذكورة في التعليقين السابقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 ذلك"1".   "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء 1/420، 421: "إن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا، شرع ذلك. ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمورهم، لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد. فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعزّ الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة. وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة تختلف لهم باختلاف الزمان والمكان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا". وقال الحافظ ابن القيم في أحكام أهل الذمة: فصل: قالوا: لا نتكنى بكناهم 2/188: "مدار هذا الباب وغيره مما تقدم على المصلحة الراجحة، فإن كان في كنيته وتمكينه من اللباس وترك الغيار - أي تركه يلبس ما يريد ولا يُلزم بأن تغاير ثيابه ثياب المسلمين - والسلام عليه أيضاً ونحو ذلك تأليفاً له ورجاء إسلامه وإسلام غيره كان فعله أولى كما يعطيه من مال الله لتألفه على الإسلام, فتألفه بذلك أولى، ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تأليفهم الناس على الإسلام بكل طريق تبين له حقيقة الأمر وعلم أن كثيراً من هذه الأحكام التي ذكرناها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 ويدل على جواز ذلك قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] ، والتقيَّة إظهار الموالاة مع إبطان البغض والعداوة لهم"1"، وعليه فيحرم أن يتكلم معهم بكلام يقصد به الموادة لهم - أي كسب محبتهم - من غير تحقيق مصلحة شرعية"2". وهناك أمور يباح أو يستحب للمسلم أن يتعامل بها مع الكفار، منها: 1- يجوز استعمالهم واستئجارهم في الأعمال التي ليس فيها ولاية   الغيار وغيره تختلف باختلاف الزمان والمكان والعجز والقدرة والمصلحة والمفسدة". "1" ينظر: تفسير هذه الآية في تفاسير ابن جرير والبغوي والجصاص، صحيح البخاري مع شرحه لابن حجر: أول كتاب الإكراه 12/311 - 314، الدواهي المدهية ص92 - 99، وينظر قول الألوسي الآتي عند الكلام على برِّ الكافر بالهدية -إن شاء الله تعالى-. "2" قال شيخنا محمد بن عثيمين كما في مجموع فتاويه 3/43: "كل كلمات التلطف التي يقصد بها الموادة لا يجوز للمؤمن أن يخاطب بها أحداً من الكفار، وكذلك الضحك إليهم لطلب الموادة بينهم لا يجوز"، كما لا يجوز للمسلم أن يشيع جنائز الكفار، إلا أن يكون الميت من أقاربه. ينظر: أحكام أهل الذمة 1/159، 160، والمرجع السابق 3/40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 على مسلم وليس فيها نوع استعلاء من الكافر على المسلم، فيجوز أن يعمل عند المسلم في صناعة أو بناء أو في خدمة، فقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط في الهجرة"1"، واستعمل يهود خيبر في أرضها ليزرعوها ولهم نصف ما يخرج منها"2"، أما الأعمال التي فيها ولاية على المسلمين أو فيها اطلاع على أخبارهم فلا يجوز توليتهم إياها"3" "4".   "1" رواه البخاري "2263". "2" رواه البخاري "2285"، ومسلم "1551". "3" وعليه فلا يجوز أن يعمل كاتباً يصرف أمور المسلمين أو يطلع على أخبارهم، ولا قابضاً للأموال منهم ولا مصرفاً لشيء من أمور المسلمين. وينظر: مصنف عبد الرزاق 6/108، 109، صحيح البخاري مع الفتح: الإجارة باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام 4/442، المذمة في استعمال أهل الذمة لابن النقاش، مختصر الفتاوى المصرية ص512، 513، النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار للورداني ص99 - 110، القول المبين ص97 - 100، التدابير الواقيه من التشبه بالكفار 2/560 - 571. "4" ينظر ما سبق عند النوع السابع من الولاية المحرمة، وقال الحافظ ابن القيم في أحكام أهل الذمة 1/187: "ولما كانت التولية - أي توليتهم تصريف أمر من أمور المسلمين - شقيقة الولاية كانت توليتهم نوعاً من توليهم وقد حكم تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 2- يستحب للمسلم الإحسان إلى المحتاج من الكفار، كالصدقة على الفقير المعوز منهم، وكإسعاف مريضهم"1"، لعموم قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ، ولعموم حديث " في كل كبد رطبة أجر" رواه البخاري ومسلم "2". 3- تستحب صلة القريب الكافر، كالوالدين والأخ بالهدية والزيارة ونحوهما، لكن لا يتخذه المسلم جليساً، وبالأخص إذا خشيت فتنته وتأثيره على دين المسلم، قال الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] ، وقال تعالى في حق الوالدين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً   بأن من تولاهم فإنه منهم، ولا يتم الإيمان إلا بالبراء منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً، والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً، والولاية وصلة، فلا تجامع معاداة الكفار أبداً". "1" ينظر: آخر الأموال لأبي عبيد ص727-729، ومجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز ابن باز 3/1022، 1047، مجموع فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 3/44، وينظر: ما سبق نقله عن الفروق للقرافي عند الكلام على تحريم أذى الكفار بالكلام ونحوه. "2" صحيح البخاري "2363"، وصحيح مسلم "2244". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] "1". 4- يجوز برهم بالهدية ونحوها لترغيبهم في الإسلام، أو في حال دعوتهم، أو لكف شرهم عن المسلمين، أو مكافأة لهم على مسالمتهم للمسلمين وعدم اعتدائهم عليهم، ليستمروا على ذلك، أو لما يشبه هذه الأمور من المصالح الشرعية، قال الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] ، والبر هو: الاحسان إليهم بالمال   "1" وفي معنى هذه الآية: الآية "8" من سورة العنكبوت، وينظر: مصنف عبد الرزاق كتاب أهل الكتاب 6/33 - 36، وكتاب أهل الكتابين 11/352، 353، أحكام أهل الذمة 1/158، مجموع فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 3/18. وقد روى البخاري في الهبة باب الهدية للمشركين "2620"، ومسلم "1003" أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت أبي بكر أن تصل أمها، وهي مشركة. وروى البخاري في الباب السابق "2619"، ومسلم "2068" أن عمر بن الخطاب أهدى إلى أخيه حلة وهو مشرك، وذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت في صحيح البخاري "1020، 4821، 4822" أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لقريش لما أصابهم الجهد وذكَّره أبو سفيان بأنه يأمر بصلة الرحم، فسقوا الغيث سبعة أيام متواصلة، فشكا الناس كثرة المطر، فقال: " اللهم حوالينا ولا علينا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 أو غيره، والقسط هو: العدل"1""2"، أما إذا كانت الهدية من باب الصداقة أو المحبة ونحوهما فهي محرمة. 5- يستحب إكرامه عند نزوله ضيفاً على المسلم"3"، كما يجوز   "1" قال العلاَّمة محمود الألوسي في تفسيره روح المعاني في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] : "وعدَّ قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطاءهم لكف أذاهم وقطع ألسنتهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها، بل هو سنة وأمر مشروع". وينظر: مختصر التحفة الاثني عشرية ص317، 318 للألوسي أيضاً، وإرشاد أولي الألباب ص54 - 60. "2" ينظر: تفسير ابن كثير لهذه الآية، وقد استدل الحافظ ابن كثير على تفسير القسط بالعدل بالحديث الذي رواه مسلم "1827" عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " وينظر: تفسير هذه الآية في تفسير الطبري، وتفسير البغوي، وتفسير الجصاص، وتفسير ابن العربي، فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز ص1022، الإرشاد للفوزان ص286، 287، التدابير الواقيه من التشبه بالكفار 2/452 - 461، وينظر ما سبق نقله من الفروق للقرافي عند الكلام على تحريم أذى الكفار بالكلام. "3" يدل لهذا عموم النصوص التي فيها الأمر بإكرام الضيف، وينظر: أحكام أهل الذمة ص194 - 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 أن ينزل المسلم ضيفاً على الكافر"1"، لكن لا يجوز إجابة المسلم لدعوته، لما في ذلك من الموادة له"2". 6- يجوز الأكل العارض معهم، من غير أن يتخذ المسلم الكافر صاحباً وجليساً وأكيلاً، فيجوز أن يأكل مع الكافر في وليمة عامة، أو وليمة عارضة، وأن يأكل مع خادمه الكافر"3"، أو في حال كون الكافر ضيفاً عند المسلم أو إذا نزل المسلم ضيفاً عند الكافر، من غير قصد التحبب إليه بذلك، ومن غير قصد للاستئناس به، أما إن جالسه بقصد التحبب إليه من غير تحقيق مصلحة شرعية، أو جالسه   "1" ويدل لهذا: حديث أبي سعيد الذي سبق في الرقى في الباب السابق ونصوص أخرى تنظر في المرجع السابق. "2" قال في الدواهي المدهية ص59 نقلاً عن الشيخ عبد الباقي المالكي: "وقال ابن عرفة: الأصوب أو الواجب عدم إجابته - أي الكافر- إذا دعا مسلماً لوليمة؛ لأن في إجابته إعزازاً له، والمطلوب إذلاله. وقال ابن رشد: الأحسن أن لا يجيب النصراني في ختان ابنه لاسيما إذا كان ممن يقتدى به، لما فيه من التودد إلى الكفار"، وينظر ما سبق عند الكلام على الأمر الثامن من مظاهر الولاء المحرم غير الكفري. "3" ينظر: مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز 3/1039، 1040، 1045، 1054. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 للاستئناس به فذلك محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب"1". 7- يجوز التعامل معهم في الأمور الدنيوية التي هي مباحة في دين الإسلام، فقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود وبايعهم واشترى منهم"2"، كما يجوز للمسلم أن يأخذ عنهم وأن يتعلم منهم ما فيه منفعة للمسلمين من أمور الدنيا مما أصله مباح في دين الإسلام، وقد يكون ذلك مستحباً أو واجباً"3"، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء بعض أسرى بدر ممن لم يكن عنده فداء من المال تعليم أولاد الأنصار الكتابة"4". 8- يجوز للمسلم أن يتزوج بالكافرة الكتابية فقط إذا كانت   "1" ينظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر "الكبيرة 441". "2" ومن ذلك ما رواه البخاري "2068"، ومسلم "1603" عن عائشة قالت: اشترى النبي صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاماً إلى أجل، ورهنه درعاً له من حديد. وينظر: أحكام أهل الذمة 1/204، القول المبين ص81 - 84، فتاوى اللجنة الدائمة 2/43، و3/303، 304، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز 3/1039، 1040. "3" ينظر: رسالة "من تشبه بقوم فهو منهم" ص21، ورسالة "مخالفة الكفار"ص23، ورسالة "السنن والآثار في النهي عن التشبه بالكفار" ص58 - 68، ورسالة "التدابير الواقية من التشبه بالكفار"ص563 - 565. "4" رواه الإمام أحمد "رقم 2216 تحقيق شاكر" بإسناد حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 عفيفة عند الأمن من ضررها على الدين والنفس والأولاد"1"، قال الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ، والمحصنة هي العفيفة عن الزنى، وإن كان الأولى للمسلم أن لا يتزوج بكافرة؛ لأن ذلك أسلم له ولذريته"2"، ولذلك عاتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض من تزوج   "1" ينظر المراجع الآتية بعد تعليقين. "2" قال في الشرح الكبير 20/348: "لأنه ربما مال إليها قلبه، ففتنته، وربما كان بينهما ولد، فيميل إليها"، وقال الشيخ محمد حسنين مخلوف في القول المبين في حكم المعاملة بين الأجانب والمسلمين ص106، 107: "إن كان الميل القلبي إلى غير المسلم وموادته لا من حيث دينه وعقيدته بل لقرابة أو مودة حادثة لأسباب اقتضتها ميلاً طبيعياً خارجًا عن حد القصد والاختيار كميل الصائم في اليوم القائظ إلى جرعة من الماء البارد، وكالميل إلى الصور الجميلة والأشكال الرائعة، فذلك معفو عنه لخروجه عن حد القصد والاختيار، والمنهي عنه شرعاً من الموالاة: الميل القلبي والانعطاف النفسي الذي يدخل تحت طاقة التكاليف دون الميل الطبيعي الذي تقتضيه وسائله الضرورية ولا صلة له أصلاً بالدين والعقيدة. ومن ذلك ميل الزوج المسلم إلى زوجته غير المسلمة فهو معفو عنه. نعم يجب أن لا يبلغ هذا الميل القلبي مبلغ الإيثار، لأنه قد يدفع إلى استحسان طريقته، والرضا بديانته وعقيدته وذلك كفر بواح. قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} والتوسع في الميل إلى هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 بكافرة، وأمره أمر ندب بطلاقها"1". أما بقية الكافرات غير الكتابيات فلا يجوز للمسلم أن يتزوج بواحدة منهن بإجماع أهل العلم، لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، فإن تزوج بها فالنكاح باطل"2".   الحد لا شك أنه يجر إلى بلاء عظيم. وكذلك يجب أن لا يفضي الميل إلى تملق وتَزلفٍ وانقياد وخضوع قولاً أو عملاً, لأن في ذلك ذلة وهوانا لا يليقان ممن أعزه اللَّه بالإسلام". "1" ينظر: سنن سعيد بن منصور: النكاح 1/193، 194، مصنف عبد الرزاق 6/78، 79، 84، تفسير ابن جرير لآية "221" من البقرة 4/366، 367، سنن البيهقي 7/172. "2" وفي نكاح المجوسية ومن يزعم التمسك بصحف إبراهيم وشيت وزبور داود خلاف عن أفراد من أهل العلم والصواب تحريمه وبطلانه، أما بقية الكافرات فلا خلاف في تحريم نكاحهن، وبطلانه عند وقوعه. ينظر الشرح الكبير مع الإنصاف 20/349، 350، 355، تفسير ابن جرير، وتفسير ابن العربي، وتفسير الجصاص، وتفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير، وتفسير الشوكاني لهذه الآية وللآية الخامسة من سورة المائدة، سنن البيهقي 7/170 – 173، أحكام أهل الذمة 1/228، 302 – 313، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز "جمع الطيار 3/1050"، فتاوي اللجنة الدائمة 3/299، 300، اختلاف الدارين ص161 – 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 أما المسلمة فلا يجوز لأي كافر كتابي أو غيره أن يتزوج بها بإجماع المسلمين"1". 9 – يجوز للمسلمين أن يستعينوا بالكفار في صد عدوان على المسلمين، وذلك بشرطين أساسيين: الأول: الاضطرار إلى إعانتهم"2". الثاني: الأمن من مكرهم وضررهم، بحيث يكونون جنوداً مرؤوسين عند المسلمين، وتحت إشرافهم ومتابعتهم بحيث لا يمكن أن يحصل منهم أي ضرر على المسلمين"3".   "1" حكى هذا الإجماع ابن جرير في تفسير الآية السابقة 4/367. "2" وقد حمل بعض أهل العلم قوله صلى الله عليه وسلم للمشرك الذي أراد الاشتراك معه في الغزو " ارجع فلن استعين بمشرك " رواه مسلم "1817" على أن ذلك كان في حال عدم الحاجة إليه، وقال بعض أهل العلم: إنه منسوخ، لأنه صلى الله عليه وسلم استعان ببعض المشركين في غزوة حنين، كصفوان بن أمية. وأيضاً روى ابن أبي شيبة 12/395 بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه غزا بقوم من اليهود فرضخ لهم. وتنظر أكثر المراجع الآتية. "3" ينظر: مشكل الآثار 6/407 – 419، مصنف عبد الرزاق 5/188، السنن الكبرى للبيهقي 9/37، المحلى: المسألة 953، ج7 ص334، تفسير الآية 144 من النساء وتفسير الآية 51 من المائدة في تفسيري ابن العربي والجصاص المغني 13/98، 99، النهي عن الاستعانة والاستنصار بأهل الذمة ص111 – الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 10– يجوز للمسلم أن يذهب إلى الطبيب الكافر للعلاج إذا وثق به"1". 11– يجوز دفع الزكاة إلى المؤلفة قلوبهم من الكفار، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] "2". 12– يجوز للمسلم أن يشارك الكافر في التجارة، لكن بشرط أن   116، فتح الباري: الجهاد باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر 6/179، 180 القول المبين لحسنين مخلوف ص89 – 97، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز ابن باز 3/1058 – 1065، الاستعانه بغير المسلمين للدكتور عبد الله الطريقي، التدابير الواقية عن التشبه بالمشركين ص577 – 588، هذا وإذا تخلف أحد الشرطين السابقين فإنه يحرم الاستعانة بهم، ولكن ذلك لا يصل إلى مرتبة الكفر، لأنه لم يستعن بهم محبة لهم، ولا رغبة في انتصار الكفار على المسلمين، وإنما ليعينوا بعض المسلمين على من عاداهم من المسلمين. "1" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مختصر الفتاوى المصرية ص516: "وإذا كان اليهودي أو النصراني خبيراً بالطب ثقة عند الإنسان جازله أن يستطبه، كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله، وقد استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً مشركاً لما هاجر" وينظر: الاستيعاب "مطبوع بهامش الإصابة: ترجمة الحارث بن الحارث بن كلدة 1/289"، مجموع الفتاوى 4/114، بدائع الفوائد 3/208، التدابير الواقيه من التشبه بالكفار 2/562، 563. "2" ينظر: تفسير هذه الآية في تفسير ابن جرير، وتفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير، وتفسير الشوكاني، الشرح الكبير مع الإنصاف: 7/231 – 236، مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز " جمع الطيار 3/1041 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 يلي المسلم أمرها أو يشرف عليها، لئلا يقع في تعامل محرم عند إشراف غير المسلم على هذه التجارة وتصريفه لها "1". 13 – يجوز قبول الهدية من الكافر، إذا لم يكن فيها إذلال للمسلم ولا موالاة منه للكافر"2" فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من أكثر من مشرك"3"، لكن إن كانت هذه الهدية بمناسبة عيد من أعياد الكفار فينبغي عدم قبولها"4". 14– يجوز للمسلم أن يعمل عند الكافر، ويجوز أن يعمل في عمل   "1" ينظر: أحكام أهل الذمة 1/205. "2" قال الشيخ محمد حسنين مخلوف في القول المبين ص81: "الاستعانه بغير المسلمين فيما فيه مصلحة دينية أو دنيوية للمسلمين إن كانت بأموالهم ولم تشبها شائبة الإذلال والولاية منهم المنهي عنهما فلا خلاف في جوازها ". أ. هـ مختصراً. وينظر: صحيح البخاري مع الفتح: الهبه باب قبول الهدية من المشرك 6/230، 231، فتاوى اللجنة الدائمة 2/43، و3/303. "3" روى البخاري "1418" أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية ملك إيلة، وروى البخاري "2616"، ومسلم "2469" أن أكيدر دومة الجندل أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة. وينظر: الفتح 3/345، 346، جامع الأصول 11/610 – 614. "4" ففي جواز قبولها حينئذ خلاف بين أهل العلم، وإن كان الكافر يعتقد أن المسلم إذا قبل هديته بهذه المناسبة أنه راض عن عمله هذا فيحرم قبولها. وينظر: فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 3/33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 يديره بعض الكفار، لكن لا يجوز أن يعمل في خدمة الكافر الشخصية، لما في ذلك من إذلال نفسه له "1".   "1" وقد رعى الأنبياء عليهم السلام الغنم للكفار، وعمل بعض الصحابة كصهيب وغيره في مكة لبعض الكفار. وينظر: صحيح البخاري مع الفتح: الإجارة باب استئجار المشركين 4/442، وباب هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك 4/452، أحكام أهل الذمة 1/207 – 213، مجموع فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين 3/38، الموالاة والمعاداة 2/875, التدابير الواقية من التشبه بالكفار ص572 – 577. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621