الكتاب: تدوين السنة النبوية نشأته وتطوره من القرن الأول إلى نهاية القرن التاسع الهجري المؤلف: أبو ياسر محمد بن مطر بن عثمان آل مطر الزهراني (المتوفى: 1427هـ) الناشر: دار الهجرة للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1417هـ/1996م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- تدوين السنة النبوية نشأته وتطوره من القرن الأول إلى نهاية القرن التاسع الهجري محمد بن مطر الزهراني الكتاب: تدوين السنة النبوية نشأته وتطوره من القرن الأول إلى نهاية القرن التاسع الهجري المؤلف: أبو ياسر محمد بن مطر بن عثمان آل مطر الزهراني (المتوفى: 1427هـ) الناشر: دار الهجرة للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1417هـ/1996م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] تَدْوينُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّة نَشْأَتُهُ وَتَطَوُّره من القرن الأوَّل إلى نهاية القرن التاسع الهجري تأليف: الدكتور محمد بن مطر الزهراني بسم الله الرحمن الرحيم ال مُقَدِّمَة: وَبِهِ نَسْتَعِين الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، لا يحصي عدد نعمه العادُّون، ولا يؤدي شكره المتحمِّدون، ولا يبلغ مدى عظمته الواصفون، بديع السموات والأرض إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، أحمده على آلائه، وأشكره على نعمائه، وأستعين به في الشِّدَّة والرَّخاء، وأتوكل عليه فيما أجراه من القدر والقضاء، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأعتقد أن لا ربَّ إلا إيَّاه، شهادة من لا يرتاب في شهادته، واعتقاد من لا يستنكف عن عبادته، وأشهد أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم عبده الأمين ورسوله المكين حسن الله به اليقين، بلَّغ الرسالة وأظهر المقالة ونصح الأمَّة وكشف الغمَّة، وجاهد في سبيل الله المشركين، وعبد ربه حتى أتاه اليقين، فصلى الله على محمَّدٍ سيد المرسلين، وعلى أهل بيته الطيبين، وأصحابه المنتخبين، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين 1 أما بعد   1 اقتباس من استهلال الخطيب لتاريخ بغداد 1 / 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 فقد اختار الله طائفةً لصفوته، وهداهم للزوم طاعته من اتباع سبل الأبرار في لزوم السنن والآثار فزيَّن قلوبهم بالإيمان، وأنطق ألسنتهم بالبيان من كشف أعلام دينه، واتِّباع سنن نبيه، بالدؤوب في الرحل والأسفار وفراق الأهل والأوطار، في جمع السنن ورفض الأهواء والتفقه فيها بترك الآراء، فتجرد القوم للحديث وطلبوه، ورحلوا فيه وكتبوه، وسألوا عنه وأحكموه وذاكروا به ونشروه، وتفقهوا فيه وأصَّلوه، وفرَّعوا عليه وبذلوه، وبيَّنوا المرسل من المتصل، والموقوف من المنفصل، والناسخ من المنسوخ، والمحكم من المفسوخ، والمفسَّر من المجمل، والمستعمل من المهمل، والغريب من المشهور. والعدول من المجروحين، والضعفاء من المتروكين، والكشف عن المجهول، وما حُرِّف أو قُلِب من المنحول من مخايل التدليس وما فيه من التلبيس، حتى حفظ الله بهم الدِّين على المسلمين، وصانه عن ثلب القادحين، وجعلهم عند التنازع أئمة الهدى، وفي النوازل مصابيح الدُّجى، فَهُمْ ورثة الأنبياء ومأنس الأصفياء. 1 وقد جعل الله تعالى أهل الحديث أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين   1 انظر: صحيح ابن حبان 1 / 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 النَّبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون في حفظ ملَّته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة، وكل فئة تتحيَّز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأياً تعتكف عليه، سوى أصحاب الحديث فإن كتاب الله عُدَّتُهم، والسُّنَّة المطهَّرة حُجَّتُهم، والرسول صلى الله عليه وسلم فِئتهم وإليه نسبتهم، لا يعرِّجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يُقبل منهم ما رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المأمونون عليه حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته، منهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وقارئٌ متقن، وخطيب محسن، وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم، ومن كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله، لا يضرهم من خالفهم، ولا يفلح من اعتزلهم المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير 1. وبعد: فهذه نبذٌ يسيرة من جهود تلك الأجيال المتعاقبة من سلفنا الصالح المذكور وصفهم آنفاً، الذين بذلوا كل جهد وكل غالٍ ونفيس في سبيل خدمة السُّنَّة المطهَّرة وحفظها وتدوينها ونقلها إلى الأمة.   1 انظر: شرف أصحاب الحديث للخطيب ص: 8 – 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 جمعت هذه النبذ من مصادر شتَّى، وألَّفت بينها مع شيء يسير من التعليق والربط والتعريف بتلك الجهود، وذلك خلال قيامي بتدريس (مادة تدوين السُّنَّة النبوية عبر عصوره المختلفة) لطلبة السُّنَّة الأولى بكلية الحديث بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، حيث ألفيت موضوعات منهج هذه المادة لايجمعها أو أكثرها كتاب ليكون موافقاً - أو على الأقل مقارباً - لمنهج هذه المادة في الكلية، وليكون مرجعاً بيد الطلبة في العاجل على أن يعود إلى مصادره الأصلية في الآجل. فرتَّبته وهذَّبته وسمَّيته: تدوين السُّنَّة النبوية نشأته وتطوره من القرن الهجري الأول إلى نهاية القرن الهجري التاسع. وضمنته خمسة أبواب وتحت كل باب عدة فصول وقسَّمت كل فصل إلى عدة فقرات. وقد بدأته بتمهيد شرحت فيه معنى جملة تدوين السُّنَّة. ثم جعلت الباب الأول في بيان مكانة السُّنَّة في الإسلام وعناية السلف بها. وفيه ثلانة فصول: الفصل الأول: في ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله - عز وجل - وحكم سُّنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وذكرت فيه ما جاء في ذلك من الكتاب والسُّنَّة وأقوال السلف. والفصل الثاني: عن عناية السلف بالسُّنَّة وضمنته ثلاث فقرات هي: أولاً: عناية الصحابة بالسنة وثانيا: عناية التابعين ومن بعدهم وثالثا: الرحلة في طلب الحديث أما الفصل الثالث فقد تحدثت عن موقف أصحاب الأهواء والفرق من حجية السنة، وقسمته إلى ثلاث فقرات: الأولى: عن الذين يردُّون السُّنَّة مطلقاً. الثانية: عن الذين يردُّون خبر الآحاد. الثالثة: عن الذين يردُّون الزيادة على النص. وتحدثت في الباب الثاني عن تدوين السُّنَّة في القرنين الأول والثانى حيث قسمته إلى فصلين: الأول: التدوين في القرن الأول: وقد أثبتُّ فيه بالأدلَّة والبراهين أن التدوين قد بدأ بداياته الأولى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذكرت جهود الصحابة ثم التابعين بمختلف طبقاتهم في التدوين في هذا القرن. والثاني: التدوين في القرن الثاني الهجري: وفيه أشرت إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تطوُّر التدوين في هذا القرن وذكرت قائمة بأسماء أشهر المصنفين في هذا العصر، ثم درست نموذجاً مما أُلُّف في هذا القرن دراسةً موجزةً، وهذا النموذج هو "موطأ الإمام مالك" رحمه الله. أما الباب الثالث: فخصصته للكلام عن تدوين السُّنَّة في القرن الثالث الهجري الذي يعتبر أزهى عصور تدوين العلوم الإسلامية، وعلوم السُّنَّة النَّبويَّة على وجه الخصوص. وقد جعلته في فصلين قدمت لهما بكلمة موجزة عن جهود علماء هذا القرن في تطوير التدوين وابتكارهم في طريقة التأليف، وتنويعهم مجالات التصنيف. الفصل الأول: ضمنته الكلام عن المسانيد في فقرتين: - الأولى: عن تعريف المسانيد وطريقة تأليفها وأهم المسانيد. والثانية: دراسة موجزة عن مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. والفصل الثاني: فيه دراسة موجزة جداً عن كل واحد من الكتب الستة المعروفة، وأوجزت الدراسة فيها لأمرين: الأول: أنها معروفة ومشهورة والدراسات عنها كثيرة في القديم والحديث. والثاني: أنَّ هذه الكتب تدرس في سنوات الكُلِّيَّة الأربع، ويأخذ الطلبة نماذج منها مع التعريف بكل كتابٍ ومؤلفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 أما الباب الرابع: فقد ذكرت فيه التدوين في القرنين الرابع والخامس، وذلك في فصلين: الأول: عن التدوين في القرن الرابع الهجري، وفيه فقرتان: الأولى: تعريفٌ موجزٌ ببعض الكتب المدوَّنة في السُّنَّة في هذا القرن وهي سبعة كتب: - 1- صحيح ابن خزيمة. 2- صحيح ابن حبان. 3- مستدرك الحاكم. 4- شرح مشكل الآثار للطحاوي. 5- المعجم الكبير للطبراني. 6- سنن الدارقطني. 7- السنن الكبرى للبيهقى. والفقرة الثانية: عن كتب المستخرجات. والفصل الثاني: خصصته للتدوين في القرن الخامس الهجرى. وقد اشتمل على موضوعين: الأول: ذكر أهم الكتب المؤلفة في الجمع بين الكتب الستة أو بعضها. والثاني: تعريفٌ موجزٌ بثلاثة كتب هى: 1- شرح السُّنَّة للبغوي. 2- مصابيح السُّنَّة للبغوي أيضاً. 3- جامع الأصول لابن الأئير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وفي الباب الخامس تكلمت عن: "اتجاه التدوين بعد القرن الخامس الهجري" وجعلته فصلين مهَّدتُ لهما بتعريفٍ موجزٍ بأحوال العالم الإسلامي خلال القرون الأربعة من القرن الخامس إلى نهاية الفرن التاسع تقريباً وذلك في فقرتين: - الأولى: عن أهم المحن والفتن التي واجهت المسلمين عموماً وأهل السُّنَّة خصوصاً. والثانية: عن جهود العلماء في مقاومة هذه الفتن والمحن وإبراز جهود أهل السُّنَّة في ذلك مع بيان أنهم كانوا هم المنقذ - بعد الله - للمسلمين مما تردَّوا فيه من البدع والخرافات وجميع الانحرافات. أما الفصل الأول: فقد تضمن الكلام عن الكتب التي أُلِّفت في موضوعات خاصة محدودة مثل: 1- كتب الموضوعات. 2- كتب الأحكام. 3- كتب الغريب. 4- كتب الترغيب والترهيب. والفصل الثاني: عن كتب الموضوعات الشاملة العامة مثل: كتب الأطراف والتخريج والزوائد والمجاميع ونحوها. ولعلَّه بهذا البيان الموجز عما تضمَّنه هذا الكتاب يتبيَّن المراد من العنوان: "تدوين السُّنَّة النبوية نشأته وتطوره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وبعد: فهذا تلخيصٌ موجزٌ لتلك الجهود الخيِّرة المباركة التي قدمها سلفنا الصالح عبر عصوره المختلفة في خدمة الإسلام عموماً والسُّنَّة المطهَّرة على وجه الخصوص. وفي الختام أحب أن أنبِّه على الأمور التالية: 1- أن سبب اقتصاري على القرون التسعة الأولى هو أنه لم يعد في العصور التالية لها تجديد ولا ابتكار، وما كان من جهود في خدمة السُّنَّة بعد ذلك إنما هو بمثابة تكرار لجهود السابقين أو خدمة لها بالشروح والتلخيصات والتعليقات ونحو ذلك. 2- أنه كانت هناك جهود مخلصة ومباركة لعلماء الهند بعد القرن التاسع لخدمة السُّنَّة وذلك من خلال عنايتهم بكتب السلف، روايةً وسماعاً وشرحاً وتعليقاً ونحو ذلك، وعلى رأس تلك الكتب التي اعتنوا بها الكتب الستة، وكذلك من خلال التصنيف في علوم الحديث المختلفة وغير ذلك من المجالات مما لا يتسع المقام لبسطه. 3- عاد للحرمين شيء من مكانتهما العلمية بعد القرن التاسع، وذلك بعد أن فقدت تلك المكانة منذ القرن الثالث الهجري تقريباً، وذلك بسبب تسلط الروافض في هذين البلدين على الولاية والمنبر، نص على ذلك كل من: الإمام ابن تيمية في المجلد الثامن والعشرين من "الفتاوى"، والحافظ الذهبي في كتابه "معرفة الأمصار ذوات الآثار"، وشمس الدين السخاوي في كتابه "التحفة اللطيفة" وكذلك أشار إلى ذلك ابن بطوطة في رحلته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 إذ بعد دخول العثمانيين أرض الشام ومصر والحجاز كان لهم جهودٌ مشكورةٌ في قمع الروافض في الحجاز وفي غيره من ديار الإسلام، كما كان لأسلافهم التركمان والسلاجقة مثل ذلك الموقف مع الروافض والباطنيين في زمانهم. وكان ممن له جهود في خدمة السُّنَّة فيما بعد القرن العاشر الهجري كل من: عبد الرؤف المناوي (ت 1031 هـ) ، وعلي القاري (ت 1014 هـ) ، ومحمد عبد الهادي السندي (ت 1138 هـ) وغيرهم. 4- قامت في جزيرة العرب نهضة علمية سلفيَّة على منهاج أهل السُّنَّة والجماعة مستنيرة بجهود مدرسة شيخ الإسلام الحافظ أبي العباس ابن تيمية وتلاميذه، وذلك على يد شيخ الإسلام المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه وأحفاده منذ القرن الثاني عشر الهجري، ومازلنا نعيش بفضل الله على آثار تلك النهضة السلفيَّة المباركة، والتي أعادت لأهل السُّنَّة مكانتهم ورفعت رؤوسهم بعد أن طغت البدع وانتفش أصحابها على أهل السُّنَّة في الأعصار المتأخرة. 5- كان لكل من الشيخ أحمد بن محمد بن شاكر- رحمه الله - والشيخ محمد ناصر الدين الألباني – حفظه الله - جهود طيبة ومفيدة في هذا القرن في خدمة السُّنَّة وعلومها تحقيقاً وتخريجاً وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 6- أن من كَتَبَ في التدوين وما يتعلق به قبلي اقتصروا على الكلام عن ذلك في القرن الأول وبعضهم توسع قليلاً إلى القرن الثالث مع الاختصار في ذلك، وأكثر من توسع في هذا فيما اطلعت عليه: الشيخ أبو زهو في كتابه "الحديث والمحدثون"، لكنني سلكت منهجاً غير الذي سلك في كتابه، وذلك أنني راعيت المنهج المقرَّر في الكُلِّيَّة قدر الإمكان، وأسال الله التوفيق والسَّداد لما يحبه ويرضاه. وكتبه محمّد بن مطر الزهراني في المدينة النَّبويَّة حرسها الله في الخامس عشر من شهر ربيع الأول من عام ألف وأربعمائة واثني عشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 تمهيد قبل أن أشرع في بيان أبواب وفصول هذا الكتاب أحب أن أمهِّد بين يدي أبحاثه وموضوعاته بشرح عنوانه: فالتدوين في اللغة: تقييد المتفرق وجمع المتشتت في ديوان؛ ومنه جمع الصحف في كتاب، وهو فارسي معرَّب. 1 وفي الاصطلاح: يستعمل التدوين بمعنى التصنيف والتأليف. أما السُّنَّة في اللغة: فهي السيرة والطريقة حسنة كانت أو قبيحة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من سنَّ في الاسلام سُنِّةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئأ، ومن سنَّ في الإسلام سُّنَّة سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً". 2 ومنه قول خالد بن زهير الهذلي: فلا تجزعن من سُّنَّةٍ أنت سرتها ... فأول راضٍ سُّنَّةً من يسيرها   1 انظر: مادة "دون" في الصحاح للجوهري، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، وتاج العروس للزبيدي. 2 رواه مسلم في كتاب العلم من صحيحه ح: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ومن معانيها في اللغة أيضاً: حسن الرعاية والقيام على الشيء، وذلك من قول العرب: "سنَّ الرجل إبله إذا أحسن رعايتها والقيام عليها". 1 وفي الاصطلاح: تطلق السُّنَّة ويراد بها عدة اصطلاحات: - 1- قال ابن منظور: "وقد تكرر في الحديث ذكر السُّنَّة وما تصرف منها والأصل فيه: الطريقة والسيرة، وإذا أطلقت في الشرع، فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وندب إليه قولاً وفعلاً مما لم ينطق به الكتاب العزيز، ولهذا يقال في أدلة الشرع: الكتاب والسُّنَّة، أي القرآن والحديث". 2 2- وقال الإمام الشاطبي: "ويطلق لفظ السُّنَّة أيضاً في مقابلة البدعة، فيقال: فلان على سُّنَّةٍ، إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: فلان على بدعةٍ، إذا عمل على خلاف ذلك". 3 ثم قال أيضاً: "ويطلق لفظ السُّنَّة على ما عمل عليه الصحابة، وُجد ذلك في الكتاب أو لم يوجد، لكونه اتِّباعاً لسُنَّةٍ ثبتت عندهم لم تُنقل إلينا أو اجتهاداً مجتمعاً عليه منهم أو من   1 انظر: مادة "سنن" في الصحاح ولسان العرب لابن منظور. 2 انظر: مادة "سنن" في لسان العرب. 3 انظر: الموافقات للشاطبي 4 / 3 – 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 خلفائهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنَّتي وسنَّةِ الخلفاء الراشدين المهديين". 1 وبعد أن استقرت المصطلحات، وقعدت العلوم الاسلامية، أصبح للفظ السُّنَّة مفهومات ومصطلحات جديدة منها: 1- ما يذكره المحدثون في كتبهم: "كل ما أُثِر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ". 2 2- ما يذكره علماء أصول الفقه: "كل ما صدر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ مما يصلح أن يكون دليلاً لحكمٍ شرعى". 3 3- ما يذكره الفقهاء في كتبهم: "ما في فعله ثوابٌ وفي تركه ملامةٌ وعتابٌ لا عقاب". 4   1 رواه أحمد في المسند 4 / 126 – 127، وأبو داود في السنة من سننه 5 / 13 ح: 4607، وأبو عيسى الترمذي في كتاب العلم من جامعه 5 / 44 ح: 2676 وقال: "حسن صحيح"، ورواه أيضاً ابن ماجه في سننه 1 / 43 ح: 96. 2 فتح المغيث للسخاوي 1 / 6. 3 ابن النجار: شرح الكوكب المنير 2 / 159 – 160، ومذكرة أصول الفقه للأمين الشنقيطي ص: 95. 4 قاسم القونوي: أنيس الفقهاء ص: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أو: "ما أمر به أمراً غير جازم" 1 وجملة تدوين السُّنَّة من باب الإضافة المعنوية الحقيقية المحضة، وذلك لأن الإضافة فيه بمعنى اللام وإنها مؤثرة في المضاف تعريفاً حيث أضيف إلى معرفة فاكتسب التعريف من إضافته إليها 2، والله أعلم. أما جملة: نشأته وتطوره فتقدم الكلام على ذلك في المقدمة.   1ابن النجار: شرح الكوكب المنير 2 / 159 – 166، ومذكرة الشيخ الأمين في الأصول ص: 16. 2ابن مالك: شرح الكافية الشافية 2 / 909. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الباب الأول: مكانة السنة في الإسلام وعناية السلف بها الفصل الأول: ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله وحكم سُّنَّة ... الفصل الأول: ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله وحكم سُّنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 السُّنَّة بالمعنى الذي مرَّ ذكره في التمهيد "ما أضيف إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ " هى أحد قسمي الوحي الإلهي الذي أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم والقسم الآخر من الوحي هو القرآن الكريم الذي   1 هذا العنوان مقتبسُ مما عنون به الخطيب في كتابه "الكفاية" ص: 39 يشير بهذا العنوان إلى أن القرآن والسُّنَّة متساوين في مرتبة واحدة من حيث الاعتبار والحُجِّيَّة في إثبات الأحكام الشرعية، وقال الدكتور عبد الغني عبد الخالق في رسالة " بحوث في السُّنَّة المشرَّفة" المختصرة من كتابه "حُجِّيَّة السُّنَّة": إن السنة مع الكتاب مرتبة واحدة من حيث الاعتبار والاحتجاج بهما على الأحكام الشرعية ولبيان ذلك نقول: من المعلوم أنه لا نزاع في أن الكتاب يمتاز عن السُنَّة ويفضل عنها بأن لفظه منزَّل من عند الله سبحانه، متعبَّدٌ بتلاوته، معجِزٌ للبشر أن يأتوا بمثله بخلافها فهي متأخرة عنه في الفضل من هذه النواحي لكن ذلك لا يوجب التفضيل بينهما من الحجِّيَّة بأن تكون مرتبة السُنَّة التأخُّر عن الكتاب فتُهدر ويُعمل به وحده عند تعارضهما، وإنما كان الأمر كذلك لأن حُجِّيَّة الكتاب إنما جاءت من ناحية أنه وحيٌ من عند الله، والسنَّة مساوية للقرآن من هذه الناحية فإنها مثله، فيجب القول بعدم تأخُّرها عنه في الاعتبار. اه بتصرفٍ يسير. ثم ذكر الشُّبَه التي تعلَّق بها من يقول بتأخر السنَّة عن الكتاب في الاعتبار، وردَّها بردودٍ دقيقة. راجع تفصيل ذلك في " بحوث في السنَّة المشرَّفة" ص: 25 – 30 وما سيأتي في هذا الفصل من أقوال السلف يؤيِّد ما ذكره رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 هو كلام الله ربِّ العالمين، مُنَزَّلٌ غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. وقد جاءت النصوص من القرآن والسُّنَّة وإجماع السلف مصرحة بذلك. فمن القرآن: قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوْحَى} 1 وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . 2 وقوله سبحانه: {وَمَاآتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوْهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيْدُ العِقَابِ} . 3 وقوله سبحانه: {قلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوُنَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . 4 وقوله تبارك وتعالى: {فلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمَاً} . 5   1 الآيتان 3 – 4 من سورة النجم. 2 الآية 44 من سورة النحل. 3 الآية 7 من سورة الحشر. 4 الآية 31 من سورة آل عمران. 5 الآية 65 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وقوله عز وجل: {فليحذَرِ الَّذِيْنَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيْبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيْبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ} . 1 وهناك آياتٌ كثيرة في الحثِّ على اتباع السُّنَّة ووجوب لزومها وتحريم مخالفتها، ولا يتسع المقام لسردها كلها هنا. ومن السُّنَّة: 1- عن أبي رافعٍ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمرٌ مما أَمرتُ به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه". 2 2- وعن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه، ألا وإن ما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرَّم الله". 3 3- وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلَّ أحدكم يأتيه حديثٌ من حديثي وهو متكئٌ على أريكته   1 الآية 63 من سورة النور. 2 رواه أبو داود في سننه 5 / 12 ح: 4605 ورجاله كلهم ثقات، ورواه أيضاً الترمذي في كتاب العلم من جامعه 5 / 37 ح: 2663 وقال: هذا حديث حسن صحيح. 3 رواه أبو داود في سننه 5 / 10 ح: 4604 ورجاله كلهم ثقات، ورواه أيضاً الترمذي في كتاب العلم من جامعه 5 / 38 ح: 2664 وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فيقول: دعونا من هذا، ما وجدنا في كتاب الله اتَّبعناه". 1 4- وعن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسَّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة". 2 والنصوص من السُّنَّة كثيرة في الحثِّ على الالتزام بالسُّنَّة وتبليغها، وأكتفي هنا بما ذكرت. 3 ومن أقوال السلف: 1- عن الحسن البصري أن عمران بن الحصين كان جالساً ومعه أصحابه فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: أدن فدنا، فقال: "أرأيت لو وُكِلتَ أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تَجِدُ فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً تقرأ في اثنتين أرأيت لو وُكِلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تَجد الطواف سبعاً، والطواف بالصفا والمروة؟   1 أخرجه الخطيب في كتابه الكفاية ص: 42 من طريقين، وكذلك ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2 / 189. 2 رواه أبو داود في سننه 5 / 13 ح: 4607، وكذلك الترمذي في كتاب العلم من جامعه 5 / 44 ح: 2676 وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح 3 ومن أراد الاطلاع على المزيد من هذه النصوص فليراجع "حجِّيَّة السنَّة" لعبد الغني بن عبد الخالق ص: 308 – 322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ثم قال: أي قوم خذوا عنَّا، فإنَّكم والله إن لا تفعلوا لتضُلُّن". 1 2- عن محمد بن كثير، عن الأوزاعى، عن حسان بن عطية قال: "كان جبريل ينزل على النَّبي صلى الله عليه وسلم بالسُّنَّة كما ينزل عليه بالقرآن". 2 3- وعن أيوب السختياني: أن رجلاً قال لمطرف بن عبد الله ابن الشخير: لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال له مطرف: "إنَّا والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا". 3 4- وعن الأوزاعي قال: قال أيوب السختيانى: "إذا حدثت الرجل بالسُّنَّة فقال: دعنا من هذا وحدثنا من القرآن، فاعلم أنه ضالٌّ مضلٌّ". 4 5- قال الأوزاعي، ومكحول، ويحي بن أبى كثير وغيرهم: "القرآن أحوج إلى السُّنَّة من السُّنَّة إلى الكتاب، والسُّنَّة قاضيةٌ على الكتاب، وليس الكتاب قاضياً على السُّنَّة". 5   1 رواه البيهقي في مدخل الدلائل 1 / 25، وأخرجه الخطيب في الكفاية ص: 48 من عدة طرق، وكذلك أبو عمر بن عبد البر في الجامع 2 / 191. 2 رواه الدارمي في السنن 1 / 177 ح: 549 باب السنة قاضية على كتاب الله، والخطيب في الكفاية ص: 48، وأخرجه ابن عبد البر في الجامع 1 / 191، وأخرجه البيهقي في المدخل كما في "مفتاح الجنة" للسيوطي ص: 10. 3 رواه البيهقي في المدخل كما في حجية السنة ص: 331، وابن عبد البر في الجامع 1 / 191. 4 أخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث ص: 65، والبيهقي في المدخل كما في حجية السنة ص: 332، والخطيب في الكفاية ص: 49 5 رواه الدارمي في سننه 1 / 17 ح: 593 باب السنة قاضية على كتاب الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 6- وقال الفضل بن زياد: "سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل - وسئل عن الحديث الذي روي أن السُّنَّة قاضيةٌ على الكتاب فقال -: ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكن السُّنَّةَ تفسر الكتاب، وتعرف الكتاب وتبيِّنُه". 1 7- ذكر الإمام الشافعي الآيات التي ذكر فيها الكتاب والحكمة كقوله تعالى: {لقدَ مَنَّ اللهُ عَلَى المؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيْهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيْهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . 2 ثم قال: "ذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سُّنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ القرآن ذِكرٌ واتَّبعته الحكمة، وذكر الله منَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز- والله أعلم – أن يقال: الحكمة ها هنا إلا سُّنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله وحتَّم على الناس اتِّباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقولٍ: فرض إلا لكتاب الله، ثم سُّنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 8- قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: "البيان منه صلى الله عليه وسلم على ضربين:   1 أخرجه الخطيب في الكفاية ص: 47، وابن عبد البر في الجامع 2 / 191 – 192. 2 الاية 164 من سورة آل عمران. 3 انظر: الرسالة ص: 76 – 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الأول: بيان المجمل في الكتاب العزيز كالصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر أحكامها، وكبيانه للزكاة وحدِّها ووقتها وما الذي تؤخذ منه الأموال، وبيان مناسك الحج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ حج الناس: "خذوا عني مناسككم" 1. الثاني: زيادة على حكم الكتاب كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وكتحريم الحُمُر الأهلية، وكل ذي نابٍ من السباع إلى أشياء يطول ذكرها. وقد أمر الله - عز وجل - بطاعته واتباعه أمراً مطلقاً مجملاً لم يُقيَّد بشيءٍ كما أمرنا باتِّباع كتاب الله، ولم يقل ما وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ". 2 9- قال ابن القيم: "وقد صنَّف الإمام أحمد - رضي الله عنه - كتاباً في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ردَّ فيه على من احتجَّ بظاهر القرآن في معارضة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الاحتجاج بها، فقال في أثناء خطبته: إن الله جلَّ ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسوله الدَّال على ما أراد من ظاهره وباطنه، وخاصِّه وعامِّه، وناسخه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو   1 هذا جزءٌ من حديث جابر في ذكر حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر: صحيح مسلم – كتاب الحج 2 / 943 ح: 310. 2 جامع بيان العلم وفضله 2 / 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 المعبِّر عن كتاب الله، الدَّال على معانيه، شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم الله لنبيه واصطفاهم له، ونقلوا ذلك عنه، فكانوا هم أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أراد الله من كتابه بمشاهدتهم، وما قصد له الكتاب، فكانوا هم المعبِّرين عن ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر: ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، عليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به". ثم ساق الآيات الدَّالة على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. 1   1 أعلام الموقِّعين عن ربِّ العالمين 2 / 290 – 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الفصل الثاني: عناية السلف بالسنة أولا: العناية بالسنة في عصر الصحابة ... الفصل الثاني: عناية السلف بالسُّنَّة تنوعت عناية السلف - رحمهم الله تعالى - بالسُّنَّة المطهرة، وذلك حسب الإمكانات والوسائل المتاحة في كل عصر، ولذلك نلاحظ أنهم يبذلون غاية الجهد وكافة الإمكانات ومختلف الوسائل في العناية بالسُّنَّة علماً وعملاً، حفظاً وكتابة، ودراسة ونشراً بين الأمة كما سأبيِّنه في هذا الفصل إن شاء الله تعالى، وسأذكر نماذج من تلك العناية مراعياً ترتيب العصور تاريخياً ومقتصراً على القرون المفضلة التي تنتهي بنهاية القرن الثالث الهجري عصر ازدهار تدوين السُّنَّة وعلومها. أولاً: العناية بالسُّنَّة في عصر الصحابة: كان الصحابة رضوان الله عليهم في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم يستفيدون أحكام الشريعة من القرآن الكريم الذي يتلقونه عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وكثيراً ما كانت تنزل آيات من القرآن الكريم مجملة غير مفصلة، أو مطلقة غير مقيدة كالأمر بالصلاة جاء مجملاً لم يبيّن في القرآن عدد ركعاتها ولا هيئتها ولا أوقاتها، وكالأمر بالزكاة جاء مطلقاً لم يقدر بالحد الأدنى الذي تجب فيه الزكاة ولم يبين مقاديرها ولا شروطها. وكذلك كثيرٌ من الأحكام التي لا يمكن العمل بها دون الوقوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 على شرح ما يتصل بها من شروط وأركان، فكان لا بد لهم من الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعرفة الأحكام معرفة تفصيلية ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبلِّغ عن ربِّه وأدرى الخلق بمقاصد شريعة الله - عز وجل - وحدودها ومراميها. وقد أخبر الله في كتابه الكريم عن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للقرآن أنه مبيِّنٌ له، وموضحٌ لمراميه وآياته حيث يقول تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . 1 وكان الصحابة رضي الله عنهم يلتزمون حدود أمره ونهيه، ويقتدون به صلى الله عليه وسلم في كل أعماله وعباداته ومعاملاته - إلا ما علموا منه أنه خاص به - فكانوا يتعلمون منه أحكام الصلاة وأركانها وهيئتها أخذاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي". 2 ويأخذون عنه مناسك الحج وشعائره امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم". 3 وقد بَلَغَ من اقتدائهم به أنْ كانوا يفعلون ما يفعل، ويتركون ما   1 الآية 44 من سورة النحل. 2 رواه البخاري في كتاب الأذان من صحيحه – باب الأذان للمسافر فتح 2 / 11 ح: 631. 3 رواه مسلم في صحيحه عن جابر، وذلك في ذكر حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2 / 943 ح: 310 من كتاب الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 يترك دون أن يعلموا لذلك سبباً، أو يسألوه عن علَّته أو حكمته. أخرج البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، ثم نبذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم". 1 وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذْ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوأ نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً، أو قال: أذى". 2 ولقد بلغ حرصهم على تتبعهم لأقواله وأعماله أن كان بعضهم يتناوبون ملازمة مجلسه يوماً بعد يوم، فهذا عمر بن الخطاب رضي اله عنه يقول - فيما أخرجه عنه البخاري -: "كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوماً   1 رواه البخاري، انظر: البخاري مع الفتح 10 / 318 ح 5866 كتاب اللباس – باب خاتم الفضة. 2 رواه أبو داود في سننه – كتاب الصلاة – باب الصلاة في النعال 1 / 436 ح: 650، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 1 / 480 من عدة طرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم، وإذا نزل فعل مثل ذلك". 1 كما كانت القبائل النائية عن المدينة ترسل إليه صلى الله عليه وسلم بعض أفرادها ليتعلموا أحكام الإسلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجعون إليه معلمين ومرشدين، بل كان الصحابي يقطع المسافات الشاسعة ليسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألةٍ نازلةٍ أو حكمٍ شرعيٍ، ثم يرجع لا يلوي على شيء. أخرج البخاري في صحيحه عن عقبة بن الحارث "أن امرأة أخبرته بأنها أرضعته وزوجته فركب من فوره – وكان بمكة - قاصداً المدينة حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن حكم الله فيمن تزوج امرأةً لا يعلم أنها أخته من الرضاع، ثم أخبرته بذلك من أرضعتهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف وقد قيل". 2 وكذلك كان من عادتهم رضي الله عنهم أن يسألوا زوجات النَّبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بشئون الرجل مع زوجته لعلمهن بذلك. كما كانت النساء تذهب إلى زوجات النَّبي صلى الله عليه وسلم ليسألنهن عن أمور دينهن، وأحيانأ يسألن رسول الله صلى الله   1 رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه – باب التناوب في العلم فتح 1 / 185 ح: 89. 2 رواه البخاري في كتاب العلم – باب الرحلة في المسألة النازلة فتح 1 / 184 ح: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 عليه وسلم ما يشأن السؤال عنه من أمورهن، فإذا كان هنالك ما يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من التصريح للمرأة بالحكم الشرعي أمر إحدى زوجاته أن تفهمها إياه كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - في كيفية التطهُّر من الحيض. 1 هكذا كانت عناية خير القرون - رضوان الله عليهم - بالسُّنَّة المطهَّرة في حياته صلى الله عليه وسلم اقتداءاً تاماً به ووقوفاً عند حدود أمره ونهيه، وتسليماً كاملاً لحكمه، والتزاماً دقيقاً بهديه، وحرصاً شديداً على تعلم سنَّتِه صلى الله عليه وسلم. أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فإننا نجدهم رضي الله عنهم - إضافة إلى ما سبق ذكره - يسلكون مجالات أخرى للعناية بسُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم والحفاظ عليها، من ذلك حفظها والتثبت من ذلك حتى كان أحدهم يرحل في الحديث الواحد مسافة شهر ليتثبَّت من حفظه، وكذلك كتابتها في الصحف والأجزاء، ثم نشرها بين الناس وغير ذلك من المجالات. كل ذلك وفق منهج عملي وعلمي يمكن الإشارة إلى أهم ملامحه فيما يلي: استشعر الصحابة الكرام رضي الله عنهم عظم المسؤلية الملقاة على عواتقهم لحفظ الشريعة - كتاباً وسنةً - وتطبيقها، ثم تبليغها إلى الأمة أداءاً للأمانة التي اختيروا لها كما أدَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم. وقد   1 رواه البخاري في كتاب الحيض – باب دلك المرأة نفسها إذا تطهَّرت من الحيض فتح 1 / 414 ح 314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 كانوا رضي الله عنهم خير من حمل هذه الأمانة وخير من أدَّاها بعد نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الاستشعار لعظم المسؤلية منطلقاً مما وعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: "بلغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج". 1 وقوله: "نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي ووعاها فأدَّاها كما سمعها، فرُبَّ مُبلغٍ أوعى من سامع". 2 وكذلك في مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". 3 وقوله: "كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكلِّ ما سمع". 4 وقوله: "من حدث عني بحديثٍ يرى أنه كذبٌ فهو أحد الكذابين". 5 وغير ذلك من الأحاديث لذلك كله كان الصحابة رضوان الله عليهم مع حرصهم على تبليغ دين الله للأمة شديدي التحرِّي والتثبُّت فيما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يحدِّثون بشيءٍ إلا وَهُم واثقون من صحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقبلون من   1 رواه البخاري في صحيحه – كتاب أحاديث الأنبياء – باب ما ذكر عن بني إسرائيل الفتح 6 / 496 ح: 3461 2 رواه أبو داود في سننه – كتاب العلم – باب فضل نشر العلم 4 / 68 ح 3660، ورواه أيضاً الترمذي في سننه – كتاب العلم – باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع 5 / 33 ح 5657 – 5658 وقال بعده: هذا حديث حسن صحيح. 3 رواه البخاري في صحيحه – كتاب العلم – باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم الفتح 1 / 199 –1200 ح: 107. 4 رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه 1 / 10 ح: 5. 5 رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه 1 / 8 – 9 ح: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الأخبار إلا ما عرفوا صحته وثبوته. وهذه نماذج من أقوالهم ومواقفهم في ذلك: 1- عن أنس رضي الله عنه قال: لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أني سمعته يقول: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار". 1 2- وعن ابن سيرين قال: "كان أنس قليل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". 2 3- وعن الشعبي وابن سيرين: "أن ابن مسعود كان إذا حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأيام تربد وجهه، وقال: وهكذا أو نحوه، وهكذا أو نحو5". 3 4- عن الشعبي قال: "جالست ابن عمر سنة فلم أسمعه يذكر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". 4 5- وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت مائة وعشرين من   1 سنن الدارمي – باب اتقاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والتثبت فيه 1 / 67 2 رواه ابن ماجه في سننه – المقدمة – باب التوقي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 / 11 ح 24، والدارمي في سننه 1 /73 باب من هاب الفتيا مخافة السقط. 3 سنن الدارمي – باب من هاب الفتيا مخافة السقط 1 / 72 4 رواه ابن ماجه في سننه – المقدمة – باب التوقي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 / 11 ح 26، والدارمي في سننه 1 /73 باب من هاب الفتيا مخافة السقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما منهم أحدٌ يحدث بحديثٍ إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه إياه" 1. وفي رواية: "يسأل أحدهم المسألة فيردَّها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول". 2 6- وعن السائب بن يزيد قال: "خرجت مع سعد إلى مكة فما سمعته يحدث حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رجعنا إلى المدينة". 3 7- وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "قلنا لزيد بن أرقم حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كَبِرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدٌ". 4   1 سنن الدارمي 1/49/رقم137 في المقدمة. 2 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2 / 163، مختصر المؤمل ص: 40 ح 64 فصل: السؤال عن الحادثة والكلام فيها قبل وقوعها. 3 ابن ماجه في سننه – المقدمة – باب توقي الحديث 1 / 12 ح 29، والدارمي في سننه – باب من هاب الفتيا مخافة السقط 1 / 73. 4 ابن ماجه في سننه – المقدمة – باب التوقي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ثانياً: العناية بالسُّنَّة المطهَّرة في عصر التابعين فمن بعدهم ما كاد عصر الصحابة ينقضي ليبدأ عصر التابعين حتى بدأ بزوغ شمس الفتن والأهواء والبدع، وذلك أن أعداء الاسلام من يهودٍ ونصارى ومجوس وصابئة وفلاسفة شرقوا بهذا الدين الذي حمله هؤلاء الصحابة الكرام إلى الناس كافة، كما ضاق هولاء الأعداء ذرعاً بتلك الإنتصارات العظيمة التي حققها الإسلام وذلك الانتشار السريع في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أنحاء الأرض، ولما لم تُجْدِهم المقاومة العسكرية لهذا المد الإسلامى شيئاً رام هؤلاء الأعداء: المكر والكيد لهذا الدين وأهله، فأخذوا يثيرون الفتن والشكوك والشبهات بين المسلمين وخاصة حديثي العهد بالكفر، وكانت بداية تلك الفتن بكسر ذلك الباب الذي أخبر عنه حذيفة رضي الله عنه فيما رواه عنه الإمام مسلم في صحيحه عندما سأله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عن الفتنة التي أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم أنها تموج كموج البحر، فقال له حذيفة: "مالك ولها يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها باباً مغلقاً، فقال عمر: وهل يفتح الباب أم يكسر؟ قال: بل يكسر، قال: فإنه حري ألا يغلق مرة أخرى".وأخبر حذيفة في الحديث أن عمر كان يعلم أنه هو الباب كما يعلم أن دون غدٍ الليلة. 1 وكان كسر ذلك الباب بقتل عمر - رضى الله عنه وأرضاه – وذلك بمؤامرة مجوسية صليبية، وبذلك انفتح باب الفتن التي كان عمر - رضى الله تعالى عنه - باباً موصداً في وجوه أصحابها، والمتتبِّع لسيرة عمر يجد ذلك واضحاً جلياً حيث كان عمر رضي الله عنه متيقظاً فما تكاد تبزغ فتنةٌ أو بدعةٌ هنا أو هناك إلا ويقضي عليها في مهدها، وما قصة صَبيغ بن عِسل 2، وصاحب دانيال 3 الذي كان   1 صحيح مسلم – كتاب الفتن واشراط الساعة – باب في الفتنة التي تموج كموج البحر 4 / 2318 ح 26. وهو أيضا في كتاب الفتن في صحيح البخاري. 2 صبيغ – بوزن عظيم – آخره معجمة، بن عسل – بمهملتين الأولى مكسورة – انظر قصته مع عمر في تفسير ابن كثير في تفسير سورة الذاريات 7 / 39 والإصابة لابن حجر 5 / 38.وانظر سنن الدارمي 1/51/ح146. 3 انظر: قصته مع عمر في تقييد العلم للخطيب ص: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ينسخ صحفه وينشرها بين الناس إلا نماذج من الأدلة على ذلك التيقظ والصرامة من عمر في وجوه أصحاب الفتن والبدع والأهواء، فقد حسم عمر أمرهما باستدعائهما إليه في المدينة وحَبَسَهما وضَرَبَهُما حتى تابا وأعلنا توبتهما عند ذلك ردَّهما إلى أهلهما ثم منع عمر رضي الله عنه المسلمين من تكليمهما أو الجلوس إليهما وذلك لمدة شهر من الزمان حتى قال الراوي: "ولقد رأيت صبيغ يمشي في البصرة كالناقة الجرباء لايقربه أحد وذلك عزمة أمير المومنين". هكذا تكون حماية الأمَّة ودينها ومعتقدها من المرجفين وأصحاب البدع والأهواء، وهكذا يكون الحاكم المسلم الحارس الأمين على دين الأمَّة وعقائدها وأخلاقها، رحم الله شهيد المحراب عمر ورضي عنه وأسكنه فسيح جناته، وحشرنا معه يوم القيامة وذلك بحبِّنا له. ثم انضم إلى ذلك التآمر المجوسي النصراني: المكر اليهودي على يد ابن سبأ الذي أصبح بعد ذلك أساس كل فتنة في الاسلام، ثم تتابعت الفتن والبدع، فظهرت بدعة القول بالقدر، ثم التجهُّم والرفض فالاعتزال وغيرها. وعند انتشار هذه الفتن والبدع والأهواء سلكت الأجيال التالية لجيل الصحابة الأخيار من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم من أهل القرون المفضَّلة طرقاً ومجالات أخرى لحفظ السُّنَّة والعناية بها حسب الإمكانات والوسائل المتوفرة لهم في تلك العصور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وقد تمثلت تلك المجالات في: 1- العناية بحفظها. 2- السؤال عن الإسناد. 3 - البحث في أحوال الرجال ونقلة الأخبار الذي نتج عنه علم الرجال الذى أصبح ميزة هذه الأمَّة المسلمة عن غيرها من الأمم. 4- تدوين السُّنَّة الذي بدأ بصحفٍ وأجزاء ثم تطور إلى مصنَّفات مبوَّبة ومرتَّبة إما على الأبواب كالكتب الستة والموطأ وغيرها، وإما على المسانيد كمسند أحمد وغيره، وغير ذلك من المجالات مما سيأتى تفصيله في موضعه من هذا البحث بإذن الله - عز وجل - وفيما يلى نماذج من أقوال أئمة السلف في التثبُّت والتَّحرِّى في أحوال الرجال ونقلة الأخبار، وعدم الأخذ عن غير الثقات: 1- قال الإمام مسلم بن الحجاج: "واعلم وفَّقك الله تعالى أن الواجب على كل أحدٍ عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتَّهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والسِّتَارَة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التُّهم والمعاندين من أهل البدع". 1 ثم ساق بإسناده عن أبي هريرةرضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يكون في آخر الزمان دجَّالون كذَّابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم، لايضلونكم   1 مقدمة صحيح مسلم 1 / 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ولا يفتنونكم". 1 ثم ساق بإسناده أيضاً إلى مجاهد قال: "جاء بشير بن كعب العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدِّث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن 2 لحديثه ولا ينظر إليه، فقال يا ابن عباس مالي لا أراك تسمع لحديثي أحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرفه". 3 2- عن ابن سيرين قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم". وعنه أيضاً قال: "لم يكونوا يسألون عن الاسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السُّنَّة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم". 4 3- وعن عبدان بن عثمان المروزي قال: "سمعت عبد الله بن المبارك يقول: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. 5   1 مقدمة صحيح مسلم 1 / 12 – 13. 2 أي: لا يصغي لحديثه. 3 مقدمة صحيح مسلم 1 / 12 – 13. 4 مقدمة صحيح مسلم 1 / 15. 5 مقدمة صحيح مسلم 1 /16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 4- وعن علي بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس: "دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسبُّ السلف". 1 5- وعن عمرو بن علي الفلاس قال: سمعت يحيى بن سعيد قال: "سألت سفيان الثورى، وشعبة، ومالكاً، وابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتاً في الحديث فيأتيني الرجل فيسألني عنه؟ قالوا: أخبر عنه أنه ليس بثبت". 2 6- قال عبد الله بن المبارك: "قلت لسفيان الثوريِّ: إن عباد ابن كثير مَن تعرف حاله، وإذا حدَّث جاء بأمرٍ عظيمٍ فترى أن أقول للناس لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: بلى". قال عبد الله: فكنت إذا كنت في مجلسٍ ذُكر فيه عباداً أثنيت عليه في دينه وأقول: لا تأخذوا عنه 3 7- عن الحميدي عن ابن عيينة قال: "كان الناس يحملون عن جابر قبل أن يُظهِر ما أظهر، فلما أظهر ما أظهر اتَّهمه الناس في حديثه وتركه بعض الناس، فقيل له: وما أظهر؟ قال: الإيمان بالرجعة. 4 8- وعن زكريا بن عدي قال: "قال لي أبو إسحاق الفزاري:   1 مقدمة صحيح مسلم 1 / 16. 2 مقدمة صحيح مسلم 1 / 16. 3 مقدمة صحيح مسلم 1 / 17. 4 المصدر نفسه 1 / 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أكتب عن بقية ما روى عن المعروفين، ولا تكتب عنه ما روى عن غير المعروفين، ولا تكتب عن إسماعيل بن عيَّاش ما روى عن المعروفين ولا عن غيرهم". 1 9- وعن ابن المبارك قال: "لو خُيِّرت بين أن أدخل الجنة وبين أن ألقى عبد الله بن محرَّر 2 لاخترت أن ألقاه ثم أدخل الجنة، فلما رأيته كانت بعرة أحب إليَّ منه". 3 10- قال عبيد الله بن عمرو: قال زيد بن أبي أُنيسة: "لا تأخذوا عن أخي"، وقال عبد الله بن عمرو: "كان أخوه يحيى بن أبى أُنيسة كذاباً. 45   1 المصدر نفسه 1 / 25، ولعله أراد شيوخه عن غير الشاميين، أما شيوخه الشاميين فهو صدوقٌ فيما يرويه عنهم راجع ترجمة: إسماعيل ابن عياش في تهذيب التهذيب لابن حجر وتقريبه. 2 قال الحافظ: "محرر - بمهملات – الجزري القاضي، متروك، مات في خلافة المنصور التقريب: 320. 3 مقدمة صحيح مسلم 1 / 27. 4 مقدمة صحيح مسلم 1 / 27. 5 هكذا يكون أداء الأمانة، وبذلك استحق السلف أن يكونوا أمناء على هذا الدين حقاً، حيث كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم، فهم يقولون الحق ولو كلَّفهم بذل المهج والأرواح، فرضي الله عنهم غاية كل غاية، وفوق كل اعتبار، فهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح – أمين هذه الأمة – يقتل أباه الجراح يوم بدر، وذاك علي بن المديني يُسأل عن حال والده فيقول: والدي ضعيف الحديث، وزيد بن أبي أنيسة لم يكتف ببيان حال أخيه بل أتبع ذلك بالتحذير والنهي عن الأخذ عنه، وغير ذلك من الأمثلة كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ثالثاً: الرحلة في طلب الحديث: سبق القول عند الكلام عن مكانة السُّنَّة في الإسلام بأن السُّنَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وحي من الله وأنها المبيِّنة لما أشكل من كتاب الله، فلما كانت للسنَّة هذه المكانة أولاها السلف غاية اهتمامهم، وبذلوا من أجل جمع الحديث وأسانيده كل ما في وسعهم، حتى رحلوا المسافات البعيدة على بعد الشُّقَّة وعِظَم المشَقَّة طلباً للحديث وبحثاً عن أسانيده وذلك امتثالاً لقوله تعالى: {فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مُنْهُمْ طَائِفَةً لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّيْنِ وَلْيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} . 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة". 2 وقد كانت الرحلة في طلب الحديث من لوازم طريقة المحدثين ومنهجهم في التحصيل العلمي، قال الحافظ ابن الصلاح: "وإذا فرغ من سماع العوالي والمهمات التي ببلده فليرحل إلى غيره". رُوِّينا عن يحيى بن معين أنه قال: أربعة لا تؤنس منهم رشداً: حارس الدرب، ومنادي القاضي، وابن المحدِّث، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث. وَرُوِّينا عن أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - أنه قيل له: أيرحل الرجل في طلب العلو فقال: بلى والله شديداً، لقد كان علقمة والأسود يبلغهما الحديث عن عمر رضي الله عنه فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى عمر فيسمعانه منه. وعن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه قال: إن الله تعالى   1 سورة التوبة – الآية 122. 2 رواه مسلم في صحيحه – كتاب الذكر والدعاء – باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 4 / 2074 ح 2699. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 يدفع البلاء عن هذه الأمَّة برحلة أصحاب الحديث. 1 تاريخ نشأة الرحلة في طلب العلم: الأصل في ذلك رحلة نبي الله وكليمه موسى عليه الصلاة والسلام إلى الخضر وقد قصَّها الله علينا في سورة الكهف. وبدأت الرحلة في الإسلام برحلة تلك الوفود من القبائل العربية إلى كانت تَفِدُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنحاء الجزيرة العربية تبايعه على الإسلام، وتتعلم منه ما جاء به من الوحي كتاباً وسنَّة ثم اهتمَّ بها الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تفرق الصحابة في الأمصار بعد الفتوحات، فرحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أُنيس في الشام واستغرق شهراً ليسمع منه حديثاً واحداً لم يبق أحدٌ يحفظه غير ابن أنيس. 2 ورحل أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر بمصر، فلما لقيه قال: حدِّثنا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المسلم لم يبق أحدٌ سمعه غيري وغيرك، فلما حدَّثه ركب أبو أيوب راحلته وانصرف عائداً إلى المدينة ولم يحل رحله. 3 وقد استمرت الرحلة في جيل التابعين حيث تفرق الصحابة في   1 انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص: 222 – 223. 2 ترجم به البخاري في كتاب العلم من صحيحه – باب الخروج في طلب العلم، وأخرجه الخطيب في كتاب الرحلة بسنده ص: 109 – 118. 3 الخطيب البغدادي في الرحلة ص: 188، وابن عبد البر في الجامع 1 / 93 – 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الأمصار بعد الفتوحات يحملون معهم ميراث النبوة، وما كان يتيسر للرجل أن يحيط علماً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الرحلة إلى الأمصار وملاحقة الصحابة المتفرقين فيها. قال الإمام سعيد بن المسيب سيد التابعين: "إن كنت لأسير في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام". 1 وقال بسر بن عبد الله الحضرمي: "إن كنت لأركب إلى مصرٍ من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه"، وقال عامر الشعبي: "لم يكن أحد من أصحاب عبد الله بن مسعود أطلب للعلم في أفقٍ من الآفاق من مسروق". 2 وحدث الشعبي رجلاً بحديث ثم قال له: "أعطيناكها بغير شيء، قد كان يُركَب فيما دونها إلى المدينة". 3 وعن أبى العالية الرياحي قال: "كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم". 4 أسباب الرحلة: للرحلة في طلب العلم أسباب كثيرة من أهمها:   1 ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/120، وأبو عمر ابن عبد البر: الجامع 1 / 94. 2 المصدر السابق. 3 الخطيب: الكفاية ص: 402، ط: حيدر آباد، ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1 / 94. 4 أبو محمد الدارمي: السنن 1 / 144 ح 570 باب الرحلة في طلب العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 1- في جيل الصحابة كانت لسماع حديثٍ لم يسمعه الصحابي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو للتثبُّت من حديثٍ يحفظه الصحابى وليس في بلده من يحفظه، فيشد الرحال إلى من يحفظه ولو كان على مسيرة شهر. 2- أما في التابعين فذلك بسبب تفرق الصحابة في الأمصار وكلٌّ منهم يحمل علماً من ميراث النبوة، فاحتيج إلى علمهم فرُحِل إليهم. 3- ظهرت أسباب أخرى فيما بعد هذين الجيلين من تلك الأسباب: ظهور الوضع في الحديث حيث كَثر أصحاب الأهواء الذين انتحلوا أحاديث تؤيد أهواءهم ونسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فنشط العلماء في الرحلة للتحقُّق من تلك الأحاديث ومعرفة مصادرها ومخارجها. طلب الإسناد العالي فيُرحَل لأجله كما قال الإمام أحمد: "طلب الإسناد العالي سُّنَّة عمن سلف". 1 ومن أمثلة هذين السببين النموذجان التاليان: الأول: عن المؤمل بن إسماعيل قال: "حدثني ثقةٌ بفضائل سور القرآن الذي يُروى عن أُبيِّ بن كعب فقلت للشيخ: من حدثك فقال: حدثني رجل بالمدائن وهو حي، فصرت إليه فقلت: من حدثك فقال: شيخ بواسط وهو حي، فصرت إليه فقال: حدثني شيخ بالبصرة   1 ابن الصلاح: علوم الحديث ص: 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فصرت إليه، فقال: حدثني شيخ بعبادان، فصرت إليه، فأخذ بيدى فأدخلني بيتاً فإذا قومٌ من المتصوفة ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ حدثني، فقلت: يا شيخ من حدثك، فقال: لم يحدثني أحد، ولكنَّا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا وجوههم إلى القرآن. 1 الثاني: أخرج الحافظ ابن حبان بإسناده إلى أبي نصر بن حماد الورَّاق البجلى قال: "كنا بباب شعبة بن الحجاج ومعي جماعة نتذاكر السُّنَّة فقلت: حدثنا إسرائيل، عن أبى اسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن الوضوء دخل من أيِّ أبواب الجنة شاء". 2 فخرج شعبة وأنا أحدث بهذا الحديث، فصفعني ثم قال: يا مجنون، سمعت أبا اسحاق يحدِّث عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر فقلت: يا أبا اسحاق سمعتَ عبد الله بن عطاء يحدِّث عن عقبة ابن عامر قال: سمعت عبد الله بن عطاء، قلت: عبد الله بن عطاء سمع عقبة بن عامر فقال: أسكت، فقلت: لا أسكت، فالتفت إليَّ مِسعر بن كِدَام فقال: يا شعبة عبد الله بن عطاء حيٌّ بمكة، فخرجت إلى   1 انظر: الكفاية للخطيب البغدادي ص: 401، والموضوعات لابن الجوزي 1 / 241 – 242. 2 لم أجده بهذا اللفظ فيما اطلعت عليه من المصادر، وروى الترمذي عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيِّها شاء". 1 / 77 –78 كتاب الطهارة – باب فيما يقال بعد الوضوء. وانظر: طرق الحديث وتخريجه في إرواء الغليل للألباني 1 / 134 ح 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 مكة فلقيت عبد الله بن عطاء، فقلت: حديث الوضوء، فقال: عقبة بن عامر فقلت: يرحمك الله سمعتَ منه قال: لا، حدثني سعد بن ابراهيم، فأتيت مالك بن أنس - وهو حاج - فسألته عن سعد بن ابراهيم، فقال لي: ما حج العام، فلما قضيتُ نسكي مضيت إلى المدينة فلقيت سعد بن ابراهيم فقلت: حديث الوضوء، فقال: من عندكم خرج، حدثني زياد ابن مخراق، فانحدرت إلى البصرة فلقيت زياد بن مخراق وأنا شاحب اللون وسخ الثياب كثير الشعر، فقال: من أين فحدثته الحديث، فقال: ليس هو من حاجتك، قلت: فما بد، قال: لا، حتى تذهب تدخل الحمام وتغسل ثيابك، ثم تجيء فأحدثك به، قال: فدخلت الحمام وغسلت ثيابى، ثم أتيته، فقال: حدثني شهر بن حوشب عن أبى ريحانة، فقلت: هذا حديث صعد ثم نزل، دمِّروا عليه، ليس له أصل. 1 أهمية هذه الرحلة وأهدافها: كان للرحلة أثرٌ في شيوع الأحاديث وتكثير طرقها، كما كان لها أثرٌ في معرفة الرجال بصورة دقيقة، لأن المحدِّث يذهب إلى البلدة فيتعرف على علمائها ويخاطبهم ويسألهم، ولذلك اتسع نطاق الرحلة   1 في هذين النموذجين بيانٌ لتلك الجهود المضنية التي بذلها السلف – رحمهم الله – في سبيل تنقية السنَّة المطهَّرة مما أدخله الزنادقة والكذَّابون عليها، وذب الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنَّ ما قام به هذان الإمامام – المؤمل وشعبة – ما هو إلا نموذج واحد من تلك النماذج الكثيرة التي كان يقوم بها السلف – رضوان الله عليهم – في سبيل خدمة هذا الدين والذود عن حياضه، وهذان النموذجان مثالٌ لذلك الصبر، وتلك المثابرة في طلب العلم والدقَّة في تتبع مسائله، وتحمل الجهد والمشقة في تصحيحه، ثم نشره وتعليمه للناس، فأين طلبة العلم اليوم من هذا العمل، وماذا قدَّموا لخدمة سنَّة نبيِّهمصلى الله عليه وسلم ونشرها وتعليمها للناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 في طلب العلم في القرنين الثاني والثالث. وقد ذكر الحافظ الرامهرمزي في "المحدِّث الفاصل" قائمة بأسماء المحدثين الذين رحلوا في الأقطار ورتَّبهم على طبقات، فذكر أولاً من رحلوا إلى عدة أقطار، ثم ذكر من رحل إلى ناحية واحدة للقاء مَن بها من العلماء. 1 ومن أهم الأقطار التي كان يرحل إليها طلاب العلم: المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، والجزيرة، والشام، واليمامة، ومصر، ومرو، والري، وبخارى وذلك لأنها مراكز العلم ويكثر فيها العلماء. سُئل الإمام أحمد عن طالب العلم: هل يلزم رجلاً عنده علم فيكتب عنه، أو يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع منهم فقال: "يرحل ويكتب عن الكوفيين، والبصريين، وأهل المدينة، ومكة، ويشام الناس يسمع منهم". وقد تقدم قول ابراهيم بن أدهم: "إن الله يدفع البلاء عن هذه الأمَّة برحلة أصحاب الحديث". وقال الخطيب البغدادي: "المقصود بالرحلة في الحديث أمران: أحدهما: تحصيل علو الاسناد وقدم السماع. والثاني: لقاء الحفاظ والمذاكرة لهم والاستفادة منهم. فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب ومعدومين في غيره، فلا فائدة في الرحلة، فاقتصاره على ما في البلد أولى.   1 المحدِّث الفاصل للرامهرمزي ص: 229 – 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الفصل الثالث: أصحاب الأهواء والفرق وموقفهم من حجية السنة تمهيد ... الفصل الثالث: أصحاب الأهواء والفرق وموقفهم من حجية السُّنَّة: إن أعداء الإسلام من الطوائف والأمم التي قضى عليها الإسلام ونسخ دياناتهم، لم يهدأ لهم بال ولم يقر لهم قرارٌ منذ رأوا ذلك الانتشار السريع للإسلام، وذلك الإقبال الشديد عليه من أبناء شعوبهم، لذلك شرعوا في الكيد والمكر لهذا الدين وأهله. ولما كانت المجابهة المكشوفة لهذا الدين وكتابه الكريم غير ممكنة لجأ هؤلاء الأعداء إلى حيلة التظاهر بالإسلام وإبطان خلافه ثم أخذوا يثيرون الشبهات ويبثُّون الشُّكوك بين المسلمين، وقد وجَّهوا رماح شكوكهم وسهام شبهاتهم إلى السُّنَّة المطهرة ورواتها، والسُّنَّة هي الموضِّحة والمفسِّرة والشارحة للقرآن، فالطعن فيها طعنٌ في القرآن، والطعن فيهما تحريف لدين الإسلام وهذا ما رامه وقصده أولئك الأعداء مما ألقوه من الشكوك والشبهات، وهو الهدف من تظاهرهم بالإسلام. وكان من بين أولئك الذين تظاهروا بالإسلام وكان لهم أثرٌ كبيرٌ في إثارة الشكوك والشبهات حول السُّنَّة المطهَّرة ورواتها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 1- عبد الله بن سبأ اليهودي: وأمره معروف مشهور. 1 2- سوسن النصراني: الذي تلقى عنه معبد الجهني بدعة القدر. 2 3- إبراهيم النظَّام المعتزلي: ذكر الإمام الذهبي عن بعض علماء الإسلام أنه كان يخفي بَرْهَمِيَّتَه بالاعتزال ليفسد دين الإسلام. 3 4- بشر المريسي: ذكر الخطيب البغدادي في ترجمته أنه ابن يهودي كان يصنع الكوافي في الكوفة، وكان يخفي زندقته بالاعتزال. 4 5- الجهم بن صفوان: الذي أخذ أراءه عن السمنية والهنود، وقد أفسد هذا الرجل في دين الاسلام ما لم تفسده أمم غيره. 5 وغير هؤلاء كثير من أولئك الذين كانوا يخفون زندقتهم ففضح الله أمرهم على أيدي جهابذة علماء الحديث من أهل السُّنَّة والجماعة. 6   1 راجع كتاب: عبد الله بن سبأ وأثره في الفتنة في صدر الإسلام، للدكتور سليمان بن حمد العودة. 2 راجع ترجمة معبد الجهني في: تهذيب الكمال للمزي، وميزان الاعتدال للذهبي وتهذيب التهذيب لابن حجر. 3 انظر: ترجمته في: سير أعلام النبلاء 10 / 542. 4 راجع ردَّ الدارمي عليه، وتاريخ بغداد 7 / 56 وما بعدها، وخلق أفعال العباد للبخاري. 5 انظر: الرد على الجهمية للإمام أحمد ص: 101 – 105، وفتح الباري لابن حجر 13 / 345. 6 أُتي الخليفة هارون الرشيد بأحد الزنادقة ليقتله، فقال الزنديق: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال الرشيد: فأين أنت يا عدوَّ الله من أبي إسحاق الفزاري، وابن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفاً حرفاً. تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 273 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وقد تركزت جهود هؤلاء الأعداء في محاربة السُّنَّة في النقاط التالية: 1- ردّ السُّنَّة بمجرد عقولهم. 2- الطعن في رواتها بالهوى. 3- وضع أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلصاقها بالسُّنَّة، وهذه الأحاديث إما تناقض السُّنَّة نفسها، أو تناقض المعقول أو المعلوم بالضرورة، وذلك ليُعَادَ باللائمة على السُّنَّة أو رواتها وهما بَرَاءٌ من ذلك. وقد تنوع رفض السُّنَّة بمجرد العقل إلى: 1- الرد المطلق. 2- رد خبر الآحاد. 3- ويمكن أن يلحق برد خبر الآحاد، رد الزيادة على النص باعتبار أن السبب في ردَّها لكونها خبر آحاد. وسأوجز القول فيما يلي عن كل نقطة من هذه النقاط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 أولاً: رد السُّنَّة مطلقاً: وخلاصة قول أهل هذا الرأي: أن القرآن وحده يكفي وهو الإسلام وحده، ولا حاجة إلى السُّنَّة، إلا أن بعض القائلين بهذا يستثنون السُّنَّة العملية كتفاصيل الصلاة والزكاة ونحوهما. وقد بدأت بذور هذا الرأي في أواخر عصر الصحابة وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 من خلال مواقف بعض الأفراد كما تدل على ذلك النصوص التالية: 1- عن الحسن البصري أن عمران بن الحصين كان جالساً ومعه أصحابه فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: أدن فدنا، فقال: "أرأيت لو وُكِلتَ أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تَجِدُ فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً تقرأ في اثنتين". 1 2- وعن أيوب السختياني: أن رجلاً قال لمطرف بن عبد الله ابن الشخير: لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال له مطرف: "إنَّا والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا". 2 3- وعن أبي عمرو الأوزاعى قال: "قال أيوب السختيانى: إذا حدثت الرجل بالسُّنَّة، فقال: دعنا من هذا، وحدثنا بالقرآن فاعلم أنه ضالٌّ مضلٌّ". 3 ويبدو أن هذه حالات فردية، ولم تتخذ طابعاً جماعياً إلا أواخر القرن الثاني، لكننا لم نقف على معلومات كافية عن هذه الطائفة إلا ما ورد في كتاب "جماع العلم" من كتاب "الأم" للإمام الشافعي حيث قال: "باب حكاية قول الطائفة التي ردَّت الأخبار كلها". 4 ثم شرع في الردِّ عليهم رحمه الله تعالى.   1تقدم تخريجه في الفصل الأول. 2 تقدم تخريجه في الفصل الأول. 3 تقدم تخريجه في الفصل الأول. 4 الأم للشافعي 7 / 273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وتعتبر الرافضة ممن ردَّ السُّنَّة مطلقاً لأن من معتقدهم الحكم بالردَّة على الصحابة رضي الله عنهم إلا نفر يسير، وعلى ذلك فكل ما جاء من طريقهم من السُّنَّة فهو مردود لاسيما وهم يتَّهمونهم أيضاً بالكذب والخيانة في تبليغ الرسالة، وأنهم كتموا تسعة أعشار القرآن، وأما ما يعملون به مما يسمونه حديثاً أو سُّنَّة فهو في الحقيقة دين جديد اختلقه عبد الله بن سبأ اليهودي، ولفَّقه من اليهودية والاسلام، ثم وضعوا له فيما بعد أسانيد من طريق آل البيت وهى كذب وزور، وآل البيت منهم ومن دينهم برآء برآءة الذئب من دم يوسف. والإسلام كله - كتاباً وسنَّة - ليس للأمَّة طريق لمعرفته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الصحابة، فمن ردَّ ما جاء من طريقهم فمن أين له طريق آخر يعرف به ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمزيد تفصيلٍ عن موقف الرافضة من السُّنَّة المطهَّرة فليراجع "منهاج السُّنَّة النبويَّة" للإمام شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية، أو "مختصره" للشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان، وما كتبه الحافظ السيوطي في كتابه "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُّنَّة" و "الروض الباسم في الذب عن سُّنَّة أبي القاسم" للحافظ ابن الوزير اليمني المتوفى سنة (840 هـ) . هذا بالنسبة للعصور الماضية، أما في العصر الحاضر فإن الاستعمار الغربى لم يكد ينتهي من إتمام وإحكام سيطرته على بلاد المسلمين حتى شرع – وذلك عبر طلائعه من المبشرين والمستشرقين - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 في إحياء ما اندثر من البدع والآراء المنحرفة والفرق والطوائف المعادية للإسلام والتي كان قد غرسها من قَبْلَهم أسلافهم من أعداء الإسلام من يهود ونصارى ومجوس وصابئة. وكان من تلك البدع والآراء المنحرفة التي أحياها الاستعمار - عن طريق من باعوا ذممهم من جهلة المسلمين للاستعمار نظير حفنة من الجنيهات - تلك المقولة التي تنادى برفض السُّنَّة والاكتفاء بالقرآن وحده، فهو كاف بزعمهم، وهم في الحقيقة يقصدون ردَّ الدين كلِّه كتاباً وسنة. ففي شبه القارة الهندية استطاع الإنجليز أن يشتروا مجموعة ممن يزعمون أنفسهم من علماء المسلمين ثم اتخذوهم مطية لإنكار الجهاد بالسيف وإقناع المسلمين بذلك، وكان ذلك بعد أن عانى الانجليز الأمرَّين على يد الحركات الجهادية التي كانت تخرج ضدهم في أنحاء الهند. وكان من أبرز المنادين بإبطال الجهاد "جراغ على" و "ميرزا غلام أحمد القاديانى". ثم تطور الأمر إلى إيجاد مجموعة أخرى تنادي برد السُّنَّة مطلقاً والاقتصار على القرآن، وكان على رأس هذه المدرسة "سيد أحمد خان" و "عبد الله جكرألوي" و "أحمد الدين الآمرتسري" وآخرين، ثم جاء "غلام أحمد برويز" فأسس جمعية باسم أهل القرآن، كما أصدر مجلة شهرية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ونشر عدة كتب في هذا الصدد. 1 أما في بلاد العرب فقد تولَّى كِبر الدعوة إلى رد السُّنَّة والاقتصار على القرآن وحده طائفتان: الطائفة الأولى: من يزعمون أنفسهم من اتباع المدرسة الاصلاحية التي نشأت وترعرعت في أرض الكنانة مصر على يد كل من: محمد عبده وشيخه المتسمي بالأفغاني، وقد نشرت آراء هذه المدرسة من خلال وسيلتين: الوسيلة الأولى: مجلة المنار التي كان يرأس تحريرها ومؤسسها الشيخ محمد رشيد رضا أحد أقطاب المدرسة الإصلاحية، فقد نشرت هذه المجلة سلسلة من المقالات بعنوان: الإسلام هو القرآن وحده 2 بقلم الدكتور توفيق صدقى، وقد أيَّد الشيخ رشيد رضا هذه المقالات إلا أنه زاد الطين بلة حين قسَّم السُّنَّة إلى دين عام - السُّنَّة العملية - يجب قبوله، ودين خاص - وهو ماعدا ذلك - لسنا ملزمين بالأخذ به. 3   1 كتب في الردِّ على هذه الجمعية كتبٌ كثيرة، وأغلبها باللغة الأردية، ومن أجود ما كتب في الرد على هذه الطائفة – فيما وقفت عليه – "القرآنيون وسبهاتهم حول السنَّة" رسالة ماجستير تقدم بها خادم حسين بخش إلى قسم العقيدة في جامعة أم القرى، وطبعتها مكتبة الصديق بالطائف. 2 مجلة المنار – السنة التاسعة – العددان 7 – 12. 3 انظر: دراسات في الحديث النبوي للأعظمي 1 / 26 –27 ويذكر الأستاذ السباعي أن رشيد رضا قد رجع عن ذلك في آخر حياته، نقل ذلك عنه الدكتور الأعظمي في: دراسات في الحديث النبوي 1/ 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الوسيلة الثانية: كتاب "أضواء على السُّنَّة المحمدية" لأبي ريَّة 1 الطائفة الثانية: بعض الكتاب والأدباء وهم من أبناء الكنانة أيضاً - ممن نشأ وترعرع على أيدي أعداء الإسلام من يهود ونصارى من المستشرقين في جامعات فرنسا وألمانيا وبريطانيا، فتغذَّت عقولهم، وران على قلوبهم شبهات وشكوك مشايخهم من المستشرقين، فعادوا إلى بلاد المسلمين ليكونوا رسلاً لأعداء الله ورسوله، فيبثوا تلك الشبهات ويثيروا تلك الشكوك بين المسلمين، وعلى رأس هؤلاء الأدباء الذين كانت كتبهم تنضح بالطعن على السُّنَّة ورواتها وينادون بردِّها كل من: طه حسين، وأحمد أمين وغيرهما.   1 كتب في الرد على أبي ريَّة كتب كثيرة من أجودها: 1- السنة ومكانتها للسباعي 2- الأنوار الكاشفة للمعلمي رحمهما الله جميعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ثانياً: رد خبر الآحاد: لم يكن هناك خلاف بين أحد من السلف في القرون الثلاثة المفضلة في وجوب العمل بالسُّنَّة دون تفريق بين ما سمِّي فيما بعد بخبر الآحاد وما سمِّي بالمتواتر، ولا ما يسمَّى بأصول الدين وفروعه - وكلها تقسيمات محدثة مبتدعة 2 - بل لما بزغت بعض رؤوس الفتنة في عصور السلف الأولى وردت السُّنَّة أو بعضها هبوا جميعاً في وجوههم، وحذَّروا منهم، فهذا أيوب السختيانى - كما مرَّ سابقاً - يقول: "إذا حدَّثت الرجل بالسُّنَّة فقال: دعنا من هذا وحدثنا بالقرآن،   2 انظر: مختصر الصواعق المرسلة 2 / 413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فاعلم أنه ضالٌّ مضلٌّ". وهذا الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - يعقد فصلين في الردِّ على هؤلاء المبتدعة الذين أحدثوا القول برد السُّنَّة أو بعضها، الفصل الأول في الرد على الطائفة التي ردت السُّنَّة مطلقاً، وذلك في كتاب "جماع العلم" المطبوع ضمن كتاب "الأم" له، والآخر في الرد على من ردَّ خبر الخاصة – الآحاد - وذلك في كتابه "الرسالة".وهكذا بقية السلف كانوا يحاصرون هؤلاء في معاقلهم ويحذرون المسلمين منهم ومن بدعهم، والمتتبع لتاريخ ظهور بدعة القول برد خبر الآحاد يجد الأمور التالية: أولاً: أن هذا القول لم يظهر إلا على يد المبتدعة وأصحاب الأهواء والمتَّهمين في دينهم من جهمية أو معتزلة أو متكلمين، وأغلب رؤساء هذه الطوائف إمَّا متَّهمٌ بالزندقة أو بأخذ آرائه وعقيدته من أعداء الاسلام، أو على الأقل متَّهمٌ برقَّة دينه، كما قال الإمام الذهبي عن الجاحظ: "كان ماجناً قليل الدين" 1 وذكر الخطيب بإسناده إلى ابن أبى الذيال أن الجاحظ كان لا يصلى. 2 ثانياً: أن حقيقة هذا القول هو رد السُّنَّة بمجرد العقل أو الهوى، إذْ ردهم لخبر الآحاد لتجويزهم عقلاً أن يكذب راويه أو يغلط، ثم   1 انظر: سير أعلام النبلاء 11 / 527. 2 انظر: تاريخ بغداد 12 / 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 إنهم يؤوِّلون المتواتر أو يفوضونه لمجرد مخالفته لعقولهم التي هي مختلفة ومتناقضة وقاصرة. 1 ثالثاً: أن هذا القول طوال القرون الثلاثة بل الأربعة الأولى لم يكتب له الانتشار والظهور - كما حصل فيما بعد - وهذا بفضل الله، ثم بفضل جهود السلف الذين هيأهم الله لحفظ السُّنَّة وتبليغها للأمَّة، فكانوا يجاهدون لإحياء السنن وقمع البدع في مهدها رحمهم الله وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. ولم يكتب لهذا القول - فيما أعلم - الانتشار والظهور إلا في عصور الضعف، وظهور البدع، وتسلط أصحاب الأهواء وأهل البدع على رقاب المسلمين، وذلك من أوائل القرن الخامس الهجري فما بعده. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في معرض الردَّ على أهل هذا الرأى من معاصريه: "وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى السيف الآمدي، وإلى ابن الخطيب الرازي، فإن علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني 2، وإلا فالسلف مجمعون على قبول خبر الآحاد والعمل به دون تفريق بينه وبين غيره". 3   1 انظر مثلاً على ذلك: كلام أبي المعالي الجويني في كتاب: الإرشاد ص: 146 – 148 عند الكلام على صفة اليدين والعينين والوجه. 2 توفي الباقلاني سنة 403 هـ، والغزالي سنة 505 هـ. 3 ذكره ابن القيم عن شيخه في: مختصر الصواعق 2 / 412 – 433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 رابعاً: انتشار القول برد خبر الآحاد في القرن الخامس وما بعده وهي الفترة الزمنية التي سيطر فيها علم الكلام ومنطق اليونان على العلوم الاسلامية وعلى كثير من علماء الأمَّة في تلك الفترة من الزمن، فأفسد ذلك المنطق وعلم الكلام أغلب العلوم الإسلامية، ولا أدلَّ على ذلك من أن الوقت الذي سيطر فيه علم المنطق، وعلم الكلام على الأمَّة والذي يبدأ من بداية القرن الخامس إلى نهاية القرن السابع تقريباً هو وقت جمود الأمَّة الإسلامية فكرياً وعلمياً، وهو وقت انتشار البدع وانتفاش الباطل وأهله من باطنية ومتفلسفة ومتصوفة، وهذا الوقت هو الذي استغله أعداء الأمَّة من الصليبيين والمغول فهجموا عليها وأطاحوا بخلافتها. ولم تستيقظ الأمَّة من ذلك الركود والجمود، وتنفض غبار المنطق وعلم الكلام إلا على يد تلك المدرسة السلفيَّة السائرة على منهج أهل السُّنَّة والجماعة - أهل القرون المفضلة - تلك هي مدرسة شيخ الاسلام ابن تيمية وتلاميذه، وذلك في نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن من الهجرة. وقد كان من أكثر العلوم الإسلامية تأثراً بعلم الكلام: علم أصول الفقه، ثم أصول الحديث بعد القرن الخامس. خامساً: بعد انتشار هذا القول بين علماء الأمَّة تلخصت أقوالهم في ثلاثة مذاهب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الأول: أنه لا يفيد إلا الظن، وهؤلاء فريقان: 1- المعتزلة ومن نهج نهجهم يقولون: إنه ظنٌ فلا يفيد علماً ولا يوجب عملاً، ولذلك ردُّوه في العقائد والأحكام. 2- متكلموا الأشاعرة يقولون: نعم إنه ظن ولكن يجوز العمل بالظن الراجح في الأحكام دون العقائد. وحجة هذا المذهب أنك لو سئلت عن أعدل رواة الآحاد أيجوز في حقِّه الكذب والغلط لاضطررت أن تقول: نعم، فيقال: قطعك إذن بصدقه مع تجويزك عليه الكذب والغلط لا معنى له. 1 الثاني: أنه يفيد العلم ويوجب العمل إن كان الرواة عدولاً ضابطين. قال أبو محمد بن حزم: قال أبو سليمان الخطابي والحسين بن علي الكرابيسى والحارث المحاسبي وغيرهم: "إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معاً، وبهذا نقول، وقد ذكر هذا القول أحمد ابن اسحاق المعروف بابن خويذ منداد عن مالك بن أنس. 2 ثم شرع بعد ذلك في ذكر البراهين على قبول السلف لخبر الواحد من الصحابة ومن بعدهم. 3   1 مذكرة أصول الفقه لمحمد الأمين الشنقيطي ص: 103، وانظر: الإحكام لابن حزم 1 / 133. 2 الإحكام لابن حزم 1 / 132. 3 انظر تفاصيل ذلك في: كتاب الإحكام لابن حزم 1 /122 – 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وأغلب ما ذكر من الأدلة والبراهين - وهي مهمة ومفيدة - قد ذكرها الإمام الشافعي - رحمه الله - في "الرسالة". 1 الثالث: التفصيل بأنه إذا احتفَّت بخبر الواحد قرائن دالة على صدقه أفاد اليقين وإلا أفاد الظن. ومن أمثلة ما احتفت به القرائن أحاديث الصحيحين لأن القرائن دالَّة على صدقها لجلالتهما في هذا الشأن، وتقديمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق كما قاله غير واحد، واختار هذا القول ابن الحاجب، وإمام الحرمين، والآمدي، والبيضاوي، وأبو العباس ابن تيمية رحمهم الله، وحمل بعضهم الرواية عن أحمد على ما قامت القرائن على صدقه خاصة دون غيره. 2 تنبيهان: التنبيه الأول: قال شيخ الاسلام ابن تيمية: "وأما قول السائل: إذا صح الحديث هل يكون صدقاً فجوابه أن الصحيح أنواع: 1- فمن الصحيح ما تواتر لفظه كحديث: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". 2- ومنه ما تواتر معناه، كأحاديث الشفاعة، وأحاديث الرؤية،   1 انظر: الرسالة ص: 401 فما بعدها – باب الحجة في تثبيت خبر الواحد وانظر: ما كتب الإمام أبو عبد الله البخاري في صحيحه حيث أفرد كتاباً من كتب الصحيح بعنوان: كتاب أخبار الآحاد. الفتح 13 / 231 – 244 2 مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وأحاديث نبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك. فهذا يفيد العلم ويجزم بأنه صدق لأنه متواترٌ إما لفظاً وإما معنى. 3- ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول فعملوا به، كما عملوا بحديث الغرة في الجنين، وكما عملوا بأحاديث الشفعة، وأحاديث سجود السهو ونحو ذلك، فهذا يفيد العلم ويجزم بأنه صدق، لأن الأمَّة تلقته بالقبول تصديقاً وعملاً بموجبه، والأمَّة لا تجتمع على ضلالة، فلو كان في نفس الأمركذباً لكانت الأمَّة قد اتفقت على تصديق أهل الكذب والعمل به، وهذا لا يجوز عليها. 4- ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث كجمهور أحاديث الصحيحين، جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين، وسائر الناس تبعاً لهم في معرفة الحديث، وإذا أجمع أهل العلم على شيءٍ فسائر الأمَّة تبعٌ لهم فإجماعهم معصوم لا يجوز أن يجمعوا على خطأ. 5- ومنه ما اتفق العلماء على صحته فهو مثل ما اتفق عليه العلماء من الأحكام، وهذا لا يكون إلا صدقاً وجمهور متون الصحيح من هذا الضرب، وعامة هذه المتون تكون مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه، رواها هذا الصاحب وهذا الصاحب من غير أن يتواطآ، ومثل هذا يوجب العلم القطعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 6- ومما قد يسمى صحيحاً ما يصححه بعض علماء الحديث وآخرون يخالفون في تصحيحه فيقولون: هو ضعيف وليس بصحيح، مثل ألفاظٍ رواها مسلم في صحيحه ونازعه في صحتها غيره من أهل العلم، إما مثله أو دونه أو فوقه، فهذا لا يجزم بصدقه إلا بدليل".اه ملخصاً 1 التنبيه الثاني: قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطى رحمه الله: "اعلم أن التحقيق الذي لا يجوز العدول عنه أن أخبار الآحاد الصحيحة كما تقبل في الفروع تقبل في الأصول، فما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة من صفات الله يجب اثباته واعتقاده على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله على نحو: {ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . وبهذا تعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم من أنَّ أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد ولا يثبت بها شيء من صفات الله زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين، وأن العقائد لا بد فيها من اليقين باطلٌ لا يعول عليه، ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم ردَّ الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد تحكيم العقل. والعقول تتضاءل أمام عظمة صفات الله، وقد جرت عادة المتكلمين أنهم يزعمون أن ما يسمونه الدليل العقلي - وهو القياس   1 مجموع الفتاوى 18 / 16 – 22، وانظر: مختصر الصواعق لابن القيم 2 / 372 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 المنطقي الذي يركبونه من مقدمات اصطلحوا عليها أنه - مقدَّمٌ على الوحي، وهذا من أعظم الباطل لأن ما يسمونه الدليل العقلي ويزعمون أن انتاجه للمطلوب قطعي، هو جهلٌ وتخبطٌ في الظلمات. ومن أوضح الأدلة وأصرحها في ذلك أن هذه الطائفة تقول مثلاً: إنَّ العقل يمنع كذا من الصفات ويوجب كذا منها، وينفون نصوص الوحى بناء على ذلك، فيأتي خصومهم من طائفة أخرى ويقولون: هذا الذي زعمتم أن العقل يمنعه كذبتم فيه؛ بل العقل يوجبه، وما ذكرتم بأنه يجيزه أو يوجبه كذبتم فيه؛ بل هو يمنعه، وهذا معروف في الكلام في مسائل كثيرة معروفة كاختلافهم في أفعال العبد، وجواز رؤية الله بالأبصار، وهل العرض يبقى زمانين إلى غير ذلك. فيجب على المسلم أن يتقبل كل شىءٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح، ويعلم أنه إن لم يحصل له الهدى والنجاة باتِّباع ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحصل له ذلك بتحكيم عقله التائه في ظلمات الحيرة والجهل، وعلى كل حال فإثبات صفات الله بأخبار الآحاد الصحيحة واعتقاد تلك الصفات كالعمل بما دلت عليه أوامر الله ونواهيه كما أنها تثبت بها أوامره ونواهيه، وكذلك تثبت بها صفاته، وقد بيَّنَّا أنها من إحدى الجهتين قطعية". 1   1 مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص: 104 – 105، والمراد بالجهتين: "أنه قطعيٌ من جهة غير قطعي من جهة أخرى، أما الجهة التي هو قطعيٌّ منها فهي: العمل به لأن الكتاب والسنَّة والإجماع كلها دالٌّ على العمل بخبر الآحاد أما الجهة التي هي غير قطعي منها فهي: كون الخبر صدقاً في ذات نفسه ".انظر كتاب: الرحلة إلى بيت الله الحرام للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى ص: 98 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ثالثاً: رد الزيادة على النص: قال الإمام أبو عبد الله الشافعي رحمه الله: "فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سنن النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه فاجتمعوا منها على وجهين: أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما نص الكتاب. 1 والآخر: مما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبيَّن عن الله معنى ما أراد 2، وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما. والوجه الثالث: ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس فيه نص كتاب". 3 وهذا الأخير هو المراد بالزيادة على النص في اصطلاح الأصوليين. 4   1 مثاله قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "بني الإسلام على خمس" مع قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ، وقوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} الآيتان 43 و 183 من سورة البقرة، وقوله سبحانه: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} الاية 97 من سورة آل عمران، وغير ذلك كثير. 2 مثاله: الأحاديث التي فصلت مجمل الصلاة والزكاة والحج وغيرها وهي الأكثر من أنواع السنن والوجوه التي ذكرها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. 3 انظر: الرسالة للشافعي ص: 91 – 92. 4 انظر: ما كتبه الدكتور عمر بن عبد العزيز في كتابه: الزيادة على النص حقيقتها وحكمها ص: 11 – 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: "للزيادة على النص مرتبتان: الأولى: أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه على وجهٍ لا يكون فيه شرطاً فيه، كزيادة تغريب البِكر على جلده مائة. والمرتبة الثانية: أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه تعلق الشرط بالمشروط. والتحقيق أن هاتين المرتبتين حكمهما واحد، فالأولى زيادة جزء، والثانية زيادة شرط وحكم زيادتهما واحد، لأن التغريب جزء من الحدِّ، فزيادته على الجلد زيادة من الحد كما هو واضح. ومذهب الجمهور - وهو الظاهر - أن هذا النوع من الزيادات لا يكون ناسخاً لأنه لم يرفع حكماً شرعياً، وإنما رفع البراءة الأصلية التي هي الإباحة العقلية، وهى استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليلٌ صارفٌ عنه، والزيادة في مثل هذا زيادة شيءٍ سكت عنه النص الأول، فلم يتعرض له بصريح إثبات ولا نفي. وخالف في هذا الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - فمنع كون التغريب جزءاً من الحدِّ وإن جاء بذلك الحديث الصحيح قائلأ: "إن الجلد كان مجزءاً وحده، وزيادة التغريب دلَّت على أنه لا يكفي وحده بل لا بد من التغريب، وهذا نسخٌ لاستقلال الجّلْد بتمام الحدِّ"، وهذا بناءً على أن المتواتر لا يُنسخ بالآحاد؛ لأن آية الجَلْدِ متواترة وأحاديث التغريب آحاد، والغرض عنده أن الزيادة نسخٌ والمتواتر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 لا يُنسخ بالآحاد. وكذلك قال الجمهور: "إن شرط وصف الإيمان في رقبة كفارة اليمين والظهار ليس نسخاً"، فيلزم القول به حملاً للمطلق - وهو رقبة كفارة اليمين والظهار - على المقيد بالإيمان وهو كفارة الخطأ، ومنع ذلك أبو حنيفة بأنَّ الزيادة على النص نسخ. والجمهور قالوا: هذا النوع من الزيادة لا تعارض بينه وبين النص الأول، والناسخ والمنسوخ يشترط فيهما المنافاة بحيث يكون ثبوت أحدهما يقتضي نفي الآخر ولا يمكن الجمع بينهما". 1   1 انظر: مذكرة الشيخ محمد الأمين في أصول الفقه ص: 75 – 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الباب الثاني: تدوين السنة في القرنين الأول والثاني الهجريين الفصل الأول: التدوين في القرن الأول أولا: تدوين السنة بدأ في حياة النبى صلى الله عليه وسلم ... الفصل الأول: التدوين في القرن الأول أولاً: تدوين السُّنَّة بدأ في حياة النبى صلى الله عليه وسلم اشتهر بين عامة الناس من غير ذوي التتبع والاستقصاء أن الحديث أو ما يطلق عليه علماء الحديث لفظ العلم ظلَّ أكثر من مائة سنة يتناقله العلماء حفظاً دون أن يكتبوه، واستمرَّ هذا الظن قرابة خمسة قرون متتابعة وهو يزيد توسعاً ويطَّرد قوةً، حتى جاء الخطيب فتتبع مسائل هذا الموضوع وجمع شتاته، وألَّف في ذلك "تقييد العلم". أما سبب هذا الظن فهو خطأ في تأويل ما ورد عن المحِّدثين في تدوين الحديث وتصنيفه، فقد ذكر هؤلاء أنَّ أوَّل من دوَّن العلم ابن شهاب الزهري المتوفى سنة (124 أو125 هـ) ، وذكروا أوَّل من صنَّف الكتب فإذا هم جميعاً ممن عاش حتى بعد سنة (143 هـ) تقريباً. ولم يعط العلماء قبل الخطيب هذه الأقوال حقَّها من التَّأويل العميق والفهم الدقيق، بل رووا هذه الأقوال بشكلٍ يوهم بأنه فعلاً أوَّل من كتب الحديث ودوَّنه ابن شهاب الزهري، وأوَّل من صنَّفه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الكتب أتى بعده. وغلبت هذه الفكرة على أصحاب الكتب الجامعة: كأبي طالب المكي، والامام الذهبي، والحافظ ابن حجر، والمقريزي، وصاحب "أبجد العلوم" وغيرهم فكانوا يؤيدونها رغم أنهم كانوا يجدون لها نقيضاً، وذلك أنهم يذكرون أن مَنْ بعد الصحابة والتابعين كانوا يروون العلم من صحفٍ صحيحةٍ غير مرتبة كتبت في عصر الصحابة والتابعين. إذن حصل هناك تدوينٌ قبل عصر الإمام الزهري الذي يُعدُّ من طبقة صغار التابعين. وقد حاول الخطيب أن يثبت أن تقييد العلم كان موجوداً في حياته صلى الله عليه وسلم وفي عصر الصحابة والتابعين كذلك، فقاده ذلك إلى البحث في تاريخ تقييد العلم، فجمع الأحاديث والأخبار التي لها صلة بنشأة تقييد العلم، وهي أكثر مما جمعه سلفه، ووجدها تنتظم في حلقتين مختلفتين متضادتين، فبعضها يشير إلى جواز كتابة الحديث والإقبال عليه، والآخر يظهر خلاف ذلك، وهذا ما قد كان وجده متقدموه، غير أنَّه ألفى شيئاً جديداً فيها، وهو أن بعضها يتضمن الإشارة إلى سبب كراهة الكتابة، فبدا له أن يفرد هذه النصوص بباب خاص علَّها تنطق من نفسها عما يزيل الخلاف ويرفع التناقض. وقد خصص - رحمه الله تعالى - الفصل الأول من القسم الأول من كتابه للأحاديث المرفوعة التي تنهى عن كتابة الحديث، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 حاول استيعابها بكافة طرقها الصحيحة والضعيفة. ولكن هذه الروايات كلها على اختلاف طرقها لم يصح منها شىءٌ سوى حديث أبي سعيد الخدري: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" الحديث الذي أخرجه مسلم مرفوعاً 1، وقد أعلَّه أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله البخاري وغيره بالوقف على أبي سعيد. 2 وفي الفصلين الثانى والثالث من هذا القسم أورد ما رُوِي من الآثار والأخبار عن الصحابة والتابعين في كراهة كتابة الحديث والنهي عنها. 3 وعمد - رحمه الله - في الفصل الأول من القسم الثاني إلى   1 صحيح مسلم – كتاب الزهد ح 72. 2 انظر: مناقشة الدكتور محمد مصطفى الأعظمي لهذه الروايات في كتاب "دراسات في الحديث النبوي" 1 / 76 – 97، وقد وردت أحاديث في الإذن بكتابة الحديث – ستأتي الإشارة إليها – وهي صحيحة وصريحة، وللعلماء في الجمع بين هذه الأحاديث عدة آراء أهمها: أأن يكون من منسوخ السنة بالسنة، أي أنه نهي عن كتابة الحديث في أول الأمر خشية التباس القرآن بغيره، وبهذا قال ابن قتيبة، والرامهرمزي، والخطابي وغيرهم. ب أن يكون النهي منصبَّاً على كتابةالقرآن مع غيره في صحيفةٍ واحدة، وذهب إلى ذلك الخطابي، والخطيب البغدادي وغيرهما. ج وقيل: النهي خاص بمن خُشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك، وذكره الخطيب في "تقييد العلم" وهناك أقوالٌ أخرى هذه أشهرها وأوجهها. 3 أورد الخطيب - رحمه الله - في هذين الفصلين آثاراً كثيرة، وذكر لها طرقاً كثيرة، لكن أكثر الروايات ضعيفة، وقد ناقش الشيخ عبد الرحمن المعلمي -رحمه الله – ما ورد من ذلك عن الصحابة وبيَّن ضعفها، ثم قال: "هذه إن صحَّت حجة لما قلناه، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث مطلقاً لما جمع أبو بكر ثم أحرق، ولا همَّ عمر ثم عدل، ولا كتب غيرهما ثم محا ما كتب، ثم هذه الروايات تنصُّ على عللٍ من أجلها أحرق من أحرق ومحا من محا ما كتبوه، وليس منها نصٌّ واحدٌ على ذكر النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك". انظر: الأنوار الكاشفة ص: 37 – 39 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ذكر الروايات عن الصحابة التي تنصُّ على علة كراهتهم لكتابة ما سوى القرآن، ويلخِّص تلك العلة بقوله: "فقد ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره أو يشتغل عن القرآن بسواه ونُهي عن كتب العلم في صدر الاسلام وجِدَّتِه لقلِّة الفقهاء - في ذلك الوقت - والمميِّز بين الوحي وغيره؛ لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العلماء العارفين، فلا يؤمَن أن يُلحِقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن ويعتقدوا أنَّ ما اشتملت عليه كلام الرحمن". 1 ويضيف في مطلع الفصل الثانى من القسم الثانى أسباباً أخرى للنهى أو الامتناع عن الكتابة فيقول: "وأمر الناس بحفظ السنن، إذْ الإسناد قريب، والعهد غير بعيد، ونُهي عن الإتكال على الكتاب لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب الحفظ حتى يكاد يبطل، وإذا عُدم الكتاب قوي لذلك الحفظ الذي يصحب الإنسان في كل مكان ولهذا قال سفيان الثوري: (بئس مستودع العلم القراطيس". وكان سفيان يكتب؛ أفلا ترى أن سفيان ذم الإتكال على الكتاب وأمر بالحفظ وكان مع ذلك يكتب احتياطاً واستيثاقاً، وكان غير واحد من السلف يستعين على حفظ الحديث بأن يكتبه ويدرسه من كتابه، فإذا أتقنه محا الكتاب خوفاً من أن يتكل القلب عليه فيؤدي ذلك إلى نقصان الحفظ وترك العناية بالمحفوظ. 2   1 انظر: تقييد العلم ص: 57. 2 تقييد العلم ص: 58، ومثله في الجامع لابن عبد البر 1 / 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وأما القسم الثالث فقد أفرد منه ثلاثة فصول في الأحاديث والآثار الواردة في الإذن بكتابة العلم: - الأول: فيما ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقد أورد فيه روايات كثيرة منها الصحيح مثل: 1- حديث أبي هريرة: "ما من الصحابة أحدٌ أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه يكتب وأنا لا أكتب". 1 2- وعنه أيضاً قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة إلى أن قال: "اكتبوا لأبى شاة". 2 3- حديث ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "ائتوني بكتابٍ أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده". 3 4- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: كنت أكتب كل شىء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق". 4   1 انظر: باب كتابة من العلم من كتاب العلم من صحيح الإمام البخاري. 2 المصدر السابق. 3 المصدر السابق. 4 رواه الإمام احمد في مسنده 2 / 163، والدارمي في سننه – باب من رخص في كتابة العلم 1 / 103، ورواه أيضاً أبو داود في كتاب العلم من سننه 4 / 60، والخطيب في تقييد العلم ص: 74، 81 من عدة طرق وبعدة ألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ومنها الضعيف وهي كثيرة وبعضها قد يعتضد. 1 والفصل الثاني: عَنْوَنه بقوله: باب ذكر من رُوي عنه من الصحابة رضي الله عنهم أنه كتب العلم أو أمر بكتابته. وقد أورد في هذا الفصل روايات كثيرة عنهم وأكثرها صحيحة إذ منها ما هو في الصحاح، ومنها ما هو في السنن وغير ها. ولم يخلها من تعليقاته واستنباطاته - رحمه الله - من ذلك مثلاً: ما جاء في تعقيبه على ما رُوي عن أبي سعيد الخدري قال: "ما كنا نكتب شيئاً غير القرآن والتشهد" حيث قال: "وأبو سعيد الخدري هو الذي رُوي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني سوى القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه". ثم هو يخبر أنهم كانوا يكتبون القرآن والتشهد، وفي ذلك دليل أن النهي عن كَتْبِ ما سوى القرآن إنما كان على الوجه الذي بيَّنَّاه: من أن يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، وأن يشتغل عن القرآن بسواه، فلما أُمِنَ ذلك ودَعَتْ الحاجة إلى كتب العلم لم يكره كتبه، كما لم تكره الصحابة كَتْبَ التشهد، ولا فرق بين التشهد وبين غيره من العلوم في أن الجميع ليس بقرآن، ولن يكون كتب الصحابة ماكتبوه من العلم وأمروا بكتبه إلا احتياطاً كما كان كراهتهم لكتبه   1 انظر: الروايات في تقييد العلم ص: 65 – 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 احتياطاً والله أعلم". 1 أما الفصل الثالث من هذا القسم فقد خصصه لذكر الروايات عن التابعين في ذلك: حيث ساق بأسانيده إلى أئمةٍ وكبار التابعين تلك الروايات عنهم في كتابتهم للحديث وإذنهم لتلاميذهم بل وحثِّهم على كتابة الحديث. 2 أما عن سبب اتساع الناس في كَتْب العلم في عصر ما بعد التابعين واتِّكالهم على الكتاب فيقول الخطيب رحمه الله: "إنما اتسع الناس في كَتْب العلم، وعوَّلوا على تدوينه في الصحف بعد الكراهة لذلك؛ لأن الروايات انتشرت والمسانيد طالت، وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت، والعبارات بالألفاظ اختلفت، فعجزت القلوب عن حفظ ما ذكرنا وصار علم الحديث في هذا الزمان أثبت من علم الحافظ مع رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن ضعف حفظه في الكتاب، وعمل السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين بذلك". 3 وبعد: فقد اكتفيت في هذه الفقرة بالاقتصار على تحليل ما ورد في الأقسام الثلاثة الأولى من كتاب "تقييد العلم" للحافظ أبى بكر الخطيب (ت 463 هـ) مستفيداً مما كتبه الأستاذ يوسف العش في تصديره   1 تقييد العلم ص: 93 – 94. 2 سرد المؤلف هذه الروايات من ص: 99 – 133، وقد ساق هذه الروايات عن التابعين والتي قبلها عن الصحابة: الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم 1 / 64 – 69. 3 تقييد العلم ص: 64 – 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 للكتاب وتعليقه على حواشيه، وذلك لأمور منها: 1- أن هذا الكتاب أقدم وأوسع وأشمل كتاب في هذا الباب إذ لم يسبق مؤلفه إلى جمع مثله ولم أقف على كتاب مثله لمن جاء بعده، إلا أن معاصره الحافظ ابن عبد البر (ت 463 هـ) حاول نفس المحاولة في "جامع بيان العلم" لكن لم يكن بسعة كتاب الخطيب وشموله فضلاً عن تفوق كتاب الخطيب على كتابه في جودة الترتيب وحسن التنسيق. 2- أن النتائج التي توصل إليها الخطيب - رحمه الله - من خلال جمعه ودراسته لما رُوي في هذا الموضوع نتائج هامة، ووجدت فيها بلسماً شافياً وجواباً كافياً على تلك التساؤلات حول تدوين السُّنَّة المطهرة، متى بدأ وكيف بدأ كما أنني ألفيت الكتاب ونتائجه التي توصل إليها جواباً دامغاً - لما تضمنه من الحقائق - على تلك الشكوك والشبهات التي يثيرها المستشرقون وأذنابهم من أبناء جلدتنا المندسُّون في صفوفنا حول تدوين السُّنَّة النبوية، مستغلين ظاهر حديث أبي سعيدٍ في النهي عن كتابة الحديث، وما رُوي من أن التدوين لم يبدأ إلا في عصر الإمام الزهري. 1   1 قال الخطيب رحمه الله في نهاية الفصل الرابع من القسم الثالث ص: 115 – 116: "قد أوردت من مشهور الآثار، ومحفوظ الأخبار عن رسول ربِّ العالمين وسلف الأمَّة الصالحين صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، في جواز كتب العلم وتدوينه، وتجميل ذلك الفعل وتحسينه ما إذا صادف بمشيئة الله قوي شكٍّ رفعه، أو عارض ريب قمعه ودفعه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وهذه أهم النتائج التي يمكن استخلاصها من الكتاب: أولاً: أنه لم يصح حديث في النهي عن كتابة الحديث سوى حديث أبى سعيد الخدري الذي رواه مسلم، مع اختلاف بين البخاري ومسلم في رفعه ووقفه. ثانياً: أن الأمر استقر في حياته صلى الله عليه وسلم على إباحة الكتابة، وقد قدَّم المؤلف عدة أدلة على ذلك، بل ذكر أدلة من الكتاب والسُّنَّة على الحث على الكتابة. ثالثاً: أن التدوين بمعناه الواسع - وهو الجمع - قد بدأ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. رابعاً: أن امتناع من امتنع من الصحابة والتابعين عن كتابة الحديث ليس للنهي الوارد في حديث أبي سعيد الخدري، ولكن هذا الامتناع معلَّلٌ بأسبابٍ أخرى منها: - الخوف من انكباب الناس على الكتب وانشغالهم بها عن القرآن، وقد أورد الخطيب عن السلف النصوص الكثيرة المصرحة بذلك. ومنها الحفاظ على ملكة الحفظ عند المسلمين إذ الاتكال على الكتاب يضعفها، ولذلك كان بعضهم يكتب ثم يمحو ما كتب، ولو كان النهي عن الكتابة مستقراً عندهم لما كتبوا ابتداءً. 1   1 تقييد العلم ص: 57 – 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقبل أن أُنهي الكلام عن هذه الفقرة أنقل هنا كلام أهل اللغة في التفريق بين معنى التدوين ومعنى التصنيف، إذ بمعرفة ذلك يزول كثير من اللبس: فالتدوين: هو تقييد المتفرق المشتت، وجمعه في ديوان أو كتاب تجمع فيه الصحف، قال في "القاموس": "التدوين مجتمع الصحف". 1 وقال في "تاج العروس": "وقد دوَّنه تدويناً جمعه" 2، فهو بهذا المعنى أوسع من التقييد بمعناه المحدود. أما التصنيف: فهو أدق من التدوين إذ هو ترتيب ما دُوِّنَ في فصول محدودة وأبواب مميزة. قال في "التاج": "وصنفه تصنيفاً جعله أصنافاً وميز بعضها عن بعض، وقال الزمخشري في "الفائق": "ومنه تصنيف الكتب". 3   1 القاموس المحيط للفيروزآبادي 4 / 226 مادة: دون. 2 انظر: تاج العروس 9 / 204 مادة: دون. 3المصدر السابق 6 / 168 مادة: صنف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ثانياً: جهود الصحابة رضي الله عنهم في تدوين السُّنَّة المطهَّرة ونقلها إلى الأمَّة. لقد كانت جهود هذا الجيل المبارك هي الأساس الأول في تدوين السُّنَّة وحفظها ونقلها إلى الأمة، كما كانت جهودهم - رضوان الله عليهم - هى الأساس في نشر الدين وترسيخ العقيدة وحماية السُّنَّة من كل مايشوبها. وفيما يلي نماذج من تلك الجهود، وأكتفي بالنماذج هنا مشيراً إلى المصادر التي استوعبت أو حاولت الاستيعاب 1 وذلك لأن المقام هنا لا يتسع لأكثر من هذه النماذج: 1- الحث على حفظ الحديث وثثبيت ذلك الحفظ، حتى كان كثير منهم يأمر تلاميذه بالكتابة لتثبيت حفظهم ثم محو ما كتبوه حتى لا يتكل على الكتاب. قال الخطيب البغدادي: "وكان غير واحد من السلف يستعين على حفظ الحديث بأن يكتبه، ويدرسه من كتابه، فإذا اتقنه محا الكتاب، خوفاً من أن يتَّكل القلب عليه فيؤدي إلى نقصان الحفظ وترك العناية بالمحفوظ". 2   1 مثل: تقييد العلم للخطيب، وجامع بيان العلم وفضله لأبي عمر بن عبد البر، ودراسات في الحديث النبوي لمحمد مصطفى الأعظمي. 2 تقييد العلم للخطيب ص: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 2- الكتابة بالسُّنَّة بعضهم إلى بعض، ومن أمثلة ذلك ما يلي: 1 أ- كتب أسيد بن حضير الأنصاري رضي الله عنه بعض الأحاديث النبوية، وقضاء أبي بكر وعمر وعثمان، وأرسله إلى مروان بن الحكم. 2 ب- وكتب جابر بن سمرة رضي الله عنه بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث بها إلى عامر بن سعد بن أبى وقاص بناء على طلبه ذلك منه. 3 ج- وكتب زيد بن أرقم رضي الله عنه بعض الأحاديث النبوية وأرسل بها إلى أنس بن مالك رضي الله عنه. 4 د- وكتب زيد بن ثابت في أمر الجَدِّ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك بناء على طلب عمر نفسه. 5 هـ- جمع سمرة بن جندب ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث به إلى ابنه سليمان، وقد أثنى الإمام محمد بن سيرين على هذه الرسالة فقال: "في رسالة سمرة إلى ابنه علمٌ   1 قد أتى على ذكر كثير من ذلك الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه: دراسات في الحديث النبوي 1 / 92 – 142 الفصل الأول من الباب الرابع. 2 انظر: مسند الإمام أحمد 4 / 226. 3 أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه – كتاب الإمارة ح 10، والإمام أحمد في المسند 5 / 89. 4 انظر: مسند الإمام أحمد 4 / 370 – 374، وتهذيب التهذيب لابن حجر 3 / 394. 5 سنن الدارقطني 4 /93 – 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 كثير". 1 و كتب عبد الله بن أبي أوفى بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن عبيد الله. 2 3- حث تلاميذهم على كتابة الحديث وتقييده، ومن أمثلة ذلك: أ- كان أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه يحثُّ أولاده على كتابة العلم فيقول: "يابني قيدوا العلم بالكتاب"، وكان يقول - رحمه الله ورضي عنه -: "كنا لا نعد علم من لم يكتب علمه علماً" 3 ب- روى الخطيب بسنده عن عدة من تلاميذ عبد الله بن عباس حَبر الأمَّة أنه كان يقول: "قيدوا العلم بالكتاب، خير ما قُيِّد به العلم الكتاب". 4 ج- وروى أيضاً بأسانيده من عدة طرق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "قيدوا العلم بالكتاب". 5 د- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "من يشتري مني علماً بدرهم"، قال أبو خيثمة: "يقول: يشتري صحيفةً   1 تهذيب التهذيب 4 / 236 – 237، وانظر: سنن أبي داود 1 / 314 – 315 ح 456. 2 أخرجه البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه – الباب 22، ومسلم في الجهاد أيضاً ح 20. 3 تقييد العلم ص: 96، طبقات ابن سعد 7 / 14. 4 تقييد العلم ص: 92، جامع بيان العلم 1 / 72. 5 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 بدرهمٍ يكتب فيها العلم". 1 4- تدوين الحديث في الصحف وتناقلها بين الشيوخ والتلاميذ: ولقد كانت هذه الصحف هى النواة الأولى لما صنف في القرنين الثاني والثالث من الجوامع والمسانيد والسنن وغيرها، ومن أمثلة هذه الصحف ما يلى: 2 أ- صحيفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها فرائض الصدقة. روى الخطيب بسنده إلى أنس بن مالك: "إن أبا بكر الصديق بعثه مصدِّقاً، وكتب له كتاباً فيه فرائض الصدقة، وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين" الحديث بطوله. 3 ب- صحيفة علي بن أبى طالب رضي الله عنه. أخرج الخطيب وابن عبد البر من عدة طرق عن علي بن أبى طالب أنه خطب الناس فقال: "من زعم أن عندنا شيئاً نقرأه ليس في كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة فقد كذب".   1 طبقات ابن سعد 6 /116 تقييد العلم ص: 90. 2 ذكر الحافظ الخطيب في "تقييد العلم" في الفصل الأول والثاني من القسم الثالث كثيراً من هذه الصحف، وكذلك الدكتور الأعظمي ذكر في الفصل الأول من الباب الرابع من "دراسات في الحديث النبوي" كثيراً من هذه الصحف التي كتبت في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. 3 انظر: صحيح البخاري – كتاب الزكاة – باب زكاة الغنم الفتح 3 / 317 ح 1454، تقييد العلم ص: 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قال الراوي عنه: "وكانت الصحيفة معلقة في سيفه، وفيها أسنان الإبل، وشيء من الجراحات، وقوله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرمٌ ما بين عيرٍ إلى ثورٍ، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" الحديث بطوله. 1 ج- صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، المعروفة بالصحيفة الصادقة. عن مجاهد قال: "أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفة من تحت مفرشه، فمنعي، قلت: ما كنت تمنعني شيئاً، قال: هذه الصادقة، هذه ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد". 2 هذه الصحف الثلاث كلها كتبت في حياته صلى الله عليه وسلم وهناك غيرها كثير مما كتب في حياته صلى الله عليه وسلم. د- صحيفة عبد الله بن أبي أوفى، ذكرها الإمام البخاري في كتاب الجهاد من "صحيحه" باب الصبر عند القتال. 3 هـ- صحيفة أبي موسى الأشعري. 4   1 البخاري – كتاب العلم من صحيحه – باب كتابة العلم الفتح 1 / 204 ح 111، وانظر: تقييد العلم ص: 88، وابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1 / 71. 2 تقييد العلم ص: 84، جامع بيان العلم وفضله 1 / 73، وهي صحيفة مشهورة أخرجها الإمام أحمد في مسنده 2 / 158 – 226. 3 انظر: فتح الباري لابن حجر 6 / 45 ح 2833. 4 نصَّ على ذكرها الدكتور أكرم العمري في "البحوث" ص: 228 وذكر أنها موجودة في مكتبة شهيد علي بتركيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 و صحيفة جابر بن عبد الله. 1 ز- الصحيفة الصحيحة التي يرويها همام عن أبي هريرة من حديثه. 2   1 ذكرها الحافظ ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار ص: 11، والإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ 1 / 43، وأشار الدكتور أكرم العمري أنها محفوظة في مكتبة شهيد علي، وذلك نقلاً من مقدمة الخلاصة بقلم: صبحي السامرائي. البحوث ص: 228. 2 تضم 138 حديثاً، رواها الإمام أحمد في مسنده، وقد طبعت بتحقيق محمد حميد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ثالثاً: جهود التابعين في تدوين السُّنَّة المشرفة: تلقى التابعون - رحمهم الله – السُّنَّة، بل الدِّين كله عن الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم – فقاموا بمهمة تبليغ الرسالة من بعد شيوخهم إلى الناس كافة، فكانوا خير جيل بعد ذلك الجيل، وقد بذل جيل التابعين في خدمة السُّنَّة وتدوينها وحفظها جهوداً كبيرة، وفيما يلي نماذج من تلك الجهود: 1- الحث على التزام السُّنَّة وحفظها وكتابتها والتثبت في روايتها وسماعها: سبق أن ذكرت طائفة من الأمثلة على ذلك في الفصل الثاني من الباب الأول عند الكلام عن عناية التابعين ومن بعدهم بالسُّنَّة النبوية، وأضيف هنا أمثلة مما لم أمثل له هناك وهو حثُّهم على كتابة السُّنَّة: أ- روى الخطيب بسنده من عدة طرق عن الإمام عامر الشعبي أنه كان يقول: "إذا سمعت شيئاً فاكتبه ولو في الحائط فهو خيرٌ لك من موضعه من الصحيفة فإنك تحتاج إليه يوماً ما". 1 ب- عن الحسن البصري قال: "ما قُيِّد العلم بمثل الكتاب، إنما نكتبه لنتعاهده". 2   1 تقييد العلم ص: 100. 2 ذكره الخطيب من عدة طرق عن الحسن: تقييد العلم ص: 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ج- وعن سعيد بن جبير قال: "كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفتي حتى أملأها، ثم أكتب في ظهر نعلي، ثم أكتب في كَفِّي". 1 د- وعن صالح بن كيسان قال: "اجتمعت أنا والزهري - ونحن نطلب العلم - فقلنا: نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنَّه سُّنَّة، فقلت: أنا ليس بسُنَّة فلا نكتبه، قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيعت". 2 هـ- وعن ابن شهاب الزهرى قال: "لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق نُنْكِرها لا نعرفها، ما كتبت حديثاً ولا أَذِنْتُ في كتابه". 3 و روى الخطيب من عدة طرق عن معاوية بن قرة قال: "كنا لا نعد علم من لم يكتب علمه علماً". 4 2- تدوينهم للسُّنَّة في الصحف: انتشرت كتابة الحديث في جيل التابعين على نطاق أوسع مما كان في زمن الصحابة، إذ أصبحت الكتابة ملازمة لحلقات العلم المنتشرة في الأمصار الإسلامية آنذاك. ولعل من أسباب ذلك التوسع ما يلي:   1 ذكره الخطيب من عدة طرق عن سعيد بن جبير: تقييد العلم ص: 102 –103 2 تقييد العلم ص: 107، جامع بيان العلم وفضله 1 / 76. 3 تقييد العلم ص: 107 – 108. 4 المصدر السابق ص: 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أ- انتشار الروايات، وطول الأسانيد، وكثرة أسماء الرواة وكناهم وأنسابهم. ب- موت كثير من حفَّاظ السُّنَّة من الصحابة وكبار التابعين فخِيف بذهابهم أن يذهب كثير من السُّنَّة. ج- ضعف ملكة الحفظ مع انتشار الكتابة بين الناس وكثرة العلوم المختلفة. د- ظهور البدع والأهواء وفشوِّ الكذب، فحفاظاً على السُّنَّة وحمايةً لها من أن يدخل فيها ما ليس منها شُرِع في تدوينها. هـ- زوال كثيرٍ من أسباب الكراهة. وقد كتب في هذا العصر من الصحف ما يفوق الحصر، وقد ذكر الدكتور مصطفى الأعظمي عدداً كبيراً منها وذلك في كتابه: "دراسات في الحديث النبوى". 1 وأكتفي هنا بذكر نماذج من تلك الصحف التى كتبت في هذا العصر: 1- صحيفة أو صحف سعيد بن جبير تلميذ ابن عباس. 2 2- صحيفة بشير بن نهيك كتبها عن أبى هريرة وغيره. 3   1 انظر: الفصلين الثاني والثالث من الباب الرابع 1 / 143 – 220. 2 تقييد العلم ص: 102 – 103، سنن الدارمي – باب من رخص في كتابة العلم. 3 تقييد العلم ص: 101، سنن الدارمي – باب من رخص من كتابة العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 3- صحف مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس، قال أبو يحيى الكناسي: "كان مجاهد يصعد بي إلى غرفته فيخرج إليَّ كتبه فأنسخ منها". 1 4- صحيفة أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي تلميذ جابر بن عبد الله، يروي نسخة عنه وعن غيره أيضاً. 2 5- صحيفة زيد بن أبي أُنيسة الرُّهَاوي. 3 6- صحيفة أبي قِلابة التي أوصى بها عند موته لأيوب السختياني. 4 7- صحيفة أيوب بن أبى تميمة السختياني. 5 8- صحيفة هشام بن عروة بن الزبير. 6 وغير ذلك من الصحف الكثيرة التي رويت عن التابعين، والتي كانت هي الأساس الثاني بعد صحائف الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - لما أُلِّف وصُنِّف في القرنين الثانى والثالث.   1 تقييد العلم ص: 105. 2 انظر: بحوث في تاريخ السنة للدكتور أكرم العمري ص: 230، دراسات في الحديث النبوي 1 / 203. 3 يوجد منها 16 ق في المكتبة الظاهرية في دمشق: بحوث في تاريخ السنَّة ص: 230. 4 انظر: دراسات في الحديث النبوي 1 / 144. 5 يوجد منها 15 ق في الظاهرية بدمشق: بحوث في تاريخ السنة ص: 230. 6 يوجد منها 16 ق في الظاهرية بدمشق: بحوث في تاريخ السنة ص: 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 3- جهود الإمامين عمر بن عبد العزيز وابن شهاب الزهري في تدوين السُّنَّة: 1- جهودهما رحمهما الله تعالى ورضي الله عنهما في نشر السُّنَّة وقمع البدعة - قولاً وفعلاً - أشهر من أن تذكر في هذا المقام، ولتراجع ترجمتيهما في "سير أعلام النبلاء" وغيره. 2- أخرج البخاري في "صحيحه" عن عبد الله بن دينار قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإنى خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لايهلك حتى يكون سراً". 1 3- وعن ابن شهاب الزهري قال: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرضٍ له عليها سلطان دفتراً". 2 4- روى الدارمي بسنده أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل المدينة: "انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه،   1 كتاب العلم – باب كيف يقبض العلم. 2 جامع بيان العلم وفضله 1 / 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فإنى خفت دروس العلم وذهاب أهله". 1 5- روى الخطيب بسنده إلى الزهري أنه قال: "لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لانعرفها؛ ما كتبت حديثاً ولا أذنت في كتابه". 2 6- قال صالح بن كيسان: "اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم فقلنا: نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سُّنَّة، فقلت أنا: ليس بسُنَّة فلا نكتبه، قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيعت". 3 7- أخرج الحافظ ابن عبد البر بسنده إلى الإمام مالك قال: "أول ما دون العلم: ابن شهاب الزهري". 4 ولعل المراد بهذا التدوين الشامل الذي بدأه فعلاً الزهري بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز، وقد سبق أن ذكرنا أن الحافظ الخطيب البغدادي قد حرَّر هذا الموضوع في كتابه "تقييد العلم"، وأثبت بالأدلة أن التدوين قد بدأ من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين 5 أيضاً، لكن لم يكن ذلك بشمول واستقصاء.   1 سنن الدارمي 1 / 104 باب من رخص في كتابة العلم، تقييد العلم للخطيب ص: 106. 2 تقييد العلم ص: 107 – 108. 3 تقييد العلم ص: 106 – 107، جامع بيان العلم 1 / 76 – 77 4 جامع بيان العلم 1: 76. 5 انظر: الفصل الأول من هذا الباب، الفقرة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الفصل الثاني: التدوين في القرن الثاني الهجري نمهيد ... الفصل الثاني: التدوين في القرن الثاني الهجري يشمل هذا القرن عصر جيلين: الأول: صغار التابعين إذ تأخرت وفاة بعضهم إلى ما بعد سنة (140 هـ) وقد سبق الكلام عن أثرهم وجهودهم في التدوين ضمن الكلام عن جهود جيل التابعين كله بمختلف طبقاته. أما الجيل الثاني: فهم أتباع التابعين الحلقة الثالثة - بعد جيل الصحابة والتابعين - في سلسلة رواة السُّنَّة ونقلة الدِّين إلى الأمَّة، ولقد كان لهذا الجيل أثره الرائد في التصدي لأصحاب البدع والأهواء، ومقاومة الكذب الذى فشى في هذا العصر على أيدي الزنادقة الذين بلغوا ذروة نشاطهم ضد السُّنَّة ورواتها في منتصف هذا القرن، حتى اضطر الخليفة المهدي رحمه الله إلى تكليف أحد رجاله بتتُّبع أخبارهم والتضييق عليهم في أوكارهم، فأصبح ذلك الرجل يعرف بصاحب الزنادقة. 1 وقد نشط الأئمة والعلماء من هذا الجيل في خدمة السُّنَّة   1 قال الإمام الذهبي في ترجمة المهدي في السير 7 / 401: "وكان قصاباً في الزنادقة باحثاً عنهم، وقال في التذكرة 1 / 244: "وكثرة محاسنه – المهدي – وتتبعه لاستئصال الزنادقة". وانظر: الفتاوى لابن تيمية 4 / 20، وانظر قصة قتله للمقنَّع ومن معه من الزنادقة في البداية والنهاية 10 / 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وعلومها وحمايتها من كل ما يشوبها وعلى أيديهم بدأ التدوين الشامل المبوَّب المرتَّب، بعد أن كان من قبلهم يجمع الأحاديث المختلفة في الصحف والكراريس بشكل محدود وكيفما اتفق بدون تبويب ولا ترتيب. 1 كما نشأ وتفتَّق على أيديهم علم الرجال، بعد أن كان السؤال عن الإسناد قد بدأ في أواخر عصر الصحابة وكبار التابعين. وكما كان لهذا الجيل الريادة في ابتداء التدوين المرتَّب على الأبواب والفصول، كذلك كانت له الريادة في ابتداء التصنيف في علم الرجال، حيث أَلَّف في تاريخ الرجال كل من: الليث بن سعد (ت 175 هـ) ، وابن المبارك (ت 181 هـ) ، وضمرة بن ربيعة (ت 202 هـ) ، والفضل بن دكين (ت 218 هـ) وغيرهم. ويعتبر هذا الجيل جيل التأسيس لعلوم السُّنَّة المطهَّرة ولا غروَّ، ففيه عاش جهابذة رجال السُّنَّة أمثال الأئمة: مالك، والشافعى والثوري، والأوزاعي، وشعبة، وابن المبارك، وابراهيم الفزاري، وابن عيينة، والقطان، وابن مهدي، ووكيع وغيرهم كثير. 2   1 قال الحافظ الذهبي في التذكرة 1 / 160 بعد ذكره ظهور البدع والأهواء وانتشارها في هذا العصر: "وقام على هؤلاء علماء التابعين وأئمة السلف وحذَّروا من بدعهم، وشرع الكبار في تدوين السنن وتأليف الفروع وتصنيف العربية، ثم كثر ذلك في أيام الرشيد، وكثرت التصانيف، وألفوا في اللغات، وأخذ حفظ العلماء ينقص، ودوِّنت الكتب واتَّكلوا عليها، وإنما كان قبل ذلك علم الصحابة والتابعين في الصدور فهي كانت خزائن العلم لهم رضي الله عنهم. 2 المزيد من المعلومات عن جهود هذا الجيل في خدمة السنة، يراجع: الجرح والتعديل 1 / 9 – 11، وذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للذهبي ص: 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وسأوجز الكلام عن التدوين في هذا القرن في ثلاث فقرات هي: أولا: تطور التدوين في هذا القرن عما سبق ثانيا: ممن اشتهر بوضع المصنفات في الحديث في هذا القرن ثالثا: دراسة موجزة عن نموذج مما دون في هذا القرن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أولاً: تطور التدوين في هذا القرن عما سبق: أ- ظهور التفريق بين التدوين الذي هو مجرد الجمع وبين التصنيف الذي هو الترتيب والتبويب والتمييز في المصنفات في هذا القرن. ب- أن هذه المصنفات المدونة في هذا العصر قد جمعت إلى جانب أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، بعد أن كانت تتناقل مشافهة وكانت الصحف فيما مضى تقتصر على الأحاديث النبوية فقط. ج- طريقة التدوين في مصنفات هذا القرن هي: جمع الأحاديث المتناسبة في باب واحد ثم يجمع جملة من الأبواب أو الكتب في مصنف واحد، بينما كان التدوين في القرن الماضي مجرد جمع الأحاديث في الصحف بدون ترتيب أو تمييز. 1 د- إن مادة المصنَّفات في هذا القرن قد جمعت من الصحف والكراريس التي دونت في عصر الصحابة والتابعين، ومما نقل مشافهة من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين. 2   1 قال الحافظ ابن حجر تدريب الراوي 1 / 88 –89: "وهذا بالنسبة إلى الجمع بالأبواب، أما جمع حديثٍ إلى مثله في بابٍ واحدٍ فقد كان سبق إليه الشعبي، فإنه روي عنه أنه قال: هذا باب من الطلاق جسيم، وساق فيه أحاديث".المحدث الفاصل ص: 609، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب 2 / 285. وقال الخطيب: "ولم يكن العلم مدوناً أصنافاً ولا مؤلفاً كتباً وأبواباً في زمن المتقدمين من الصحابة والتابعين، وإنما فعل ذلك من بعدهم، ثم حذا المتأخرون حذوهم".الجامع 2 / 281 2 بحوث في تاريخ السنة المشرَّفة ص: 234، الحديث والمحدِّثون ص: 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وقد حملت مصنفات علماء القرن الثاني عناوين: موطأ – مصنف – جامع - سنن، وبعضها كان بعناوين خاصة مثل: الجهاد – الزهد - المغازي والسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ثانياً: ممن اشتهر بوضع المصنفات في الحديث في هذا القرن: 1 1- أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (ت 150 هـ) بمكة. 2- محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي (ت 151 هـ) بالمدينة. 3- معمر بن راشد البصري ثم الصنعاني (ت 153 هـ) باليمن. 4- سعيد بن أبى عروبة (ت 156 هـ) بالبصرة. 5- أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت 156 هـ) بالشام. 6- محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب (ت 158 هـ) بالمدينة. 7- الربيع بن صُبيح البصري (ت 160 هـ) بالبصرة. 8- شعبة بن الحجاج (ت 160 هـ) بالبصرة. 9- أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري (ت 161 هـ) بالكوفة. 10- الليث بن سعد الفهمي (ت 175 هـ) بمصر. 11- أبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار (ت 176 هـ) بالبصرة. 12- الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) بالمدينة.   1 انظر: مقدمة فتح الباري المسماة "هدي الساري" الفصل الأول، الرسالة المستطرفة ص: 6 – 9، بحوث في تاريخ السنة ص: 232، الحديث المحدثون ص: 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 13- عبد الله بن المبارك (ت 181 هـ) بخراسان. 14- جرير بن عبد الحميد الضبي (ت 188 هـ) بالري. 15- عبد الله بن وهب المصري (ت 197 هـ) بمصر. 16- سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) بمكة. 17- وكيع بن الجراح الرؤاسي (ت 197 هـ) بالكوفة. 18- أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) بمصر. 19- عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ) بصنعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ثالثاً: دراسة موجزة عن نموذج مما دون في هذا القرن: النموذج هو: موطأ الإمام مالك. المؤلف: أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة بل إمام المسلمين في زمانه، قال الذهبي: "الإمام الحافظ فقيه الأمَّة شيخ الإسلام". 1 لماذا سمي كتابه بالموطأ سمي بذلك لأمرين: 1- لأنه وطَّأ به الحديث أي يسره للناس. 2- لمواطأة علماء المدينة له فيه وموافقتهم عليه.   1 تذكرة الحفاظ 1 / 207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قال الإمام مالك: "عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة فكلهم واطأني عليه فسميته: الموطأ". 1 موضوعه: اشتمل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة وفتاوى التابعين وقد انتقاه من مائة ألف حديث كان يرويها 2. عدد أحاديثه: يبلغ عدد أحاديث "الموطأ" - رواية يحيى بن يحي الأندلسي عنه – (853) حديثاً 3. ويقول أبو بكر الأبهري جملة ما في "الموطأ" من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين (1720) حديثاً، المسند منها (600) ، والمرسل (222) ، والموقوف (613) ، ومن قول التابعين (285) . 4 وقد يختلف عددها لتباين روايات "الموطأ" عن الإمام مالك؛ ولأنه كان دائم التهذيب والتنقيح لموطأه، إذ مكث في تصنيفه وتهذيبه أربعين عاماً. مرتبة أحاديثه: قال الإمام الشافعي: "أصح كتاب بعد كتاب الله "موطأ الإمام   1 تنوير الحوالك للسيوطي ص: 7. 2 المصدر السابق ص: 8. 3 تجريد التمهيد لابن عبد البر ص: 258. 4 تنوير الحوالك للسيوطي ص: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 مالك". 1 ولا تعارض بين هذا القول وبين ما اتفق عليه العلماء من أن أصح كتاب بعد كتاب الله "صحيحا البخارى ومسلم"، وذلك لأمور: 1- أن كلام الإمام الشافعى كان قبل وجود "الصحيحين" حيث توفي - رحمه الله - سنة (204 هـ) وعمر الإمام البخاري آنذاك لا يتجاوز عشر سنوات، وكان مولد الإمام مسلم سنة (204 هـ) . 2- أن جلّ ما فيه مخرج فيهما، وما بقي منه في "السنن" الأربعة. وقد ذهب إلى القول بأن كل ما في "الموطأ" صحيح جمعٌ من الأئمة في المشرق والمغرب، وقد أشار إلى ذلك الحافظ بن الصلاح وابن ححر في آخر باب الصحيح من أنواع علوم الحديث. لكن الراجح لدى الجمهور أن مرتبة "الموطأ" تأتي بعد "الصحيحين" والله تعالى أعلم. وقد عده بعض العلماء سادس الكتب الستة، منهم رزين ابن معاوية السرقسطي (ت 535 هـ) في كتابه "الجمع بين الكتب الستة"، والمجد ابن الأثير (ت 606 هـ) في كتابه "جامع الأصول".   1 علوم الحديث لابن الصلاح ص: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 من أهم شروح الموطأ: 1- الاستذكار في شرح مذاهب علماء الأمصار. مطبوع 2- والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، كلاهما لابن عبد البر (ت 463 هـ) وقد طبع في المغرب في 24 مجلداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الباب الثالث: التدوين في القرن الثالث الهجري تعريف موجز عن جهود علماء السنة في هذا القرن ومميزات التدوين فيه ... الباب الثالث: التدوين في القرن الثالث الهجري يعتبر هذا القرن عصر ازدهار العلوم الاسلامية عامة وعلوم السُّنَّة النبوية خاصة، بل يعد هذا القرن من أزهى عصور السُّنَّة النبوية، إذ نشطت فيه الرحلة لطلب العلم ونشط فيه التأليف في علم الرجال، وتُوسِّع في تدوين الحديث، فظهرت كتب المسانيد والكتب الستة - الصحاح والسنن - التي اعتمدتها الأمَّة واعتبرتها دواوين الإسلام. وقد برز في هذا العصر كثير من الحفاظ والنقاد والعلماء الجهابذة من أمثال: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي ابن المديني، ويحيى بن معين، ومحمد بن مسلم بن وارة، وأبو عبد الله البخاري، ومسلم بن الحجاج، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرازيان، وعثمان بن سعيد، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارميان، وغيرهم كثير ممن كان على أيديهم تأسيس كثيرٍ من علوم الحديث عموماً وعلم الجرح والتعديل خصوصاً. كما ظهر على أيدي هؤلاء الجهابذة الأعلام نوع جديد من التأليف، وهو ما عرف بكتب العقيدة وكان التأليف في ذلك على نوعين: الأول: ما جمع فيه مؤلفوه النصوص الواردة في العقيدة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الكتاب والسُّنَّة مع بيان منهج السلف - من الصحابة والتابعين - في فهم هذه النصوص، وموقفهم من أصحاب الأهواء، وكان أغلب هذا النوع بعنوان: السُّنَّة مثل "السُّنَّة" لأحمد بن حنبل، و "السُّنَّة" لابنه عبد الله، و "السُّنَّة" لأبي نصر المروزي وغيرها. والنوع الثاني: ما سلك فيه مؤلفوه مسلك الردِّ على المبتدعة أصحاب الأهواء وذلك لهتك أستارهم وفضح أسرارهم، وتحذير المسلمين منهم وبيان خطرهم على الأمَّة. وحيث بلغ نشاط المعتزلة والجهمية ذروته بتبني الدولة العباسية في عصر كل من المأمون والمعتصم والواثق لآرائهم وعقائدهم، لذلك حظيت هذه الفرق بالنصيب الأكبر من هذه الردود، من ذلك "الرد على الجهمية" لأحمد بن حنبل، والدارمي أيضاً، و "الرد على بشر المريسي المعتزلي" للدارمي أيضاً، و "خلق أفعال العباد" للبخاري وغيرها كثير. 1 وكما كان لأتباع التابعين في القرن الثاني جهود رائدة وعظيمة في خدمة السُّنَّة تدويناً وذب الكذب عنها وحمايتها من كل ما يشوبها جرحاً وتعديلاً، كذلك كان لهذا الجيل - في القرن الثالث - جهود جبارة وكبيرة في سبيل خدمة السُّنَّة وقمع ما يخالفها من الأهواء والبدع. ولقد تُوجت تلك الجهود في خدمة السُّنَّة بتلك المؤلفات المختلفة   1 انظر: رسالة "مكانة أهل الحديث ومآثرهم وآثارهم الحميدة في الدين" لفضيلة الدكتور ربيع بن هادي المدخلي، طبعت بدار الأرقم بالبحرين، وهي رسالة قيِّمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 من كتب المتون - مسانيد وصحاح وسنن - وكتب الرجال المتنوعة في موضوعاتها ومجالاتها، إلى كتب العقيدة التي كثرت في هذا القرن. كما تُوِّجت تلك الجهود أيضاً في مجال قمع الأهواء والبدع ومحاربة أصحابها وكشف أسرارهم وتحذير الأمَّة من شرِّهم بتلك الوقفة الشامخة من إمام أهل السُّنَّة الصدِّيق الثاني أبي عبد الله أحمد ابن حنبل - رحمه الله تعالى - في وجوه أهل التجهم والاعتزال الذين جمعوا عليه وألبوا، فخرج - رحمه الله - منتصراً مؤيَّداً من الله - عز وجل 1 - وقمعت بإذن الله البدعة، ونكص أصحابها على أعقابهم مدحورين، وما مثلهم ومثل ما أرادوه من النيل من السُّنَّة وأهلها إلا كما قال الشاعر: كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهي قرنه الوعل وقد تميز التدوين في هذا القرن بما يلي: 1- تجريد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمييزها عن غيرها، بعد أن كانت قد دونت في القرن الثانى ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين. 2- الاعتناء ببيان درجة الحديث من حيث الصحة والضعف. 3- تنوع المصنفات في تدوين السُّنَّة، حيث ظهرت الأنواع التالية:   1 عن أخبار المحنة التي تعرَّض لها الإمام أحمد، راجع: 1 – كتاب المحنة لابن الجوزي 2- ترجمة الإمام أحمد في سير أعلام النبلاء، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أ- كتب المسانيد التي تعنى بجمع أحاديث كل صحابيٍّ على حدة كمسند الإمام أحمد وغيره. ب- كتب الصحاح والسنن التي تعنى بتصنيف أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكتب والأبواب مع العناية ببيان الصحيح من غيره كالكتب الستة وغيرها. ج- كتب مختلف الحديث ومشكلها مثل كتاب: "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي، وكتاب "اختلاف الحديث" لعلي بن المديني، وكذلك كتاب "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة وغيرها. وهناك الكثير من المصنفات في هذا القرن نكتفي بذكر القليل منها إشارة إلى الكثير. 1   1 لمزيد من التفاصيل راجع: المبحث الرابع من الدور الخامس من كتاب "الحديث والمحدِّثون" لأبي زهو ص: 363 – 365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الفصل الأول: كتب المسانيد تعريفها: المسند لغة: ما ارتفع عن الأرض وعلا عن السطح. 1 وفي الاصطلاح: أطلقه المحدِّثون على معنيين: الأول: الحديث المسند. قال الخطيب البغدادي: "وصفهم الحديث بأنه مسند يريدون أن إسناده متصل بين راويه وبين من أسند عنه، إلا أن أكثر استعمالهم هذه العبارة هو فيما أسند عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، واتصال الإسناد فيه يكون كل واحد من رواته سمعه ممن فوقه حتى ينتهي ذلك إلى آخره وإن لم يبين فيه السماع بل اقتصر على العنعنة" 2 وعلى هذا المعنى أطلق بعض المصنفين على كتابه: مسند، مثل "الجامع الصحيح المسند" لأبي عبد الله البخاري، وكذلك "مسند الدارمي" و "صحيحا ابن خزيمة وابن حبان" وغيرها. الثاني: كتب المسانيد. وهي التي تخرج الأحاديث على أسماء   1 لسان العرب لابن منظور – مادة سند، وابن الأثير في النهاية 2 / 408. 2 الكفاية – باب ما يستعمل أصحاب الحديث من العبارات ص: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الصحابة، وضم أحاديث كل واحد من الصحابة بعضها إلى بعض 1، مثل "مسند الإمام أحمد وأبي يعلى الموصلي" وغيرهما. 2- طريقة ترتيب كتب المسانيد: للعلماء في ذلك ثلاث طرق: الأولى: ترتيب أسماء الصحابة على حروف المعجم من أوائل الأسماء، فيبدأ – مثلاً - بأُبيّ بن كعب، ثم أسامة بن زيد، ثم أنس بن مالك وهكذا، إلى آخر الحروف. الثانية: الترتيب على القبائل فيبدأ ببني هاشم، ثم الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب، ثم مَنْ يليهم. الثالثة: الترتيب على قدر سوابق الصحابة في الإسلام ومحله في الدين، فيبدأ بالعشرة - رضوان الله عليهم -، ثم المقدمين من أهل بدر، ثم يلونهم أهل بيعة الرضوان بالحديبية ... وهكذا. قال الخطيب البغدادي: "وهذه الطريقة – الأخيرة - أحب إلينا في تخريج المسند". 2 3- أهم كتب المسانيد: 1- مسند أبي داود سليمان بن داود الطيالسي (ت 204 هـ) وقد   1 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع – باب وصف الطريقتين اللتين عليهم يصنَّف الحديث 2 / 284، حيث قال رحمه الله: "من العلماء من يختار تصنيف السنن وتخريجها على الأحكام وطريقة الفقه، ومنهم من يختار تخريجها على المسند وضم أحاديث كل واحدٍ من الصحابة إلى بعض". 2 المصدر السابق 2 / 292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ردَّ الحافظ السيوطي على من نسب هذا المسند إلى الطيالسي وجعله أول مصنف في المسند باعتبار تقدم وفاته، فقال: "إنما هو من جمع بعض الحفاظ الخراسانيين جمع فيه ما رواه يونس بن حبيب الأصبهاني خاصة عنه، وشذَّ عنه كثير منه، ويشبه هذا "مسند الشافعي" فإنه ليس تصنيفه، وإنما لقطه بعض الحفاظ النيسابوريين من مسموع الأصم من كتاب "الأم" فإنه كان سمع "الأم" أو غالبها على الربيع عن الشافعي". 1 وقد رتب هذا "المسند" على أبواب الفقه الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا الساعاتي – رحمه الله – وسماه "منحة المعبود بترتيب مسند أبي داود"، وهو مطبوع في مجلدين بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. 2- مسند أبي بكر بن أبى شيبة (ت 235 هـ) وهو غير "المصنف" المطبوع، ويوجد منه نسختان خطيتان، أحدهما في مكتبة أحمد الثالث بتركيا والأخرى في المكتبة الوطنية بتونس، ومصورة هذه الأخيرة في مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. 3- مسند إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه المتوفى سنة (238 هـ) . قام الدكتور عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي بتحقيق جزء منه – من مسند عائشة – لنيل درجة الدكتوراه من شعبة السُنَّة بالدراسات   1 جلال الدين السيوطي: تدريب الراوي 1 174 – 175، شمس الدين السخاوي: فتح المغيث 1 / 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 العليا بالجامعة الإسلامية وأغلبه فيما أعلم مفقود. 1 4- مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل (ت 241هـ) - هو أكبر المسانيد الموجودة فيما أعلم، وقد طبع في ستة مجلدات كبيرة – وسيأتي الحديث عنه في الفقرة الرابعة بإذن الله. 5- مسند أحمد بن إبراهيم الدورقى (ت246 هـ) يوجد منه قطعة فيه مسند سعد بن أبى وقاص في الظاهرية مجموع (37) . 6- المنتخب من مسند عبد بن حميد الكشي المتوفى سنة (249 هـ) وقد طبع في ثلاثة أجزاء بتحقيق مصطفى العدوي. 2 7- مسند يعقوب بن شيبة أبو يوسف السدوسي البصري المتوفى سنة (262 هـ) . قال الذهبي: "صاحب المسند الكبير العديم النظير المعلَّل، الذي تم في مسانيده نحو من ثلاثين مجلداً، ولو كمل لجاء في مائة مجلد". 3 وقد طبع جزء منه يمثل الجزء العاشر من مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 8- مسند أحمد بن إبراهيم الطرسوسي الخزاعي (ت 273 هـ)   1 انظر: الدراسة المفصَّلة عنه في كتاب "الإمام إسحاق بن راهويه وكتابه المسند" للدكتور عبد الغفور البلوشي، طبعة مكتبة الإيمان بالمدينة. 2 وله طبعة أخرى بتحقيق طالب تركي في جامعة أرض روم في مجلد ضخم، ويحقق في جامعة الإمام محمد بن سعود – رسالة دكتوراه. 3 أبو عبد الله الذهبي: سير أعلام النبلاء 12 / 476 وقال عن منهجه فيه ص 477: "يخرج العالي والنازل، ويذكر أولاً سيرة الصحابي مستوفاة، ثم يذكر ما رواه، ويوضح علل الأحاديث، ويتكلم على الرجال، ويجرِّح ويعدِّل بكلامٍ مفيدٍ عذبٍ شافٍ، بحيث إن الناظر في مسنده لا يَملُّ منه، لكن قلَّ من روى عنه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 والموجود منه جزء يسير من مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مطبوع. 9- مسند ابن أبي غرزة أحمد بن حازم الغفاري الكوفي (ت 257 هـ) ، يوجد منه مسند عابس الغفاري وجماعة من الصحابة في المكتبة الظاهرية بدمشق. 10- مسند الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي البغدادي (ت 282 هـ) وهو مفقود فيما أعلم إلا بعض أوراق وجدت باسم المنتقى أو العوالي المستخرجة من مسند الحارث. 11- مسند أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزَّار (ت 292 هـ) ، قام بتحقيقه الدكتور محفوظ الرحمن الهندي، وهو ناقصٌ من أوله. 12- مسند أبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي (ت 307 هـ) وقد طبع أكثر من طبعة وفيه نقص. 13- مسند أبي سعيد الهيثم بن كليب الشاشي (ت 335 هـ) طبع بعضه والباقي تحت الطبع فيما أعلم. 14- مسند المقلِّين لدعلج بن أحمد السجستانى (ت 351 هـ) وهو مطبوع في جزء صغير. 1 وهناك مسانيد أخرى في عداد المفقودات من تراثنا العلمى منها: مسند مسدد بن مسرهد (ت 228 هـ) ، ومسند محمد بن يحيى بن أبي   1 انظر: المزيد من المعلومات عن هذه المسانيد في كتاب "إسحاق بن راهويه وكتابه المسند" للدكتور عبد الغفور البلوشي، فجزاه الله عني خيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 عمر العدني (ت 243 هـ) ، ومسند أحمد بن منيع أبو جعفر البغوي (ت 244 هـ) ، وكذلك المسند المصنَّف الذي لم يصنف مثله للحافظ بقي بن مخلد القرطبي (ت 276 هـ) وقد رتبه مؤلفه - رحمه الله - على الأبواب داخل مسند كلِّ صحابى ليسهل بذلك على طلبة العلم الوقوف على الحديث في مسنده، وقد كتب عنه الأستاذ الدكتور أكرم العمري دراسة جيدة في كتابه "بقى بن مخلد ومقدمة مسنده، دراسة وتحقيق". تنبيه: 1- هناك كتب مرتبة على أسماء الصحابة على طريقة المسانيد، ولم يسمها أصحابها مسانيد من ذلك مثلاً: أ) المعجم الكبير للطبرانى. ب) العلل للدارقطني وغيرهما 2- وهناك كتب ذكرت في عداد كتب المسانيد وهى ليست مرتبة على المسانيد ولا على الأبواب، مثل: "مسند علي بن الجعد" المطبوع في مجلدين، و "مسند يحيى بن معين"، و "مسند السرَّاج" ونحوهما. 4- دراسة موجزة عن نموذج من كتب المسانيد: النموذج: مسند الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل. مؤلفه: شيخ الإسلام وسيد المسلمين في عصره الحافظ الحجة والإمام القدوة المجمع على جلالة قدره وعلو شأنه من الموافق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 والمخالف، أبو عبد الله أحمد بن محمد الذهلي الشيباني المولود سنة (164 هـ) والمتوفى سنة (241 هـ) . 1 كتاب المسند: طريقة ترتيبه: رتبه - رحمه الله - على قدر سابقة الصحابي في الإسلام ومحله من الدين، فبدأ بالعشرة الخلفاء على غيرهم، ثم أهل بدر، ثم أهل الحديبة. وهكذا. مكانة هذا المسند: قال حنبل: "جَمَعَنا أحمد بن حنبل أنا وصالح وعبد الله وقرأ علينا "المسند" - وما سمعه غيرنا - وقال: هذا الكتاب جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف، وما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة". قال الإمام الذهبي: "هذا القول منه على غالب الأمر وإلا فلنا أحاديث قوية في الصحاح والسنن والأجزاء وما هي في "المسند"، وقدَّر الله تعالى أن الإمام قطع الرواية قبل تهذيب "المسند" وقبل وفاته بثلاث عشرة سنة، فتجد في الكتاب أشياء مكررة ودخول مسند في مسند، وسند في سند وهو نادر". وقال أبو موسى محمد بن أبي بكر المديني: "وهذا الكتاب أصل كبير، ومرجع وثيق لأصحاب الحديث انتقى من حديث كثير   1 أفرد كثيرٌ من الأئمة ترجمة الإمام أحمد في مؤلفٍ مستقل، وممن أفرده: الإمام ابن الجوزي، والإمام الذهبي وغيرهما، كما ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ترجمة طويلة، انظر: السير 11 / 177 – 357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ومسموعات وافرة، فجعله إماماً ومعتمداً، وعند التنازع ملجئاً ومستنداً". 1 عدد أحاديث المسند: قال الحافظ أبو موسى المديني: "فأما عدد أحاديثه فلم أزل أسمع من أفواه الناس أنها أربعون ألفاً، إلى أن قرأت على أبي منصور بن زريق القزاز – بزايين - ببغداد قال: حدثنا أبو بكر الخطيب قال: حدثنا ابن المنادي قال: لم يكن أحد في الدنيا أروى عن أبيه منه -يعني عبد الله بن أحمد بن حنبل- لأنه سمع "المسند" وهو ثلاثون ألفاً، والتفسير وهو مائة وعشرون ألفاً. الخ. فلا أدري هل الذي ذكره ابن المنادي أراد به ما لا مكرر فيه، أو أراد غيره مع المكرر، فيصلح القولان جميعاً الخ". 2 ويذكر أبو موسى – أيضاً - عن أبي عبد الله الحسين بن أحمد الأسدي في كتابه "مناقب الإمام أحمد" أنه سمع أبا بكر بن مالك 3 يذكر أن جملة ما وعاه "المسند" أربعون ألف حديث غير ثلاثين أو أربعين. 4   1 انظر: المصعد الأحمد لابن الجزري المطبوع في مقدمة المسند بتحقيق الشيخ أحمد شاكر 1 / 31 – 33. 2 شمس الدين ابن الجزري: المصعد الأحمد ص: 32 – 33 من مقدمة أحمد شاكر للمسند، ولأبي موسى المديني كتاب عن مسند الإمام أحمد اسمه "خصائص المسند" وهو مطبوع في مقدمة المسند بتحقيق أحمد شاكر، وقد طبع مفرداً مراراً في الهند ومصر وغيرهما. 3 هو أحمد بن جعفر بن مالك القطيعي، راوية المسند عن عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمهم الله جميعاً. 4 شمس الدين ابن الجزري: المصعد الأحمد ص: 32 – 33 من مقدمة المسند لأحمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 عدد الصحابة المخرجة مسانيدهم في المسند: قال أبو موسى: "فأما عدد الصحابة فنحو سبعمائة رجل ومن النساء مائة ونيف" 1 وقال ابن الجزرى: "قد عددتهم فبلغوا ستمائة ونيفاً وتسعين سوى النساء، وعددت النساء فبلغن ستاً وتسعين، واشتمل "المسند" على نحو ثمانمائة من الصحابة، سوى ما فيه ممن لم يسم من الأبناء والمبهمات وغيرهم". 2 شرط الإمام أحمد: قال الحافظ أبو موسى المديني: "لم يخرج أحمد في "مسنده" إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته، دون من طعن في أمانته". 3 وقال شيخ الاسلام ابن تيمية: "شرط "المسند" أقوى من شرط أبي داود في "سننه"، وقد روى أبو داود في "سننه" عن رجال أعرض عنهم أحمد في "المسند"، ولهذا كان الإمام أحمد لايروي في "المسند" عمن يعرف أنه يكذب مثل محمد بن سعيد المصلوب ونحوه، ولكن قد يروي عمن يُضَعَّف لسوء حفظه، فإنه يكتب حديثه ليعتضد به ويعتبر به". 4   1 شمس الدين ابن الجزري: المصد الأحمد 1 / 34 – 35 من المسند بتحقيق أحمد شاكر. 2 المصدر السابق. 3 انظر: المصعد الأحمد المطبوع في مقدمة المسند بتحقيق الشيخ أحمد شاكر 1 / 34. 4 أبو العباس بن تيمية: الفتاوى 18 / 26، ابن الجزري: المصعد الأحمد ص: 34 – 35 من مقدمة أحمد شاكر للمسند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 درجة أحاديث المسند: قال الحافظ أبو القاسم التميمي رحمه الله: "لا يجوز أن يقال: فيه السقيم، بل فيه الصحيح والمشهور والحسن والغريب". 1 وقال شيخ الاسلام ابن تيمية: "وقد تنازع الناس هل في "مسند الإمام أحمد" حديث موضوع، فقال طائفة من الحفاظ كأبي العلاء الهمداني وغيره: ليس فيه موضوع، وقال بعض العلماء كأبى الفرج ابن الجوزي: فيه موضوع". 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا خلاف بين القولين عند التحقيق، فإن لفظ الموضوع قد يراد به: المختلق المصنوع الذي يتعمد صاحبه الكذب، وهذا مما لا يعلم أن في "المسند" منه شيئاً، ويراد بالموضوع: ما يعلم انتفاء خبره، وإن كان صاحبه لم يتعمد الكذب بل أخطأ فيه، وهذا الضرب في "المسند" منه، بل وفي "سنن أبي داود والنسائي". 3 وقال الحافظ في مقدمة "تعجيل المنفعة": "ليس في "مسند أحمد" حديثاً لا أصل له إلا ثلانة أحاديث أو أربعة منها حديث عبد الرحمن بن عوف: أنه يدخل الجنة زحفاً، والاعتذار عنه أنه مما أمر الإمام   1 شمس الدين ابن الجزري: المصعد الأحمد ص: 34 – 35 من مقدمة المسند بتحقيق الشيخ أحمد شاكر. 2 شيخ الإسلام ابن تيمية: مجموع الفتاوى 18 / 26، شمس الدين ابن الجزري: المصعد الأحمد ص:34 – 35 من مقدمة المسند بتحقيق الشيخ أحمد شاكر. 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أحمد بالضرب عليه فترك سهواً". أقسام أحاديث المسند المطبوع: قال الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الساعاتى: "بتتبعي لأحاديث "المسند" وجدتها تنقسم إلى ستة أقسام: الأول: ما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه سماعاً منه، وهو المسمى "مسند الإمام أحمد"، وهو كبير جداً يزيد على ثلاثة أرباع الكتاب. الثاني: ما رواه عبد الله عن أبيه وغيره، وهو قليل جداً. الثالث: ما رواه عبد الله عن غير أبيه، وهو المسمى عند المحدثين بزوائد عبد الله وهو كثير بالنسبة للأقسام كلها عدا الأول. الرابع: ما قرأه عبد الله على أبيه ولم يسمعه منه، وهو قليل. الخامس: ما وجده عبد الله في كتاب أبيه بخط يده، ولم يقرأه ولم يسمعه، وهو قليل أيضاً. السادس: ما رواه الحافظ أبو بكر القطيعي عن غير عبد الله وأبيه - رحمهما الله تعالى - وهو أقل الجميع". 1   1 أحمد بن عبد الرحمن الساعاتي: الفتح الرباني 1 / 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 عناية العلماء بالمسند: 1- رتبه على معجم الصحابة والرواة عنهم كترتيب كتب الأطراف الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن المحب الصامت. 2- أخذ الحافظ أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير - رحمه الله تعالى - كتاب "المسند" بترتيب ابن المحب الصامت، وضم إليه "الكتب الستة"، و "مسند البزار"، و "مسند أبي يعلى الموصلي"، و "معجم الطبراني الكبير"، ورتبها جميعاً على نفس ترتيب ابن المحب للمسند، وسماه: "جامع المسانيد والسنن". قال ابن الجزري: "وجهد نفسه كثيراً وتعب فيه تعباً عظيماً فجاء لا نظير له في العالم، وأكمله إلا بعض مسند أبي هريرة، فإنه مات قبل أن يكمله لأنه عوجل بكفِّ بصره، وقال لي رحمه الله تعالى: لا زلت أكتب فيه في الليل والسراج يُنَوْنِص 1 حتى ذهب بصري معه 2، ولعل الله أن يقيض له من يكمله مع أنه سهل، فإن "معجم الطبراني الكبير" لم يكن فيه شىء من مسند أبي هريرة رضي الله تعالى عنه". 3 3- رتبه الحافظ ابن حجر أيضاً على الأطراف وسماه: "إطراف   1 النوص – بالتحريك – هو التردد والحركة الضعيفة، انظر: تاج العروس 4 / 443 – 444. 2 هكذا فلتكن الهمم في خدمة سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهكذا يبذل في سبيل خدمتها الغالي والنفيس كما كان يفعل سلف الأمَّة رحمهم الله، ورحم الله ابن كثير رحمة واسعة، وعوَّضه عن حبيبته بالجنة، وحشرنا الله وإياه مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم. 3 أحمد بن عبد الرحمن الساعاتي: الفتح الرباني 1 / 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المسند - بكسر النون وضم الميم - المعتلي بأطراف المسند الحنبلي" 1، ثم ضمه أيضاً مع الكتب العشرة في كتابه "إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة". 4- ترجم لرجاله الحافظ شمس الدين الحسيني في كتابه "الإكمال بمن في مسند أحمد من الرجال ممن ليس في تهذيب الكمال للمزي". ثم ترجم لرجاله أيضاً ضمن كتابه "التذكرة برجال العشرة" وهي "الكتب الستة"، و "موطأ مالك"، و "مسند أحمد"، و "مسند الشافعى"، و "مسند أبي حنيفة"، وقد اختصره الحافظ في "تعجيل المنفعة"، مقتصراً على رجال الأربعة. 5- رتبه الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الساعاتى على الكتب والأبواب ليسهل بذلك على طلبة العلم الاستفادة من المسند وسماه "الفتح الربانى بترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني"، ثم عاد وشرحه وخرج أحاديثه في كتاب سماه "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني"، وكلاهما مطبوع. 6- اعتنى بهذا المسند أيضاً الشيخ أحمد بن محمد شاكر - رحمه الله تعالى - فشرح غريبه وحكم على أحاديثه صحة وضعفاً بما أوصله إليه اجتهاده، ثم صنع له فهارس قسمها - رحمه الله تعالى - إلى قسمين: فهارس لطيفة كفهارس الأعلام ونحوها، وفهارس علمية كتلك التي صنعها في "الرسالة" للشافعي، وقد توفي - رحمه الله تعالى - قبل أن يكمله إذ بلغ الربع تقريباً.   1 طبع في عشر مجلدات بتحقيق د: زهير بن ناصر الناصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 هذه أهم الجهود التي وقفت عليها، وهناك جهود أخرى اعتنت ب "المسند" من حيث مكانته وأهميته وبيان درجة أحاديثه من أهمها: [1] خصائص المسند لأبي موسى المديني. [2] المصعد الأحمد. [3] المسند الأحمد كلاهما لشمس الدين ابن الجزري. [4] القول المسدد في الذب عن مسند أحمد للحافظ ابن حجر - رحمه الله - وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الفصل الثاني: الكتب الستة تمهيد ... الفصل الثاني: الكتب الستة قال الحافظ أبو الحجاج المزي (ت 742 هـ) : "وأما السُّنَّة فإن الله وفق لها حفاظاً عارفين وجهابذة عالمين وصيارفة ناقدين، ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فتنوعوا في تصنيفها وتفننوا في تدوينها على أنحاء كثيرة وضروب عديدة حرصاً على حفظها وخوفاً من إضاعتها، وكان من أحسنها تصنيفاً وأجودها تأليفاً وأكثرها صواباً وأقلها خطأً، وأعمها نفعاً، وأعودها فائدة وأعظمها بركة، وأيسرها مؤونة، وأحسنها قبولاً، عند الموافق والمخالف، وأجُّلها موضعاً عند الخاصة والعامة: "صحيح أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري"، ثم "صحيح أبي الحسين مسلم بن حجاج النيسابوري"، ثم بعدهما كتاب "السنن" لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ثم كتاب"الجامع" لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، ثم كتاب "السنن" لأبى عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، ثم كتاب "السنن" لأبي عبد الله محمد بن يزيد المعروف بابن ماجه القزويني وإن لم يبلغ درجتهم. ولكل واحد من هذه "الكتب الستة" ميزة يعرفها أهل هذا الشأن، فاشتهرت هذه الكتب بين الأنام وانتشرت في بلاد الإسلام، وعظم الانتفاع بها وحرص طلاب العلم على تحصيلها، وصُنِّفت فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 تصانيف وعُلِّقت عليها تعاليق، بعضها في معرفة ما اشتملت عليه من المتون وبعضها في معرفة ما احتوت عليه من الأسانيد، وبعضها في مجموع ذلك". 1   1 تهذيب الكمال 1 / 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أولاً: صحيح الإمام البخاري 1- المؤلف: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الجعفي مولاهم، شيخ الإسلام وإمام الحفاظ، أمير المؤمنين في الحديث، صاحب التصانيف الكثيرة، كان مولده في شوال سنة أربع وتسعين ومائة، مات سنة ست وخمسين ومائتين للهجرة. 1 2- اسم الكتاب: اشتهر بين العلماء ب "صحيح البخاري" أما اسمه كما وضعه مؤلفه، فقال الإمام يحيى بن شرف النووي: "سماه: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه". 2 وقال الحافظ ابن حجر: "سماه: الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه". 3   1 انظر: تفاصيل ترجمته في سير أعلام النبلاء 12 / 391، وآخر فصل في هدي الساري لابن حجر. 2 قال في مقدمة تحفة الأحوذي 1 / 34: "والجامع في اصطلاح المحدِّثين: ما يوجد فيه جميع أقسام الحديث: [1] العقائد [2] الأحكام [3] الرقائق والزهد [4] الآداب [5] التفسير [6] التاريخ والمغازي [7] الفتن وأشراط الساعة [8] المناقب والفضائل. 3 انظر: هدي الساري لابن حجر، الفصل الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 3- الباعث على تأليفه: أ- قال الحافظ ابن حجر: "لما رأى البخاري تلك التصانيف التي ألفت قبل عصره، وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين، والكثير منها يشمله التضعيف، فلا يقال لغَثِّه: سمين، فحرَّك همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين". ب- وقال: "وقوي عزمه ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه، إسحاق بن راهويه، حيث قال: لو جمعتم كتاباً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح". ج- وقال الحافظ أيضاً: "ورُوِّينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس قال: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأني بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه، فسألت بعض المعبِّرين، فقال لي: أنت تذب عنه الكذب فهو الذي حملني على إخراج الجامع". 1 4- موضوعه والكشف عن مغزاه فيه: قال الحافظ: "تقرر أنه التزم الصحة، وأنه لا يورد فيه إلا حديثاً صحيحاً، هذا أصل موضوعه، وهو مستفاد من تسميته إياه الجامع الصحيح، ومما نقلناه عنه من رواية الأئمة عنه صريحاً، ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحكمية، فاستخرج بفهمه من المتون   1 انظر: هدي الساري لابن حجر ص: 6 الفصل الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 معاني كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة". 1 وقال محيي الدين النووي: "ليس مقصود البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط، بل مراده الاستنباط منها والاستدلال لأبواب أرادها". 2 5- تراجم البخاري في صحيحه: قال أبو أحمد بن عدي عن عبد القدوس بن همام قال: "شهدت عدة مشايخ يقولون: حوَّل البخاري تراجم جامعه - أي بيَّضها - بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين". 3 قال الحافظ: "ولنذكر ضابطاً يشمل على بيان أنواع التراجم فيه، وهي ظاهرة وخفية، أما الظاهرة: فهي أن تكون الترجمة دالَّة بالمطابقة لما يورد في مضمونها ... وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له أو بعضه أوبمعناه، وهذا في الغالب. وأما الخفية: وهي التي لا تدرك مطابقتها لمضمون الباب إلا   1 الحافظ ابن حجر: هدي الساري – الفصل الثاني ص: 8 – 14 ملخَّصاً بتصرف. 2 المصدر السابق. 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 بالنظر الفاحص والتفكير الدقيق وهذا الموضع هو معظم ما يُشْكِل من تراجم هذا الكتاب، ولهذا اشتهر من قول جمع من الفضلاء: فقه البخاري في تراجمه، وأكثر ما يفعل البخاري ذلك إذا لم يجد حديثاً على شرطه في الباب ظاهر المعنى في المقصد الذي ترجم به ويستنبط الفقه منه، وقد يفعل ذلك لغرض شحذ الأذهان. وكثيراً ما يفعل هذا حيث يذكر الحديث المفسِّر لذلك في موضع آخر متقدماً أو متأخراً". 1 6- بيان تقطيعه للحديث وفائدة إعادته: قال ابن حجر: "قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي - في جزء له سماه "جواب المتعنت" -: اعلم أن البخاري - رحمه الله - كان يذكر الحديث في كتابه في مواضع ويستدل به في كل باب بإسنادٍ آخر، ويستخرج منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذى أخرجه فيه، وقلما يورد حديثاً في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد، وإنما يورده من طريق أخرى لمعانٍ نذكرها، والله أعلم بمراده منها ثم سرد ثمانية معانٍ لا يتسع المقام لذكرها هنا". ثم قال: "وأما تقطيعه للحديث في الأبواب تارة واقتصاره منه على بعضه أخرى فذلك لأنه إن كان المتن قصيراً أو مرتبطاً بعضه ببعض وقد اشتمل على حكمين فصاعداً فإنه يعيده بحسب ذلك مراعياً مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثية، كأن يورده عن شيخ سوى   1 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الذي أخرجه عنه قبل ذلك، أو يورده في موضع موصولاً وفي موضع معلقاً، ويورده تارة تاماً، وتارة مقتصراً على طرفه الذي يحتاج إليه في ذلك الباب، فإن كان المتن مشتملاً على جملٍ متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى فإنه يخرج كل جملة في باب مستقل فراراً من التطويل، وربما نشط فساقه بتمامه"1   1 ملخَّصاً بتصرف من الفصل الثالث من هدي الساري ص: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 7- شرط الإمام البخاري في صحيحه: قال الحافظ ابن طاهر: "اعلم أن البخاري ومسلم ومن ذكرنا بعدهم - أهل السنن - لم ينقل عن أحد منهم أنه قال: شرطت أن أخرج في كتابي ما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يعرف ذلك من سبر كتبهم، فيعلم بذلك شرط كل رجل منهم". ثم قال: "فاعلم أن شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلاً غير مقطوع، ... إلا أن مسلماً أخرج أحاديث أقوام ترك البخاري حديثهم لشبهة وقعت في نفسه، أخرج مسلم أحاديثهم بإزالة الشبهة مثل حماد بن سلمة، وسهيل بن أبي صالح، وداود بن أبي هند، وأبى الزبير المكي، والعلاء بن عبد الرحمن وغيرهم". 1 وقال الحازمي: "ومذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه العدول، وفيمن روى عنهم وهم ثقات أيضاً، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزم إخراجه، وعن بعضهم مدخول لا يصلح إخراجه إلا في الشواهد والمتابعات" ثم ضرب لذلك مثلاً بالإمام الزهري وطبقات الرواة عنه. 2   1 محمد بن طاهر المقدسي: شروط الأئمة الستة ص: 11 –12، وهؤلاء المذكورون لم يخرج مسلم من حديثهم إلا ما تابعهم غيرهم عليه. 2 محمد بن موسى الحازمي: شروط الأئمة الخمسة ص: 56 – 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 8- عناية العلماء بصحيح البخاري: ليس من المبالغة في شيء إذا قلنا إن المسلمين على اختلاف طبقاتهم وتباين مذاهبهم لم يعنوا بكتاب بعد كتاب الله عنايتهم ب "صحيح البخارى" من حيث السماع والرواية والضبط والكتابة، وشرح أحاديثه وتراجم رجاله، واختصاره وتجريد أسانيده 1، ولا غرابة في ذلك فهو أصح كتاب بعد كتاب الله. قال الحافظ: "ذكر الفربري أنه سمعه منه تسعون ألفاً"، وقال: "ومن رواة الجامع أيضاً: أبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن قريبة البزدوي، وابراهيم بن معقل النسفي وحماد بن شاكر الفسوي. والرواية التي اتصلت بالسماع في هذه الأعصار وما قبلها هي رواية: محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري". 2 هذا بالنسبة لروايته وسماعه، وأما شروحه والتعليق عليه ونحوه، فقد قام به العلماء - قديماً وحديثاً - حق القيام بحيث لم يدعوا أمراً يرتبط به إلا بحثوه وتعرضوا له، ولا مُشْكِلاً من ألفاظه وأسمائه وتراجمه إلا بيَّنوه وأذهبوا الشُبَهَ عنه. 3 وقد بلغت شروحه المخطوطة والمطبوعة: إحدى وسبعين شرحاً حسب إحصاء الأستاذ عبد الغني بن عبد الخالق - رحمه الله تعالى - وحسب إحصائه أيضاً بلغت التعليقات والمختصرات وما جرى مجراها:   1 عبد الغني عبد الخالق: الإمام البخاري وصحيحه ص: 228 – 245 2 أحمد بن علي بن حجر: هدي الساري ص: 491 – 492. 3 عبد الغني بن عبد الخالق: الإمام البخاري وصحيحه ص: 228 – 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أربعة وأربعين تعليقاً ومختصراً ما بين مخطوط ومطبوع. 1 ومن أهم شروح البخاري المطبوعة: 1- أعلام السنن للخطابي أبي سليمان حمد بن محمد البستي (ت 388 هـ) . 2- الكوكب الدراري في شرح صحيح البخاري للحافظ شمس الدين محمد بن يوسف المعروف بالكرماني (ت 786 هـ) . 3- فتح الباري للحافظ ابن حجر (ت 852 هـ) ، وهو أهم شروحه وأجودها، وصدق فيه قول الشيخ الشوكانى: "لا هجرة بعد الفتح". 2 4- عمدة القاري للحافظ بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد الحنفي الشهير بالعيني (ت 855 هـ) . 5- إرشاد الساري لشهاب الدين أحمد بن محمد المعروف بالقسطلانى (ت 923 هـ) . 6- فيض الباري للشيخ محمد أنور الكشميري الحنفي (ت 1352 هـ) . 7- لامع الدراري للحاج رشيد أحمد الكنكوهي، وغير ذلك من الشروح.   1 المصدر السابق. 2 الإمام البخاري وصحيحه لعبد الغني بن عبد الخالق ص: 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أما العناية برجاله: فقد بدأ ذلك مبكراً، حيث ألف الحافظ أبو أحمد عبد الله بن عدي (ت 365 هـ) كتاباً سماه "من روى عنه البخاري"، ثم تتابع التأليف في ذلك، ومن أهم تلك الكتب ما يلى: 1- الهداية والإرشاد لأبى نصر أحمد بن محمد الكلاباذي (ت 398 هـ) . 2- التعديل والتجريح لمن أخرج له البخاري في الصحيح لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت 474 هـ) . 3- الجمع بين رجال الصحيحين لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي (ت 507 هـ) . ثم ظهرت بعد ذلك الكتب التي تعنى برجال الأئمة الستة جميعاً ومنها: 1- الكمال في أسماء الرجال للحافظ عبد الغني المقدسي. 2- تهذيب الكمال للحافظ المزي (ت 742 هـ) ثم ما تفرع منه. 1 9- عدد أحاديث صحيح البخاري: قال الحافظ أبو عمرو عثمان بن الصلاح: "وجملة ما في صحيح البخاري سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً بالأحاديث المكررة، وقد قيل أنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث، إلا أن   1 انظر: أكرم العمري: بحوث في تاريخ السنة ص: 123 – 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 هذه العبارة قد يندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين، وربما عَدَّ الحديث الواحد المروي بالإسنادين حديثين". 1 وقال الحافظ أبو الفضل شهاب الدين بن حجر: "فجميع ما في صحيح البخاري من المتون الموصولة بلا تكرير على التحرير ألفا حديث وستمائة حديث وحديثان. ومن المتون المعلقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضع آخر من الجامع مائة وتسعة وخمسون حديثاً، فجميع ذلك ألفا حديث وسبعمائة وواحد وستون حديثاً، وبين هذا العدد الذى حررته والعدد الذي ذكره ابن الصلاح وغيره تفاوت كثير وما عرفت من أين أتى الوهم في ذلك، ثم تأولته على أنه يحتمل أن يكون العادُّ الأول الذي قلدوه في ذلك كان إذا رأى الحديث مطولاً في موضع ومختصراً في موضع آخر يظن أن المختصر غير المطول، إما لبعد العهد به أو لقلة المعرفة بالصناعة، ففي الكتاب من هذا النمط شيء كثير، وحينئذ يتبين السبب في تفاوت ما بين العددين، والله الموفق". 2   1 ابن الصلاح: علوم الحديث ص: 16 – 17. 2 ابن حجر: هدي الساري ص: 477. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ثانياً: صحيح الإمام مسلم 1- المؤلف: هو الإمام الحافظ الناقد أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، ولد في سُّنَّة أربع ومائتين، ومات سُّنَّة إحدى وستين ومائتين للهجرة. 1 2- اسم الكتاب: اشتهر هذا الكتاب بين العلماء باسم "صحيح مسلم". قال ابن الصلاح: "رُوِّينا عن مسلم رضي الله عنه قال: صنفت هذا "المسند الصحيح" من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة". وقال ابن الصلاح أيضاً: "بلغنا عن مكى بن عبدان قال: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند" يعني مسنده الصحيح. 2 3- الباعث له على تأليفه: تولى الإمام مسلم بيان أسباب تأليفه لهذا "المسند الصحيح" في مقدمته حيث ذكر أن السبب الباعث له على ذلك أمران: 3   1 انظر: تفاصيل ترجمته في سير أعلام النبلاء 12 / 557. 2 أبو عمرو ابن الصلاح: صيانة صحيح مسلم ص: 67 – 68. 3 مسلم بن الحجاج: مقدمة الصحيح ص: 3 – 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الأول: إجابة لسؤال أحد تلاميذه حيث قال في مقدمته: "ثم إنا- إن شاء الله - مبتدؤون في تخريج ما سألت تأليفه على شريطة سوف أذكرها لك". الثاني: كثرة ما أُلِّف وقُذِف به إلى الناس من الكتب المملؤة بالضعاف والمناكير والواهيات حيث قال في مقدمته: "ولكن من أجل ما أعلمناك من أن نشر القوم الأخبار بالأسانيد الضعاف المجهولة، وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها، خَفَّ على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت". 4- منهج الإمام مسلم في صحيحه: تولى - رحمه الله - بيان منهجه الذي سار عليه في كتابه بنفسه في مقدمته فقال: "ثم إنا - إن شاء الله - مبتدؤون في تخريج ما سألت تأليفه على شريطة سوف أذكرها لك وهو: أنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقسمها على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى أو إسناد لعلَّة تكون هناك؛ لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام، فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة، أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن ولكن تفصيله ربما عسر من جملته، فإعادته بهيئته إذا ضاق ذلك أسلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقال: "فأما ما وجدنا بُدَّاً من إعادته بجملته من غير حاجة منا إليه، فلا نتولى فعله إن شاء الله تعالى. فأما القسم الأول: فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هى أسلم من العيوب من غيرها وأنقى، وأن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوه، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش، كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم. فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم، كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم وأضرابهم من حمَّال الآثار ونقَّال الأخبار فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين؛ فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سَنِيَّة". 1 ثم قال - رحمه الله تعالى -: "فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤَلِّف ماسألت من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما ما كان منها عن القوم هم عند أهل الحديث مُتَّهمون - أو عند   1 انظر: مقدمة صحيح الإمام مسلم 1 / 4 – 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الأكثر منهم - فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدائني، وعمرو بن خالد، وعبد القدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن ابراهيم، وسليمان بن عمرو، وأبي داود النخعي، وأشباههم ممن اتُّهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار، وكذلك مَنْ الغالب على حديثه المنكر والغلط أمسكنا أيضاً عن حديثهم. وعلامة المنكر في حديث المحدِّث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله". 1 5- شرط الإمام مسلم في صحيحه: تقدم الكلام على ذلك عند الكلام على شرط البخاري في صحيحه وفيما ذكرناه في الفقرة السابقة - منهجه في صحيحه - شىء من ذلك فليراجع هناك. 6- هل في صحيح الإمام مسلم معلقات؟ قال الحافظ أبو عمر بن الصلاح: "ليس في مسلم من المعلقات إلا القليل … وذكر الحافظ أبو على الغسانى الأندلسي أن مسلماً وقع الانقطاع فيما رواه في كتابه في أربعة عشر موضعاً". 2   1 من مقدمة الصحيح 1 / 4 – 7 بتصرف يسير. 2 أبو عمرو بن الصلاح: صيانة صحيح مسلم ص: 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وذكر الحافظ العراقي كلام ابن الصلاح ثم قال: "وفيه أمور: أحدهما: أن قوله: وهو في مسلم قليل جداً هو كما ذكر، ولكني رأيت أن أبيِّن موضع ذلك القليل ليضبط"، ثم ذكر ثلاثة مواضع: الأول في كتاب التيمم، والثاني في البيوع، والثالث في الحدود ... وكلها بصيغة وروى الليث. ثم قال: "والحديثان الأخيران - في البيوع والحدود - قد رواهما مسلم قبل هذين الطريقين متصلاً ثم أعقبهما بهذين الإسنادين، فعلى هذا ليس في مسلم بعد المقدمة حديث معلق لم يوصله إلا حديث أبي الجهم في التيمم، وفيه بقية أربعة عشر موضعاً رواه متصلاً ثم أعقبه بقوله: ورواه فلان، وقد جمع الرشيد العطار ذلك في "الغرر المجموعة"، وقد بينت ذلك كله في كتاب جمعته فيما تكلم فيه من أحاديث الصحيحين بضعفٍ أو انقطاع". 1 وقال الحافظ ابن حجر تعقيباً على كلام الحافظ العراقي: "فيه أمور: الأول: قوله: فيه بقية أربعة عشر موضعاً ليس فيه عند الرشيد العطار إلا ثلاث عشر أحدهما مكرر، والذي أوقع الشيخ في ذلك أن أبا علي الجياني - وتبعه المازري - ذكر أنها أربعة عشر. والثاني: قوله: إنه رواه متصلاً ثم أعقبه بقوله: ورواه فلان ليس ذلك في جميع الأحاديث المذكورة، وإنما وقع ذلك فيه في ستة أحاديث ثم ذكرها الحافظ ثم ذكر السبعة الباقية بما فيها المكرر ثم قال: فعلى هذا فهي إثنا عشر حديثاً فقط ستة منها بصيغة التعليق، وستة منها بصيغة الاتصال، ولكن أبهم في كل واحد منها اسم من حدَّثه، فكان حق العبارة أن يقول: وفيه بقية ستة مواضع أخرى قيل   1 أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي: التقييد والإيضاح ص: 15 ملخَّصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 إنها منقطعة وليست بمنقطعة كما هو رأي الجمهور من المحدِّثين في الإسناد فيه رجل مبهم، إنه متصل فيه مبهم". 1 7- عدد أحاديث صحيح مسلم: قال الحافظ العراقي: "ولم يذكر ابن الصلاح عدة أحاديث مسلم، وقد ذكرها النووي في زياداته في "التقريب" فقال: إن عدة أحاديثه نحو أربعة آلاف بإسقاط المكرر. 2 ولم يذكر عدته بالمكرر وهو يزيد على عدة كتاب البخاري لكثرة طرقه، وقد رأيت عن أبي الفضل أحمد بن سلمة أنه إثنا عشر ألف حديث. 3 8- عناية العلماء بصحيح مسلم: لم يعتن العلماء بكتاب بعد كتاب الله عنايتهم بالصحيحين، وقد سبق الكلام عن عنايتهم بالبخاري، وبدأ عناية العلماء بهما في وقت مبكر حيث ظهر في القرنين الرابع والخامس كتب تراجم رجالهما وكتب الجمع بينهما، وكتب الاستخراج عليهما وغير ذلك، وسيأتي الكلام على ذلك في الباب الرابع بإذن الله تعالى. وقد اعتنى العلماء بصحيح مسلم رواية وإسماعاً إلا أنه اتصلت واشتهرت الروايات في الأعصار المتأخرة لصحيح مسلم برواية أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري الفقيه الزاهد المجتهد راوية صحيح مسلم، مات سنة (308 هـ) .   1 أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر: النكت 1 / 344 – 353. 2 جلال الدين السيوطي: تدريب الراوي المطبوع بهامش: التقريب والتيسير 1 / 104. 3 أبو الفضل عبد الرحيم العراقي: التقييد والإيضاح ص: 15، وأبو عبد الله الذهبي: سير أعلام النبلاء 12 / 566، وقد ذكر الحافظ ابن الصلاح عدد أحاديث مسلم وذلك في كتابه: صيانة صحيح مسلم ص: 99 – 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ومن أهم شروح مسلم ما يلي: 1- المفهم في شرح مسلم لعبد الغافر بن إسماعيل الفارسي (ت 529 هـ) . 2- المعلم في شرح مسلم لأبي عبد الله محمد بن علي بن عمر المازري المالكي (ت 536 هـ) . 3- إكمال المعلم بفوائد شرح صحيح مسلم للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي (ت 544 هـ) . 4- شرح صحيح مسلم لأبي عمرو بن عثمان بن الصلاح (ت 643 هـ) . 5- المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج لأبى زكريا يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ) . 6- إكمال الإكمال لأبي الروح عيسى بن مسعود الزواوي المالكي (ت 744 هـ) . وغير ذلك من الشروح التي بلغت – فيما وقفت عليه - قريباً من خمسين شرحاً ومختصراً. 1   1 انظر: مقدمة تحقيق كتاب صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح – بقلم الدكتور موفق بن عبد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ثالثاً: سنن أبي داود السجستاني 1- المؤلف: أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي السجستاني الإمام، شيخ السُّنَّة، مقدم الحفاظ، ومحدث البصرة، المولود سنة (202 هـ) والمتوفى سنة (275 هـ) . 1 2- اسم كتاب أبي داود: اشتهر بين العلماء ب "السنن" 2، ويبدو أن المؤلِّف نفسه سمَّاه بهذا حيث قال في رسالته إلى أهل مكة: "فإنكم سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب "السنن" أهي أصح ما عرفت في الباب"، وقال في موضع آخر من الرسالة أيضاً: "وإن من الأحاديث في كتابي "السنن" ما ليس بمتصل وهو مرسل". 3- منهج أبي داود في كتاب السنن: جاء في رسالته إلى أهل مكة قوله: "فإنكم سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب "السنن" أهي أصح ما عرفت في الباب فاعلموا أنه كذك كله إلا أن يكون قد رُوي من وجهين صحيحين، أحدهما أقوم إسناداً والآخر صاحبه أقدم في الحفظ، فربما كتبت ذلك   1 انظر تفاصيل ترجمته في: سير أعلام النبلاء 13 / 203. 2 قال في الرسالة المستطرفة ص: 32: "كتب السنن التي تعرف في اصطلاحهم بالكتب المرتبة على الأبواب الفقهية من الإيمان والطهارة والصلاة إلى آخرها، وليس فيها شيءٌ من الموقوف لأن الموقوف لا يسمى في اصطلاحهم سنة، ويسمى حديثاً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 - أي الأقدم حفظاً - ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث ولم أكتب في الباب إلا حديثاً أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح فإنه يكثر، وإنما أردت قرب منفعته، وإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة، فإنما هو من زيادة كلام فيه، وربما تكون فيه كلمة زيادة على الأحاديث، وربما اختصرت الحديث الطويل لأنى لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من سمعه، ولا يفهم موضع الفقه منه فاختصرته لذلك … وليس في كتاب "السنن" الذي صنَّفته عن رجل متروك الحديث شيء 1، وإذا كان فيه حديث منكرٌ بيَّنت أنَّه منكر وليس على نحوه في الباب غيره، وما كان في كتابي من حديث فيه وهنٌ شديدٌ فقد بيَّنته، ومنه ما لا يصح سنده، ومالم أذكر فيه شيئاً فهو صالحٌ، وبعضها أصح من بعض". 2 4- شرط أبي داود وغيره من أصحاب السنن: قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر: "وأما أبو داود فمن بعده فإن كتبهم تنقسم على ثلائة أقسام: الأول: صحيح، وهو جنس ما في الصحيحين. الثاني: صحيح على شرطهم - أصحاب السنن – وقد حكى أبو عبد الله بن منده: إن شرط أبي داود والنسائي إخراج أحاديث أقوام لم يجمع على تركهم إذا صح الحديث   1 لعل المراد المجمع على تركه، وإلا فقد وجد فيه بعض المتروكين ممن لم يجمع على تركه. 2 راجع رسالة أبي داود إلى أهل مكة وهي رسالة صغيرة، طبعت بتحقيق الدكتور محمد لطفي الصباغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 باتصال الإسناد من غير قطع ولا إرسال. الثالث: أحاديث أخرجوها للضدِّيَّة في الباب المتقدم وأوردوها لا قطعاً منهم بصحتها، وربما أبان المخرِّج لها عن علتها بما يفهمه أهل المعرفة، فإن قيل: لما أودعوها كتبهم ولم تصح عندهم، فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: رواية قومٍ لها واحتجاجهم بها فأوردوها وبينوا سقمها لتزول الشبه. الثاني: أنهم لم يشترطوا ما ترجمه البخاري ومسلم - رضى الله عنهما - على ظهر كتابيهما من التسمية بالصحة. الثالث: أن يقال لقائل هذا الكلام: رأينا الفقهاء وسائر العلماء يوردون أدلة الخصم في كتبهم مع علمهم أن ذلك ليس بدليل فكان فعلهم هذا كفعل الفقهاء. 1 5- آراء العلماء فيما سكت عنه أبو داود: قال ابن الصلاح: "ما وجدناه في كتاب أبي داود مذكوراً مطلقاً وليس في واحد من الصحيحين، ولا نصَّ على صحَّته أحدٌ ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفنا بأنه من الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره". 2 ويرى الحافظ العراقى أن قوله: فهو صالح، يجوز أن يكون   1 محمد بن طاهر: شروط الأئمة الستة ص: 13 – 16. 2 ابن الصلاح: علوم الحديث ص: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 صحيحاً، ويجوز أن يكون حسناً عند من يرى الحسن رتبة متوسطة بين الصحيح والضعيف، ولم ينقل لنا عن أبي داود هل يقول بذلك، أيرى ما ليس بضعيف صحيحاً، فكان الأولى بل الصواب أن لا يرتفع بما سكت عنه إلى الصحة حتى يعلم أنَّ رأيه هو الثانى ويحتاج إلى نقل. 1 وقال الحافظ ابن حجر: "ومن هنا يتبين أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحى بل هو على أقسام: 1- منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة. 2- ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته. 3- ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد، وهذان القسمان كثيرٌ في كتابه جداً. 4- ومنه ما هو ضعيف ولكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالباً، وكل هذه الأقسام عنده تصلح للإحتجاج بها. 2 وقال الحافظ محي الدين النووي: "والحق أن ما وجدناه في سننه مالم يبيِّنه ولم ينص على صحته أو حسنه أحدٌ ممن يعتمد فهو حسن، وإن نصَّ على ضعفه من يعتمد، أو رأى العارف في سنده ما يقتضي الضعف ولا جابر له حكم بضعفه، ولم يلتفت إلى سكوت أبي داود".   1 الحافظ العراقي: التقييد والإيضاح ص: 40. 2 الحافظ ابن حجر: النكت 1 / 435. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 قال ابن حجر - معقباً - على هذا الكلام: "وهذا هو التحقيق". 1 6- عناية العلماء بسنن أبي داود: اعتنى العلماء بهذا الكتاب كما اعتنوا بغيره من الكتب الستة وغيرها إلا أننا نجد أن عنايتهم به فاقت غيره من السنن، فجاء بعد مرتبة الصحيحين في العناية خاصة عند المشتغلين بالفقه لما حواه هذا الكتاب من السنن والأحاديث الصحيحة والحسنة، واختصروه وعلَّقوا عليه، كما ترجموا لرجاله ضمن رجال الكتب الستة. هذا ومن أهم شروحه: 1- شرح معالم السنن لأبي سليمان حَمْد بن محمد بن ابراهيم الخطابى (ت 388 هـ) . 2- مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود للحافظ السيوطي (ت 911 هـ) . 3- فتح الودود على سنن أبي داود لأبي الحسن محمد بن عبد الهادي السندي (ت 139 هـ) . 4- عون المعبود شرح سنن أبي داود للشيخ شمس الحق العظيم أبادي (ت 329 هـ) . 5- بذل المجهود في حلِّ أبي داود للشيخ خليل أحمد السهارنفوري (ت 1346 هـ) .   1 المصدر السابق 1 / 444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 رابعاً: جامع أبي عيسى الترمذي 1- المؤلِّف: أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي الحافظ العلم البارع صاحب التصانيف الكثيرة، قال أبو عبد الله الذهبي: "الصواب أنه أضرَّ في كبره بعد رحلته وكتابته العلم" 1 المولود في سنة (209 هـ) والمتوفى سنة (279 هـ) . 2- اسم كتاب الترمذي: قال في مقدمة تحفة الأحوذي: "قال صاحب كشف الظنون: "قد اشتهر جامع الترمذي بالنسبة إلى مؤلِّفه، فيقال: جامع الترمذي"، وقال – أيضاً -: "لقد أطلق الحاكم والخطيب عليه الجامع الصحيح، ويقال له أيضاً: سنن الترمذي". 2 3- رتبة جامع الترمذي بين الكتب الستة: قال أبو عيسى: "صنفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز فرضوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته على علماء خرسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في   1 أبو عبد الله الذهبي: سير أعلام النبلاء 13 / 270. 2 عبد الرحمن المباركفوري: تحفة الأحوذي، الباب الثاني، الفصل الخامس والثامن من المقدمة 1 / 179 – 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 بيته نبي يتكلم". 1 وقال صاحب كشف الظنون: "الجامع الصحيح لأبي عيسى الترمذي، هو ثالث الكتب الستة". 2 وقال الذهبي: "انحطت رتبة جامع الترمذي عن سنن أبي داود والنسائى لإخراجه حديث المصلوب والكلبي وأمثالهما". 3 وقال صاحب التحفة: "ويفهم من رمز تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب والتقريب وتذكرة الحفاظ أن رتبة جامع الترمذي بعد سنن أبي داود وقبل النسائي". 4 وذهب صاحب "التحفة" إلى ما ذهب إليه صاحب "كشف الظنون" من جعله ثالث الكتب الستة. 4- منهج أبي عيسى الترمذي في جامعه: رتب أبو عيسى الترمذي كتابه على الأبواب على طريقة الجوامع الشاملة للأحكام وغيرها، وكل باب من أبواب الترمذي يحمل عنوان المسألة أو الحكم الذى روى الترمذي الحديث من أجله، ويورد في الباب حديثاً أو أكثر ثم يتبع ذلك بآراء الفقهاء في المسألة وعملهم بذلك الحديث تصحيحاً وتحسيناً وتضعيفاً؛ ويتكلم على درجة الإسناد ورجاله وما اشتمل عليه من العلل، ويذكر ما للحديث من الطرق،   1 انظر: تذكرة الحافظ 2 / 634، وتهذيب التهذيب 9 / 389. 2 حاجي خليفة: كشف الظنون 1 / 559. 3 السيوطي: تدريب الراوي 1 / 171. 4 انظر: التحفة 1 / 179 الفصل الخامس من الباب الثاني من المقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ثم إن كان هناك أحاديث أخرى تناسب الترجمة فإنه يشير إليها بقوله: "وفي الباب عن فلان، وفلان" من الصحابة. 1 5- شرط أبي عيسى الترمذي في كتابه: تقدم الكلام على طرف من ذلك في الكلام على شرط البخاري، وعند الكلام على شرط أبي داود، ونضيف هنا قول أبي الفضل ابن طاهر: "وأما أبو عيسى الترمذي - رحمه الله تعالى - فكتابه على أربعة أقسام: 1- قسم صحيح مقطوع به، وهو ما وافق فيه البخاري ومسلم. 2- قسم على شرط الثلاثة كما بيَّنا - أبو داود والترمذي والنسائي. 3- وقسم أخرجه للضدِّيَّة وأبان عن علته، ولم يغفله. 4- وقسم رابع أبان هو عنه فقال: ... ما أخرجت في كتابي إلا حديثاً قد عمل به بعض الفقهاء وهذا شرط واسع". 2   1 الإمام الترمذي لنور الدين عتر ص: 45 – 47. 2 شروط الأئمة الستة لابن طاهر ص: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 6- عناية العلماء بجامع الترمذي: قال في تحفة الأحوذي: "اعلم أن لجامع الترمذي شروحاً وتعليقات ومختصرات وعليه مستخرجات". وقد اعتنى به العلماء رواية وإسماعاً ونسخاً، كما عنوا باختلاف نسخه منذ وقت مبكر، أما رجاله فقد اعتنى بهم ضمن الكتب التي ترجمت لرجال الكتب الستة. ومن أهم شروحه: 1- عارضة الأحوذي لأبي بكر بن العربي المالكي. 2- شرح ابن سيد الناس ولم يتمه، وأكمله الحافظ العراقي المتوفى سنة (806 هـ) إلا أنه لم يتمَّه أيضاً، فأتمه ابنه أبو زرعة المتوفى سنة (826 هـ) . 1 3- شرح الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن محمد المعروف بابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ) . 4- تحفة الأحوذي لعبد الرحمن المباركفوري وغير ذلك من الشروح.   1 انظر: مقدمة الدكتور أحمد معبد عبد الكريم في تحقيقه للنفح الشذي لابن سيد الناس 1 / 73 – 76 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 خامساً: كتاب السنن لأبي عبد الرحمن النسائي 1- المؤلِّف: الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي، ولد سنة (215 هـ) ، وتوفي سنة (303 هـ) . قال الذهبي: "هو الحافظ شيخ الإسلام، ناقد الحديث، صاحب السنن وغيره". 1 2- اسم كتابه: ألَّف الحافظ النسائي كتاب "السنن الكبرى" فلما عاد من رحلته إلى مصر مرَّ بفلسطين، فنزل الرملة، فسأله أميرها: "أكلُّ ما في سننه صحيح؟ فقال: لا. فقال: جَرِّد الصحيح منه".فاختصره مقتصراً على ما يراه صحيحاً وسماه "المجتبى" بالباء الموحدة، أو "المجتنى" بالنون ويعرف أيضاً ب "السنن الصغرى". 2 3- منهج النسائي في سننه وآراء العلماء في ذلك: قال أحمد بن محبوب الرملي: "سمعت النسائي يقول: لما عزمت على جمع "السنن" استخرت الله في الرواية عن شيوخ كان في القلب   1 انظر: تفاصيل ترجمته في سير أعلام النبلاء 14 / 125. 2 ذكر ذلك ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول 1 / 197، ولم يذكر إسناده إلى تلك القصة، وسبقه إلى ذكرها - وبدون إسناد - ابن خير الأشبيلي في فهرسته ص: 116 – 117. وانظر: مقدمة شرح السيوطي لسنن النسائي 1 / 3 – 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 منهم بعض الشيء، فوقعت الخيرة على تركهم، فتركت جملة من الحديث كنت أعلو فيها عنهم". 1 وقال أبو الحسن المعافري: "إذا نظرت إلى ما يخرجه أهل الحديث فما خرجه النسائى أقرب إلى الصحة مما خرجه غيره". 2 وقال الحافظ ابن رُشيد: "كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفاً وأحسنها ترصيفاً، وكان كتابه جامعاً بين طريقي البخاري ومسلم مع حظ كبير من بيان العلل. وعلى الجملة فكتاب النسائي أقل الكتب الستة بعد الصحيحين حديثاً ضعيفاً ورجلاً مجروحاً، ويقاربه كتاب أبي داود والترمذي ويقابله من الطرف الآخر كتاب ابن ماجه فإنه تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب. وقال محمد بن معاوية الأحمر - الراوي عن النسائي -: كتاب السنن كله صحيح وبعضه معلول إلا أنه لم يبيِّن علته، والمنتخب المسمى بالمجتبي صحيح كله". 3 4- شرطه وعناية العلماء بكتابه: تقدم الكلام على شرطه عند الكلام على شرط البخاري وكذلك أبي داود، ونقلت هناك كلام ابن طاهر والحازمي في "شروط الأئمة".   1 انظر: مقدمة شرح السيوطي لسنن النسائي 1 / 3 – 5، ويرى الإمام الذهبي أن المنتخِب للمجتبي هو أبو بكر بن السني وليس النسائي نفسه ذكر ذلك في ترجمته في السير، لكن قد ثبتت رواية السنن الصغرى – المجتبى – عن النسائي من غير طريق ابن السني منها: 1- رواية ابنه عبد الكريم والوليد بن القاسم، ذكرهما ابن خير في فهرسته ص: 116 – 117. 2- رواية محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيوة 366 هـ، ولها نسختان خطيتان الأولى في المكتبة السعودية بالرياض، والثانية في مكتبة البلدية بالإسكندرية، وكلاهما مصورتان بالمكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. 2 المصدر السابق. 3 الحافظ السيوطي: مقدمة شرحه للنسائي 1 / 3 – 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وأما العناية به: فقد اعتنى به العلماء كغيره من الكتب الستة، رواية وإسماعاً ونسخاً، وترجموا لرجاله ضمن رجال الكتب الستة. أما شروحه فلم أقف على شرح له سوى "شرح السيوطي" و "حاشية السندي" وهما مطبوعان. 1   1 شرع شيخنا الشيخ محمد المختار الشنقيطي – رحمه الله – في شرح السنن النسائي وخرج منه ثلاثة أجزاء لكنه عاجلته المنية – رحمه الله تعالى – قبل إكماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 سادساً: السنن للحافظ أبي عبد الله ابن ماجه 1- المؤلف: هو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه الحافظ الكبير الحجة المفسر، مصنف السنن والتاريخ والتفسير وغيرها، حافظ قزوين في عصره، ولد سنة (209 هـ) ، وتوفي سنة (272 هـ) . 1 2- اسم الكتاب: اشتهر بين الناس باسم السنن منسوباً إلى صاحبه: سنن ابن ماجه. 3- منهجه وأراء العلماء فيه: أول من ألحقه بالكتب الخمسة أبو الفضل محمد بن طاهر (ت 507 هـ) ، صاحب "شروط الأئمة الستة"، وغيره جعل مكانه "الموطأ" للإمام مالك. وقد رتب ابن ماجه كتابه على الأبواب مشتملاً على السنن والأحكام كباقي الكتب الستة، وأخرج فيها الحديث الصحيح والحسن والضعيف، وفيه بعض المناكير والموضوعات، لكنها قليلة من أجل هذا انحطت رتبته عن الكتب الخمسة.   1 أبو عبد الله الذهبي: سير أعلام النبلاء 13 / 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي: "وقعت جملة أحاديث السنن لابن ماجه في (4341) حديثاً، منها (3002) حديثاً أخرجها أصحاب الكتب الخمسة كلهم أو بعضهم، وباقي الأحاديث وعددها (1339) حديثاً زائدة على ما جاء في الكتب الخمسة، وتنقسم إلى (428) حديثاً صحيحة الإسناد، و (199) حديثاً حسنة الإسناد، و (613) حديثاً ضعيفة الإسناد، و (99) حديثاً واهية الإسناد أو منكرة أو مكذوبة" 1 4- شرطه والعناية به: تقدمت الإشارة إلى طرف من ذلك في الكلام على شرط البخاري وكذلك في الكلام على شرط أبي داود، ومن المعروف أن "سنن ابن ماجه" انحطت رتبته عن الخمسة لتساهله في أحاديث قوم من المجاهيل والمتهمين، بل وفيهم بعض الكذابين. أما عناية العلماء به: فقد اعتنوا به رواية وإسماعاً ونسخاً كغيره، وترجموا لرجاله ضمن رجال الكتب الستة أما الشروح فلم أقف على شيء منها سوى "حاشية السندي" و "تعليقات السيوطى"،   1 انظر: دراسة محمد فؤاد عبد الباقي عن سنن ابن ماجه في آخر الجزء الثاني 2 / 1519 – 1520. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الباب الرابع: التدوين في القرنين الرابع والخامس تمهيد في بيان جهود علماء السنة إجمالا ... الباب الرابع: التدوين في القرنين الرابع والخامس سبق القول بأن القرن الثالث الهجرى يُعَدُّ العصر الذهبي لتدوين العلوم الإسلامية عامة، وعلوم السُّنَّة النبوية خاصة وقد فُصِّل الكلام في ذلك في الباب الثالث. وتابع علماء السُّنَّة في القرن الرابع من سبقهم في خدمة السُّنَّة المطهرة وعلومها، فكان منهم من نسج على منوال الصحيحين في تخريج الأحاديث الصحيحة من ذلك مثلاً: 1- صحيح ابن خزيمة (ت 311 هـ) . 2- صحيح ابن حبان (ت 354 هـ) . 3- صحيح ابن السكن (ت 353 هـ) . 4- مستدرك الحاكم (ت 405 هـ) وغيرها. ومنهم من نهج منهج أصحاب السنن في الاقتصار على أحاديث السنن والأحكام، مع اشتمالها على الصحيح وغيره، وذلك مثل: 1- منتقى ابن الجارود (ت 307 هـ) . 2- سنن الدارقطني (ت 385 هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 3- سنن البيهقي (ت 458 هـ) وهو متأخر وفاةً لكن يمكن عده في القرن الرابع تجوزاً لتقارب كتب السنن، كذلك نجد من اعتنى في هذا القرن بالتأليف في مختلف الحديث ومشكله، كما في كتابي الطحاوي (ت 321 هـ) : 1- شرح معاني الآثار. 2- ومشكل الآثار، وغيرهما. وذلك تتميماً – وتكميلاً - لما بدأه الإمام الشافعي (ت 204 هـ) في كتابه "اختلاف الحديث"، والحافظ ابن قتيبة (ت 276 هـ) في كتابه "تأويل مختلف الحديث" وغيرهما مما ألف في ذلك النوع في القرن الثالث. كما ظهر - ولأول مرة - نوعان من المصنفات في هذا القرن، وهذا يُعَدُّ من التجديد في مجال خدمة السُّنَّة، وهذه ميزة أخرى لأهل السُّنَّة، أنهم في كل عصرٍ يُعمِلون تفكيرهم ويبذلون جهدهم في ابتكار طرق ووسائل جديدة لخدمة سُّنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلم يجمدوا كما جمد غيرهم من أهل العلوم الإسلامية الأخرى. وهذان النوعان من المصنفات هما: أولاً: كتب المصطلح - علوم الحديث - التي جمعت تلك القواعد التي كانت متفرقة في كتب من سبقهم من علماء القرنين الثاني والثالث مثل: "الرسالة" للشافعي، ومقدمة "صحيح مسلم" وكتابه "التمييز"، وكتب الرجال والعلل، فقيض الله عز وجل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 جمعها وسهلها على طلبة العلم. ويعد المحدث الفاصل لأبى محمد الرامهرمزي (ت 360 هـ) أول مؤلَّف في ذلك، ثم تبعه أبو عبد الله الحاكم (ت 405 هـ) بتأليف كتابه "معرفة علوم الحديث"، ثم استخرج عليه تلميذه أبو نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) ثم تتابع التأليف في المصطلح بعد ذلك. ثانياً: كتب المستخرجات، وسيأتي الكلام عنها قريباً بإذن الله. وهناك أنواع أخرى من المصنفات في مجال تدوين السُّنَّة في هذا القرن مثل معاجم الطبراني (ت 360 هـ) و "العلل" للدارقطني الذي رتبه على مسانيد الصحابة، وغيرها. أما في القرن الخامس الهجري، فقد سلك علماء السُّنَّة طرقاً أخرى ومجالات جديدة لتدوين السُّنَّة وحفظها وجمعها، حيث ظهرت في هذا القرن النواة الأولى للموسوعات الحديثة ومن ذلك: 1- كتب الجمع بين الصحيحين. 2- وكتب الجمع بين الستة وغير ذلك، وسيأتي لذلك مزيد تفصيل بإذن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الفصل الأول: التدوين في القرن الرابع الهجري أولا: دراسة موجزة لنماذج مختارة من كتب السنة المدونة في القرن الرابع ... الفصل الأول: التدوين في القرن الرابع الهجري أولاً: هذه دراسة موجزة لنماذج مختارة من كتب السُّنَّة المدونة في القرن الرابع: 1- صحيح الإمام ابن خربمة: المؤلِّف: أبو بكر محمد بن اسحاق بن خزيمة النيسابورى الحافظ إمام الأئمة، شيخ الاسلام صاحب المصنفات الكثيرة، ولد سنة (223 هـ) ، وتوفي سنة (ت 311 هـ) . 1 تسمية كتابه: اشتهر بين الناس باسم: صحيح ابن خزيمة، وقد ذكر الدكتور محمد مصطفى الأعظمي- محقق الجزء الموجود من ابن خزيمة - أن اسمه كما وضعه مؤلفه: مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مختصر من كتابه "المسند الصحيح". 2 وقال الحافظ ابن حجر: وسمَّى ابن خزيمة كتابه: "المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل من غير قطعٍ في السند، ولا جرحٍ في النقلة". 3   1 انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ 2 / 720 730، سير أعلام النبلاء 14 / 365 – 382. 2 انظر: مقدمة صحيح ابن خزيمة 1/16 – 17 بقلم المحقق. 3 النكت 1 / 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 شرطه في كتابه: اشترط ابن خزيمة - رحمه الله - في هذا الكتاب ألا يُخرِّج إلا الحديث الصحيح، وقد نص على ذلك في عنوان كتابه حيث قال: "مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه صلى الله عليه وسلم من غير قطعٍ في أثناء الإسناد، ولا جرحٍ في ناقلي الأخبار التي نذكرها بمشيئة الله تعالى". 1 منهجه في الصحيح: أ- رتبه على الكتب والأبواب فبدأه بكتاب الوضوء ثم كتاب الصلاة. وهكذا. ثم يورد تحت كل كتاب مجموعة من الأبواب، يقول: باب كذا ... وتارة يقول: أبواب كذا. ب- يورد الأحاديث مسندة منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان للحديث أكثر من طريق يذكرها. 2 ج- يعقب على الحديث – غالباً - بالكلام على سنده ومتنه، ويعتني بضبط الألفاظ ومخالفة كل راوٍ للآخر في لفظه، وغالباً ما يبدأ كلامه بقوله: قال أبو بكر: 3   1 انظر: صحيح ابن خزيمة 1 / 3 ابتداء كتاب الوضوء. 2 انظر: كتاب الوضوء من صحيح ابن خزيمة 1 / 6 ح 5 – 6 و 1 / 10 ح 13 – 14. 3 انظر مثلاً: كتاب الوضوء 1 / 11 ح 15 – 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 د- كثيراً ما يذكر الراجح عنده في المسألة في تراجم الأبواب على طريقة فقهاء المحدثين كالبخاري وأبى داود وغيرهما. 1 مكانة صحيح ابن خزيمة من كتب السُّنَّة: قال الحافظ ابن الصلاح: "ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الصحيحين يتلقَّاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة … ويكفى كونه موجوداً في كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه، ككتاب ابن خزيمة .... 2 وقال الحافظ السيوطى: "صحيح ابن خزيمة أعلى مرتبة من صحيح ابن حبان لشدة تحرِّيه، حيث إنه يتوقف في التصحيح لأدنى كلام في الإسناد، فيقول مثلا: باب كراهة كذا إن صح الخبر، أو إن ثبت كذا". 3 وقال الإمام الذهي: "وقد كان هذا الإمام جهبذاً بصيراً بالرجال"، ثم ذكر عنه أنه قال: "لست أحتج بشهر بن حوشب، ولا بحُرَيز بن عثمان، ولا بعبد الله بن عمرو، ولا ببقية، ولا بمقاتل بن حيان"، ثم سمَّى خلقاً من الرواة الذين حصل في الاحتجاج بروايتهم خلافٌ بين الأئمة مما يدل على شدة تحري ابن خزيمة وتوقيه في الرواية   1 انظر مثلاً: كتاب الوضوء 1 / 18. 2 أبو عمر ابن الصلاح علوم الحديث ص: 17. 3 جلال الدين لسيوطي: تدريب الراوي 1 / 109، وانظر الأمثلة على ما ذكره السيوطي من تحري ابن خزيمة في صحيحه 1 / 75، 228، 2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 في صحيحه رحمه الله. 1 عناية العلماء بصحيح ابن خربمة: اعتنى العلماء بصحيح ابن خزيمة روايةً وإسماعاً ونسخاً، وممن اعتنى به من المتأخرين: 1- الحافظ سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن (ت 804 هـ) حيث اختصر "تهذيب الكمال" للمزي مع التذييل عليه برجال ستة كتب هى: المسند للإمام أحمد، صحيح ابن خزيمة، صحيح ابن حبان، مستدرك الحاكم، السنن للدارقطني، السنن الكبرى للبيهقي، وسمَّاه: "إكمال تهذيب الكمال". 2- والحافظ ابن حجر العسقلانى (ت 852 هـ) حيث صنف كتاب "إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة" 2، وهي: موطأ الإمام مالك، ومسند الشافعي، ومسند الإمام أحمد، وسنن الدارمى، وصحيح ابن خزيمة، والمنتقى لابن الجارود، وصحيح ابن حبان، والمستخرج لأبى عوانة، والمستدرك للحاكم، وشرح معانى الآثار للطحاوي، والسنن للدار قطني. قال الحافظ: "وإنما زاد العدد واحداً لأن صحيح ابن خزيمة لم يوجد منه سوى قدر ربعه". 3   1 أبو عبد الله الذهبي: سير أعلام النبلاء 14 / 373. 2 طبع في مركز خدمة السنة والسيرة النبوية في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. 3 انظر: مقدمة صحيح ابن خزيمة لمحققه الدكتور محمد مصطفى الأعظمي 1 / 22 – 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 2- صحيح ابن حبان 1: المؤلف: الإمام العلامة الحافظ شيخ خراسان أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن معاذ بن معبد التميمي الدارمي البستي صاحب الكتب الشضهورة والمصنفات الغزيرة، ولد سنة بضع وسبعين ومائتين، وتوفي سنة (354 هـ) . 2 تسمية صحيح ابن حبان: اشتهر بين العلماء باسم صحيح ابن حبان، واسمه كما ذكره المؤلِّف في مقدمته: "المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قَطْعٍ في سندها، ولا ثبوت جرحٍ قي ناقليها". 3 شرط ابن حبان في صحيحه: قال رحمه الله في مقدمته: "وأما شرطنا في نقلة ما أودعناه كتابنا هذا من السنن فإنا لم نحتجّ فيه إلا بحديثٍ اجتمع في كل شيخ من رواته خمسة أشياء: 1- العدالة في الدين بالستر الجميل. 2- الصدق في الحديث بالشهرة فيه. 3- العقل بما يحدِّث من الحديث. 4- العلم بما يحيل من معاني ما يروي.   1 طبع ترتيبه لابن بلبان الفارسي في ثمانية عشر مجلداً مع فهارسه بتحقيق الأستاذ شعيب الأرناؤوط، وهي أجود طبعة لهذا الكتاب فيما أعلم. 2 انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ 3 / 920 – 924، سير أعلام النبلاء 16 / 92. 3 انظر: مقدمة محقق صحيح ابن حبان: شعيب الأرناؤوط 1 / 32 – 33 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 5- المتعري خبره عن التدليس. فكل من اجتمع فيه هذه الخصال الخمس احتججنا بحديثه وبنينا الكتاب على روايته، وكل من تعرَّى عن خصلة من هذه الخصال الخمس لم نحتج به". 1 سبب تأليف ابن حبان لصحيحه: قال في مقدمته: 1- وإنى لما رأيت الأخبار طرقها كثرت، ومعرفة الناس بالصحيح منها قَلَّتْ لاشتغالهم بكتب الموضوعات، وحفظ الخطأ والمقلوبات، حتى صار الخبر الصحيح مهجوراً لا يكتب، والمنكر المقلوب عزيزاً يُستغرب. 2- وأن من جمع السنن من الأئمة المرضيين وتكلم عليها من أهل الفقه والدين أمعنوا في ذكر الطرق للأخبار، وأكثروا من تكرار المعاد للآثار قصداً منهم لتحصيل الألفاظ على من رام حفظها من الحفَّاظ، فكان ذلك سبب اعتماد المتعلم على ما في الكتاب. 2 ثم قال رحمه الله: "فتدبرت الصحاح لأسهِّل حفظها على المتعلِّمين، وأمعنت الفكر فيها لئلا يصعب وعيها على المقتبسين". منهج ابن حبان في صحيحه: وقال رحمه الله في بيان منهجه: "..فتد برت الصحاح لأسهل حفظها على المتعلمين، وأمعنت الفكر فيها لئلا يصعب وعيها على المقتبسين فرأيتها تنقسم خمسة أقسام متساوية متفقة التقسيم غير متنافية:   1 الحافظ ابن حبان: مقدمة الصحيح 1 / 139 – 141. 2 المصدر نفسه 1 / 86 – 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فأولها: الأوامر التي أمر الله عباده بها (وهي تدور على مائة نوع وعشرة أنواع) . والثاني: النواهى التي نهى الله عباده عنها (وهي تدور على مائة نوع وعشرة أنواع) . والثالث: إخباره عما احتيج إلى معرفتها (وتدور على ثمانين نوعاً) . والرابع: الإباحات التي أبيح ارتكابها (وتدور على خمسين نوعاً) . والخامس: أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي انفرد بفعلها (وتدور على خمسين نوعاً) . ثم قال: "فجميع أنواع السنن أربع مائة نوع على حسب ما ذكر ناها".اه ملخَّصاً 1 وقال في آخر الكتاب: "فهذا آخر أنواع السنن، قد فصلناها على حسب ما أصَّلنا الكتاب عليه من تقاسيمها، وليس في الأنواع التي ذكرناها من أول الكتاب إلى آخره نوع يستقصى، لأنَّا لو ذكرنا كل نوع بما فيه من السنن، لصار الكتاب أكثره معاداً"، إلى أن قال: "وكشفنا عما أُشكل من ألفاظها، وفصلنا عما يجب أن يوقف   1 انظر: تفصيل هذه الأقسام والأنواع في الفصل الثاني من مقدمة علاء الدين علي بن بلبان الفارسي لترتيبه لصحيح ابن حبان 1 / 104 – 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 على معانيها على حسب ما سهل الله ويسره وله الحمد على ذلك". 1 أما طريقة ترتيبه فقد وصفها السيوطي بقوله: "صحيح ابن حبان ترتيبه مَخْتَرَعٌ ليس على الأبواب، وليس على المسانيد، ولهذا سمَّاه: التقاسيم والأنواع". 2 ويعتبر صحيح ابن حبان موسوعة كبيرة في الفقه على طريقة أهل الحديث، حيث توَّج كل حديثٍ بعنوانٍ يتضمن المعنى الذي استنبطه من نص الحديث الذي يدرجه تحته، ثم يعقب على كثير من الأحاديث بتعليقات نفيسة، بعضها في الكلام على الرجال وبعضها تفسير دقيق للمعنى، وبعضها في رفع الإشكال المتوهم في الخبر، أو التعارض بين خبر وآخر، وغير ذلك من النفائس والطرائف. ثناء العلماء على صحيح ابن حبان: 1- قال الأمير علاء الدين الفارسي (ت 739 هـ) الذي رتب صحيح ابن حبان على أبواب الفقه: "إنه من أجمع المصنفات في الأخبار النبوية، وأنفع المؤلفات في الآثار المحمدية". 3 2- وقال السخاوي: "قال الحازمى: ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم، وقال ابن كثير: قد التزم ابن خزيمة وابن حبان الصحة، وهما خيرٌ من "المستدرك" بكثير وأنظف أسانيداً ومتوناً". 4   1 أبو حاتم ابن حبان: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 1 / 154. 2 السيوطي: تدريب الراوي 1 / 109. 3 انظر: صحيح ابن حبان 1 / 79. 4 شمس الدين السخاوي: فتح المغيث 1 / 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 3- وقال الشيخ أحمد بن محمد بن شاكر - في مقدمة الجزء الذي حققه من صحيح ابن حبان -: "صحيح ابن حبان كتاب نفيس جليل القدر، وعظيم الفائدة، حرره مؤلفه أدق تحرير، وجوَّده أحسن تجويد، وحقق أسانيده ورجاله، وعلل ما احتاج إلى تعليل من نصوص الأحاديث وأسانيدها، وتوثق من صحة كل حديث اختاره على شرطه، وما أظنه أخلَّ بشيء مما التزم إلا ما يخطيء فيه البشر وما لا يخلو منه محقق". آراء العلماء في منهج ابن حبان في الصحيح: 1- قال أبو عمرو بن الصلاح - عن مستدرك الحاكم -: "وهو واسع الخطو في شرط الصحيح متساهل في القضاء به، ويقاربه في حكمه صحيح ابن حبان البستي رحمهما الله جميعاً. 1 2- وقال الحافظ السخاوي: "قوله – أي العراقي -: "يدانى الحاكم أي يقاربه في التساهل، وذلك يقتضي النظر في أحاديثه أيضاً لأنه غير متقيد بالمعدَّلين، بل ربما يخرج للمجهولين، لا سيما ومذهبه إدراج الحسن في الصحيح مع أن شيخنا - ابن حجر - قد نازع في نسبته للتساهل إلا من هذه الحيثية". 2 3- وقال الحافظ ابن حجر: "حكم الأحاديث التي في كتاب ابن خزيمة وابن حبان صلاحية الاحتجاج بها لكونها دائرة بين الصحيح والحسن ما لم يظهر في بعضها علةٌ قادحةٌ". 3 4- وقال السيوطي: "قيل: وما ذكر من تساهل ابن حبان ليس بصحيح، فإن غايته أنه يسمى الحسن صحيحاً، فإن كانت نسبته إلى   1 أبو عمرو ابن الصلاح: علوم الحديث ص: 18. 2 السخاوي: فتح المغيث 1 / 33. 3 النكت 1 / 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 التساهل باعتبار وجدان الحسن في كتابه، فهى مشاحَّة في الإصطلاح، وإن كانت في اعتبار خفة شروطه، فإنه يخرج في الصحيح ما كان راويه ثقة غير مدلس، سمع من شيخه وسمع منه الآخذ عنه، ولا يكون هناك إرسال ولا انقطاع، وإذا لم يكن في الراوي جرحٌ ولا تعديلٌ وكان كلٌّ من شيخه والراوي عنه ثقة. وفي كتابه "الثقات" كثير ممن هذه حاله، ولأجل هذا ربما اعترض عليه في جعلهم ثقات من لم يعرف حاله، ولا اعتراض عليه فإنه لا مشاحَّة في ذلك". 1 عناية العلماء بصحيح ابن حبان: لم أقف على من اعتنى بصحيح ابن حبان قبل القرن الثامن فيما أعلم، ولعل عسر ترتيب الكتاب وصعوبة الكشف فيه كان سبباً رئيساً في هجر العلماء له، والله تعالى أعلم. 1- وأول من علمته أنه اعتنى بابن حبان هو الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي (ت 739 هـ) – رحمه الله – حيث قام بترتيبه على الكتب والأبواب، ليسهل على طلبة العلم الانتفاع به، فجزاه الله عن العلم وأهله خيراً. 2- ترجم لرجال ابن حبان في صحيحه الحافظ أبو يعلى سراج الدين عمر بن على بن الملقن (ت 804 هـ) في كتابه "إكمال تهذيب الكمال" حيث ذيل على كتاب المزِّيِّ برجال ستة كتب منها "صحيح ابن حبان"، وقد سبق ذكر هذه الستة في الكلام عن "صحيح ابن   1 السيوطي: تدريب الراوي 1 / 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 خزيمة" فراجعه هناك. 3- قام الحافظ أبو بكر نور الدين الهيثمي (ت 807 هـ) بإخراج زوائد "صحيح ابن حبان" على الصحيحين في كتاب سمَّاه "موارد الظمآن إلى زوائد صحيح ابن حبان" وهو مطبوع. 4- رتبه الحافظ ابن حجر على الأطراف ضمن كتابه "إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة" الذي مر ذكره عند الكلام عن عناية العلماء ب "صحيح ابن خزيمة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 3- المستدرك لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري: المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم الضبي الحافظ الناقد، المعروف بابن البيع الحاكم النيسابوري صاحب التصانيف، ولد سنة (321 هـ) ، وتوفي سنة (405 هـ) . تسمية كتابه: المستدرك على الصحيحين. شرط المؤلف ومنهجه في كتابه: قال - رحمه الله - في مقدمته: "وقد سألني جماعة من أعيان أهل العلم بهذه المدينة وغيرها أن أجمع كتاباً يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن حجاج بمثلها - إذ لا سبيل إلى إخراج ما لا علة له - فإنهما رحمهما الله لم يدعيا ذلك لأنفسهما"، ثم قال: "وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان رضى الله عنهما، أو أحدهما". 1 وقال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح: "واعتنى الحاكم أبو عبد الله الحافظ بالزيادة في عدد الحديث الصحيح على ما في الصحيحين مما رآه على شرط الشيخين، وقد أخرجا عن رواته في كتابيهما أو على شرط البخاري وحده، أو شرط مسلم وحده، أو ما أدى اجتهاده إلى تصحيحه وإن لم يكن على شرط واحد منهما". 2   1 أبو عبد الله الحاكم: مقدمة المستدرك 1 / 2 – 3. 2 أبو عمرو بن الصلاح: علوم الحديث ص: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 آراء العلماء في المستدرك ومنهج الحاكم فيه: قال ابن الصلاح: "وهو – أي الحاكم - متساهل في التصحيح، واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهلٌ في القضاء به، فالأولى أن نتوسط في أمره فنقول: ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يحتج به ويعمل به، إلا أن تظهر فيه علَّة توجب ضعفه". 1 وقال الحافظ زين الدين العراقى - تعليقاً على كلام ابن الصلاح -: "قوله: وقد اعتنى الحاكم..إلى آخره فيه أمران: أحدهما: أن قوله: أودعه ما ليس في واحد من الصحيحين ليس كذلك، فقد أودعه أحاديث في الصحيح وهماً منه في ذلك، وهى كثيرة منها: حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: لا تكتبوا عني سوى القرآن الحديث، رواه الحاكم في مناقب أبي سعيد الخدري، وقد أخرجه مسلم في "صحيحه" في كتاب الزهد وقد بيَّن الحافظ الذهبي في "مختصر المستدرك" كثيراً من الأحاديث التي أخرجها في "المستدرك" وهي في الصحيح. الثاني: أن قوله: مما رواه على شرط الشيخين قد أخرجا عن رواته في كتابيهما، فيه بيان أن ما هو على شرطهما هو ما أخرجا عن رواته في كتابيهما، ولم يرد الحاكم ذلك فقوله بمثلها أي بمثل رواتها لا بهم أنفسهم، ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث، وفيه نظر". 2   1 أبو عمرو ابن الصلاح: علوم الحديث ص:18. 2 الحافظ العراقي: التقييد والإيضاح ص: 17 – 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 قال الحافظ ابن حجر - معلقاً على شيخه العراقي -: "لكن تصرف الحاكم يقوي أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما شيخنا - رحمه الله تعالى - فإنه إذا كان عنده الحديث قد أخرجا - أو أحدهما - لرواته قال: صحيح على شرط الشيخين أو أحدهما، وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له قال: صحيح الاسناد حسب، يوضح ذلك قوله - في باب التوبة - لما أورد حديث أبي عثمان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي" قال: هذا حديث صحيح الإسناد، وأبو عثمان هذا ليس هو النهدي، ولو كان هو النهدي لحكمت بالحديث على شرط الشيخين. فدل هذا على أنه إذا لم يُخْرِّجا لأحد رواة الحديث لا يحكم به على شرطهما وإن كان الحاكم قد يغفل عن هذا في بعض الأحيان فيصحِّح على شرطهما بعض مالم يخرجا لبعض رواته، فيحمل ذلك على السهو والنسيان، ويتوجه به حينئذ عليه الاعتراض، والله أعلم". 1 آراء العلماء في أحاديث المستدرك: 1- قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: "عن المظفر بن حمزة قال: سمعت أبا سعد الماليني يقول: طالعت كتاب "المستدرك" على الشيخين الذي صنَّفه الحاكم من أوله إلى آخره فلم أر فيه حديثاً على شرطهما". 2   1 أبو الفضل ابن حجر: النكت 1 / 320 – 321. 2 أبو عبد الله الذهبي: سير أعلام النبلاء 17 / 175 – 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 2- قال الذهبي - تعليقاً على كلام الماليني: "هذه مكابرة وغلو، وليست رتبة أبي سعد أن يحكم بهذا، بل في "المستدرك" شيءٌ كثير على شرطهما، وشيءٌ كثيرٌ على شرط أحدهما، بل لعل مجموع ذلك ثلث الكتاب بل أقل، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما، وفي الباطن لها عللٌ خفيَّةٌ مؤثِّرةٌ، وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيِّد وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب كنت قد أفردت منها جزءاً، وبكل حال فهو كتاب مفيد قد اختصرته، ويعوزه عملاً وتحريراً". 1 3- وقال الحافظ ابن حجر - تعقيباً على كلام الذهبي -: "وهو كلام مجمل يحتاج إلى إيضاح وتبيين، فنقول: ينقسم المستدرك أقساماً، كل قسم منها يمكن تقسيمه: القسم الأول: أن يكون إسناد الحديث الذي يخرجه محتجاً برواته في الصحيحين أو أحدهما على صورة الاجتماع سالماً من العلل. واحترزنا بقولنا: على صورة الإجتماع، عما احتجا برواته على صورة الإنفراد، كسفيان بن حسين عن الزهري، فإنهما احتجا بكل منهما على الإنفراد، ولم يحتجا برواية سفيان بن حسين عن الزهرى؛ لأن سماعه من الزهري ضعيف دون بقية مشايخه. وكذا إذا كان الإسناد قد احتج كل منهما برجل منه ولم يحتج   1 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 بآخر منه، كالحديث الذي يروى عن طريق شعبة مثلاً عن سماك ابن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فإن مسلماً احتج بحديث سماك إذا كان من رواية الثقات عنه، ولم يحتج بعكرمة، واحتج البخاري بعكرمة دون سماك، فلا يكون الإسناد والحالة هذه على شرطهما، حتى يجتمع فيه صورة الاجتماع، وقد صرح بذلك الإمام أبو الفتح القشيري وغيره. واحترزتُ بقولي: أن يكون سالما من العلل، بما إذا احتجا بجميع رواته على صورة الاجتماع إلا أن فيه من وُصِف بالتدليس أو اختلط في آخر عمره، فإنا نعلم في الجملة أن الشيخين لم يخرجا من رواية المدلسين بالعنعنة إلا ما تحققا أنه مسموع لهم من جهة أخرى، وكذلك لم يخرجا من حديث المختلطين عمن سمع منهم بعد الاختلاط إلا ما تحققا أنه من صحيح حديثهم قبل الاختلاط، فإذا كان كذلك لم يجز الحكم للحديث الذي فيه مدلس قد عنعنه، أو شيخ سمع ممن اختلط بعد اختلاطه بأنه على شرطهما وإن كانا قد أخرجا ذلك الإسناد بعينه، إلا إذا صرح المدلس من جهة أخرى بالسماع، وصح أن الراوي سمع من شيخه قبل اختلاطه، فهذا القسم يوصف بكونه على شرطهما أو شرط أحدهما. ولا يوجد حديث في "المستدرك" بهذه الشروط لم يخرجا له نظيراً أو أصلاً إلا القليل كما قدمناه، نعم فيه جملة مستكثرة بهذه الشروط لكنها مما أخرجها الشيخان أو أحدهما، استدركها الحاكم واهماً في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ذلك ظاناً أنهما لم يخرجاها. 1 القسم الثاني: أن يكون إسناد الحديث قد أخرجا لجميع رواته لا على سبيل الاحتجاج بل في الشواهد والمتابعات والتعليق أو مقروناً بغيره، ويلتحق بذلك ما إذا أخرجا لرجلٍ وتجنبا ما تفرد به أو ما خالف فيه، كما أخرج مسلم من نسخة العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مالم يتفرد به، فلا يحسن أن يقال: إن باقي النسخة على شرط مسلم؛ لأنه ما خرَّج بعضها إلا بعد أن تبيَّن أن ذلك مما لم ينفرد به، فما كان بهذه المثابة لا يلتحق أفراده بشرطهما. وقد عقد الحاكم في كتاب "المدخل" باباً مستقلاً ذكر فيه من أخرج له الشيخان في المتابعات، وعدد ما أخرجا من ذلك، ثم أنه مع هذا الاطلاع يخرج أحاديث هؤلاء في "المستدرك" زاعماً أنها على شرطهما، ولا شك في نزول أحاديثهم عن درجة الصحيح بل ربما كان فيها الشاذ والضعيف، لكن أكثرها لا ينزل عن درجة الحسن. والحاكم وإن كان لا يفرق بين الصحيح والحسن، بل يجعل الجميع صحيحاً تبعاً لمشايخه كما قدمناه عن ابن خزيمة وابن حبان، فإنما يناقش في دعواه أن أحاديث هؤلاء على شرط الشيخين أو أحدهما، وهذا القسم هو عمدة الكتاب.   1 ابن حجر: النكت على ابن الصلاح 1 / 314 – 316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 القسم الثالث: أن يكون الإسناد لم يخرحا له لا في الاحتجاج ولا في المتابعات، وهذا قد أكثر منه الحاكم، فيخرج أحاديث عن خَلْقٍ ليسوا في الكتابين ويصححها، لكن لا يدعي أنها على شرط واحد منهما، ربما ادعى ذلك على سبيل الوهم، وكثير منها يعلق القول بصحَّتها على سلامتها من بعض رواتها، كالحديث الذى أخرجه من طريق الليث، عن إسحاق بن بزرج - بالموحدة بعدها زاي ثم راء فجيم - عن الحسن بن علي (في التزين للعيد) قال في إثره: لولا جهالة إسحاق لحكمت بصحته، وكثيراً منها لا يتعرض للكلام عليه أصلاً، من هنا دخلت الآفة كثيراً فيما صححه، وقلَّ أن تجد في هذا القسم حديثاً يلتحق بدرجة الصحيح فضلاً عن أن يرتفع إلى درجة الشيخين، والله أعلم". 1 اعتذار العلماء عن الحاكم في تساهله وغفلته: قال الحافظ ابن حجر: "إنما وقع للحاكم التساهل لأنه سوَّد الكتاب لينقِّحه، فعاجلته المنيَّة ولم يتيسر له تحريره وتنقيحه"، قال: "وقد وجدت في قريب نصف الجزء الثاني من تجزئة ستة من "المستدرك": إلى هنا انتهى إملاء الحاكم"، قال: "وما عدا ذلك من الكتاب لا يؤخذ عنه إلا بطريق الإجازة، والتساهل في القدر المملى   1 ابن حجر العسقلاني: النكت على ابن الصلاح 1 / 316 – 318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 قليلٌ بالنسبة لما بعده". 1 وقال طاهر بن صالح الجزائري الدمشقي: "ويقال: إن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره وقد اعترته غفلة، وكان ميلاده في سنة (321 هـ) ووفاته في سنة (405 هـ) فيكون عمره أربعاً وثمانين سنة". 2 عناية العلماء بمستدرك الحاكم: 1- اعتنى به العلماء رواية وسماعاً كغيره من كتب الحديث المسندة، كذلك اعتنو بدراسة منهجه فيه. 2- لخصه الإمام أبوعبد الله الذهبي في كتابه "تلخيص المستدرك" مع تعقبه في أحكامه على الأحاديث. 3- ألَّف أبو عبد الله الذهبي أيضاً جزءاً في الأحاديث المناكير والواهيات والموضوعات التي في "المستدرك". 4- ترجم لرجاله الحافظ سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن ضمن كتابه "إكمال تهذيب الكمال". 5- رتبه الحافظ ابن حجر على الأطراف ضمن كتابه "إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة". 6- وللحافظ ابن الملقن تلخيصٌ للمستدرك، طبع في سبع مجلدات.   1 طاهر بن صالح الجزائري: توجيه النظر ص: 138. 2 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 4- شرح مشكل الآثار 1 لأبي جعفر الطحاوي: المؤلف: الإمام الحافظ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة ابن سلمة الأزدى المصري الطحاوي، صاحب التصانيف الكثيرة، ولد سنة (239 هـ) وتوفي رحمه الله سنة (321 هـ) . 2 موضوع الكتاب وسبب تأليفه: أوضح ذلك المؤلف في مقدمته - رحمه الله - فقال: "وإني نظرت في الآثار المروية عنه صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المقبولة التي نقلها ذوو التثبت والأمانة عليها، وحسن الأداء لها، فوجدت فيها أشياء مما يسقط معرفتها والعلم بها عن أكثر الناس فمال قلبي إلى تأملها وتبيين ما قدرت عليه من مشكلها، ومن استخراج الأحكام التي فيها، ومن نفي الإحالات عنها، وأن أجعل ذلك أبواباً أذكر في كل باب منها ما يهب الله - عز وجل - لي من ذلك، حتى أبيِّن ما قدرت عليه منها، كذلك ملتمساً ثواب الله - عز وجل - عليها، والله أسأله التوفيق لذلك والمعونة عليه، فإنه جواد كريم، وهو حسبي ونعم الوكيل". 3   1 طبع قريباً من نصف الكتاب في الهند في أربع مجلدات، ثم طبع في بيروت المجلَّد الأول منه بتحقيق شعيب الأرناؤوط، وذكر في مقدمته أنه حقَّقه على نسخة كاملة وسيخرج في ثمان مجلدات، ثم طبع عام 1415 هـ في ستة عشر مجلداً. 2 انظر تفصيل ترجمته في: سير أعلام النبلاء 15 / 27 – 33. 3 الطحاوي: مشكل الآثار 1 / 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 منهج الطحاوي في كتابه: لم يرتِّب المؤلف - رحمه الله - كتابه على طريقة معينة، بل يورد الأبواب كما اتفقت له، فنجد أحاديث الوضوء فيه متفرقة من أول الكتاب إلى آخره، وكذلك أحاديث الصلاة والصيام وسائر الشرائع والأحكام. والطريقة التي اتبعها المؤلف في كتابه هذا هي أنه يدرج تحت كل باب حديثين ظاهرهما التعارض مما يتضمنهما العنوان الذي وضعه لهما، فيورد أسانيدهما ويسرد طرقهما وألفاظهما، ثم يبسط القول في مواضع الخلاف فيهما، ثم يتناولهما بالشرح والبيان والتحليل حتى تأتلف معانيهما وينتفى عنهما الاختلاف ويزول التعارض، وقد اشترط في التوفيق بين الحدثين المتعارضين أن يكون كل منهما في مرتبة واحدة من الصحة والسلامة، فإذا كان أحدهما ضعيفاً اطَّرحه وأخذ بالقوي، لأن القوي لا يؤثر فيه معارضة الضعيف. أما إذا كانا في مرتبة واحدة من الصحة والسلامة، فهو لا يألوا جهداً في البحث عن معنى يوفق بينهما ويزيل تعارضهما، وإذا تضادَّا ولا سبيل إلى الجمع بينهما؛ فإن علم تاريخ كل واحد منهما حكم على المتقدم بالنسخ وصار إلى الناسخ المتأخر، وإذا جهل تاريخهما، فإنه يلجأ إلى ترجيح أحدهما بما يٌعتَدُّ به من وجوه الترجيح وهي كثيرة، بسطها المؤلف في أكثر من موضع في كتابه هذا. 1   1 انظر: مقدمة تحقيق مشكل الآثار بقلم شعيب الأرناؤوط 1 / 3 – 4 ومن الأمثلة على ذلك: 1 / 82 – 83 باب بيان مشكل ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في الأعداد من الزمان التي لو وقفها من مرَّ بين يدي المصلي كانت خيراً له 1 / 85 – 91 باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 عناية العلماء بهذا الكتاب: 1- اختصره الحافظ الفقيه القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت 474 هـ) الأندلسي اختصاراً بديعاً ضمَّ كل ما فيه إلى نوعه، وألحق كل شكل منه بشكله، ورتبه ترتيباً حسناً، حذف الأسانيد واختصر الطرق واختصر بعض ألفاظ المصنِّف التي عقب بها على الأحاديث من غير أن يخلَّ بشيءٍ من معانيه وفقهه ليسهل على طالب العلم حفظه وييسر عليه فهمه وفقهه. 2- وقد اختصر هذا المختصر القاضي أبو المحاسن يوسف بن موسى الحنفي وسمَّاه: "المعتصر من المختصر من مشكل الآثار". 1   1 مقدمة المعتصر من المختصر 1 / 3 ط: حيدر آباد، عام1362 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 5- المعجم الكبير للطبراني: 1 المؤلف: أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، المولود سنة (260 هـ) والمتوفى سنة (360 هـ) صاحب المصنفات الكثيرة المشهورة. 2 موضوع الكتاب: جمع عدد ما انتهى إلى المؤلف - رحمه الله - ممن روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء مع التخريج عن كل واحد منهم حديثاً أو حديثين أو ثلاثة أو أكثر حسب كثرة رواياتهم وقلَّتها ومن كان من المقلِّين خرج جميع حديثه. 3 منهج الإمام الطبراني في المعجم الكبير: رتبه المؤلف - رحمه الله - على مسانيد الصحابة مرتباً أسماءهم على حروف المعجم (أب ت ث) إلا أنه بدأه بالعشرة المبشَّرين بالجنة، وعلَّل ذلك بقوله: "لئلا يتقدمهم أحدٌ غيرهم" ثم قال: "وسنخرج مسندهم بالاستقصاء على ترتيب القبائل بعون الله وقوته". ويرتب أبناء كل قبيلة على حروف المعجم (أب ت ث) . 4   1 للطبراني ثلاثة معاجم: الصغير، والأوسط، الكبير، وقد رتَّب الصغير والأوسط على أسماء شيوخه وفق حروف المعجم أب ت ث. 2 انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 3 / 912. 3 مقدمة المعجم الكبير 1 / 3. 4 مقدمة المعجم الكبير 1 / 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ثم يخرج عن كل واحد حديثاً أو حديثين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك على حسب كثرة روايتهم وقلَّتها، ومن كان من المقلِّين خرج جميع حديثه. عدد أحاديث المعجم الكبير: ذكر حاجى خليفة أن أحاديث "المعجم الكبير" للطبرانى يبلغ عددها خمسة وعشرين ألف حديث. 1 والمطبوع من "المعجم" بتحقيق حمدي عبد المجيد السلفي بلغ عدد أحاديثه (21547 حديثاً) حسب ترقيم المحقق وهو ناقص حيث سقط من أصل مخطوطته الأجزاء من 13 إلى 16 وكذلك الجزء الحادي والعشرين، والله تعالى أعلم. ونص الامامان أبو عبد الله الذهبي وأبو الفداء ابن كثير على أن الطبراني لم يخرج مسند أبي هريرة في "المعجم الكبير" ولعله أفرده بمصنفٍ مستقلٍ والعلم عند الله. 2 عناية العلماء بالمعجم الكبير: جمع الحافظ أبو بكر الهيثمي - بإشارة من شيخه العراقي - زوائد "المعجم" على الكتب الستة في كتاب سمَّاه: "البدر المنير في زواثد المعجم الكبير"، ثم حذف أسانيده وضمه إلى زوائد المعجمين الصغير   1 حاجي خليفة: كشف الظنون ص: 1737. 2 انظر: تذكرة الحفاظ 3 / 912، المصعد الأحمد لابن الجزري المطبوع في مقدمة مسند أحمد بتحقيق الشيخ أحمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 والأوسط ومسانيد أحمد، والبزار، والموصلي، وجمعها في كتابه "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد"، وذلك بإشارة أيضاً من شيخه العراقي. 6- كتاب السنن للإمام الدارقطني: المؤلف: هو أبو الحسن علي بن عمر بن مهدي الشهير بالدارقطني، الإمام الحافظ الناقد، صاحب العلل والتصانيف الغزيرة، ولد سنة (306 هـ) وتوفي سنة (هـ38 هـ) . 1 موضوع كتاب السنن للدارقطنى: جمع أحاديث السنن والأحكام مرتبة على أبواب الفقه مع بيان حالها من الصحة والضعف. وقد أثنى على موضوعه الخطيب البغدادي فقال: "وكتابه "السنن" يدل على معرفته التامة بمذاهب الفقهاء وعنايته بالفقه، لأنه لا يقدر على جمع ما تضمنه ذلك الكتاب إلا من تقدمت معرفته بالاختلاف في الأحكام". 2 منهج الدارقطني في كتاب السنن: 1- رتبه على أبواب الفقه حيث بدأه بكتاب الطهارة ثم   1 راجع تفاصيل ترجمته في: سير أعلام النبلاء 16 / 449 – 460. 2 الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 12 / 34 – 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الصلاة وهكذا على منوال كتب السنن. 2- أورد حديث كل باب بأسانيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلموغالباً يورد الحديث بأكثر من طريق. 3- يعقب على كل حديث يورده – غالباً - ببيان ما فيه من العلل سنداً ومتناً ولذلك امتلأ كتابه بآرائه في جرح وتعديل الرجال. 4- اشتمل كتابه على الصحيح والحسن والضعيف، وقَلَّ أن يورد فيه الموضوع. 5- كثيراً ما يورد الأحاديث أو الروايات التي ظاهرها التعارض ثم يرجح بينهما. 1 عناية العلماء بسنن الدارقطنى: أ- ترجم لرجاله الحافظ سراج الدين ابن الملقن ضمن كتابه "إكمال تهذيب الكمال". ب- رتبه الحافظ ابن حجر على الأطراف ضمن كتابه "إتحاف المهرة بالفوائد المبتكروة من أطراف العشرة". ج- شرحه وعلق عليه الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق   1 انظر مثلاً: 1 / 63 باب ولوغ الكلب في الإناء 1 / 97 باب ما روي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأذنان من الرأس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 العظيم آبادى في كتابه "التعليق المغني على سنن الدارقطني". 7- السنن الكبرى للحافظ البيهقي: 1 المؤلف: الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقي، المولود سنة (384 هـ) والمتوفى سنة (458 هـ) ، صاحب المؤلفات الكثيرة. 2 موضوع كتاب السنن الكبرى: جمع أحاديث السنن والأحكام مرتبة على أبواب الفقه مع بيان درجتها من الصحة والضعف، ويعتبر هذا الكتاب من أهم كتب البيهقي التي تشهد ببراعته وعظيم قدره عند العلماء. منهج البيهقي في السنن الكبرى: 1- رتبه على الأبواب الفقهية. 2- يورد الأحاديث مسندة منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغالبها على طريقة الاستخراج على الكتب السابقة ك "الصحيحين" و "سنن أبي داود" وغيرها. 3- يعقب على الروايات بالكلام عليها تصحيحاً وتضعيفاً مع بيان الراجح عند الاختلاف.   1 تأخرت وفاة البيهقي إلى سنة 458 هـ، وقُدِّم الكلام على سننه تجوُّزاً وإلحاقاً بسنن الدارقطني لتقارب المنهج. 2 راجع ترجمته في: سير أعلام النبلاء 18 / 163 – 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وقد قال - رحمه الله - في مقدمة "دلائل النبوة": "وعادتى في كتبي المصنَّفة في الأصول والفروع الاقتصار من الأخبار على ما يصح منها دون ما لا يصح، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح ليكون الناظر فيها من أهل السُّنَّة على بصيرة مما يقع الاعتماد عليه، ولا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الأخبار مغمزاً فيما اعتمد عليه أهل السُّنَّة من الآثار". 1 عناية العلماء بالسنن الكبرى للبيهقي: 1- اختصره أبو عبد الله الذهبي (ت 748 هـ) في كتاب سمَّاه "المهذب" حيث حذف أسانيد الأحاديث واقتصر على ذكر من خرج الحديث، وبيان درجة الحديث من حيث الصحة والضعف، طبع منه مجلدان. 2- اختصره أيضاً عبد الوهاب الشعرانى (ت 973 هـ) وسمَّاه "المنهج المبين في بيان أدلة المجتهدين". 2 3- ترجم رجاله الحافظ ابن الملقن في كتابه "إكمال تهذيب الكمال". 4- تعقبه علي بن عثمان المعروف بابن التركماني الحنفي (ت 747 هـ) في كتابه "الجوهر النقي في الرد على البيهقي" المطبوع بهامش "السنن الكبرى" للبيهقي.   1 البيهقي: دلائل النبوة 1 / 47. 2 انظر: المدخل إلى السنن الكبرى ص: 51 – 52 مقدمة الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ثانياً: كتب المستخرجات تعريف المستخرجات: المستخرجات جمع مستخرج، والمستخرج هو: أن يأتي المصنِّف إلى كتابٍ كالبخاري أو مسلم مثلاً، فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق المؤلف فيجتمع إسناد المستخرِج - بكسر الراء - مع المؤلف في شيخه أو من فوقه. 1 قال الحافظ ابن حجر: "وشرطه ألا يصل إلى شيخ أبعد حتى يفقد سنداً يوصله إلى الأقرب إلا لعذرٍ من علوٍ أو زيادةٍ مهمةٍ". 2 فوائد المستخرجات: 1- علو الإسناد. 2- الزيادة في قدر الصحيح لما يقع فيها من ألفاظ زائدة وتتمات في بعض الأحاديث. 3 3- كثرة طرق الحديث ليرجَّح بها عند المعارضة. 4 4- الحكم بعدالة من أخرج له فيه لأن المخرِّج على شرط الصحيح يلزمه ان لا يخرِّج إلا عن ثقةٍ عنده.   1 شرح التبصرة والتذكرة للعراقي 1 /56 – 57. 2 الحافظ السيوطي: تدريب الراوي 1 / 112. 3 لم يذكر ابن الصلاح للمستخرجات إلا هاتين الفائدتين: علوم الحديث ص: 19 – 20. 4 استدرك هذه الفائدة الحافظ العراقي على ابن الصلاح في التقييد والإيضاح ص: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 5- بيان سماع المدلس. 6- بيان زمن السماع من المختلط. 7- تعيين المبهم من الرجال في الإسناد. 8- تقييد المهمل من رجال الإسناد. 9- تمييز المتن المحال به على المتن المحال عليه، وذلك في كتاب الإمام مسلم كثيرٌ جداً. 10- فصل الكلام المدرج في الحديث مما ليس من الحديث. 11- بيان ما يقع في الكتاب المستخرج عليه من الأحاديث المصرَّح برفعها وتكون في الأصل موقوفة أو كصورة الموقوف. من أهم المستخرجات على الصحيحين مايلي 1: 1- مستخرج أبي بكر الإسماعيلي (ت 371 هـ) على صحيح البخاري. 2- مستخرج الحافظ أبي أحمد محمد بن أحمد بن الحسن الغطريفى (ت 377هـ) على البخاري.   1 اقتصرت على المستخرجات على الصحيحين لكثرتها وأهميتها وأهمية الصحيحين، وإلا فإن هناك مستخرجات على غيرهما كالسنن وغيرها لكنها قليلة، كذلك اقتصرت على أهم وأشهر المستخرجات على الصحيحين، وهي كثيرة ومن أراد معرفتها فليراجع: تدريب الراوي للحافظ السيوطي 1 / 111 – 112، والرسالة المستطرفة للكتاني ص: 26 – 31، وكثيرٌ من هذه المستخرجات في عداد المفقود من كتب السلف رحمهم الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 3- مستخرج الحافظ أبي عبد الله محمد بن العباس بن أحمد بن محمد المعروف بابن أبي ذهل (ت 378 هـ) على البخاري. 4- مستخرج الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني (ت 416 هـ) على صحيح البخاري. 5- مستخرج الحافظ أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرايني (ت 316 هـ) على صحيح مسلم، طبع بعض أجزاء منه. 6- مستخرج الحافظ أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري رفيق مسلم في الرحلة إلى بلخ والبصرة (ت 286 هـ) على صحيح مسلم. 7- مستخرج أبي جعفر أحمد بن حمدان بن علي الحيري النيسابوري (ت 311 هـ) على مسلم. 8- مستخرج الحافظ أبي بكر محمد بن محمد بن رجاء النيسابوري –وهو يشارك مسلماً في أكثر شيوخه– (ت 286 هـ) على مسلم. 9- مستخرج الحافظ أبي نصر محمد بن محمد بن يوسف الطوسي (ت 344 هـ) على صحيح مسلم. وممن له مستخرج على كل من الصحيحين على حدة في كتاب مستقل: 1- الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني (ت 430 هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 2- أبو عبد الله محمد بن يعقوب المعروف بابن الأخرم (ت 344 هـ) . 3- أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري الهروي الحافظ (ت 434 هـ) . 4- الحافظ أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال (ت 439 هـ) . قال الخطيب: "خرج مسند أحمد على الصحيحين". 1 5- الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن محمد الأصبهاني المعروف بابن منجويه (ت 428 هـ) . ومن المستخرجات على الصحيحين كلاهما في كتاب واحد: مستخرج أبي بكر أحمد بن عبدان بن محمد الفرج الشيرازي (ت 388 هـ) .   1 انظر ترجمته في تاريخ بغداد 7 / 425. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الفصل الثاني: التدوين في القرن الخامس الهجري أولاً: أهم المؤلفات في الجمع بين الكتب الستة جميعها أو بعضها: سبقت الإشارة إلى أن علماء هذا القرن ابتكروا طريقة جديدة للمساهمة في خدمة السُّنَّة المطهرة في مجال تدوينها وحفظها، فكانت تلك الطريقة هى النواة الأولى للموسوعات الحديثية، وهذا الإبتكار الجديد هو الجمع بين كتب الحديث المؤلفة سابقاً مثل: الصحاح والسنن وغيرهما، ومن أهم المصنفات في هذا الموضوع ما يلي: أولاً: الجمع بين الصحيحين: 1- الجمع بين الصحيحين للحافظ أبي مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقى (ت 401 هـ) ، رتَّبه على المسانيد كما ذكر ذلك الحافظ ابن الأثير. 1 2- الجمع بين الصحيحين لإسماعيل بن أحمد المعروف بابن الفرات (ت 414 هـ) . 3- الجمع بين الصحيحين لأبي بكر أحمد بن محمد بن غالب البرقانى (ت 5 42 هـ) .   1 انظر: جامع الأصول الفصل الثالث من الباب الأول من المقدمة ص: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 4- الجمع بين الصحيحين للإمام أبي عبد الله محمد بن نصر الحميدي الأندلسي (ت 488هـ) ، وله زيادات عليهما في المتون والأسانيد وغيرها من الفوائد المهمة. 1 5- الجمع بين الصحيحين للحسين بن مسعود البغوي (ت 516 هـ) . 6- الجمع بين الصحيحين لأبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن ابن عبد الله الأشبيلى (ت 581 هـ) . 7- الجمع بين الصحيحين لأبي عبد الله محمد بن حسين المري الأنصاري (ت 582 هـ) . 8- الجمع بين الصحيحين لأبى حفص عمر بن بدر بن سعيد الموصلي (ت 622 هـ) . 9- الجمع بين الصحيحين تأليف أبي محمد الحسن بن محمد بن الحسن الصغاني (ت 650 هـ) ، وهو مطبوع باسم: "مشارق الأنوار النبوية من صحاح الأخبار المصطفوية". ثانياً: الجمع بين الكتب الخمسة أو الستة: 1- التجريد للصحاح والسنن - الصحيحان والموطأ والترمذي وأبو داود والنسائي - للحافظ أبي الحسن رزين بن معاوية السرقسطي (ت 535 هـ) . 2- الجمع بين الكتب الستة – الصحيحان والموطأ والسنن ما   1 يوجد منه في مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية حرسها الله نسختان برقم 585، وبرقم 1430. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 عدا ابن ماجه – لأبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأشبيلي (ت 581 هـ) . 3- جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لمجد الدين المبارك ابن محمد بن الأثير الجزري (ت 606 هـ) . 1 4- أنوار المصباح في الجمع بين الكتب الستة الصحاح لأبي عبد الله بن عتيق بن علي التجيبي الغرناطي (ت 646 هـ) .   1 قُدِّم ذكر جامع الأصول هنا مع تأخر وفاة مؤلفه تجوُّزاً لاتحاد موضوعه مع هذه الكتب المذكورة، وكذلك الذي يليه "أنوار المصباح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ثانياً: دراسة موجزة لنماذج مما أُلِّف في هذا القرن أ- شرح السُّنَّة للحافظ البغوي: المؤلِّف: الإمام المحدث المفسر الفقيه، محيي السُّنَّة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي المولود سنة (436 هـ) والمتوفى سنة (516 هـ) رحمه الله تعالى. موضوع الكتاب: أفصح عن ذلك مؤلفه في مقدمته فقال: "أما بعد فهذا كتاب في شرح السُّنَّة يتضمن إن شاء الله - سبحانه وتعالى - كثيراً من علوم الأحاديث، وفوائد الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلِّ مشكلها وتفسير غريبها، وبيان أحكامها، يترتَّب عليه من الفقه واختلاف العلماء جملٌ لا يستغني عن معرفتها المرجوع إليه في الأحكام، والمعول عليه في دين الإسلام. ولم أودع هذا الكتاب من الأحاديث إلا ما اعتمده أئمة السلف الذين هم أهل الصنعة، المسلَّم لهم الأمر من أهل عصرهم، وما أودعوه كتبهم. فأما ما أعرضوا عنه من المقلوب والموضوع والمجهول واتفقوا على تركه فقد صُنْت الكتاب عنها، وما لم أذكر أسانيدها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الأحاديث فأكثرها مسموعة، وعامتها في كتب الأئمة غير أني تركت أسانيدها حذراً من الإطالة واعتماداً على نقل الأئمة". 1 سبب تأليفه لهذا الكتاب: أوضح ذلك - رحمه الله تعالى - في المقدمة فقال: "والمقصود بهذا الجمع - مع وقوع الكفاية بما عملوه وحصول الغنية فيما فعلوه - الاقتداء بأفعالهم والإنتظام في سلكٍ أحد طرفيه متصلٌ بصدر النبوَّة، والدخول في غمار قومٍ جدُّوا في إقامة الدين، واجتهدوا في إحياء السُّنَّة، شغفاً بهم، وحباً لطريقتهم - وإن قصرت في العمل عن مبلغ سعيهم - طمعاً في موعود الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن: المرء مع من أحب 2. ولأني رأيت أعلام الدين عادت إلى الدروس، وغلب على أهل الزمان هوى النفوس، فلم يبق من الدين إلا الرسم، ولا من العلم إلا الاسم، حتى تصور الباطل عند أكثر أهل الزمان بصورة الحق، والجهل بصورة العلم 3، وظهر فيهم تحقيق قول الرسول صلى الله   1 شرح السنة 1 / 2 – 4 من مقدمة المؤلف. 2 رواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه – باب علامة الحب في الله الفتح 10 / 557 ح 6168 – 6171. 3 لقد صدق البغوي – رحمه الله – في هذا الوصف الدقيق لعصره – القرن الخامس – الذي يعتبر الحد الفاصل بين عصرين: عصر ازدهار العلوم الإسلامية والحضارة الإسلامية – ذلك العصر الذي تُوِّج بأهل القرون المفضلة – وعصر الجمود وبداية الانحطاط الذي ران على الأمة في الأعصار المتأخرة، ففيما قبل هذا القرن كانت الدالة لأهل السنة على أهل البدع والأهواء، وكانت العلوم الإسلامية عموماً، وعلوم السنة النبوية خصوصاً تنمو وتزدهر، حتى حلَّ منتصف القرن الرابع وبدأت فيه سيطرة أهل البدع على مقاليد أمور الأمة، إذ سيطر بنو بويه الروافض على بغداد، والعبيديون الباطنيون على شمال أفريقيا ومصر والشام والحجاز انظر: سير أعلام النبلاء 15 / 164، والصليحيون الإسماعيلية على اليمن، أظهر أهل البدع والأهواء رؤوسهم، وخرجوا من جحورهم، ودالت الدولة لهم، وضيقوا على أهل السنة وآذوهم وما فتنة البساسيري هلك سنة 451 هـ في بغداد وانتفاش الأشاعرة والصوفية برئاسة ابن القشيري 514 هـ على أهل السنة الذين كانوا يلقِّبونهم بالحنابلة ما كان إلا نموذجاً لبداية عصر سيطرة أهل الزيغ والضلال على مقاليد الأمور في الأمة الإسلامية، وحتى يتم لهم ما يريدون آذوا العلماء وأبعدوهم عن قيادة الأمة، ولذلك انتشر الجهل وعم الفساد، فجمدت العقول والأفكار عن التجديد والابتكار، وهذا عين ما أراده هؤلاء الضلاَّل ومن وراءهم من المفسدين في الأرض. ولهذا قال الحافظ الذهبي في نهاية الطبقة التاسعة في رسالة "ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل": "ومن هذا الوقت تناقص الحفظ وقلَّ الاعتناء بالآثار، وركن العلماء إلى التقليد، وكان التشيع والاعتزال والبدع ظاهرة بالعراق، لاستيلاء آل بويه ثَمَّ، وبمصر والشام والمغرب لاستيلاء بني عبيد الباطنية". وقال في آخر الطبقة العاشرة: "وكانت السنة قائمة الدولة بالأندلس وبخراسان وقلَّ أمرها وضعف بمصر والشام والمغرب والعراق، وما ذلك إلا لظهور دولة الشيعة والعبيدية فلله الأمر جميعا". لقد كان القرن الخامس حقاً بداية عصور الجمود العلمي والانحطاط الفكري للأمة، فسيطر عليها أعداؤها من يهود ونصارى ومجوس بواسطة طابورهم من أهل الأهواء والبدع الذين كانوا ينخرون في جسم الأمة كما تنخر السوسة في جذور الشجرة ثم تطيح بها فجأة، ولا أدل على ذلك من وقوف هذا الطابور صراحة ودون مواربة إلى جانب أسيادهم من النصارى عبدة الصليب عندما اجتاحوا الديار الإسلامية في هذا القرن، وكانوا قد مهدوا لذلك بنشر الجهل والفساد في الأمة، وذلك بإبعاد علماء السنة المخلصين عن قيادة الأمة وتنويرها بالعلم الصحيح، وهكذا في كل عصر لا يسمح أهل الضلال والزيغ لأمَّة أن ترى النور على يد علمائها المخلصين؛ لأن ذلك يؤدى إلى توعية الأمة بأعدائها الحقيقيين وتحذيرها منهم، لتقوم الأمَّة بعد ذلك بوجوب الأمر بالمعررف والنهي عن المنكر، فتقضي على أهل البغي والفساد، وهذا ما لا يريده ولا يطيقه رؤساء الضلال والفساد، فرحم الله الإمام البغوي فقد تفطن لذلك الداء وتلك العلة التي تشتكي منها الأمَّة، فلجأ للعلاج الناجع والدواء الناجح وهو نشر العلم وإحياء السنَّة، فقال رحمه الله: "أردت أن أجدد لأمر العلم ذكراً لعله ينشط فيه راغب متنبه، أو ينبعث له واقف متثبط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذوا رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلُّوا وأضلُّوا" 1 ولما كان الأمر على ما وصفته لك، أردت أن أجدد لأمر العلم   1 رواه البخاري في صحيحه – كتاب العلم – باب كيف يقبض العلم الفتح 1 / 194 ح 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ذكراً لعلَّه ينشط فيه راغب متنبِّه، أو ينبعث له واقف متثبط". 1 منهج البغوي في كتابه شرح السُّنَّة 2: 1- رتَّب كتابه على الموضوعات على طريقة أصحاب المصنَّفات من المحدِّثين، فجمع الأحاديث المتعلقة بكل موضوع في مكان واحد. 2- أطلق لفظة "كتاب" على العنوان العام الجامع لأبواب كثيرة من جنس واحد مثل: كتاب الصلاة، ولفظة "باب" على الأحاديث التي تدل على مسألة خاصة بعينها، وقد توخَّى الدقة في ذلك أكثر من كل من تقدمه ممن ألَّف في موضوعه، وكثيراً ما يقتبس من الإمام البخاري عنوان الباب بلفظه ونصه الوارد في "الجامع الصحيح"، انظر مثلاً: كتاب العلم: الأبواب التالية - نفس العنوان عند كل منهما -: باب فضل العلم، باب كتابة العلم، باب أثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم. وكتاب الجهاد والسير: الأبواب: باب الجهاد بإذن الأبوين، باب من احتبس فرساً في سبيل الله عز وجل، بل أنه سلك طريقة البخاري في البدء بكتاب الإيمان ثم العلم قبل غيرهما. وكثير من عناوين كتبه مقتبسة من البخاري مثل: الجهاد والسير، الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة. وغيرهما. 3- درج المؤلف على أن يفتتح كل كتاب، وأحياناً بعض   1 شرح السنة 1 / 2 – 4 مقدمة المؤلف رحمه الله. 2 لخصت منهجه – مع التصرف – من مقدمة محقق كتاب شرح السنة للشيخ شعيب الأرناؤوط 1 / 4 – 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الأبواب بآيات تناسب موضوعه، مذيلة بما أثر عن الصحابة والتابعين من تفسيرٍ لها وتوضيحٍ لمعانيها. 4- ثم يسوق الأحاديث المتعلقة بالباب الذي ترجم له من دواوين السُّنَّة المعتمدة التي تلقَّاها بالسند المتصل إلى مؤلفيها، وقد التزم غالباً أن يذكر السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يذكر مخرجه إن كان في الصحيحين، أو في أحدهما فيقول: "متفق عليه" أو "أخرجه البخارى - أو - مسلم"، ومراده بذلك أنهما أخرجا أصله أو بعض لفظه، أو معناه وفي ذلك تساهل غير ضارٍّ عند أهل الفن. 5- وإذا لم يكن الحديث عند واحد من الشيخين فكثيراً ما يتقلد قول الإمام الترمذي في التصحيح أو التضعيف، وينقل كلامه في تعليل الخبر وما قيل في سنده، وربما استقل بالحكم على الحديث تصحيحاً وتضعيفاً. 6- لا يخرج الأحاديث الضعيفة في كتابه إلا ما كان منها في باب الشواهد والمتابعات، أو لبيان معنى حديث صحيح، أو إذا لم يكن في الباب ما يغني عنه من الصحاح ولم يكن ضعفه شديداً. 7- ثم يذكر ما يستفاد من أحاديث الباب من الفقه، وما يتعلق بعلوم الحديث، وضبط أسماء الرواة وأنسابهم، وربما ترجم لبعضهم والتوفيق بين بعض الأحاديث التي تبدو مختلفة، كذلك اعتنى بشرح الغريب. 8- ثم يذكر اجتهادات الصحابة والتابعين، وأقوال الأئمة المجتهدين، ويحكي أدلَّة كلٍّ منهم، ويرجِّح من تلك الأقوال ما استبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 له صوابه، متبعاً منهج المحدثين في التعويل على الحديث الصحيح والأخذ به. ب- مصابيح السُّنَّة للحافظ البغوي: المؤلف: محيي السُّنَّة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي (ت سنة 516 هـ) . موضوعه وسبب تأليفه: قال - رحمه الله - في المقدمة: "أما بعد، فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيين، هنَّ مصابيح الدُّجى، خرجت عن مشكاة التقوى، مما أوردها الأئمة في كتبهم، جمعتها للمنقطعين إلى العبادة لتكون لهم بعد كتاب الله تعالى حظاً من السنن، وعوناً على ما فيه من الطاعة". 1 منهج البغوي في كتابه "المصابيح": قال في مقدمته: "وتركت ذكر أسانيدها حذراً من الإطالة، واعتماداً على نقل الأئمة، وربما سمَّيت في بعضها الصحابي الذي يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعنى دعا إليه، وتجد أحاديث كل باب منها تنقسم إلى صحاح وحسان. أعني ب الصحاح ما أخرجه الشيخان: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو الحسين مسلم بن حجاج النيسابوري   1 أبو محمد البغوي: مصابيح السنة – المقدمة 1 / 109 – 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 رحمهما الله في جامعيهما أو أحدهما. وأعني ب الحسان ما أورده أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبو عيسى الترمذي محمد بن عيسى، وغيرهما من الأئمة في تصانيفهم – رحمهم الله – وأكثرها صحاح بنقل العدل عن العدل، غير أنها لم تبلغ غاية شرط الشيخين في علو الدرجة من صحة الاسناد، إذ أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن، وما كان فيها من ضعيفٍ أو غريبٍ أشرت إليه، وأعرضت عن ذكر ما كان منكراً أو موضوعاً"1 آراء العلماء في منهج البغوي في كتاب "المصابيح": قال أبو عمرو ابن الصلاح: "وما صار إليه صاحب المصابيح - رحمه الله - من تقسيم أحاديثه إلى نوعين: الصحاح والحسان فهذا اصطلاح لا يعرف، وليس الحسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك، وهذه الكتب - يعني السنن - تشمل على حسن وغير حسن، والله أعلم". 2 وقد تابع ابن الصلاح على انتقاده الإمام النووي في تقريبه 3. 2- استخرج أبو حفص عمر بن علي بن عمر القزويني – رحمه الله – (ت.75 هـ) ثمانية عشر حديثاً من كتاب المصابيح وقال: "إنها   1 أبو محمد البغوي: مصابيح السنة – المقدمة 1 /109 – 110. 2 ابن الصلاح: علوم الحديث ص: 34. 3 انظر: تقريب النواوي المطبوع مع تدريب الراوي 1 / 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 موضوعة". 1 وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن هذه الانتقادات: أ- قال في "النكت" 2: "في الجواب عن انتقاد ابن الصلاح وقد تعقب العلامة تاج الدين التبريزي في "مختصره" هذا الكلام فقال: "ليس من العادة المشاحة في الاصطلاح والتخطئة عليه مع نص الجمهور على أن من اصطلح في أول الكتاب فليس ببعيد عن الصواب، والبغوي قد نصَّ في ابتداء كتابه "المصابيح" بهذه العبارة: "وأعني بالصحاح ما أخرجه الشيخان" إلى آخر كلامه، ثم قال: "وما كان من ضعيف أو غريب أشرت إليه" إلى آخره، ولم يذكر قط أن مراد الأئمة بالصحاح كذا وبالحسان كذا، قال: "ومع هذا فلا يعرف لتخطئة الشيخين – يعني ابن الصلاح والنووي - إياه وجهٌ".قلت - ابن حجر -: "ومما يشهد لصحة كونه أراد بقوله: الحسان اصطلاحاً خاصاً له أنه يقول في مواضع من قسم الحسان: "هذا صحيح" تارة، و "هذا ضعيف" تارة بحسب ما يظهر له من ذلك". ب- وتولى أيضاً الحافظ ابن حجر الرد على الأحاديث التي انتقدها أبو حفص القزويني على كتاب "المصابيح"، وأجاب عنها حديثاً حديثاً، وقد أجاد وأفاد رحمه الله. 3   1 انظر: هذه الأحاديث وأجوبة ابن حجر عليها في مقدمة المصابيح بتحقيق المرعشلي 1 / 77 – 96. 2 النكت 1 / 445 – 446. 3 طبع جواب ابن حجر في مقدمة تحقيق المصابيح 1 / 77 – 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 عناية العلماء بمصابيح السُّنَّة: تقبل الناس هذا الكتاب بالقبول الحسن، فعكفوا عليه رواية ونسخاً وقراءةً وحفظاً، ثم ألَّفوا حوله الشروح والمختصرات والتخريجات، وقد ذكر حاجى خليفة وبروكلمان أكثر من اثنين وأربعين شرحاً ومختصراً وتخريجاً لهذا الكتاب 1، إلا أن "مشكاة المصابيح" لأبى عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي (ت بعد سنة 740 هـ) 2 فاق جميع الشروح والتخريجات الأخرى، ولذلك عكف الناس عليه، وشرحوه واختصروه وخدموه، إذ أُلِّف عليه تسعة شروح ومختصرات. ج - جامع الأصول في أحاديث الرسول للحافظ ابن الأثير 3 المؤلف: هو الإمام الحافظ مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري المولود سنة (544 هـ) والمتوفى (606 هـ) صاحب التصانيف المشهورة. 4 موضوع الكتاب: جمع المؤلف - رحمه الله - في هذا الكتاب أحاديث الكتب الستة -   1 انظر: كشف الظنون ص: 1698، وتاريخ الأدب العربي 6 / 245 2 طبع كتابه مشكاة المصابيح بتحقيق وتخريج الشيخ ناصر الدين الألباني، وطبع كثير من شروحه في الهند. انظر: مقدمة المصابيح بتحقيق المرعشلي 1 / 72 – 74 3 يعتبر الحافط ابن الأثير من علماء القرن السادس، ولكن قُدِّم الكلام على كتابه ضمن الكلام عن كتب القرن الخامس لاتحاد موضوعه مع موضوع هذه الكتب أعني كتب الجمع بين الكتب الستة كلها أو بعضها الذي بدأ في القرن الخامس الهجري، والله تعالى أعلم. 4 راجع تفاصيل ترجمته في: سير أعلام النبلاء 21 / 488 – 491. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الصحيحين والموطأ وسنن أبي داود والترمذى والنسائي - وأعاد ترتيبها وفق المعاني التي تضمنتها تلك الأحاديث ليسهل على طالب العلم الوقوف على الحديث الذي يريده، والمعنى الذي يدل عليه. قال - رحمه الله - في الفصل الرابع من الباب الأول: "ورأيت كتاب رزين بن معاوية السرقسطي هو أكبرها - كتب الجمع بين الكتب الستة - وأعمها حيث حوى هذه الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث. فحينئذ أحببت أن أشتغل بهذا الكتاب الجامع لهذه الصحاح، واعتني بأمره ولو بقراءته ونسخه فلما تتبعته وجدته - على ما قد تعب فيه - قد أودع أحاديث في أبوابٍ غير تلك الأبواب أولى بها، وكرر فيه أحاديث كثيرة وترك أكثر منها فناجتني نفسي أن أهذِّب كتابه، وأرتِّب أبوابه، وأوطىء مقصده، وأسهل مطلبه، وأضيف إليه ما أسقطه من الأصول، وأتبعه شرح ما في الأحاديث من الغريب والإعراب والمعنى وغير ذلك مما يزيده إيضاحاً وبياناً". منهجه وطريقة ترتيبه: بين ذلك مفصلاً - رحمه الله - في الباب الثاني من مقدمة كتابه 1، ويمكن إيجازه في النقاط التالية: 1- حذف الأسانيد ولم يثبت إلا اسم الصحابي إن كان الحديث مرفوعاً، أو اسم الراوى عن الصحابي إن كان الحديث موقوفاً، وقد أفرد لأسماء هؤلاء وتراجمهم باباً في آخر الكتاب ورتبهم على حروف المعجم.   1 ابن الأثير: جامع الأصول 1 / 53 – 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أما المتون فإنه لم يثبت منها إلا ما كان حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أثراً عن الصحابى، وما كان من أقوال التابعين ومن بعدهم فلم يذكره إلا نادراً. وقد أثبت أيضاً ما وجد من الزيادات من المتون في كتابي الحميدي "الجمع بين الصحيحين"، ورزين بن معاوية "الجمع بين الكتب الستة". 2- بنى ترتيب الأبواب على المعاني التي دلت عليها الأحاديث فكل حديث انفرد بمعنى أثبته في باب يخصه، فإن اشتمل الحديث على أكثر من معنى واحد فلا يخلو: أن يكون اشتماله على ذلك اشتمالاً واحداً، أو أحد المعاني فيه أغلب من الآخر، فإن كان اشتماله عليه اشتمالاً واحداً أورده في آخر الكتاب في كتاب سماه: "كتاب اللواحق" وقسمه إلى أبواب عدة، يتضمن كل باب منها أحاديث تشتمل على معاني من جنس واحد، أما ما كان مشتملاً على أكثر من معنى واحد إلا أنه بأحدها أخص وهو فيه أغلب، فإنه يثبته في الباب الذي هو أخص به وأغلب عليه، وقد قصد فيه غالباً أن يكون في باب المعنى الذي هو في أول الحديث. 3- ثم قسم كل كتاب إلى أبواب وفصول وأنواع، وأحياناً إلى فروع وأقسام – أيضاً - بحسب ما اقتضته القسمة التي أوردها في كتابه، وكان الموجب لهذا التقسيم اختلاف معاني الأحاديث التي تختص بكل كتاب، فإن منها ما يتعلق بوجوبه، ومنها ما يتعلق بأركانه وحقيقته، ومنها ما يتعلق بالحث عليه والترغيب فيه، ومنها ما يتعلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 بفضله وشرفه. 4- جمع ما جاء من الأحاديث في فضائل جميع الكتب المودعة في كتابه، وما جاء في فضائل الأنبياء والصحابة وغيرهم فجعله كتاباً واحداً سمَّاه: "كتاب الفضائل والمناقب" وأودعه أيضاً كل حديث يتضمن فضل شيءٍ من الأعمال والأقوال والأحوال والرجال. 5- قال - رحمه الله -: " ... فخرجت أسماء الكتب المودعة في الكتاب وجعلتها مرتبة على حروف أب ت ث طلباً لتسهيل كلفة الطلب، وتقريباً على المريد بلوغ الأرب، ولم أضبط في وضعها الحرف الأصلي من الكلمة فحسب، وإنما لزمت الحرف الذي هو أول الكلمة، سواء كان أصلياً أو زائداً، ولم أحذف من الكلمة إلا الألف واللام التي للتعريف حسب، فأودعت كتاب: الإيمان، والإسلام، وكتاب الإيلاء، وكتاب الآنية في حرف الهمزة، وهذا حرف أصلي ووضعت فيه كتاب الإعتصام، وكتاب إحياء الموات، وهذا حرف زائد؛ فإن الإعتصام حقه أن يكون في حرف العين، وإحياء الموات في حرف الحاء، وكذلك جميع الكتب على هذا الوضع، ولم أقصد به إلا طلب الأسهل، فإن كتب الحديث يشتغل بها الخاص والعام، والعالم بتصريف اللفظ والجاهل به. ثم وجدت في الأبواب أبواباً عدة، هى من جملة الكتب التي انقسم الكتاب إليها، وإذا ذكرتها في الحرف الذي يختص بها أكون قد أفردت أحد أحكام ذلك الكتاب عنه، وفرقتها ووضعته في غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 موضعه الأولى به مثال ذلك: أن كتاب الجهاد هو في حرف الجيم، وفي جملة أحكام الجهاد أبواب عدة لا يجوز أن تنفرد عنه، مثل: الغنائم، الغلول، والنفل، والخمس، والشهادة، وكل وا حد منها يختص بحرف غير حرف الجيم فإن ذكرته في حرفه تقسم كتاب الجهاد، وعدلت في واجب الوضع فذكرت هذه الأبواب في جملة كتاب الجهاد في حرف الجيم، ثم عمدت إلى آخر كل حرف من تلك الحروف التي تختص بهذه الأبواب فذكرت فيه فصلاً ليستدل به على مواضع هذه الأبواب من الكتاب، فذكرت في آخر حرف الغين أن الغنائم والغلول في كتاب الجهاد من حرف الجيم، وفي آخر حرف الفاء أن الفىء في كتاب الجهاد من حرف الجيم، وكذلك تتبعت جميع الحروف وفعلت بها هذا الفعل". 6- أثبت المؤلف اسم راوي كل حديثٍ أو أثرٍ على هامش الكتاب حذاء أول الحديث وذلك لفائدتين: أحداهما: أن يكون الاسم مفرداً يدركه الناظر في أول نظرة، ويعرف بها أول الحديث. والثانية: لأجل إثبات العلايم التي رقمها المؤلف بالهمزة على الاسم. وذلك أنه رقَّم على اسم كل راوي علامة من أخرج ذلك الحديث من أصحاب الكتب الستة التي علم لها ب "خ" البخاري، "م" لمسلم، "ط" لموطأ مالك، "ت" للترمذي، "د" لأبي داود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 "س" للنسائي، فإذا كان الحديث قد أخرجه جماعتهم أثبت – رحمه الله – قبل اسم الراوي العلايم الست، وإن كان قد أخرجه بعضهم أثبت عليه علامة من أخرجه. والأحاديث التي وجدها في كتاب رزين بن معاوية وليست في الأصول الستة أثبتها ولم يثبت عليها علامة. 7- اعتنى - رحمه الله - بشرح غريب كل حديث، لكنه خوفاً من الإطالة بالتكرار أو كثرة الإحالات إن هو جعل غريب كل حديث أو فصل أو باب عقيبه، خوفاً من ذلك جمع غريب كتب كل حرف في آخر ذلك الحرف، فمثلاً غريب أحاديث الكتب المذكورة في حرف الألف جمعه في آخر حرف الألف وهكذا 1، ولم ير المؤلف أن ينفرد الغريب في كتاب مستقل كما فعل الحميدي، خشية أن يهمل عند الاستنساخ فلا يستفاد منه، وقد عول - رحمه الله - على كتب أئمة اللغة ك "تهذيب اللغة" للأزهري و "الصحاح" للجوهري، وكتب غريب الحديث ك "غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام وغيره. 8- بعد أن استقر وضع الحديث في الأبواب، والكتب والحروف رأى المؤلف أن هناك أحاديث قد تختلف الأنظار في المكان المناسب لوضعها فيه، وإن كان الموضع الذي وضعها فيه يرى هو أنه أولى بها من غيره، وخوفاً من التباس مكانها لنوع اشتباه في معانيها،   1 في الطبعة التي بتعليق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط أعيد توزيع الغريب حيث جعل غريب كل حديثٍ عقيبه، وهكذا، وهذا أمرٌ قد أعرض عنه المؤلف لئلا يطول الكتاب بالتكرار وكثرة الإحالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 واختلاف وجهات النظر في المكان الأولى بها، وخوفاً من الكلفة على الطالب والمشقة في البحث عن مكانها، خرج المؤلف – رحمه الله – منها كلمات ومعاني تعرف بها تلك الأحاديث وأفرد لها باباً في آخر الكتاب أثبت فيه تلك الكلمات مرتبة على حروف المعجم (أب ت ث) ، ويضع الكلمة أو المعنى بالهامش وبإزائها ذكر موضعها من أبواب الكتاب، فإذا طلب الباحث حديثاً فيه نوع اشتباه وغاب عنه موضعه؛ فما عليه إلا أن يختار لفظة أو معنى مشهوراً في ذلك الحديث ثم يعمد إلى ذلك الباب في آخر الكتاب ليطلبها فيه. 1   1 هذه هي الطريقة التي سلكها المستشرقون في كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، وها هو ابن الأثير قد سبقهم إلى ذلك، وقبله أهل معاجم اللغة وكتب غريب الحديث التي رتبت على الكلمات الغريبة، وانظر: جامع الأصول 1/76–86 مقدمة المؤلف، الفصل السادس من الباب الثاني، وهذا الباب في آخر الكتاب لم أره مطبوعاً ولعله سقط من تلك الطبعتين والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الباب الخامس: اتجاه تدوين السنة بعد القرن الخامس إلى نهاية القرن التاسع تعريف موجز بأحوال المسلمين في تلك القرون الأربعة ... الباب الخامس: اتجاه تدوين السُّنَّة بعد القرن الخامس إلى نهاية القرن التاسع. في هذا الوقت الممتد عبر أربعة قرون تقريباً، مرت على المسلمين فيه محن وبلايا يشيب لهولها الولدان، ومن هذه المحن: 1- استمرار الانحطاط العلمي والجمود الفكري الذي بدأ - كما أشرت سابقاً - من أوائل القرن الخامس الهجري تقريباً. 2- استمرار الحملات الصليبية على ديار المسلمين، إذ بعد هزيمتهم في معركة حطين سنة (583 هـ) وطردهم من بيت المقدس على يد القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي – مؤسس الدولة الأيوبية في مصر والشام – رحمه الله – استمر لهؤلاء الصليبين وجود – أيضاً – في بعض مدن الشام قرابة قرن من الزمن بعد هزيمتهم في حطين، حيث كانت آخر معركة مع الصليبين في آخر معقل لفلولهم، معركة عكا سنة (690 هـ) كما ذكر ذلك الحافظ الذهبي في حوادث تلك السنة من كتابه "تاريخ الاسلام"، وذكر - رحمه الله - أنه حضرها بنفسه وسنه يومئذ سبع عشرة سنة، وأنها كانت على أيدي العلماء من الفقهاء والمحدثين والمطوِّعة، حيث كانوا يجرون المنجنيق بأيديهم وهم يرتلون آيات الجهاد ويضرعون بالدعاء. 3- ومنها تلك المحنة العظيمة والرَّزيَّة الأليمة التي نزلت بالمسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 على أيدي التتار الوثنيين حيث بلغت ذروتها بسقوط بغداد على أيديهم سنة (656 هـ) 1، واستمرت معاركهم الضارية ضد المسلمين حتى كسرهم الله على يد المسلمين مرتين: الأولى على يد الملك المظفر قطز في معركة عين جالوت سنة (658 هـ) 2، والثانية على يد شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته في موقعة شقحب قرب مدينة دمشق سنة (702هـ) 3، وبعد هذه الموقعة لم يعد للتتار ذكر - فيما أعلم - حيث تفرقوا ودخل كثير منهم الإسلام. 4- ومنها استمرار تسلط أصحاب البدع والأهواء على رقاب المسلمين وتحكمهم فيها، وقد بدأ ذلك من منتصف القرن الرابع الهجرى تقريباً بتسلط البويهيين الروافض على الخلافة في بغداد واستيلاء العبيديين الباطنيين على شمال أفريقيا ومصر والشام، وقبل ذلك تسلط على المسلمين القرامطة الملحدون في البحرين وبعض أجزاء من العراق والشام. وانتهى باستحواذ الوزير الرافضي ابن العلقمي وصاحبه نصير الكفر الطوسي على الخليفة العباسي في بغداد، ولم يزل ابن العلقمي يزين للخليفة تسريح أفراد الجيش النظامي الذى كان عدده يزيد على ثلاثمائة ألف فأصبح لا يزيد عن عشرة آلاف شخص عند هجوم التتار   1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 13 / 200. 2 المصدر السابق 13 / 230. 3 المصدر السابق 14 / 23 – 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 على بغداد 1. 5- ومنها تلك الفتن والقلاقل الداخلية بين بعض ولاة المسلمين وأمرائهم، حيث كان كل أمير مدينة أو ناحية يغير على من حوله من الولايات أو الإمارات الصغيرة وقد كثرت في ديار المسلمين هذه الولايات الصغيرة المتناحرة وخاصة في بلاد الشام وشمال العراق فضلاً عما اشتهر في الأندلس من دويلات الطوائف وما بعدها من الدويلات الصغيرة والمتناحرة. هذه من أشهر المحن والرزايا التي ابتلي بها المسلمون خلال هذه القرون المتأخرة، إلا أنه كان مما يخفف من حدتها ظهور تلك المصاولة والمجاولة من فينة لأخرى بين المسلمين وأعدائهم وذلك على أيدي الأئمة والعلماء من أهل السُّنَّة والجماعة ومن الأمثلة على ذلك: أولاً: ما قام به العلماء من أهل السُّنَّة والجماعة من جهود لمقاومة ذلك الانحطاط العلمي والجمود الفكري من أمثال: الحافظ أبو بكر البيهقي، والخطيب البغدادي، ومحمد بن طاهر المعروف بابن القيسرانى، ومحي السُّنَّة البغوي، ثم أبو بكر الحازمي، وأبو موسى المديني، ومحمد بن طاهر السِّلفي، والحافظ ابن الجوزي وغيرهم من علماء المشرق، ومن أمثال الحافظ: ابن عبد البر، وأبو محمد بن حزم، وأبو الوليد الباجي، وأبو عبد الله الحميدي، ثم عبد الحق الأشبيلي، وأبو العباس القرطبي، والقاضي عياض، ورزين بن معاوية وغيرهم من علماء المغرب. ثم أشرقت أنوار نهضة علمية جديدة مع بدايات القرن السابع   1 البداية والنهاية 13 / 200 – 202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الهجري على أيدي علماء السُّنَّة من المحدثين والفقهاء من أمثال: الحافظ عبد الغني المقدسي (ت 600هـ) ، وابن الأثير (ت 606 هـ) ، والضياء المقدسى (ت 643 هـ) ، والحافظ المنذري (ت 656 هـ) ، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام (ت.66 هـ) وغيرهم. ثم تُوجَت هذه النهضة العلمية بصلب عودها وبلوغ ذروتها على يد شيخ الإسلام الحافظ أبي العباس ابن تيمية (ت 728هـ) وتلامذته مثل: المزي (ت 742 هـ) ، وابن القيم (ت 751 هـ) ، وعلم الدين البرزالي (ت 739 هـ) ، وشمس الدين الذهبي (ت 748 هـ) ، ثم الحافظ أبو الفداء ابن كثير (ت 774 هـ) ، والحافظ ابن رجب الحنبلي (ت هـ79 هـ) ، ثم حمل الراية من بعدهم الحافظ العراقي (ت 806 هـ) ومدرسته من أمثال: أبو بكر الهيثمي (ت 807 هـ) ، ثم البوصيري (ت 840 هـ) ، والحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) وغيرهم. فقد أحيا هؤلاء الأعلام – كل في عصره وبحسب إمكاناته – السُّنَّة، ونشروا العلم، وبصروا الأمة بواقعها الذي تعيشه، وجددوا لها ما اندرس من أمر دينها في تلك العصور التي أحلكت فيها الظلمة على الأمة، وابتعد كثير من الناس عن نور النبوة، فاحتاجوا إلى من يضيء لهم الطريق وينير السبيل. وقد سلك العلماء بعد هذا القرن الخامس الهجري - في مجال خدمة السُّنَّة المطهرة وعلومها - مسالك شتى في مصنفاتهم ويبرز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ذلك من خلال الأعمال التالية:- 1- العناية التامة بكتب السلف، رواية ودراسة وشرحاً وترجمة لرجالها. 2- العناية بعلوم الحديث تأليفاً وترتيباً وتهذيباً، وفي هذا القرن كثرت كتب المصطلح المرتبة المهذبة شرحاً ونظماً. 3- الابتكار في التصنيف والعناية بالترتيب، حيث ظهرت أنواع جديدة من المصنفات منها: أ- إعادة ترتيب كتب السابقين سواء في المتون أو في الرجال ليسهل الانتفاع بها. ب- كتب اعتنت بجمع أحاديث موضوعات معينة محدودة مثل: كتب الموضوعات وكتب الأحكام وغيرها. ج- كتب اعتنت بخدمة كتب أخرى أو حوت موضوعات عامة وشاملة مثل: كتب التخريج، وكتب الزوائد وغيرها. ثانياً: ما قام به بعض الولاة والحكام من إحياء السُّنَّة وقمع البدعة وإحياء فريضة الجهاد ضد أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين الباطنين ومن هولاء: كمشتكين بن دانشمند (ت 499هـ) بطل الإنتصارات الأولى على الصليبين، ثم عماد الدين زنكي (ت 540 هـ) ، وابنه نور الدين محمود الشهيد بن زنكي (ت 569 هـ) ، وقد كان لنور الدين هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 جهود كبيرة في إحياء السُّنَّة ونشر العدل بين الناس وتقريب العلماء وتكريم الصالحين. وكان من آثار جهوده بروز القائد صلاح الدين الأيوبي (ت 589 هـ) الذي كسر الله على يده شوكة الصليبين في حطين وفتح على يديه بيت المقدس، كما أزال على يديه دولة الباطنيين العبيديين، ومحا مذهبهم الرافضي الباطني الذي حاولوا نشره بين المسلمين عن طريق الأزهر الذي أسسوه لهذا الغرض بعد دخولهم مصر بعد منتصف القرن الرابع الهجري. وكذلك الملك المظفر قطز بن عبد الله (ت 658 هـ) الذي قهر التتار في عين جالوت سنة (658 هـ) وغيرهم من سلاطين الدولتين الأيوبية والمملوكية. ثالثاً: ما كان بين أهل الحل والعقد من أهل السُّنَّة - علماء وأمراء - من تلاحم وتناصح وتواصٍ بالحق والصبر، فقد عرف الأمراء والولاة الذين كانوا ينتهجون منهج أهل السُّنَّة في تلك العصور للعلماء حقهم وحفظوا لهم مكانتهم، ومكنوهم من أداء رسالتهم إلى الأمَّة وتعليمها الهدى والخير. 1 وهذا بعكس ما يفعله الولاة والأمراء من أصحاب الأهواء والبدع من محاربة العلماء والتضييق عليهم، ومنعهم من أداء رسالتهم؛ لأنهم يعلمون أنهم لا يمكن أن ينفذوا مآربهم ومآرب أسيادهم من   1 انظر مثالاً على ذلك: ما فعله الملك الناصر محمد بن قلاوون مع شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن اتضح له أمره وأنه كان مظلوماً من خصومه، فأخرجه من سجن الاسكندرية سنة 709 هـ، واستقدمه إلى القاهرة، وأكرمه وطلب منه المكث عندهم لنشر العلم ودعوة الناس. انظر: العقود الدرية لابن عبد الهادي ص: 184، البداية والنهاية لابن كثير 14 / 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 أعداء المسلمين إلا بنشر الجهل في الأمة، وتفشي الأمِّيَّة في المجتمع، وبذلك تنشأ الأمة جاهلة بدينها وبرسالتها في هذه الحياة، وغارقة في شهواتها وطلب معاشها، فتنشغل بذلك عما يدبره لها حكامها وأسيادهم. كما عرف العلماء – أيضاً - للولاة والأمراء – بِرَّهم وفاجرهم - حقهم من السمع والطاعة والنصيحة لهم، وتبيين الحق لهم، وجمع الكلمة عليهم، وعدم جواز الخروج عليهم ما لم يفعلوا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان. 1   1 ومن الأمثلة على ذلك: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – من نائب السلطان في دمشق جمال الدين الأفرم وإعادته إلى ولايته بعد أن كان قد هرب أمام التتار قبل موقعة شقحب سنة 702 هـ، فتولى شيخ الإسلام السلطة في دمشق هو وتلاميذه بعد انتصارهم على التتار في شقحب، وأقام الحدود وأراق الخمور، وجبى الزكاة، ووضع المكوس، ثم استدعى نائب السلطان الأمير جمال الدين الأفرم وسلَّمه السلطة، وتفرغ هو لدعوته وجهاده – رحمه الله -، وإن شئت فانظر رسالته إلى السلطان الملك الناصر بن قلاوون في "العقود الدرية" لابن عبد الهادي ص: 123 وغير ذلك كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الفصل الأول: كتب في موضوعات خاصة ومحدودة أولاً:- كتب الموضوعات: تعريفها: هي الكتب التي تجمع الأحاديث الموضوعة المكذوبة مع بيان وضعها، ومن وضعها غالباً وهي في الغالب مرتبة على الكتب والأبواب. 1 اعتنى السلف فيما اعتنوا به بيان الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والنهي عن روايتها وكشف أحوال الكذابين، والتحذير من الاستماع إليهم، أو الرواية عنهم، لكن هذا كله كان فيما قبل القرن الخامس منثوراً ومفرقاً في كتب الرجال والعلل وغيرها مثل: 1- العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد (ت 241 هـ) . 2- التاريخ للحافظ ابن معين (ت 233 هـ) . 3- الكامل للحافظ ابن عدي (ت هـ 5 36 هـ) .   1 الحديث الموضوع هو: المختلق المصنوع المكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحرم روايته إلا مع بيان وضعه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" رواه مسلم في مقدمة صحيحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 4- الضعفاء للعقيلي (ت 322 هـ) وغيرها. ثم قام العلماء من بعد القرن الخامس بجمع ما تفرق وتأليف ما تناثر من ذلك في كتاب واحد. ومن أهم المؤلفات في هذا المجال: 1- الموضوعات لأبي سعيد محمد بن علي بن عمرو النقاش الأصبهاني (ت 414 هـ) لم يطبع فيما أعلم. 2- تذكرة الموضوعات لأبي الفضل محمد بن طاهر المعروف بابن القيسراني (ت 507 هـ) وهو مطبوع. 3- الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير للحسين بن إبراهيم الجورقاني (ت 543 هـ) وهو مطبوع. 4- الموضوعات للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ) وهو مطبوع. هـ- العقيدة الصحيحة في الموضوعات الصريحة لأبي حفص عمر ابن بدر الموصلي (ت 622 هـ) لم يطبع فيما أعلم. 6- الموضوعات لأبى الفضل الحسن بن محمد بن الحسن الصغاني (ت 650) مطبوع. 7- أحاديث القُصَّاص لشيخ الاسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) مطبوع. 8- اللآليء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة لجلال الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 السيوطى (ت 911 هـ) مطبوع. 9- النكت البديعات في الأحاديث الموضوعات للسيوطى – أيضاً – وهو تعقبات على ابن الجوزي في كتابه "الموضوعات"، طبع في الهند قديماً. 10- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة لمحمد بن يوسف بن علي الشامى صاحب السيرة الحلبية (ت 942 هـ) لم يطبع فيما أعلم، والله أعلم. 11- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الآخبار الشنيعة الموضوعة لابن عراق على بن محمد الكنانى (ت 963 هـ) مطبوع. 12- تذكرة الموضوعات لمحمد بن طاهر الفتني (ت 986) ، وهو مطبوع. 13- الأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة تأليف ملا علي القاري (ت 1014 هـ) وهو مطبوع. 14- المصنوع في معرفة الحديث الموضوع وهو أيضاً من تأليف ملا علي قاري، مطبوع. 15- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة تأليف محمد بن علي الشوكاني (ت 1255 هـ) ، مطبوع. 1 دراسة موجزة لأحد كتب الموضوعات:   1 ذكر الدكتور عبد الرحمن الفريوائي في مقدمة تحقيقه لكتاب "الأباطيل" للجورقاني 1 / 23 – 27 ستة وثلاثين مؤلفاً في الموضوعات، واكتفيت هنا بذكر أهمِّها وأشهرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وهو كتاب: الموضوعات للحافظ ابن الجوزي. المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزى المولود سنة (510 هـ) والمتوفى سنة (597 هـ) . 1 موضوع الكتاب: جمع الأحاديث المكذوبة المصنوعة مع بيان حالها وحال من اتُّهم بوضعها، مرتباً على الكتب والأبواب. قال المؤلف - رحمه الله - في المقدمة: "أما بعد، فإن بعض طلاب الحديث ألحَّ عليَّ أن أجمع له الأحاديث الموضوعة، وأعرفه من أيِّ طريق يعلم أنها موضوعة، فرأيت أن إسعاف الطالب للعلم بمطلوبه يتعين خصوصاً عند قلة طلاب العلم، لا سيما علم النقل، فإنه قد أعرض عنه بالكلية، وكثير من القصاص يروون الموضوعات، وخلقاً من الزهاد يتعبدون بها وهأنا أقدم قبل الشروع في المطلوب فصولاً تكون لذلك أصولاً والله الموفق". 2 منهج ابن الجوزي في كتاب الموضوعات: قدم لكتابه - رحمه الله - بمقدمة نفيسة وقد اشتمل على: 1- فصول هامة هي: أ) فضل هذه الأمة ومنزلتها.   1 انظر ترجمته مفصلة في: سير أعلام النبلاء 21 / 365 – 384. 2 ابن الجوزي: كتاب الموضوعات 1 / 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ب) فضل العلماء السابقين. ج) ثم ذكر أقسام الحديث فجعلها ستة أعلاها الصحيح المتفق عليه وأدناها الموضوع. د) تكلم عن أقسام الوضاعين وفصل القول عن كل قسم. 2- التمهيد لأحاديث الكتاب بأربعة أبواب: الأول: في ذم الكذب. الثانى: في قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" حيث أطنب في ذكر طرقه وعدد من رواه. الثالث: في الأمر بانتقاد الرجال، والتحذير من الرواية عن الكذابين والمجهولين. والباب الرابع: موضوع الكتاب، وهو الأحاديث الموضوعة مرتبة على الكتب والأبواب الفقهية وقد حوى كتابه خمسين كتاباً. 1 قال - رحمه الله - في مقدمته: "فأنا أرتب هذا الكتاب كتباً تشتمل على أبواب، فأذكرها على ترتيب الكتب المصنفة في الفقه ليسهل الطلب على طالب الحديث، وأذكر كل حديث بإسناده وأبيِّن علَّته والمتهم به، تنزيهاً لشريعتنا عن المحال، وتحذيراً من العمل بما ليس بمشروع". 2   1 ابن الجوزي: كتاب الموضوعات 1 / 53 – 104. 2 ابن الجوزي: الموضوعات 1 / 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 آراء العلماء في كتاب "الموضوعات" لابن الجوزي: قال السيوطي: "وقد نبَّه الحفاظ قديماً وحديثاً على أن فيه تساهلاً كثيراً وأحاديث ليست بموضوعة بل هي من وادي الضعيف، وفيه أحاديث حسان وأخرى صحاح، بل وفيه حديث من صحيح مسلم نبَّه عليه الحافظ ابن حجر، ثم قال: "إن تساهله وتساهل الحاكم أعدم النفع بكتابيهما. 1 وقال السيوطي في آخر "التعقبات": "هذا آخر ما أوردته في هذا الكتاب من الأحاديث المتعقبة التي لا سبيل إلى إدراجها في سلك الموضوعات وعددها نحو ثلاثمائة حديث، منها حديث في مسلم، وحديث في البخاري برواية حماد بن شاكر، وفي "مسند أحمد" ثلانون حديثاً، وفي النسائي عشرة، وفي ابن ماجه ثلاثون حديثاً، وفي "المستدرك" ستون حديثاً".   1 جلال الدين السيوطي: تدريب الراوي 1 / 278 – 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ثانياً: كتب الأحكام: تعريفها: هى في اصطلاح المحدثين: الكتب التي اشتملت على أحاديث الأحكام فقط، وهي أحاديث انتقاها مؤلفوا هذه الكتب من المصنفات الحديثية الأصول، ورتبوها على أبواب الفقه. وهي كثيرة ومن أشهرها ما يلي: 1- الأحكام الكبرى لأبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأشبيلى المعروف بابن الخراط (ت 581 هـ) ، وتقع في ست مجلدات. 2- الأحكام الوسطى لعبد الحق الأشبيلي – أيضاً - وتقع في مجلدين، ذكر في خطبتها أن سكوته عن الحديث دليل على صحته. وقد وضع عليه الحافظ الناقد أبو الحسن علي بن محمد بن القطان (ت 628 هـ) كتابه "بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام". 1 3- الأحكام الصغرى له أيضاً ذكر في خطبتها أنه تخيرها صحيحة الإسناد معروفة عند النقاد، تقع في مجلد واحد، وعليها شرح لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق (ت 781 هـ) . 2 4- عمدة الأحكام عن سيد الأنام تأليف تقي الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الجماعيلى (ت 600 هـ) ، ويقع في جزئين وهو مطبوع، وقد شرحه الحافظ ابن دقيق العيد (ت 702 هـ)   1 وقد طبع: "بيان الوهم والإيهام" في ست مجلدات. 2 عن هذه الكتب الثلاثة، راجع: الرسالة المستطرفة للكتاني ص: 178 – 179 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 في كتابه: "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" 1 طبع في مجلدين. كما شرحه أيضاً الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق، والحافظ سراج الدين ابن الملقن (ت 804 هـ) ، وكذلك شرحه أيضاً الفيروزآبادي (ت 817 هـ) صاحب "القاموس" 2، وهذه الشروح لا أعلم أنها مطبوعة إلى الآن، والله أعلم. وشرحه الشيخ عبدا لله بن عبد الرحمن البسام - عضو هيئة التمييز بمكة المكرمة - في كتابه "تيسير العلام شرح عمدة الأحكام" وهو مطبوع. 5- الأحكام الكبرى لمجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحرانى (ت 653 هـ) ، قال عنه الحافظ ابن رجب في ترجمته من "ذيل طبقات الحنابلة": "يقع في عدة مجلدات". 3 6- المنتقى من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم لمجد الدين ابن تيمية – أيضاً - وهو مختصر من "الأحكام الكبرى" كما نص على ذلك الحافظ ابن رجب في ترجمة المجد من "ذيل طبقات الحنابلة" 4، وهو مطبوع. وقد اعتنى بشرحه كثير من العلماء منهم: الإمام محمد بن أحمد   1 وللعلامة الأمير الصنعاني شرحٌ عليه سمَّاه: "العدَّة" وهو مطبوع في أربع مجلدات. 2 الكتاني: الرسالة المستطرفة ص: 180، المباركفوري: مقدمة تحفة الأحوذي ص: 134 الفصل الثلاثون، وذكر المباركفوري شروحاً أخرى كثيرة. 3 2 / 249 من الذيل، ترجمة رقم 359. 4 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بن عبد الهادي المقدسي (ت 744 هـ) ، وكذلك شرحه العلامة سراج الدين عمر بن علي بن الملقن (ت 804 هـ) ، لكنه لم يتمه، وشرحه أيضاً أبو العباس أحمد بن المحسن القاضي الحنبلي (ت 771 هـ) ولم يتمه أيضاً، ثم شرحه القاضي محمد بن على الشوكانى (ت 1255 هـ) وسمَّاه: "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار" وهو مطبوع اعتمد مؤلفه في شرحه كثيراً على "فتح الباري" في المسائل الفقهية، وعلى "التلخيص الحبير" في تخريج الأحاديث. 7- الإلمام في بيان أدلة الأحكام للعز بن عبد السلام (ت 660 هـ) ، حققه الدكتور علي بن محمد الشريف بجامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية، وذلك عام (1404 هـ) . 1 8- الإلمام في أحاديث الأحكام لتقى الدين أبي الفتح محمد بن دقيق العيد (ت 702 هـ) مطبوع. قال حاجي خليفة: "جمع فيه متون الأحاديث المتعلقة بالأحكام مجردة من الأسانيد، ثم شرحه وبرع فيه وسمَّاه: "الإمام"، قيل: إنه لم يؤلف في هذا النوع أعظم منه لما فيه من الفوائد والاستنباطات لكنه لم يكمله، وذكر البقاعى في "حاشيته على الألفية" 2 أنه أكمله، ثم لم يوجد منه بعد وفاته إلا القليل، ولو بقى لأغنى الناس عن تطلب كثير من الشروح". 3 وللحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي (ت 842 هـ) شرح كتاب الإلمام.   1 انظر: المحرر لابن عبد الهادي 1 / 64 من مقدمة المحقِّق. 2 المعروف النكت الوفية/القسم الرابع ص462 بتحقيق جمعان الزهراني. 3 حاجي خليفة: كشف الظنون 1 / 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 9- المحرر في أحاديث الأحكام للحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي المعروف بابن عبد الهادي (ت 744 هـ) ، وهو مختصر من كتاب "الإلمام" لابن دقيق العيد 1 وهو مطبوع. 10- تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد لزين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت 806 هـ) ، وهو مطبوع وقد شرحه المؤلف في كتابه "طرح التثريب في شرح التقريب" وتوفي رحمه الله قبل أن يتمه، فأتمَّه ابنه ولي الدين أحمد بن عبد الرحيم العراقي (ت 826 هـ) 11- بلوغ المرام من أحاديث الأحكام للحافظ أبي الفضل شهاب الدين ابن حجر العسقلانى (ت 852 هـ) ، وقد جمع فيه المؤلف الأحاديث التي استنبط الفقهاء منها الأحكام الفقهية، مبيناً عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة، موضحاً درجة الحديث من حيث الصحة والضعف، مرتباً على الأبواب الفقهية، ثم ضم إليه في آخره قسماً مهماً في أحاديث الآداب والأخلاق والذكر والدعاء، وقد بلغت أحاديثه حوالي (1596) حديثاً تقريباً. وقد شرحه كثيرون منهم: شرف الدين الحسين بن محمد   1 ابن عبد الهادي: المحرر 1، 69 من مقدمة المحقق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 المغربي وهو شرح واسع سمَّاه "بدر التمام". وكذلك شرحه الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت 1182 هـ) في كتابه "سبل السلام"، وهو اختصار لكتاب الحسين المغربي. وكذلك شرحه نور الحسين خان بن صديق حسن خان (ت 1307 هـ) . 1   1 المباركفوري: مقدمة تحفة الأحوذي ص: 132 الفصل الثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ثالثاً: كتب غريب الحديث: هذا النوع من التأليف ظهر مبكراً - من مطلع القرن الثالث - ونظراً لأنه منذ ظهرت كتب الغريب لم يخل قرن من التأليف فيها كما يلاحظ ذلك في وفيات مؤلفيها، والتأليف فيها لم يزل ينمو ويتطور، ولم يبلغ نضوجه إلا بعد القرن الخامس الهجري، لذلك كله أخَّرت الكلام عنها إلى هذا الموضع، والله من وراء القصد. والمراد بكتب الغريب تلك التي تجمع الكلمات الغريية أو الغامضة المعنى – سواء - من القرآن أو من الحديث لتفسيرها وشرح المشكل من معانيها. قال أبو سليمان الخطابي: "الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد من الفهم، كالغريب من الناس إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل، ومنه قولك للرجل إذا نحيته أو أقصيته: أغرب عني: أى أبعد. ثم إن الغريب من الكلام على وجهين: أحدهما: أن يراد به بعيد المعنى غامضه، لا يتناوله الفهم إلا عن بُعْد ومعاناة فكر. والوجه الآخر: أن يراد به كلام من بعدت به الدار ونأى به المحل من شواذ قبائل العرب، فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربناها، وإنما هو كلام القوم وبيانهم، وعلى هذا ما جاء عن بعضهم وقال له قائل: أسألك عن حرف من الغريب، فقال: هو كلام القوم، إنما الغريب أنت وأمثالك من الدخلاء فيه". 1   1 الخطابي أبو سليمان حمد: مقدمة كتابه الغريب 1 / 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وقال الحافظ ابن الصلاح: "غريب الحديث: هو عبارة عما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة البعيدة من الفهم لقلة استعمالها". ثم قال: "هذا فن مهم يقبح جهله بأهل الحديث خاصة، ثم بأهل العلم عامة، والخوض فيه ليس بالهين، والخائض فيه حقيق بالتحري جدير بالتوقي". 1 وقال الحافظ السيوطي: "وقد أكثر العلماء التصنيف فيه، قيل: أول من صنَّفه النضر، ثم الأصمعي، وكتبهم صغيرة قليلة، وألَّف بعدهم أبو عبيد القاسم بن سلام كتابه المشهور، فاستقصى وأجاد". 2 من أشهر المصنفات في غريب الحديث: 1- غريب الحديث لأبى عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ) مطبوع في أربع مجلدات. 2- غريب الحديث لمحمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي (ت 231 هـ) لم يطبع فيما أعلم. 3- غريب الحديث لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 هـ) ، وهو ذيل واستدراك على كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام، طبع في ثلاث مجلدات. 4- غريب الحديث لأبي اسحاق ابراهيم بن اسحاق الحربي   1 أبو عمرو ابن الصلاح: علوم الحديث ص: 245. 2 انظر: تدريب الراوي للسيوطي 2 / 184 – 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 (ت هـ28 هـ) طبع منه المجلد الخامس فقط، والباقى مفقود فيما أعلم. قال الكتانى: "وهو كتاب حافل، أطاله بالأسانيد وسياق المتون بتمامها، ولو لم يكن في المتن من الغريب إلا كلمة واحدة، فهجر لذلك كتابه مع كثرة فوائده وجلالة مؤلفه". 1 5- غريب الحديث لأبي سليمان حمد - بسكون الميم - الخطابي (ت 388 هـ) مطبوع في ثلاث مجلدات، وهو ذيل على أبي عبيد وابن قتيبة، تتبع ما فاتهما ونبه على أغاليط لهما. 6- الغريبين - غريب القرآن والحديث - لأبى عبيد أحمد بن محمد الهروي (ت 401 هـ) طبع منه المجلد الأول، وهو مرتب على حروف المعجم ترتيباً دقيقاً، استفاد فيه كثيراً من كتاب شيخه أبي منصور الأزهري "تهذيب اللغة". 7- ولأبى موسى محمد بن أبي بكر المديني الأصبهاني (ت 581 هـ) ذيل عليه سمَّاه: "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" وهو مطبوع. 8- الفائق في غريب الحديث لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري المعتزلي (ت 538 هـ) وهو مطبوع. 9- غريب الحديث لأبي الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ) مطبوع.   1 انظر: الرسالة المستطرفة ص: 155 – 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 10- " النهاية في غريب الحديث " لمجد الدين المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير (ت 606 هـ) طبع في خمس مجلدات بتحقيق الدكتور محمود الطناحي. وهناك كتب أخرى في الغريب كـ "الدلائل" لأبي محمد القاسم بن ثابت السرقسطي الفقيه المحدث وغيره. 1 نماذج من كتب الغريب: سأكتفي بعرضٍ موجزٍ لكتابين من أهم كتب الغريب أولهما يمثل منهج المتقدمين في التصنيف في هذا الفن، وهو "غريب الحديث" لأبى عبيد القاسم بن سلام، وثانيهما يمثل منهج المتأخرين وكيف تطور التدوين في هذا الفن، وهو كتاب "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير - رحم الله الجميع -. الأول: كتاب أبي عبيد: "غريب الحديث" المؤلف: أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله الحافظ الإمام المجتهد، ولد سنة (156 هـ) وتوفي بمكة سنة (224 هـ) . 2 موضوعه: شرح الكلمات الغريبة المعنى الغامضة الفهم، الواردة في الأحاديث النبوية.   1 انظر: تدريب الراوي 2 / 185 – 186، الرسالة المستطرفة ص: 154 – 158، مقدمة تحفة الأحوذي، الفصل الثامن والعشرون ص: 111 – 112. 2 انظر ترجمة أبي عبيد في: سير أعلام النبلاء 10 / 490 – 509 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 منهج أبي عبيد في كتاب الغريب: 1- رتب كتابه على المسانيد، وساق الأحاديث بأسانيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عقب على كل حديث بشرح غريبه موضحاً المعنى مع الاستشهاد لما فسرها به من القرآن والحديث ومن كلام العرب وشعرهم. 2- قال الخطابي - بعد أن ذكر كتب الغريب -: "ثم إنه ليس لواحد من هذه الكتب التي ذكرناها أن يكون شيء منها على منهاج كتاب أبي عبيد في بيان اللفظ وصحة المعنى وجودة الاستنباط وكثرة الفقه". 1 3- على الرغم من جودة كتاب أبي عبيد وسعة معلوماته وكثرة فوائده إلا أن في الوقوف على الفائدة منه عسر ومشقة، نظراً لترتيبه على المسانيد، وفي المسانيد ما فيها من صعوبة الوقوف على الحديث فيها. 2 مكانة كتاب أبي عبيد: قال أبو عبيد: "كنت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة، وربما استفيد الفائدة من أفواه الرجال فأضعها في الكتاب، فأبيت   1 انظر: مقدمة الخطابي لكتابه الغريب 1/47-50. 2 طبع كتاب أبي عبيد في حيدر آباد في أربع مجلدات، وقد حصل في هذه الطبعة خلل من جهتين: الأولى: أنه طبع على نسخة غير مسندة، وهذا فوَّت فوائد كثيرة تحصل بمعرفة أسانيد المؤلف رحمه الله، والثانية: أن هذه الطبعة كانت غفلاً من أية فهارس لتيسير الاستفادة من الكتاب مع عسر ومشقة ترتيبه، لكن الله تعالى يسر للدكتور محمود الطناحي أن وضع فهارس علمية مفيدة لهذه الطبعة، وقد نشرت هذه الفهارس في العدد الرابع من مجلة البحث العلمي بجامعة أم القرى لعام 1401 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة". 1 قال الخطابي: "فكان أول من سبق إليه - الغريب – ودلَّ من بعده عليه: أبو عبيد ابن سلام، فإنه قد انتظم بتصنيفه عامة ما يحتاج إلى تفسير من مشاهير غريب الحديث، فصار كتابه إماماً لأهل الحديث به يتذاكرون وإليه يتحاكمون". 2 وقال أحمد بن يوسف: "لما عمل أبو عبيد كتابه "الغريب" عُرض على عبد الله بن طاهر، فاستحسنه وقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب لحقيقٌ أن لا يحوج إلى طلب المعاش، فأجرى له عشرة آلف درهم في الشهر". 3 الثاني: كتاب "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير المؤلف: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير (ت 606 هـ) صاحب التصانيف الكثيرة. 4 منهج ابن الأثير في كتاب "النهاية في غريب الحديث والأثر". 1- رتبه على حروف المعجم ترتيباً دقيقاً، معتبراً أصل الكلمة الثلاثي، وقد حوى كتابه علماً غزيراً، ويعتبر أجمع كتاب في غريب الحديث والأثر.   1 تاريخ بغداد 12 /407، وسير أعلام النبلاء 10 / 496. 2 انظر: مقدمة الخطابي لكتابه الغريب 1 / 47 – 50. 3 انظر: ترجمة أبي عبيد في سير أعلام النبلاء 10 / 490 – 509. 4 انظر: سير أعلام النبلاء 21 / 488 – 491. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 2- قال المؤلف - رحمه الله -: "ولما وقفت على كتابه -يعني أبا موسى المديني - الذي جعله مكملاً لكتاب الهروي ومتمماً له، وهو في غاية من الحسن والكمال، وكان الإنسان إذا أراد كلمة غريبة يحتاج إلى أن يتطلبها في أحد الكتابين فإن وجدها فيه وإلا طلبها من الكتاب الآخر، وهما كتابان كبيران ذوا مجلدات عدة، ولا خفاء بما في ذلك من الكلفة، فرأيت أن أجمع ما فيها من غريب الحديث مجرداً من غريب القرآن" إلى أن قال: "وجعلت على ما فيه من كتاب الهروي هاء بالحمرة، وعلى ما فيه من كتاب أبي موسى سيناً، وما أضفته من غيرهما مهملاً بغير علامة، ليتميز ما فيهما على ما ليس فيهما، وجميع ما في هذا الكتاب من غريب الحديث والآثار ينقسم قسمين: أحدهما: مضاف إلى مسمى. والآخر: غير مضاف، فما كان غير مضاف، فإن أكثره والغالب عليه من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الشيء القليل الذي لا تعرف حقيقته، هل هو من حديثه أو غيره، وقد نبهنا عليه في مواضعه، وأما ما كان مضافاً إلى مسمى، فلا يخلو إما أن يكون ذلك المسمى هو صاحب الحديث واللفظ له، وإما أن يكون راوياً للحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره، وأما أن يكون سبباً في ذكر ذلك الحديث أضيف إليه، وإما أن يكون له فيه ذكر عرف الحديث به واشتهر بالنسبة إليه وقد سمَّيته "النهاية في غريب الحديث والأثر". 1   1 ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 1 / 10 – 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 3- قال الحافظ السيوطي: "وهو أحسن كتب الغريب وأجمعها وأشهرها وأكثرها تداولاً". 1   1 السيوطي: تدريب الراوي 2 / 185 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الفصل الثاني: كتب في موضوعات عامة وشاملة أولاً: كتب الأطراف: تعريفها: هى الكتب التي يقتصر فيها على ذكر طرف الحديث الدال على بقيته مع الجمع لأسانيده، إما على سبيل الاستيعاب أو على جهة التقيد بكتب مخصوصة 1 كأطراف الصحيحين لأبي مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقى المتوفى سنَة (401 هـ) . وأطرافها أيضاً لأبى محمد خلف بن على بن حمدون الواسطى (ت 401 هـ) . 2 من أهم كتب الأطراف 3: 1- أطراف الكتب الخمسة - الصحيحين والسنن ما عدا ابن ماجه - لأبي العباس أحمد بن ثابت بن محمد الطرقي الحافظ. 2- أطراف الكتب الستة - الصحيحين والسنن – للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسراني (ت 507 هـ) .   1 انظر: تدريب الراوي 2 / 155. 2 الكتاني: الرسالة المستطرفة ص: 167 – 168. 3 لمزيد من التفاصيل راجع: الكتاني: الرسالة المستطرفة ص: 167 – 170 المباركفوري: مقدمة تحفة الأحوذي ص: 37 – 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 3- أطراف غرائب الأفراد للدار قطني تأليف ابن القيسراني – أيضاً – وهو تحت التحقيق في جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية. 4- الإشراف على معرفة الأطراف - أطراف السنن الأربعة - لأبي القاسم علي بن حسن بن هبة الله الحافظ المعروف بابن عساكر الدمشقى صاحب "تاريخ دمشق"، المشهور (ت 571 هـ) لم يطبع فيما أعلم. 5- تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للحافظ الحجة جمال الدين أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي صاحب "تهذيب الكمال" (ت 742 هـ) وهو مطبوع في أربعة عشر مجلداً. 6- الإطراف بأوهام الأطراف لولي الدين أحمد بن عبد الرحيم العراقي (ت 826 هـ) مطبوع، وهو عبارة عن بعض الأوهام وقع فيها المزي في كتابه، جمعها ولي الدين من ملحوظات والده وزاد عليها بعض ملحوظاته. 7- النكت الظراف على الأطراف للحافظ ابن حجر، وهو عبارة عن بعض التعليقات والاستدراكات على كتاب المزي، وهو مطبوع على هامش المزي. 8- الكشاف في معرفة الأطراف للحافظ شمس الدين محمد بن علي بن الحسن الحسيني الدمشقي (ت هـ76 هـ) لم يطبع فيما أعلم. 9- الإشراف على الأطراف للحافظ سراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن الملقن (ت 804 هـ) لم يطبع فيما أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 10- إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة للحافظ ابن حجر (ت 852 هـ) والكتب العشرة هي: 1- موطأ مالك. 2- مسند الشافعي. 3- مسند الإمام أحمد. 4- مسند الدارمى. 5- صحيح ابن خزيمة. 6- صحيح ابن حبان. 7- منتقى ابن الجارود. 8- المستدرك للحاكم.9- مستخرج أبي عوانة. 10- شرح معانى الآثار للطحاوي. 11- سنن الدارقطني. وإنما زاد العدد واحداً لأن "صحيح ابن خزيمة" لم يوجد منه سوى قدر ربعه، كما نبه على ذلك الحافظ في مقدمة كتابه، وقد تمَّ تحقيقه في مركز خدمة السُّنَّة والسيرة النبوية بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. 11- أطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي لابن حجر أيضاً، وقد طبع بتحقيق الدكتور زهير الناصر. 12- أطراف مسند الفردوس للحافظ ابن حجر أيضاً، ولم يطبع فيما أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 دراسة موجزة لنموذج من كتب الأطراف: وهو "تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف" للحافظ المزي. المؤلف: هو الحافظ الناقد أبو الحجاج جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي المولود سنة (654 هـ) والمتوفى سنة (742 هـ) صاحب المصنفات الشهيرة. 1 موضوع كتابه: إعادة ترتيب أحاديث الكتب الستة وبعض لواحقها على الأطراف. منهج المزي في هذا الكتاب 2: 1- قسم المؤلف - رحمه الله - جميع أحاديث الكتب الستة مسندها ومرسلها وعددها (19595) حديثاً مع المكرر إلى (1395) مسنداً منها: (995) منسوباً إلى الصحابة رجالاً ونساء رضوان الله عليهم. مرتباً أسماءهم على حروف المعجم - عن النبي صلى الله عليه وسلم - والباقى من المراسيل وعددها (450) حديثاً منسوباً إلى أئمة التابعين، ومن بعدهم على نسق حروف المعجم أيضاً.   1 انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ 4 / 1498. 2 انظر تفصيل القول عن منهج المزي في كتابه هذا: مقدمة محققه الشيخ عبد الصمد شرف الدين 1 / 13 – 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ومن هذا التقسيم يعرف عدد الأحاديث المروية عن كل صحابى في هذه الكتب. 2- يقسم المؤلف التراجم على حروف المعجم، وله تقسيم آخر لمرويات كل تابعي تحت كل صحابي مكثر إذا كثرت الروايات عن ذلك التابعي، حيث يقسمها على تراجم من يروي عنه من أتباع التابعين وإذا وجد أحد من هؤلاء الأتباع ممن له عدة تلاميذ يروون عنه، قسم مروياته تقسيماً رابعاً على تراجم تبع الأتباع، فيترجم- مثلاً - حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وهكذا. 3- يبدأ كل رواية بلفظة حديث بخط كبير واضح كما في المطبوعة، ثم يكتب رموز من أخرج هذا الحديث فوق لفظة حديث كما في المخطوط، أو قبلها كما في المطبوعة، ومن هذه الرموز: "خ" للبخاري، "م" لمسلم، "د" لأبي داود، "ت" للترمذي، "س" للنسائي، "ق" لابن ماجه القزويني، "خت" للبخارى تعليقاً، "خد" للبخاري في الأدب المفرد، "عخ" خلق أفعال العباد للبخارى، "مد" المراسيل لأبى داود، "قد" كتاب القدر لأبى داود، "تم" الشمائل للترمذي، "سي" عمل اليوم والليلة للنسائى. إلى آخره. وقاعدته - رحمه الله - في سياق مرويات كل صحابي أنه يقدم من حديثه ما كثر عدد مخرجيه على ما قل عددهم فيه، ولا ينظر إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 موضوع الحديث أو لفظه، فما رواه الستة من حديثه مقدم على ما رواه الخمسة وهكذا، ثم بعد قوله: حديث يورد طرفاً من الحديث بقدر ما يكون دالاً على بقيته، وهذا الطرف تارة يكون من قوله صلى الله عليه وسلم، وتارة من قول الصحابي إن كان حديثا فعلياً، أو بالإضافة أحياناً كقوله: حديث العرنيين. 4- بعد فراغ المصنف - رحمه الله - من إيراد طرف الحديث يشرع في بيان أسانيده عند من خرجه على نسق الرموز بها أبتداء الحديث فيذكر الرمز، ثم يتبعه باسم الكتاب الذي ورد فيه ذلك الحديث عن ذلك الصحابي. هكذا (خ: صلاة، عن فلان عن فلان عنه به) ، وإن تكرر الحديث عند المصنف الواحد في أكثر من كتاب ذكر ذلك جميعه بأسانيده عنده كلها. من الفوائد التى اشتمل عليها كتاب المزي 1: 1- معرفة طرق، الحديث عند أصحاب الكتب الستة فيعرف إن كان غريباًأ أو عزيزاً أو مشهوراً وكذلك تعرف المتابعات والشواهد. 2- توضيح ما في الأسانيد من المهملات - كسفيان هل هو الثوري أو ابن عيينة، وحماد هل هو: ابن سلمة أو ابن زيد مثلاً - وكذلك المبهمات. 3- معرفة من أخرج الحديث من أصحاب الدواوين المشهورة ومعرفة موضع تخريجه عند من أخرجه منهم.   1 انظر: تحفة الأشراف للمزي – مقدمة المحقق 1 / 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 4- اختلاف نسخ الكتب الستة، فكثيراً ما تختلف نسخ البخاري وأبي داود والترمذي. بذكر بعض الأحاديث وحذفها والتعليق عليها، فنستفيد من كتاب "الأطراف" للمزى أن هذا الحديث في نسخة فلان وفلان من نسخ البخارى مثلاً، وليس نسخة فلان. وهكذا، وامتازت أطراف المزى على أطراف ابن عساكر بذكر نسخ أبي داود والنسائي وغيرهما، بخلاف ابن عساكر حيث اقتصر على بعض النسخ، فمثلاً اقتصر على نسخة اللؤلؤي لأبي داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ثانياً: كتب التخريج التخريج: هو إخراج المحدِّث الأحاديث من بطون الأجزاء والمشيخات والكتب ونحوها، وسياقها من مرويات نفسه أو بعض شيوخه أو أقرانه ونحو ذلك، والكلام عليها وعزوها لمن رواها من أصحاب الكتب والدواوين. 1 ويطلق التخريج ويراد به الدلالة على مصادر الحديث الأصلية التي أخرجته، وعزوه إليها، ثم بيان مرتبته من الصحة أو الضعف. 2 ولا يشك أحد في فائدة التخريج، إذ لا يسوغ لطالب العلم ولا سيما المتخصص في الحديث أن يروي حديثاً إلا بعد معرفة من أخرجه من الأئمة، ومرتبته من الصحة أو عدمها. تاريخ نشأة التخريج 3: لم يكن العلماء في القديم يحتاجون إليه، وخاصة في القرون الخمسة الأولى لما حباهم الله من الحفظ وسعة الاطلاع على الكتب المسندة التي جمعت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي الحال على ذلك عدة قرون، حتى ضعف الحفظ وقل الاطلاع على   1 فتح المغيث للسخاوي 2 / 338 ط: السلفية بالمدينة. 2 انظر: أصول التخريج للدكتور محمود الطحان ص: 12. 3 المصدر السابق ص: 15 – 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 كتب السُّنَّة ومصادرها الأساسية فصعب على كثير من الناس معرفة مواضع الأحاديث التي استشهد بها المصنفون في علوم الشريعة وغيرها كالفقه والتفسير والتاريخ والسير. عند ذلك نهض بعض العلماء لتخريج أحاديث بعض الكتب المصنفة في غير الحديث كالفقه والتفسير وغيرها، وعزو تلك الأحاديث إلى مصادرها من كتب السُّنَّة الأساسية، وذكروا طرقها وتكلموا على أسانيدها ومتونها بالتصحيح والتضعيف حسب ما تقتضيه القواعد، وعند ذلك ظهر ما يسمى بكتب التخريج، وكان من أوائل تلك الكتب: الكتب التي خرَّج الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) أحاديثها ومن أشهرها: 1- تخريج الفوائد المنتخبة الصحاح والغرائب لأبي القاسم المهرواني. 2- تخريج الفوائد المنتخبة الصحاح الغراثب للشريف أبي القاسم الحسيني. ومن ذلك أيضاً كتاب تخريج أحاديث المهذَّب - في الفقه الشافعي - تخريج محمد بن موسى الحازمي (ت 582 هـ) والمهذَّب من تصنيف أبي إسحاق الشيرازي. ثم تتابعت بعد ذلك كتب التخريج حتى شاعت وكثرت وبلغت عشرات المصنفات، وخاصة في القرنين الثامن والتاسع. وبذلك قدَّم علماء الحديث في القرون المتأخرة خدمة كبيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 لتلك الكتب التي خرجوا أحاديثها، كما قدموا – أيضاً - خدمة جليلة للسنَّة المطهرة، ولطلبة علم الحديث الشريف. من أشهر كتب التخريج: 1- تخريج أحاديث المختصر الكبير لابن الحاجب تصنيف محمد بن عبد الهادي (ت 744 هـ) لم يطبع فيما أعلم. 2- نصب الراية لأحاديث الهداية للمرغيناني تأليف عبد الله بن يوسف الزيلعي (ت 762 هـ) مطبوع. 3- تخريج أحاديث كشاف الزمخشرى للزيلعى أيضاً. 4- البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير للرفاعي تصنيف سراج الدين عمر بن علي بن الملقن (ت 804 هـ) يحقق رسائل جامعية في الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية. 5- المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في إحياء علوم الدين من الأخبار تأليف الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقى (ت 806 هـ) وهو مطبوع بهامش الإحياء. 6- تخريج الأحاديث التي يشير إليها الترمذي في كل باب بقوله: "وفي الباب عن فلان" تصنيف الحافظ العراقي أيضاً، لم يطبع فيما أعلم. 7- التلخيص الحبير تخريج أحاديث الوجيز الكبير للرفاعي تصنيف الحافظ ابن حجر، مطبوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 8- الدراية في تخريج أحاديث الهداية للحافظ ابن حجر أيضاً، مطبوع. 9- تخريج أحاديث الكشاف للحافظ ابن حجر أيضاً، مطبوع بهامش الكشاف. 10- تحفة الراوي في تخريج أحاديث البيضاوي للحافظ عبد الرؤوف المناوي. 11- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل تخريج الشيخ ناصر الدين الألبانى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 دراسة موجزة لنماذج من كتب التخريج سأقتصر على التعريف الموجز بكتابى: "نصب الراية" و "التلخيص الحبير" لأهميتهما، ولأنهما مطبوعان متداولان بين طلبة العلم. الأول: نصب الراية لأحاديث الهداية: المؤلف: أبو محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد الحنفي الزيلعي - رحمه الله – (ت 762 هـ) . 1 موضوع الكتاب: تخريج الأحاديث التي استدل بها العلامة علي بن أبي بكر المرغيناني الحنفى (ت 593 هـ) في كتاب "الهداية" في الفقه الحنفي، وهو من أوسع وأشهر ما وصلنا من كتب التخريج. قال الكتاني: "وهو تخريج نافع جداً، منه استمد من جاء بعده من شرَّاح "الهداية"، بل منه استفاد كثيراً الحافظ ابن حجر في تخريجه، وهو شاهد على تبحره في فن الحديث وأسماء الرجال، وسعة نظره في مرفوع الحديث". 2 منهج الزيلعي في كتابه نصب الراية: 1- رتبه على أبواب الفقه تبعاً للأصل "الهداية" مبتدئاً بكتاب   1 انظر ترجمته في: لحظ الألحاظ ذيل تذكرة الحفاظ لابن فهد المكي ص: 128 – 130. 2 الرسالة المستطرفة ص: 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الطهارة إلى آخر أبواب الفقه. 2- يذكر- رحمه الله - نص الحديث الذي أورده صاحب "الهداية"، ثم يذكر من خرجه من أصحاب كتب السُّنَّة وغيرها مستقصياً طرقه، ومواضعه حسب الامكان. 3- يذكر الأحاديث التي تدعم وتشهد لمعنى الحديث الذى ذكره صاحب "الهداية"، ويذكر من خرجه أيضاً، ويرمز لهذه الأحاديث بأحاديث الباب أي التي للمذهب الحنفي مذهب صاحب "الهداية". 4- إن كانت المسألة خلافية يذكر الأحاديث التي استدل بها العلماء والأئمة المخالفون لما ذهب إليه الأحناف، ويرمز لهذه الأحاديث بأحاديث الخصوم ويذكر من خرجها أيضاً مع بيان علل كل حديث إن وجدت سواء في أحاديث الباب أو في أحاديث الخصوم. وكتاب "نصب الراية" مطبوع في أربع مجلدات. الثاني: التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر: المؤلف: الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المولود سنة (773 هـ) والمتوفى (852 هـ) صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة. 1 اسم الكتاب: التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الوجيز الكبير   1 ترجم الحافظ السخاوي لشيخه الحافظ ابن حجر ترجمة واسعة في كتابه "نظم الدرر في ترجمة الحافظ ابن حجر" طبع أخيراً بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 موضوعه: لخص فيه المؤلف - رحمه الله - كتاب "البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار في الشرح الكبير" لابن الملقن (ت 804 هـ) ، وكتاب "الشرح الكبير" في الفقه الشافعي لأبي القاسم عبد الكريم ابن محمد الرفاعي (ت 623 هـ) شرح فيه كتاب "الوجيز" لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت 505 هـ) . سبب تأليفه: قال الحافظ ابن حجر في مقدمته: "أما بعد: فقد وقفت على تخريج أحاديث "شرح الوجيز" للإمام أبي القاسم الرافعي شكر الله سعيه، لجماعة من المتاخرين منهم القاضي عز الدين بن جماعة، والإمام أبو أمامة ابن النقاش، والعلامة سراج الدين ابن الملقن، والمفتي بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي. وعند كل واحد منهم ما ليس عند الآخر من الفوائد والزوائد، وأوسعها عبارة وأجلها كتاب شيخنا سراج الدين بن الملقن، إلا أنه أطال بالتكرار فجاء في سبع مجلدات، ثم رأيته لخَّصه في مجلدة لطيفة، أخلَّ فيها بكثير من مقاصد المطوَّل وتنبيهاته، فرأيت تلخيصه في قدر ثلث حجمه مع الالتزام بتحصيل مقاصده، فمنَّ الله بذلك، ثم تتبعت عليه الفوائد والزوائد من تخريج المذكورين معه، ومن تخريج أحاديث "الهداية" في فقه الحنفية للإمام جمال الدين الزيلعي، لأنه ينبِّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فيه على ما يحتج به مخالفوه، وأرجو الله إن تمَّ هذا التتبع أن يكون حاوياً لجلِّ ما يستدل به الفقهاء في مصنفاتهم في الفروع، وهذا مقصد جليل والله المسؤل أن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا". 1 منهج الحافظ في كتابه "التلخيص الحبير": أولاً: رتبه على أبواب الفقه تبعاً للأصل "الشرح الكبير". ثانياً: يسوق المؤلف - رحمه الله - النص كما ذكره صاحب الشرح، ثم يشرع في تخريجه مبيناً ما فيه من العلل سنداً ومتناً. ثالثاً: يورد بعده ما يشهد له من المتابعات والشواهد، مبيناً درجة كل حديث غالباً. رابعاً: كثيراً ما يشير إلى أدلة المخالف مع بيان الراجح من الأدلة مبينأ درجة كل حديث صحة وضعفاً. وقد طبع الكتاب في أربعة أجزاء في مجلدين، وطبع بهامش المجموع للنووي أيضاً.   1 انظر: التلخيص الحبير 1 / 21 من مقدمة المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ثالثاً: كتب الزوائد تعريفها: هي الكتب أو المصنفات التي تُعنى بجمع زوائد كتب معينة كالمسانيد والمعاجم على كتب مخصوصة من أمهات كتب الحديث كالكتب الستة ومسند أحمد وصحيح ابن حبان وغيرهما. أهمية كتب الزوائد وفوائدها: 1- إن هذه الكتب تكوِّن موسوعة حديثية إذا ضم بعضها إلى بعض. 2- إن هذه الزوائد تفيد في معرفة المتابعات والشواهد والوقوف على طرق بعض الأحاديث التي لولا كتب الزوائد لما تمكنا من معرفتها إما لضياع أصولها أو لصعوبة الوصول إليها. من هو صاحب فكرة الزوائد يعتبر الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة (806 هـ) هو صاحب فكرة جمع الزوائد ومبتكرها، وإن كان لم يؤلف في ذلك شيئاً فيما أعلم 1، لكنه أشار بذلك على تلاميذه الثلاثة الذين تكونت منهم - ومن أقرانهم - المدرسة الحديثية في آواخر القرن الثامن ومطلع القرن التاسع وهم:   1 استفدت هذا من شيخنا أبي عبد الباري حماد بن محمد الأنصاري، رحمه الله رحمة واسعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 1- الحافظ أبو بكر نور الدين الهيثمي (ت 807 هـ) . 2- الحافظ شهاب الدين أبو العباس البوصيري (ت 840 هـ) . 3- الحافظ أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) . ويعتبر الحافظ الهيثمي أسبق الثلاثة إلى التصنيف في هذا الفن بإشارة شيخه العراقي وقد بدأ ذلك بزوائد "مسند الإمام أحمد" ثم أبي يعلى فالبزار ثم "معاجم الطبراني الثلاثة" جميعها على الكتب الستة المشهورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 من أهم المؤلفات في الزوائد 1: 1- غاية المقصد في زوائد المسند (مسند الإمام أحمد) للهيثمي، يحقق في جامعة أم القرى. 2- كشف الاستار عن زوائد البزار للهيثمى، طبع في أربع مجلدات. 3- المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي للهيثمى، طبع الجزء الأول منه. 4- البدر المنير على زوائد المعجم الكبير للطبراني للهيثمي يحقق في جامعة أم القرى. 5- مجمع البحرين في زوائد المعجمين - الصغير والأوسط - للطبراني 2، تأليف الهيثمي - أيضاً- وهذه المراد بها الزوائد على ما في الكتب الستة. ثم جمع الهيثمى بإشارة من شيخه العراقي – أيضاً - زوائد هذه الكتب الستة - المسانيد والمعجم - في كتاب واحد محذوف الأسانيد سمَّاه: 6- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد وهو مطبوع في عشرة أجزاء. 7- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان للهيثمي، مطبوع في   1 انظر: الرسالة المستطرفة ص: 127 – 129، المقصد العلي 1 / 62 – 72 مقدمة المحقق. 2 قام بتحقيقه الدكتور حافظ بن محمد الحكمي في رسالة الدكتوراه، وقد طبع الجزءان الأول والثاني منه، ثم طُبع كاملاً في ثمان مجلَّدات بتحقيق عبد القدوس بن محمد نذير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 مجلد واحد. 8- بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث للهيثمى، حقق جزء منه في الجامعة الإسلامية بالمدينة. 9- المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر، طبع في أربع مجلدات. 10- زوائد البزار على الكتب الستة ومسند أحمد، تأليف الحافظ ابن حجر. 1 11- إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للحافظ البوصير ى (ت 840 هـ) . 2 12- مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه على الخمسة، للبوصيري – أيضاً -. 3 مقارنة بين ثلاثة كتب من أهم كتب الزوائد 4: الأول: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي (ت 807 هـ) . 1- جمع فيه زوائد ستة كتب – هى مسند أحمد والبزار وأبي   1 يطبع في مركز خدمة السنة والسيرة النبوية بالجامعة الإسلامية بالمدينة، بتحقيق الدكتور عبد الله مراد. 2 وزع على طلبة قسم السنة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة لتحقيقه في مرحلتي الماجستير والدكتوراه. 3 حقق الجزء الأول منه الدكتور عوض الشهري بالجامعة الإسلامية بالمدينة لنيل درجة الدكتوراه، وطبع في عدة أجزاء بدون تحقيق. 4 انظر تفصيل هذه المقارنة في مقدمة رسالة الدكتوراه للدكتور سليمان بن عبد العزيز العريني، وهو الجزء الأول من إتحاف الخيرة للبوصيري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 يعلى ومعاجم الطبراني الثلاثة – على الكتب الستة المعروفة. 2- حذف المؤلف الأسانيد اختصاراً لئلا يطول الكتاب. 3- رتبه - رحمه الله - على الأبواب ترتيباً جديداً بدأه بكتاب الإيمان وختمه بصفة الجنة. 4- يشرح الغريب الوارد في المتون أحياناً. 5- يتكلم على الأحاديث بما يقتضيه حالها صحة وضعفاً، وقد بيَّن منهجه في ذلك في المقدمة فقال: "وما تكلمت عليه من الحديث من تصحيح أو تضعيف، وكان من صحابي واحد، ثم ذكرت له متناً بنحوه، فأنني اكتفيت بالكلام عقب الحديث الأول، إلا أن يكون المتن الثاني أصح من الأول، وإذا روى الحديث الإمام أحمد وغيره فالكلام على رجاله - يعني أحمد - إلا أن يكون إسناد غيره أصح. وإذا كان للحديث إسنادٌ واحدٌ صحيحٌ اكتفيت به من غير نظر إلى بقية الأسانيد وإن كانت ضعيفة، ومن كان من مشايخ الطبراني في "الميزان" للذهبي نبهت على ضعفه، ومن لم يكن في "الميزان" ألحقته بالثقات الذين بعده". 1 الثاني: المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر.   1 الهيثمي: مجمع الزوائد 1 / 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أ- وهذه هي: [1] مسند الطياليسي (ت 204 هـ) . [2] مسند أبي بكر الحميدي (ت 219 هـ) . [3] مسند ابن أبي عمر العدني (ت 243 هـ) . [4] مسند عبد بن حميد الكشي (ت 249 هـ) . [5] مسند مسدد بن مسرهد (ت 228 هـ) . [6] مسند أحمد بن منيع البغوي (ت 244 هـ) . [7] مسند أبي بكر بن أبي شيبة (ت هـ23 هـ) . [8] مسند الحارث بن أبي أسامة (ت 282 هـ) . ب- جمع فيه الحافظ ما زاد من الأحاديث في هذه المسانيد على ما في الأمهات الستة ومسند أحمد. ج- رتبه على الكتب والأبواب الفقهية كما فعل الهيثمى في مجمع الزوائد. د- يذكر الأحاديث بأسانيدها من أصحابها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1 هـ- يحكم المؤلف على الأحاديث أو على أسانيدها أحياناً. و يشرح الكلمات الغريبة أحياناً.   1 للمطالب العالية نسختان خطيتان، الأولى مسندة، والثانية محذوفة الأسانيد وهي المطبوعة المتداولة، ثم طبع الكتاب محققاً على النسخة المسندة في خمس مجلدات، وذلك في دار الوطن بالرياض عام 1418 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ز- قد يصحح غلطاً أو وهماً في الأسانيد، حصل بسبب النساخ. ح- إنه ضم إلى الكتب الستة مسند الإمام أحمد فلم يخرج ما فيه. ط- ذكر المؤلف - رحمه الله - شرطه في مقدمة كتابه فقال: "وشرطي فيه ذكر كل حديث ورد عن صحابي لم يخرجه أصحاب الأصول السبعة 1 من حديثه ولو أخرجوه أو بعضهم من حديث غيره مع التنبيه عليه أحياناً". 2 الثالث: كتاب إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للحافظ البوصيري: أ- المسانيد التي اشتمل على زوائدها هذا الكتاب هى: المسانيد الثمانية المذكورة في المطالب العاليه للحافظ ابن حجر، مضافاً اليها: 1- مسند إسحاق بن راهويه، 2- مسند أبي يعلى الموصلي الكبير. ب- رتبه المؤلف - رحمه الله - على الكتب والأبواب، وترتيبه أقرب إلى ترتيب الهيثمي من ترتيب الحافظ ابن حجر. ج- يذكر الأحاديث مسندة كما صنع الحافظ ابن حجر. د- يتكلم على الأحاديث وأسانيدها بما يقتضيه حالها من صحة أو ضعف أو وصل أو انقطاع، وذلك غالباً.   1 يريد بها: الكتب الستة – الصحيحين والسنن – ومسند الإمام أحمد، رحمهم الله جميعاً. 2 انظر: المطالب العالية 1 / 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 هـ- إذا كان في الأسانيد مدلس أو مختلط أو ضعيف يبينه غالباً و يكثر من التخريج من الكتب التي ذكرها في مقدمته غير المسانيد العشرة، ومن غيرها أيضاً وهذه الميزة امتاز بها كتابه عن سابقيه. ز- يكثر من شرح الغريب. ح- اقتصر على ذكر زوائد المسانيد العشرة على الكتب الستة دون مسند أحمد. ط- يظهر من بعض النصوص أنه ألف كتابه بعد تأليف الحافظ لكتاب "المطالب العالية" إذ كثيراً ما يحيل عليه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 رابعاً: كتب الجوامع تعريفها: الجوامع: جمع جامع، ويراد به في اصطلاح المحدثين: ما يوجد فيه جميع أقسام الحديث: أي أنه يضم أحاديث العقائد، وأحاديت الأحكام وأحاديث الرقائق، وأحاديث الآداب والأحاديث المتعلقة بالتفسير، والأحاديث المتعلقة بالتاريخ والسير، وأحاديث الفتن والملاحم، وأحاديث المناقب والفضائل 1 أما المراد هنا فهو تلك الكتب التي قصد مصنفوها جمع الأحاديث النبويَّة فيها مطلقاً - كالجامع الكبير وكذلك الصغير للسيوطي - أو جمع أحاديث كتب مخصصة 2 - كجامع الأصول لابن الأثير للكتب الستة وجامع المسانيد لابن كثير للكتب العشرة. من أهم كتب الجوامع: 1- بحر الأسانيد في صحيح المسانيد للإمام الرحال الحافظ أبي محمد أحمد السمرقندي (ت 491 هـ) ، قال الحافظ الذهبي: "جمع في هذا الكتاب مائة ألف حديث، وهو ثمان مائة جزء، لو رتب وهذب لم يقع في الإسلام مثله". 3   1 عبد الرحمن المباركفوري: مقدمة تحفة الأحوذي ص: 34 الفصل العاشر. 2 المصدر السابق ص: 40 الفصل الحادي عشر. 3 أبو عبد الله الذهبي: تذكرة الحفاظ 4 / 1230 – 1231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 2- جامع الأصول لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم للحافظ مجد الدين أبو السعادات ابن الأثير (ت 606 هـ) وقد سبق الكلام عنه في الكتب التي جمعت الكتب الستة كلها أو بعضها. 3- جامع المسانيد للحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير الدمشقي المفسر المؤرخ (ت 774 هـ) ، وهو كتاب عظيم جمع فيه مؤلفه أحاديث الكتب العشرة – وهي الستة، ومسند الإمام أحمد، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي، والمعجم الكبير للطبرانى، وقد جهد نفسه كثيراً وتعب فيه تعباً عظيماً، فجاء لا نظير له في العلم وأكمله إلا بعض مسند أبي هريرة، فإنه عوجل بكف بصره ومات قبل أن يكمله، وقال – رحمه الله -: "لا زلت أكتب فيه في الليل والسراج ينونص حتى ذهب بصري معه، ولعل الله أن يقيض له من يكمله مع أنه سهل فإن معجم الطبراني الكبير ليس فيه شيء من مسند أبي هريرة رضي الله عنه". 1 4- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين الهيثمى (ت 807 هـ) تقدم الكلام عليه في كتب الزوائد. 5- إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للحافظ البوصيري (ت 840 هـ) سبق الكلام عنه في كتب الزوائد. 6- إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة للحافظ ابن حجر (ت 852 هـ) سبقت الإشارة إليه عند الكلام   1 المصعد الأحمد لابن الجزري المطبوع في مقدمة مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر، وانظر: الفتح الرباني للساعاتي 1 / 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 عن صحيح ابن خزيمة. 7- الجامع الكبير المعروف بجمع الجوامع للحافظ جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) . قال – رحمه الله - في مقدمته: "هذا كتاب شريف قصدت فيه إلى استيفاء الأحاديث النبوية، وقسمته قسمين: الأول: أسوق فيه لفظ المصطفى صلى الله عليه وسلم بنصه، ثم أتبع متن الحديث بذكر من خرجه من الأئمة أصحاب الكتب المعتبرة، ومن رواه من الصحابة رضوان الله عليهم مرتباً ترتيب اللغة على حرف المعجم مراعياً أول الكلمة فما بعده. والثاني: الأحاديث الفعلية المحضة أو المشتملة على قول أوفعل أو سبب أو مراجعة أو نحو ذلك مرتباً على مسانيد الصحابة - وقد قدم الصحابة العشرة على غيرهم ثم رتب بقيتهم على حروف المعجم - وقد سمَّيته جمع الجوامع". 1 8- الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير للحافظ السيوطي أيضاً: قال في مقدمته: "هذا كتاب أودعت فيه من الكلم النبوية ألوفاً، ومن الحكم المصطفوية صنوفاً، اقتصرت فيه على الأحاديث الوجيزة، ولخصت فيه من معان الأثر إبريزه، وبالغت في تحرير التخريج، فتركت القشر وأخذت اللباب، وصنته عما تفرد به وضاع   1 ق 1 – 2 من المخطوطة المصورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أو كذاب، ففاق بذلك الكتب المؤلفة في هذا النوع ... وحوى من نفائس الصنعة الحديثية مالم يودع في كتاب قبله، ورتبته على حروف المعجم، مراعياً أول حديث فما بعده تسهيلا على الطلاب وسمَّيته: "الجامع الصغير من حديث البشير النذير" لأنه مقتضب من الكتاب الكبير الذى سمَّيته: "جمع الجوامع". 1 9- زيادة الجامع الصغيرللسيوطي أيضاً: قال في خطبة هذه الزيادات: "هذا ذيل على كتابي المسمى ب "الجامع الصغير من حديث البشير الذير" وسمَّيته: "زيادة الجامع"، رمزه كرموزه، والترتيب كالترتيب". 2 10- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال لعلاء الدين علي ابن حسام الدين عبد الملك قاضي خان الهندى الشهير بالمتقي، المتوفى بمكة سنة (985 هـ) . وهو ترتيب لكتب السيوطي الثلاثة – الكبير والصغير وزيادته – على الأبواب الفقهية. 11- الجامع الأزهر من حديث النبي الأنور للحافظ عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي المناوي (ت 1031 هـ) ، قال في مقدمته: "ومن البواعث على تأليف هذا الكتاب أن الحافظ الكبير السيوطي ادعى أنه جمع في كتابه "الجامع الكبير" الأحاديث النبوية،   1 الجامع الصغير ص: 3. 2 انظر: الفتح الكبير ص 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 مع أنه قد فاته الثلث فأكثر، وهذا فيما وصلت إليه أيدينا بمصر، وما لم يصل إلينا أكثر … فاغتر بهذه الدعوى كثير من الأكابر، فصار كل حديث يسأل عنه يراجع الجامع الكبير فإن لم يجده غلب على ظنه أنه لا وجود له، فربما أجاب بأنه لا أصل له، فعظم بذلك الضرر". 1   1 عبد الرؤوف المناوي: الجامع الأزهر ص: 3 من مقدمة المخطوطة المصو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبعد: فمن أهم ما خرجت به من النتائج في هذا البحث: أولاً: التفريق بين التدوين الذي يعني: تقييد المتفرق وجمع المشتت في ديوان، وبين التصنيف الذى هو تصنيف الكتب مرتبة على الفصول والأبواب، وبذلك يزول الإشكال حول بداية تدوين الحديث، وما ورد في ذلك من النصوص ظاهرها التعارض، حيث حُمل قولهم: إن تدوين الحديث قد بدأ في حياته صلى الله عليه وسلم وفي عصر الصحابة على معنى جمع الأحاديث في الصحف والأجزاء بدون ترتيب ولا تصنيف، وقولهم: إن أول من بدأ التدوين الإمام الزهري بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز حُمل على معنى الجمع العام، والتصنيف والترتيب. ثانياً: إثبات أن كتابة الحديث كانت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة وكبار التابعين، وإن ما ورد من كراهة ذلك أو النهي عنه إما أنه لا يصح، وإما أنه محمول على أسباب ثم زالت، وهاتان النتيجتان قد جلاَّهما بوضوح الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 كتابه الموسوم بـ "تقييد العلم". ثالثاً: أن القرآن والسُّنَّة في مرتبة واحدة من حيث الحجية والاعتبار في إثبات الأحكام الشرعية، ولا نزاع أن القرآن يمتاز عنها ويفضلها بأن لفظه منزل من عند الله تعالى، متعبد بتلاوته، معجز للبشر عن أن يأتوا بمثله. رابعاً: إن كلما تعلق به أصحاب الأهواء والفرق المخالفون لأهل السُّنَّة والجماعة من شكوك أو شبهات لا يخرج عن: 1- معارضة السُّنَّة بعقولهم القاصرة الناقصة المتناقضة. 2- أو الطعن في رواة السُّنَّة بالهوى والبهتان. 3- الكذب والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم والقول على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم. خامساً: إن جهود العلماء في خدمة السُّنَّة طوال القرون التسعة الأولى كانت تتسم بما يلى: أ- الجد في حفظ السُّنَّة ونشرها في الأمة في كل عصر بحسب إمكانياته.? ب- الجدة والابتكار في مجالات خدمة السُّنَّة في كل عصر. ج- التكامل فبعضها يكمل بعضاً. سادساً: إن علماء أهل السُّنَّة والجماعة في كل عصر كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 هم المنقذ للأمة – بعد الله – مما تردَّت فيه من البدع والخرافات والانحراف عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك نعلم أن سبب ما حل بالأمة الإسلامية اليوم من المحن والانحرافات هو الجهل بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم والبعد عن منهجه صلى الله عليه وسلم الذي كان عليه هو وأصحابه، وسار عليه سلف الأمة فيما مضى، وأنها لا تنهض اليوم من كبوتها وتستيقظ من غفلتها إلا على يد علماء السُّنَّة العارفين بمنهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه السائرين عليه والفاهمين له. سابعاً: إن نواة تأسيس موسوعة حديثية شاملة قد بدأت على يد علماء السُّنَّة النبوية منذ ألفت كتب الجمع بين الصحيحين، ثم الجمع بين الكتب الستة، ثم كتب الأطراف، وكتب الزوائد، ثم أخيراً كتب الجوامع، كـ "الجامع الصغير" و "الجامع الكبير" كلاهما للسيوطي (ت 911 هـ) . والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255