الكتاب: تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس المؤلف: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب آل الشيخ (المتوفى: 1293هـ) المحقق: عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم الناشر: دار العصمة الطبعة: الثانية، 1410 هـ/1990م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس عبد اللطيف آل الشيخ الكتاب: تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس المؤلف: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب آل الشيخ (المتوفى: 1293هـ) المحقق: عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم الناشر: دار العصمة الطبعة: الثانية، 1410 هـ/1990م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله رَبِّ العالمينَ، وصلى اللهُ وسَلَّمَ على نَبيِّنا محمَّدٍ، وآلِه وصحبِه أجمعين، أما بعد. فإن اللهَ سبحانه نَصَبَ في كلِّ زمانٍ رجالاً يحمونَ شريعتَه، وينصرون ملَّتَه، ويجاهدونَ فيه حقَّ جهادِه، إذا انتهكت حُرُماتُه غَضِبوا غَضَبَ الأَسَد، وإذا سُلِكَ سَبِيْلُه فَرِحُوا فرحَ الوالِد بالولد. أسبلَ اللهُ عليهم من العلمِ النافع والعملِ الصالح ما أهَّلَهم للقيامِ بهذه المسؤوليةِ العظيمةِ، والمُهَّمةِ الجسيمة. فاستخدموا هذا السلاحَ الذي أسبلَ اللهُ عليهم أذيالَه في هداية الخلقِ، وإرشادِهم إلى الطَّرِيْقِ السَّويِّ، والنَّهْجِ المَرْضِيّ. كما استخدموه أيضا في استئصال شبه المنحرفين، والقضاء، على بدع المبتدعين. وكان مقصودُهم بالردِّ على هؤلاء القيامَ بالمِيْثاقِ الذي أخذه اللهُ تعالى على أهلِ العلمِ في قوله: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} .الآية، والخوفَ من الوقوعِ في جريمةِ كتمِ العلمِ وإخفائه. وكان من مقصودِهم أيضاً نُصْحُ الأُمَّةِ، والأَخْذُ بِحُجُزِها عن السقوط في المهالك، سواءٌ في ذلك المردودُ عليه منهم أو غيرُه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فالمَرْدُوْدُ عليه بإيضاحِ الحقِّ له، وقِيامِ الحُجَّةِ عليه، وغيرُه بتحذيرِه من اتباعِ الأهواءِ، والسُّقُوطِ في شَرَكِهَا. قال شيخ الإسلام أبو العباس –رحمه الله تعالى- في وصفِ أهل السُّنَّةِ والجماعةِ، ومرادِهم بالردِّ على المنحرفين: وأئمةُ السُّنَّةِ والجماعة وأهلُ العلمِ الإيمانِ فيهم العدلُ والعلمُ والرحمةُ، فيعلمون الحقَّ الذي يكونون به موافقينَ للسُّنَّةِ، سالمين من البدعة. ويعدِلُون على من خَرَجَ منها ولو ظلمهم، كما قال تعال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . ويرحمون الخَلْقَ فيريدون لهم الخَيْرَ والهدى والعلمَ، ولا يقصدون الشَّرَّ لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم، وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدُهم بذلك بيانَ الحقِّ، ورحمةَ الخلقِ، والأمرَ بالمعروفِ، والنَّهي عن المنكرِ، وأن تكون كلمةُ اللهِ هي العليا، وأن يكون الدينُ كلُّه لله ... اهـ من الردِّ على البكري. وإن من الرِّجالِ الذين هَيَّأَهم الله تعالى، ونَصَبَهم لحفظِ شريعتِه، والقيام عليها: أئمةَ الدَّعْوةِ بنجد، الذين أبلوا بلاءً حسناً في هذا المِضمَارِ، وحَمَوْا ثغوراً للشَّرِيْعة كاد أن يَقْتَحِمها المشركونَ والكُفَّارُ وأنفقوا نفيسَ العمرِ وعزيزَ المالِ في الدعوة إلى التوحيدِ ومُؤازَرَةِ أهلِه الأبرار. فلا تجد شبهةً منحرفةً أثيرت في وقتِهم إلا وهم لها بالمرصاد، ولا تشكيكاً في الحقِّ إلا وهم لتفنيدِه وتَزْيِيْفِه على أتمِّ استعداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وهذه الرسالةُ التي هي السادسة من هذه السلسلة الموسومة بـ"سلسلة رسائل وكتب علماء نجد الأعلام"واحدةٌ من عشراتِ الكُتُبِ المَرْمُوْقةِ ببَناَنِ أَئِمَّةِ الدَّعوةِ في الردِّ على أهل البِدَعِ والانْحِرافِ العَقَديِّ. وهي في نَقْضِ شُبَهٍ أثَارَها رجلٌ جانٍ على نصوص الكتاب والسُّنَّة، يدعى:"داود بن سليمان بن جرجيس". وقد تصدى لنقضها مؤلفنا العالمُ العَلاَّمَةُ المحقق الجليل الشيخُ عبدُ اللطيف بنُ عبدِ الرحمن بنِ حسن بنِ محمد بنِ عبد الوهاب –رحمهم الله تعالى-في هذه الأوراق الكريمة الثمينة، المسماة:"تُحفةُ الطالبِ والجليس في كشف شُبَهِ داود بنِ جِرْجِيس"1. ولن أثقل سمعَ القارئِ بِكثرةِ الكلامِ حولَ هذه الرسالةِ ومَضْمُونِها، فأَدَعَه وإيَّاها، ليَعْرِفَ محتواها، ويَطَّلِع على فَحْواَها، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. كتبه الفقير إلى عفو ربه القدير عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم غفر الله له ولوالديه وللمسلمين الرياض-يوم عاشوراء من شهر الله المحرم سنة 1408هـ.   أفاد الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع في مقدمته لهذا الكتاب: أنه أُلِّف سنة 1291، أي قبل وفاة مؤلفه –رحمه الله تعالى وغفر له- بعامين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 النسخ المعتمدة طبع هذا الكتاب لأول مرة في عام 1305هـ وتعتبر هذه الطبعة في مصاف النوادر من المخطوطات، وبتيسير من الله تعالى وقعت نسخة منها في يد الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع، فسعى في طبعها ونشرها، وعرضها على حاكم قطر الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، فسارع –كعادته في المبادرة إلى الخير-بطبعها وقفاً لله تعالى، وذلك سنة 1382هـ. قال ابن مانع في تقديمه للرسالة:"وقد طبع هذا الرد العجيب سنة 1305هـ ونفدت طبعته، وقَلَّ وجوده حتى نسي، أو كاد أن ينسى، وما زلتُ أبحث عنه لأقوم بإعادة طبعه ... حتى يسَّر الله لنا الوقوف عليه في مكتبة عين من أعيان الحجاز العالم السلفي الفاضل الشيخ محمد بن حسين نصيف، فحين الوقوف عليه، عرضته على أنظار صاحب السمو الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني..فبادر بإصدار أمره العالي بطبعه وقفاً لله تعالى ... "اهـ بتصرف. وقد صُوِّرت هذه الطبعة على نفقة رئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة العربية السعودية، وذلك في عام 1402هـ. كما توجد نسخة ثانية ضمن كتاب الدرر السنية في الأجوبة النجدية"للشيخ العلامة عبد الرحمن بن قاسم –رحمه الله تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 هذا ما وقفت عليه من طبعات الكتاب. أما نسخ الكتاب الخطية فقد عثرت على ثلاث نسخٍ: النسخة الأولى: في إحدى المكتبات الخاصة في نجد، وقد عثر عليها الشيخ الفاضل: الوليد بن عبد الرحمن آل فريّان –وفقه الله-وهي نسخة قديمة، حسنة الخطِّ، تقع في اثنين وأربعين ورقة، كتبت من إملاء المؤلف، بقلم: عبد العزيز بن ناصر بن راشد بن تريكي، ولم يذكر عليها تاريخ النسخ. والإشارة إليها بحرف (أ) . النسخة الثانية: محفوظة في "جامعة الملك سعود"رقم (8/ 34) وهي نسخة جيِّدة الخط، تقع في ثمانٍ وعشرين ورقة، لم يذكر عليها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، وقد سقط منها قرابة ربع الكتاب الأخير، يبدأ السقط من صفحة (104) سطر (14) بعد كلمة: (لم يفهمه كثير) من الطبعة التي بين يديك. والإشارة إلى هذه النسخة بحرف (ب) . النسخة الثالثة: في مكتبة شيخنا المعمَّر: عبد العزيز بن مرشد –حفظه الله-وهي بخط والده الشيخ صالح، كما دَلَّ على ذلك: قلمُه. وتقع في ثمانٍ وثلاثين ورقة. ***** وقد قابلتُ النسخ الخطية مع طبعة آل ثاني، وأثبت أغلب الفروق بينهُنَّ. كما خرّجتُ أغلب الأحاديث الواردة في الكتاب. ووضعت فهارس للموضوعات تبرز مكنون الكتاب ومخبوءه. والله أسأل التسديد والتوفيق، والهداية لأقوم طريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 (تنبيه) طبعت هذه الرسالة باسم:"دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ"في طبعتي عام 1382هـ و1402هـ وقد سمّاها بهذا الاسم الألوسي في كتابه"المسك الأذفر"ص 460.وينظر في الطبعة الأولى هل هي بهذا الاسم أم لا. ونسب الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ في كتابه "مشاهير علماء نجد"ص75 تسمية هذه الرسالة بهذا الاسم إلى الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع الذي كان مشرفاً على الطبعة الثانية. والذي يترجح –والله أعلم-أن الاسم الصحيح هو ما أثبته على ظهر هذه الطبعة، وذلك لأمورٍ منها: الأول: أنه الاسم المثبت على النسختين الخطيتين "أ"و"ب". الثاني: أنه الاسم المعتمد عند المترجمين للمؤلف، كما جرى عليه الشيخ العلامة عبد الرحمن بن قاسم في ملحق "الدُّرر" (12/ 71) والشيخ عبد الرحمن آل الشيخ في كتابه "مشاهير علماء نجد"، وعلق في الحاشية قوله: طبع كتاب"تحفة الطالب والجليس" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بعنوان"دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ"والذي سماه بهذا العنوان الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع. اهـ. قلت: لعل الشيخ ابن مانع أخذ هذه التسمية من كتاب"المسك الأذفر"للألوسي المتوفى عام 1343هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ترجمة المؤلف *هو الشيخ العالم العلامة الإمام القدوة الفهامة: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب. ويجمل أن ينشد عند قراءة هذا النسب قول الشاعر: هو الشيخُ وابنُ الشيخِ والشيخُ جدُّه ... فيا حَبَّذا شيخ تناسل من شيخِ *ولد هذا العالم الجليل في مدينة "الدرعية"عام 1225هـ، وكانت آهلة بالعلماء الأجلاء، والطلاب النبغاء، مما أدَّى إلى غرس حبِّ العلم في صدره، حتى شُغِفَ به، وتشوق إليه. وما إن مَرَّ عليه زمن التمييز في هذه البلاد المباركة حتى انقض عليها العدو الغاشم، فأبادها، ونقل معه أعيان الأسرتين الكريمتين: آل سعود، وآل الشيخ، ووضَعَهُما تحت الرقابة في البلاد المصرية، وكان المترجم له أحد المنقولين. *ترعرع في كنف بيت شامخ في العلم والإيمان، متَحَلٍّ بكرائم الأخلاق، شهرته ملأت الأصقاع، وخيره وبرُّه طرق الأسماع، فأبوه: الشيخ الإمام المجاهد عبد الرحمن بن حسن. ووالدته: بنت الشيخ العلامة عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فكان لهذا البيت الطاهر أثرٌ فعَّالٌ في تقويم سلوكه، وتهيئته لحمل رسالة العلم والدعوة، مواصلة لسير آبائه وأجداده في ذلك. *أقام في مصر إقامة طويلة، بلغت واحداً وثلاثين عاماً، قضاها في العلم والمدارسة، حتى لم يدع فَنًّا إلا وأدرك فيه إدراكاً جيداً، لا سيما العلوم التي لم تنتشر في البلاد النجدية. وكان من مشايخه النجديين: الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. ووالده الشيخ عبد الرحمن بن حسن. والشيخ أحمد بن حسن بن رشيد الحنبلي. ومن غير النجديين: شيخ الأزهر الشيخ إبراهيم الباجوري. والشيخ أحمد الصعيدي. والشيخ العلامة محمد الجزائري. *لما تركتِ الجيوشُ التركية العثمانية بلادَ نجدٍ، وسَكَنَت فتنُ مشاري وعبد الله آل ثنيان، وكان الأمر للإمام فيصل بن تركي، وضعفتِ الرَّقابةُ على النجديين في بلاد مصر، خرج الشيخ عبد اللطيف من مصر متوجهاً إلى بلاد نجد، وكان وصوله الميمون إلى "الرياض"عام 1264هـ. *فَرِحَ الناسُ بقدومه عموماً، وطلاب العلم خصوصاً، لأنهم وجدوا فيه بغيتهم، ومقصدهم. حيث قدم حاملاً لعلومٍ قلَّ من يتقنها غيرُه في تلك النواحي. وكان قدومه خيراً وبركة على والده الشيخ عبد الرحمن الذي طعن في السِّنِّ، حيث حمل عنه بعض أعباء التدريس والدعوة والإرشاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 كما كان قدومه –أيضاً- خيراً وبركة على الإمام فيصل بن تركي، حيث وجد فيه العقلية المتكاملة، والمشورة الصائبة، والرأي السديد، مما حمله على الاعتماد عليه في جميع أموره، واصطحابه في الحل والترحال. *بعد أن مَنَّ الله على الإمام فيصل بفتح الأحساء –وكان مجمع الفساد العقدي-لم يجد كُفْءاً لتقويم هذه البقعة وتطهيرها من مظاهر الشرك والخرافة، غيرَ الشيخ عبد اللطيف، فيعثه هناك معلماً مفتياً داعياً، فناظر علماء الأحساء فيما لديهم من انحراف عن منهج السلف، فاقتنع كثير منهم، وعادوا إلى مذهب السلف، واعترفوا بخطأ منهجهم، وذلك لقوة حجة الشيخ، وبراعته في المناظرات، وفصاحة لسانه، وتحليه بالأخلاق الفاضلة، والآداب السامية. *وبعد وفاة الإمام فيصل بن تركي –رحمه الله تعالى-وقع بين ابنيه: عبد الله وسعود نزاع كبير على السلطة، جرى بسببه فتن عظيمة، اندلعت نيرانها، وتطاير شررها، وعَمَّ الحاضر والبادِ ضررها. وكان موقف الشيخ عبد اللطيف منها موقف العالم البصير بعواقب الأمور، والسياسي المحنك المجرَّب في الحروب، حيث بذل قصارى جهده في القضاء على هذه الفتنة، والسعي في حقن دماء المسلمين، وتوحِيد الكلمة، وجمعِ الشمل، ولكن أمر الله نافذ، وقضاؤه حتم، فقد شاء لهذه الفتنة الامتداد، رغم ما بذله العلماء من جهود في سبيل إخمادها (لِّيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ومن تأمَّل رسائل الشيخ عبد اللطيف، التي كتبها في هذه الحقبة الزمنية العكرة –وهي أحد عشر عاماً-علم ما كابده الرجل ولاقاه من إرهاق نفسي، وإجهاد بدني، بسبب هذه الفتنة العمياء، فالله يكتب له الأجر والثواب، ويثقل ميزانه يوم الحساب، ويغفر له ولوالديه وللمسلمين أجمعين. *ومع انشغاله بتسكين الفتنة، والقضاء عليها، فقد أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفات رصينة، تنبئ عن غزارة علمه، وسعة اطلاعه، وفصاحة لسانه، وحريرية بنانه، فمن تلك المؤلفات: 1- تحفة الطالب والجليس في الرد على شبه داود بن جرجيس، وهو هذا. 2- الرد على عثمان بن منصور، المسمى (مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام) . 3- البراهين الإسلامية في الرد على الشُّبَه الفارسية. 4- الرد على عبد المحسن الصحافي. 5- شرح نونية ابن القيم، شَرَحَ فيه المقدمة، ثم اخترمته المنية قبل إتمامه. 6- وله رسائل كثيرة، فيها فوائد جليلة، ونوادر بديعة، وقد جمعها الشيخ سليمان بن سحمان، وطبعت في مجلد كبير. 7- له قصائد كثيرة، قيلت في مناسبات مختلفة، منها ما هو في الرد على أهل البدع والانحراف العقدي ومنها ما هو في الإخوانيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 *تتلمذ على يده نخبة من طلبة العلم، أصبحوا فيما بعد قضاة، وعلماء، ودعاة، فممن تتلمذ عليه: 1- ابنه الشيخ عبد الله. 2- الشيخ سليمان بن سحمان. 3- الشيخ العالم الفقيه النحوي: محمد بن محمود. 4- الشيخ حمد الفارس. 5- الشيخ العلامة الفاضل: أحمد بن عيسى. 6- الشيخ المجاهد الباسل: صالح بن قرناس. 7- الشيخ صالح الشثري. 8- الشيخ حسن بن حسين آل الشيخ. *توفي مأسوفاً على فقده في "الرياض"في اليوم الرابع عشر، من شهر ذي القعدة، عام 1293هـ، وله من العمر يومئذ ثمانية وستون عاماً. رحمه الله تعالى وغفر له، وأسكنه فسيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تقاريظ الكتاب1 قد قرظ هذا الكتاب جملة من الأفاضل الأدباء؛ منهم: عبد القادر أفندي البغدادي الحنفي النقشبندي القادري، وذلك بقوله: عبد اللطيف جزاهُ الله خالقنا ... يومَ الجزاء بأجرٍ غير ممنونِ هو الهمام الذي شاعت فضائلهُ ... في الشرق والغرب من نجدٍ إلى الصينِ بحرٌ من العلم يبدي من معارفهِ ... بديعَ دُرٍّ عزيز القدر مكنونِ حَمى طريقَ رسولِ الله عن شبهٍ ... منسوبة لجهول غير مأمونِ وساوس وأقاويل ملفقة ... كأنها بعض أقوال المجانينِ ظن ابن برجيس من جهل ومن سفهٍ ... لم يبقَ في الناس ذو علمٍ وتمكينِ فقال ما قال من زورٍ ومن كذبٍ ... مزخرف قد تبدَّى غير موزونِ ولم يكن يغني عنهُ الظنّ فانعكست ... ظنونهُ في مجالٍ غير مظنونِ إذ ردَّهُ ناكصاً يدعو النجاء على ... أعقابِه خسر الدنيا مع الدينِ إن ابن جرجيسَ برذون وذا أسدٌ ... وهل تقاس أسود بالبراذينِ "دلائل" أشرقت كالشهب أرسلها ... عبد اللطيف رجوماً للشياطينِ جزاهُ مولاهُ عنا كل صالحةٍ ... من جنة الخلد في يوم الموازينِ   1 هذه التقاريظ موجودة في طبعة آل ثاني فقط. ولعلها مأخوذة من الطبعة الأولى، المطبوعة عام 1305هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وقال حضرة العالم العلامة، والنحرير الفهامة، مولانا الأستاذ السيد مصطفى أفندي، مفتي السادة الحنفية، في مدينة الحلة، الشهير بواعظ زاده: أدين الله بجميع ما في هذا الكتاب، الحاوي لكل معنى منيف، وأبرأُ إليه تعالى من الاعتقادات الفاسدة، والأقاويل الزائفة عن الحق، العارية عن كل فائدة، وأنزههُ سبحانهُ عما تقوّلهُ أهل الأباطيل، وعلَّلوه بتعليل عليل، وأشكر فضل من أنشأ هذه الفوائد الدينية، والقواعد الإسلامية. فجزى الله العلماء العاملين عن الإسلام والمسلمين خيراً، ورزقهم الأمن والأمان والبشرى في الحياة الدنيا والآخرة، والحمد لله أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً. وأنا الفقير إليه عَزَّ شأْنه: السيد مصطفى نور الدين ابن المرحوم السيد محمد أمين الواعظ. غفر الله لهما آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وقال المولى البارع، ذو النور الساطع، والفضل الناصع، الفاضل الأمجد، الشيخ أحمد، سلَّمه الفرد الصمد: نحمدك اللهمَّ على أن جعلت لهذا الدين من العلماء العاملين أنصاراً وأعواناً، ووفقتهم للذود عن سنة سيد المرسلين، والشرع المتين سرًّا وإعلاناً، فجرَّدوا قواضب ألسنتهم لقطع ألسنة المبتدعين، وحَدُّوا أسنة أقلامهم لسرد شبه الملحدين، فكانوا أعظم شأناً وأعلى برهاناً. ونصلي ونسلم على نبيك ورسولك وصفيك وأمينك، الذي ختمتَ به الرسالة، وأزلتَ بنوره ظلمة الضلالة، ورفعتَ ببعثتهِ الجهالة، بعد أن هلك الناس كفراًَ وطغياناً، فكسر الأصنام، وأزاح الطغيان، وقل الآثام، وقمع الأوثان، فبدل العصيان إذعاناً، وأحال الشرك إيماناً، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الذين اتبعوا أَثَرَهُ، وساروا سيرَه، وحفظوا سنَّتَهُ، ونصروا ملَّتَهُ، فارتفع بهم الشرع بنياناً، وقوي الدين أركاناً. وعلى أصحابه الراشدين الهادين المهديين، الذين هم نجوم الاهتداء، وبدور الاقتداء، جزاهم الله سبحانه وتعالى عن المسلمين خير الجزاء، وأثابهم إنعاماً وإحساناً، وبَوَّأهم من فضله غرفاً وجناناً. أما بعد: فقد نظرت في عبارات هذا الكتاب نظرَ ناقد، وتأمَّلْتُ مقاصده فصلاً بعد فصل، وباباً بعد باب تأمُّلَ قاصد، وقلبتُ ما فيه ظهراً لبطن، وفنًّا بعد فَنٍّ، فألفيته قد اشتمل على فصل الخطاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وأصاب عين الصواب، وتميز بالحق عند أولي الألباب، فما مولى أحكم ترصيفه، وأجاد تصنيفه، وأبدع تأليفه، ووضع أركانه، ورفع وأعلى شأنه، إلا رجل عَضَّ على الشريعة بالنواجذ، وحملته غَيْرَتُه الإسلامية على رد ملحد مبتدع نابذ، قد لعب بعقله الشيطان، وسلك به كل فج من العصيان، فكتب أوراقاً تشتمل على خرافات من البدع والضلالة، وتحتوي على تُرَّهاتٍ تنادي على صاحبها بالسفه والجهالة، ثم نشرها على ضعفاء العوام ليضلهم بها عن سنة خير الأنام –عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام- ترويجاً لمذهبه الفاسد، واعتقادِه الكاسد، وطلباً لتحصيل أمانيه الدنيوية، وحظوظه الحيوانية، ظنًّا منه أن الشريعة المطهرة قَلَّت أنصارها، وأظلم منارها، واستقلَّت ركابها، وعزَّ طلاّبها، وذَلَّت أسودها، واشتبهت حدودها، ولم يدرأنها محاطة بأبطال يضيق عنهم المجال، وتُسَدُّ بهم الخِلال، إذا قارعوا قرعوا، وإن صارعوا صرعوا، وإن حوربوا حربوا، وإن نوزلوا سلبوا، دروعهم كتاب الله، وأسنتهم سنة رسول الله، لسانهم سنان، وسنانهم لسان، وسلاحهم طاعة وإيمان. فقيّض الله لردّه مؤسس هذا الكتاب، ومجري ينابيع هذا البحر العباب، والفاضل الذي شهدت بكماله فضلاء البلاد، وعمَّت فضائله كل ناد، العالم العامل البدر الذي يقصر عن مجاراته كل متطاول، الورع الزاهد، والتقي العابد، وطود القلم الشامخ، وركن المجد الباذخ، صاحب التصانيف المفيدة، والتآليف العديدة، الشيخ عبد اللطيف الحنبلي، غمره المولى عَزَّ وَجَلَّ بلطفه الجليل الجلي، فَرَدُّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بهذا الرد الحقيق بالقبول، المرضي عند ذوي العقول، فهو للمسلمين ترياق نافع، وللمبتدعين سُمٌّ ناقع، جزى الله تعالى مؤلفه خير الجزاء، وسلك به سبيل الصلحاء، وجعلنا ممن اقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، وصَيَّرَنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وقال الفاضل، والعالم العامل، جناب علي أفندي، المدرس بمدينة البصرة: لاح نور الهدى وزال الضلال ... ودهى الشركَ والعنادَ زوالُ وتجلت شمس الكمال عيانًا ... بعد ما كان دونها أظلال ورياض التوحيد جاد رُباَها ... من سما الحق عارض هطالُ ويد الجهبذ المحقق للحق ... الإمام المهذَّب المفضالُ والهِزَبْر الهمام والعالم النحـ ... ـرير مَنْ عنده تنتهي الآمالُ ذاك عبد اللطيف كنز المعالي ... هو بحر للعلم بحر زُلالُ أَحْكَمَتْ1 للورى "دلائل" قصد ... صار فيها على الهدى استدلالُ رسخت في قلوب قوم هداة ... وذوو الزيغ عن هنالك زالوا رفعت عن عيوننا كل غبن ... وبها زال داء شرك عضالُ ولها مبتغي الهدى فليبادر ... فلها ساغ أن تُشَدَّ الرِّحالُ   1 أي يد الجهبذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 نماذج من النسخ الخطية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الورقة الأولى من نسخة الشيخ ابن مرشد24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الورقة الأخيرة من نسخة الشيخ ابن مرشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الورقة الأولى من نسخة جامعة الملك سعود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الورقة الأخيرة من نسخة جامعة الملك سعود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الورقة الأولى من نسخة (أ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الورقة الأخيرة من نسخة (أ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. أرسل الرسل وأنزل الكتب لتأصيل الأصول وتحقيق الحقائق، فقامت حجة الله على المكلَّفين من الخلائق. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله صادق. وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله المبعوث بأحسن الملل والطرائق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بجهاد كل فاسق1 ومنافق. أما بعد: فقد وقفت على أوراق أرسلها بعض أهل العراق2 إلى بعض   1 في طبعة آل ثاني:"كافر". 2 في طبعة آل ثاني:"أرسلها الملا داود بن سليمان الجرجيس العاني العراقي". قلت: هو الداعية إلى الزَّيْغ والضلال، القائد زمام الفساد والانحلال، المصرح باستحباب صرف العبادة لغير الله الكبير المتعال، والمنفّق سلعته بالكذب والزور والتلبيس، داود بن سليمان بن جرجيس، المولود ببغداد عام 1231هـ الهالك بها عام 1299هـ. ألف رسالته البتراء"المنحة الوهبية"ملأها بالاعتقادات الفاسدة الشركية، وشانها بالسب والطعن في أهل السنة النبوية، وأكثر فيها من النقول المكذوبة والمبتورة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أصحابنا، ورأيت1 فيها من الصد عن سبيل الله، والدعوة إلى عبادة الأولياء والصالحين، ودعائهم، والحثِّ على قصدهم في الملمات والشدائد، والإلحاد في آيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، ما لا يتسع السكوت عليه. فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأمر بجهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، كما أمر بجهادهم باليد والسنان.   شيخ الإسلام ابن تيمية. فلما أعلن الحرب على التوحيد وأنصاره وأعوانه، والموالاة للشر وأتباعه وكُهَّانه، تصدى له أئمة العلم والهدى، وشموس الحق والتقى، فألَّفوا الردود المطوَّلة والمختصرة في نقض شبهه وتضليله، وبيان كذبه وافترائه وتزويره، فانجلى للناس بهذه الردود حقيقة أمره، وسوء مغزاه ومكره. فلله الحمد على إعزاز دينه وأوليائه، وخذل الشرك وأهله وأعوانه. فممن ردَّ عليه الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين بكتابه "الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين"وبكتاب آخر أسماه "تأسيس التقديس". وردَّ عليه الشيخ العالم العلامة عبد الرحمن بن حسن بكتاب اسمه "كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس".وردَّ عليه ابنه العلامة الجليل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بكتاب أوسع من الكتاب الذي بين يديك أسماه "منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس"ولكن المنية اخترمته قبل إتمامه، فتصدى لإكماله العلامة الفاضل السيد محمود شكري الألوسي بكتاب سماه "فتح المنان".وردَّ عليه الشيخ أحمد بن عيسى بكتاب سماه "الرد على شبهات المستعينين بغير الله".وردَّ عليه علامة العراق السيد نعمان الألوسي بكتاب سمّاه "شقائق النعمان في ردّ شقاشق داود بن سليمان". 1 في طبعة آل ثاني:"فرأيت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قال تعالى: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} . [الفرقان:52] .وقال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . [آل عمران:104] ، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} . [الحج:78] ، وقال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} . [هود:116] . قال ابن كثير1: (يقول تعالى: فهلا وجد من القرون الماضية من أهل الخير، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض. وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غِيَرِه2، وفجأة نقمته، ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر. وقوله: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} أي استمروا على ما هم فيه3 من المعاصي والمنكرات، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك، حتى فجأهم4 العذاب) .   1 في تفسيره:2/ 464 طبعة الحلبي. 2 في ابن كثير:"غضبه"والغِير –بالكسر-هي الحوادث والنكبات. 3 في تفسير ابن كثير:"عليه". 4 في طبعة آل ثاني:"فاجأهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وقال أبو السعود1: (أولو2 بقية من الرأي والعقل أولو2 فضل، وخير. وسمِّيا بها لأن الرجل إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجوده وأفضله. ومن قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. انتهى) . وقد ينتفع بهذا من أراد الله هدايته، واستعماله فيما يرضيه، من توحيده، وطاعته، ولو سبق منه رده والصد عنه. قال الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} .الآية [الممتحنة:7] . وما أحسن ما قيل: أَبِن وجه نورِ الحقِّ في صدرِ سامعٍ ... ودعه فنورُ الحقِّ يَسْرِي ويُشْرِقُ سيؤنِسُه يوماً وينسى نفارَه ... كما نسي التوثيقَ من هو مطلقُ   1 تفسير أبي السعود 4/ 246 طبعة دار المصحف. 2 في النسخ الخطية:"ألوا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الفصل الأول ... فصل: قال العراقي في "رسالته": (اعلم أني ووالدي وجدي1 بيت علم، وعقيدتنا عقيدة السلف، وليس الآن في بغداد من هو على مذهب الإمام أحمد غيري، وأنا تابع لأقوال الشيخين ابن تيمية وابن القيم) . والجواب أن يقال: مذهبك وعقيدتك وما أنت عليه قد اشتهر وعرف من رسائلك، وسُمِعَ منك شفاهاً, ونقله العدول، ولم يزل يتواتر من وقت قدومك الجبل، والقصيم، واجتماعك بالشيخ عبد الله أبا2 بطين، وما وقع بينكما من المناظرة في مسمي العبادة وغيرها، كل ذلك وصل إلينا، وتواتر لدينا، واستفاض استفاضةً3 تورث علماً ضرورياً أنك داعية إلى دعاء الصالحين والأولياء، وندائهم بالحوائج, والاستغاثة بهم في الملمَّات والشدائد، وأن ذلك لديك مستحب وارد, وأن من كفَّر من يعبد الصالحين فهو مخطئ ضال، وأنه لا يكفر ولا يشرك إلا من دعاهم استقلالاً، وزعم أنهم الفاعلون المدبرون، وأما على وجه الجاه والشفاعة فذلك عندك ليس بشرك ولا كفر.   1 في طبعة آل ثاني:"وجدي ووالدي". 2 في طبعة آل ثاني:"أبي بطين"والصواب: أنها منصوبة على الحكاية، فتنبه. 3 في النسخ الخطية:"استفاظ استفاظة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 كل هذا ثبت لدينا قَبْل هذه الرسالةِ الأخيرة، فلما وقفنا على ما فيها، وتأملنا خافيها وباديها، إذا هي على المذهب الذي حكينا، والطريقة التي عرفنا وروينا، بل فيها من الزيادة في الكذب على الله وكتابه، والكذب على أهل العلم في نقل مذاهبهم، وتحريف كلامهم، ما لا يصدر عَمَّن تصور الإسلام وعرفه، وآمن بالله واليوم الآخر، بل لا يصدر عَمَّن له عقل يحسن أن يعيش به. فنعوذ بالله من الجهالة والعمى، والضلال عن سبل الإيمان والهدى. ونسبة هذا إلى الإمام أحمد وإلى الشيخين كنسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وخواص أصحابه، وأهل ملَّته. نزلوا بمكةَ في قبائلِ هاشمٍ ونزلت بالبيداءِ أبعدَ منزلِ والمؤمن يعرف هذا بمجرد إيمانه، ولا يختص بمعرفة أولو1 العلم. وأما تبرئتك نفسك من الحلف بغير الله، فمسألة الحلف لو سُلِّمت لك البراءة منها دون ما أنت عليه بكثير، فإن من استحب دعاء غير الله، وألحد في آياته، وصد عن سبيله: أعظم إثماً، وأكبرجرماً، ممن يحلف بغيره. وأما ما زعم العراقي من أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فالمعروف في عرفه هو: دعاء الصالحين، ونداؤهم2 بالحوائج.   1 في النسخة الخطية:"ألوا". 2 في النسخ الخطية:"ندائهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وهذا عند الله ورسوله، وعند أولي العلم من خلقه أكبر الكبائر على الإطلاق، كما جاء في حديث ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك" 1. وهذا العراقي صرح بأنه يجوز نداؤهم2، [أعني نداء الأنبياء والصالحين، بل والجمادات –كما هو مشهور عنه، لكن يسميه توسلاً، خالف المشركين في التسمية، لا في الحقيقة، فيدعو الغير، ويرجوه] 3 في كل مطلوب، على وجه الجاه والتسبب، وهذا حقيقة الشرك والتنديد. والمنكر في عرفه هو: النهي عن هذا، وعن تكفير أهله، ولهذا صرح في هذه الرسالة بأنه ينصح عن4 تكفير هذا الضرب من الناس، ويزعم أن لهم نيَّات صالحة، ومقاصد صحيحة، فظهر أنه رأس من دعا إلى المنكر، وسعى في هدم5 المعروف، ومحو آثاره.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه":كتاب التفسير -8/ 163-492، وفي الأدب -10/ 433، وفي الحدود -12/ 114، وفي الديات -12/ 187، وفي التوحيد -13/ 491-503. وأخرجه مسلم في "صحيحه":كتاب الإيمان -1/ 90-91، كلاهما من طريق أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود ... به. 2 في النسخ الخطية: نداؤه. 3 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ الخطية. 4 في طبعة آل ثاني:"عن عدم تكفيره". 5 في طبعة آل ثاني:"عدم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وأي معروف يبقى مع دعاء غير الله، وأي منكر يزجر عنه وينهى لو كانوا يعلمون؟؟ قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} . [الكهف:103-104] . وأصل الإسلام وقاعدته: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يُعبد إلاَّ بما شرع. وهذا وأمثاله من أجهل الناس بهذا الأصل، وأضلهم عن هذا السبيل، بل هم أعظم الناس صدًّا عنه، وردًّا له، وعيباً لأهله. والمخلصُ عندهم1، الداعي إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له: خارجي مبتدع، كما صرح بع في رسالته الأولى، وزعم أن هذا دين الخوارج، وأن من كفر بدعاء غير الله فهو ممن يكفر أهل القبلة بالذنوب، وأكثر هؤلاء لا يقتصرون على نسبة أهل التوحيد إلى الخوارج والبدعة، بل يصرحون بتكفيرهم، واستحلال دمائهم وأموالهم. والله المستعان. قال العراقي: (ولكنا لا نكفر الناس بهذه الأشياء، لأنا اطلعنا على كتاب الله وسنة رسوله، وكذا وكذا) . فيقال: أبْعد الخلق عن كتاب الله، وسنة رسوله، هم أهل الاعتقادات   1 في طبعة آل ثاني:"والمخلص الداعي ... عندهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الباطلة، وأهل الغلو في الأنبياء، والأولياء، و1الصالحين، وهم أضل خلق الله عما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإن ورثوا الكتاب، ودرسوه، فإن الوراثة والدراسة والاطلاع نوعٌ، والعلم به والإيمان والعمل، ومعرفة حقائقه ونصوصه نوعٌ آخر. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} . [الأنعام:25] .وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} . [الجمعة:5] . وفي الحديث الذي في وصف الخوارج:"يقرؤون2 القرآن لا يجاوز حناجرهم، هم شر قتلى تحت أديم السماء"3. فالعلم والكتاب إذا لم يَخْلُصْ إلى القلوب فهو حجة على ابن آدم. ويقال: كتاب الله، وسنة رسوله، وأقوال أهل العلم صريحة متوافرة متظاهرة على تكفير من دعا غير الله، وناداه بما لا يقدر عليه إلا الله، قال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} . [يونس:106] . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} . [الإسراء:56] . والقرآن كلُّه دالٌّ على هذا المعنى، مقرر له، وإن اختلفت   1 في طبعة آل ثاني:"والأولياء الصالحين". 2 في النسخ الخطية:"يقرؤن".وفي طبعة آل ثاني:"يقرأون". 3 تقدم تخريجه في الرسالة الأولى: ص 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الطرق والأوجه في بيانه، والتنبيه عليه، فكيف ينسب جواز دعاء غير الله، وعدم تكفير فاعله إلى القرآن وإلى السنة؟؟ وهل يقول هذا من يعرف ما جاءت به الرسل ويتصوره، فضلاً عَمَّن يؤمن به؟ والمشركون الأولون يعترفون للرسل وأتباعهم أنهم دعاة إلى التوحيد، وإخلاص العبادة والدعاء لله، وإنما نازعوا في تصديقهم، وقبول ما جاؤوا به. وهذا الذي يزعم أنه اطلع على كتاب الله لم يعرف منه ما عرفه أولئك المشركون! فالإسلام في هذه الأوقات أغرب منه في أول ظهوره، والدعوةُ إليه مع كثرة من يقرأ القرآن، وينسخه، ويطبع المصاحف، وكتب العلم، فسبحان من قلوب العباد بيده، يصرفها بقدرته وحكمته، ويدبرها بعلمه ومشيئته. ومن العجائبِ والعجائبُ جَمَّةٌ ... قربُ الدواءِ وما إليه وصولُ كالعيسِ في البيداءِ يقتلها الظما ... والماءُ فوق ظهورِها محمولُ وما أحسن ما قال مجاهد –رحمه الله- في قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} . [الأنفال:24] قال: حتى يتركه لا يعقل. وأما قوله: (إن الشيخ أحمد بن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية لا يكفران أحداً من أهل القبلة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فيقال: لو عرف هذا مَنْ أهلُ القبلة في هذا الموضوع، ومن المراد بهذه العبارة عند أهل العلم1 لما أوردها هنا محتجاً بها على دعاء غير الله، وعدم تكفير فاعله. ومن أعرض عن كلام أهل العلم، ورأى أن من صلى، أو قال2"لا إله إلا الله"فهو من أهل القبلة، وإن ظهر منه من الشرك والترك لدين الإسلام ما ظهر، فقد نادى على نفسه بالجهالة والضلالة، وكشف عن حاصله من العلم والدين بهذه المقالة. وقد أنكر الإمام أحمد –رحمه الله-قول القائل: لا نكفر أهل القبلة3.وهذا يزعم أنه على مذهب الإمام أحمد، ومقصود من قالها إنما هو البراءة من مذهب الخوارج الذين يكفرون بمجرد الذنوب، وهذا وَضَعَ كلامهم في غير موضعه4، وأزال بهجته، لأنه تأوله في أهل الشرك، ودعاء الصالحين، فالتبس عليه الأمر، ولم يعرف مراد من قال هذا من السلف. وهذا الفهم الفاسد مردود بكتاب الله، وسنة رسوله، وبإجماع أهل العلم، وقد عقد الفقهاء من أرباب المذاهب باباً مستقلاً في هذه المسألة، وذكروا حكم المرتد من أهل القبلة، وقرروا من المكفرات أشياء كثيرة دون ما نحن فيه، وجزموا بأن العصمة بالتزام   1 سقطت:"عند أهل العلم"من طبعة آل ثاني. 2 في طبعة آل ثاني:"وقال". 3 في طبعة آل ثاني:"أهل الذنوب". 4 في "ب"و"جـ":"وهذا موضع كلامهم وأزال بهجته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الإسلام ومبانيه ودعائمه العظام، لا بمجرد القول، أو الصلاة1، مع الإصرار على المنافي. وهذا يعرفه صغار الطلبة، وهو مذكور في المختصرات من كتب الحنابلة وغيرهم. فهذا لم يعرف ما عرفه صبيان المدارس والمكاتب، فالدعوى عريضة والعجز ظاهر. وأعجب من هذا أنه يقول في رسالته" (إني رأيت لمن يدعو2 الصالحين والأولياء ويناديهم في حاجاته أدلةً صحيحة، ونيات صالحة، ما تخرج عن التوحيد، لأن المقصود التسبب والوسائل، لا الاستقلال) هذا كلامه. ومن بلغت به الجهالة والعماية إلى هذا الغاية، فقد استحكم على قلبه الضلال والفساد، ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد. ومن له أدنى نهمة3 في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل، يعرف أن المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم، وآلهتهم التي عبدوها مع الله: إلا التسبب، والتوسل، والتشفع، ليس إلا، ولم يدَّعوا الاستقلال والتصرف لأحد من دون   1 في طبعة آل ثاني:"والصلاة". 2 في النسخ الخطية:"يدعوا". 3 في طبعة آل ثاني:"صلة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الله، ولا قال به1 أحد منهم سوى فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربِّه. وقد قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} . [النمل:14] .فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده. قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم بدعاء غيره: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} .الآية [يونس:18] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . [الزمر:3] ، وقال تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} . [الأحقاف:28] ، وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء} . [الزمر:43] ، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} . [البقرة:165] . فأخبر تعالى أنهم تعلقوا على آلهتهم، ودعوهم مع الله للشفاعة، والتقريب إلى الله بالجاه والمنزلة، وأحبوهم مع الله محبة تأله وتعبد لنيل أغراضهم الفاسدة، ولم يريدوا منهم تدبيراً ولا تأثيراً لا شركة2 ولا استقلالاً. يوضحه قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} .إلى قوله {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} . [يونس:31] ، وقوله: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ   1 في طبعة آل ثاني:"قاله أحد". 2 في طبعة آل ثاني:"ولا شركة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وَمَن فِيهَا} إلى قوله {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . [المؤمنون:84-89] ، وقوله {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} إلى قوله {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . [النمل:61-64] . فتأمل هذه الآيات، وما فيها من الحجج والبينات، تطلعك على جهل هذا العراقي وأمثاله، وأنهم ما عرفوا شرك المشركين، وما كانوا عليه من القصد والدين، ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله وأتباعهم من توحيد رب العالمين. وتأمل كيف استدل الله سبحانه وتعالى على توحيد إلهيته، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، بما أقر به الخصم واعترف به من توحيد ربوبيته، واستقلاله بالملك، والخلق، والتأثير، والتدبير. وهذه عادة القرآن دائماً يعرج على هذه الحجة، لأنها من أكبر الحجج، وأوضحها، وأدلها على المقصود. فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة، والفصاحة، والجلالة، والفخامة، والدلالة، والظهور. فأيُّ شبهة بعد هذا تبقى للمماحل1 الكفور2. واعلم أن دعاء الأموات والغائبين ليس بسبب لما يقصده المشرك ويريده، بل هو سبب لنقيض قصده وحرمانه، وهلاكه في الدنيا والآخرة.   1 في طبعة آل ثاني:"للماحل". 2 في طبعة آل ثاني:"المغرور". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قال تعالى: {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ *يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} . [الحج:12-13] . (لأنه في الحقيقة إنما عبد الشيطان، ودعاه، وأطاعه فيما يأمر به، ولذلك تتبرأ الملائكة والصالحون ممن1 دعاهم، وصرف لهم شيئاً من العبادة) 2. وأيضاً فليس كل سبب يباح، بل من الأسباب ما هو محرَّم، وما هو كفر، كالسحر، والتكهن. والغبي يظن أن الدليل يسلم له إذا أراد السبب لا الاستقلال. وعباد الكواكب، وأصحاب النيرنجيات3 ومخاطبات النجوم، يرون أنها أسباب ووسائل نافعة، ويظنونها كالأسباب العادية، وعباد القبور والأنفس المفارقة، يرون أن تعلق قلب الزائر وروحه بروح المزور سبب لنيل مقصوده، وتحصيل نصيب مما يفيض على روح ذلك   1 في طبعة آل ثاني:"ومن"والتصويب من نسخة "الدرر السنية في الأجوبة النجدية":جـ 9/ 292. 2 ما بين القوسين سقط من النسخ الخطية. 3 في النسخ الخطية:"التمريخات". قال في مفتاح السعادة ومصباح السيادة"لطاش كبري زاده: النيرنجات معرَّب نيرنك، وهو التمويه والتخييل، وهو إظهار غرائب الامتزاجات بين القوى الفاعلة والمنفعلة ... إلخ (1/ 339) ، طبعة المعارف العثمانية. وقال صاحب"الكشكول":النيرنجيات: إظهار خواص الامتزاجات ونحوها. ونيرنج فارسي معرَّب، وأصله: نورنك، أي: لون جديد. والنيرنجيات ألحقها بعضهم بالسحر ... إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 المزور، كما ذكره الفارابي وغيره من عباد الكواكب، والأنفس المفارقة. وقد قال بعض السلف: (ما عبدتِ الشمسُ والقمر إلا بالمقاييس) 1. 1 جاءت هذه العبارة عن ابن سيرين فيما رواه عنه ابن جرير في "تفسيره": (8/ 131) ، والبيهقي في "المدخل إلى السنن":ص196، والدارمي في المقدمة من "سننه": (1/ 58) ، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله": (2/ 76) طبعة المنيرية. ولفظه: "أول من قاس إبليس، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس". قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": (2/ 203) على سند ابن جرير: إسناده صحيح. اهـ. وقد ذكر شيخ الإسلام هذه العبارة عن بعض السلف في "الرد على البكري"ص 269.وقال شيخ الإسلام في "الاقتضاء": (2/ 652) :وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس. اهـ. وينظر "الاقتضاء": (2/ 682، و687) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الفصل الثاني ... فصل قال العراقي: (ومن الأدلة على جواز دعاء الصالحين وندائهم ما ذكر الله عن نبيه سليمان، وقوله لآصف، فإنه1 طلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله) . فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، ما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا. وقصة آصف من أدلة التوحيد، وآصف توسل إلى الله بتوحيده وإلهيته، وكرر ذلك في دعائه، وقد قيل: إنه يعرف الاسم الأعظم، فهو طالب من الله، راغب إليه، سائل له، ليس بفاعل أصلاً2، وسليمان عليه السلام آمر ليس بسائل ولا طالب. وفرق بين الأمر والمسألة. ومن لم يفرق بين الأمرين، و3لم يدر حكم المسألتين، فليرجع إلى وراء، وليقتبس نوراً من كلام أئمة العلم والهدى.   1 في طبعة آل ثاني:"وقد". 2 سقطت من طبعة آل ثاني:"ليس بفاعل أصلاً". 3 سقطت: و"من طبعة آل ثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: "لا تنسنا يا أُخَيَّ من صالح دعائك" 1.   1 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده": (1/ 29، و2/ 59) ، وأبو داود: (2/ 169) ، والترمذي: (5/ 559) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه: (2/ 966) ، وابن السني في "عمل اليوم والليلة":ص 103، وابن عدي في "الكامل": (5/ 1868) ، وابن حبان في "المجروحين": (2/ 128) ، وأبو يعلى الموصلي، والخطيب في "تاريخه": (11/ 396-397) جميعهم من طريق عاصم بن عبيد الله عن سالم عن ابن عمر عن عمر ... به. وهذا إسناد ضعيف –كما قال شيخنا العلامة المحدّث عبد العزيز بن باز-وعلّته عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب. قال فيه البخاري: منكر الحديث، وكذا قال أبو حاتم وابن نمير، وضعفه أحمد وابن معين وغيرهم (انظر:"تهذيب التهذيب"لابن حجر) وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": (ضعيف) . وللحديث طريق آخر أخرجه الخطيب في "تاريخه": (11/ 396) من طريق أبي عبيد بن الحسين، ثنا الحسن الزعفراني، ثنا أسباط، عن سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: استأذن عمرُ النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة ... الحديث. قال البرقاني: قيل هذا لا يتابع عليه أبو عبيد، وإنما الصحيح ما حدّث به الزعفراني عن شبابة عن شعبة عن عاصم بن عبد الله عن سالم عن ابن عمر عن عمر. اهـ. وقال ابن عبدان: وبلغني عن أبي عبيد بن حربويه حدث به عن الزعفراني مثل هذا –أي من طريق عبيد الله بن عمر-وليس بمحفوظ من حديث الثوري وأظنه وهماً. اهـ. من "تاريخ بغداد". وهو كما قال، فإن سائر الثقات الذين رووا هذا الحديث عن الثوري قالوا فيه: عن عاصم بن عبيد الله. وخالفهم في ذلك أسباط بن محمد عن الثوري فقال: عن عبيد الله بن عمر. وأسباط هذا ضعيف في الثوري. قال ابن معين: كان يخطئ عن سفيان. وقال الحافظ في "التقريب": (ثقة ضعف في الثوري) . فعلى هذا تكون هذه الطريق منكرة، وذلك أن أسباط وإن كان ثقة فهو ضعيف في روايته عن الثوري، فمخالفته للثقات هنا من باب مخالفة الضعيف للثقة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وهذا من جنس الأسباب العادية، فإن الرجل إذا كان معروفاً بالصلاح، وإجابة الدعاء، فطلب منه الدعاء، أو أمر به، فدعا الله واستجيب له، لا يكون هو الفاعل للاستجابة، وليس المطلوب منه ما يختص بالله من الفعل، وإنما يطلب منه ما يختص به من الدعاء والتضرع. فالآية من أدلة التوحيد، وصرف الوجوه إلى الله، وإقبال القلوب عليه، فإن آصف توسل إلى الله بتوحيده وربوبيته، وقَصَدَه وحده، ولم يقصد سليمان ولا غيره، مع أن سليمان أفضل منه لنبوته. وفيها أن الأنبياء لا يسألون ولا يقصدون، بل ربما صار حصول مقصودهم، ونيل مطلوبهم على يد من هو دونهم من المؤمنين. وأن أعظم الوسائل وأشرف المقاصد هو توحيد الله بعبادته ودعائه وحده لا شريك له، كما فعل آصف. وفيها براءة أولياء الله من الحول والقوة، كما دلت عليه القصة، فإنه1 توضأ، وصلى، ودعا، فقال في دعائه: "يا ذا الجلال والإكرام" قاله مجاهد. وقال الزهري2: يا إِلهَنا وإله كل شيء، إلهاً واحداً، لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها". فأي شبهة تبقى مع هذا، وأي حجة فيه على أن غير الله يدعى؟ 1 في النسخ الخطية: "وأنه". 2 في طبعة آل ثاني: "الزيادي" وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ثم أخذ العراقي في هذيان وإسهاب حاصله: أن السبب لا يفعل، وأن الله هو الفاعل. ومراده بهذا أن دعاء الأموات والغائبين من الأولياء والصالحين يجوز ويسوغ، إذا اعتُقِد أن الله هو الفاعل. وقد مَرَّ رد هذا، وتقرير جهل قائله، ومفارقته لما عليه أهل الإسلام، وقد تقدم أن أصل الإسلام وقاعدته: هي عبادة الله وحده لا شريك له، وإفراده بالقصد والطلب. وأن توحيد الربوبية، واعتقاد الفاعلية له تعالى لا يكفي في السعادة والنجاة، ولا يكون به الرجل مسلماً حتى يعبد الله وحده، ويتبرآ مما سواه من الأنداد والآلهة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله" 1. وهذا ظاهر بحمد الله، وإن خفي على خفافيش البصائر، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا2 إلى ركن وثيق، فهاموا من   1 أخرجه البخاري في "صحيحه": كتاب الإيمان (1/ 129) ، وفي العلم (1/ 185) عن ابن عباس قال: إن وفد عبد قيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من الوفد –أو من القوم .... الحديث". وأخرجه مسلم في "صحيحه": كتاب الإيمان 1/ 46، 47، 48، 49، 50) ، عن ابن عباس وأبي سعيد. 2 في طبعة آل ثاني: "يلجأوا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الجهل والضلال في كل فج عميق، مع انتسابهم إلى العلوم والدفاتر، وتقدمهم في المجالس والمحاضر1. لا عيبَ في القومِ من طولٍ ومن قصرٍ ... جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ2   1 في النسخ الخطية: "المحاضر". 2 البيت لحسان بن ثابت، وهو في "ديوانه": ص 267، طبعة: عبد الرحمن البرقوقي، ولفظه: لا بأس بالقوم من طولٍ ومن عظمٍ ... جسم البغال وأحلام العصافير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الفصل الثالث ... فصل قال العراقي: (فعند أهل السنة أفعال العبد مخلوقة لله، وعند المعتزلة أن المخلوق خالق لأفعاله، ومع هذا فأهل السنة لا يكفرونهم) انتهى. قلت: يريد العراقي أن مسألةَ الأموات والغائبين، ودعاءََهم1 في الحوائج والشدائد مبنية على هذه المسألة، وأن أهل السنة يثبتون ذلك لمن اعتقد أن الله خالق أفعال العباد، وأن من أنكر دعاء الصالحين ونداءهم2، فهو من المعزلة، لأن إنكاره مبني على اعتقاده أن العبد خالق لأفعال نفسه. والجواب أن يقال: أما هذه المسألة أعني –خلق أفعال العباد- فأهل السنة قائلون بها، لدلالة الكتاب والسنة، والأدلة العقلية والنقلية، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} . [الصافات: 96] . وقد انعقد الإجماع على هذا، ثم حدث قول القدرية النفاة في أواخر عصر الصحابة، وأول من اشتهر عنه ذلك غيلان القدري،   1 في "ب" و"جـ" وطبعة آل ثاني: "دعائهم". 2 في النسخ الخطية: "دعائهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ومعبد الجهني. فأما غيلان: فكان في زمن هشام بن عبد الملك، فناظره الأوزاعي إما أهل الشام في زمانه، وألزمه الحجة، وحكم بكفره، وقتله هشام. ومعبد الجهني: قتله الحجاج بن يوسف. وأكثر السلف والأئمة1 يكفرونه بههذ المقالة، كما هو معروف في محله. وقد قال الإمام أحمد: "ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا". وقد حكى الإجماع على كفر من أنكر العلم شمس الدين ابن قيم الجوزية، وناهيك به علماً واطلاعاًَ، فنسبته عدم التكفير إلى أهل السنة كذب جَرَّه عدم الحياء. ثم أي حجة في هذا على أن الأولياء والصالحين يدعون بما لا يقدر عليه إلا الله، فمسألة خلق الأفعال لا تلازم بينها وبين دعاء الأولياء والصالحين بوجه ما. وإنما أتي هذا من جهة ظنه أن من قال: بأن الله يخلق أفعال العباد، يباح له دعاء الصالحين. ومن قال: إن العبد يخلق أفعال نفسه، يحرم عليه ذلك، هذا ظن الأحمق، ولم يفرق2 بين مذهب المعتزلة والقدرية، ودين المشركين من العرب والصابئين.   1 سقطت: "والأئمة" من طبعة آل ثاني. 2 في النسخ الخطية: "يميز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ويذكر أن بعض الأغبياء شكا رجلاً إلى أمير من الأمراء، فقال: إنه مرجئ، خارجي، رافضي1، ناصبي، يسب معاوية بن الخطاب الذي قتل علي بن العاص. فقال له الوالي: "لا أدري على أي شيء أحسدك؟ على علمك بالمقالات، أو على معرفتك بالأنساب"2. قال العراقي: (وكان أحمد يصلي خلفهم، وكل السلف) . والجواب أن يقال: سبحان الله، ما أقبح الواقحة والجراءة3، والتمادي في الكذب على الله، وعلى أولي العلم من خلقه؛ ما صلى الإمام أحمد خلف قدري قط، بل أفتى بعض أهل الحديث بمجلسه أنه لا يصلى خلفهم، فاستحسنه واستصوبه. والمعروف من مذهبه أن الصلاة لا تصح خلف فاسق باعتقاده أو فعله. وقد كذب هذا بانتسابه إليه، والحكم عليه بالصلاة خلف القدرية، وأكثر أهل السنة لا يرون الصلاة خلفهم، كما ذكره صاحب "كشف الغمة". بعض العلماء يقول: مسألة صلاة الجمعة والجماعة مبنية على   1 في "أ": "رافظي". 2 ذكر هذه الحكاية ابن الجوزي في "أخبار الحمقى والمغفلين": ص144، طبعة دار الكتب العلمية. وقد ذكر الذهبي –رحمه الله- في "السير": (10/ 205) قصةً نحوها. 3 في طبعة آل ثاني: "والجرأة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 مسألة القول بالتكفير وعدمه، ويرى الصلاة خلف من لم يكفر ببدعته إذا احتيج1 إلى ذلك، فما حكاه هذا عن أهل السنة كذب لا مرية فيه، والصواب التفصيل عند بعضهم، والمنع مطلقاً عند آخرين.   1 في طبعة آل ثاني: "احتج". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الفصل الرابع ... فصل قال العراقي: (وهذا باب الكرامة) وتكلم في إثبات الكرامة، وأنها تكون بعد الموت، واستدل بقوله تعالى عن الملائكة {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} . [فصلت: 31] . ومراد العراقي أن دعاء الصالحين، والاستشفاع بهم، وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله منهم، من جنس الكرامة المثبتة التي أثبتها أهل السنة. وهذه طامة عظيمة، وغاية في الجهالة والسفاهة، بل هي من جنس احتجاج النصارى على دعاء المسيح، وأمه، وعبادتهما، ظنوا أن ما حصل للمسيح ولأمه –عليهما السلام- من المعجزات والكرامات1، يبيح لهم دعاءهما2، وعبادتهما. وإذا خاطبت النصراني، سرد عليك من المعجزات والكرامات التي أعطيها المسيح واحتج بها على دعواه. وعباد القبور يحتجون في هذا الباب بما لم يثبت. وما ثبتَ   1 في طبعة آل ثاني: "من الكرامات والمعجزات" وقد سقطت "من المعجزات والكرامات" من "أ". 2 في "ب" و"جـ": دعائهما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فأكثرُه دون ما أعطيه المسيح، ومع ذلك فالاحتجاج به على دعائهم من جنس حجج النصارى، لا يدل على المدَّعَى، بل غايته أن يدل1 على علو الدرجة، وصدق الرسالة، أو ثبوت الولاية إذا اقترن به عمل صالح. وأما الاستدلال بذلك على أنه يدعى ويرجى، ويشفع وينفع، فهذا من دين النصارى، والصائبة، وعباد الأصنام. وهذه الشبهة هي التي أوقعت في الشرك جمهور المشركين، فإن أصل عبادة الأصنام هو التعلق على الصالحين، وتصوير صورهم وتماثيلهم. بل عباد الكواكب دعاهم إلى عبادتها ما أودع الله فيها من الحِكم والمنافع التي ظهرت آثارها في هذا العالم، كما يعرفه من عرف مذاهب القوم. وطرد الدليل الذي استدل به العراقي: أن يقال بدعاء كل ذي كرامة وقربة2، إذا اعتقد أن الفاعل هو الله، ولا يتوجه الإنكار على النصارى في قولهم: يا عيسى افعل كذا، يا روح القدس أعطني كذا، ويا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله، لأنه من أولي العزم، ومن أكابر أهل الكرامات. والمسلم إذا تصور هذا ظهر له ما فيه من الجهل والضلال، بمجرد الفطرة، ومعرفة الإسلام، وأما من رزق الفهم فيما جاء به   1 "أن يدل" ليست في "ب" ولا "جـ". 2 في "أ" وطبعة آل ثاني "ومزيّة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 محمد صلى الله عليه وسلم، ووفق للاستدلال بآيات الله ومخلوقاته، التي نصبها شاهدة ودالة على توحيده في ربوبيته، فذلك أكمل إيماناً، وأتم علماً وإيقاناً، يرى كفر من تعلق على غير الله، ودعاه فيما يختص بالله من أوضح الواضحات، وأبين البينات. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [الشورى:9] . استدل بعموم قدرته وإيجاده وإحيائه الموتى على وجوب توليه بعبادته وحده لا شريك له. والقرآن والسنة يدلان على هذا، ويقررانه بأنواع الدلالات، وألطف التقريرات. والآية التي استدل بها ليس فيها ما يدل على دعواه، بل فيها ما يبطلها ويدحضها1، فإن أول الآية نص على وجوب التوحيد، وإفراد الله بالعبادة والاستقامة على ذلك بالتزام حقوقه وواجباته، وتنزل الملائكة ومخاطبتهم للمؤمن بهذا الخطاب، وتوليهم2 له لا يدل على أنه يفعل ويشفع، وإنما يدل على كرامته، وعلو درجته، ونيل مشتهاه، ومدعاه في دار الكرامة. فأين في هذا ما يدل على أنه يدعى في حياته، أو بعد مماته؟ وفي الحديث: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ3 مقعده من النار".   1 في "أ" و"ب": "ويدحظها". 2 في طبعة آل ثاني: "وتوليتهم". 3 في "ب" و"جـ": يتبوء" وفي "أ": "يتبؤ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وفي رواية: "بغير علم"1.   1 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده": (1/ 233، 269) ، وأبو داود فيما نسب إليه المزي في "تحفة الأشراف": (4/ 423) –ولعله في غير رواية اللؤلؤي فإني لم أجده فيها، وهي المتداولة بين الناس- والترمذي: (5/ 199) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في "السنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف": (4/ 423) ، والطبري في "تفسيره": (1/34) ، والبغوي في "شرح السنة": (1/ 257-258) ، جميعهم من طريق عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ... به. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" على هذا الحديث (1/ 147) : رواه الطبراني في "الكبير" وفيه عبد الأعلى بن عامر والأكثر على تضعيفه. اهـ. وقد ضعفه أحمد وأبو زرعة وابن سعد وقال النسائي: ليس بالقوي يكتب حديثه، وقال ابن معين: ليس بذاك القوي. قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب": (6/ 95) بعد أن ساق هذه الأقوال وغيرها: وصحح الطبري حديثه في الكسوف وحسن له الترمذي وصحح له الحاكم وهو من تساهله. اهـ. ورواه ابن عدي في "الكامل": (6/ 2130) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال في القرآن برأيه فإن أصاب لم يؤجر". وهذا إسناد تالف. الكلبي اسمه "محمد بن السائب بن بشر" لخص الحافظ ابن حجر قول أئمة الجرح فيه فقال: متهم بالكذب ورمي بالرفض. اهـ. وروى ابن عدي بسنده عن سفيان الثوري قال: قال لي الكلبي: قال لي أبو صالح: كل ما حدثتك فهو كذب. وأبو صالح هو باذام مولى أم هانئ بنت أبي طالب, قال ابن معين: ليس به بأس وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء. وقال ابن حبان: يحدث عن ابن عباس ولم يسمع منه. "تهذيب التهذيب": (1/ 416-417) ولخص الحافظ ابن حجر القول فيه فقال: ضعيف مدلّس. اهـ. وروى ابن أبي شيبة هذا الحديث في "مصنفه": (1/ 512) موقوفاً على ابن عباس، وفي إسناده عبد الأعلى بن ماهر. ورواه الطبري في "تفسيره": (1/ 43) موقوفاً على ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وهذا الجاهل في الاستدلال بآيات الله، ويحملها على غير محملها، ويتأولها على غير تأويلها، بل على نقيضه وضده، فسبحان من طبع على قلبه. ط [وقد استدل بعض من يدعي العلم على مسألة تصرف الأولياء، وأنهم يدعون، بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . [آل عمران:169] . فقال بعض عوام المسلمين: إن كانت القراءة يَرزقون –بفتح الياء- فذاك متجه، وإلا فالآية حجة عليك] 1. قال في "الفتاوى البزازية": من كتب الحنفية: "قال علماؤنا: من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر". انتهى. فإن أراد علماء الشريعة فهو حكاية للإجماع، والإجماع على هذا يعلم بالضرورة من دين الإسلام، وهذا أحد الطرق التي يعرف بها الإجماع. وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في رسالته "في الرد على من زعم أن الأولياء يدعون ويتصرفون على أن ذلك كرامة". قال: "وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي،   وفي الباب عن جندب بن عبد الله بلفظ: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ". أخرجه الترمذي: (5/ 200) ، وأبو داود: (4/ 63-64) ، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف": (2/ 444) وإسناده ضعيف علته سهيل بن أبي حزم وهو ضعيف عندهم."تهذيب التهذيب": (4/ 261) . 1 ما بين المعقوفتين: زيادة من طبعة آل ثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 والعذاب السرمدي، لما فيه من روائج الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة عقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة". انتهى1. والمقصود أنه حكى إجماع الأمة على كفر من زعم ذلك.   1 "انتهى" ليست في طبعة آل ثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الفصل الخامس ... فصل واستدل العراقي على دعاء الصالحين وندائهم بالحوائج1 بقوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} . [النازعات:5] . وذكر عن البيضاوي أنها أرواح الموتى. الجواب أن يقال: قد حكى البيضاوي أقوالاً في الكلام2 على هذه الآية، وقدَّم أنها الملائكة، وحكى أنها النجوم، وحكى أنها خيل الغزاة، وحكى أنها أنفس الغزاة. وعلى زعم هذا وطرد دليله: كل ما ذكر يدعى مع الله حتى خيل الغزاة، والبيضاوي لا يقول بدعاء أحد مع الله، بل ذكر في "تفسيره" مواضع يعز استقصاؤها في المنع من3 ذلك وتحريمه. ثم هذا القول الذي قاله العراقي رجوع إلى عبادة الملائكة، والنجوم، والأنفس المفارقة، هذا حقيقة دين الصابئة، أوقع العراقي فيه: ظنه أن العبادة لا تكون عبادة وشركاً إلا إذا اعتقد التأثير من   1 في ط: آل ثاني "الحوائج" وفي "ب" و"جـ": (للحوائج) . والمثبت من الدرر السنية 9/ 296. 2 "في الكلام" ليست في ط: آل ثاني. 3 في ط: آل ثاني "عن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 دون الله، وهذا الشرط هو الذي أوقعه فيما وقع فيه من تجويز عبادة الملائكة، والنجوم، والأنفس المفارقة. وهذه1 المسألة غلط فيها كثير من الضالين، مع أن الله تعالى وضحها في كتابه توضيحاً كافياً شافياً. وقد تقدم بعض ذلك قريباً.   1 في ط: آل ثاني، عند هذا الموضع تعليق للشيخ نعمان الألوسي، نقل فيه من تفسير والده رحمه الله ما يتعلق بهذه الآية مختصراً، ثم قال: هذا، واعلم أن هذا الناقل لكلام البيضاوي المموه أدلته بالأباطيل شنشنته معروفة عند علماء العراق، وتأويلاته الفاسدة غير مسلمة بالاتفاق، فعليك بطريقة السلف، وأعرض عمن ابتدع وتخلف، وأعرض عن ذكر الله وتكلف وتصلف. اهـ. وفي هذا الموضع أيضاً من الطبعة المذكورة تعليقة أخرى فيها نقل كلام الألوسي في تفسيره "روح المعاني" فيما يتعلق بذم المتصوفة، والغالين في الأولياء، نسوقه لحسنه: قال العلامة مفتي الأنام في مدينة السلام، أبو الثناء شهاب الدين الألوسي تغمده الله تعالى برحمته، في تفسيره "روح المعاني" في باب الإشارة ما نصه: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر" الآية، فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التجهم والبسور، وهم في زماننا كثيرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا} . الآية إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى، حيث يستغيثون بهم في الشدة؛ غافلين عن الله تعالى، وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون: إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ننذر لله عز وجل ونجعل ثوابه للولي. ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم، أو رد غائبهم، أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشدنا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 والشرك: جعل شريك لله تعالى فيما يستحقه ويختص به من العبادة الباطنة والظاهرة1، كالحب، والخضوع، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والنسك، والطاعة، ونحو ذلك من العبادات. فمتى أشرك مع الله غيره في شيء من ذلك فهو مشرك بربه، قد2 عدل به سواه، وجعل له نداً من خلقه. ولا يشترط في ذلك أن يعتقد له شَرِكَةً في الربوبية، أو استقلالاً منها. والعجب كل العجب أن مثل هؤلاء يقرؤون3 كتاب الله، ويتعبدون بتلاوته، وربما عرفوا شيئاً من قواعد العربية، وهو في هذا   ذلك أنه لو قيل: انذروا لله تعالى، واجعلوا ثوابه لوالديكم، فإنهم أحوج من أولئك الأولياء، لم يفعلوا. ورأيت كثيراً منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعاً في قبورهم، لكنهم يتفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة، وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف، قاتلهم الله تعالى، ما أجهلهم، وأكثر افتراءهم. ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور، ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم يقولون: إنما تظهر أرواحهم متشكلة، وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال، أو نحوه، وكل ذلك باطل لا أصل له، في الكتاب، والسنة، وكلام سلف الأمة، وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة، من اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية، نسأل الله تعالى العفو والعافية. انتهى. الفقير/ أحمد شهاب الدين. 1 سقطت: "الباطنة والظاهرة" من: "ب" و"جـ". 2 في "ب" و"جـ": (وقد) . 3 في النسخ الخطية: (يقرؤن) وفي ط: آل ثاني (يقرأون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الباب من أضل خلق الله، وأبعدهم عن فهم وحيه وتنزيله. ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن المشركين، وما حكم عليهم به1، ووصفهم به، خاص بقوم مضَوا، وأناس سلفوا وانقرضوا، لم يعقبوا وارثاً. وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين: هذه نزلت في عباد2 الأصنام، هذه نزلت3 في النصارى، هذه في الصابئة، فيظن الغُمر4 أن ذلك مختص5 بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة. ثم اعلم أن قول البيضاوي هنا قول لا يلتفت إليه، ولا يعول في الدليل عليه، لأنه صدر عَمَّن لا يرضى، ولا يؤتم به في هذا الشأن ولا يقتدى، ولم يقله أحد من أئمة التفسير والهدى، بل قد صرحوا بخلافه كما يعرفه أولو6 الأحلام والنهى، ونبهوا على أن أصل الشرك هو سؤال أرواح الموتى. والبيضاوي وأمثاله إنما يؤخذ عنهم ما شهدت له الأدلة الشرعية، وجرى على القوانين المرضية، التي يتلقاها أهل العلم والإيمان، من أحكام السنة والقرآن.   1 "به" ليست في ط: آل ثاني. 2 سقطت: "عباد" من النسخ الخطية. 3 "نزلت" ليست في ط: آل ثاني. 4 في ط: آل ثاني: "الغِرّ". 5 في "أ" و"ب": (مختصاً) . 6 في النسخ الخطية: (ألوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وقد قال عمر بن الخطاب –رضي الله تعالى عنه-: "ذهاب الإسلام من ثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن،1 وحكم الأئمة المضلين"2. هذا لو سلمنا ثبوت العلم لمن يحكي مثل هذه الأقوال، وإلا فأين العنقاء لتطلب، وأين السمندل ليجلب؟ 3 وأهل التحقيق من المفسرين على أن المراد بهذه الآية هم الملائكة، فإسناد التدبير إليهم كإسناد النزع، والنشط، والتقسيم، والزجر، كما في قوله: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} . [الذاريات:4] وقوله: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا*فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} . [الصافات:2-3] . وليس في هذه الآيات الكريمات ما يدل على دعاء الملائكة، وعبادتهم، فإنهم رسل مأمورون مدبرون، كما أن إبلاغ الرسالة من الرسول البشري لا يدل على دعائه، ولا يقتضيه، فكذلك الملائكة،   1 سقطت من "أ": "وحكم الأئمة المضلين". 2 أخرجه الدارمي في "سننه" 1/ 63. والفريابي في "صفة المنافق" ص54 وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 2/ 110، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 195. 3 قوله: (العنقاء) ذكر في "اللسان" عدة أقوال في تعريفها، وكل هذه الأقوال تدل على صعوبة الوصول إليها، أو عدمه. ومن تلك الأقوال: (طائر عظيم لا يرى إلا في الدهور) ، وقيل: (طائر يكون عند مغرب الشمس) وقال الزجاج: (طائر لم يره أحد) ، وقيل: (طائر لم يبقَ في أيدي الناس من صفتها غير اسمها) وقيل غير ذلك. (ينظر اللسان، 4/ 3136، ط: دار المعارف بمصر) . وقوله: (السمندل) هو –كما في "اللسان" 3/ 2105- طائر إذا انقطع نسله وهرم ألقى نفسه في الجمر فيعود إلى شبابه. وقيل: هو دابة يدخل النار فلا تحرقه. اهـ من اللسان بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 لأنهم رسل بالأوامر الكونية والشرعية. والقدرةُ والتدربير وتسخير المخلوقات كل ذلك لله وحده، وهو من أدلة توحيده وإلهيته، وصرف الوجوه إليه، والإعراض عما سواه. قال تعالى في حق الملائكة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} . إلى قوله {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . [الأنبياء:26-29] . وقال في شأن جبريل وغيره من الملائكة {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . [مريم:64] . فتأمل ما في هذا القول من كمال العبودية، ومتابعة الأمر، والبراءة من الملكة والحول والقوة، والاعتراف له تعالى بذلك. فاستدل بعموم الربوبية، ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ثناء عليه تعالى بإثبات العلم، ونفي ما يضاده، أو ينافي كماله. قال تعالى في حق المسيح: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} . الآية [النساء:172] . والمقصود أن تسخير الملائكة، وتدبيرها، وإرسالها من أدلة إلهيته تعالى، واستحقاقه لأن يعبد وحده لا شريك له. * ومن العجب أن هذا العراقي زعم هنا أن ابن القيم قال في كتاب "الروح" وابن تيمية قال في كتاب "الفرقان": إن أرواح الموتى تدبر. وقد برأهما الله، وحماهما من ذلك، بل هما من أبعد خلق الله عن هذه الأقاويل الجاهلية الشركية، ومن أشدهم نهياً عنها، وإبطالاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 لها في غالب كتبهم ومصنفاتهم، وقد شنعوا على من قال هذا، وكفروه، وحكوا هذا القول عن الصابئة والمشركين من الفلاسفة وغيرهم. وفي "الفرقان" للشيخ ما يبطل هذا المذهب من وجوه عديدة تقارب السبعين. فانظر ترى، إن كنت من أهل العلم والهدى. وفي كتاب "الروح" ما يقارب ذلك من إبطال هذا القول، وتكفير فاعله. ومن وقف على الكتابين، وله فهم عن الله ورسوله، يعرف ما قلناه، ويتضح له صحته ومغزاه. والخطاب مع ذكي النفس، قوي الهمة، رفيع القدر، العارف بأخذ العلم واستنباطه، وأما وضيع النفس، ضعيف الهمة، خسيس القدر، الجاهل بأخذ العلم من معدنه ومظانه فليس الكلام معه، ومثله لا يزداد بكثرة الكتب والأقوال إلا شكاًّ وحيرة. ثم استدل العراقي برؤيا الأرواح بعد الموت عند النصر والظفر. وهذا من أعجب ما سمعنا عن هؤلاء الضلال. والرؤيا على أقسام معروفة، وتأويلات مختلفة، فمنها حقائق وصور مشهورة. ومنها أمثال مضروبة، وعلى الأول ليست فاعلة، ولا سبباً أصلاً، بل هي علامات وشواهد، ولا يخالف في هذا من شم رائحة العلم والتمييز. وقد قالوا: إن رؤيته صلى الله عليه وسلم مناماً –بشرطها المقرر، وهو أن يراه صلى الله عليه وسلم على صفته ومثاله- يختلفُ تأويلُه بحسب اختلاف الرائي، واختلاف الزمان والمكان، فرؤيته عند الحرب تحمد للمؤمنين وفيها بشارة لهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بخلاف غيرهم من الكفار والمنافقين، والبغاة المعتدين، فهي نذارة لهم، وعقوبة عاجلة، وكذلك المكان الذي تكثر فيه المعاصي، ويظهر الفجور. واللبيب يفهم من الرؤيا والمثل ما لا يفهمه سواه، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون. وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته الدنيوية، وأبو بكر، وعمر كانوا يجاهدون بأنفسهم وأموالهم، وقد قال تعالى لنبيه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} . [الأنفال:17] . ولما وعدهم أن يمدهم بالملائكة تقاتل معهم قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . [الأنفال:10] فأخبر أن النصر من عند الله لا من عند غيره، لتنيب القلوب إليه، فتعتمد في مهماتها ةعليه، وتستغيث به وحده لا شريك له. فإذا كان هذا حالهم في الحياة فكيف ترى حال الأرواح بعد الممات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُوْ لَهُ". وهؤلاء الضلالُ يقولون: إن أرواح الأولياء تدبر، وتهزم، وتنصر، وتفعل، وتفعل، قل أأنتم أعلم أم الله. وهذا الرجل يعرف من نظر في كلامه أنه أجنبي عن العلم والإيمان، لم يعرف ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وكيف كان الشرك في الأمم. ولكنه وجد مادة وكتباً شتت فهمه، أراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الاستغناء بها فلم تزده إلا جهلاً وعمى، وأضاف إلى ذلك الجراءة في الكذب على أهل العلم، ونسبة الأقوال الضالة إليهم، كما كذب على الشيخ وتلميذه، وزعم أنهما قالا: أرواح الموتى من المدبرات، وروح النبي صلى الله عليه وسلم هزمت الجيوش. والصواب أن الشيخ –رحمه الله- نص على أن القول بمثل هذا من أقوال الفلاسفة والصابئة*. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 قال رحمه الله – فيمن قال إن أرواح الموتى تجيب من دعاها1: "هذا يشبه بقول من يقول: الأرواح بعد المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها، وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة، ومن أخذ عنهم كابن سينا وأبي حامد وغيرهما. وهذه الأحوال هي من أصول الشرك، وعبادة الأصنام، وهي من المقاييس التي قال بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس". وقال أيضاً –رحمه الله- في الكلام على رؤساء المتكلمين: "وكل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم، فهم الآمرون بالشرك، الفاعلون له"2 إلى أن قال: "وقد رأيت في مصنفاتهم في عبادة الملائكة، وعبادة الأنفس المفارقة –أنفس الملائكة وغيرهم- ما هو أصل الشرك". وقال العلامة ابن القيم –رحمه الله- في "مدارجه": ومن أنواعه –يعني الشرك الأكبر- طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم،   والرجل وجد مادة وكتباً شتت فهمه، وحيرت عقله، أراد الاستغناء بها فلم تزده إلا عمى وجهلاً، فأضاف إلى ذلك الجرأة في الكذب على الله وعلى رسله وعلى أولي العلم من خلقه، كما كذب على الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وزعم أنهما قالا: الأرواح تدبر وتتصرف بعد الموت، والشيخ رحمه الله نص على أن القول بمثل هذا من أقوال الفلاسفة والصابئة. 1 في ط: آل ثاني: "قال رحمه الله: من قال إن أرواح ... " إلخ. 2 هذا النقل عن شيخ الإسلام ليس موجوداً في ط: آل ثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له عند الله. انتهى. [ونَقْلَ العراقي عن كتاب "الروح" أن روح النبي صلى الله عليه وسلم هزمت جيوش الكفار والظلم مع كثرة عددهم، لا أصل له، وكتاب "الروح" موجود، ومسموع من المشايخ الثقات العارفين بنصوصه وأقواله وأصوله وفروعه، ليس فيه هذا، بل فيه ردُّه وإبطاله كما تقدم. كذلك نقله عن الشيخ كذب ظاهر، وإفك وخيم. ويغلب على ظني أنه سمع في كتاب "الروح" ذكر رؤيا الأرواح وصعودها، ونزولها، وحضورها تارة عند الحرب أو غيره، ورؤية بعض الناس لأصحابها: فظن أن هذا هو القول بأن الأرواح تدبر، وتهزم الجيوش، لأن في ذهنه وخَلْده ما عليه الصابئة والفلاسفة من أن الأنفس المفارقة قد تؤثر في هذا العالم، ولم يميز بين مذهب الصابئة، وما عليه المسلمون، ومن بلغ في الجهالة إلى هذه الغاية والحد، فقد تعطل قلبه عن الإدراك والمنافع وفسد] 1.   1 ما بين المعقوفتين سقط من ط: آل ثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الفصل السادس ... فصل قال العراقي في استدلاله على أن أرواح الصالحين تدعى وتدبر: (ومن الآيات التي تدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} . [يوسف:24] . قال1 المفسرون، منهم البغوي: رأى يعقوب عاضاً على أنملته، يقول: إياك وإياها، فلم يفعل، فكان يوسف في مصر، ويعقوب في الشام. فهذا نوع من الكرامة وهي سبب، والقدرة لله) . قلت: يريد العراقي أن مثل هذا يدل على جواز دعاء الصالحين وندائهم بالحوائج في الغيبة، وبعد الممات، لأن هذا كرامة، والكرامة يدعى صاحبها، وينادى. والجواب أن يقال: عبادة الله وحده لا شريك له وإفراده بالدعاء والطلب فيما لا يقدر عليه إلا هو، دلت على وجوبها الكتب السماوية، واتفقت عليها الدعوة الرسالية، وهي أصل الدين وقاعدته، لا يعتريها نسخ ولا تخصيص. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ   1 في ط: آل ثاني "وقال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} . [فاطر:3] . وقال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ*أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُور} . [تبارك: 20-21] . وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . [العنكبوت:17] . فتأمل هذه الآيات ونظائرها، وانظر ما دلت عليه من اختصاصه تعالى وانفراده1 بالخلق والرزق اللذين هما أصل المخلوقات وقوامها، وانظر2 كيف استدل بهذا على وجوب عبادته وطاعته والإيمان به، وهل يُعَارِضُ هذا الأصل بمثل هذه الأوهام الضالة من شَمَّ رائحة العلم، ودرى ما الناس فيه من أمر دينهم. فإن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ ... وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ هذا لو سلم أن الكرامات سبب، وأن هذا المثال فيه إثبات الكرامة، فكيف والأمر بخلاف ذلك بإجماع أهل العلم، والمقدمتان كاذبتان، لأن الكرامة فعل الله تعالى لا فعل للولي فيها، ولا قدرة له عليها ولا تأثير. وكل من يذكر تعريف الكرامة وحَدَّها يقول: هي خرق الله العادة لوليه، لحكمة ومصلحة تعود عليه، أو على غيره، وعلى هذا   1 "وانفراده" ليست في ط: آل ثاني. 2 في النسخ الخطية: "فانظر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 التعريف لا فعل للولي فيها ولا إرادة، فمن أين يؤخذ أنها سبب يقتضي دعاء من قامت به، أو فعلت له؟ ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا؟ وأفضل الناس الرسل، والملائكة من أفضل خلق الله، ولهم من المعجزات والكرامات والمقامات ما ليس لغيرهم. قد جاء عيسى بن مريم بما هو من أفضل المعجزات والكرامات: يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئهم من الغيب ما يأكلون وما يدخرون. وقد أنكر تعالى على من دعاه وقصده1 في حاجاته وملماته، وأخبر أن فاعل ذلك كافر بربه، ضال بعبادة غيره. قال تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا} . الآية [آل عمران:80] . والأرباب هنا2: هم المعبودون المدعون، وسيأتي تحقيق هذا. وقال تعالى فيمن عبد3 المسيح: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . [المائدة:76] . وسيأتيك أن الدعاء والنداء بما لا يقدر عليه إلا الله داخل في مسمى العبادة فتنبه.   1 في ط: آل ثاني: "قصده ودعاه". 2 سقطت: "هنا" من ط: آل ثاني. 3 في ط: آل ثاني: "عبدوا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 فأخبر تعالى عن المسيح أنه لا يملك لمن دعاه نفعاً ولا ضراً، وإن قَلَّ، كما يفيده التنكير، وأبطل عبادته، وأنكرها أشد الإنكار، ومعجزاته أوضح من الشمس وسط النهار. وقد تقدم أن هذه الشبهة هي التي تعلق بها النصارى في دعائه ودعاء أمه. ثم اعلم أن الآية ليس فيها ما يدل على كرامة يعقوب –عليه السلام- إلا حفظه في عقبه، وصيانة ولده، فإن الله يحفظ الرجل الصالح في نفسه وأهله ووله، كما في حديث ابن عباس: "احفظ الله يحفظك"1. وليس ذلك من جهة المثال وتخصيصه، فإن هذا لا يفيد الكرامة ولا يفهمها.   1 للحديث عن ابن عباس –رضي الله عنهما- طرق كثيرة، أصحها طريق حنش الصنعاني، أخرجه أحمد، والترمذي، وغيرهما. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح" اهـ من السنن 7/ 204 ط: المكتبة الإسلامية في تركيا. وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: لهذا الحديث طرق عن ابن عباس، وهذا –أي طريق حنش- أصحها. اهـ. وقال أيضاً: وهذا إٍسناد مشهور، ورواته ثقات. اهـ بواسطة نقل ابن رجب عنه، في رسالته "نور الاقتباس" ص 30. وقال ابن رجب في الرسالة المذكورة: وأجود أسانيده من رواية حنش عن ابن عباس التي ذكرنا، وهو إسناد حسن لا بأس به. اهـ. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى بذلك ابن عباس من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن سعد، وغيرهم من الصحابة، وفي أسانيدها مقال. وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها ليِّنة، وبعضها أصلح من بعض. اهـ من كلام ابن رجب في الرسالة المذكورة، وجامع بيان العلوم والحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وقد تمثل جبريل في صورة دحية الكلبي1. وكثيراً ما يتمثل الملك في صورة البشر.   1 أخرجه أحمد في مسنده (2/ 107) عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ... وذكر قصة مجيء جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية". وسنده جيد. قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (3/ 191) : وروى النسائي "بإسناد صحيح" عن يحيى بن يَعْمَر عن ابن عمر قال: "كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية". وروى العجلي في تاريخه عن عوانة بن الحكم قال: "أجمل الناس من كان جبرائيل ينزل على صورته" يعني دحية اهـ. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده في حديث طويل (6/ 141-142) وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 138) . وأخرجه الطبراني في الأوسط (كما في المجمع 9/ 378) عن أنس قال: قال رسول الله: "كان يأتيني جبريل على صورة دحية الكلبي. قال الهيثمي: وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف. وروى ابن عساكر في تاريخه (التهذيب 5/ 223) من عائشة: "أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبي وهو يكلمه قالت: فقلت: يا رسول الله، رأيتك واضعاً يدك على معرفة فرس دحية، فقال: ذاك جبريل ... ". وروى أيضاً عن أم سلمة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث رجلاً، فلما قام قال: يا أم سلمة، من هذا؟ قلت: دحية الكلبي. فلم أعلم أنه جبريل حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه ما كان بيننا". فائدة: قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 125) على قصة جبريل ومجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: دلت الروايات التي ذكرناها على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف أنه جبريل إلاَّ في آخر الحال. وأن جبريل أتاه في صورة رجل حسن الهيئة، لكنه غير معروف لديهم. وأما ما وقع في رواية النسائي من طريق أبي فروة في آخر الحديث "وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي". فإن قوله: "نزل في صورة دحية الكلبي" وهم، لأن دحية معروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 والذي رآه يوسف هو المثال، لا نفس يعقوب وذاته كما فهمه الغبي، فإن هذا لا يدل عليه كلامهم أصلاً، وكرامات يعقوب –عليه السلام- أَجَلُّ من ذلك وأعظم. وقد يُمَثَّلُ للإنسان من يحب ويأنس به، أو من يجله ويهابه، لمصلحة تعود عليه، لا على نفس صاحب المثال، ولذلك نظائر وأشباه في اليقظة1 والمنام، يعرفها أولو العلم والأفهام.   عندهم، وقد قال عمر: "ما يعرفه منا أحد" وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب "الإيمان" له من الوجه الذي أخرجه منه النسائي فقال في آخره: "فإنه جبريل جاء ليعلمكم دينكم". وهذه الرواية هي المحفوظة لموافقتها باقي الروايات. اهـ. 1 في النسخ الخطية: "اليقضه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 تنبيه ليست الكرامة من لوازم المنزلة وعلو الدرجة، مشى قوم فوق البحار، ومات عطشاً من هو أفضل منهم، وأقوى إيماناً. وقد كثرت في القرن الثاني والثالث، وفي القرن الأول من هو أفضل وأجل ممن وقعت له هذه الخوارق، وبسط هذا له محل آخر1. والقصد إبطال كلام هذا الضال. ويقال له: أكثر المفسرين على غير هذا، فمنهم من قال: إن هَمَّ يوسف من جنس الخطرات والواردات التي لا تستقر وليست بعزم، فتركها والإعراض عنها حسنة، كما دل عليه حديث: "إذا هَمَّ العبد بالسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة" 2. ومنهم من قال: البرهان المشار إليه هو قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} . [الإسراء:32] . رأى الآية مكتوبة في السقف.   1 سقطت: "آخر" من ط: آل ثاني. 2 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الرقائق- 11/ 323، ومسلم في صحيحه 2/ 149 "نووي" كلاهما عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى أنه قال: .... الحديث. ولهما عن أبي هريرة ... مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ومنهم من قال: رأى ثلاث آيات هي البرهان. ومنهم من قال: لم يهمّ يوسف بسوء لوجوب عصمته حتى قبل النبوة، وقوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} . [يوسف:24] معلق على عدم الرؤية، وقد ثبتت فلا هَمَّ، نقول: هلك1 زيد لولا عمر. وهذا معنى ما قال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: لولا أن رأى برهان ربه همَّ بها. وهذا يذهب إليه من يقول بعصمة الأنبياء قبل النبوة. وهو الراجح عن من اعتمد أقوالهم هذا العراقي فيما وصل إلينا في علم مسألة2 الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا3 خالفهم ظناً منه أن إثبات الكرامة يقتضي إباحة الدعاء مع الله. قال بعض السلف: "أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أيَّ مذهب وافق هواك تمذهبت به". ومن العجب أنه يكرر في هذه "الرسالة": سلوني سلوني إن أشكل عليكم شيء، وعندي مِنَ النسخ، وعندي كذا وكذا، ويطري نفسه إطراء لا يصدر عَمَّن له دين وعقل، أو دراية بشيء من الآداب والنقل، حتى أنشد في مدح نفسه قول الشاعر:   1 في ط: آل ثاني: "ملك". 2 سقطت: "مسألة" من ط: آل ثاني. 3 في ط: آل ثاني: "وهذا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 سَلِي إن جهلتِ الناسَ عَنَّا وعنهمُ ... فليس سواءً عالمٌ وجهولُ1 وما أحسن ما قيل: إني سألتُ ولكن لم أجدْ أحداً ... أثنى2 عليك ومدح النفس تضليلُ ومثل هذا لا يَحسُنُ ممن له علم وفضل، أو أدب ينتفع به وعقل، فكيف بمن لم يعلم حقيقة الإسلام، ولم يعرف منه ما عرفه آحاد العوام. وقد اعترض بعض الجهال على شيخ الإسلام في بعض تقاريره فأخطأ الإصابة، ولم يتأدَّب بحضرة تلك العصابة. وقال له الشيخ: لا أدب ولا فضيلة. وأَنَّى لمثل هذا بالفضل والأدب، وقد عدم العلم الذي هو أصل الفضائل والرتب. فقرُ الجهولِ بلا علمٍ إلى3 أدبٍ ... فقر الحمار بلا رأس إلى3 رسن   1 البيت للسموأل بن عادياء، ومطلع القصيدة التي منها هذا البيت: إذا المرء لم يَدْنَسْ من اللُّؤْمِ عَرضُه ... فكل رداءٍ يرتديه جميلُ وإن هو لم يحملْ على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناءِ سبيلُ 2 في ط: آل ثاني: "ثنا" وقد سقط البيت من "جـ". 3 في ط: آل ثاني: "ولا" وهو خطأ. والبيت من قصيدة لأبي الطيب المتنبي يمدح فيها محمد بن عبد الله الخطيب الخصيني. وهي في الديوان ص131 (ط هندية بشارع الموسكي بمصر، 1342) ولفظ البيت: "فقر الجهول بلا قلب ... إلخ ومعناه –كما ذكر محشي الديوان-: هم لا عقل عندهم فلا يحتاجون إلى أدب، كما لا يحتاج الحمار فاقد الرأس إلى لجام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وهذه الدعوى الكاذبة يمكن كل واحد أن يدعيها، ولكن هيهات هيهات قد حيل بين النفوس الجاهلة وبين أمانيها، لقول أصدق الورى، ومن لا ينطق عن الهوى: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم" الحديث1. والله يعلم أني ما رأيت لهذا إصابة قط فيما يدعيه وينفرد به، حتى أنه قال في بدء رسالته وخطبته في وصف الأرواح: (فما تعارف منها في الأزل ائتلف) . فزاد في الحديث قوله: "في الأزل" وهي زيادة تدل على جهله، وكثافة فهمه، فإن الأزل لا وجود للأرواح فيه، فضلاً عن أن تتعارف، لأنه اسم لما قبل إيجاد المخلوقات.   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- 8/ 213، ومسلم في صحيحه –كتاب الأقضية- 3/ 1336، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجالٍ وأموالهم. ولكن اليمين علىالمدعى عليه". هذا لفظ مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الفصل السابع ... فصل قال: (وقد أجمع الحنابلة وغيرهم على طلب الشفاعة من الرسول بعد موته عند زيارته) . والجواب أن يقال: هذه دعوى عريضة كبيرة، لا تصدر إلا عن اطلاع كلي، وإحاطة تامة بأقوال أهل العلم، أو عن وقاحة كلية، وتهور في الكذب، وإيغال في الافتراء. ومن المعلوم ضرورة عند من نظر في كلام هذا من أهل العلم، أنه ليس من القسم الأول، بل هو ممن يجهل الضروريات الإسلامية، والبديهيات الإيمانية اليقينية، مما لا يخفى على عامة المسلمين، فكيف له بمعرفة الإجماع في هذه المسألة. والمدَّعِي يطالب بتصحيح دعواه. ولكن نتنزل مع هذا ونكتفي منه بتصحيح ذلك عن واحد فقط ممن يحتج به من أئمة العلم والفتوى، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من بعدهم من التابعين، وتابعي التابعين، أو الأئمة الأربعة، أو أصحاب الوجوه والترجيحات في مذاهبهم. وأما من لا يحتج به من الخُلُوْفِ الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء ليسوا بحجة، ولا يرجع إليهم بالاتفاق، والآثارُ والأحاديث دَلَّت على عيبهم وذمهم بما أحدثوه في دين الله من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الأقوال والأفعال، كما في حديث العرباض بن سارية1، وغيره من الأحاديث. وما علمت أحداً من أهل العلم وأئمة الفتوى، قال هذا، لا من الصحابة ولا من غيرهم.   1 ونصه: قال العرباض بن سارية: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. قلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "وقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً، عضوا عليها بالنواجذ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما انقيد انقاد". هذا لفظ أحمد. وفي لفظ له: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة". أخرجه أحمد 4/ 126-127، وأبو داود 5/ 13-14-15، والترمذي 5/ 44-45، وابن ماجه 1/ 15-16-17، وابن حبان 1/ 105، والآجري في الشريعة ص 47، والمروزي في السنة ص21-22، وابن أبي عاصم في السنة 1/ 17-18-19-20-26-27-29-30، والطبراني في الكبير 18/ 245- 246- 247، والحاكم في المستدرك 1/ 95-96-97، وفي المدخل إلى الصحيح ص79-80-81، والبيهقي في الدلائل 6/ 541، وفي مناقب الشافعي 1/ 10-11. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ليس له علّة، وأقره الذهبي، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء 2/ 579. وقال الحافظ ابن كثير في "تحفة الطالب" ص163: صححه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، والذعولي، وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 بل حكى الشيخ الإمام أحمد بن عبد الحليم الإجماع على المنع من دعائه صلى الله عليه وسلم، والطلب منه، وقرر أن هذا من شعب الشرك الظاهرة، وسيأتيك بسط كلامه. وذكر الحنابلة كصاحب "الفروع" و"الإقناع" وغيرهم، حتى أصحاب المختصرات: أن المُسَلِّم عند القبر لا يستقبله عند الدعاء، ولا يدعو الله عنده. وهذا منهم صيانة للتوحيد. وأبو حنيفة قال: لا يستقبله عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم، بل يستقبل القبلة، وحكاه شيخ الإسلام. وقد كره مالك للرجل أن يدعو عند القبر الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وذكر أنه يستقبل القبلة عند الدعاء، كما ذكره في "المبسوط" وغيره من كتب المالكية. وفي منسك الإمام أحمد مثل هذا، بل كرهوا للرجل من أهل المدينة أن يأتي القبر الشريف كما دخل المسجد، لأنه محدث، لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مالك: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصْلَحَ أوّلَها1.   1 باعث هذه الكلمة التي هي من جوامع الكلم، ما ذكره القاضي عياض –رحمه الله- في "الشفا" ج2/ 676 ط الحلبي، نقلاً من "المبسوط" للإمام إسماعيل بن إسحاق الجهضمي، عن الإمام مالك –رحمه الله- أنه قال: لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، ويدعو لأبي بكر وعمر –رضي الله عنهما. فقيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر، ولا يريدونه –أي لا يريدون السفر بل هم مقيمون- يفعلون ذلك في اليوم مرّة أو أكثر عند القبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وأما مَنْ قدم من سفر أو أراده من أهل المدينة فرخصوا1 له في إتيان القبر الشريف للسلام، لأن ابن عمر كان يفعله. قال ابن أخيه عبيد الله بن عمر بن عاصم: لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ابن عمر2. وعبيد الله المصغَّر3 من أفضل آل عمر، ومن أعيان وقته، ثقةً وزهداً وعلماً. وأما دعاؤه، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد موته، فهم مجمعون على المنع منه. ولم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ما يقتضي الجواز والإباحة.   فيسلمون، ويدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدتنا، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك. ويكره إلا لمن جاء من سفر، أو أراده. اهـ. وانظر "الاقتضاء" لشيخ الإسلام ابن تيمية، 2/ 754. 1 في النسخ الخطية: "فرخص". 2 قال عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 576: عن معمر عن أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. وأخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر، فقال: ما نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر. 3 في ط: آل ثاني "المصفر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 قال شيخ الإسلام أبو العباس –رحمه الله-: "والطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وفي مغيبه1 ليس مشروعاً قط، ولكن كثيراً من الناس يدعو2 الموتى والغائبين من الشيوخ وغيرهم، فتتمثل3 له الشياطين، و4تقضي بعض مآربه، لتضله5 عن سبيل الله كما تفعل الشياطين بعباد الأصنام، وعباد الشمس والقمر، وتخاطبهم، وتتراءى لهم، وهذا كثير يوجد في زماننا، وغير زماننا". انتهى. وقال الشيخ –رحمه الله-: "وكان الصحابة والتابعون –لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك- لا يدخل أحد إليها، لا لصلاة هناك، ولا لتمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعاً إنما يفعلونه6 في المسجد7. وكان السلف إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة، ولم يستقبلوا القبر. وأما وقوف المُسَلِّم عليه، فقال أبو حنيفة: ليستقبلوا القبلة أيضاًَ، و8لا يستقبلوا القبر.   1 في ط: آل ثاني: "مغيبة". 2 في النسخ الخطية: "يدعوا". 3 في النسخ الخطية: "فتمثل". 4 سقطت "و" من النسخ الخطية. 5 في النسخ الخطية: "لتضلهم". 6 في ط: آل ثاني: "يفعل". 7 في ط: آل ثاني: "بالمسجد". 8 سقطت "و" من النسخ الخطية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وقال أكثر الأئمة: بل ليستقبلوا القبر عند السلام عليه خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء –أي الدعاء الذي يقصده لنفسه1- إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك، ومذهبه بخلافها. واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُقَبِّله. وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد. قالت طائفة من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} . الآية [نوح:23] . هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. وقد ذكر بعض هذا البخاري في "صحيحه"2 لما ذكر قول ابن عباس. وذكر ابن جرير وغيره عن غير3 واحد من السلف. وذكره وَثِيْمَةُ4 وغيره في "قصص الأنبياء" من عدة طرق. انتهى.   1 في ط: آل ثاني: "بنفسه". 2 ج 8/ 667. 3سقطت "غير" من ط: آل ثاني. 4 هو: وَثِيْمة بن موسى بن الفرات الوَشَّاء، توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين، من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال ابن خلّكان في "وفيات الأعيان" ج6/ 12: وصنّف –أي وثيمة- كتاباً في أخبار الردّة ... ولم أعرف لوثيمة المذكور من التصانيف سوى هذا الكتاب اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي من أكابر الحنابلة وعلمائهم: "والسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئاً –يعني النبي صلى الله عليه وسلم- ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته، ويطلب منه يوم القيامة، لا شفاعة ولا استغفاراًَ". وقال أيضاً: "والحكاية التي تنسب إلى مالك مع أبي جعفر المنصور كذبٌ عند أهل المعرفة بالنقل الصحيح". انتهى. ومذهب مالك –رحمه الله- المعروف عند أصحابه يخالف هذه الحكاية المكذوبة ويردها. قال القاضي عياض: قال مالك في "المبسوط": "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو1، ولكن يسلم ويمضي". وقال القاضي إسماعيل في "المبسوط" قال مالك: "لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو1، ولكن يسلم على النبي، وعلى أبي بكر، وعمر، ثم يمضي". ولما نقل ابن وهب عن مالك أنه يدعو1 للنبي2 صلى الله عليه وسلم عند القبر، حمله أكابر أصحابه على الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم. وابن   قلت: ومن كتبه أيضاً كتاب "قصص الأنبياء" الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" ج 2/ 767-768. وقال الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى- في "لسان الميزان" جـ6/ 217: ووقفت له على تصنيف كبير في المبتدأ وقصص الأنبياء. 1 في النسخ الخطية: "يدعوا". 2 في ط: آل ثاني: "النبي" وهو خطأ فاحش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 عبد البر يقول: لفظ1 الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، هذا لفظ مالك. وقال بعض المالكية: المراد بالدعاء السلام، بدليل أنه ذكر في رواية ابن وهب نفسه يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله. وقد تقدم مذهب الحنابلة وأبي حنيفة. وإذا كان هذا ممنوعاً مع أنه دعاء الله، فما ظنك بدعاء الرسول نفسه، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم؟ فالأول مُنِع منه لأنه وسيلة وذريعة إلى هذا المحذور الذي هو سؤال غير الله، وقصده في الحاجات. ولم يكن في عهد السلف شيء من هذا، وإنما حدث أوائله ومباديه بعد القرون المفضلة، وأنكرها أهل العلم والإيمان، محافظةً منهم2 على السنة، وحمايةً لجانب التوحيد، وطاعة لله ورسوله، وسداً لذرائع الشرك ووسائله. وقد روى الضياء في "المختارة" عن الحسن بن الحسن أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن ذلك، قال: "ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"3.   1 في ط: آل ثاني: "لفظاً لرواية". 2 في النسخ الخطية: "منه". 3 هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف هو لفظ حديث علي بن الحسين، انظر التعليقة رقم "1" من الصفحة القادمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وروي أيضاً عن علي بن الحسين زين العابدين. وهذان الإمامان هما أفضل أهل البيت في زمانهما. وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة في سنن أبي داود بلفظ: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا قبري عيداً ... " الحديث1.   1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 367، وأبو داود في كتاب المناسك من "سننه" 2/ 534 من طريق عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وحيثما كنتم فصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني". هذا لفظ أحمد. ولفظ أبي داود: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية بعد أن ساق سند الحديث في "الاقتضاء" 2/ 654: وهذا إسناد حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير. لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه. قال يحيى بن معين: هو ثقة، وحسبك بابن معين موثقاً. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ وهو لين تعرف حفظه وتنكر. فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن، إذ لا خلاف في عدالته وفقهه، وأن الغالب عليه الضبط، لكن قد يغلط أحياناً ثم هذا الحديث مما يعرف من حفظه، ليس مما ينكر، لأنه سنة مدنية، وهو محتاج إليها في فقهه، ومثل هذا يضبطه الفقيه. وللحديث شواهد من غير طريقه، فإن الحديث روي من جهات أخرى، فما بقي منكراً. وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد معروفة، وإنما الغرض هنا النهي عن اتخاذه عيداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91   فمن ذلك ما رواه أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيدعو، فنهاه فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم". رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه. اهـ كلام شيخ الإسلام. قال الهيثمي في المجمع 4/ 3 على هذا الحديث: "رواه أبو يعلى وفيه حفص بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً وبقية رجاله ثقات" اهـ. قلت: كذا في الأصل "حفص" والصواب "جعفر" كما ساقه شيخ الإسلام، وكما في المصنف لابن أبي شيبة 2/ 375 –وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للجهضمي ص33. وفي سنده علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يعتبر حديثه من غير رواية أولاده عنه. اهـ من التهذيب. وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": "مستور". اهـ. ثم ذكر شيخ الإسلام لهذا الحديث شاهدين فقال في المصدر السابق: وروى سعيد بن منصور في سننه: حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني". انتهى كلام شيخ الإسلام. وحبان بن علي هذا ضعفه الأئمة كما في التهذيب 2/ 173. وأبو سعيد مولى المَهْري قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول. اهـ. يعني حيث يتابع وإلا فلين كما نص على هذا في المقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فانظر هذه السنة المأخوذة عن أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً وداراًَ. وتأمل ما دلت عليه من الحِكم والفوائد: من ذلك نهيه عن اتخاذ قبره عيداً، والعيد ما يعتاد مجيئه في وقت مخصوص. وتأمل حكمة ذلك ومقصوده، وما فهمه السلف منه1 من النهي عن التردد إلى القبر الشريف، كلما دخل المسجد. وفيه: أن الصلاة والسلام يبلغه، وإِنْ بَعُدَ المُسَلِّم. وفيه: أن الذي يجب له صلى الله عليه وسلم من التوقير والتكريم، والصلاة والسلام، مطلوب في كل مكان، وعلى أي حال، وذلك أكمل وأتم2 ممن يعتاد ذلك عند مجيئه إلى القبر، أو يزيد بالغلو والإطراء، فإذا بَعُدَ عنه فهو من أشد الناس معصية وجفاءً.   قال شيخ الإسلام في المصدر السابق: وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني –وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله؛ وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يكن روي مسنداً من وجوه غير هذا، فكيف وقد تقدم مسنداًَ. 1 "منه" ليست في ط: آل ثاني. 2 في ط: آل ثاني "وأعم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وفيه حماية أصل الدين وقاعدنه بصرف الوجوه إلى الله، وإنابة القلوب إليه، واعتمادها عليه. ورعاية هذا الأصل من أهم1 أصول الشريعة، ومداركِ الأحكام. وسؤال المخلوق وصرف الوجه إليه بالمسألة والطلب في الأمور الكلية يعود على هذا الأصل بالهدم والقلع. فمن عرف هذا حق المعرفة، ونظر في أدلته وأصوله: تبين له علم السلف، ودقة نظرهم، وحسن سياستهم للناس بما يصلح دينهم ودنياهم. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد2.   1 سقطت "أهم" من "أ". 2 أخرجه الإمام أحمد 1/ 218-6/ 34-228-275، والبخاري في كتاب الصلاة من صحيحه 1/ 532-وفي المغازي 8/ 140-وفي الأنبياء 6/ 494-وفي اللباس 10/ 277. ومسلم في كتاب المساجد من صحيحه 1/ 377 جميعهم من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس قالا ... الحديث. وأخرجه أحمد 6/ 274 عن عبيد الله عن عائشة ... به. وأخرجه الإمام أحمد أيضاً 6/ 80-121-255، والبخاري في كتاب الجنائز من صحيحه 3/ 200-255 كلاهما عن عروة عن عائشة. وأخرجه الإمام أحمد 6/ 146-252 عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة ... به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وذكر أبو بكر الإمام الأثرم وغيره من أئمة الحنابلة: أن العلة في ذلك كون الصلاة ونحوها من العبادات عند القبور وسيلة وذريعة إلى تعظيم أربابها بما لم يشرع من الغلوِّ، والدعاء، وعبادتها مع الله. فكيف والحالة هذه يقال بجواز طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم أو أن ذلك مجمع عليه، كما زعمه المفتري، الجاهل بالله تعالى ومعرفة حقه، وحق رسله، فنعوذ بالله من الخذلان. والعلمُ يَدْخُلُ كُلَّ قلبِ موفقٍ ... من غير بَوَّابٍ ولا استئذانِ ويرده المحرومُ من خِذلانه ... لا تشقِنَا اللهمَّ بالخِذْلاَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الفصل الثامن ... فصل قال العراق: (والمقصود أن تكفير الناس بمجرد فهم واحد من كتاب الله لم يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . [فاطر:13] . وهذه الآية صحيحة، ولكن هذا الفهم باطل، لأن الدعاء المذكور هو1 السجود على أنها أرباب، وهي الأصنام، وهم كانوا يعبدونها على أنها أرباب لهم، وهي أخشاب وأحجار لا تملك شيئاً، فالذي يستدل بهذه الآية يقال له: أين مذكور تفسير هذه الآية أنَّ المراد بها الأنبياء والشهداء والأولياء الذين يناديهم المسلم نداء لا عبادة؟ فإن هذا لم يذكر قط في تفسير، ولا في حديث، ولا في أقوال السلف. نعم ذكر الشيخ تقي الدين وقال: إنه باب الزجر والتغليظ والإشارة، لا باب الحكم على المسلم بالردة، فله أكثر من مائة عبارة تنفي ذلك، والدعاء ليس في كل مكان يراد به العبادة، قال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه*سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} . [العلق:17-18] . أيقال: إن الله تعالى عبد الزبانية لأنه دعاهم) انتهى كلامه. وإنما سقناه بحروفه ليعلم المؤمن قدر ما أنعم الله عليه به من   1 في النسخ الخطية: "و". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 نعمة الإسلام، وما اختصه به من الكرامة ورفع المقام، وليعتبره بما يراه من حال هؤلاء الضالين، كيف تلاعب بهم الشيطان، وأوصلهم إلى غاية من الجهل والضلال، حجبهم بها عن معرفة الله، ودينه، وحقه على عبيده، وعن معرفة رسله، ومعرفة حقهم، وما يجب لهم، وما يستحيل، وأوهمهم مع ذلك أنهم من أهل العلم بشرعه ودينه في التحريم والتحليل، وهم كما ترى ليس معهم من الإسلام أصل ولا خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر. فإن حاصل ما قرره هنا: أن الله تعالى لم يحرم عبادة الأنبياء والملائكة والصالحين، ودعاءهم1، وإنما حَرَّم اعتقاد الاستقلال من دونه، واعتقاد الربوبية فيها. وأن العبادة هي السجود فقط، مع اعتقاد أنها أرباب –وهي الأصنام والأخشاب والأحجار- لا تملك شيئاً. وأن النداء يجوز لأنه ليس بعبادة، وأنه2 لم يذكر قط كون النداء عبادة، وما ذكره الشيخ تقي الدين من باب الزجر والإشارة، وله أكثر من مائة عبارة تنفي كون نداء الأنبياء والصالحين عبادة. ومن فهم من كلام الله تحريم دعاء الصالحين فهو مخطئ ضال، منفرد بهذا الفهم. هذا حاصل كلامه، فيا ويحه ما أكبر زلته، وما أغلظ كفره، وما أشدَّ عداوته لما جاءت به الرسل [وما أكثف حجابه عن معرفة ما أرسلت به الرسل] 3 واتفقت عليه دعوتهم، وهذا النوع من   1 في النسخ الخطية: "دعائهم". 2 تفي ط: آل ثاني: "وإن". 3 ما بين المعقوفتين ليس في ط: آل ثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الناس1 هم أعوان إبليس وأنصاره في زمان ومكان، ظهروا للناس في ثياب القراء والعلماء، وهم من أجهل من تحت أديم السماء. يا فرقةً ما خان دينَ محمدٍ ... وجنى عليه ومله إلا هي وفي هذا من الكذب على الله، والكذب على رسوله، وعلى أولي العلم من ورثته، والقول عليه بغير علم، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على اللغة والشرع ما يعزُّ استيفاء الكلام عليه واستقصاؤه. فقوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم من هذه الآية ونحوها تكفير من دعا الأنبياء والصالحين) كذب على الرسول، ونسبة ما لا يليق بآحاد المؤمنين إليه. وهل وقعت الخصومة، وجرد السيف، ودعي من دعي2 من أهل الكتاب إلى المباهلة، وأمر بقتالهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية، إلا لأجل عبادة الأنبياء والصالحين، ودعائهم. وهل صُوِّرَتِ الأصنام وعبدت إلا باعتبار من هي على صورته وتمثاله من الأنبياء والملائكة والصالحين؟   1 "من الناس" ليست في ط: آل ثاني. 2 في ط: آل ثاني "ودعا من دعا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 والآيات التي يعبَّر فيها بالموصول وصلته كقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . [فاطر:13] ونحوها من الآيات، كقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} . [يونس:106] . {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ} . [الإسراء:56] . فهذه الموصولات في كلام الله وكلام رسوله واقعة على كل مدعوّ ومعبود نبياً كان أو ملكاً أو صالحاًَ، إنسياً أو جنياً، حجراً أو شجراً، متناولة لذلك بأصل الوضع. فإن الصلة كاشفة ومبنية للمراد، وهي واقعة على كل مدعوٍّ من غير تخصيص، وهي أبلغ وأدل وأشمل من الأعلام الشخصية والجنسية، وهذا هو الوجه في إيثارها على الأعلام، وشرط الصلة أن تكون معهودة عند المخاطب. تقول: جاء الذي قام أبوه، لمن يعهد قيام الأب، ويجهل النسبة بينه وبين من جاء. والمعهود عند كل من يعقل من أصناف بني آدم أن الأنبياء والملائكة والصالحين قد عُبِدوا مع الله، وقصدهم المشركون بالدعاء في حاجاتهم وملماتهم، كما جرى لليهود والنصارى في عبادة الأنبياء والأحبار والرهبان، وكما جرى لقوم نوح في ودٍّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر1، وكما جرى للعرب في عبادة الملائكة، واللات، وهو رجل صالح كان يلت السويق للحاج.   1 في النسخ الخطية: "نسرا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وهذا أوضح من أن يحتاج لتقرير، وأظهر من أن يتوقف على كشف وتفسير. فإن العربي سليم الذوق والفطرة يعرفه1 بعربيته وفطرته، وجميع المفسرين يقررون هذا بضروب من العبارات والتقريرات، ويفهمها الذكي، ومَنْ خَصَّ الأصنام في بعض المواضع فهو لا يمنع أنها عبدت باعتبار من هي على صورته. وقد ذكر هذا ابن كثير في "تفسيره" وذكره غيره من أهل العلم. وقد كذب هذا عليهم، نسبهم إلى الجهل، كما كذب على الله ورسوله، قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} . [الزمر:60] . وأيضاً فقد2 قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . [الأنبياء:25] . فإن نازع هذا في عموم النفي فهو على مذهب من قال: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) . وإن سلم العموم، وزعم أن دعاء الصالحين ونداءهم3 ليس بعبادة ولا دعاء فقد خرج عن المعقول والمنقول، وأتى بجهالة حمقى، خرج بها عَمَّا قاله جميع أئمة العلم والهدى.   1 في: "ب" و"جـ" وط: آل ثاني: (يعرف) . 2 في "أ": "قد". 3 في النسخ الخطية: "دعائهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقوله تعالى عن نبيه يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . [يوسف:39] هي من هذا الباب، فإن تفرق الآلهة والأرباب يصدق بعبادة الأنبياء والصالحين. ومن نازع في هذا فليس من جملة العقلاء1 ولا ممن يعرف الضروريات التي يعرفها الحمقى. هذا لو لم يرد في عبادة الأنبياء والصالحين الملائكة نصوص خاصة، فكيف2 وقد جاء في ذلك ما فيه الهدى والشفاء. قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . [آل عمران:80] . والأرباب هنا هم الآلهة المعبودة3، فإن الرب وضع للمعبود كما وضع للمالك والمربي والخالق، وليس هذا من المشترك، ولا من المتواطئ، بل هو من استعمال اللفظ في حقيقته اللغوية، والشرعية. وبهذا يتبين لك خطأ العراقي في قوله: (على أنها أرباب) فإنه يريد بهذا القيد أنها لا تكون عبادة إلا مع اعتقاد التدبير والتأثير لها، كما تقدم عنه صريحاً. وقال تعالى فيمن عبد الصالحين بطاعتهم من دون الله، وغلا في الأنبياء: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . الآية   1 في النسخ الخطية: "بل ولاممن..". 2 سقطت من ط: آل ثاني: "فكيف". 3 في النسخ الخطية: "المعبودون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 [التوبة:31] . فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم بطاعتهم في التحليل والتحريم المخالف لأحكام الله تعالى1.   1 أخرجه الترمذي في سننه –كتاب التفسير- 5/ 278، وابن جرير الطبري في تفسيره 10/ 114، والطبراني في الكبير 17/ 92، والبيهقي في سننه –كتاب آداب القاضي- 10/ 116 كلهم من طريق عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: "يا عدي اطرح عنك هذا الوثن" وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . قال: "أما، إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه". هذا لفظ الترمذي. وهذا إسناد ضعيف علته غطيف بن أعين وقيل غضيب، ضعفه الدراقطني وغيره –وبه أعل الترمذي هذا الحديث فقال عقبه: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث" اهـ. وعبد السلام بن حرب ثقة إمام حافظ إلا أن له مناكير. والحديث عزاه السيوطي في الدرّ المنثور 4/ 174 لابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه. وعزاه ابن كثير في تفسيره 2/ 348 للإمام أحمد، ولم أجده في مسند عدي والله أعلم. وللحديث شاهد من حديث حذيفة موقوفاً أخرجه –كما في الدر المنثور 4/ 174- عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في سننه كلهم من طريق أبي البَخْتَري سعيد بن فيروز قال: سأل رجل حذيفة –رضي الله عنه- فقال: أرأيت قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . الآية. أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه. وأخرجه من هذا الطريق ابن جرير في تفسيره 10/ 114-115 وإسناده ضعيف للانقطاع بين أبي البختري وحذيفة. فإن أبا البختري لم يسمع من حذيفة، إنما أرسل عنه، كما في تهذيب الكمال للمزي، وجامع التحصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وقال تعالى فيمن عبد الصالحين: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} . [الإسراء:56] . وهذه فيمن عبد الصالحين من الجن والإنس والملائكة كما فسرها بذلك غير واحد من السلف، ويدل عليه قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . [الإسراء:57] . وقد وصفهم بأنهم لا يملكون كشف الضر ولا تحويله من حال إلى حال وإن قَلَّ، كما تفيده1 النكرة في سياق النفي، فبطل دعاؤهم بما لا يقدر عليه إلا الله. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} . [سبأ:22] . نفى أن يكون لهؤلاء المدعوين مُلْكٌ في السموات والأرض ولو قَلَّ كمثقال ذرة، وهذا هو الذي يعبر عنه بالاستقلال. ونفى أن يكون لهم فيهما شرك ولو قَلَّ، كما يفيده قوله: (من شرك) 2، فإنه يفيد استغراق النفي.   ثم عزا السيوطي في "الدر" أثر حذيفة هذا إلى أبي الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان –والذي يظهر من صنيع السيوطي أنه من طريق آخر غير طريق أبي البختري فلينظر. وقد حسن شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية هذا الحديث كما في كتابه "الإيمان" ص64 وعلى معنى هذا الحديث جمهور المفسرين. والله أعلم. 1 في ط: آل ثاني: "يفيده". 2 ليس في النسخ الخطية "شرك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ونفى أن يكون له منهم من1 ظهير يعاونه ويؤازره، وإذا بطل الملك والشركة والمعاونة لم يبقَ سوى الشفاعة، فنفاها بقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . [سبأ:23] . فإن هذا يفيد إبطال الشفاعة التي ظنها المشرك ودعا غير الله لأجلها، وقد دل القرآن على نفيها في مواضع. والشفاعة المثبتة التي دلَّ عليها الاستثناء، وجاءت بها الأحاديث النبوية، نوع آخر غير ما ظنه المشركون. وحقيقتها: أن الله تعالى إذا أراد رحمة عبده ونجاته أذن لمن شاء في الشفاعة رحمة للمشفوع فيه، وكرامة للشافع. وقُيِّدت الشفاعة المثبتة بقيود منها: إذنه تعالى للشافع. ونكتة هذا القيد وسره: صرف الوجوه إلى الله، وإسلامها له، وعدم التعلق على غيره لأجل الشفاعة، ولذلك يساق هذا بعد ذكر التوحيد، وما يدل على وجوب عبادة الله وحده. وهذا الموضع لم يفهمه كثير2 من الناس، ظنوا أن الاستثناء يفيد إثبات الشفاعة مطلقاً وطلَبَها من غير الله، فعادوا إلى ما ظنه المشركون وقصدوه، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . [يونس:18] . ومنها: أنه لا يشفع أحد إلا فيمن رضي الله قوله وعمله. قال تعالى:   1 سقطت: "من" من "أ". 2 إلى هنا انتهت نسخة "ب" المصورة من جامعة الملك سعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . [النجم: 26] . وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . [الأنبياء:28] . ومن الآيات الخاصة بمن يدعو الملائكة وأمثالهم قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} . الآية [سبأ:40] . وقال تعالى في شأن المسيح: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ*مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ*إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . [المائدة: 116، 117، 118] 1. فتأمل ما فيها من العلوم، إن كنت من ذوي الألباب والفهوم. منها: أن اتخاذ الأنبياء والصالحين آلهة شرك ينبغي تنزيه الرب تعالى عنه. وفيها براءة أولياء الله ممن أشرك بهم. وفيها: أن الرسل ما أمرت الخلق إلا بما أرسلوا به من عبادة الله وحده.   1 في "أ" وط: آل ثاني لم تذكر الآيات، وإنما فيها مبدأ الآية الأولى، إلى قوله: {إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وفيها: برهان ما جاءت به الرسل من الأمر بالعبادة. وأن الرب الذي عمت ربوبيته جميع خلقه هو المستحق أن يعبد. وأن العبد المربوب ولو علت درجته كعيسى وغيره من الرسل أو الملائكة لا يكون شريكاً لربه ومالكه {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} . الآية [الروم:28] . والقرآن كله يدل على هذا، ولكن من عادة القرآن مراعاة1 ما تقتضيه الحال، فيطنب في محل الإطناب، ويوجز في محل الإيجاز، والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال. فظهر أن آية سورة فاطر التي أوردها دالة على ما دل عليه سائر الآيات، وأن فيها من العموم المستفاد من الصلة ما لا يتأتى معه التخصيص، وأن ما تقدم من الآيات دال على ذلك يعضد مفهوم من أوردها في المنع من دعاء الصالحين.   1 في "أ" و"جـ": "مراعات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الفصل التاسع ... فصل وقول العراقي: (هذه الآية صحيحة لكن الفهم باطل) مما يدل على جهله المركب، وكثافة فهمه، فإن القرآن أغنى وأعلى وأجل وأعظم من أن يعبر عنه بهذه العبارة، أو يقسم إلى صحيح وغيره. وإنما تستعمل هذه العبارة فيما يقبل القسمة من الأحاديث، لأنها تنقسم إلى صحيح، وحسن، وضعيف، وموضوع1. ولا يُصَحِّح2 إلا من يضعف، ولا يحسّن إلا من يقبح. وقد أنكر أبو حنيفة على رجل صار يحسن ما يسمع منه من الروايات، وزجره عن ذلك، وقال: "إنما يحسن من يقبح". هذا في السنة ونحوها، فكيف بالقرآن الذي هو كله حق وهدى، تنزيل من حكيم حميد. وقوله: (إن الدعاء هو السجود في هذه الآية، وأن نداء الصالحين ليس بعبادة) إلى آخر عبارته.   1 قال النووي في "تقريبه": "الحديث: صحيح، وحسن، وضعيف". قال السيوطي في شرح كلام النووي هذا: وإنما لم يذكر الموضوع لأنه ليس في الحقيقة بحديث اصطلاحاً، بل يزعم واضعه. اهـ من "تدريب الراوي" 1/ 62. 2 في "أ": " ... وموضوع، أما القرآن فكله حق وهدى، تنزيل من حكيم حميد" فعلى هذا يكون قد سقط من هذه النسخة أربعة أسطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فهذا الكلام نشأ عن جهله باللغة والشرع، وما جاءت به الأنبياء، فإن العبادة تتضمن غاية الخضوع والذل، ومنه طريق مُعَبَّد: إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام، هذا أصلها في اللغة. وأما في الشرع فهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. قاله شيخ الإسلام. وقال بعضهم: هي ما أمر به شرعاً، من غير اقتضاء عقلي، ولا اطراد عرفي. وقال بعضهم: هي فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، ابتغاء وجه الله والدار الآخرة. فدخل في هذه التعاريف والحدود جميع أنواع العبادات، فلا يقصد بها غير الله، ولا تصرف لسواه. وهذا الغبي لم يعرف من أفرادها غير السجود. ودعاءُ المسألة من أفضل أنواعها، وأجلها، كما في حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة" 1.   1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/ 267-271-276-277، وأبو داود في سننه –كتاب الصلاة- 2/ 161، والترمذي في سننه –كتاب التفسير- 5/ 211، وفي –كتاب الدعاء- 5/ 456، وابن ماجه في سننه –كتاب الدعاء- 2/ 1258، وابن المبارك في الزهد ص 459، والطيالسي في مسنده ص108، وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 200، والبخاري في الأدب المفرد 2/ 178، وابن جرير الطبري في تفسيره 24/ 78-79، وابن حبان في صحيحه –الموارد- (ص595) والطبراني في الصغير (2/97) والحاكم في مستدركه (1/ 490-491) , والبغوي في شرح السنة 5/ 184، وفي تفسيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والحصر يقتضي الاختصاص الادعائي، والتمييز على سائر العبادات. قال بعض الشراح: هو كقوله: "الحج عرفة" 1. أي ركن العبادة الأعظم هو الدعاء.   -حاشية ابن كثير- 7/ 309، والقضاعي في مسند الشهاب 1/ 51، وأبو نعيم في الحلية 8/ 120 جميعهم من طريق يُسَيْع بن معدان عن النعمان بن بشير مرفوعاً ... به وسنده صحيح. وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه النووي، كما في الأذكار، وقال الحافظ في الفتح: إسناده جيد. 1/ 49. وحسنه السخاوي –كما في شرح الأذكار- لابن علاّن 7/ 191. والحديث عزاه السيوطي في الدر المنثور 7/ 301 لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية 8/ 120، والبيهقي في شعب الإيمان كلهم عن النعمان بن بشير ... به. وأخرجه الخطيب في تاريخه 12/ 279، وابن مردويه –كما في الدر- 7/ 301 وأبو يعلى –كما في شرح الأذكار-7/ 191 عن البراء بن عازب رضي الله عنه. 1 أخرجه أبو داود في كتاب الحج من "سننه" باب من لم يدرك عرفة 2/ 485، والترمذي في "سننه" كتاب الحج، باب من أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج 2/ 188 ط السلفية بالمدينة المنورة، والنسائي في باب من لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة 5/ 264 من سننه، وابن ماجه في "سننه" كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع 2/ 1003 جميعهم عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يَعْمر: "أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فسألوه، فأمر منادياً فنادى: "الحج عرفة ... " الحديث. قال الترمذي: قال ابن أبي عمر: قال سفيان بن عيينة: "وهذا أجود حديث رواه سفيان الثوري". اهـ. وقال ابن ماجه: قال محمد بن يحيى: "ما أرى للثوري حديثاً أشرف منه". وقال الحاكم في المستدرك 1/ 464، 2/ 278: صحيح الإسناد وأقره الذهبي في التلخيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وفي حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة" 1. ومخ الشيء خالصه ولُبُّه. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين"2. والعماد والعمود: ما يقوم به الشيء ويعتمد عليه، جعله عماداً3 لأنه لا يقوم إلا به. وأنت ترى كل العبادات الباطنة والظاهرة دالة على الطلب والمسألة على اختلاف المطلوب والمسؤول. وكان هذا هو الوجه في التعبير بالدعاء دون العبادة في أكثر موارد القرآن والسنة. ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل   1 أخرجه الترمذي في سننه –كتاب الدعاء- 5/ 456 وقال: حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. اهـ. 2 أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 492 من جهة محمد بن الحسن بن الزبير الهمداني ثنا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. قال الحاكم: هذا حديث صحيح، فإن محمد بن الحسن هذا هو التَّل، وهو صدوق في الكوفيين. اهـ. وأقره الذهبي في التلخيص. وذكر الذهبي الحديث في "الميزان" في ترجمة التَّل مثالاً على مناكيره وقال: "فيه انقطاع" ثم ذكر الحديث في ترجمة "محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني" وقال: "وفيه انقطاع" وعليه فليحرر من محمد بن الحسن في هذا السند. والحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده 1/ 344 حدثنا الحسن بن حماد الكوفي حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن جعفر بن محمد ... . قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 147: رواه أبو يعلى وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو متروك اهـ. 3 في ط: آل ثاني: "عماد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 شيء قدير1. وقد سئل ابن عيينة عن معناه، فأنشد قول أمية في عبد الله بن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنَّ شيمتَك الحياءُ قال في "القاموس": الدعاء هو الرغبة إلى الله. انتهى. وقال الحسين بن محمد النعمي: الدعاء في الأصل موضوع لأن يكون من فقير عاجز خاضع، لغني قادر عزيز قاهر. انتهى. والدعاء يَرِدُ في الكتاب والسنة بمعنى الطلب والمسألة بامتثال الأمر واجتناب النهي، ويرد بمعنى المسألة والطلب بالصيغة القولية. وقد فسر قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . الآية [غافر:60] بدعاء العبادة، وبدعاء المسألة، والقولان معروفان، والآية تشمل النوعين. قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وذكر أنهما متلازمان، فكل عابد سائل، وكل سائل عابد. وقال رحمه الله: والدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة –وساق جملة من الآيات- ثم قال: ولفظ الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، وسميت به لتضمنها معنى الدعاء دعاءِ العبادة والمسألة. ثم قال: فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه،   1 أخرجه العقيلي في "الضعفاء" في ترجمة فرج بن فضالة الحمصي، من طريقه عن يحيى بن سعيد، عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". قال العقيلي: لا يتابع عليه. اهـ ج 3/ 462. وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" ج2/ 272: وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف جداً. قال البخاري: منكر الحديث. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال، وسمي الذكر دعاء لما فيه من التعريض بالمسألة. قال: وهذه الصيغة صيغة الطلب والاستدعاء إذا كانت مما لا1 يحتاج إليه الطالب، أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك، فإنها تقال على وجه الأمر، إما لما في ذلك من حاجة الطالب، وإما لما فيه من نفع المطلوب منه. وأما إذا كانت من الفقير من كل وجه، للغني من كل وجه، فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار. انتهى. قلت: وقد نص على ما ذكره الشيخ من الفرق علماء المعاني صاحب "المفتاح" وغيره. وفرقوا في الصيغة الواحدة نظراً للمخاطب والمخاطِب –بكسر الطاء- فقالوا: هي من الأعلى أمر، ومن المساوي التماس، ومن دونه مسألة وطلب. وقد فسر قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} . [الأعراف:55] بدعاء المسألة، قاله العلامة ابن القيم، وقرر2 أنه في هذه الآية أظهر. وذكر أن استعمال الدعاء في العبادة والمسألة من استعمال اللفظ في حقيقته الواحدة، ليس من المشترك، ولا المتواطئ، ولا المجاز. وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} . [الإسراء:67] ظاهر في دعاء المسألة لمناسبة الحال والواقع. و3في حديث عكرمة بن أبي جهل لما فرَّ يوم الفتح إلى السِّيْف، وركب البحر، جاءتهم ريح عاصف، وظنوا الهلكة، أخلصوا الدعاء لله،   1 في "أ": "مما يحتاج". 2 في ط: آل ثاني: "وقوله". 3 سقطت "و" من: "جـ" وط: آل ثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وصاروا يتواصون بذلك، ويقول بعضهم لبعض لا ينجي في مثل هذا إلا الله. فقال عكرمة: إن كان لا ينجي في الشدة إلا هوتعالى، فكذلك لا ينجي في الرخاء إلا هو. وقال: لئن أنجاني الله لأرجعن إلى محمد، ولأضعن يدي في يده، فكان ذلك، وأسلم وحسن إسلامه –رحمه الله- والقصة معروفة عند أهل العلم1. وفي الحديث: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه"2 سماها دعوة، وهي سؤال وطلب، وتوسل بالتوحيد.   1 قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة": وقد أخرج قصة مجيئه –أي عكرمة- موصولة: الدارقطني (انظر السنن 3/ 59 كتاب البيوع، و4/ 167 في كتاب النذور) والحاكم (انظر المستدرك 2/ 54 كتاب البيوع) وابن مردويه، من طريق أسباط بن نصر عن السدي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: "لما كان يوم فتح مكة آمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلا أربعة نفر ... " انتهي. وقد أخرجه البيهقي في "سننه" كتاب الجزية، 9/ 212، وكتاب المرتد 8/ 202، 205. وأخرجه أيضاً في "دلائل النبوة" ج5/ 59، وانظر "الدلائل" أيضاً جـ 5/ 98 وقد نقله عنه ابن كثير في "السيرة النبوية" –المأخوذة من البداية والنهاية- 3/ 565. 2 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 1/ 170، والترمذي في "الجامع" 5/ 529، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ص416، وأبو يعلى في "مسنده" 2/ 110-111، والبزار –كما في كشف الأستار- 4/ 43، وأبو عبد الله الحاكم في "المستدرك" 1/ 505، و2/ 382-383-583، والبيهقي في "الجامع لشعب الإيمان" 2/ 521، والطبراني في "الدعاء" 2/ 838 جميعهم من طريق يونس بن أبي إسحاق حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد حدثني والدي محمد عن أبيه سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعُ بها مسلمٌ ربَّه في شيء قط إلا استجاب له". هذا لفظ أحمد، وألفاظهم متقاربة. وقد ساق قبله الإمام أحمد وأبو يعلى قصة. وفي لفظ الحاكم 1/ 505 من هذا الطريق: "ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 والعراقي يقول: (لا تسمى دعاء وإنما هي نداء) وهذا رد على رسول الله، وتكذيب بآيات الله، وقول على الله بغير علم. وفي السنن من حديث حصين بن عبد الرحمن الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم: "كم كنت تعبد؟ قال: سبعة، واحد في السماء، وستة في الأرض، قال: "فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء"1. ومن هذا الباب قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . [الأنعام:40] الآية. وهذا الدعاء ظاهر في دعاء المسألة حال الشدة والضرورة.   1 أخرجه الترمذي في "سننه" كتاب الدعوات، 5/ 519 من طريق أبي معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن البصري عن عمران بن حصين ... الحديث. وقال عقبه: هذا حديث غريب. وقد روى هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه. اهـ. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير من هذا الطريق أيضاً، واختصر المتن 3/ 3. وأخرجه أحمد في "المسند" 4/ 444 من طريق منصور عن ربعي بن حراش عن عمران بن حصين أو غيره ... الحديث، وليس فيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة في الدعاء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له. وأخرجه الحاكم من هذا الطريق أيضاً، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. (المستدرك 1/ 510) . تنبيه: في الطبعة الأولى من هذا الكتاب –بتعليقي- حاشية على هذا الحديث فيها: (أخرجه الإمام أحمد 1/ 170) وهذا خطأ وذلك لأن هذا العزو لأحمد برقم هذه الصفحة وهذا الجزء إنما هو لحديث سعد بن أبي وقاص الذي تقدم تخريجه قبل هذا الحديث ص113، فدمجه الطابع –هداه الله- مع تخريج هذا الحديث، مع أني قد رقمته بيدي في تخريج الحديث السابق، فلينتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . [العنكبوت:65] . وما زال أهل العلم يستدلون بالآيات التي فيها الأمر بدعاء الله، والنهي عن دعاء غيره، على المنع من مسألة المخلوق ودعائه، بما لا يقدر عليه إلا الله، وكتبهم مشحونة بذلك، لا سيما شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، اللذين1 يزعم هذا العراقي أنه على طريقتهما. أيها المدَّعِي سُلَيْمى سفاهاً2 ... لستَ منها ولا قلامةَ ظُفْرِ إنما أنتَ من سُلَيْمى3 كواوٍ ... ألحقت في الهجاء ظلماً بعَمْرِو يوضح هذا أن ما لا يقدر عليه إلا الله4 من الأمور العامة الكلية لهداية القلوب, ومغفرة الذنوب, والنصر على الأعداء, وطلب الرزق من غير جهة معينة, والفوز بالجنة, والإنقاذ من النار, ونحو ذلك غاية في القصد والإرادة، فسؤاله وطلبه غاية في السؤال والطلب، وفي ذلك من الذل وإظهار الفاقة والعبودية، ما لا ينبغي أن يكون لمخلوق، أو يقصد به غير الله. وهذا أحد الوجوه في الفرق بين دعاء المخلوق فيما يقدر عليه من الأسباب العادية الجزئية، وبين ما تقدم، مع أن سؤال المخلوق قد يحرم مطلقاً.   1 في ط: آل ثاني: "الذين". 2 في "أ" و"جـ": (وصل ليلى) . 3 في "أ" و"جـ": (ليلى) . 4 سقطت: "إلا الله" من ط: آل ثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ومسألة المخلوق في الأصل محرمة، وإنما أبيحت للضرورة. قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ*وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} . [الشرح:7-8] . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه بايع نفراً من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئاً. فكان أحدهم يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولنيه1. وقد اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم أنه منع من تعليق الأوتار والتمائم، وأمر بقطعها، وبعث رسوله بذلك2، كما في السنن وغيرها. وقال: "من   1 أخرج الإمام مسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة 2/ 721 عن عوف بن مالك الأشجعي قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة. فقال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلامَ نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً, والصلوات الخمس، وتطيعوا –وأسرّ كلمة خفيفة- ولا تسألوا الناس شيئاً" فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه". 2 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب الجهاد- باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل، 6/ 141، ومسلم في صحيحه –كتاب اللباس والزينة- 3/ 1672-1673، كلاهما من طريق عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم أن أبا بشير الأنصاري أخبره أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره –قال عبد الله: حسبت أنه قال: والناس في مبيتهم –فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً: "لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت". قال الإمام مسلم بعد إخراجه: قال مالك: أرى ذلك من العين. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 تعلق شيئاً وكل إليه"1.   1 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 4/ 310-311، والترمذي في "جامعه" كتاب الطب –باب ما جاء في كراهية التعليق- كلاهما من جهة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عيسى أخيه، قال: دخلتُ على عبد الله بن عُكيم أبي معبد الجهني أعوده، وبه حمرة، فقلنا: ألا تعلق شيئاًَ؟ قال: الموت أقرب من ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعلق شيئاً وكل إليه". هذا سياق الترمذي، وقال عقب إخراجه: حديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كتب إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. اهـ. ونسبه المنذري في "الترغيب والترهيب" 5/ 268، والتبريزي في "مشكاة المصابيح" 2/ 1285، وابن الأثير في "جامع الأصول" 7/ 575، والشيخ سليمان بن عبد الله في "تيسير العزيز الحميد" ص 168: إلى أبي داود. وقد نفى المعلق على "جامع الأصول" وجود الحديث في أبي داود. ومما يؤيد ذلك أن المزي –رحمه الله تعالى- لم ينسبه إلى أبي داود في "التحفة" 5/ 317، وقال الحافظ ابن مفلح في "الآداب" 3/ 77: وقال بعضهم: رواه أبو داود. اهـ. ووقع عند من نسبه إلى أبي داود: "عن عيسى بن حمزة قال: دخلت على عبد الله ... ". والصواب: عيسى بن عبد الرحمن. والحديث أخرجه –من طريق ابن أبي ليلى ... به- غير من تقدم: ابن أبي شيبة في "المصنف" كتاب الطب 8/ 13، والحاكم في "المستدرك" كتاب الطب 4/ 216، والبيهقي في "سننه" كتاب الضحايا –باب التمائم 9/ 351، والطبراني في "المعجم الكبير" 22/ 385 في ترجمة أبي معبد الجهني، وقال الطبراني: وقد قيل إنه عبد الله بن عكيم اهـ. قلت: بذا جزم الحاكم وغيره. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رواه الطبراني في ترجمة أبي معبد الجهني، في الكنى، قال: وقد قيل: إنه عبد الله بن عكيم. قلت: فإن كان هو فقد ثبتت صحبته بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118   سمعت. وفي إسناده محمد بن أبي ليلى وهي سيئ الحفظ. انتهى كلام الهيثمي. قال كاتبه: لا يثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا السند الذي فيه ابن أبي ليلى، والذي عليه الأئمة أبو حاتم، والبخاري، وأبو نعيم، وأبو زرعة، وابن حبان وغيرهم: أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً. وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه النسائي في "سننه" كتاب تحريم الدم، باب الحكم في السحرة، من طريق عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه". قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 4/ 32: رواه النسائي من رواية الحسن عن أبي هريرة، ولم يسمع منه عند الجمهور. اهـ. وقال العلامة الحافظ ابن مفلح –رحمه الله تعالى- في "الآداب" 3/ 78 بعد أن نقل عن الذهبي قوله في "الميزان2/ 378": لا يصح –أي هذا الحديث- للين عبّاد، ولانقطاعه. قال ابن مفلح: كذا قال، ويتوجه أنه حديث حديث حسن. اهـ. قلت: أي بشواهده. ومن شواهد الحديث: ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 209: أخبرنا معمر عن أبان عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من علق علقة وكل إليها". وأخرجه البيهقي في "سننه" 9/ 351 من طريق جرير بن حازم قال: سمعت الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. ومن شواهده أيضاً ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" 8/ 17: حدثنا وكيع عن شعبة عن قتادة عن واقع بن سحبان قال: قال عبد الله: "من تعلق شيئاً وكل إليه". وأخرجه البيهقي في "السنن" 9/ 351 من جهة شعبة عن قتادة عن واقع بن سحبان عن أسير بن جابر قال: قال عبد الله ... فذكره. وواقع بن سحبان هو أبو عقيل البصري، ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" 8/ 189 وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 9/ 49، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بل نهى عن قول الرجل: ما شاء الله وشئت. وقال لمن قال له ذلك: "أجعلتني لله نداً" 1.   وذكره ابن حبان في "الثقات" 5/ 498. وقد روى عنه: قتادة بن دعامة السدوسي، وثابت البناني، وحميد الطويل. وروى عن: أبي موسى، وعمران بن حصين، وأسير بن جابر. ولم يذكر من ترجمه أنه روى عن عبد الله بن مسعود، فلعل ما وقع في سند ابن أبي شيبة خطأ من الناسخ، فليحرر. ومن شواهده أيضاً ما رواه ابن حبان في "صحيحه" أخبرنا الفضل بن حباب، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن عمران بن حصين: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في يد رجل حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟ قال: من الواهنة. قال: ما تزيدك إلا وهناً، انبذها عنك، فإنك إن تمت وهي عليك وكلت إليها". وأخرجه أيضاً من جهة أبي عامر الخزاز عن الحسن عن عمران ... به، وفيه "أيسرّك أن توكل إليها؟ ". قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 5/ 268-269 بعد أن عزا الحديث لأحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم، وبَيَّنَ ألفاظهم: رووهم كلهم عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران. ورواه ابن حبان أيضاً بنحوه عن أبي عامر الخزاز عن الحسن عن عمران، وهذه جيدة، إلا أن الحسن اخنلف في سماعه من عمران، وقال ابن المديني وغيره: لم يسمع منه، وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران. والله أعلم. اهـ. وقال ابن مفلح في "الآداب" على هذا الحديث: " ... ورواه ابن ماجه من حديث وكيع عن المبارك. والمبارك مختلف فيه، وهو مدلس. وقال أحمد: ما روى عن الحسن لا يحتج به. اهـ. 1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 1/ 214-224-283-347، وابن ماجه في "السنن" 1/ 684، والبخاري في "الأدب المفرد" 2/ 253 –مع شرحه- والنسائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ومنع من التبرك بالأشجار والأحجار. وقال لأبي واقد الليثي وأصحابه من مسلمة الفتح لما قالوا له: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط: " قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} " 1.   في "عمل اليوم والليلة" 545-546، وابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان" ص 414، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" ص 180-181، رقم 667، والطحاوي في "مشكل الآثار" 1/ 90، والطبراني في "الكبير" 12/ 244، والبيهقي في "السنن" 3/ 217، وفي "الأسماء والصفات" ص 182، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 99، والخطيب في "تاريخ بغداد" 8/ 105، جميعهم من جهة الأجلح بن عبد الله عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس ... به. قال البوصيري في "الزوائد": وفي إسناده الأجلح بن عبد الله مختلف فيه، ضعفه الإمام أحمد، وأبو حاتم، والنسائي، وأبو داود، وابن سعد. ووثقه ابن معين، ويعقوب بن سفيان، والعجلي. وباقي الإسناد ثقات. اهـ. وقد لخص الحافظ ابن حجر أقوال أهل الجرح والتعديل فيه فقال: "صدوق" كما في التقريب. وكذا قال الذهبي في "ديوان الضعفاء" ص 15. وعلى هذا قال العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –حفظه الله تعالى- في "السلسلة الصحيحة" 139: إسناده حسن. 1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 5/ 218، والترمذي في كتاب الفتن من "جامعه" 4/ 475، والنسائي في الكبرى –كما في تحفة الأشراف 11/ 112، والاقتضاء لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 146، والشافعي "بدائع المنن" 23، والطيالسي في "مسنده" ص 191، وعبد الرزاق في "المصنف" 11/ 369، وابن أبي شيبة في "المصنف" 15/ 101، والحميدي في "المسند" 2/ 375، وابن أبي عاصم في "السنة" 1/ 37، والمروزي في "السنة" ص 11-12، والطبراني في "الكبير" 3/ 275-276، وابن حبان في "صحيحه" –الإحسان- 8/ 248، والبيهقي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ونهى عن الصلاة عند القبور وإن لم يقصدها المصلي. ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله1.   "دلائل النبوة" 5/ 124-125، وفي "المعرفة" 1/ 108، وابن إسحاق –كما في سيرة ابن هشام 4/ 70-71 والبداية والنهاية 4/ 362، وابن جرير الطبري في "تفسيره" 9/ 45-46، والبغوي في "تفسيره" 3/ 544 –حاشية ابن كثير- جميعهم عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي ... به. 1 يشير المؤلف –رحمه الله تعالى- إلى عدّة أحاديث، فأما حديث النهي عن الصلاة عند القبور فتقدم. وأما حديث: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ... ". فأخرجه الإمام أحمد 1/ 218-6/ 34-228-275، والبخاري في كتاب الصلاة من "صحيحه" 1/ 532 – وفي المغازي 8/ 140- وفي الأنبياء 6/ 494 – وفي اللباس 10/ 277. ومسلم في كتاب المساجد من "صحيحه" 1/ 377 جميعهم من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة وابن عباس قالا: ... الحديث. وأخرجه أحمد 6/ 274 عن عبيد الله عن عائشة ... به. وأخرجه الإمام أحمد أيضاً 6/ 80-121-255، والبخاري في كتاب الجنائز من "صحيحه" 3/ 200-255 كلاهما عن عروة عن عائشة. وأخرجه الإمام أحمد 6/ 146-252 عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة ... به. وأخرجه أحمد أيضاً 2/ 284، 285، 366، 396، 435، 454 ومسلم في "صحيحه" 1/ 376 من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة. وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 246 عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم 1/ 377 عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة. وللحديث طرق وشواهد غير ما ذكر. وأما الحديث الثالث الذي يشير إليه المؤلف، فأخرجه البخاري في "صحيحه" –كتاب الصلاة- 1/ 523، 524، 531، وفي كتاب الجنائز، 3/ 208، وفي كتاب مناقب الأنصار 7/ 187-188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ونهى عن الذبح لله في مكان يذبح فيه لغيره1، حسماً لمادة الشرك، وقطعاً لوسائله، وسداً لذرائعه، وحماية للتوحيد، وصيانة لجانبه. فمن المستحيل شرعاً وفطرة وعقلاً؛ أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة بإباحة دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في المهمات والملمات، كقول النصراني: يا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله، أو يا عيسى، أعطني كذا، وافعل بي2 كذا، وكذلك قول القائل: يا علي، أو يا حسين، أو يا عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو يا بدوي، أو فلان وفلان: أعطني كذا، أو أجرني من كذا، أو أنا في حسبك، أو نحو ذلك من الألفاظ الشركية، التي3   ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من "صحيحه" كلاهما عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات، بَنَوْا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة". 1 يشير المؤلف –رحمه الله تعالى- إلى ما رواه أبو داود في سننه –كتاب الأيمان والنذور- 3/ 607 من جهة يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو قلابة، قال حدثني ثابت بن الضحاك، قال: "نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببُوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا: لا. قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوفِ بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم". قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" 4/ 198: "بسند صحيح". 2 في ط: آل ثاني: "لي". 3 في "أ": "اللتي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 تتضمن1 العدل بالله، والتسوية به تعالى وتقدس، فهذا لا تأتي شريعة ولا رسالة بإباحته قط، بل هو من شُعَب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار، ومقتِ العزيز الغفار. وقد نص على ذلك مشايخ الإسلام، حتى ذكره ابن حجر في "الإعلام" مقرراً له. وتأويل الجاهلين، والميل إلى شبه المبطلين، هو الذي أوقع هؤلاء وأسلافهم الماضين، من أهل الكتاب والأميين، في الشرك بالله رب العالمين. فبعضهم يستدل على شركه بالمعجزات والكرامات. وبعضهم برؤيا المنامات. وبعضهم بالقياس على السوالف والعادات. وبعضهم بقول من يُحَسِّن به الظن. وكل هذه الأشياء ليست من الشرع في شيء، وعند رهبان النصارى وعباد الصليب والكواكب من هذا الضرب شيء كثير، وبعضهم أحذق من هذا العراقي وأمثاله، الذين لم يفهموا من العبادة سوى السجود، ولم يجدوا في معلومهم سواه، فأين الحب والخضوع، والتوكل والإنابة، والخوف والرجاء، والرغب والرهب، والطاعة والتقوى، ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنة والظاهرة؟ فكل هذا عند العراقي يصرف لغير الله، ولا يكون عبادة، لأن   1 في "أ": "تتظمن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 العبادة السجود فقط، بل عبارته تفهم أن السجود لا يحرم إلا على من زعم الاستقلال، وقد رأينا من المشركين، ولم نرَ مثل هذا الرجل في جهله ومجازفته وبلادته. ولولا ما نقصده من انتفاع من اطلع على هذه الرسالة لم نتعرض لرد شيء من كلامه، لظهور بطلانه. ويزيد هذا ظهوراً ما جاء في الحديث من قوله: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشاً أو خموشاً في وجهه يوم القيامة" 1. وقوله: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس على   1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 1/ 388-441، وأبو داود في "سننه" كتاب الزكاة -2/ 277-278، والترمذي في "سننه" كتاب الزكاة -3/ 31-32، والنسائي في "سننه" كتاب الزكاة -5/ 97، وابن ماجه في "سننه" كتاب الزكاة -1/ 589، جميعهم من طريق حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن. وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث. اهـ. وقال أبو داود: قال يحيى-أي ابن آدم- فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير. فقال سفيان: فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. اهـ. وقد ذكر هذه المحاورة النسائي وابن ماجه. وزبيد هو ابن الحارث بن عبد الكريم: ثقة ثبت عابد، فالإسناد صحيح من طريقه. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند 5/ 248: فقد ظهر مما روى أبو داود والترمذي عن سفيان أن الحديث صحيح من جهة زبيد اليامي، لم ينفرد به حكيم بن جبير. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وجهه مزعة لحم" 1. وقوله: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أَوْشَكَ 2 له بالغنى: إما 3 بموت عاجل، أو غنى عاجل" 4.   1 أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الزكاة –باب من سأل الناس تكثراً- 2/ 536 ط مصطفى البُغا، ومسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة 3/ 720 عن ابن عمر رضي الله عنهما. 2 في ط: آل ثاني: "أو شكر". 3 في النسخ الخطية، والمطبوعة: "أو" والمثبت من مصادر الحديث. 4 أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 389، 442: حدثني وكيع حدثني بشير بن سلمان عن سيار أبي الحكم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. ووقع في الموضع الأول من المسند: "بشر بن سليمان" وهو خطأ نبه عليه الشيخ أحمد شاكر. وبشير بن سلمان هو أبو إسماعيل الكندي وثقه أحمد وابن معين. وأخرج الحديث الترمذي فقال: عن بشير أبي إسماعيل، عن سيّار، عن طارق بن شهاب ... إلخ. "السنن 4/ 563". وأخرجه أبو داود فقال: عن بشير بن سلمان عن سيّار أبي حمزة عن طارق ... إلخ. "السنن 2/ 296". وقوله "عن سيار أبي حمزة" هو الصحيح، وما وقع في "المسند" خطأ نبه عليه غير واحدٍ من العلماء. قال عبد الله بن الإمام أحمد "المسند 1/ 442": "حدثني أبي ثنا عبد الرزاق أنا سفيان عن بشير أبي إسماعيل عن سيار أبي حمزة ... فذكره. قال أبي: وهو الصواب سيار أبو حمزة. قال: وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق بن شهاب بشيء". اهـ. قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" في ترجمة سيار أبي الحكم: "وروى أبو داود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126   والترمذي حديث بشير بن إسماعيل ثنا سيار أبو الحكم عن طارق بن شهاب عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ... الحديث". قال أبو داود عقبه: هو سيار أبو حمزة، ولكن بشيراً كان يقول: سيار أبو الحكم، وهو خطأ. قال أحمد: هو سيار أبو حمزة، وليس قولهم: سيار أبو الحكم بشيء". اهـ. قلت: هكذا قال ابن حجر: والذي في سنن أبي داود المطبوعة –رواية اللؤلؤي- وكذا في "تحفة الأشراف" 7/ 61: "عن سيار أبي حمزة" وليس لأبي داود كلام عقب هذا الحديث في النسخ المطبوعة التي بين يدي. ثم قال الحافظ: "وقال الدارقطني: قول البخاري: سيار أبو الحكم سمع طارق بن شهاب وهمٌ منه، وممن تابعه، والذي يروي عن طارق هو: سيار أبو حمزة، قال ذلك أحمد ويحيى وغيرهما". ثم قال الحافظ أيضاً: " ... وتبع البخاري في أنه يروي عن طارق مسلمٌ في الكنى، والنسائيُّ، والدولابيُّ، وغير واحد، وهو وهمٌ كما قال الدارقطني". اهـ كلام ابن حجر. وقال في "التقريب" في ترجمة أبي الحكم: وليس هو الذي يروي عن طارق بن شهاب. اهـ. وفي ترجمة أبي حمزة منه: "ووقع في الإسناد عن سيار أبي الحكم عن طارق، والصواب: عن سيار أبي حمزة". اهـ. وقال –رحمه الله- أيضاً في ترجمة "سيار أبي حمزة": قد ذكر الخطيب في التلخيص أن الثوري روى عن بشير عن سيار أبي حمزة عن طارق عن ابن مسعود حديثاً، واختلف فيه على سفيان، فقال عبد الرزاق وغيره عنه هكذا. وقال المعافى بن عمران عن سفيان عن بشير عن سيار أبي الحكم ... اهـ. وقد رجح الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند 5/ 258 أن سياراًَ هذا هو أبو الحكم، وعلى هذا صحح الإسناد. فإن أبا الحكم ثقة، وأبا حمزة مجهول. وقال الحاكم بعد إخراجه للحديث: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. اهـ. وأقره الذهبي في التلخيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وقوله: "لا تحل المسألة إلا لثلاثة: الذي غرم مفضع، أو فقر مدقع، أو دم موجع" 1. هذا في سؤال الخلق ما يقدرون عليه من الأسباب الجزئية، فكيف ترى بما لا يقدر عليه إلا الله من الأمور العامة الكلية. وعلى زعم هذا العراقي لا يكره شيء من ذلك ولا يمنع لمن قصد الصالحين ودعاهم. وقوله: (على أنها أرباب) يريد به ما مَرَّ من أن دعاءها2 ومسألتها بطريق السبب والشاعة لا يضر. وقد تقدم رد هذا بما يغني عن إعادته. وقد عُلِّق على الحكم بالكفر وإباحة الدم والمال بنفس الشرك، وعبادة غير الله، قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} . [التوبة:36] . وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} .   1 أخرجه أبو داود في "سننه" كتاب الزكاة –باب ما تجوز فيه المسألة 2/ 292، وابن ماجه في "سنن" كتاب التجارات –باب بيع المزايدة- 2/ 740-741 كلاهما من طريق الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي، عن أنس بن مالك ... الحديث وفيه قصة. وأخرجه الترمذي في أبواب البيوع من "سننه" 4/ 214 ط المكتبة الإسلامية-استانبول، والنسائي في البيوع من "سننه" باب البيع فيمن يزيد 7/ 259 كلاهما من طريق الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عن أنس مختصراً، ليس فيه موضع الشاهد. قال الترمذي عقبه: حديث حسن. اهـ. 2 في "أ": "دعائها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 [الأنفال: 39] . والفتنة: الشرك. وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} . الآية [المائدة: 72] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} . [النساء:48] . ومن المشتهر عندهم أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعِلِّية. وهذا الأحمق زاد قيداً فقال: "لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله". وفي تلبية المشركين في الجاهلية: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"1. فهؤلاء لم يدَّعوا الاستقلال. وعلى زعم هذا ليسوا بمشركين. وقوله: (وهذا نداء لا دعاء) من أدل الأشياء على جهله، وعدم ممارسته لشيء من العلم وإن قَلَّ، فإن النداء هو رفع الصوت بالدعاء، أو الأمر، أو النهي، ويقابله النجا الذي هو المسارَّة وخفض الصوت. هذا بإجماع أهل اللغة، كما حكاه ابن القيم في "نونيته" وشيخ الإسلام في "تسعينيته" وليس قسيماً للدعاء كما ظنه الغبي. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ} . الآية [الكهف: 52] . ما فعلوه عين ما أمروا به، وكفى بهذه الآية حجة على إبطال قوله. وقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} . [الأنبياء:83] .   1 أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الحج- 2/ 843 عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك. قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلكم قدِ قدٍ". فيقولون: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ} . [الأنبياء:76] . {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} . [الأنبياء:87] . وقال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا*إِذْ نَادَى رَبَّهُ} . [مريم:2، 3] . وسمى هذا النداء دعاءً في كتابه العزيز. قال عن نوح عليه السلام {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} . [القمر:10] . وقال: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} . [آل عمران:38] . وفي الحديث: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه" 1. وفيه أيضاً: "لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً" 2. يعني الشيطان الذي تفلت عليه صلى الله عليه وسلم. وفيه: "ألا أنبئكم بأول أمري وآخره: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى" 3.   1 تقدم الكلام عليه، ص 83. 2 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- 8/ 546 من طريق شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتاً من الجنّ تفلت عليَّ البارحة –أو كلمة نحوها- ليقطع علىَّ الصلاة، فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: "رَبِّ هَبْ لِيْ مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِيْ". وأخرجه أيضاً في كتاب أحاديث الأنبياء من صحيحه 6/ 457 من هذا الطريق بهذا اللفظ. وأخرجه أيضاً مسلمٌ والنسائي من طريق شعبة ... به. وأخرج الحديث مسلمٌ في صحيحه –كتاب المساجد ومواضع الصلاة -1/ 385 عن أبي الدرداء رضي الله عنه ... به وفيه قصة. 3 قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" 4/ 382 ط مكتبة النهضة: وقال محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 يشير بدعوة سليمان إلى قوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} . الآية [ص:35] . وبدعوة إبراهيم إلى قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} . [البقرة:129] . فسمى هذه المسألة دعوة، والتاء فيها للوحدة. وقال معاذ –رضي الله تعالى عنه- في الطاعون: "إنه ليس برجز، إنه دعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، ورحمة بكم" يشير إلى قوله: "اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون"1. فانظر هذه النصوص، وما أفادت من إطلاق اسم الدعاء على المسألة والطلب. وقد تقدم بعض هذا، وكُرِّر تتميماً للفائدة، وربما جَرَّ شأن شؤوناً. وأما قول العراقي: (إن الشيخ ذكر هذا على سبيل التغليظ والزجر، وله مائة عبارة تنفي ذلك وتخالفه) فيكفي من هذا العراقي أن يصحح دعواه بعبارة واحدة، ولا نكلفه تصحيح المائة، لأنه أعجز وأقلّ.   إسحاق حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: "يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: "دعوة أبي وبشرى عيسى ... " الحديث. وهذا إسناد جيد، وروي له شواهد من وجوه أُخَر ... ثم ساق ابن كثير رحمه الله تعالى شواهده في مسند أحمد فلينظر. 1 قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 312: رواه أحمد 4/ 417، والطبراني في "الكبير" ورجال أحمد ثقات. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقد تقدم التنبيه على كذبه ومجازفته، وأنه وجد كتباً وموادّ1 شَتَّت فهمه، وحجبت إدراكه وعلمه، فلم يزدد بها إلا حيرة وشكاًَ وما أحسن ما قيل: جهد المغفَّل في الزمان مضيَّع ... وإن ارتضى أستاذَه وزمانَه كالثور في الدولاب يسعى وهو لا ... يدري الطريقَ فلا يزالُ مكانَه وعبارات الشيخ في هذا الباب –أعني: إنكار الشرك، وتكفير أهله، والحكم عليهم بما حكم الله به ورسوله في الدنيا والآخرة- موجود مشهور، لو تتبعناه لعزَّ حصره واستقصاؤه، ولكن نشير ببعضه2 إلى ما وراءه. قال رحمه الله: وما علمتُ عالماً نازع في أن الاستغاثة بالنبي أو غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله لا تجوز. قال: وعلو درجته صلى الله عليه وسلم بعد الموت لا تقتضي أن يسأل، كما لا تقتضي أن يستفتى، ولا يمكن أحدا أن يذكر دليلاً شرعياً على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع، بل الأدلة على تحريم ذلك كثيرة. وقال رحمه الله: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم: كفر إجماعاً. قال البهوتي في شرحه على هذا الموضع: لأنه فِعْل عبّاد الأصنام القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . [الزمر:3] .   1 في "أ" و"جـ": "مواداً". 2 في ط آل ثاني: "لبعضه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وقال –رحمه الله- بعد أن سرد جملة من الآيات: وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، ومثل أن يطلب شفاء مريض من الآدميين والبهائم، ووفاءَ دَينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، أو ما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه1، وغفران ذنبه، أو دخول الجنة، ونجاته من النار، أو أن يتعلم القرآن، أو2 العلم، أو أن يصلح قلبه، أو2 يحسن خلقه، ويزكي نفسه، وأمثال ذلك: فهذه الأمور لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن يقال لملك ولا نبي ولا شيخ سواء كان حياً أو ميتاً: اغفر ذنبي، ولا انصرني على عدوي، ولا اشفِ3 مريضي، ولا عافِ4 أهلي ودوابي، وما أشبه ذلك. ومن سأل ذلك مخلوقاً كائناً من كان، فهو مشرك بربه، من المشركين الذين يعبدون الملائكة والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى: المسيحَ وأمَّه. قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} . الآية [المائدة:116] ، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيْحَ ابْنَ مَرْيَمَ} الآية [التوبة:31] . وقال -رحمه الله-: وكثير من الناس يقع في الشرك والإفك   1 ما بعد: "وهداية قلبه" سقط من "جـ" إلى قوله: "ويحسن خلقه". 2 في "أ": "و". 3 في "أ": "اشفي". 4 في "أ": "عافي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 جهلاً وضلالاً من المشركين، وأهل الكتاب، وأهل البدع، والله سبحانه وتعالى قد أرسل جميع رسله، وأنزل جميع كتبه: بأن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، لا يعبد معه لا ملك، ولا نبي، ولا صالح، ولا تماثيلهم، ولا قبورهم، ولا شمس، ولا قمر، ولا كوكب، ولا ما صُنع من التماثيل لأجلهم، ولا شيئاً من الأشياء، وبَيَّنَ أن كل ما يعبد من دونه فإنه يضر ولا ينفع، وإن كان ملكاً أو نبيًّا، وأن عبادته كفر. قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} . إلى قوله: {مَحْذُوْراً} . [الإسراء:56-57] . بَيَّن سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والجن والإنس ما يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً1، وأن هؤلاء المدعوين من الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله، ويرجونه، ويخافونه، وكذلك كان قوم من الإنس يعبدون رجالاً من الجن، فآمنت الجن المعبودون، وبقي عابدوهم يعبدونهم، كما ذكر ذلك ابن مسعود. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} .إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . [سبأ:22-23] . بَيَّنَ سبحانه أن كل ما يدعى من دونه، من الملائكة والبشر وغيرهم ليس لهم مثقال ذرة في السموات والارض, ولا لهم نصيب فيهما, وليس لله ظهير يعاونه من خلقه.   1 في "أ": "كشف الضر ولا تحويله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وهذه الأقسام الثلاثه هي التي تحصل مع المخلوقين, إما أن يكون لغيره ملك دونه, أو يكون شريكاً له, أو يكون معيناً وظهيراً له, والرب تعالى ليس من خلقه مالك, ولا شريك, ولا ظهير له1, لم يبق إلا الشفاعة, وهو دعاء الشافع وسؤاله لله في المشفوع له, فقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . [سبأ:23] . ثم إنه خص بالذكر الملائكة والأنبياء في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ -إلى قوله- بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . [آل عمران:79-80] بين أن اتخاذهم أرباباً كفر. وقال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ -إلى قوله - وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [المائدة:17] . وقد بين أن من دعا المسيح وغيره، فقد دعا ما لا يملك له ضراً ولا نفعاً. وقال لخاتم الرسل: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} . [الأنعام: 50] ، وقال: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} . الآية [الأعراف:188] . وقال: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} . [الجن:21] . وقال: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ*لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} . [آل عمران:127-128] . وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} . [القصص:56] .   1 سقطت: "له" من "أ" و"جـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وقال: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} . [النحل:37] انتهى. وكلامه في هذا المعنى يعزُّ حصره أو يتعذر. وكذلك صاحبه شمس الدين ابن القيم. كلامه في هذا الباب أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يحصر، إلا بكلفة ومشقة، وتقدم قوله في "المدارج". وقال أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطَّغام، عدلوا عن أوضاع الشرع1 إلى تعظيم أوضاع وضعوها هم لأنفسهم، فسهلت عليهم2، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر3 غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل خطاب الموتى بالحوائج، ودَسِّ الرقاع في قبورهم، فيها: يا مولاي، افعل بي كذا وكذا، وتعليق الستور على القبور اقتداءً بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يحضر مشهد الكف4، أو لم يَعْقِد على قبره، أو قبر أبيه بالآخر، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر وعمر. انتهى. والمقصود أن النصوص بهذا المعنى كثيرة شهيرة، والعاقل يسير فينظر. ويكفي المؤمن أن دعاء الموتى والغائبين لا يُعْرَف عن أحد من أهل العلم والإيمان الذين لهم لسن صدق في الأمة، ولم تأتِ به   1 في ط: آل ثاني: "الشرك" وهو خطأ فاحش. 2 في ط: آل ثاني: "غيرهم". 3 سقطت: "أمر" من ط: آل ثاني. 4 في ط: آل ثاني: "الكفر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 شريعة من الشرائع، بل المنقول عن جميع الأنبياء يرده ويبطله، فإن الله حكى أدعيتهم وتوجهاتهم، وما قالوه وأمروا به، وندب عباده إلى الاقتداء بهم فقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . [الأنعام:90] . وقد أجمع المسلمون على ذم البدع وعيبها. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} . [الشورى:21] . وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . [الأحقاف:4] . وفي حديث العرباض بن سارية: "إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" 1. وهذا الوجه كافٍ2 في الجواب، للاتفاق على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة.   1 تقدم تخريجه ص 84. 2 في "أ" و"جـ": "كافي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الفصل العاشر ... فصل قال العراقي: "والأصل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} . [المائدة:35] . قلت: يريد العراقي أن الآية أصل في دعاء الصالحين، والتوجه بهم إلى الله وجعلهم وسائط بين العباد وبين الله، ووسائل إليه في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم. والجواب: أن هذا القول صدر عن جهل بمسمى الوسيلة شرعاً، فإن الوسيلة في شرع الله الذي شرعه على ألسن جميع رسله، هي عبادته وحده لا شريك له، والإيمان به، وبرسله، والأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، كما في البخاري وغيره من حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في غار، فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة من البر والعفة والأمانة1. وكذلك ما شرع من واجب أو مستحب. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . [الإسراء:57] وابتغاؤها بالقيام بما أمر به، وأحبه ورضيه، من الأعمال الصالحة.   1 أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإجارة- باب من استأجر أجيراً فترك أجره 4/ 449. ومسلم في صحيحه، كلاهما عن ابن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وأما دعاء غير الله فليس وسيلة1 شرعية، بل هو وسيلة أهل الشرك والجاهلية، من أعداء الرسل في كل زمان ومكان، والله لا يأمر بالشرك ولا يرضاه {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . [الأعراف:29] . فكيف يتوسل إليه بالشرك به الذي هو أظلم الظلم، وضد القسط، والذي يمنع من إقامة الوجوه له عند المساجد، وهو –أي الشرك- حقيقة التوسل الذي قصده المشركون. قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} . [الأحقاف:28] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . [الزمر: 3] فهذا قد يسمى توسلاً، فإن لفظ التوسل صار مشتركاً، فيطلق شرعاً على ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها، ويطلق على التوسل بذوات الصالحين ودعائهم واستغفارهم، ويطلق في عرف عباد القبور على التوجه إلى الصالحين ودعائهم مع الله في الحاجات والملمات. والمراد بالآية هو2 الأوَّل عند أهل العلم والمفسرين. وأما التوسل بذوات الأنبياء والصالحين بدون طاعتهم وبدون استغفارهم فهذا لم يشرع3، ولا أصل له4، فإن التوسل بالأنبياء   1 في "أ" و"جـ": "بوسيلة". 2 سقطت: "هو" من ط: آل ثاني. 3 في ط: آل ثاني: "يشرح". 4 سقط ما بعد قوله "ولا أصل له" من "أ" إلى قوله "وأكبر منه من يدعوهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 مع معصيتهم ومخالفتهم في الدين والملة، قد دلت آية سورة التحريم على المنع منه، وعدم الانتفاع بالتعلق والقرابة والنسب والتوسل بذلك لمن لم يؤمن بما جاؤوا به من الهدى ودين الحق.1وكذلك في الحديث لما أنزل عليه قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} . [الشعراء:214] قال: "يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً" 2. وأكبر من3 هذا من يدعوهم، ويستغيث بهم، ويتقرب إليهم بعبادتهم على أنها وسيلة له، وشفعاء، فإن هذا هو عين الشرك الذي ذمه القرآن وعابه، وإن سمي توسلاً. وأما ما ذكره بعد هذا الكلام من نسبة الذي ينهى عن دعاء غير الله إلى الجهل وعدم الفهم، فهذا يتناول كل من نهى عن دعاء الأنبياء والصالحين، ومعلوم أن الرسل نهت عن دعاء غير الله بما لا يقدر عليه إلا الله، بل وفيما لا تدعو4 إليه حاجة ولا ضرورة من جنس المسألة، فلازم كلامه مسبة الأنبياء، وأتباعهم إلى يوم القيامة، فنعوذ بالله من حال أهل الجهالة والسفاهة.   1 سقط الحديث من "جـ". 2 البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- تفسير سورة الشعراء، باب {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 8/ 501. 3 في "أ": "وأكبر منه من يدعوهم". 4 في "أ" و"جـ": "تدعوا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الفصل الحادي عشر ... فصل قال العراقي: "إنكم تكَفِّرون بالحلف بغير الله، ويُكَفِّر به السابقون من أهل بلدكم، وهو ليس بشرك ولا كفر، بل هو مكروه كراهة تنزيه، للأدلة على ذلك، ولأنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه: "لا وأبيك"، ولأن الترمذي ترجم على هذه المسألة بالكراهة، وساق حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وأن هذا يدل على الكراهة للترجمة، ولأنه ساق الرواية الأخرى عن ابن عمر "من حلف بغير الله فقد كفر". وقال بعدُ: هذا محمول على التغليظ والزجر، كالريا الذي فسر به قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} . الآية [الكهف:110] . والجواب أن يقال: في هذا الكلام من الجهل والخلط ما يتنزه عنه العاقل فضلاً عن العالم، من ذلك أنه قال: الحلف بغير الله ليس بشرك ولا كفر. ثم ساق حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك" ثم قادته المقادير إلى أن نطق بالرواية الأخرى: "من حلف بغير الله فقد كفر" فقف وتأمل هذه العبر!! ثم استدل بأن الترمذي ترجم بالكراهة، وهو أول من يخالف الترمذي في أكثر ما في سننه، مع أنه لم يفهم كلام الترمذي، ولا حام حول مراده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ويقال: مسألة الحلف بغير الله تظاهرت وتواترت النصوص النبوية بالنهي عنها، ودلّت على أنه شرك لا يحل ولا يجوز، كما ذكره أصحاب الكتب الستة، وأهل المسانيد من حديث: أبي هريرة، وعمر، و1ابنه، وابن مسعود، وغيرهم، وإنما ساق الترمذي حديث ابن عمر. والترمذي –رحمه الله- أثبت أنه شرك، وجعله كالريا، والريا شرك بالنص والإجماع، وهو من الكبائر، إلا أنه ليس مما ينقل عن الملة ويوجب الردة، للآيات والأحاديث. وكلام الترمذي يدل على هذا، وقد جعله مثل الريا، وقاسه عليه في الحكم، وحمله على هذا الحمل والتأويل: أن الرواية الأخرى التي خرجها عن ابن عمر فيها تكفير من حلف بغير الله، والحكم بأنه كفر، وأراد الترمذي أن هذا الكفر ليس هو مما يخرج عن الملة كالشرك الأكبر، بل كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دوم ظلم، كما قاله البخاري في "صحيحه" وتسميته هذا كفراً من باب التغليظ، وهذا مراده رحمه الله، وأما كونه شركاً محرماً فلم ينفِه الترمذي، ولم يتعرض له بتأويل، بل أثبته وقاله به، لأنه جعله مثل الريا. وهذا الجاهل اغتر بكونه ترجم بالكراهة، والكراهة في عرف هذا الرجل إنما تطلق على التنزيه، هذا وجه ضلاله، ولم يدر أن إطلاقها على كراهة التنزيه عرف حادث، وأن الكراهة في عرف الكتاب والسنة وقدماء الأمة تطلق على التحريم. قال تعالى بعد أن   1 سقطت "و" من ط: آل ثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ذكر المحرمات المتفق عليها في جميع الكتب السماوية {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} . [الإسراء:38] . وفي الحديث: "إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" 1. وأظن هذا يحمل كل ما تقدم على كراهة التنزيه. قال الترمذي رحمه الله: "باب كراهة الحلف بغير الله" وساق بسنده حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك". وسكت الترمذي علذكر المحرمات المتفق عليها في جميع الكتب السماوية {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} . [الإسراء:38] . وفي الحديث: "إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" 1. وأظن هذا يحمل كل ما تقدم على كراهة التنزيه. قال الترمذي رحمه الله: "باب كراهة الحلف بغير الله" وساق بسنده حديث ابن عمر: "من حلف بغير الله فقد أشرك". وسكت الترمذي على هذا، ولم يتعقبه بتأويل. ثم قال: "بابٌ"2 وساق بسنده الرواية الأخرى عن ابن عمر "من حلف بغير الله فقد كفر" 3 وتأَوَّلَ لفظه "كفر" بأنها على وجه الزجر والتغليظ، لأن   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الاستقراض- 3/ 87 ط إستانبول، ومسلم في صحيحه –كتاب الأقضية- 3/ 1341، عن المغيرة بن شعبة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال". وله ألفاظ عندهما. 2 في نسخة الترمذي المطبوعة مع شرحه "تحفة الأحوذي" 5/ 132-135، و"عارضة الأحوذي" 7/ 16-18، والطبعة السلفية 3/ 45: باب كراهية الحلف بغير الله وساق فيه حديث: "ألا، إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" " ... ليحلف حالف بالله أو ليسكت". ثم قال: باب، وساق حديث ابن عمر "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". وفي طبعة الحلبي، 3/ 109-110: باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله. ثم ساق الأحاديث السابقة تحت هذه الترجمة ولم يفصل بـ"باب"، وكذا في طبعة الدعّاس، 5/ 251-254. قلت: لعل المؤلف وقع في يده نسخة من سنن الترمذي على ما وصف، لا سيما وتغاير النسخ في كتاب الترمذي أمر مشاهد. 3 أخرجه أبو داود –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 3/ 570، والترمذي –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 4/ 110، والإما أحمد في مسنده، وابن حبان فيى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 لأن الحلف بغير الله لا ينقل عن الملة، بل هو كالريا في عدم الردة، وإن كان شركاً. إذا عرفت هذا فالعراقي دلّس، وجعل البابين باباً واحداً، وجعل كلام الترمذي في تأويله لفظة "كفر" راجعاً إلى كلا البابين، وأن الحلف مكروه كراهة تنزيه، والترمذي لم يتعرض لكونها للتنزيه. وأما قوله: "إنكم تكفرون به، وترون أنه كفر" فهو كذب بحت، وفرية ظاهرة، ما قال أحد ممن يعتدُّ به عندنا إنه كفر مخرج عن الملة. وقد يُطلق العالم والمفتي ما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا، ويقف حيث وقف، ومن أنكر هذا الإطلاق فقد أنكر على الرسول صلى الله عليه وسلم. على أن ابن قيم الجوزية قال: قد يكون ذلك شركاً أكبر بحسب ما قام بقلب قائله، وقاله القاضي عياض من المالكية. وهذا ظاهر لا يخفى إذا قصد تعظيم من حُلف به كتعظيم الله. وأما استدلال هذا العراقي على عدم التحريم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله" 1 فهذا الاستدلال والفهم ليس بشيء.   1 رواه البخاري في صحيحه –كتاب الأيمان والنذور- 11/ 536، ومسلم في صحيحه –كتاب الأيمان- 3/ 1267-1268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 والحديث دليل على التحريم، والاستدلال به عليه هو عين الفقه عن الله ورسوله، لأنه أَمَرَ من حلف بغير الله أن يكفِّر بتجديد الإسلام، والإتيان بكلمة الإخلاص التي تضمنت البراءة من الشرك، وإثبات التوحيد. وقد قال لقريش وغيرهم من عباد الأصنام: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" 1. وقال لعمه: "قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله" 2.   1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 376 عن شيخ من بني مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتغللها يقول: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ... ". قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 22: رجاله رجال الصحيح. اهـ. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده أيضاً 4/ 341 عن ربيعة بن عباد من بني الديل وكان جاهلياً قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول ... فذكره. قال الهيثمي في المجمع 6/ 22: رواه أحمد وابنه والطبراني في الكبير بنحوه والأوسط باختصار بأسانيد، وأحد أسانيد عبد الله بن أحمد ثقات الرجال ... اهـ. وفي الطبراني عن منبت الأزدي نحوه. قال الهيثمي في المجمع 6/ 21: وفيه منبت بن مدرك ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. اهـ. وفي الطبراني أيضاً عن مدرك نحوه. قال الهيثمي: ورجاله ثقات. اهـ. 2 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- 8/ 506، ومسلم في كتاب الإيمان من صحيحه 1/ 54 كلاهما عن سعيد بن المسيب عن أبيه ... به. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فإن1 كان ذاك يدل على الكراهة، فهذا أيضاً إنما يدل عليها. فسبحان من حال بين قلوب هؤلاء وبين الفقه عنه، ومعرفة المراد من كلامه وكلام رسوله. وفي الحديث: "إن حسنة التوحيد تمحو الشرك وتكفره، فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله". قال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً" 2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية –قُدِّس سِرُّه- بعد أن ذكر تحريم الحلف، واستدل له: ومعنى قول ابن مسعود: "أن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب" مع أن الكذب محرم بالإجماع. وأما ما حكاه عن شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أنه قال في "مختصر الإنصاف": ويكره الحلف بغير الله، وأن الشيخ استدل للكراهة. فلا يخفى أن العراقي دلس ولبّس، فأسقط من العبارة كلام ابن عبد البر، وحكاية الإجماع على التحريم، هذا تدليسه، وأما تلبيسه: فإن الشيخ قال بعد ذلك: وقيل يجوز. فأخره وحكاه بصيغة التمريض. وذكر أن القائل استدل لهذا: بأن الله أقسم بمخلوقاته، وبقوله: "أفلح وأبيه إن صدق" وبقوله في حديث أبي   1 في ط: آل ثاني: "فإذا". 2 رواه الطبراني في الكبير 9/ 205 قال الهيثمي في المجمع 4/ 177: رجاله رجال الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 العشراء: "أما وأبيك، لو طعنت في فخذها أجزأك" 1. ثم تعقب الشيخ هذا، وذكر أن أحمد لم يثبت حديث أبي العشراء. واستدل بقوله: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" 2. وبحديث ابن عمر "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقرر الشيخ أدلة التحريم. والشيخ رحمه الله في كتاب "التوحيد" استدل على هذه المسألة بقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . [البقرة:22] . وترجم بالآية على هذه المسألة، وساق حديث ابن عمر، وما روي عن ابن عباس، ومنه: والله وحياتك.   1 أخرجه أحمد 4/ 334، والترمذي 4/ 74، وأبو داود في سننه 8/ 23 –كتاب الأضاحي –باب في ذبيحة المتردية، والنسائي 7/ 228، وابن ماجه 2/ 1063 كلهم عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلى في الحلقِ واللَّبَّة؟ قال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك". هذا لفظه عندهم. وفي رواية لأحمد: "وأبيك". قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث، واختلفوا في اسم أبي العشراء ... إلخ. اهـ. وقال الخطابي: ضعفوا هذا الحديث لأن راويه مجهول، وأبو العشراء لا يدرى من أبوه، ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة. اهـ من المعالم. وقال الذهبي في الميزان 4/ 551 في ترجمة أبي العشراء بعد أن ذكر قول البخاري في أبي العشراء: في حديثه واسمه وسماعه من أبيه نظر. قلت: ولا يدرى من هو ولا من أبوه. وانفرد عنه حماد بن سلمة ... اهـ. 2 رواه البخاري في صحيحه –كتاب الأيمان والنذور- 11/ 530 ومسلم في صحيحه –كتاب الأيمان- 3/ 1266-1267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وأما الجواب عن قوله: "أفلح وأبيه" وقوله: "أما وأبيك" فلأهل العلم عنه أجوبة معرفة في محلها، منها: أن هذا ليس من جنس اليمين المقصودة بل هو مما جرى على ألسنتهم من غير قصد، مثل قوله: "تربت يداك، ثكلتك أمك، ويح عمار". وهذا الجواب ذكره كثير من الناس. وقيل: إن ذلك منسوخ. واستدل القائل لهذا القول بما لا يمكن أمثال هذا العراقي نقضه، وبعضهم تكلم في المسند ولم يثبت هذا كما تقدم عن أحمد في حديث أبي العشراء. وهذا آخر ما أوردناه، والحمد لله حمداً كثيراً كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، وعظيم سلطانه. وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين آمين1.   1 اتفقت النسخ على هذه الخاتمة، وبعدها في "أ": "كتبه من إملاء مؤلفه –عفا الله عنه ورحمه- عبد العزيز بن ناصر بن راشد بن تريكي" اهـ. وفي "جـ": "رحم الله مؤلفه وعفا عنه وعن والديه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً وغفر الله لكاتبه ووالديه وذريته وإخوانه ولجميع المسلمين. آمين يا رب العالمين". اهـ. وعلى جنب الصفحة: "بلغ مقابلة وتصحيحاً حسب الطاقة والإمكان". قال كاتبه –عفا الله عنه- تم الفراغ من مقابلة هذه الرسالة، والتعليق عليها قدر الطافة في اليوم الثاني والعشرين من شهر الله الحرام، سنة عشر وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه/ عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أطراف الحديث ... أطراف الأحاديث طرف الحديث ... صحيفته آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع ... 50 ذأجعلتني لله نداًّ ... 120 احفظ الله يحفظك ... 76 إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ... 69 إذا هم العبد بالسيئة ... 79 ألا أنبئكم بأول أمري وآخره ... 130 ألا تبايعون؟.. على أتعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ... 117 أفضل الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله ... 110 أفلح وأبيه إن صدق ... 147 اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون ... 131 أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم, ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه ... 102 أما وأبيك لو طعنت في فخذها أجزاك ... 47 إن أولئك إذا كان منهم الرجل الصالح ... 122 أن تجعل لله نداً وهو خلقك ... 37 إن الله يكره لكم: قيل وقال ... 143 ****** ... الحج عرفة ... 109 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 طرف الحديث ... صحيفته دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا ... 113-130 الدعاء سلاح المؤمن ... 110 الدعاء مخ العبادة ... 110 الدعاء هو العبادة ... 108 ***** ... ذهاب الإسلام من ثلاثة (أثر) ... 66 ***** ... فما تعارف منها ائتلف ... 82 ***** ... قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ... 84-137 قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا ... 146 قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ... 146 قصة الثلاثة أصحاب الغار ... 138 قصة عكرمة لما فَرَّ يوم الفتح ... 112 ***** ... كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية ... 77 كم كنت تعبد؟ ... 115 ***** ... لعن الله اليهود والنصارى ... 94-122 لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقاً ... 130 لو يعطى الناس بدعواهم ... 82 ***** ... من تعلق شيئاً وكل إليه ... 117 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 طرف الحديث ... صحيفته من حلف بغير الله فقد أشرك ... 141-143 من حلف بغير الله فقد كفر ... 148 من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله ... 145 من قال في القرآن برأيه ... 58 من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ... 126 ***** ... هم شَرُّ قتلى تحت أديم السماء ... 39 هل كان فيها من وثن ... 123 ***** ... ويلكم قدٍ قدٍ عند قول المشركين: إلا شريكاً هو لك ... 129 ***** ... لا تتخذوا قبري عيداً ... 90 لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ... 91 لا تحل المسألة إلا لثلاثة ... 128 لا تزال المسألة بأحدكم حتى ... 125 لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك ... 48 لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر ... 117 ***** ... يا معشر قريش اشتروا أنفسكم ... 140 يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ... 39 ***** ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 طرف الحديث ... صحيفته من حلف بغير الله فقد أشرك ... 141-143 من حلف بغير الله فقد كفر ... 148 من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله ... 145 من قال في القرآن برأيه ... 58 من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ... 126 ***** ... هم شَرُّ قتلى تحت أديم السماء ... 39 هل كان فيها من وثن ... 123 ***** ... ويلكم قدٍ قدٍ عند قول المشركين: إلا شريكاً هو لك ... 129 ***** ... لا تتخذوا قبري عيداً ... 90 لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ... 91 لا تحل المسألة إلا لثلاثة ... 128 لا تزال المسألة بأحدكم حتى ... 125 لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك ... 48 لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر ... 117 ***** ... يا معشر قريش اشتروا أنفسكم ... 140 يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ... 39 ***** ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153